hmsain.ahlamontada.com

نشكرك على التسجيل فى هدا المنتدى زرنا باستمرار و شاركنا رايك فاليد الواحدة لا تصفق ورايك يهمنا كما ان حضورك الدائم يحفزنا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

hmsain.ahlamontada.com

نشكرك على التسجيل فى هدا المنتدى زرنا باستمرار و شاركنا رايك فاليد الواحدة لا تصفق ورايك يهمنا كما ان حضورك الدائم يحفزنا

hmsain.ahlamontada.com

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
hmsain.ahlamontada.com

منتدى يهتم بنشاطات حركة مجتمع السلم بلدية عين بوزيان


    حق الدعوة في الدخل الشهري بين الجباية والجهاد

    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 2093
    تاريخ التسجيل : 01/03/2010
    الموقع : hmsain.ahlamontada.com

    حق الدعوة في الدخل الشهري بين الجباية والجهاد Empty حق الدعوة في الدخل الشهري بين الجباية والجهاد

    مُساهمة  Admin الأحد 22 مايو 2011 - 19:38

    بقلم: الشيخ عاطف أبو زيتحار

    جاءني صديقي العزيز في يوم متغير الوجه شاحب اللون قد تعددت قسمات وجهه وخيَّم عليه الحزن والكآبة فقلت له: ما بك؟ هل أنت مريض؟ قال لي: لا. قلت له: هل عندك شيء في البيت؟ هل أُصيب ولدك؟ عندك مشكلة أو ضائقة مالية؟ وأخذت أعدد له وفي كل مرةٍ يقول لي: لا، فقلتُ له: ما بك بالله عليك وأخذت ألحُّ عليه؟ وهو مصرٌّ على عدم الكلام.. حتى نطق ومع نطقه حرَّك نبض قلبي وزلزل كياني وكبر في عيني.
    قال لي قد جعلتُ جزءًا من مالي في الدخل الشهري لله أنفقه بمجرد أن أتقاضى راتبي، هذا الجزء الذي أقتطعه صدقة لا تنقطع كالفريضة وهي عندي ضريبة جهادية.
    قلتُ: هذا شيء طيب، وأسأل الله أن يتقبَّله منك، ولكن ما الذي غيَّرك؟.
    قال لي: هذا الشهر تأخَّر دفع الجهاد الشهري عدة أيام.. تقاضيتُ راتبي وذهبتُ به إلى البيت فشغلتُ عن دفعه.. مرَّ عليَّ اليوم الأول زاد كسلي وكثُر فتوري ونقص راتبي.
    قلت له: بإمكانك أن تدفعه بعد يومين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وإذا كنت في ضائقةٍ طلبنا لك العون والمدد من إخوانك وأحبابك وأصدقائك.
    قال لي أخي الكريم: لقد عوَّدني ربي عادةً منذ أن عقدتُ العزم والعهد على إخراج هذا الجزء من راتبي الشهري، وهو أنني إذا تأخرتُ عن دفعه أن يبعث الله إليَّ ببرقيةٍ مغلفة بالتذكير محفوفة بالسؤال، وهي أين حق الدعوة؟ أين جهادك؟ فتبدأ الآيات المحفوفة بالسؤال في الظهور على جسد الأولاد؛ هذا عنده دور برد والآخر قد ارتفعت درجة حرارة جسده، وتتعدد المصاريف وترتفع التكاليف.. وسبحان الله يُغيِّر الحالَ فبدلاً من أن أدفع جزءًا يسيرًا في الجهاد فإنني أدفع أجزاء في الدواء والمصاريف الأخرى، وهذا الشهر حدث نفس الفعل تأخرتُ وليس كثيرًا فجاءتني البرقية.. وها أنا أسرع الخطى لدفعه، وهذا ما غيَّرني أخي أنني تأخرتُ عن دفع جهادي المخصص للدعوة من دخلي الشهري.
    شكرته على فهمه الراقي وجزيته خيرًا، وصوبتُ إليه النظر وصعدته لأرسل إليه برسالة احترام وتقدير بلغة العين مع اللسان، وقلتُ في نفسي: سبحان الله، أين أنت من صديقي الآخر الذي طلب منه أحد إخوانه نفقةً ماليةً لأنَّ الدعوةَ في حاجةٍ إليها فقال لهم بعد أن تغيَّرت معالم وجهه وكثُرت قسمات جبينه، وازداد بريق عينيه: والله أنا مدين، وقد اشتركتُ في جمعية.. ومعذرةً لن أدفع الآن لأني مشغول، وتعلل لهم بعلل كثيرة في نظري أنها علل عرجاء.
    وساعتها وقفتُ بين الصديقين الكريمين:
    * الأول: مَن علا فهمه وارتفع إيمانه ويقينه وأوفى ببيعته مع قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة)، يقرأ هذه الآية وفي خلده الأخرى ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)﴾ (النحل)، ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾ (الفتح).
    وهو حذَّر وجل خائف من جوامع كلَّم النبي- صلى الله عليه وسلم-: عن عمران بن حصين رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"- قَالَ عِمْرَانُ: لا أَدْرِي ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ- "ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ" (رواه البخاري).
    ويدور على لسانه ويتحرك بين شفتيه كلام الإمام البنا عليه رحمة الله تعالى، وهو يطرح سؤالاً يدور على ألسنة البعض: من أين المال؟
    يتساءل هؤلاء الإخوان المحبوبون الذين يرمقون الإخوان المسلمين عن بعدٍ ويرقبونهم عن كثبٍ قائلين: من أين ينفقون؟ وأنى لهم المال اللازم لدعوة نجحت وازدهرت كدعوتهم والوقت عصيب والنفوس شحيحة؟
    وإني أجيبُ هؤلاء بأن الدعوات الدينية عمادها الإيمان قبل المال، والعقيدة قبل الأعراض الزائلة، وإذا وُجِدَ المؤمن الصحيح وُجدت معه وسائل النجاح جميعًا، وإنَّ في مالِ الإخوان المسلمين القليل الذي يقتطعونه من نفقاتهم ويقتصدونه من ضرورياتهم ومطالب بيوتهم وأولادهم، ويجودون به طيبة نفوسهم سخيةً به قلوبهم، يود أحدهم لو كان له أضعاف أضعاف فينفقه في سبيل الله، فإذا لم يجد بعضهم شيئًا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون.
    في هدا المال القليل والإيمان الكبير ولله الحمد والعزة بلاغ لقوم عابدين، ونجاح للعاملين الصادقين, وإن الله الذي بيده كل شيء ليبارك في القرش الواحد من قروش الإخوان, و﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ (البقرة: من الآية 276)، ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ (الروم: من الآية 39)" (الرسائل).
    * والثاني: الذي غاب عنه فقه الأولويات وارتدى منظارًا واحدًا في هذه الحالة يرى به فقر الدنيا فقرًا ونسي فقر الآخرة، وغنى الدنيا غنًى ونسي غنى الآخرة، وربح الدنيا ربحًا ونسي ربح الآخرة، وبؤس الدنيا بؤسًا ونسي بؤس الآخرة.
    وقفتُ بين الاثنين، وقد جاءتني المواقف الإيمانية من حياة الصحابة والتابعين تترى من كل مكانٍ لم أنتهي من قراءة موقف إلا ويزاحمه الآخر قبل الانتهاء!! وأخذت أقيس حال الدعوة بين الاثنين مَن الذي يستحق شرف الانتماء إليها والتضحية من أجلها؟ مَن فيهم الذي يستحق شرف حملها ومَن الذي تحمله هي؟ مَن الذي يعيش على هامش الدعوة ومَن الذي تعيش الدعوة فيه؟.
    * عبد الله بن جعفر بن الشهيد الطيار رضي الله عنهما لامه بعض أصحابه على كثرةِ إنفاقه في سبيل الله قال له: أوكلما سألك سائل أعطيته أما تخشى تقلبات الزمان؟ فقال: إنَّ الله عوَّدني عادةً وعودتً عباده عادةً: عودني أن يعطيني كلما أعطيت عباده، وعودتُ عباده أنه كلما سألني سائل أعطيته، فأخاف إذا منعتُ عطيتي وعادتي عن عباده أن يمنع عطيته وعادته عني.
    لقد سبق الرجل غيره بسبب نظرته البعيدة ورؤيته للأمور وقياسه لها بمنظار الآخرة ورضا ربه ومولاه عز وجل فكان خبيرًا بها، فهو كما قال الحسن البصري رحمه الله: للناس حال وله حال الناس منه في راحة، وهو من نفسه في تعب.
    يحضرني الآن كلام لابن الجوزي بين مَن يرى حق الدعوة في الدخل الشهري جبايةً، ومَن يراها جهادًا فالأول: لا يدفع إلا بالمطالبة كعبدِ السوء لا يأتي إلا بعد النداء، ولربما أبطأ ولم يجب بسرعة، وهو يحتاج إلى مَن يطرق بابه كثيرًا، ولربما أرسل إليه إنذارًا وأحاله بعد إلى القضاء والشرطة لينتهي الأمر إلى الحجز ثم الطرد.
    والثاني: تحركت فيه الذاتية فرأى الأشياء على حقيقتها والأمور على طبيعتها، فهو يفهم بالإشارة وكل لبيب بالإشارة يفهم.. قال ابن الجوزي: ألم ترَ إلى أرباب الصنائع لو دخلوا إلى دار معمورة رأيت البناء ينظر إلى الباب والحوائط والنجار ينظر إلى الباب والحائك ينظر إلى النسيج فكذلك المؤمن اليقظان إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإذا شكا ألمًا ذكر العقاب، وإن سمع صوتًا فظيعًا ذكر نفخة الصور، وإن رأى نيامًا ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذة ذكر الجنة.
    ويقول ابن رجب- رحمه الله- في نور الاقتباس: فمَن قام بحقوق الله عليه فإن الله يتكفل بجميع مصالحه في الدنيا والآخرة، ومَن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها فليرعَ حقوق الله عليه، ومَن أراد ألا يصيبه شيء مما يكره فلا يأتِ شيئًا مما يكرهه الله.
    ويقول في مجموعة رسائله: ومن لطائف أسراره اقتران الفرج باشتداد الكرب أن الكرب إذا اشتدَّ وعظم، وتناهى وجد الإياس من كشفه من جهة المخلوق ووقع التعلق بالخالق، ومَن انقطع عن التعلق بالخلائق وتعلق بالخالق استجاب الله له.
    عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلاءِ الدُّعَاءَ" (الطبراني).
    أين أصحاب البصائر ليقرءوا هذا الكلام حتى يؤمنوا بأن حقَّ الدعوة في الدخل الشهري جهاد وليس جباية، وإذا ما أدوه على أكمل وجه، وأوفوا بعهد معه تكفل الله بحفظهم ورعايتهم، واستجابَ لهم وقضى لهم حوائجهم.
    يقول الله عز وجل:﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾ (محمد).
    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا، وَلا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا" (رواه أحمد والنسائي).
    قال الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى: "الحرص من شرِّ أداة الفتى، لا خيرَ في الحرص على حال مَن بات محتاجًا إلى أهله هان على ابن العم والخال".
    روى البخاري بإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الْآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"
    ماذا لو تعلَّقت دعوة الله يوم القيامة بكل مَن حملها وبخل بماله عنها، وقالت: يا رب هذا عبدك حملني ومنع معروفه، وبخل بماله عني؟ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "كم من جارٍ متعلق بجاره يوم القيامة يقول: يا رب هذا أغلق بابه دوني ومنع معروفه".
    هذا فرد تعلَّق يوم القيامة بمَن شحَّ بماله وبخل به عنه، فما بالنا بدعوة الله التي تحمل الخيرَ لكل الناس، وتأخذ بحجزهم عن النار؟ وبأيديهم إلى كل فضيلة؟ تخاطب كل الشرائح وتصل إلى كل الفئات؟.
    كيف بنا إذا تعلَّقت بنا يوم القيامة لها لسان ينطق وأذن تسمع وعين تبصر تصرخ وتشكونا إلى الله بأننا قطعنا رجاءها ولم نُضح بمالنا من أجلها؟ إن لم يجاهد الدعاة بأموالهم فمَن يجاهد؟ وإذا بخلوا عليها فمَن يجود؟ وإذا لم يرفعوا راية الجهاد بالمال فمَن يرفعها؟.
    إن الجهاد بالمال في هذا الميدان الرحب الواسع المتعدد المنافع الكثير الأغراض ثوابه كبير وأجره وفير وثوابه عميم، فعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ" (متفق عليه).
    شرف كبير أن تكون من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن شريطة أن تكون كالأشعريين في تكافلهم عند نزول الشدائد والمحن، وهذا ليس بالصعب ولا بالعسير، فالشدائد التي تنزل بين الحين والحين على إخوانك الذين يحملون همًّا كهمك وهمةً كهمتك كثيرة، وأنت بجهادك تخفف عنهم، وتشارك في نشر النور وتبدد جزءًا من ظلام الفاسدين والمفسدين.
    إنك بجهادك أخي الكريم ترفع راية يراد لها أن تنكس ومصحفًا يراد له أن يدنس وشريعة يراد لها أن تحرف وتقصى وتنسف.
    إنك بجهادك أخي تشارك في كفالة طالب علم، وسد رمق أرملة، وتخفف عن مريض آهةً.
    إنك بجهادك أخي تنشر دعوةً فتأخذ بيد العاصي إلى النور، وترشد الضال إلى الطريق، وتشارك في وضع لبناتِ التمكين لدين الله في الأرض.
    إن ما يدعونا إلى الغيرة على دعوة الله ما نراه من تضحيةٍ بالمال والوقت والجهد من أهل الباطل من أجل نشر باطلهم والدفاع عنه.
    لقد سجَّل القرآن على أهل الكفر تضحيتهم بأموالهم من أجل نصرةِ باطلهم: ﴿إن الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾ (الأنفال).
    هذا أخي ما يدعونا إلى التضحية من أجل نشر دعوة الله بين الناس بالليل والنهار بكل ما أُوتينا من وقتٍ ومالٍ وفكرٍ نبتغي من وراء ذلك رضا الله عز وجل.
    سَأَلَ رَجُلٌ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَعِظَهُ فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِالرِّزْقِ فَاهْتِمَامُك بِالرِّزْقِ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ الرِّزْقُ مَقْسُومًا فَالْحِرْصُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ الْخَلَفُ عَلَى اللَّهِ حَقًّا فَالْبُخْلُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَتْ الْجَنَّةُ حَقًّا فَالرَّاحَةُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ حَقًّا فَالْمَعْصِيَةُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ حَقًّا فَالْأُنْسُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَتْ الدُّنْيَا فَانِيَةً فَالطُّمَأْنِينَةُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ حَقًّا فَالْجَمْعُ لِمَاذَا؟، وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَالْحُزْنُ لِمَاذَا؟.
    وَقَدْ قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ لِرَجُلٍ رَأَتْهُ مَهْمُومًا: إنْ كَانَ هَمُّكَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَزَادَكَ اللَّهُ هَمًّا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَفَرَّجَ اللَّهُ هَمَّكَ. (المدخل للعبدري).
    نحن في حاجةٍ إلى أن نُضحي من أجلها أكثر من حاجتها إلى تضحيتنا، مَن آمن بذلك سعى إليها بماله مجاهدًا، ومَن لم يؤمن انتظر مَن يجبي منه المال بطرق بابه مرةً ومطالبته أخرى والإسرار إليه مرةً والجهر أخرى.
    حُكي أن إبراهيم بن أدهم أراد أن يدخل الحمام فمنعه الحمامي أن يدخله بدون الأجرة فبكى إبراهيم وقال إذا لم يؤذن لي أن أدخل بيت الشيطان مجانًا؟ فكيف بالدخول في بيت النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بلا زادٍ ولا عمل؟
    فادفع الأجرة وأوفِ بعهدك وتاجر مع ربك يهدك إلى سواء الصراط ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ (العنكبوت).
    واحمد الله الذي فتح لك باب الجهاد بالمال طوال حياتك، في حين أغلق في وجوه الكثيرين من أبناء أمتك، واحذر أخي أن يحجبَ الله عنك أنواره ﴿كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)﴾ (التوبة).
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 2093
    تاريخ التسجيل : 01/03/2010
    الموقع : hmsain.ahlamontada.com

    حق الدعوة في الدخل الشهري بين الجباية والجهاد Empty حق الدعوة في الدخل الشهري (2)

    مُساهمة  Admin الأحد 22 مايو 2011 - 19:43

    لقيت صديقي العزيز بعد أن تأخَّر عن دفع حق الدعوة في دخله الشهري، وسألته عن السرِّ فأعرض ونأى وكاد أن يلتفت، فابتسمت له ابتسامةً مصحوبةً بربتةٍ على كتفه، وقلت له: هذا من حقِّ الأخوة بيننا أن أهتمَّ بك، وأعرف عنك كل شيء؛ فإن كنت في ضائقةٍ ماليةٍ رفعنا سويًّا شعار التكافل والتكامل، وإن كان فتورًا أو كسلاً أخذتُ بيديك وأخذتَ بيدي إلى الجدِّ والاجتهاد والحماسة والجهاد، وإن كان حرصًا وبخلاً فتحت يديك وفتشت بين قلبك وعينيك عن الجود والكرم لتعلنها لربك لبيك وسعديك والخير منك وإليك، خذ مني ومن مالي حتى ترضى عني.

    * أما علمت أخي الكريم أن من حقي عليك أن تفصح لي عن همومك وآلامك بعد أن عشت معك في دعوة الله سنين؟

    * أما علمت أخي أنك بالنسبة لي صفحة مفتوحة، وهكذا أنا بالنسبة لك؟ فمن العيب عليَّ ألا أهتم بك وأن لا أسأل عنك فأنت أخي كدرك كدري وهمك همي يحزنك ما يحزنني ويحزنني ما يحزنك، ويسعدك ما يسعدني ويسعدني ما يسعدك.

    دقات قلبك نبض قلبي وخطاك خطوي بين دربي

    الله آخــى بيننا بعقيـ دة ربـطت وحب

    فرباطنا ديـن الإله فمن يفـل رباط ربي

    * ثم أخي الكريم أما يحزنك أن تتفاوت المنازل بيننا يوم القيامة؛ لأني بخلت عليك بالسؤال والنصيحة؟ أو لأنك غفلت عن حق الدعوة في مالك بعد العهد الذي قطعته بينك وبين ربك أن تحرسها وتحميها بنفسك ومالك وأن تضحي من أجلها بكل شيء؟


    * أما قرأت آية سورة الزمر ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا﴾ (الزمر: من الآية 73)، أي جماعات؟

    يقول ابن كثير: جماعة بعد جماعة: المقربون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تناسب بعضها بعضًا (تفسير ابن كثير).

    ونحن فكرنا واحد، ورايتنا واحدة، وفهمنا لشمولية الإسلام واحد، واسمي مع اسمك في مكان واحد، والمائدة التي نجلس عليها واحدة، والطريق الذي نسير فيه ونسرع عليه الخطى إلى الرضوان والجنة واحد، ويدي مع يدك رافعة للراية، وغرسي بجوار غرسك لإنبات زرع التمكين لدين الله في الأرض، فكيف لا أسأل عنك أو لا تسأل عني؟ من العيب أن لا أسأل ومن العيب عليك أن لا تجيب.

    روى البخاري بإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لا يَبْصُقُونَ فِيهَا، وَلا يَمْتَخِطُونَ، وَلا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمْ الأَلُوَّةُ، وَرَشْحُهُمْ الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنْ الْحُسْنِ، لا اخْتِلافَ بَيْنَهُمْ وَلا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا" جعلني الله وإياك منهم.

    * أخي الكريم.. إن سر سؤالي لك وإلحاحي عليك هو رصيد حبي الكبير لك يعلم الله وحده ذلك، أو ما علمت أن عمر رضي الله عنه صلى الفجر ثم التفت فقال: أين معاذ بن جبل؟ وكان معاذ يصلي في مؤخرة الصفوف، فقال: ها أنا يا أمير المؤمنين، فقال: يا معاذ لقد تذكرتك البارحة فبقيت أتقلب على فراشي حبًّا وشوقًا إليك فتطاولا وتقابلا وتعانقا وتباكيا حتى ضجَّ المسجد بالبكاء.

    وفي الزهد لأحمد بن حنبل، عن الحسن أن عمر رحمه الله كان يذكر الأخ من إخوانه بالليل، فيقول: (ما أطولها من ليلة) فإذا صلى الغداة غدا إليه، فإذا لقيه؛ التزمه، أو اعتنقه.

    اللهم اجعل حبي لك كحب عمر لمعاذ.. رحم الله عمر ومعاذ ورضي عنهما، لقد غابت عنا هذه الروح العمرية، وخفتت بعض الشيء، ولو كانت موجودة لأجبتني على الفور وما ترددت يا أنا، أتذكرك عند الغروب، صورتك تسبق صورتي، وترتسم في قلبي فأدعو لك قبل نفسي وأهلي، وأنت الآن تغضب مني وتعرض عني؟ سامحك الله أخي الكريم.

    * أو ما قرأت موقف المأمون مع مخارق عندما أنشده بيتًا لنديمه أبي العتاهية

    وإني لمحتاجٌ إلى ظلِّ صاحبٍ يروق ويصفو إن كدرت عليه

    فقال لي: أعد، فأعدت سبع مرات، فقال لي: يا مخارق خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب.

    لماذا لا تكون أنت أو نكون أنا هذا الصاحب الذي يصفو ويروق عند كدر صاحبه؟ وما سألتك أخي من باب الفضول، فيعلم الله أنني لا أريد لك أن تعيش في كدر أو حزن أبدًا.

    * إن هذا الجهاد أخي الكريم مطيتك يوم القيامة إلى الجنة، فلا تجعلها ضعيفة هزيلة بل قوها بجدك، وحلها بسعيك وجملها بإنفاقك، ولا تضعفها بفتورك واعتذارك عن عمرو بن قيس الملائي قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبُه ريحًا، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله قد طيَّب ريحك وحسَّن صورتك! فيقول: كذلك كنت في الدنيا، أنا عملك الصالح، طالما ركبتك في الدنيا، فاركبني أنت اليوم! وتلا ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)﴾ (مريم) (تفسير ابن كثير).

    * أتعلم أخي أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما طلب الصدقة من النساء في يوم عيد في ساعة رخاء وفرح وسرور فإنهن تصدقن بحليهن، ولم يحوجنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمال ليجبو منهن الأموال؟ روى مسلم بإسناده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: (شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقَالَ: "تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ، سَفْعَاءُ الْخَدَّيْن،ِ فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ"، قَالَ فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ مِنْ أَقْرِاطَِهِنَّ وَخَوَاتِيمِهِنَّ).

    لا تباطؤ ولا كسل ولا فتور، بل سباق إلى الجنة وإلى عتق الرقاب- بهذه الصدقات- من النار، لقد سبقوا غيرهم من أثرياء اليوم الذين آمنوا بالتثاؤب والتباطؤ والفتور والكسل، يترك أحدهم جهاده بلا عذر مقبول، ولا يدفع إلا بعد المطالبة والإلحاح وكثرة السؤال.

    ألسنا اليوم بعد أن كثرت رايات العنت والتضييق من قِبل الظالمين والفاسدين والمفسدين أن نسارع بإخراجها؟ أما يدعونا وضع إخواننا المشردين والمضطهدين في أرض الله إلى أن نسرع الخطى وأن نبكر بها بعد أن أصبحت بعد الكفاية عينًا؟

    * فالتفت إليَّ مبتسمًا، ورد الجميل بالجميل، والمعروف بالمعروف، والإحسان بأحسن منه، فابتسم ابتسامة مصحوبة بربتة الحب على القلب قبل الكتف وقال: أخي جزاك الله خيرًا على نصحك، لقد علتني بعض الهموم والمشاكل والمشاغل، وسبق الجميع الفتور والكسل ليس إلا، وما تأخرت لشك ولا لشبهة؛ لأني آمنت من أعماق قلبي بأن ذلك حق دعوي وعقد وعهد رباني عقدته منذ أن وطأت أقدامي هذه الدعوة.

    * ومن أخي الكريم يرضى لنفسه بعد أن ذاق نعمة البذل والعطاء في هذا الميدان الرحب والواسع والفسيح أن يحرم نفسه منها، وماله من متعتها، وقلبه من الشعور بها، ويده من الحركة بها، وعقله وفكره من مردودها، وبيته من بركتها؟

    أخي.. لقد ذقت لذة الجهاد بمالي فكيف أقطعه؟ إن من ذاق لذة البذل وسط هذه المحاريب والميادين عرف، ومن جرب صدق، ومن مرَّ في حياته بهذا الشعور بقي يطلبه باستمرار.

    إنها نعمة مَنَّ الله بها عليّ وباب من الخير فتح لي فهل أغلقه، لا وألف لا، هكذا يحدثني عقلي، وإن تأخرت فلن أتركه فهو دين في عنقي لا بد من الوفاء به.

    * أعرف أخي سر سؤالك لي، وهذا ما تبادر إلى ذهني الآن، فإن كنت تظن أخي أنني أستكثر ما أدفعه في الجهاد المالي للدعوة؛ فأنا أعرف والله تشعب الميادين وكثرتها وقلة الموارد وندرتها، وما ندفعه من مال الله الذي استخلفنا عليه لها إلا قليل؛ لأن المسلم في حالة الجهاد يبذل الغالي والنفيس من أجل التمكين لدين الله في الأرض، وما العشرة في المائة التي يقرؤها البعض على أنها كثيرة إلا غيض من فيض بجوار هذه الميادين الرحبة الواسعة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وسر من أسرار التحديد مراعاة جهد المقل، أما المكثر فالميدان مفتوح والباب واسع ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)﴾ (الطلاق)، وأما المقل فلينفق على قدر استطاعته حتى لا يفوته الثواب، وليشارك في القافلة وليزاحم غيره من إخوانه من أهل البذل والعطاء، مشاركًا في نشر الفكرة ورعاية الأخوة ومنطلقًا بالدعوة.

    * نؤمن يا أخي أن هذا الحق الدعوي في الدخل الشهري فريضة وضرورة، فكيف أتقاعس وأنا أرى حال الأمة يتردى وأرى الراية تسقط؟ هل يغمض لي جفن أو يجف لي دمع أو تتوقف لي يد عن البذل والعطاء؟ والله عز وجل يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾ (الصف).

    * أعرف أن إخواني يريدون أن يأخذوا بأيدينا إلى الجنة أخذًا بهذا الجهاد فجزاهم الله خيرًا، ومن يغضب من ذلك فليراجع نفسه، وثقتي في قدرتهم على القيام بتوزيع هذا الجهاد وهذا الحق الدعوي في مصارفه ووضعه في مواضعه كبيرة، فهم أمناء وأيديهم طاهرة، ووقوع هذا المال في أيديهم بركة، فهو مال مبارك في أيدٍ أمينة مباركة.

    * يا أخي نخرج من أموالنا لدعوتنا وشعارنا معها ما قاله الصحابة لنبيهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر "خذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك" (السيرة النبوية لابن كثير).
    فخذي أيتها الدعوة من أموالنا ما تشائي، واتركي ما تشائي، فما أخذتي أحب إلينا مما تركتي.

    * وأنا أعتقد أخي الكريم أن الجهاد المالي ليس كلامًا، وإنما هو واقع عملي، على هذا بايعت، وبه آمنت، وعلى بركة الله توكلت، أعرف التبعات والعقبات، ومهما علت فلن أتراجع ولن أسلم رايتي؛ لأن الجنة هنا والراحة هناك، أقول ذلك لفرط ثقتي في عطاء ربي، فالإنسان إذا خرج إلى السوق لشراء سلعة وكان معه ثمنها وهو متأكد وواثق من وجودها في السوق فإنه يتبادر إلى ذهنه أن السلعة في جيبه لفرط ثقته في وجودها وملك ثمنها.

    والجنة سلعة غالية موجودة، أعد الله فيها للمتقين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وثمنها في الدنيا الجد والتشمير، والسعي المتواصل المستمر الذي لا ينقطع أبدًا في محراب العبادة وميدان الدعوة وساحة العلم والتضحية.

    فإذا ما باع الإنسان نفسه وماله وكل ما يملك لله ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111)، وهذا يسمى بالمعاوضة فإنه بذلك يكون قد اشترى الجنة.. "ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة".

    فالجنة معنا إذا ملكنا الثمن أما إذا أصيب الإنسان بالفلس فلا سلعة له.

    فمن جد واجتهد هنا استراح هناك، ومن لعب وضيَّع وفرَّط هنا تعب وأرهق هناك.

    إن الداعية أثناء سعيه بين الناس مبلغًا دعوة الله يجد الجنة ويشعر بها كشعور أنس رضي الله عنه عندما شعر بالخطر على الإسلام، فصرخ في الصحابة قوموا موتوا على ما مات عليه رسول الله إني أجد ريح الجنة.

    ولو سعى الداعية كسعي أنس في يوم أحد، واستشعر المسئولية كشعوره، واحترق أثناء تبليغه للإسلام كحرقته لشم رائحة الجنة ونعيمها كما شمها أنس وسعد بن الربيع رضي الله عنهما، ولرأى الجنة رأي عين بعد كده وتعبه وأرقه وبذل كل طاقته في سبيل تبليغ دعوة الله في الأرض، كما رآها خبيب بن عدي رضي الله عنه وهو في الأسر.

    ذكر الواقدي في مغازيه قوله.. وَكَانَتْ مَاوِيّةُ قَدْ أَسْلَمَتْ بَعْدُ فَحَسُنَ إسْلامُهَا، وَكَانَتْ تَقُولُ وَاَللّهِ مَا رَأَيْت أَحَدًا خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاَللّهِ لَقَدْ اطّلَعْت عَلَيْهِ مِنْ صِيرِ الْبَابِ وَإِنّهُ لَفِي الْحَدِيدِ مَا أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ حَبّةَ عِنَبٍ تُؤْكَلُ وَإِنّ فِي يَدِهِ لَقِطْفَ عِنَبٍ مِثْلَ رَأْسِ الرّجُلِ يَأْكُلُ مِنْهُ وَمَا هُوَ إلا رِزْقٌ رَزَقَهُ اللّهُ، وَكَانَ خُبَيْبٌ يَتَهَجّدُ بِالْقُرْآنِ وَكَانَ يَسْمَعُهُ النّسَاءُ فَيَبْكِينَ وَيُرَقّقْنَ عَلَيْهِ.(مغازي الواقدي).

    فعلى الداعية أن يؤمن بهذه البرقيات وأن يثبتها في عقله وقلبه، وأن يجعلها معه في كل جولاته ليراها ماثلة أمامه كلما سدت في وجهه الأبواب وحيل بينه وبين الناس والأحباب، وكلما دخل عليه الفتور، ليثبت على الطريق ولا يعتذر عن تكليف ولا يهرب من جهاد ولا ينتظر من يجبي منه المال، بل يبادر ويسارع ويسابق غيره في الميدان.

    * إن الله قد اختارنا للذبِّ عن دينه والدفاع عنه، والعمل في ساحة الدعوة ومحرابها مع إخواننا؛ ولذلك أؤمن بأنه ينبغي علينا أن نقوم ببري سهم دعوتنا حتى يكون نافذًا مخترقًا للصعاب والآلام مؤثرًا صائبًا.

    وبري السهم بعد الاختيار والاصطفاء والاجتباء يكون بالإخبات لله والتذلل بين يديه، والاعتصام به سبحانه وتعالى فمنه العون والمدد، والتضحية والجهاد بالمال والنفس؛ فقد خصَّنا من بين الناس بهذا الفضل وبهذا الشرف العظيم وهو التوقيع عنه في الأرض بين الناس.

    * أخاف على نفسي كما تخاف على نفسك من أن أموت صغيرًا بسبب كسلي وعدم جدي واجتهادي فأقصي من ميدان الكبار ومصنع الرجال والأبطال، يقول سيد قطب في تفسير قول الله تعالى ﴿قُمْ فَأَنذِرْ (2)﴾ (المدثر): إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، ولكنه يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير، فما له والنوم؟ وما له والراحة؟ وما له والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر وقدّره، فقال لخديجة رضي الله عنها وهي تدعوه أن يطمئن وينام: "مضى عهد النوم يا خديجة"! أجل، مضى عهد النوم، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق! "الظلال".

    * فانفرجت أسارير قلبي قبل وجهي، وعلت الابتسامة جبيني، وقلت له بعد أن قبضت على يده بشدة قبضت المحب الخائف على حبيبه ونفسي تحدثني قائلة لي: على هذا تربينا أيها البطل، ثم قلت له: إذا كان هذا فهمك وهذا إيمانك فما الذي يدفعك لأن تجبي منك الدعوة حقها في دخلك الشهري يطالبك زيد مرة ويلتفت إليك عمرو أخرى يلمح هذا ويصرح ذاك؟ لماذا لا تتحرك أنت حركة ذاتية مصحوبة بحب الجهاد والتضحية؟ إن رصيد التربية الذي عشته وعشناه في محراب الدعوة يدفعنا للجهاد والتضحية بعيدًا عن الجباية والمطالبة.

    أتعلم أن الناس في الحياة لهم مشارب مختلفة، فالذي يحبه زيد قد يكرهه عمرو وعلى العكس ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود: من الآية 119).

    وإذا ما نظرنا في الحياة التعبدية نجد أن واحدًا يحب القيام ويكثر منه، والآخر يحب الصيام ويكثر منه، والآخر يدمن قراءة القرآن الكريم، هذا يحب الذكر والآخر يحب التفكر.

    ومع الكل يعمل عداد الإيمان ولا يتعطل، ولكن فرق بين من يحصي له العداد بالآحاد ومن يحصي له العداد بالعشرات ومن يحصي له العداد بالمئات ومن يحصي له العداد بالآلاف ومن يحصي له العداد بالملايين والمليارات.... ومن يحصي له العداد بلا حصر.

    فقدرات الناس متفاوتة في تشغيل العداد وأفهامهم متعددة، والكل يسعى وله أجره وثواب سعيه.

    ولكن هل يستوي من يحصي بأقل مجهود جبالاً من الحسنات ومن يتعب نفسه ويرهق روحه ثم يخرج بالقليل؟ هل يستوي من يحصي له العداد بلا حصر مع من يحصي له العداد بالآحاد؟

    إن ورثة الأنبياء الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وأوقفوا حياتهم لله يعد لهم العداد بلا حصر إن تجردوا وأخلصوا في أعمالهم لله عز وجل.
    ومن العيب على الداعية أن يرضى بالدون ولا يتطلع إلى معالي الأمور.
    وأن يستوي مع من يحصي له عداده الإيماني بالآحاد أو العشرات، لأن وريث النبي صلى الله عليه وسلم مجاهد يحلق دائمًا في سماء الفضل كما صوره الإمام البنا عليه رحمه الله: ".... أعد العدة، وأخذ الأهبة، وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواحي نفسه وجوانب قلبه؛ فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام على قدم الاستعداد، إن دُعي أجاب أو نُودي لبى، غدوه ورواحه حديثه، وكلامه جده، ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، حياته وإرادته يجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه وترى في بريق عينيه وتسمع من فلتات لسانه ما يدلك على ما يضطرم في قلبه من جوى لاصق وألم دفين وما تفيض به نفسه من همة عالية وغاية بعيدة" .اهـ.
    لا يرضى بالدون أبدًا، فهو لا يلهو مع من يلهو، ولا يلعب من يلعب، يعمل في الحياة ويتحرك على بصيرة وفق خطة مستنيرة.

    ثم قلت له: عذرًا أخي إن كنت قد أطلت عليك فيعلم الله أني أحبك في الله، ولا أريد أن أتفلت منك أو تتفلت مني يوم القيامة.

    فقال لي: عذرًا أخي لن أعود وأعدك بالوفاء لبيعتي وعهدي مع دعوتي وإخواني، ومن اليوم عهد جديد مع البذل والعطاء، وإن علاني الكسل فترة فإن شاء الله سأخلع عباءته، فليس من العيب أن يقع المرء، ولكن العيب أن يظل راقدًا على الأرض، وبعد نصحك لي قد نهضت من جديد، أسأل اللهَ أن يشرح صدورنا، وأن يتقبل جهادنا، وأن يثبتنا على دعوته، اللهم آمين والحمد لله رب العالمين.

    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 2093
    تاريخ التسجيل : 01/03/2010
    الموقع : hmsain.ahlamontada.com

    حق الدعوة في الدخل الشهري بين الجباية والجهاد Empty حق الدعوة في الدخل الشهري (3)

    مُساهمة  Admin الأحد 22 مايو 2011 - 19:46

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

    جلس أصدقائي الكرام، وافتتحنا الحلقة بالقرآن والدعاء، ثم كلمة موجزة عن الوضع الحالي الذي تمر به أمتنا في الداخل والخارج، خيَّم على الجميع الحزن والأسى لما يحدث لإخواننا على أرض الرباط والرافدين والقوقاز وكشمير وأفغانستان، وما يُحاك ضدهم من مؤامرات بُيتت بليل، وما يُحاك بالبلاد الآمنة لزعزعة استقرارها وبلبلة أمنها، انتفض الجميع وأدلى كل فرد منهم بدلوه حتى نطق أحدهم ببيت من الشعر حرك المشاعر:


    أواه ليلى في العراق عليلة يا صاحبي كل العراق عليل

    أختاه ليلى تستجير بأختها يا أخوتي خذل الفراتَ النيلُ

    فرد عليه الآخر ببيت على لسان الأقصى زلزل الأحاسيس والأركان:

    إني أنادي والرياح عصيبة والأرض جمر والديار ضرام

    يا ألف مليون ألا من سامع هل من مجيب أيها الأقوام؟

    قد بح صوتي من نداك أمتي هلا فتى شاكي السلاح همام

    فوجدت الآخر ينظر إليهم وينادي بأبيات للشاعر العشماوي على لسان طفلة مشردة، هدم الاحتلال البيت، واعتقل الأخ، وقتل الوالد، وجاء ليغتصب الأم فوقفت الطفلة وسط الظلام الدامس لتخاطب الهلال في فجره قبل ظهوره بدرًا قائلة:

    غب يا هلال

    إني أخاف عليك من قهر الرجال

    قف من وراء الغيم

    لا تنشر ضياءك فوق أعناق التلال

    غب يا هلال

    إني لأخشى أن يصيبك

    حين تلمحنا الخبال

    أنا- يا هلال

    أنا طفلة عربية فارقت أسرتنا الكريمة

    لي قصة

    دموية الأحداث باكية أليمة

    أنا- يا هلال....

    أنا من ضحايا الاحتلال

    أنا من ولدت

    وفي فمي ثدي الهزيمة!

    شاهدت يومًا عند منزلنا كتيبة

    في يومها

    كان الظلام مكدسًا

    من حول قريتنا الحبيبة

    في يومها

    ساق الجنود أبي

    وفي عينيه أنهار حبيسة

    وتجمعت تلك الذئاب الغبر

    في طلب الفريسة

    ورأيت جنديًّا يحاصر جسم والدتي

    بنظرته المريبة!

    ما زلت أسمع يا هلال

    ما زلت أسمع صوت أمي

    وهي تستجدي العروبة

    ما زلت أبصر نصل خنجرها الكريم

    صانت به الشرف العظيم

    مسكينة أمي

    فقد ماتت..

    وما علمت بموتتها العروبة!

    فوجدت الدمعة تسيل على الخدين من بعضهم، وارتفع خنينهم من كثرة البكاء، فشكرت لهم على مشاعرهم الفياضة تجاه أمتهم وإخوانهم في كل مكان، بعد أن ارتفعت رحم الدين وسبقت رحم النسب، ثم قرأنا وردنا من القرآن، وأخذنا جرعة من التفسير والفقه، ثم اغترفنا من إناء السيرة، وشربنا من معين الرقائق، ثم استنشقنا عبير الحديث، ثم دار حديث بيننا عن حال كل فرد مع دعوته وأهله وولده وجيرانه والناس من حوله.

    ولما اقترب الختام وجدت أحدهم يهمس في أذني قائلاً لي هل نسيت الجهاد المالي؟! اليوم هو التاسع والعشرين من الشهر، والأسبوع المقبل سنكون قد دخلنا في الشهر الجديد، وبهذا يكون الجهاد قد خرج وقته والله يقول: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ (الأنعام: من الآية 141)، قلت له: بارك الله فيك، والله لقد ذكرتني بعد نسيان، فرفعت صوتي مناديًا من منكم أيها الأحباب تقاضى راتبه هذا الشهر حتى يدفع حق الدعوة في دخله الشهري؟ فقام هذا الأخ ومعه من تقاضى راتبه، وأخرج من جيبه حق الدعوة، ولما أمسكت بجهاده وجدته خمسين جنيهًا وبضعة قروش، فأخذت الخمسين، وأردت أن أرد عليه هذه القروش القليلة فقال أخي: هذا حق الدعوة وقسَمُها في راتبي، عليه بايعت، وبه آمنت، أخرجه راضية بذلك نفسي، فكبرت القروش الصغيرة في عيني حتى أصبحت كالجبال، وسألت الله أن ينميها له، ثم جزيته خيرًا على ارتفاع مستواه التربوي العالي والإيماني الراقي، وبعد أن انصرف الجميع بعد لقاء القلوب والأرواح وذهبت إلى بيتي، وقفت مع هذا الأخ الذي قام بخصم حق الدعوة بالقرش الواحد ولم يبخل عليها به، وقلت: هذا فهم غاب عن الكثيرين من أبناء هذا الجيل، هذا الأخ درة نفيسة لأنه قل أمثاله، أين بقية الأفراد منه؟ وأخذ عقلي بالفعل يدور بعد أن ذكرني بقراءاتي عن الجيل الفريد من أستاذتنا ومشايخنا ومرشدينا الذين أكل منهم الإخلاص وشرب، ونالت التضحية من كل عضو منهم فلم يدخروا جهدًا ولا وقتًا ولا مالاً، لم يقدموا على دعوة الله شيئًا وقدموها على كل شيء، دار عقلي معهم في جودهم مع دعوتهم وعفتهم وكرمهم مع مالهم وعطائهم الكبير.

    ذكرني بمن طلبت منه الدعوة نفقة لحاجتها إليها، فذهب إلى بيته فلم يجد إلا دقيق البيت، فأخذه إلى إخوانه، وقال لهم بيعوه فدعوة الله أولى به.

    وبالفعل وقفت بين الجيلين بين جيل ضحى بكل شيء وجيل أصبح في بعض أفراده شيء من التباطؤ والكسل وعدم الجد، آمن بعض الشيء بالشكليات والأقوال ونسي بعض الشيء من الأعمال، لربما قدَّم الكلام على الأفعال في بعض الميادين، فجاد من الكلام أكثر من إجادته العمل، عنده جرأة على التأويل والفهلوة.

    أُصيب بعدوى المجتمع في كثرة مشاغله، فالدعوة عند هذه القلة على هامش حياتهم يعطونها من مالهم القليل ومن وقتهم الفضول، فن التضحية عندهم يغيب مرة ويعود أخرى.

    أُصيب بالعجلة، وبعضهم يود لو قطف الثمرة؛ حتى ولو لم تنضج بسبب ارتفاع الغلاء والوباء والتضييق عليه في فكره ومحاربة رايته وكثرة أعدائه.

    أخذت أعدد الفروق التي أُصيب بها بعض أفراد هذا الجيل، فوجدت أن البعض منه أُصيب بهرمون دعوي قاتل.... عددت كثيرًا من الفروق، ولكنني استدركت وتذكرت أني أجول بخاطري مع حق الدعوة في الدخل الشهري الذي ذكرني به هذا الأخ الفاضل الكريم، فعدت إلى الوراء مرة ثانية، وأخذت أحصر بعض الأسباب التي أدت إلى تأخير الجهاد المالي عند البعض أو ضعف حسابهم له، فهذا يخرج عشرة في المائة وهذا يخرج خمسة في المائة، هذا أكثر وهذا أقل، هذا يعطيها فضول ماله وهذا يعطيها كل ما تطلبه من ماله، ووقفت مع المقصرين، وقلت إن من الأسباب التي تجعل الداعية في المحراب لا يضحي بماله ويبخل به على دعوته في نظري عدة أسباب منها على سبيل العد لا الحصر:

    1- نسيان العهد الذي قطعه بينه وبين ربه في الوفاء ببيعته:

    فلقد دخل الدعوة وهو يحمل حقيبة على كتفه فيها كل مشاغل حياته؛ البيت والأولاد والزوجة والعمل... إلخ، وعندما حمل الأخرى لم يقل له أحد ضع الأولى أو اغفل عنها أو همش من دورها، بل أوصوه بها ونصحوه برعايتها والمحافظة عليها، فهي لا تقل في الأهمية عن الثانية التي حملها مع الأولى، فحمل الاثنين عن طواعية وحب ورضا، وأقسم على الثانية، وبايع عليها وهو يحمل الأولى؛ ولكنه بعد قسمه نشط عدة أيام أو شهور أو سنين، ثم نسي العهد الذي قطعه مع ربه أن يكون خادمًا لها مضحيًا من أجلها؛ فقدم الحقيبة الأولى على الثانية، ولم يفطن لخطورة كسله ولا لفضل وفائه، يقول الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26)﴾ (الرعد).

    ويقول تعالى في سورة النحل: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)﴾ (النحل).

    ولو فطن هذا المسكين لخطورة كسله في وفائه مع العهد الذي قطعه بينه وبين ربه لبادر ولما انتظر أي إنسان أن يطالبه بحق الدعوة في دخله الشهري؛ لأن الكسل والفتور في طريق الوفاء بالعهد رائحته كريهة وعقباته ثقيلة ومخاطره قريبة "كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ"، فهو على باب من أبواب النقض وعدم الوفاء؛ فليحذر من الدخول، ولا يقترب من شرفاته، وليستفيق من غفلته؛ لأن نقض العهد ليس من شيم المؤمنين الصالحين، بل هو من صفات الفاسقين والمنافقين نسأل الله العفو والعافية، قال الله تعالى: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)﴾ (الأعراف)، وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك أشد التحذير فقال: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر" (متفق عليه).

    بل عد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان متصفًا بهذه الصفة الذميمة ممن ذهبت مروءتهم ودينهم فقال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (رواه أحمد).

    وقال ابن الجوزي رحمه الله: إن نقض العهد من صفات الفاسقين.

    وقال محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى: ثلاث خصال من كن فيه كن عليه: البغي، والنكث، والمكر، وقرأ ﴿وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾ (فاطر: من الآية 43)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ (يونس: من الآية 23)، ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ (الفتح: من الآية 10)، قال ابن عطية في تفسير هذه الآية: إن من نكث يعني نقض العهد فإنما يجني على نفسه، وإياها يهلك، فنكثه عليه لا له.

    وهناك الكثير من الأدلة على وجوب الوفاء بالعهد وعدم نقضه، ولهذا عد بعض العلماء نقض العهود من الكبائر، ومن هؤلاء العلماء: الإمام الذهبي رحمه الله، والإمام ابن حجر العسقلاني، وقال الإمام ابن عطية رحمه الله: إن كل عهد جائز بين المسلمين نقضه لا يحل.
    فعلى من يفتر أو يتباطأ في دفع حق الدعوة في الدخل الشهري أن يفطن لهذه المخاطر، وليبادر قبل الوقوع، وليحذر قبل الدخول في هذا النفق العفن؛ لأن نقض العهد ليس من شيم المؤمنين والأحرار.

    2- الغفلة عن الأجر والثواب:

    فلو نظر هذا الحبيب إلى شعار..."ربح البيع"... لجاد بكل ماله، ولو قرأ وعْد النبي صلى الله عليه وسلم: "لكم الجنة إن وفيتم.." لوفى مع دعوته بالعهد الذي قطعه مع نفسه عندما وطأها بأقدامه ودخلها بحقيبته، إن الفضل كبير والأجر وفير، فبإخراج حق الدعوة في الدخل الشهري يتنزه الأخ عن صفة البخل المُهلك. ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾ (محمد)، ويتعاون على البر والتقوى ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)﴾ (آل عمران)، ويبرهن بإخراجها على إيمانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)﴾ (البقرة).

    ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾ (التوبة)، ويضاعف لنفسه الحسنات ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)﴾ (البقرة).

    ومع إخراجها راضية بذلك نفسه يتطلع إلى مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، وإطفاء نار الخطايا، ونيل درجة البر ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)﴾ (البقرة)، يصنع مستقبله في الآخرة فيأمن من الخوف يوم الفزع الأكبر، ويحصن الله له ماله ويحفظه وينميه له، عن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلاءِ الدُّعَاءَ" (الطبراني)، يحصن نفسه وماله بإخراج حق الدعوة فيها ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال: من الآية 60)، الاستظلال بظل الله وظل الصدقة يوم القيامة "... ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه"، "المؤمن في ظل صدقته".. فضائل كثيرة؛ فلنفطن لها ولنكثر من قراءتها، لعلها تدفعنا إلى البذل والعطاء والجود والوفاء.

    3- ضعف التذكير وقلة التحفيز:

    فالإنسان في حاجة إلى تذكير مستمر، وإلى طرق باب قلبه أكثر من مرة، فلربما يفتح في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة.... بعد الألف ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)﴾ (الذاريات)، وقد يكون المسئول عن جمع هذه الأموال هو نفسه عنده فتور أو قصور، فيعدي صديقه بفتوره وتتعدى عدواه إلى غيره، أو يكون عند تذكيره فاترًا لا حماسة عنده فيذكر مرة ولا يذكر الأخرى، وإن ذكَر وذكَّر لا ينوه بالمخاطر المحدقة ولا السيوف المشرعة ولا السهام المصوبة، لا يذكر بآهات المرضى ولا بأنَّة الثكلى ولا بدمعة المحبوس ولا المسجون، وإن ذكر فتذكيره خالٍ من الحماسة والمشاعر الفياضة المتدفقة.

    4- النظرة المحدودة والضيقة للمخاطر المحيطة بالدعوة:

    فلو قرأ هذا الأخ ما يُحاك بدعوتنا من مخاطر ومؤامرات، ولو أمعن النظر في الواقع المحيط بها لبذل الغالي والنفيس، مضحيًا من أجل بقائها ورافعًا لرايتها ومثبتًا لأركانها، ولقال كما قال أبو بكر بعد سؤال النبي صلى الله عليه وسلم له بعد إنفاقه في غزوة العسرة "ماذا أبقيت لأهلك..؟" قال: أبقيت لهم الله ورسوله؛ فالصهيونية الماكرة والصليبية الحاقدة والشيوعية الغادرة قد نزلوا إلى الميدان والتفوا حول البنيان، يريدون اقتلاع الثوابت والأركان، يعاونهم ويساعدهم في إشعال النيران ذيولهم من أبناء جلدتنا أصحاب الفكرة المنحرفة والراية الشاذة الضالة المضلة والسلطان الفاجر (قاطع الطريق) الذي يسرق حتى مساغ نسائنا، وينهب عند زيارته غير المرغوب فيها قوت أبنائنا، يصادر شركاتنا وينهب خيراتنا وعرق جبيننا، يعزل هذا ويعتقل ذاك، يقتل هذا ويروِّع ذاك، والرعديد المنافق الذي يصفق له، يوالي الأعداء ويعادي الأهل والجيران.... إلخ.

    وأهل التباطؤ والفتور والكسل أغمضوا أعينهم عن عمد أو جهل عن هذا الواقع المر الذي تعيشه الدعوة ويعيشه أفرادها فتأخروا مرة وتباطئوا أخرى.

    5- عدم استشعار المسئولية:

    حلَّ به الكسل ونزل بساحته الفتور بسبب الضباب والشبورة وكثرة الأتربة والرمال التي علت فوق زجاج سيارة الحياة عنده، فضعف نبضه وقلَّ سيره لأن الرؤية قد ضعفت عنده فهو في السيارة يعيش لنفسه، لو أسرع الخطى لوقع في الخطأ والمحظور ولا بد له من السير على مهل، ولو أراد الإسراع حتى يصل إلى هدفه ويحقق مراده قبل فوات الأوان؛ فعليه بتشغيل الماسح حتى تتضح له الرؤية وتجريد ما علق بزجاج السيارة من أتربة حتى يرى الأشياء على حقيقتها والأمور على طبيعتها.

    6- ضعف الجانب التربوي:

    لم يأخذ حظه من التربية، ففقده الجميع عند الشدائد، وكما قال أحد أستاذتنا: (مثل التربية على التضحية بالنفس والمال مع الفرد كمثل الطوب الأحمر لا يصلح للبناء إلا بعد الحرق بالنار)، وهذا المسكين في نظري لما أكل منه تثاؤب الراحة وشربت منه الدعة والسكون، وجاءت الشدائد بعد ذلك وضع يده على فيه ليرد التثاؤب الذي حل به، ومد يده الأخرى ليفتح جفن عينيه فلم يكد ينتهي المسكين من حركة يديه إلى عينيه وفمه حتى مرت الأزمة وانتهت الشدة دون أن يشعر بها، أما من تربى تربية الطوب وسط المصنع هو الذي تأهَّب واستعد وتجهز، فلم يعبأ بزينة الدنيا، ولم يجزع من ذلها ولم ينافس في عزها، يقول الشيخ الغزالي رحمه عن تربية الشُّعب للصحابة الكرام رضي الله عنهم: (وقد أفاد الصحابة من ذلك عفةً ونقاءً وإخلاصًا، لا يعرف لها في التأريخ نظير، فلما تعثرت تيجان الملوك بأقدامهم، واستسلمت الأقطار المكتظة بالخير لجيوشهم كانت دوافع العقيدة وأهدافها هي التي تشغل بالهم، كما كانت مشغولة بها وهي محاصرة في الشعب، فلم يكترثوا بذهب أو فضة إنما عناهم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (فقه السيرة).

    عن أبي عبيدة العبدري رضي الله عنه قال: لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الغنائم، أقبل رجل بحق معه فدفعه على صاحب الأقباض (بيت المال)، فقال الذين معه: ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا له: هل أخذت منه شيئًا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأنًا، فقالوا من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم فتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني؛ ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس رضي الله عنه (صفة الصفوة). إن هذا الفعل من عامر لم يأت من فراغ ولكنه نتاج تربية، وهذا الأخ الكريم لو أخذ حظه من التربية على التضحية بالمال والوقت والنفس... لما تأخر أو تقاعس عن دفع حق الدعوة في دخله الشهري ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)﴾ (محمد).

    7- ضعف الجانب الإيماني:

    تنافر بين الإيمان والشح وسوء الخلق؛ لأن الشح والبخل وسوء الخلق من علامات ضعف الإيمان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا، وَلا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا" (رواه النسائي).

    وروى الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَصْلَتَانِ لا تَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ".

    فالبخل والشح دليل على ضعف الإيمان، ولو أدمن الإنسان وأكثر من الإيمانيات لجاد بما عنده ولما بخل على دعوة الله؛ لأنه من المعروف والمسلم به أن القلب تدور على ساحاته معارك طاحنة بين الخير والشر، أيهما فاز ملك الساحة وسيطر على عرش القلب.

    8- سوء في الاختيار:

    النفعي لا مكان له عندنا؛ لأن سهم المؤلفة بين الإخوان بعد أن انتشر الإسلام وثاب الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا وضعه عمر رضي الله عنه، والبخيل بوقته وماله ونفسه... لا مكان له عندنا، أيضًا يقول الإمام البنا رحمه عن أصناف الناس أمام دعوتنا: "وإما شخص لا يريد أن يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة وما يجره هذا البذل له من مغنم، فنقول له حنانيك ليس عندنا من جزاء إلا ثواب الله إن أخلصت والجنة إن علم فيك خيرًا، أما نحن فمغمورون جاهًا فقراء مالاً، شأننا التضحية بما معنا وبذل ما في أيدينا، ورجاؤنا رضوان الله وهو نعم المولى ونعم النصير، فإن كشف الله الغشاوة عن قلبه وأزاح كابوس الطمع عن فؤاده فسيعلم أن ما عند الله خير وأبقى، وسينضم إلى كتيبة الله ليجود بما معه من عرض هذه الحياة الدنيا لينال ثواب الله في العقبى و﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ (النحل: من الآية 96)، وإن كانت الأخرى فالله غني عمن لا يرى حقًّا لله، الحق الأول في نفسه وماله ودنياه وآخرته وموته وحياته، وكذلك شأن قوم من أشباهه أبوا مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يجعل لهم الأمر من بعده، فلما كان جوابه صلى الله عليه وسلم إلا أن أعلمهم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" (الرسائل).

    وهذا الأخ الكريم الذي بخل بماله على دعوة الله، فمرة يهرب ومرة يكسل أو يفتر، يجمع الشهرين والثلاثة ويأكل شهرين أو ثلاثة، أخطأ من اختاره ولم يحسن اختياره جيدًا ولم يفهمه قبل دخوله وبيعته أن من بايع على هذه الدعوة هو شخص صدق بقولنا وأعجب بمبادئنا، ورأى فيها خيرًا اطمأنت نفسه وسكن له فؤاده، فهذا ندعوه كما قال الإمام البنا رحمه الله إلى دعوتنا "أن يبادر بالانضمام إلينا والعمل معنا حتى يكثر به عدد المجاهدين ويعلو بصوته صوت الداعين، ولا معنى لإيمان لا يتبعه عمل ولا فائدة في عقيدة لا تدفع صاحبها إلى تحقيقها والتضحية في سبيلها" (الرسائل).
    9- الغفلة عن خطورة البخل:

    فهو داء ومرض عضال، نسأل الله العفو منه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو "أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ" (رواه البخاري).

    وروى مسلم بإسناده عن عياض بن حمار المجاشعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى، وَمُسْلِمٍ وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ" قَالَ: "وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ الضَّعِيفُ الَّذِي لا زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لا يَبْتَغُونَ أَهْلاً وَلا مَالاً وَالْخَائِنُ الَّذِي لا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلا خَانَهُ وَرَجُلٌ لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِي إِلا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوْ الْكَذِبَ وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ" (رواه مسلم).

    وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اضْطَرَّتْ أَيْدِيَهُمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا فَكُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَتِهِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تُعَفِّيَ أَثَرَهُ وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ انْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا وَتَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ" فَسَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلا تَتَّسِعُ".

    10- النظرة الضيقة والمحدودة لتنوع الصدقة:

    لو نظر كل أخ بعين العقل والبصيرة إلى ميادين الدعوة الواسعة التي هي في حاجة إلى كل قرش لبادر وسارع إلى إخراج حقها في دخله؛ لأن ميدان التنوع ومحرابه هنا كبير وواسع، فالجنيهات التي يدفعها الأخ الكريم من دخله الشهري للدعوة توزع على مصارف عدة، فهي تصل إلى اليتيم والأرملة وأسرة المسجون والمريض والعائل الذي لا دخل له لتمسح دمعة وتخفف أنة وترسم بسمة وتدخل السعادة، وفوق ذلك تنشر دعوة وترفع راية وتحقق شمولية وتضع بذرة التمكين وتقاوم المنكر والظلم والفساد وتجاهد بها مع إخوانك المستضعفين في فلسطين والعراق..... إلخ، فثواب الإنفاق هنا كبير ومردوده وفير.

    11- عدم توفر نية الجهاد:

    غياب نية الجهاد مع دفع حق الدعوة يجعل العبد يتباطأ ويفتر، يؤخر حقها مرة وينقطع أخرى، ولو توفرت لديه نية الجهاد لبادر بمجرد أن سمع المنادي ينادي ولما انتظر من يدفعه من مؤخرته ويسوقه إلى الميدان سوق العبيد لإنفاذ المهام.

    ولذلك أهل النشاط والجد والتشمير رسموا في قلوبهم وعلى جباههم مع تقاضيهم حق الدعوة (حي على الجهاد) فلا يصل أحدهم إلى بيته براتبه إلا وقد أخرج حقها منه بالقرش الواحد.
    إن إخراج حق الدعوة في الدخل الشهري يجدد النية للجهاد باستمرار؛ فتظل النفس مع كل قرش ينفق في الدعوة تهتف من أعماقها بحب الجهاد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ" (رواه مسلم).

    12- غياب معنى التضحية والجهاد وضيق الفهم بينهما:
    يقول الأستاذ سعيد حوى رحمه الله تعالى: هناك فارق إلى حد ما بين الجهاد والتضحية، فأحيانًا يتطابقان وأحيانًا يتكاملان؛ ولذلك اعتبرهما الأستاذ "الإمام البنا" ركنين، فقد يجاهد المجاهد حتى إذا جاء دور بذل الروح تردد، وقد يجاهد المجاهد بالوقت ويضحي بالمال ولكنه لا يضحي بالحياة، ومن ثم أدخل الأستاذ البنا التضحية بالنفس والمال والوقت والحياة، وكل شيء في هذا الركن إنه حيث وُجد جهاد وُجد نوع من التضحية، غير أن الجهاد الكامل لا يكون إلا إذا وجدت تضحية كاملة، وإن ميزان هذا الركن هو أن يبذل الإنسان نفسه وماله ووقته وحياته من أجل تحقيق الأهداف في سبيل الله (موسوعة الإخوان المسلمين).

    يقول الإمام البنا: وأريد بالتضحية: بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ﴾ (التوبة: من الآية 111)، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾ (التوبة)، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: من الآية 120)، ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (الفتح: من الآية 16). وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم (والموت في سبيل الله أسمى أمانينا ) (الرسائل).

    لو عاش الدعاة معاني هذه الكلمات لما تقاعسوا عن جهاد ولا تضحية بأنفسهم ولا بأموالهم، وكما قال ابن القيم رحمه الله: (الكلام له لفظ ومعنى وله نسبة إلى الأذن والقلب وتعلق بهما، فسماع لفظه حظ الأذن وسماع حقيقة معناه ومقصوده حظ القلب) (المدارج).

    فهيا هيا أيها الأحباب لا تبخلوا على دعوتكم، فهي في حاجة إلى كل قرش من أموالكم، فأموالكم طاهرة حلال، ودعوتكم دعوة ربانية.

    أسأل اللهَ أن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن يحرر قلوبنا من الحرص، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه آمين.. آمين.. والحمد لله رب العالمين.

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 26 أبريل 2024 - 20:10