hmsain.ahlamontada.com

نشكرك على التسجيل فى هدا المنتدى زرنا باستمرار و شاركنا رايك فاليد الواحدة لا تصفق ورايك يهمنا كما ان حضورك الدائم يحفزنا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

hmsain.ahlamontada.com

نشكرك على التسجيل فى هدا المنتدى زرنا باستمرار و شاركنا رايك فاليد الواحدة لا تصفق ورايك يهمنا كما ان حضورك الدائم يحفزنا

hmsain.ahlamontada.com

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
hmsain.ahlamontada.com

منتدى يهتم بنشاطات حركة مجتمع السلم بلدية عين بوزيان


    :حصريا:: همس النبضات :: للاستاذ الراشد :من استراتيجيات الحركة الحيوية

    alhdhd45
    alhdhd45


    عدد المساهمات : 1337
    تاريخ التسجيل : 03/03/2011
    الموقع : hmsain.ahlamontada.com

    :حصريا:: همس النبضات :: للاستاذ الراشد :من استراتيجيات الحركة الحيوية Empty :حصريا:: همس النبضات :: للاستاذ الراشد :من استراتيجيات الحركة الحيوية

    مُساهمة  alhdhd45 الإثنين 4 يوليو 2011 - 18:48

    الرسالة (1) من استراتيجيات الحركة الحيوية:

    همس النبضات
    هذه سلسلة من رسائل "استراتيجيات الحركة الحيوية": كان مقدرا لها أن تكون كتابًا واحدًا ضخمًا يقترب عدد صفحاته من الألفي صفحة، تظهر من خلاله الوحدة الموضوعية جلية، ويستطرد القارئ مع معانيه تباعًا، فيكون الفهم لها أوفر، ولكني رأيت هبوط مستوى صبر القراء عما كانوا عليه من قبل ونوع كسل يستشري يصد عن مطالعة المدونات الضخمة، ويولد زهدًا فيها، وهي ظاهرة سلبية اقترت بولعٍ شديد تجاه الانترنت والفضائيات الكثيرة الملهية، وأجبرتني على مجاراة الأحوال والواقع، وتقسيم كتلة البحث إلى أجزاء صغيرة، وعرضها من خلال رسائل متناسقة ذات منهجية واحدة، يسهل على شبابا الصحوة الإسلامية المعاصرة إدراك مراميها، وتكون الإحالة إلى مراجعها في نهاية كل رسالة، حتى إذا أتمت عرض جميع الكتلة البحثية: رجعت واستأنفت جمعها معًا في موسوعة مترابطة، مع إعمال يد التغيير فيها، والتقديم والتأخير، والمناقلة، والحذف والإضافة، لتكون متنًا واحدًا يشرح نظرية "حركة الحياة" في سياق منسجم يراعي دقائق المنهجية العلمية

    الباب الاول: الحياة كلها منظومة جينية متكاملة
    وحين اطلعت على المنظومة الجينية للإنسان، ولكل حيوان، وقصة الخلق العجيب، وتوالي الصفات التفصيلية محمولة على جينات خاصة عددها في حدود الثلاثين ألفًا، وخبر الهوية الخاصة بكل إنسان من خلال حمل حامض DNA لها: أدركت وجه التشابه بين المخلوقات، أو الإنسان الذي هو أرقاها، وبين الحياة كلها، والعوامل التي تحركها وتؤثر فيها وتجعلها تتجه إلى وجهاتها كل حقبة أو بضعة أجيال.

    * ولتصوير وجه المقاربة والتشابه يلزمنا أن نتذكر أن اكتشاف المنظومة الجينية للإنسان كان عملاً ضخمًا جدًا، يوازي في حجمه وأهميته اكتشاف الدقائق الذرية وتطويعها للاستخدام الحيوي، ويوازي عملية النزول على سطح القمر وما تطلبه من عمليات جزئية كثيرة وحسابات علمية دقيقة تبدأ من اختراع الخوارزمي للصفر الرياضي قبل ألف سنة مرورًا بكل قوانين نيوتن وماكس بلانك وآينشتاين وحقائق فيزياء الكم، فالمنظومة الجينية إنما تيسر اكتشافها عبر منهجية أخرى ضخمة تطلبت جهود آلاف الباحثين، وأكفأ الكومبيوترات، ومليارات الدولارات، وتعاونًا دوليًا، وخلال ذلك تم التعامل مع مليارات المعلومات والرموز التحليلية وتنقيتها ورؤية وجوه التشابه والاختلاف بينها وطريقة تكرار بعض الصفات، وبعد جهد إحصائي واسع اتضحت الخارطة الجينية، ووضعت في الإنترنت، ليفهم منها أهل الاختصاص كيفية التعامل مع الصفات والأمراض، وكيفية التلاعب بها، وتوليد منظومات جزئية مستنبطة من المنظومة العامة، من أجل التحكم والسيطرة على الأجيال الجديدة.
    وبعيدًا عن الوجوه الأخلاقية لهذه العمليات، واحتمالات الإساءة، التي لا تعني مبحثنا: نستطيع أن نزعم أن "منهجية اكتشاف قوانين الحركة الحيوية" هي صورة تكاد أن تكون طبق الأصل من منهجية اكتشاف المنظومة الجينية هذه.

    * فالحياة العامة فيها أيضًا ما يصل ربما إلى ثلاثين ألف نوع من أنواع المؤثرات والحقائق والقوانين الجزئية والظواهر والمدلولات والصفات والعوامل والأرقام والأسس والمفاصل والمنطلقات ومساقات التوالي والتتابع، ونسقات الترتيب، أو مفارق التضاد والتنافر، وهذه المفردات موزعة على كل أنواع العلوم وأشكال التصرف البشري والعلاقات الكونية الخلقية، فبعضها مستنبط من حقائق الجدول الذري للعناصر ورياضيات الدقائق الذرية والتكوين الجزيئي العضوي، ومن طبيعة الأداء العضوي لجسم الإنسان والمخلوقات كلها، نزولاً إلى الجرثوم والفايروس والخلية، وعمل الأعصاب والدماغ أخفاها، لكنه أوضحها دلالة، ثم مرورًا بكل حياة المخلوقات والأكوان، وبقية مفاد علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب، ثم تتوسع دائرة المؤثرات من خلال مراقبة نوع التصرف الإنساني وطبائع وروده وتأثيره، في الحرب والسلم، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأرحب ما فيه: تسجيل ألوف الأحوال الجزئية لتصرفات النفس الإنسانية أثناء ترددها بين الخير والشر، ودرجاتها في ذلك، وظواهر سلوكها، وأخلاقها، وخوفها وجبنها، وقلقها ويقينها، وانفتاحها وانغلاقها، وطموحها ويأسها، ثم ما تترجم به أحوالها من رمزيات، ومعان، وحب، وعشق، واستعلاء، وعزة، ولأن الإنسان سجل تاريخه، فإنه صار من الممكن مراقبة هذه الأحوال كلها أثناء تكررها في الأجيال عبر ملايين القصص الواقعية.

    ثم لأن الإنسان سجل آدابه وخلجات قلبه ومشاعره: صار من المتاح إحصاء تفصيلات كثيرة أخرى من مفردات الصورة الحيوية عبر هذه الآداب والكتب والأشعار. ولأن الفكر والافتراض الفلسفي كان له دور مماثل وأسلوب شبيه: تراكمت معرفتنا بتفاصيل أخرى، ولأن ظاهرة الخيال عامرة في الحياة: استطاع الإنسان تحوير مفاهيمه وانطباعاته وتأثراته إلى شكل مرئي مرسوم ومنحوت، فصار الفن ميدانًا رحبًا لاكتشاف تفاصيل أخرى، ومن خلال تجميع هذه المؤثرات الحيوية المفردة من ميادين العلم والآفاق المعرفية وتراكماتها التاريخية: أصبح الباحث يتوقع بلوغها الثلاثين ألف مفردة، ولأنها متكررة في التاريخ والمجتمعات المنوعة: صارت الكتلة المعلوماتية مليارية أيضًا، ويلزمها نخل وفرز وتمييز واصطفاء وإلغاء المكرر، لتكون النخبة الدلالية مجرد عشرات ألوف، مثل الثلاثين ألفًا التي نرجحها قياسًا على العوامل الإنسانية الجينية، وكأن الفراسة التي نملكها في معاني القدر الرباني تحملنا على اعتقاد رجحان ذلك، أو أن تكون أكثر أو أقل.

    * ومنهجيتي التي فرضتها لنفسي: أن أمسح كل هذه العلوم والآداب والفنون والأفكار والتاريخ والتصرفات النفسية وملحقات هذه الآفاق المعرفية، لاكتشف مقداراً كبيرًا من هذه المفردات التأثيرية في الحياة، ومحاولة ترتيبها في أنساق ومعادلات، تقترب بي وبمن يطالع رصدي من معرفة قوانين الحركة الحيوية، ومن ثم كيفية السيطرة عليها وتوجيهها لإحداث تأثير يوافق مراد الله تعالى وعقيدة التوحيد وغاية عمران الأرض.

    * وواضح أن مثل هذا الجهد لا يستطيعه فرد واحد، لا أنا ولا غيري، بسبب الأرقام المليارية للظواهر والفردات التي قلناها، ولأن عملية الفرز والاستخلاص معنوية لا يقدمها الكمبيوتر وإنما يجب أن تمر بالمنخل العقلي الإنساني، وهذا عمل مرهق لا تكفيه أعمال الباحثين المنفردين، ولكن نسدد ونقارب، ونجعل المهمة جماعية كما كانت قصة كشف المنظومة الجينية جماعية، فأنا من خلال رسائلي المتتالية في محاولة اكتشاف ظواهر الحركة الحيوية سأصل إلى اكتشاف جزء منها، واقتراح سياق انسيابي لحركتها من خلال معادلات وأنساق، وأكون قد قدحت الزناد، وأتيت بالأمثال، وضبطت وجهة البحث، ثم يتصدى عشرات الباحثين من مثقفي دعاة الإسلام ليُضيف كلٌ منهم كتلة أخرى من المفردات والتفاصيل والتقاسيم، حتى تستوي الكتلة الحاوية على عشرات ألوف المعلومات أقرب إلى التمام، فيأتي مبدع في الزمن اللاحق ليجمعها ويؤلف بينها ويوضحها في منظومة واحدة.

    ذلك هو العمل في بناء شبكة أو هيكل المحركات الحيوية، وتلك هي منهجيتها.


    الباب الثاني
    واجب المبدع في تركيب المفردات
    * والآن، بمثل هذا التصور: يمكنك جمع هذه الألوف من القواعد الصغيرة في تحريك الحياة، تستخرجها من الفصول المتكاملة لأطراف المعادلة الحيوية، وستجدها متفاوتة في أهميتها، متنوعة في آثارها.
    فتصور نفسك جنرالاً في غرفة عمليات يحيط به عشرة من الضباط الأركان، وأمامك منضدة طويلة واسعة، وبيدك العصا تؤشر بها، فتأمر بترتيب القواعد وتقول: ضع هذه هنا، وتلك هناك، وما تزال تبدل وتقدم وتؤخر، وتفرد وتزاوج، وتصنع المنظومات، وتستدرك عليها بشروط، وتضع قِيمًا، حتى تستبين المسالك والمسارات وسلاسل الأداء، وتتضح خارطة لتحريك الحياة في قطرك تكون هي الخلفية الاستراتيجية لكل التعبويات المحتملة، وتبقى مرنة تستجيب للمفاجأة وضغوط الضرورة.

    * فهذا النشر، والتوزيع، والتحكم، والترتيب، ومنح القيم النسبية، وتركيب الأجزاء، وبيان التوالي: هو السبيل الأمثل للاستفادة من حشد الموازين والقواعد المطلقة، السائبة، وهي صنعة تعود بالتالي إلى الذكاء والخبرة الفردية والقابلية الإبداعية، وتلك هي طبيعة الحياة، فإنها لا يمكنها مهما أفصحت عن قوانين حركتها أن تلغي الدور الذاتي للرائد الذي ينوي احتلالها، ولا يمكن لدوره الخاص أن يلغي ضرورة التشاور مع الأركان، فإنما الرأي قدحة، يبعث شررها احتكاك العقول والحوار، فتستفز التحديات الكوامن والأعماق، فتنطلق سيول الفوتونات والإلكترونات، ليجري التيار والشعاع، وتتجدد الحياة.

    فافهم، وخذ عدستك المكبرة، وفتش عن الموازين والنسقات والتجريب، في عرصات الإيمان والقدر، وهضاب الفن والجمال، وآفاق العلم، ليومض لك التمكين.
    شئت أم أبيت: أنت المكلف.

    فكن المخير المطواع... قبل أن يقودك القدر إلى الجنة بالسلاسل...!!
    "سلاسل" المحن والفتن والمعاناة، ذوات التعليم والتلقين والدروس... حتى تتوب من التبسيط والارتجال


    الأنساق ترسم السياق
    وطريقة أخرى: أن المعاني الجزئية إذا اكتملت لك، وأنت تريد تحريك الحياة لصالحك: تجعل نفسك مثل المفتي، حين اقترحت عليه في كتابي "أصول الإفتاء والاجتهاد" أن يكتب كل قاعدة فقهية في بطاقة، فإذا أراد حل معضلة: فرش أوراقها بين يديه، وظل يختار ويناقل ويقدم ويؤخر، تذكيرًا لنفسه، وترتيبًا لمنطق الإفتاء بها حتى يستقر على اختيارٍ وسياقٍ يدلي به. فكذلك الذي يبغي "تحريك الحياة": يدون عناوين أفكار الصور الجزئية والنبضات الحركية والأحال النفسية والأبعاد الجمالية ومنظومات المنطق والفلسفة والحرب والسلام وآثار المال وزوايا الهندسة ونغمات اللغة وأشواق الحرية ونسمات الحب وهزات الإبداع، وينثرها كلها أمامه، ثم يشرع يتأمل ويقايس يونتقي، ويقدم ويؤخر، كأنه لاعب قمار عنده خمسات وستات، وملكٌ وهازل، وللمؤمن المثل الأعلى، ويبقى يكرر ويبني الأنساق حتى يستقيم له سياق المعادلة التي تخدم نهضته وعزمته ويرسم خارطة تأثيره..

    ولمتحمسٍ أن يستطرد ويذهب إلى أبعد، فيأمل أن تلبي هذه الرؤى في كيفية انسياب الحركة الحيوية إلى تسهيل صياغة "مشروع حضاري إسلامي شامل" و"خطة استراتيجية بعيدة المدى"، وليس مجرد خطة قطرية أو خطة مرحلية أو استراتيجية قصيرة المدى، لأن المحركات المرصودة هي نفسها التي تتطلبها الرؤية البعيدة، والمرجع التحليلي واحد، ومنطق التعليل متماثل، بل كأن السكينة الإيمانية تمنح الداعية تفوقًا وترجيحًا على غيره من المتأملين في الميدان التخطيطي.

    التميز و"السوبرية" والتفوق على المستوى العادي

    وأول ما نوصي به المؤمن في هذا المجال: أن يسعى إلى تجميل وتكميل علومه الشرعية والأصداءالإيمانية في قلبه: بالثقافة المعرفية العامة، والإطلاع العلمي، فمن الملاحظات المهمة في رصد المؤثرات الحيوية: أن جوانب الاعتدال والوسطية، والذوقيات، وإرهاف الحِس، ورِقة الشعور، وهدوء النفس: كلها تتأثر إيجابيًا وتتصاعد طرديًا مع إتقان الشخص للعلوم والرياضيات، ومع تطور نظرته الفنية، وكثافة سماعه للكلام الأدبي والشعر واللغة البليغة، وهذا التأثير هو الذي حمل فيثاغورس منذ القديم على المبالغة وجعلته يزعم (إن تطهير النفس ممكن من طريق معرفة الحساب والهندسة والموسيقى).

    * وذلك وهم منه، فإن النفس لا يطهرها غير إيمان بالله وطاعة له، ومضاء عزم على ملازمة الأخلاق، ولكنه أحس بشيء من آثار الرياضيات في النفس فتوسع، وهذا مقدار تكميلي لا أصلي، وزينة وتحسين لا أساس، وكذلك الفن التشكيلي الآداب وكل المعارف والعلوم، وإذا أرجعنا ملاحظته إلى مقدارها الصحيح فإنها تكون ملاحظة تربوية، وشاهدًا لإبداع، وآلية يوصى بها لإتقان صنعة التفوق والقيادة، وطريقًا مؤكدًا لحيازة مستوى الرجحان والامتياز الذي هو عامل الحسم عند التنافس الحيوي في كل أشكاله، وذلك قريب من معنى "السوبر" Super في الثقافة الغربية، وأغرب ما هنالك أن فيثاغورس مات في حدود سنة خمسمائة قبل الميلاد، وعرف ذلك وإن بالغ، ولكن أناسًا بعد ألفي سنة من الميلاد يحتاجون إلى واعظ يذكرهم به.

    * وكان تاريخ روما تاريخ جبروت، وهو مأسور إلى أعمال قياصرة يستبدون، حتى أحرق نيرون بلدته، فذهب خبرها الفكري مع الريح، ولكن بقيت حية حتى الآن لمعات فكر "سقراط" التي انطلقت في أثينا وأهداها إلى جملة الحياة، ولئن كان أرسطو تلميذه قد جنح إلى إلحاد، وتنهانا متاهته أن نعتد بها، أو أن نري من أنفسنا فخرًا بها، فإن أستاذه سقراط كان على عقيدة التوحيد، أو مقاربًا لها في قول من يحتاط، مما يجعل الفخر بلمعات فكره حلالاً يسوغ لنا في آخر الزمان الانتساب إليه وإلى بطولته في تجرع السم تثبيتًا لمعنى الحرية واستعلاء الفكر كمثل فخرنا بأي حنيفي من العرب كان يتحدى الأوثان ويمد سند التوحيد بالاتصال والحياة، والجميع في خبر تشكيل معنى حركة الحياة مساهم ومشارك


    وللفن دور تكميلي مؤكد... وللجمال.
    ووظيفة "نظرية حركة الحياة": أن توقف المسلم العصري على جذور مكونات الصور الجزئية للحياة، وعلى أصول النبضات المتعاضدة التي تتكون من اجتماعها الحركات الحيوية، فمن يملك هذه وهذه: يؤذن له أن يكتشف المعادلات التي يتم التغيير بموجبها، بحيث يكون الغوص إلى العلل ومصادر الحرارة، لا الاكتفاء برؤية الغليان الظاهر فقط.

    ويسهل على المسلم الواعي تصور هذه الجذور والأصول حيث تكون شرعية ومعرفية وفكرية وسياسية، بل وحتى أن تكون نفسية وعلمية، ولكنه يزهد بالأصول الفنية، ويستشكل أمرها، ولذلك يلزمه أن يستوعب تكامل التأثير في الحركة الحيوية عبر الفن والذوقيات والتشكيل والهندسيات.

    * ومحور هذه القناعة أننا نعيش ضمن الحياة العامة، لا خوارج عنها، وأن هذه الحياة إنما نشارك في صناعة جزء منها، لا كلها، وإنما يصنع أكثرها غيرنا، وبعضها تراكم قديم أجيال مضت وأمم سلفت، وهؤلاء تناوشوا الفن والجماليات وجعلوهما مادة في بناء الحياة، ومن غير الممكن أن نخالف ونكون صلابا في موطن رفق، ويبوسا في أرض ندية، ونشازًا في سياق انسجام، وفوضى في حافة كتلة انتظام، بل نتجمل إذ نحن نتأمل، وننسق إذ ننطلق، ونستخدم درجات الألوان وأصداء اللمعان، فإنها فكر مكمل، وعمل عقلي منطقي، وسبب سواء نفسي معنوي، ومن خلال انسياب حركة النقطة في الفراغ نستطيع تكوين المفهوم الواعظ، ورواية التجربة، والجدل بالحسنى، والحوار المتكافئ مع إنسان لا يفهم لغتي وحروفي، فإن "التجريد" جسر بين القلوب، يعبر البحار، ليؤسس بشرى، أو يصدع بنذار.

    * ومن طرائق اكتشاف "المحرك" من محركات الحياة، والذي هو "جزء من الخطة": أن نجمع بين مدلولات صغيرة ونوفق بينها، بعضها شرعي، وبعضها إيماني قدري، وبعضها نفسي، ونخلطها بشيء من المنطق والرؤية الفلسفية لتأكيدها، فتتولد "طريقة" و"معادلة" أو "جزء خطة". لكن هذه القاعدة المتولدة يمكن أن تتحسن كثيرًا بروافد من نوافل التحريك، مثل مقياس جمالي تزيده إليها، وإخراج إبداعي، وصنعة لغوية بلاغية، وتضيف إلى الجميع لمسة من عواطف الحب: فتتجود "المعادلة" جدًا، وتصير أنفذ وأسرع تأثيراً، وذلك هو سر وحكمة احتواء مدونة حركة الحياة لفصول الفن والجمال.


    أثر الصنعة القيادية في تسيير الموجود
    والمساير لي في تأمل حركة الحياة عبر مسردي الذي سأدلي فيه بخبرها، والذي ينصت لي بإتقان: تجبهه خاطرة تميل به إلى أن هذا الاستعراض للصور والنبضات الحركية مغرق في "التبسيط" وأن حزمة الحياة بالغة التعقيد ويلزم لفهمها أو للتأثير فيها استحضار واستعمال مختبرات كل العلوم قاطبة، مع حشود من الأموال والذكاء وكميات كبرى من الفكر والأدب والفنون، وبخاصة إذا راقبنا انتفاضتها الكبرى، مثل الحروب العالمية، وخطط العولمة، واستعمالات الطاقة، وتداول المال.

    * وذلك صحيح، وما يكون لأحد أن يخرق تراكمات التاريخ الطويل وثقلها في صياغة الحاضر والمستقبل، ولكن ما نقترفه من شهادة على منظر الحركة الحيوية نريد به تلقين من يريد التأثير فيها المسارب والقنوات التي يحتمل أن يجري فيها سعيه، والأسس التي أحدثها غيره سابقًا وتصلح أن يقيم عليها بناءه، ثم وصف البيئة الحاضنة، ومقادير العلاقات المتاحة له في ذلك وموازينها ومعايير تصنيفها، والأنماط الممكنة من السيطرة الفوقية على خصائص النفس المودعة لدى من يتعامل معهم، من جندي مساعد، ومنافس مزاحم، وعدو ناحت، وأن ننبهه إلى القابلية القيادية في استثمار طاقات جاهزة عبر فذلكات السيطرة، وطرائق الإبداع، وروح الطموح والتحرش، والإصرار على السبق، ومعنى كل هذا أن الذي يريد تحريك الحياة ليس يقع عليه عبء بناء القوى العسكرية والاقتصادية والعلمية، ولا آلالتها وتراكماتها، بل هي موجودة، وإنما له فرصة أن يمسك بتلابيبها ويعلوها عبر عملية قيادية تبدأ بفكر، وتمر بتخطيط، إذا عرف النفس، وقدح العقل.
    والأمر أشبه أن يسيرعلى سنن الوسطية، فإن "محرك الحياة" تلزمه حيازة علوم، وأموال، وأدوات مادية، ولكن بمقدار، والباقي يرثه عن غريمه، أو يشتريه، أو يحتال لحيازته، أو يهديه الحليف له.

    * والمحاولة كلها مبنية على التفكر ودقة الملاحظة والتفرس فيما حولنا من صور الحياة وحركات النفوس ومغامرات العقول، على طريقة الشاعر الذي يقول:
    فانظر وفكّر فيما تمرّ بهِ****إنّ الأريبَ المفكّرُ الفطِنُ
    فهي رصدٌ ذكي للساحة الحاضرة، وللتاريخ، والأحداث، والعلوم، واقتحام لدواخل الذوات والأرواح ومكامن القناعات، وتفنن في السعي لحيازة ما يملكه الغير وينقصنا.
    وانظر مصداقًا لذلك: الانتفاضة الفلسطينية، وآلتها الصغيرة لما حملتها القلوب الكبيرة، كيف فرضت نفسها.
    وانظر الجهاد العراقي وسلاحه المتواضع مقابل سلاح الجبروت، ثم التفت إلى مصالح الصين كيف تحدوها إلى محالفة المسلم؟؟


    التلازم بين قيمة الروح وقيمة المادة
    وهذه الأحاديث تؤكد أهمية الجانب غير المادي في تحريك الحياة، فالفكر، وتطلعات الروح، وتصرفات النفس: هي الأمضى الأشد تأثيرًا، وتكاد النزعة الفلسفية التأملية إذا اقترنت بالإيمان والتوحيد أن تكون هي التي تقود الحياة، و"المسلم الحضاري المدى" من شأنه أن يذهب هذا المذهب، وأن يزداد معرفة بآفاق "الروح" لتذل له "المادة".

    * وكان كاتب اسمه "موسى عجمي" كأنه من لبنان قد سبقني إلى فكرة ضرورة دراسة "حركة الحياة"، فألف كتابًا موجزًا صرخ فيه صرخة تبشر بالمعنى، دون أن يدخل في تفصيل، فكان الرائد، وأشار إلى أصول أحاسيسه، من منطلق علماني، دون أن يورد الشواهد والقصص والمناظير الحيوية الجزئية، فالتقيت مع أفكاره وإبداعه في النظرة الشمولية، وافترقت عنه فيما رواء ذلك، وتجاوزت بعض غموض اعتراه.
    ومما لاحظه موسى عجمي أن (الروح هي الحياة بالتسمية الثانية، وهي النفس التي تلتزم الفاعلية والقوة والتحريك.) وأنها (تلك الطاقة المتحركة من تلقاء ذاتها، واحدة في الكون، مجزأة في الأشكال والمظاهر التي تختلف وتتنوع باختلاف بذرتها الذرية).

    * وهذا كلام جيد في ظاهره، لولا إنه يقترب من شبهة، فإن الروح عند المؤمن إنما هي هبة من الله، وهو خالقها وموجدها، وكونها مجزأة في الأشكال أمر صحيح إذا اعتبرناها جنسًا، فجنس الروح متماثل في أنه تحريك، لكن أرواح الموجودات تختلف، فليست الحركة القدرية للذرة كمثل الحركة العقلية للإنسان، وإنما في العمل العقلي الإنساني تكريم من الله زائد على حركة الجماد، وقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم.

    * ويستطرد موسى عجمي فيستنتج أنه (كأن غاية المادة صيانة فقط والمحافظة عليها، وتسهيل حركتها لمزاولة عملها الخاص) و(أن الروح والمادة قيمتان متلازمتان لا تستطيع الواحدة أن تحيا من دون الأخرى، ولا أن تتخلى عنها ولا أن تكون منفصلة أو منعزلة عن سبيلها.
    فالأولى طاقة فاعلة، وحركة عاملة، وقوة دافعة، ومسؤولة عن كل تحويل وتغيير وتطوير وتبديل، وتتمتع بأولوية الوجود، وأسبقية التكوين، وعلو الهمة والأهمية.
    والثانية غلاف لا محيد عن وجوده، ومظهر تأكيدي للروح، وطريق معدّة لنظام الحركة، وحصيلة تكاثرية وازديادية تتجلى لتجعل الكون صورة حقيقية وواقعية، والحياة عالمًا قابلاً للعيش والسكنى).

    * وهذا كلام جميل، وتخريج جيد يمنحنا توازنًا في فهم العلاقة، إلا أن العقيدة الإسلامية صريحة في أن الإنسان يخلق أولاً مادة، ثم تنفخ فيه الروح في الشهر الرابع، وبذلك يكون من الخطأ القول بأنها (تتمتع بأولوية الوجود)، إلا أن يكون المعنى مجازيًا، وأنها إشارة إلى الطاقة التي في الذرة والجزيئة، وهذه الطاقة لا تسمى روحًا إلا على طريقةٍ فلسفيةٍ فقط، والعقيدة تأبى ذلك، وهذا مثال لما أسلفت من أن موسى عجمي تحيطه سلبية الغموض، وكأنه يعتمد الثقافة ولم يشتغل بفقه الشرع ولا هو مأسور لنصوص العقيدة.


    مواكبة النبض الحيوي تقود نحو الحرية
    ولسنا نحتاج عند تداول هذه المعاني غير نقلة بسيطة لنكون وجهًا لوجه مع دروس مستنبطة من مقارنة اختلاف البيئات في التأثير على نوع التصرف، واكتشاف وجود عامل مشترك بين المخلوقات يحدوها إلى تصرفات متماثلة رغم اختلاف رتبها، وهذه الملاحظات هي جانب من استثمار منهجية رصد الصور الحيوية واستلال الموعظة والدروس التجريبية منها.

    * فهذا "السمك" في البحر مثلاً: صارت له خصوصية يخالف بها حيوان البر، فوقف "أبو نخيلة" في القديم متعجبًا، يرقبه، ويعيب عليه رضاه بالدون، واستئساره لقدره السيئ، وقله تفتيشه عن مهرب من المخاطر، وضعف أشواقه إلى الحرية، فطفق يصفه...

    [align=center]تَغُمّهُ النُشرة والنسيمُ
    ولا يزال مُغرَقًا يعومُ
    في البحر، والبحرُ له تخميمُ
    وأُمه الواحدة الرؤومُ
    تَلهَمُه جهلاً، ولا يرومُ[/align]
    والنشرة: الريح الطيبة، وهي مذكورة في قوله تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته}.
    يقول (النشرة والنسيم الذي يُحيي الحيوان إذا طال عليه الخموم والعفن والرطوبات: تغم السمك وتكربه، وأمه التي ولدته: تأكله، لأن السمك يأكل بعضه بعضًا، وهو في ذلك لا يريم موضعه).أي لا يسعى لتغيير موضعه.

    والمستضعفون الذين لم يفهموا علم "حركة الحياة" ما يزالون في ضيق حصار تراكم الظلم الاجتماعي، وحيتان الإدارة الرزق تأكلهم، وصعاليك الإعلام تخونهم، وقادة العساكر تلهمهم، وهو ما زالوا يرتضون البقاء في العفونة والرطوبة، ونسيم الحرية منهم قريب لو أرادوا فتحه بقوانين حركة الحياة، لكنهم القعدة الكسالى.
    والمدرب الإبداعي، "ومعلم حركة الحياة" هو "أبو نخيلة" معاصر، يسأل:

    أأنتم سَمَك... يسجنكم البحر!!..؟

    * ثم لا جواب..!!
    لأنها تكون المتاهة أحيانًا، وتشمل معظم القوم.
    كالتي أدركها الأعشى فقال:
    ألا مَن مُبلِغُ الفتيان أنّا في هَواهيِّ
    وإمساءٍ وإصباحٍ وأمرٍ غَيرِ مَقضيِّ
    والهواهي: الباطيل.

    فمن الذي يبلغ رجال مراكز الدراسات الإبداعية والتطويرية أن الجيل المعاصر في "هواهي" كأنهم لا زالوا جيل الأعشى، وأن أمورهم ليس لها حل، وهي غير مقضية، لنقص التخطيط، وغياب المنهجية، وضعف الرنو إلى الحرية، وقلة فهم منزلة "الروح"، والذهول عن المعادلات الاستراتيجية الموجهة لمسيرة الحركة الحيوية؟؟

    وهذا هو الذي جعل نظرية حركة الحياة عزيزة عندي، أحرص أن اعرضها على كل مسلم عصري إبداعي: "أعدِلُها بالكف أن تميلا، أحذر أن تسقط أو تزولا"، أبتغي بها إحداث نقلةٍ في فهمهم لتداول مراكز التأثير في الحيا



    الواجب الصعب... الممكن
    وما هو بأمر سهل... لكنه ليس يرهبنا..
    وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار ملحظ النقلة الكبيرة في حجم المؤثرات الحيوية في العصر الحديث، والتي بلغت أوجها في القرن التاسع عشر، ثم أكبر منها في القرن العشرين، أي أن عامل (السعة) صار متغيرًا كبيرًا في المعادلة.

    * انظر مثلاً: المؤثرات الفكرية والنفسية التي يضخها الأدب في الحياة، ففي القرن التاسع عشر (لمعت في سماء الأدب كوكبة لم يجتمع مثلها قط في قرن واحد من قبل، ومن نجوم هذه الكوكبة: غوته وشيلي، ويايرون، وتولستوي، وإبسن، وبودلير، وديكنز، واوسكاروايلد، وبلزاك، وفلوبير، وتشيكوف، وهوغو، وغيرهم). وهذا في الغرب فقط، وواضح أن حيازة الغرب لعوامل التفوق على الأمم الأخرى، كالقوة العسكرية، والنهضة الصناعية والعلمية، والمنهجية الإدارية: جعلت هذا الأدب يؤثر في العالم كله، ووجد له سبيل تأثير في أمم أخرى كثيرة، فتبدلت معادلات الحياة، وحدثت تلك التأثيرات مستفيدة من عامل "السبق" الذي سبق الغرب به الأمم إلى العالم وكانت الصناعة والأسلحة، فالاستعمار، فالثراء وتجميل ثروات الأمم، كسلسلة مطردة، وبقيت تتنامى حتى صارت العولمة في آخر القرن العشرين كنتيجة للتفوق الغربي بعامة، والأمريكي بخاصة.

    * والمسلم الذي يريد "تحريك الحياة" لا أزعم أنه يستطيع القفز مباشرة إلى التحدي المباشر، ولكنه يستطيع بدء المسيرة في درب طويل ينتهي إلى التفوق مستفيدًا من ظاهرة في الحياة مفادها "التداول" وعدم استمرار قوة القوي، وعندئذ يكون إنتاج فكر إيماني وأدب إسلامي بكثافة هو خطوة في الطريق الصحيح كما كان إنتاج تلك الكوكبة الغربية في القرن التاسع عشر خطوة، وكذا العلم، وحيازة المال، وترسيخ المنهجية.
    إن المحركات الحيوية اليوم انتقلت من كونها صغائر إلى كبائر، فهي ضخمة الحجم، شديدة الوطأة، ثقيلة الجثمة.
    فانتبه كيف أن السلاح صار ذريًا.
    والحظ كيف أن الفجوة العلمية بين الطرفين صارت واسعة.
    وافغر فمك لأرقام عظيمة تبّين فارق حجم المال وحقائق البنوك.
    وحروب المياه المستقبلية، ومقايضة الماء بالنفط.
    وآخرها "عولمة حرق الإبداع" كما سماها نبيل سليمان.
    وفي نصيحة أديب إنكليزي له دعاه إلى أن يفكر في: كيف يتملص الأدب من حرب ثقافية تحركها ديانة بوش؟
    وأين يسيح الفن إذ تضايقه رؤى اليمين المتطرف؟
    وأين هي مساحة اشتغال أبقاها لنا فساد وطغيان يعمل تحت غطاء الديمقراطية وتأييد الغرب؟
    وحقيقة أن لا تناسب بين ثقافة الغرب وممارسته والهدم الكامن في تنازل اليونسكو عن حقولها لمنظمة التجارة العالمية.
    وهذه مصائب كبيرة، لكنها عند الفرد النائي النكر الخائف الوجل.
    أما العنصر "الدعوي" فإنه لا يجزع، بل يأمل ويرجو أن يصد الهجمة ولو بدفع ثمن غال.

    * أولاً: بالعمل المماثل، والحرص على الجهاد والنفوذ السياسي، ليصلح، ويدافع، فيظل يدأب ويفتش عن "محركات الحياة" ليستعملها، ويتخذ خطط تجميع وتنظيم وتطوير ومنافسة، وتلزمها أعمال مؤسسية كثيرة، ومؤتمرات، وندوات، ومطبوعات، وإعلام، وما كل ذلك سهل، لكنه ليس بمستحيل، ويمر بلبث وراء قضبان، ودماء، ويقوده أديب ومؤرخ وفقيه وسياسي وفنان.

    * وثانيًا: بانتظار القدر بعد تقديم لتك الأسباب انتظاراً إيجابيًا، فإنه حق، والله يعاقب الدول والظلم الجماعي كمثل معاقبته الأفراد، وليس من شرط ذلك أن تنزل حجارة من السماء عليها، ولكن يضلهم فينتخبون المصلحي السارق، والأحمق والطائش، فيردي قومه، وتتخبط سياسته، فتكون الثغرات التي يلج منها الضعيف.
    والمراقب لقصة احتلال العراق يجد شيئًا من ذلك، ويعثر على مصداق الكلام، وكيف أن جهاد المستضعفين آذى أعتى قوة يقودها مغامر مأسور إلى أوهام معركة "الهرمجدون".
    ويزداد الأمر تعقيدًا عندما يختلط ظلم العولمة بظلم عميل محلي يتستر على نزيف يسببه الفساد الإداري ويلجأ إلى ضرائب مرهقة للمواطن، إذ المفسِد يرتع.
    وردود الفعل عند المحكوم تجاه الظلم المالي من الحاكم: هي دومًا من أعنف محركات الحياة، وربما تقود لتمرّد وثورة، أو برود العلاقة بين الطرفين، فيكون التأخر المدني.
    ويحسبها الطارئ على علم تحليل حركة الحياة ظاهرة حديثة، لكنها قديمة، وفي مثلها قال حني بين جابر التغلبي:
    أفي كُل أسواقِ العِراقِ إتاوَةُ
    وفي كلّ ما باع امرؤُ: مَكْسُ دِرْهَمِ؟
    ألا يَنتهي عنا ملوكُ، وتتقي
    مَحارمَنا، لا يَبُؤ الدمُ بالدمِ؟
    نُعاطي الملوكَ السِلْمَ، ما قصدوا بنا
    وليس علينا قَتْلُهُم بمُحَرَّمِ!!

    فهو هنا يصرح بأمر كبير، وهو الدم، أي الثورة التي تجلب الدماء، ثم هو هنا يقوم بتذكير الملوك أن الرعية تكون على طرائق سليمة إذا كانت سياسة الملوك: القصد: أي الرفق وعدم التطرف.
    فهذا أدب سياسي صريح قديم يكشف عن صفحة من قوانين حركة الحياة.
    و(الإتاوة: الخراج. والمكس: ما يأخذه العشار. يقول: كل من باع شيئًا أخذ منه الخراج أو العشر، وهذا مما آنف منه).
    فالأنفة: حالة نفسية مغروسة في الأعماق تقود إلى العصيان، والعصيان في بعض الأحيان ينجح في تبديل الحاكم، فتتحرك الحياة، وأصل ذلك: ظلم مالي، ولو كانت الضريبة لبناء ومصالح عامة فإن أحدًا لا ينكرها، ويعطيها المواطن عن طيب نفس ورضا، لكنه الفساد الإداري واستمتاع الحاشية بأموال المستضعفين تجعل الأمر مكروهًا، فتكون التبدلات، أو الحيصات الفاشلة، لمكانة قوة الحاكم، فيزداد البون الفارق، فتكون الهزة النافضة الخافضة الرافعة.
    * وفي القصص الرمزية، أن بومة خطبت، فاشترطت على خاطبها مائة قرية خبة تنتقي من أطلالها ما تشاء مسكنًا لها، فقال لها الخاطب: انتظري سنة، فإني أرى ملكنا مولعًا بكثرة الضرائب وإرهاق الناس.


    alhdhd45
    alhdhd45


    عدد المساهمات : 1337
    تاريخ التسجيل : 03/03/2011
    الموقع : hmsain.ahlamontada.com

    :حصريا:: همس النبضات :: للاستاذ الراشد :من استراتيجيات الحركة الحيوية Empty رد: :حصريا:: همس النبضات :: للاستاذ الراشد :من استراتيجيات الحركة الحيوية

    مُساهمة  alhdhd45 الإثنين 4 يوليو 2011 - 18:51

    على سنن الأصالة نقرأ الحياة
    وكانت سلسلة "إحياء فقه الدعوة" قد كلّفت نفسها مهمة "التأصيل" للعمل الدعوي في أشكاله العديدة، وأنجزته بنجاح بحمد الله، وأصبح الداعية يعرف الأصل الشرعي لأكثر مواقفه وتصرفاته وجوانب خططه، وبحث "حركة الحياة" هذا وفي لهذه النزعة التأصيلية وحريص عليها، ولكن الأمر فيها أوسع من إسنادها للشرع، لأنها أعمال وظواهر حيوية أعم من أن تكون شرعية، وإنما تحركها الفطر والأحوال النفسية وطرائق التأثير الأدبية والفكرية والعلمية الإعلامية، وصار تأصيل مفردات الحركة الحيوية يتجلى في الكشف عن عراقتها وقدمها وانتباه الأولين لها، وأنها ليست من نتاج العصر، وتزداد نشوة المكتشف إذا عرف دندنة العرب القدماء حول بعض المعاني التحريكية، باعتبارهم الأمة التي استقبلت الإسلام واحتوته واحتواها من دون تأثيرات فلسفية كانت الحياة الجاهلية للأمم الأخرى تخضع لها، ومع ذلك فإن كشفنا قد استطرد فرصد ما عند الأمم، لأن "تحريك الحياة" صنعة إنسانية عامة، وكمون سبب فلسفي وراء بعض المحركات لا يعيبها، ومن هنا جاء انفتاحنا في وصف حركة الحياة الإنسانية كلها.
    * والكثير من المعاني الكاشفة عن قوانين الحركة الحيوية كان من الممكن أن تذكر من دون شواهدها الشعرية وقصصها التراثية وجذورها القديمة، وإنما حرصنا مع ذلك على الشواهد والجذور لا لممارسة قضية "التأصيل" فقط، والتي تميزت بها عملية إحياء فقه الدعوة، وإنما رعاية لأذواق الدعاة في الفكر أيضًا، فإنهم أصحاب أحاسيس أدبية، ونزعة تقليدية، وحنين إلى طرائق السلف في العيش والتعبير، ولهم ولع بتفضيل الحكمة القديمة على الطارفة، وللمكوث مع العادات والقيم المحافظة، ويستطيبون الأنماط البدوية الأعرابية، والتلذذ بذكر مناقب الأجواد، مع أن هؤلاء الدعاة هم أهل البراعة في التنمية الحضرية والأداء المهني والإتقان العملي، فقد أنتجت التربية الدعوية على مدى أكثر من ثلاثة أجيال حديثة نموذجًا فريدًا من المسلمين يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وله إرهاف واسترسال عاطفي يوازي المعايير المنهجية وأرقام الإحصاء، فأردنا لأسلوب "حركة الحياة" أن يماشي ما عند الدعاة من هذه النزعات والأذواق، وأن يسترسل مع طرائقهم ولغتهم، فكان هذا العرض الارتجاعي الذي يأتي بالماضي ميزانًا لتقويم الحاضر وخطة لاقتحام المستقبل.
    * ويفيدك في تقويم حكايات هذا البحث أن توقن بميزاني: أن المعنى لا يلزمه أن يكون نادرًا عزيزًا لآتي به، وإن كانت أكثر نقولي هي كذلك، وأنها ثمينة، ولكن يكفي في المعنى أن أجده مصاغًا بلفظ وتركيب نادر جميل فيه جناس أو طباق أو حروف متناسقة: لأستله وأثبته لك، فتكون القيمة كامنة في بلاغة الأداء وتجديده، فإذا أعلمت القياس باستحضار هذا الجانب من الطرافة: فإنه يؤذن لك بمتعة تدغدغ قلبك المرة بعد المرة، وأنا أوصلك إلى أتم من ذلك من خلال بيت شعر يكون شاهدًا لمعنى مرسل، أو اكتشاف أصالة ميزان له شاهد إيماني أو عربي أو شقي وقد كنت تظنه من ابتكار كافر أو غربي.
    * فالبحث كتلة دروس تجريبية وعلمية عصرية، إدارية وإبداعية وتخطيطية ونفسية، فكنها عُجنت بإشارات إيمانية وروح بدوية وأنماط شرقية، وأسمار عجائز، ومفاهيم سماك وبقال وحداد، وخلجات صياد ومقاتل، ومخادعات لص، وغنج أنثى.
    * إن مدونة "استراتيجيات الحركة الحيوية" قد رصدت نفسها لجمع جمهرة فنون السيطرة على مسار الحياة، من أجل أن تصبح في التقويم النقدي لها "قراءة دعوية" للفقه وتاريخ الإسلام وحاضر العالم الإسلامي ومواعظ المؤمنين، وهي "نخل" لتجارب نبلاء المسلمين وحكمائهم وقادتهم على تعاقب الأجيال والقرون، وكانت ثم "ريادة" متقنة و"وكالة" أمينة عن مجموعة من الدعاة وشباب الصحوة، أوغلت في السياحة الاستقصاء واختيار الثمرات، ورجعت لهم بخير يقين، وخلاصة وافية، وحصيلة واضحة، وأضافت جوانب الصواب إلى بعضها، وانعطفت أطرافها على مركزها، لوصف بؤرة الانطلاق، وتحديد معالم دستور التقدم الواعي لعصبة إصلاحية تريد أن تستدرك وتلغي الخطأ وتوقد من بعد ظلمة... المنار


    الأسرار المغلقة تفتحها البلاغة المغلقة
    وقد تعمدت أن أتبسط في بعض ما أعرض، وأشرح، لأني أقدر أن بعض الدعاة الذين يبرعون في علم الدين ويحيطون بفقه الإسلام: لا يملكون من الثقافة العامة ما يوازي إحاطتهم الإيمانية والشرعية، ولا من خبر التاريخ ما هو تكميلي، لفهمهم، وأنا إنما وضعت نظرية "حركة الحياة" لدعاة الإسلام بالدرجة الأولى، ليخططوا أمورهم وفق مفادها، فكان لزامًا أن أراعي حالهم وحاجتهم، وأ أميل إلى تفصيل التعريف بالصور الجزئية الوصفية للحياة، أو لنبضاتها، أو لخواطر الجمهرة الكبيرة من الشعراء والفلاسفة الأبطال والحكام الذين كان لهم أثر في الكشف عن ذلك، أو في التحريك.
    لكن يقولون: في فكرك غموض، وكأنه يتوارى خلف حجاب.
    وما أنصفوا أنفسهم، وحرموها من فرصة إطلالة إيمانية على ساحة معرفية عريضة، حباني ربي بها، جل ثناؤه، وما كان مني اختباء، بل أنا الظاهر، وفكري مطبوع معلن سائر بحمد الله في الآفاق، ولكن الشبهة وردت من ثلاث ثغرات:
    الأولى: أني أوتيت أسلوبًا يمزج فقه الشرع وسيرة السلف وحكتهم بالتجريب الدعوي المعاصر، فمن كان نظريًا ودودة كتب ولم يمارس العمل الدعوي، من تنظيم وتربية ومنافسة سياسية، وتبرأ من ثقل المعاناة: غمض عليه مقصدنا، وعس عليه الفه، وفقه الدعوة أغلبه إسقاط القواعد والموازين على الواقع المتغير، فمن لم يتدرب على مثل ذلك من خلال يوميات الأداء وإرشاد الأساتذة القادة: صعب عليه استيعاب المغزى.
    والثانية: أني ألتزم الموازنة بين صرامة النص، قرآنًا أو حديثًا أو اجتهادًا توصل له السلف الأول، وبين مقتضيات المصلحة والضرورة وما يتطلبه الوضع المعاصر من مرونة، وذلك توازن تحكمه معادلات عديدة ذات أطراف شتى وأرقام وحقائق متعاكسة، وتتطلب القضية مهارة في الاشتقاق والقياس والركون إلى استحسان وسد ذريعة، وذلك كله وليد مران في البيئة الدعوية وتراكمات تأملية جزئية كثيرة تولدها التحديات المتعاقبة والمواقف الفاصلة، ولا تروى رواية ولا تقلد تقليدًا، بل يحوزها من في الميدان ويكون طرفًا، فإذا رأى غريب موازناتي: أدهشته، وعما قريب يوشك المشارك أن يفقه.
    الثالثة: أني أوتيت حروفًا من البلاغة، وجودة الإنشاء، ودقة اللفظ، وشيئًا من جناس، فيكون كلامي أرفع من مستوى المستعجل، والحل يكون في صعود القارئ لا في نزولي.
    ومع ذلك فالغموض حقيقة، وكلام القراء صحيح، ولا ننكر صدق ملاحظتهم، وسبب ذلك أن فقه الدعوة وصفٌ حساس وتصوير جساس وتحليل وفراس، وترجمة لما في قلوب الناس، الرقيب يعد الأنفاس، لذلك لا يكون في وسعنا غير أسلوب الإيماء والاختلاس، فنذكر من المعنى طرفًا ونحيله إلى ذكائه في فهم الباقي، ونخاطب البعيد ونريد القريب، ونورد من الكلمة حرفًا، وفي القاموس التجريبي تمام لفظها، وذلك هو الذي ختم على باطن المغزى بقفل وأعلن الظاهر، وهو الذي أغرى بالعدول عن معروف البيان إلى اللغة الخاصة، ومكره أخوك لا بطل.

    * وأنا أدرك أن هذه النظرية صعبة الفهم، ولا يروق أسلوبي في شرحها لمعظم الدعاة، ولكني أجزم بأن من الضرورة بمكان أن يستوعبها الدعاة، وقد وضعت في حسابي أن الجمهرة الدعوية العظيمة إن لم تصبر على لأواء فهمها فإن الدعوة الإسلامية العالمية في أقطارها العديدة لو يتاح لها أن يدرك ألف من دعاتها فقط صور الحياة الجزئية واجتماعها في صورة شاملة، وولادة النبضات وانضمامها إلى بعضها لتكوين زحم تحريكي ينساب في سياقات وأنساق تتضح من خلال التأمل والدراسة والتجريب ومراقبة التاريخ: فإن ذلك يكفي ، لأن هؤلاء سيعكسون فهمهم على مجمل الخطط والمواقف والفكر الدعوي، ويكون لهم أثر قيادي وإن لم يرشحوا لمنصب القيادة، وكأن وعاة في حدود الثلاثين في كل قطر لو تناجوا بينهم وتحاوروا في تطبيق نظرية حركة الحياة وإنزالها على واقع بلدهم ورصدوا الصور والنبضات عمليًا واكتشوا نواع المعادلات التأثيرية في وجودها النسبي المتغير الخاص بمجتمعهم ومحيطهم: فإن سيطرة إيمانية على مجرى التبدلات ستكون ممكنة، ويتم اختصار جهد، وتسارع خطر، بلا لهث ولا ضياع، وذو الأمل يؤكد طموحه بعسى، ثم بدعاء.

    * بل "ستيفن كوفي" مثلاً في كتابه العادة الثامنة وفي غيره لا يكتفي بالغموض، والكلام العائم، حتى يوسع هتلر شتمًا، أنه توسّع في التنكيل باليهود، ويمدح أنور السادات ويجعله مثال القائد الناجح المستوعب لفن الزعامة، لأنه صالحَ إسرائيل، وفي ذلك ما ينيبك عن سبب الدعاية الواسعة لكتبه، ثم يقلد المدربون العرب الدعاية، وأنا آتيك بفن أسمى وكلام أدق وتأصيل عميق وارتباط بالإيمان، وقضايا الأمة، على سنن الإخلاص والوفاء الواعي، فافهم القصة واتعظ.

    * وكان "موسى عجمي" قد سبقني إلى إصدار كتابه "حركة الحياة" منذ سنة 2003، مع أني ألقيت محاضراتي على تلامذتي قبل ذلك في الإمارات قبل عشر سنوات في ذات الموضوع، ولكنها عادتي أن "أعتق" أفكاري وأتيح لها مجال النمو، وأتيح لنفسي مجال التمحيص الإنضاج.

    * ومع أن موسى عجمي يلتقي معي في كثير من الرؤى، وبيننا تقارب، إلا أنه مر على الموضوع بتعميم فضفاض، وأنا أوغلت في التخصيص والتفصيل والاستشهاد بشواهد كثيرة للمعنى الواحد، حتى كأن كتابه مجرد مقدمة لكتابي.
    ثم هو فلسفي النزعة، حتى تورط في غموض، وأنا منفتح على كل العلوم، وظاهري، وشغوف بوضوح اللغة، فحصل عندي عرض منبسط واسع.
    وكتابه تأملي محض، إذ أرهقني منهجية استقرائية ووصفية وتحليلية ذهب بها بعيدًا.
    وفي كلامه أحيانًا مقاربة لمعنى وحدة الوجود من دون تصريح وبأقل من التلميح، فكان يدنو، فيحذر، فيبتعد، بينما عقيدتي سنية محضة وسلفية يقظة.

    * ومع ذلك فأنا وإياه جيران، حتى ظننته أول مرة أنه من تلامذتي الذين سمعوا مني واقتبسوا، فهو يرى كتيبه في حركة الحياة خلاصة تجربته، وعصارة فكره، وصفوة كيانه، كما صرح في الإهداء أول صفحة، وكذلك أرى كلامي، وكذلك يتوصل إلى الفن والجمال كمحركات حيوية، وكذلك أنا، وكأننا كنا نتحاور.

    * وحين توغلت في تدوين "حركة الحياة" وتوضحت لي أبعادها ومعادلاتها، وأثناء اتسزادتي ومحاولتي الإتقان: وجدت أفكارًا مقاربة عصفت بذهب البعض، وكانت لهم تجارب، إلا أنها ناقصة، وإنما استعير منها جانبها الذي يشهد لي ويصحح مذهبي فيها.

    * وأوضح ذلك: عمل الشاعرة الأميركية ماريان مور (1887-1972) التي (استلهمت في قصائدها: الأخبار السياسية، والوقائع الرياضية، والإعلانات التجارية، والحكايات الموضوعة على ألسنة الحيوان، مقطرة منها نظرات أخلاقية وفلسفية ثاقبة).

    * ومسلكها صحيح، يعرف صحته المثقف الذي اطلع على أسرار الصنعة الفكرية الأدبية، ذلك أن الإعلان التجاري تقف وراءه براعة أتقنت علم النفس واكتشفت كيفية التأثير على المستهلك، مع بلاغة وجناس في صياغة العبارات توازي نمط الشعر، وكذلك الوقائع الرياضية، تحريرها يحتاج بث شحنات حماسية عاطفية، ودقة في التصوير، وكل ذاك وهذا هو ملحظ في تحريك النفس ويبني أطرافًا من معادلات التحريك، فإذا تنوعت طرائق وفنون صاحب الإعلان والوصف الرياضي: حصل إغناء وتعداد للمعادلات، فإذا اقترنت بمعادلات مثيلة تكشف عنها الأخبار السياسية: صار توسع يقارب أن يمنح الذكي المتفلسف شيئًا ما يجعله محور نظرة فلسفية، وذلك هو الذي انبغى للشاعرة "مور" فلما نقلني التوسع في استقراء مكامن الأدب والعلوم والتاريخ إلى قرب قريب من صورة حيوية أشمل: توضحت لي قوانين "حركة الحياة".

    * ولربما يزهد مستعجل بما ننقله من تعريفات بعض العلوم والفلسفات والتربيات والقضايا العسكرية أو الإدارية إذا ما اعتمدنا فيها على مثل موسوعة المورد، ظنًا أن الاختصار مخل، وأخذ الرأي عن غير المختص خطأ، ولكني رأيت اعتماد تلك التعريفات، بسبب الثقافة العميقة التي عرف بها محرر الموسوعة الأستاذ منير البعلبكي، وإطلالته عبر أعمال الترجمة التي أجادها على الأدب العالمي والتاريخ والعلوم، فهو في مستوى جيد من التمكن، ولذلك صارت له براعة في أن يستوعب أي موضوع ثم يلخصه في صفحة واحدة أو جمل قليلة، على طريقة السرد الموجز "الجامع المانع"، وبذلك يختصر لنا طريق التعرف على كثير من جوانب الثقافة بعمله هذا.

    * وهذا هو سر كثافة رجوعي إلى الموسوعات الأخرى واعتمادي عليها واكتفائي بموجز تقاريرها وتعريفاتها للأمور، فإنها مثل "المورد"، والذين حرروها مثل البعلبكي: أناس أهل ثقافة واسعة وبيان ومكنة تعبيرية وإيجازية وبراعة تلخيصية وخبرة في العرض الجامع المانع، ولذلك هم أولى من نعتمده لهذه المهمة، وكم من مدرس فلسفة هو أفصح وأبين من الفلاسفة وأقدر منهم على شرح مرادهم، وذلك هو الذي دفعني لاعتماد "الموسوعة الفلسفية" بخاصة، فإن فيها خلاصة الفلسفة


    عواصف الحركة الحيوية تلقن الناس الحرية
    ولأن معنى الحرية نبيل: حصل ربط بين المكنة اللغوية والحرية، وحرص الشعراء بخاصة على توظيف الثروة اللغوية لبيان خلجات أنفس الأحرار، وتصوير كل مأساة تكون فيها حقوق الإنسان مسلوبة، وشرح درب الموت النبيل، وتأسس "أدب الحرية".

    * وحين تصطف الكلمات وأبيات هذا الأدب السامي: تتعدى أن تكون متعلقة بمناسبة فاتت دعت الأديب أن يبدعها، وإنما يصبح هذا الأدب صالحًا لوصف عموم المواقف المثيلة ولو بعد أكثر من ألف سنة، ومن ذلك ما قاله أبو كبير الهدلي في القديم (يصف قومًا ضربوا، فسقطوا على أيديهم وأرجلهم):
    مُتكَوِّرين على المعماري، بينهم *** ضرب كتعطاط المزادِ الأنجل
    (ومتكوين: أي بعضهم على بعض).
    والمعاري (رؤوس العظام، حيث يعرى اللحم عن العظم).
    والتعطاط: الانشقاق.
    فهم مثل جلد قربة واسعة طعن عدة طعنات فتشقق.
    وهذه المعاينة لمنظر الألم هي التي تبعث في نفس الرائي طلب الحرية.
    وصور التعذيب الأمريكي في سجن أبو غريب مثال لهذا التكور، وأن أجسادهم يكون بعضها فوق بعض.
    فبيت الشعر هذا مصوغ في لغة غريبة، لكن الأيام والأمثلة المرئية جعلته مشروحًا مفهومًا لكل أحد، وصار كأنه "بيان سياسي" تنطلق منه نفضات التحرر.
    والمسلم يريد الكلمة السواء، وذلك هو الأصل: {تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم}آل عمران.

    * لكن لكل قانون استثنائي عندما تكون الضهدة: أن يقول للظالمين، من كافر وفاسق، ومستعمر ومتسلط:
    فإن تعافوا العدل والإيمانا*** فإن في أيماننا نيرانا
    ورجال الدعوة، والشعوب المهضومة الحق، وضحايا العولمة وتفوق السلاح الأمريكي: يسرهم أن يذعن ظالم لمنطق الإيمان وتساوي الإنسان، فإن تمادى: فإن يد المسلم اليمنى ترسل نارًا، وله مع كل حر حلف وتناصر ولقاء.
    ولكن تجربة الحياة تفيد بأن الظلم من شيم النفوس، وأنه يتكرر في البلدان والأجيال، والمتعظ التائب قليل، ولذلك كانت "التربية على معاني الحرية" معلمًا من معالم منهجية التربية الدعوية، جيلاً بعد جيل، والعناية بما يلزمها من أخلاق الإباء والعزة والاستعلاء.

    * ومنذ أيام الجاهلية: كان هناك شاعر من معلمي الحرية اسمه "امرؤ القيس ابن عباس" ترك لنا قطعة شعرية من "أدب الحرية العربي" هي "وثيقة في فقه الاستعلاء" يوم تروج الاستكانة، فهو يروي لزوجه "تملك" المعنى الكبير الذي يمكن في مشاركتها إذا أنفت مثله، فيرسم بروايته منظرًا جزئيًا عزيزًا من مناظر الحياة ويقول فيه:
    أيا "تملكُ" يا "تَمْلي"*** ذريني، وذري عَذلي
    فثوباي جِديانِ *** وأُرخي شَرَكَ النعلِ
    ومني نظرةٌ خلفي *** ومني نظرةٌ قبلي
    وقد اختلسُ الضربةَ *** لا يَدْمي لها نصلي
    فإمّا مِتُّ يا "تَمْلي"*** فموتي حُرّة مثلي
    وهي أبيات أوردها ابن منظور في لسان العرب عن السيرافي في تاريخ النحويين.

    * وهي قطعة نادرة من أدب "الحرية".
    فهو يعلمها أن لا تعاتبه، بل أن تنطلق مثله نحو ميتة كريمة.
    فثوباه جيدان، وتلك كناية عن نظافة سيرته وطهره ونقاء أمره.
    وله نظرتان: قبلية وبعدية، وتلك إشارة إلى وعي يملكه وبصر سياسي.
    ويرخي شراك نعله: وهي إشارة إلى مشية خططية منهجية معتدلة ليس فيها افتعال وتهور.
    ويسدد ضربته بفن، بحيث يقتل، ويسحب نصله قبل أن يعلق به دم متفجر.
    فهو المتقن لفن "تحريك الحياة" فلماذا الوجل؟ فإن كان موت: فعلى صاحبته إكمال شوط الحرية..!

    وعنه، تلقفها الحر الجزائري المعاصر محمد براح فقال:
    غدًا سيقرأ هذا الجيل أحرفنا
    نورًا ونادرًا، وأنغامًا وألحانا
    فنحن في جهاد، ولكن مع الجهاد مشروع إسلامي شامل وضاء، وفكر أصيل، وجهاد العراق من تاريخ الجزائر يستمد، ومن تاريخ كل بلد فاهت أسلحته بلحن "الله أكبر


    صنعة الرصد بعين بدوية وعقل مؤمن
    أما بعد:
    فإني سأنحدر معك في تيار حركة الحياة على مثل هذه المراكب المعنوية، وأدع إحياء فقه الدعوة يروي لك مزيد نصوص ما كنت تظن أنها أصل السياسات المعاصرة.
    وسأبقى أنوع لك هذا النمط، لتكون مجموعة هذه الرسائل موسوعة شاملة ومدونة مستقصية لضروب الفوائد.

    * إن "استراتيجيات الحركة الحيوية" هي "كتلة" من الحقائق الإيمانية، والدراسات النفسية، والإشارات الفلسفية، والمعايير العلمية، واللمعات العقلية المنطقية، تعتمد التوصيف، ثم التحليل والتأمل، ولكن هذه الكتلة تستبطن بطائن عديدة يقوم كل منها مقام كتاب تخصصي.
    فمن ذلك: فقه التاريخ، ورواية مغزى التحولات الحاسمة، وأدوار القيادات، ومواقف الأحرار.
    ومع ذلك: خبر الإبداع، بما نروي من مشاهد إسلامية في طرائق الإبداع، والتفاتات عربية نحو زاوية من زوايا تفسير الإبداع، أو بما نسرد من نبأ إبداع ارتكبه مؤمن، وبذلك نخرج من استئسار البحوث الإبداعية التي روجتها معاهد التدريب وتقليدها لأساليب المدربين الغربيين وشواهدهم الغريبة على بيئتنا وأعرافنا، فما هو هاهنا اجتهاد وخروج من سجن المتابعة.
    ثم في السياق تداول نقد أدبي، وشعري بخاصة، بما كان من تكرار الدخول إلى قلوب الشعراء، واستنطاق مبهمات تمتموا بها، أو تفسير إيماات شغفوا بها، وفي السرد ميزة وصفية تصويرية واضحة تجمع بين الجزئيات لتكوين المنظر العام للحياة.
    ثم في البيان الفني الجمالي مكمن آخر لفوائد يحتاجها المسلم العصري الحضاري الأفق.
    وخلال كل ذلك: تركت التقليد لغيري، وأتيتك بالطريف، والرأي والاجتهادي الحر الجديد الأصيل.
    فهي صنعة حرة أهديها لك في متن بكر ساذج نقي نظيف الأردان طاهر الذيل يدرج على سنن البداوة العربية الأولى لم تشبها أخلاط، أو تزاحمها أساليب ناقل قفاز يزعم مكنة التدريب التطويري، بل قام أمرنا على أن نسلمك لمعة الأصالة وعود القبس، ثم أنت الذي تملأ الميادين أنوارا.
    وأحمد الله أني نجحت في "إحياء فقه الدعوة" وأرجعت حركات الدعاة إلى أصولها وجذورها، وأنا اليوم أول من ينجح في وضع تفسير إسلامي وفطري عربي الصناعة لقوانين "حركة الحياة" ومزج فن "الإبداع" بمحضنا الإيماني الخالص الملتقط من تراثنا، لا المستورد المقلد، وتلك قيمة هذا البحث.
    وهذه التخريجات المتنوعة للحركات وأصولها وجذورها النفسية والعلمية ورصد ظواهرها: كلها تصلح أن تكون مجموعة أسئلة تدريبية لرائدي "الإبداع" الذين يرومونه ويحاولون إتقانه، فإن كل فكرة تفصيلية تأتي في سياق السرد والوصف وبيان طبيعة إحدى الحركات أو جذورها تعتبر قضية قابلة للتأمل واستنباط المعاني منها، ولذلك يتلقفها الذي ويصطادها ويحولها إلى فكرة إبداعية، لتتطور إلى شأن إبداعي، ومن ثم فهو متن تدريبي من الطراز الجيد فيما نظن، يصلح كمنهج في جميع مراكز التدريب والتطوير.
    بل أرى الأمر أبعد: فإن المنهجية المعتدلة التي استقصيتها واعتمدتها جلعت مبحث "حركة الحياة" يصلح أن يكون مقررًا جامعيًا في تدريس الفلسفة الإسلامية المعاصرة، ثم كمصدر أساس لبيان أوصاف الفكر الإسلامي وتطوره.


    أنت متورط بعقد ضخم فالتمس الإنجاز

    ثم أما بعد: فاعلم أنك ابن آدم، وقد ورّطك جدك ودق على صدره، وتعهد أن يقبل مسؤولية إحداث حركات إيمانية وشرعية، ولئن كنت غائبًا تلك الساعة: فإن الله قد استوفى تذكيرك فقال: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً}الأحزاب/72.
    وذهب جمهور الفقهاء إلى أن (الشرع كله أمانة) فيما ذكر ابن عطية.
    وذلك مؤكد بالضوابط الكلية للشرع، ومنها الوفاء بالعقود والعهود، لقوله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً}الإسراء/34 (وذلك لفظ عام لكل عهد وعقد بين الإنسان وبين ربه، أو بينه وبين المخلوقين في طاعة. وقوله: {إن العهد كان مسؤولاَ} أي مطلوبًا مما عهد إليه أو عوهد، وهل وفّى به أم لا؟).
    وكذلك آية: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}المائدة/1.
    وإنما الذي قذف في قلب آدم الشجاعة على حمل الأمانة: أنه وجد نفسه صاحب عقل، به يستطيع بعث الحركات الحيوية والسيطرة عليها.
    قال تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}الإسراء/70.
    قال ابن عطية: (وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي به يملك الحيوان كله، وبه يعرف الله تعالى، ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه).
    فكونه يملك الحيوان كله: حقيقة حيوية ضخمة تنشأ عنها حركات كثيرة.
    وكونه يعرف الله والدين: حقيقة حيوية أخرى عظيمة توجه الحركات كلها في سياق العبودية، فيضادد سياق الجاهلية، فتزدحم الحركات، ليكون القدر هو الفاصل.
    فكن التقي، وعلى التوحد المحض بلا بدعة، ليسوق الله نحوك أقدار الخير.
    قال تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى}طه/82.
    قال ابن عطية: (الذي يقوى في معنى "ثم اهتدى" أن يكون: ثم حفظ معتقداته من أن يخالف الحق في شيء من الأشياء، فإن الاهتداء –على هذا الوجه- غير الإيمان وغير العمل، ورب مؤمن عمل صالحًا قد أوبقه عدم الاهتداء، كالقدرية، والمرجئة، وسائر أهل البدع والخوارج. فمعنى "اهتدى": ثم مشى في عقائد الشرع على طريق قويم).
    ثم قال: (وفي حفظ المعتقدات ينحصر عظم أمر الشرع).


    alhdhd45
    alhdhd45


    عدد المساهمات : 1337
    تاريخ التسجيل : 03/03/2011
    الموقع : hmsain.ahlamontada.com

    :حصريا:: همس النبضات :: للاستاذ الراشد :من استراتيجيات الحركة الحيوية Empty الرسالة الثانية... أنساق النفضات

    مُساهمة  alhdhd45 الإثنين 4 يوليو 2011 - 18:54

    أنساق النفضات
    كأنها رميةٌ من غير رام: مقالة التابعي أبي رؤية العجاج في رجزه حين قال يروي:
    "وكانتِ الحياةُ حين حَيّت"(1) (2)
    ولسنا بحاجة إلى خبر يتصل بملاحظته، ولكن معنى ذلك: أن للحياة بداية، قبلها ما كانت حياة، بل هي حياة قديمة لنبات وحيوان لا يعقل، فلما انتشر البشر ونشأت العلاقات والأفكار: شَرَعت الحياةُ تنبض وتتحرك، فالحياة هي الحياة الإنسانية عنده.
    ولربما لم يفطن "العجاج" لمعانينا وآفاق التحريك ورصد قوانين التأثير، لكنه جزماً: قد قارب وحام حول معنى نجده كاملاً، وكأنه تصور بعضه وأدركه ناقصاً، وعرف عنوانه ولم يعرف فصوله، لكنه أفادنا بهذا العنوان الابتدائي جداً، وفتح لنا الباب، وهكذا هي قابلية الفكر في النماء، يومض ومضة خافتة، يظنها الغافل أنها قد تلاشت، لكنها بعد ألف وأربعمائة سنة تتصل بمثيلتها، فيكون تجديد، وإذا بالومضة تتحول إلى منهجية واسعة لفهم هزات أوتار أقواس الحياة التي ترمي بسهام الحوادث، فيُعقر غزالٌ هو رمز أمة تأخذ تشحط بدمها، أو تكون خطأة، فيصعت من فلت ويملأ الأرض آثارا، وما بين أحوال المالين تكمن قصة "حركة الحياة": بين ضحية أذعنت لحكم السهم النافذ، وواعية راغت يمينا، فتعداها النصل، فاستوفت حياتها مسيطرة.
    ففي "سهام" ومؤثرات ترمي بها "الحياة" أهلها وروادها ومن في ساحتها، فتصرع البعض، لكنها تسقط قرب البعض الآخر، فينتزعها فيعيد رميها على أناس آخرين في عرصة التنافس، فلربما أصاب وسجل تفوقاً له حلالاً يعترف به قانون "القوة"، فيغريه الأمر أن يمهر في اتقاء سهام الحياة، فيجمعها بعدما تخطؤه، ويجمع أخرى يرميه بها منافسوه، فيعيد استعمالها، وكانت المعركة اليومية هذه في البداية صغيرة محدودة، لقلة الناس، ولاعتزال الناس لها في البيوت والشعاب والبراري، وهي اليوم كبيرة وضخمة، لكثرة الناس، واختلاطهم وسرعة تنقلهم.


    حياة تتهادى... على رسلها
    ومن تعابير المؤمنين الدالة على استيعابهم أن للحياة حركة: قولهم:
    (وأمور الله جاريةٌ على أذلالها)
    أي مجاريها وطرقها ومسالكها كما قال اللغويون، وهو مأخوذ من الطريق المذلل، أي الممهد.
    ومعنى ذلك أنهم يدركون أن الحياة تحركها سنن تتكرر، وصيغ واقعية عديدة جعلتها دائبة سلسلة لا تنقطع، وتؤلفها تراكمات تجانست فأصبحت مثل العادة والعرف المألوف الجاري على رسله، وهذا التصور هو أحد التصورات الكلية لحركة الحياة التي نحرص على كشفها وتشخيصها، فإذا ميزناها وعرفناها صارت لنا عوناً على فهم واقعنا ومنهج تفرس في مستقبلنا، فنستعد ونخطط وفق هذه المعرفة ولا نرتجل، وتلك هي ثمرة وعينا لحركة الحياة.
    هذه التراكمات والأعراف بعضها فيه بيان صنعة التنافس والحرب، وبعضها يبين التعاون والإنصات إلى نداء الفطرة وتحصيل المصالح، مما تقوم عليه يوميات الزواج وتكوين الأسر وفتح الأسواق وتسهيل التبادل، وما بين هذين الطرفين مئات الأنواع من التعامل والعلاقات والسياسات. وهذا تبسيط، لكنه ضروري لإدارك أصل وجوه الحياة.
    واستطرد الأمر، حتى أن من وجوه ذلك: تأثير التوقيت الكوني الفلكي في نظام الحياة، فالحركة الكونية صارت دلالة على توقيت، منها ما هو ظاهر يفهمه لا الإنسان فقط، مثل مواقيت الصلاة عند الغروب والزوال، وإنما حتى الحيوان يفهمه، ويرتبط به يومه وسعيه، وهجرة الطير، ولكنه منه خفي يحتاج شيئاً من الذكاء والتفكير ليكون قرينة على معنى معين، مثل فهم وقت صلاة العصر عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليها والشمس ما تزال في قعر حجرة عائشة، أي عندما يكون ظل الشيء مثله، وذلك معنى يرتبط بشكلها الهندسي، إذ كان ارتفاع جدار الحجرة أقل قليلاً من عرض أرضها، كما شرح ابن حجر(3)، فهذا الفهم مرتبط بجزء من حركة الحياة، وقريب منه توقيت صلاة العشاء بغياب القمر في ليلته الثالثة(4).
    ولا يتبين الأثر من تقرير هذه الحالة فقط، وإنما من فرضها وصيرورتها دنيا وعقيدة، فقام نظام حياة المسلمين كله عليها، ورسخ لا كعرف فقط، ولا كفقه وقانون فقط، بل كعمل عبادي حتمي لا يستأخر ولا يستقدم، بمعنى أن حركة الحياة في جزء منها ضبطت به.
    بل ومن طرائف التوقيت الشرعي: التنبيه لبعض العبادة بصياح الديك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم للتهجد إذا سمع الصارخ، وهو الديك الذي يصيح نصف الليل(5)، وليس الذي عند الفجر، فهذا الصوت الحيواني جزء من حركة الحياة وفوائدها الاسترسالية الفطرية، بل هو الجزء الذي يمنع قدر السوء أن يجثم، أو يخفف منه، على قاعدة: لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم ترتع لأنزل الله عذابه.
    وتسمى هذه الصيحة في العراق في جيل آبائنا: "ديك الزعلانة" وهي التي تغضب على زوجها فتعرض عنه: يسمح لها بذلك حتى هذه الصيحة عند نصف الليل، وبعدها يجب أن تتصالح، فعلى ذلك: كل دلائل هذه الصيحة خيرية.


    مدلولات الخط الناتج من نقطة تتحرك هي توأم تمدد الكون
    هذه النبضات التي تمنح الحياة صفة التحرك وعدم السكون: هي على نوعين: خفي ومرئي.
    أما الخفي: فهو استمرار الخلق الجديد، يخلق الله ما يشاء، ويتمدد الكون، وقدرته تعالى غير محدودة، وقد عرف علماء البشر ذلك الآن، وأيقنوا به، ومن أشهرهم: جيمس جينز Jeans 1877-1946، وهو (فيزيائي وعالم رياضيات وفلكي بريطاني. كان أول من قال بأن المادة تخلق في الكون على نحو موصول، وقد عرفت نظريته هذه بنظرية "الخلق المتواصل".)(6).
    وتأكدت هذه النظرية من بعده وصارت حقيقة، وأن الكون يتمدد، والخق مستمر.
    ومن أشكال ذلك أيضاً: توسع علم الإنسان بما حوله، وبأحوال الكون، وفي 25/1/2006 تناولت مواقع الإذاعة البريطانية على الإنترنت أن علماء بريطانيا اكتشوا نجماً خارج المجموعة الشمسية يشبه الأرض في ظروفه ومناخه، وهم يرجون أن تكون فيه حياة مثيلة أخرى.
    وأما المرئي: فهي قابلية في نبضات ومكونات حركتنا الإنسانية التي يوجهها عقلنا لأن تنمو وتتكاثر وتتعدد أشكالها وتتضاعف أحجامها التأثيرية ومدلولاتها، فيكون زخمها أشد، ووطأتها أقل، وبصمتها أوضح، وكلما أنتج عقلنا طرائق أكثر مهارة في هذه التنمية وآفاق الاستعمال: كلما استجابت الحركة الصغيرة والنبضة الضامرة، وسايرت وأطاعت ولانت، وهذه الظاهرة فرع من نمو المخلوقات من بذرة وبيضة و"جينات" وفسائل، ولتفهيم هذه الظاهرة نستعير من معلمي الفن التشكيلي ملاحظتهم في "الثروة المعنوية" التي تشكلها نقطة تتحرك في الفراغ فتشكل خطاً، وننصت إلى أستاذي في الفن: الفنان العراقي فرج عبو وهو يشرح لنا كيف أن (مبحث الخط وعلاقاته ووظيفته الأساسية في عالم التشكيل قد سجل رسالة أساسية) (ولذا يعول عليه مبدئياً في كل عمل مهما كان نوعه، وإن عملية التخطيط الفكري والفلسفي والذهني والتشكيلي تسمى باسمه، وكذلك كير من ظواهر الطبيعة الإنسانية إن كانت في الطب أو الفيزياء أو العلوم العامة أو الأدب: تنسب إلى الخط ومشتقات كلماته للدلالة على الثبات والتسجيل والرؤية الموضحة.
    ولما كان الخط له مدلول الفصل بين سطح وسطح، وجسم وجسم: جعل تحريكه يمل ويترجم أفكار ورؤى الإنسان أينما كان ومهما كان لونه وجنسه ولغته، فهو العامل الحضاري الرئيس الذي يتحرك يومياً بين أيدي ملايين الناس ليسجل المظاهر والدوافع والغرائز والأفكار التي يفرضها العقل البشري لمختلف الحضارات والنزعات العملية والأدبية والفلسفية).
    وفي الفن بخاصة: (الخط هو المؤشر الواضح للرأي عند الفنان، ويسجل كيراً من عناصر الفن، كالمساحة والحجم والفراغ والمسافات والسطوح الملونة والإيقاعات الخطية واللونية، وحركة الأجسام ونسبها، والعمارات والبنايات والمجسمات والشوارع والحدائق والأشجار والحيوانات والطيور، وينظمها ويرسل فيها روحاً واضحة تعلمنا المقصود من وجود هذا الخلق الإنشائي في تكوينها، والخط ذو مدلول واسع جداً لا يحصى أمره، ولكن علائمه الأكاديمية التشكيلية واضحة).
    و(حينما ندرس الشكل: نعرف الهندسة وسطوحها). (وحينما ندرس البناء التشكيلي: نعرف كيفية التكوين العملي) (وحينما ندرس الحركة: نعرف كيف تتحرك الحياة) (وحينما نجمع عناصر الفن: عند ذلك تتكون لدينا الهيئة). (ولولا الخط وأنواعه وأطواله ومساحاته وارتفاعاته وحركاته لما تكونت لدينا عناصر الفن التي تتوحد بالهيئة، ولا يمكنها أن تتوحد ما لم يكن لها قدر كبير من الموازنة، والموازنة الخطية).(7)
    فحركة النقطة وإنتاجها الهائلة هذه هي مثال لبعد استراتيجي في الحركة الحيوية، نمارسه أو نأتلف معه، دون أن نشعر بقيمة ما نعمله، لضعف الحاسة التحليلية عندنا، لكننا بمل هذا الفهم الجديد ومُكنة التحليل يؤذن لنا أن ننفتح على كثير من المحركات الحيوية، فنتتبع آثارها وضرباته في تحريك الواقع الجامد وإمداده بشكل من أشكال النبضات.
    لذلك لاحظ موسى عجمي في كتابه الموجز عن حركة الحياة ضرورة اعتبار "العمل" كجزء ثابت من الحركة، وأنها (حركة تبدأ مع العاطفة والشعور، لتنطلق في رحاب العقل والفكر، ومن ثم نحو العمل والإنجاز الفعلي، لتمر في ثوابتها الثلاثة: عاطفة، عقل، عمل.
    وهي حركة فردية عاملة، لا يكتمل فعلها، ولا يعظم، إلا حين تصب وتدب في بوتقة المجتمع المحيط، حيث ينتقل الفعل إلى مجتمع آخر ليعم بعدها مجتمع الإنسانية بأسره.
    وبهذه الحركة الإنسانية المتواصلة، والمتواترة تباعاً: يستقر الكون ويرتقى العالم)(Cool. وهذه ملاحظة صحيحة، ويشرحها قول ابن مقبل:
    وما الدهر إلا تارتان: فمنهما***أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح(9)
    فجعل العمر كله كدحاً من أجل العيش، ثم إذا تعب وعجز انتظر الموت، فإذا ألغينا مرحلة الموت السلبية لم تبق إلا حياة واحدة هي حياة الكد والكدح والتعب والعمل.


    السيطرة على الحياة: فرع السيطرة على النفس
    ونحن المسلمون أهل إيمان نخالف به الملحد والفيلسون والمادي، ونفهم أن "بداية" كل مرحلة في الحياة تفترق إلى نوعين: رحمانية، وشيطانية، وتكون هذه البداية حاضرة ومسيطرة على الفعل حتى نهايته، إلا أن يتوب وتتبدل نية المفسد، وكل حديث الإيمان يفيد هذا المعنى، ولكن تقعيده جاء على لسان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال: (لابن آدم لمتان: لمة من الملك، ولمة من الشيطان. وأما لمة الملك: فاتعاد بالبشر، وتكذيب بالحق، وتخبي بالنفس).(10)
    قال شمر: (اللمة: الهمة والخطرة تقع في القلب).
    فهي مع أول خطرة حين تكون أوائل النية يكون الافتراق، فتكون بركة من الله تتجلى في طيب النفس عبر تصديق حق الشرع وحلاله وحرامه، مع تخطيط يعد بخير وينفع، أو العكس.
    وهناك في منزلة ما قبل النوايا من الخطرات وحديث النفس ونبضات القلب تكون ولادة حركات الحياة، ويكون الامتياز وتحصل المفاصلة في أول صورها ثم تتأكد بالفعل والتنفيذ والإصرار، ومن هنا فإن السيطرة الحيوية تبدأ بسيطرة على "النفس" و"القلب"، وهي الصنعة الإيمانية المحضة.
    وهذه الحقيقة هي التي تؤهل الدعوة الإسلامية للفوز في سباق السيطرة، لأنها الأمهر من بين فرقاء الساحة في "التربية"، وإصلاح النفوس والتحدث إلى القلوب، مع فكر واسع يسند ذلك، والآخرون يحومون حول استعمال القوة، ويخططون لمراوغات وخداع، وذلك ينفع وقتياً ولا يدوم، ولكن التعامل مع "النفوس" هو المرشح للدوام، وانظر آخر تجربة في ذلك على المدى الاستراتيجي: غزو أمريكا للعراق: هو أعتى استعراض للقوة وأبرع مراوغة سياسية، ولكن التربية النفسية الجهادية التي بذلها العمل الدعوى الإسلامي العالمي قبل وأثناء ذلك جعل أرواح المؤمنين تحلق عالياً مع مستويات العزة، فنهض المعتدى عليهم إلى جهاد، وناصرتهم جموع المسلمين، فارتبك الصف الأمريكي واختلف وأنكر على قيادته وضغط عليها يطلب الانسحاب، وكانت "القلوب الجهادية" هي التي حسمت القضية، ومعنى ذلك أن الصف الأمريكي امتلك القوة لكن نقصته التربية لجنوده ولم يستطع إقناعهم أنهم على حق ليصبروا ويصابروا، ومن هذه النقطة كان خطأ تقدير بعض المسلمين أن أمريكا دولة لا تقهر وأنها بقوتها ستستحق أي جهاد، فمالوا إلى ضرورة الاستسلام للأمر الواقع، وأن الجهاد خاسر، وبذلك كان مقياسهم مادياً فقط، ولم ينظروا إلى أحوال القلوب والنفوس.
    وما كان تكلم عنه ابن مسعود هو حال الشخص الواحد الذي يتردد بين لمتين، لمة شيطانية ولمة ملائكية، ومعنى ذلك احتمال غلبة إحدى الحالتين بشكل دائم من خلال عوامل تأثيرية أخرى، فينقسم المجتمع إلى صنفين: من أعانتهم الملائكة بغرس هداية الله في قلوبهم، ومن صرعهم الشيطان فانحرفت قلوبهم، وهذا هو حال مجتمعات البشر، جيلاً بعد جيل، ومن خلال التنافر والتناقض بين الصنفين تكون تحديات بعضهم لبعض، فتتحرك الحياة.
    إن "التناقض" بين المؤمن والفاسق حتمي، وهو تابع للعرق الدسّاس المستقر في الأعماق والذي يأمر بمعروف أو يغري بارتكاب منكر، فالظاهر صورة للباطن، وكيفما تكون النوايا تكون الأعمال، وهي القسمة الطبيعية التي لا يُتاح غيرها حين تختلف الموازين والغايات والمقاصد، مما أشار إليها الشاعر المؤمن واصفاً نتيجة حواره مع الفاسق فقال:
    إنا اقتسمنا خطتينا بيننا *** فحملت برة واحتملت فجاراً
    فلكل وجهة هو موليها وخطة يعمد إليها، فأما المؤمن فيميل إلى فعلةٍ َبّرة، وخُطةٍ برة، ذات بِرٍ متنوع يصل إلى ثلاث وسبعين من نوايا المعروف، وأما الفاسق فيوزع اهتمامه نحو أنواع الفجور، وهذا الارتباط بين المقدمات والنتائج هو الذي قسم المجتمعات القديمة والمعاصرة والأجيال المتتابعة إلى معسكرين: صالح وطالح: ونبتة السوء لا تمر غير طعم مر، والبلد الطيب يزكو نباته بإذن ربه.
    وإلى مثل هذا المعنى ينصرف قوله تعالى: {وقد خلقكم أطواراً}، قيل: (معناه: ضروباً وأحوالاً مختلفة) و(أراد: اختلاف المناظر والأخلاق) و(الحالات المختلفة) (مرة ملك، ومرة هلك، ومرة بؤس، ومرة نعم)(11). وهذا يكون في الشخص الواحد، تتقلب به الحياة، ولكن المعنى يصدق على اختلاف أطوار الناس، وتنوع أخلاقهم وصفاتهم وقابلياتهم، ومن خلال تعاكس أحوالهم يجنحون إلى تنافسات وعدوان، وتلك حركة حيوية، أو يلجأ كل صاحب نزعة إلى مثيله يعينه ويحالفه، وهذا نوع آخر من الحركة، ولأنهم درجات في القوة والثراء فإن عملية الاستقطاب تظهر، وبها تنحاز مجموعات العدوان الصغيرة إلى ناظم لها أكبر، أو مجموعات الدفاع والحلفاء تفتش عن ركن شديد تأوي إليه، وتكون ترجمة ذلك حصول معركة سياسية أو تنافسات مالية، وإزاحات اجتماعية، وتلك هي حقيقة حالة الغليان التي لم تترك قطراً أو مجتمعاً يهدأ، والذكي الذي يكتشف هذه الاستقطابات وإمكانية حدوثها: يلجأ إلى تنظيمها ما استطاع، وإغراء الصغار بالإذعان للكبار، والضعفاء للأقوى، فتكون سيطرة أحد التوجهات أتم وأنفذ، فتكون الغلبة، وتبدأ عمليات محاولة تفكيك هذه السيطرة بعمل مماثل مقابل، وتصبح الأيام سجالاً حتى تستقر الأمور لتوجه آخر بعد حين قصير أو طويل، وتتكرر القصص، وتنشأ أجيال أخرى، وخلال ذلك تتدخل ألوف العوامل في هذه الترجيحات وعمليات الصعود والهبوط


    التفاوت... يأذن ببدء حركة حيوي
    وثمة نوع آخر من تحريك الحياة لا يكون فيها العداء هو عامل التحريك، وإنما السباق الخيري نحو الأفضل والأكمل، وذلك يكون عند ارتفاع الهمم واتضاح معاني الخير ودرجاتها وتصاعدها وأنواعها، فيشرع أهل الخير في الازدياد منه، فيكون منهم سابق ومقارب بطيء، لكنهم جميعاً في وجهة واحدة، فإذا اضمحلت الهمم اقتنعوا بواقعهم ومالوا إلى السلبية وعدم التطور.
    وهذه ملاحظة ليست حديثة، بل لاحظها الفقهاء من قبل، وذكروا (أن الخير: في النادر من الناس، فإذا استوى الناس في الشر ولم يكن فيهم ذو خير: كانوا من الهلكى) وذلك عند ابن الأثير: (أنهم إنما يتساوون إذا رضوا بالنقص وتركوا التنافس في طلب الفضائل ودرك المعالي. قال: وقد يكون ذلك خاصاً في الجهل، وذلك أن الناس لا يتساوون في العلم، وإنما يتساوون إذا كانوا جهالاً)(12).
    فعدم التطور: هلاك، وذلك هو منطق الفقه، وتلك إشارة إلى معادلة إيمانية، وذلك هو الذي يفسر العمران الحضاري الإسلامي بالأفكار والعلوم والآداب حينما يكون الأمن والاستقرار، كما في حقب رواها التاريخ، مما كان في بغداد، وفي الأجنحة: خراسان شرقاً، وشمال أفريقيا والأندلس غرباً، وما بين ذلك، فإن المنافسة الإسلامية الخيرية داخل مجتمع المؤمنين أنتجت ثقافة واسعة، ومعارف، وطباً، وعمارة، وأوقافاً، وتحركت الحياة في الوجهة الإنتاجية التصاعدية.
    ولكن هذه الحصيلة الخيرية لم تمنع قيام تناقضات بجانبها، أصلها ابتداع، أو صراع على السلطة، فكان العمل الإصلاحي الاستدراكي المتنوع لجيل بعد جيل من الساسة والفقهاء، ولم يمنع محاولات الغزو الخارجي، بسبب وجود التناقض بين البشر، فكان الجهاد، وكل ذلك أنتج كماً هائلاً من تحريك الحياة في كل الاتجاهات، وما تزال الظاهرة مستمرة.
    وعلم "المنطق" يشير إلى "التناقض" الذي هو إشارة إلى سبب تحريك حيوي. (وهو اختلاف قضيتين بالإيجاب والسلب، بحيث يقتضي صدق أحديهما، وكذب الأخرى لذاته، ولا بد فيهما مطلقاً من وحدة الموضوع، والمحمول، والزمان، والمكان، والجزء، والكل، والقوة، والفعل)(13).
    وليس هذا محل شرح هذا التعريف الغامض على بعض، لأنه يكفينا منه فهمنا المجمل له، من وجود اختلاف في إثبات صفة للأول ونفيها عن الثاني، وهو ما يعنيه السلب والإيجاب، يوحي بتدافع، ومحاولة إزاحة، وتحزب البعض لأحد النقيضين مع تحزب غيرهم للنقيض الآخر، ومعنى ذلك حصول حركة حيوية أساسها رغبة الانتصار لرأي، وتديما اختلافات العقول وجنوح بعضها لجهة وأخرى لنقيضها، فتتولد الحركات، وتلك هي ظاهرة الانقسام في المجتمع البشري، والمناحرة والخصام.
    إن الأمور إنما تتميز إذا وضحت أضدادها، ومحاسن المعروف وإنما تستبين لو انكشف الخمار عن وجه المنكر وظهر قبحه، لأن من تنتكس فطرته أولاً: يلزم الإصرار ثانياً، والشاعر ينتبه إلى هذا الديدن فيقول:
    إذا نهي السفيه: جرى إليه*** وخالف، والسفيه إلى خلاف
    أي: جرى إلى الأمر الدون الذي نهوه عنه، وحرص على المخالفة.
    قال أبو الفتح بن جني: (فاستنبط من السفيه معنى السفه)(14)، بمعنى أنه راقب أفعال السفهاء، وأحوالهم، وقلة حيائهم، فعرف أوصاف السفاهة كسلوك ومنظومة ترديات تحكم أرهاطاً من البشر، وكانت معرفته من خلال متابعة سير السفهاء.
    والإيمان كذلك، ثلاثة أرباعه فطرة وانسياب معها، وسير المؤمنين أوفى في التعبير عنه من نصوص مجردة، ولذلك كانت القصص والتراجم وتواريخ المصلحين، ولمثل هذا المعنى أشار جواب الذي سألوه عن وصف المروءة فقال: تؤخذ معاملة ولا تؤخذ نطقاً، ومجموعة الدعاة مكلفة أن ترسم بأعمالها صورة الإيمان، في كل جيل.
    لكن أشكال تحريك الحياة بالمنافسة تستطرد حتى يكون من أشكالها ما هو خارج تنافسات الخير أو صدامات العداوات، مما هو داخل في سعي الناس اليومي لكسب أنصبتهم من مقادير الرزق، فهم يختلفون في درجات إتقان المهن، وفي الصحة والعافية والأحوال النفسية، وفي حيازة المال التأسيسي الذي يكون رأس المال، وفي الفرص المتاحة، وطبيعة المكان الجغرافي الذي يعيشون فيه، والزمان، ومواتاة الأقدار الربانية أو عدمها.
    وينبي عن جزء من طبيعة هذه المعركة اليومية: قول الفقير المعدم، لابس الأثواب المستهلكة:
    لقد غدوت خلق الأثواب***أحمل عدلين من التراب
    لعوزم، وصبية سغاب***فآكل، ولا حس، وآبي(15)
    والعوزم: العجوز، والسغاب: الجياع. فكأنه يعني بالتراب: بقية طحين مخلوط بتراب، أي يجمعه مما يتناثر في المطاحن، ولذلك يأباه بعض صبيانه، ويقبله البعض.
    وبمقابله: لابس الأثواب الفضفاضة الذي يقول:
    أجر من خز العراق الذائل***فضفاضة تضفو على الأنامل
    فهو لترفيه يجعل أردانها طويلة حتى تغطي أنامله، ولا ريب أن لبس الحرير على هذه الشاكلة يكون معه أكل الأطايب.
    وتردد الفرق بين الحالين: سبب لتحريك الحياة، إما بعزم السغاب ودأبهم الحلال في تحسين أحوالهم، وإما بحسد يعتريهم يدعوهم إلى عدوان، أو سرقة وسلوك إجرامي، وأكر ما يكون الأمر أن يكون ذاك "الآبي" الرافض من هؤلاء الأولاد هو الذي يغامر بعدوان، إذ هناك في لحظات إبائه وجوعه تنشأ بذرة التحريك السيء وتتسلط عليه وتحدوه نحو إشباع رغباته عبر طريق غير سوي، ومن أقرب هذه الطرق إليه: أن يلحق نفسه بقوي غني من أهل "الخز الذائل"، من متنفذ وسلطان، فيستعمله في تمرير ظلمه، وتزداد الآثار السيئة لهذه الاحتمالات إذا تعلم هذا الفتى أطرافاً من علم الشرع، إذ يصبح من علماء السلطان، أو إذا أتيح له سفر ودراسة في بلاد الغرب: يلحق نفسه بدول الاستعمار فيغدو خائناً، فإذا تمكن من الحصول على عضوية جماعة إسلامية فلربما حرف سياستها وأهل الإخلاص لا يدرون ما هنالك، ولذلك رفض الإمام الشوكاني في كتابه "أدب الطلب" بذل علم الشرع لأبناء أصحاب المهن، وقصره على أبناء الإشراف، فلم يلتفت محقق كتابه إلى المغزى الصحيح وأنكر عليه، إذ هو لا يريد التكبر، بل النقاء.
    ومعنى ذلك: أن هذا النوع الثالث من التنافس في الرزق قد ينتهي إلى سلوك عدواني أيضاً.
    ولأن القصص المروية في ذلك، مما يعرفها أهل كل جيل ومدينة: وافرة متداولة: أصبحت "التوترات" سائدة بين الناس، والرد بالمثل، وعدم التسامح، والتهديد، وضمرت إملاءات الأخلاق. فإعابة الناس مثلاً، وتجريحهم، وذكر مثالبهم: تجلب بالمقابل تجريحاً، والتقاذف سجال، وهو ما هدد به الشاعر وحذر فقال(16):
    لا تمضحن عرضي، فإني ماضح
    عرضك، إن شاتمتني، وقادح
    في ساق من شاتمني، وجارح
    وهذه ظاهرة من ظواهر الحياة ينبغي أن يستوعبها من يخطط لمهاجاة وهجوم: أنه يخاطر ويهيج ساكناً.
    وهذه تحليلات في معرفة "جذور السوء ومساربه" هي بسيطة ساذجة، لكنها مهمة في توعية من يواجه زخم ازدحام المحركات الحيوية، وفيها احتياط ودعوة لسلوك تخطيطي يوصي بالحذر، وبمثلها نفهم قول معاوية رضي الله عنه (من أبطره الغنى: أذلّه الفقر، وهما ضدان مخادعان للمرء من عقله، وأولى الناس بمعرفة الدواء من يبين له الداء)(17).
    وهذا رصد صحيح لظواهر الحياة، فما ذهل غنيّ عن الشكر فأسرف على نفسه ومنع الحق إلا ولطمه الفقر لطمات متتابعات يتركنه مترنحاً، ثم يشتق سياق الكلام قاعدة تربوية ثمينة: أن الذي يحلل ويعرف جذور السوء ومساربه التي نفذ منها وحل في وسط دار الخيريين هو بالطب والعلاج أعرف، وبالمداواة أليق.
    إن الضدية بين الغنى والفقر في قول معاوية تتناسق مع مبحثنا، فإنها ليست دلالة وصفية منه، لأن كل أحد يعلم ذلك، ولكنها ملاحظة تحليلية يريد منها ما نريد من رؤية تأدية هذه الضدية إلى التحريك التنافسي، وأن المال والغنى أداة في صراع الحياة ينبغي استخدامها على نحو إيجابي للبناء والإنتاج والتمدن، فمن انحراف بهما إلى بطر سلبي: نوفس بضراوة حتى يصير فقيراً وذليلاً من بعد عز، وهذا كلام أشبه بالموعظة المجازية، لكنه مفاد واقعي تشهد له قصص كثيرة، ويرجع إلى الإيمان آخراً، لأن فحواه تتضمن دلالة على نموذج من صور "جريان القدر الرباني" في تحريك الحياة، وأن الخفض والرفع للفرد من الناس هو إرادة ربانية تقترن برقابة الله للحياة، وإذا صدق ذلك على أفراد: صدق على مجموعات وربما شعوب تتبطر وتتجه بالمال وجهة فوضوية أو هدمية أو لهوية وتمنع نصرة المستضعفين به، مثلاً.
    alhdhd45
    alhdhd45


    عدد المساهمات : 1337
    تاريخ التسجيل : 03/03/2011
    الموقع : hmsain.ahlamontada.com

    :حصريا:: همس النبضات :: للاستاذ الراشد :من استراتيجيات الحركة الحيوية Empty رد: :حصريا:: همس النبضات :: للاستاذ الراشد :من استراتيجيات الحركة الحيوية

    مُساهمة  alhdhd45 الإثنين 4 يوليو 2011 - 18:58

    البناء المدني... صنعة إيمانية
    فالحياة قائمة، وهي مخلوقة متاحة لأبرار وفجار، وإذا اقتناها فاسد أفسدها، وإذا حازها مؤمن أصلحها.
    ومن هنا وجب على المسلم أن يقاربها ويطلبها: أموالها، وسلطتها، وعلومها.
    وسأل عطاء الحسن البصري: (أكان الأنبياء يشرحون إلى الدنيا مع علمهم بربهم؟) أي هل شرح الله صدورهم لقبول الدنيا كما شرح صدورهم لقبول الدين؟.
    فقال الحسن: (نعم، إن لله شرائك في خلقه!).
    (أراد: كانوا ينبسطون إليها ويشرحون صدورهم ويرغبون في اقتنائها رغبة واسعة)(18).
    وهذا التقرير يسقط معنى الزهد ويرجع عليه كما يسقط معنى هجر السياسة، ويعني أن من تقوى المؤمن أن لا يدع الدنيا لفاجر، بل حوزها بدله ليصوغ حركتها صياغة سياسية وتعاملية وحقوقية وفق الشرع وحكم الحلال بعد إذ خلقها الله وبراها وعرضها لتتم الحكمة التي وراء خلقها من خلال أسلمتها، بدل أن يتلقاها الكافر أو الجاحد أو البخيل فيعطل انتفاع المؤمنين منها ويحكرها لخدمة الفساد، وعلى هذا التمييز، أو على هذا الرجاء في أن يسبق المسلم إلى التسلط ليدير الحياة في مجال الإيمان: تقوم نظرية السيطرة الإسلامية على حركة الحياة، وتبطل نظرية التصوف في تعطيل منح الخلق التي رصدها الله لوعاة يستعملونها، كما يبطل وهم من يظن صواب انعزال المسلم عن عالم السياسة تعففاً وترفعاً.
    وشرح آخر لقول الحسن: (إن شرائك في خلقه): أنه (أراد أموراً أبقاها في العباد، من الأمل والغفلة: حتى ينبسطوا بها إلى الدنيا)(19).
    وهذا الجواب يكشف عن ملحظ آخر في طلب الدنيا، عامل التحريك فيه ليس هو طلب التمدن والعمران فقط، بل مداراة القلوب والنفوس والرفق بها، فإن وتيرة الجد إذا كثفت في حياة المؤمنين فإنها تؤدي إلى الإيجاب وإلى أداء إنتاجي جيد، ولكن لأمد قصير يكون بعده التوقف أو الانحدار وهبوط المستوى، لما في ثنايا حالة الجد من التكلف والمغالبة وافتعال الاستنفار الطويل واليقظة، فتميل الأرواح إلى طلب الراحة، فيكون إبطاء في حركة الحياة بعد إذ نوينا بالجد تسريعها.
    وشرح ذلك أن الله تعالى حين خلق الإنسان: أودع في فطرته النزعتين، وألهم نفسه الفجور والتقوى، فإذا أراد لزوم العلى على طول المدى إذا اهتدى: عانى، فمل، فغفل، فيعود إلى مداراة طعمه ولذائذه، فينافس ويعارك، فتتحرك الحياة، وذلك قانون فطري ميل لقانون القدر في إنزال آدم إلى الأرض لتكون في أرهاط ذريته أحوال متعاكسة تدفعهم إلى أن يكون بعضهم لبعض عدواً لتتحرك الحياة، مما هو نص آية سورة البقرة، وموطن الاقتباس الدعوى من هذه الظاهرة الحيوية في الأمل والغفلة: أن خطة التربية الدعوية مكلفة أن تكون واعية، فتراعي الغرائز الإنسانية، وتدفع الدعاة إلى زوج، وتجارة، وبناء بيوت، وأكل أطايب، وحسن هندام، وجماليات، وكماليات، وتمنع استبداد العزائم والفقر وطرائق التقشف الدائم، بل هي وسطية دين الإحسان من دون رهبانية، وإنما هي أيام شدة تليق لها العزائم وسياسة الاستنفار م أيام رخاء يؤذن فيها بالاسترخاء.
    وهذا جزء من "إحياء فقه الدعوة" بعدٌ استراتيجي في التخطيط الإسلامي لا تسوغ الغفلة عنه، فإن النفس المعتدلة المتوازنة هي مظنة تحقيق التفوق في المنافسة الحيوية.


    نضوج ظروف التحول الحضاري الإسلامي الجديد
    وجميع حديث التضاد هذا، والتناقض، والتعاون، والعداوات المحركة يجعلنا في الآخر نقف وجهاً لوجه مع نظرية ولادة الحضارات عبر "أعمال القيادة المبدعة التي تتحدى البيئة" وهي نظرية كبير فلاسفة التاريخ "توينبي Toynbee" 1889-1975.
    وهو (مؤرخ وفيلسوف بريطاني، وضع نظرية "التحدي والاستجابة" Challenge-Response في كتابه "دراسة للتاريخ" الذي يقع في اثني عشر مجلداً 1934-1961.
    وخلاصتها أن الحضارة لا تنشأ إلا حيث تكون البيئة صالحة لتحدي شعب ما، وإلا عندما يكون هذا الشعب على أتم الاستعداد للاستجابة لذلك التحدي، وأن الحضارات تنهار عندما تتلاشى عبقرية "الأقلية المبدعة"(20).
    وهذا كلام صحيح في غاية الصواب، مع أنه يمكن أن يستدرك عليه بمكملات ذات تأثيرات عديدة في هذه المعادلة المشروطة:
    تحديات بيئة + شعب مستعد بقيادة مبدعين = حضارة
    ففي وصف البيئة مكملات كثيرة تعبر عنها الصور الجزئية، والاستعداد فنون وعلوم، وللقيادة الإبداعية أوصافها، مع ملاحظة القدر الرباني، والتراكم التاريخي، وأنساق الإخراج الكثيرة العدد.
    والمهم في هذه المعادلة أنها ممكنة التطبيق في حالة الأمة الإسلامية اليوم، فإن البيئة جيدة، ووتيرة التحدي عالية، وهذا التحدي ناتج من طرائق العولمة والاستئثار الأمريكي وعدوان اليهود، والاستجابة موجودة، على لهو واسع وتخدير، ولكن عنصر الأمل يكمن في "القلة المبدعة" المستوفية للأوصاف والمتمثلة في كيانات الدعوة الإسلامية العالمية، والتي دخلت الآن في مرحلة التطور وإتقان التخطيط واستيعاب المستلزمات الحضارية، وكأن أمريكا يائسة اليوم بعدما جربت استعمار العراق وأفغانستان وأوغلت في معاداة العالم الإسلامي فوجدت مقاومة وصدوداً، فإذا زهدت في منطقتنا الإسلامية المركزية فإن القلة الدعوية المبدعة ستصول صولتها بإذن الله.
    وهذا الطموح غير مفتعل أبداً، لأن نضوج الأمر الدعوي جاء من خلال مسيرة هادئة طويلة متدرجة، وعصم الله الدعوة من التهورات والقفزات المهلكة من خلال ما وهبها من فكرٍ واعٍ شمولي منذ بداية انطلاقتها، وقد تراكم التجريب، وأنضجت المحن الدعاة، وتوسع العدد، واستوى الفكر، واكتملت التخصصات، ورسخ العمل المؤسسي، وشاع التدريب الإبداعي والإداري، وتألقت المشاعر الجهادية، وانتشرت شبكة العلاقات العامة، وفصح الإعلام، وحصل تفوق المعادن الدعوية في الجوانب النفسية والصحية والثقافية، وإنما هو مال قليل فقط تحتاجه التجمعات الدعوية في أرجاء العالم لتكتمل لها عوامل السيطرة الذاتية الطبيعية السليمة، فإن الجموع تملأ الآفاق، وتنتظر "الحرية" التي تعليها.
    وهذه "الحرية" آتية لا محالة بإذن الله، وهي نتاج ظرف "التحدي للبيئة"، مما أشار إليه توينبي.
    وكأن هذا التحدي تصنعه "العولمة" وخطة اليمين المحافظة المتمثل بالرئيس بوش ومن يساعده، وهي مجموعة عقائد ظنية استبدت بمشاعر هذه العصبة، واختلطت بأهواء يهودية ومزاعم توراتية، فارتكبوا الخطأ الكبير في غزو العراق من غير دراية بظروفه، وتورطوا بحل الجيش العراقي دون حسان للآثار السلبية التي ستنعكس عليهم، فكان "الجهد العراقي" هو "التحدي" وهو المدرج لجولة جديدة من الحضارة الإسلامية، وكان زخم الصعود السريع لوتيرة الجهاد الفلسطيني الحماسوي هو المدرج الثاني، ولا يكون ذلك بأشخاص المجاهدين في هذين القطرين فقط، بل قد يكون أثرهم هو الأقل، ولكن يكون بالروح الهادية التي سرت في جميع الأمة الإسلامية تفاعلاً مع القضيتين، ومع قضية الأفغان قبل أن تتعكر بالخلاف.
    و"الكتلة الدعوية الإسلامية العالمية" هي المرشحة للاستفادة من هذه التحديات والتقدم على هذه المدارج، لأنها هي الأوسع عدداً، والأضبط تنظيماً، والأعمق تربية، ولها منظومات قيادية وإدارية وتخصصية ومؤسسية متكاملة، وقد قامت العناصر الجهادية الميدانية بمهمات قدرية في الإثخان بالعدو وتكذيب رؤاه الدينية والسياسية، والتقت في ذلك مع البذل الجهادي الدعوي، ولكن لا يمكنها أن تكون هي المستمرة للنتائج، لقصور كتلتها كماً ونوعاً عن الكتلة الدعوية، ولكنها يمكن أن تكون الحليف، والعضيد، إذا حصل نقاء القلوب وصفاء النوايا وإنكار الذات والإقرار بحقائق الواقع، والمكنة القيادية أساسها مراس طويل ومعاناة متكررة أكثر مما هي نتاج جولة ميدانية واحدة، والانتشار العالمي يرجحها، والرصيد العلمي يمنحها أنواعاً من التكميل والتحسين.
    وليس هذا التقويم المتفائل لإنجازات الجهاد العراقي هو زعمنا فقط، أو هي تقديرات مجانية من عندياتنا، وإنما ذلك هو تقدير د.هاس الذي كان معاوناً لوزير الحرب الأمريكي كيتس الذي خلف رامسفيلد بعد هزيمة الجمهوريين الانتخابية في 11/2006، ففي مقال كتبه في مجلة الشؤون الخارجية وعرض برنامج "من واشنطن" في قناة الجزيرة خلاصته: ذكر أن أمريكا أخطأت بغزو العراق، وأن هذا الخطأ سيؤدي إلى انتهاء نفوذها في الشرق الأوسط، أو يؤول إلى ضعف وأن الحركات الإسلامية هي المستفيد الأكبر من هذا الضعف، بل تقرير بيكر-هاملتون المقدم لبوش تقترب فحواه من هذا الرأي.


    مقتل الدول العظمى: أن نفوسها صغيرة تتأثر وتيأس
    ومن يزعم سهولة الوصول إلى حل يرضينا فهو واهم، وإنها لجولة صعبة من الضغوط والمفاوضات، ولكن للمسلم أن يعتقد أن أمريكا وإن كانت دولة عظمى إلا أن جيشها يتعب كما يتعب كل البشر، فيميل إلى طلب الصلح وتغيير السياسة والتفاهم، وتسري على قادته وجنوده الظواهر الحيوية ودقائق قوانين حركة الحياة، ومنها السأم والضجر والاستنكاف، وقد تكون الأجهزة الأمريكية مرشحة لحدوث مثل ذلك فيها بعد اكتشاف صعوبات الاحتفاظ بالعراق، فمن الملاحظات النفسية التي تفيد رجال السياسة والدعوة أن "النفس" تتوغل في تنفيذ ما تريد، لكنها حين تبلغ أقصى الأداء: يكون "الامتلاء" بما رغبت وأرادت فتفتر وتميل إلى الضد المعاكس.
    وقد شوهد في يوميات الحياة: "أن الإنسان إذا تناهى في الضحك: بكى، وإذا تناهى في الغم: ضحك، وإذا تناهى في العظمة: أهمل، وإذا تناهت العداوة استحالت مودة)(21).
    وفي مقصورة ابن دريد:
    *وكل شيء بلغ الحد انتهى*
    وفي شعر المتنبي:
    *ومن السرور بكاء*
    ويكون هذا الانقلاب: من محركات الحياة، إذ يتجدد موقف، وتظهر علاقة، وتهتز عواطف، ويأمل يائس، ويكون فعلٌ طارئ أول يأت بثان ثم ثالث، ثم تكون منظومة تصرفات ومواقف فيها تبديل للموقف الحيوي.
    وكأن لهذه الملاحظة النفسية ارتباط بالملاحظة الأخرى التي تقول:
    *اشتدي أزمة تنفرجي*
    فقائلها ينتظر أن يكون إفراغ كل ما في نفس السلبي الحانق الصانع للأزمة، ويريد منه أن يبلغ النهاية، ليرتد إلى عقل وارتياح، ويكون إشباعٌ، فيحصل انفراج.
    وأمريكا لها نفسٌ جماعية كالنفس الفردية، وهي مرشحة الآن لملل وتغيير الوجهة والانكفاء، وعلى الأقل في تعاملها مع قضايانات الإسلامية.
    ولربما تحصل في علاقتنا معها حالة "توازن القوى" بالرغم من ضعفنا وإننا حركة وتيار شعبي ومجرد منظمات، ولسنا دولة يمكن لوجودها أن يكافئ وجود الدولة الأمريكية العظمى، لأن أثر الإثخان حاصل، وهي معركة نفوس لا معركة أنظمة وأسلحة، وصبرنا أطول.
    فمن قوانين حركة الحياة: "توازن القوى"، وهو تكافؤ في القوى بين دول متنافسة أو مجموعتين أو أكثر من الدولة المتنافسة، يحافظ عليه من طريق الأحلاف العسكرية أو الاقتصادية أو كليهما.
    راج هذا المصطلح ما بعد نابليون إلى الحرب العالمية الأولى وكانت بريطانيا تمثل عنصر التوازن في أوروبا بمرونة سياستها بحيث تلقي بثقلها مرة مع دولة وثانية مع أخرى، فيحصل استقرار.(22)، ومنه حصل اشتقاق قانون "توازن الرعب" وهو تكافؤ القوة العسكرية بين دولتين متنافستين يجعل كلاً منهما تتهيب شن الحرب على الأخرى خوفاً من العواقب، وهو في امتلاك القنابل النووية أظهر(23) فهي ترعبنا بأساطيلها وصواريخها وأموالها، لكن الجهاد يرعبها أيضاً ويوجعها، ويجبرها على أن تفتش عن "توازن" وهدوء، وجنديها مهزوم نفسياً إذ المجاهد شامخ.


    التفاوض والدبلوماسية سلوكان يستمران الحرب
    وإذا كان الأمر كذلك، تبعاً لحقائق علم حركة الحياة ومعادلاته: فإن المجاهد مدعو لتجريب صنوف التأثير والأخذ بكل أنواع التعامل، وقد يليق بعد تحقيق الإنهاك للعدو: الدخول في مفاوضات معه وفي حديث دبلوماسي يقصر به الطريق وتتوفر متاعب وتحقن دماء.
    ونظرية حركة الحياة تعترف بهذا المسلك، وتراه بعداً استراتيجياً في محاولة السيطرة، وهو يقوم على أصل "الحلم" الأخلاقي، فالأخلاق والعقل يكون بهما ضبط لفوضى الحركات.
    فليس مدح الحركات يعني صلاحها، بل شطرها سوء وفوضى، فيلزم تنظيمها وكبح جماحها أن تطيش أكثر، بحركة الحلم السلبية المنتجة، وهي في التحليل وعند الفحص حركة تتجه في كل الاتجاهات، لتعقل العاصفة بعقال، على النمط الذي يرويه منصور الكريزي(24):
    سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب***وإن كثرت منه إلي الجرائم
    فما الناس إلا واحدٌ من ثلاثة:***شريف، ومشروف، ومثل مقاوم
    فأما الذي فوقي: فأعرف فضله***وأتبع فيه الحق، والحق لازم
    وأما الذي دوني: فإن قال صنعت عن*** إجابته عرضي، وإن لام لائم
    وأما الذي مثلي: فإن زل أو هفا***تفضلت، إن الحلم للفضل حاكم

    فهنا نجد الحلم يتوزع بحكم الضرورة لمقابلة الجبهات المتعددة التي يغزو منها العدوان، بمعنى أنه انتشار نسبي مقابل انتشار، ومستويات مقابل مستويات، ويضيف ذلك لنا صفة في معرفة الحركة: أنها قد تتوزع في أكثر من وجهة ومستوى، فيرد عليها بتوزيع مثيل، وليست هي دائماً تتركز في اتجاه واحد.
    وهكذا تختلط الدبلوماسية في المحيط الإسلامي بأخلاق الحلم، ويعبر الشاعر عن ذلك بقوله:
    ولربما ابتسم الوقور من الأذى***وضميره من حره يتأوه
    ولربما خزن الحليم لسانه***حذر الجواب وإنه لمفوه

    وأنشد المبرد:
    قد عشت في الناس أطواراً على خلق*** شتى وقاسيت فيه اللين والفظعا
    والفظع: الأمر الشديد المهول الذي لا يطاق.


    إتقان البناء الداخلي وتفويض رجال الاستعلاء يكون قبل الاقتحام
    وتكاد أحاديث السياسة وخطط التناوب بين القتال والدبلوماسية وأخلاق الحلم تدخل "رائد التمكين" في شبه متاهة، لكثرة وجوه الاختلاف في فهم السياسة، واعتمادها على تخمين وفراسات وأذواق، وهذه حالة سلبية تكون معالجتها من خلال منهجيتنا الأساسية في استحضار القوانين الجزئية لحركة الحياة، ومعادلاتها، وظواهرها، وعندئذ يكون فقه الدعوة هو عامل الترجيح، وما في كل قاعدة من منطق.
    فمن الظواهر الحيوية التي يمكن استحضارها في هذا المجال أنه:
    ليس كل الدهر يوماً واحداً*** ربما انحط الفتى، ثم ارتفع(27)
    فهذا الارتفاع أو عكسه الانحطاط: حركتان من حركات الحياة المتزاحمة.
    وقيل في نفس المعنى:
    والناس في هذه الدنيا على رتب***هذا يحط، وذا يعلو فيرتفع(28)
    وكما هو الحال في الأفراد: يكون في التجمعات والأحزاب والدول.
    وهذه الظاهرة تبطل زعم من يقول أن فلاناً جاء ليبقى إلى الأبد.
    أو أن الدولة الفلانية لا تقهر، ويبني خطته وفق هذا المفاد.
    بل كل شيء متوقع.
    ولأن مدار ذلك: النفوس، وهي قابلة للتأثر.
    ومن قوانين الحياة: أن اليسر بعد العسر لا يكون فقط في صورة منافع شاخصة، بل مجرد إشغال المهموم الحزين هو حل ورحمة ربانية لئلا يستهلك نفسه.
    وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه:
    (لا يأتي على الناس زمان يضجون منه إلا أردفهم الله أمراً يشغلهم عنه)(29).
    فهذا من الأقدار الربانية التي تحرك الحياة بعد وقوفها، والانشغال بالأمر الطارئ يذهب بتراكمات الآلام، ويكون علاجاً نفسياً.
    فالوطأة على الفلسطيني أصبحت ثقيلة، فجاء فوزه وإقحامه في الحكم إيناساً، لينشغل بالحيثيات اليومية الكثيفة، وبقلنا وقالوا، وأرادوا، عن الأثقال.
    وكذلك العراقي: محنته شديدة، فأتت اختلافات الدول العالمية والإقليمية في تقدير الحلول للقضية العراقية وكأنها ملهاة تسلية عن صرامة الواقع.
    ومن الظواهر: ظاهرة الانحدار في الأخلاق والصفات، وتغير الزمان إلى ما هو أسوأ، وهي ظاهرة ملازمة للحياة الحديثة، ويشهد شاهد بعد آخر من المتأسفين، ليس في أمصار الحضارة فقط، حيث التوسع المدني يجلب معه ظاهرة الانحدار، بل حتى في المجتمع البدوي، كمثل مجتمع شنقيط وعموم موريتانيا، حيث لمس أمحمد بن المطلب قبل أكثر من قرن هذه الأسواء فقال يصف فقدان الثقات ويقول في أصحابه:
    كرام صفت أخلاقهم وتمحضت***وليس الصريح المحض مثل الممزج
    أولئك أخداني فأصبحت بعدهم***أساير خلفاً نهجهم غير منهج
    يرون جميلاً ما أتوا من قبيحهم***فيا للإله للسفاه المروج(30)
    ومن جيد ما قاله شاعر شنقيط عبد الله بن محمد العلوي في وصف اعوجاج الناس:
    زمان توانى في المصالح أهله***وكلهم نحو المفاسد راكض
    ولم يبق إلا مغمض متباصر***يخاف أذاه مبصر متغامض(31)
    فنحن نجاهد في أرض ملغومة بغريب الطباع والأخلاق والمناورات والتطلعات الشخصية والطموحات الذاتية، قبل أن تكون ملغومة بالديناميت، ولذلك يلزم مجموعة المجاهدين فقه تويق، وتحليلات لنفوس المتصدين، وتصدير أصحاب الموازين الشرعية والترتيبات الإيمانية والأخلاصية، وتجاوز صرعى التعصبات الفئوية والجهوية والقبلية، ورواد الشللية وأتباع الزعماء الذين يوافقون على الخطأ الواضح ولا يقولون لزعيم: أخطأت، ونحن بحاجة إلى تقديم من يحافظ على الثوابت، والخطط الأولى، وأهداف التأسيس، ولا يلين إذا طالت المعركة ويتملص من التزامات البيعة، وباطل زعم كل ميداني يحتكر الفضل لنفسه لأنه في الخندق والمواجهة، ويحرم الذين في الخطوط الخلفية والخارجية من الفضل وحقوق المشاركة في صنع القرار، كمثل باطل رجال السياسة والمفاوضين الذين يبرمون الأمور دون تشاور مع مقاتل ورجل ميدان، والإقرار بتكامل الفئتين أصل في فهم حركة الحياة.
    والقيادي عندنا هو داعية له ولع أن يقايس أمره ويقارن نفسه بالآخرين، ويقتفي أثر السلف حين كان يقول أحدهم لصاحبه:
    "هلم: أقاصك"
    (يعني: أينا أبعد عن الشر؟)(32)
    فذلك هو الفخر، والبعد عن الشر ونوايا السوء هو أرفع التحديات ودلالات البطولة، وهذه المسافة البعيدة هي دلالة خيرية مؤكدة وعلامة إيمانية حميدة، والحرام بين، والشبهة تدركها القلوب اليقظة مهما غطتها تفلسفات، وأوضح براهين كشفها: أن يلجأ المجاهدون إلى القول العتيق الأول القديم، والعرف الراسخ، وسيرة جيل التأسيس ورهط الرواد.
    فإذا بقيت بقية لوثة: فإن من قوانين تحريك الحياة وعاداتها: أن بعض الظواهر السلبية السيئة التي يصعب تغييرها: يغيرها الله بالتقادم ومرور الزمن وانتظار بلوغها أقصى زخمها ثم ميلها إلى الفتور.
    ومن ذلك ظاهرة الأنفة الجاهلية التي يسميها أهل اللغة "النعرة" بضم النون وليس فتحها كما هو شائع، وبفتح العين لا تسكينها.
    قال أبو الدرداء رضي الله عنه (إذا رأيت نعرة الناس ولا تستطيع أن تغيرها فدعها، حتى يكون الله يغيرها أي: كبرهم وجهلهم)(33).
    فعبارة "الله يغيرها" حكاية لحركة حيوية غير مرئية، تترك أثرها، وتلك جزئية من قوانين القدر في الحركة اليومية، وقد تتخذ النعرة المعاصرة في الجماعات شكل رأي خططي محسوم لا مجال لتعديله والحوار فيه، ولم تحسمه شورى ولا فتوى العدول ولا مناظرات الفقهاء ولا تأملات المجربين، ولكن حسمته عند صاحبه اختيارات أهل بلدته أوجهته أو قوميته أو صنفه، وعلى الصواب أن يتكيف حسب مرامه، وليس عليه أن يتكيف مع الصواب.
    فباستحضار مثل هذه الظواهر والعوامل في حركة الحياة يستطيع المسلم العصري إدراك المقدار الوسطي الصحيح من التعامل السياسي وعلاقته بالممارسة الجهادية، ثم إدراك ما يلزم الممارسة الجهادية من عمل تنظيمي رديف، وأداء تخصصي، وتخطيط لاستثمار معطيات الحياة كلها بشمول وتكامل، بل وما يلزم من تنقيح للعقيدة، والبراءة من الخوارجية وعقائد التكفير والتخوين وقلة التقوى في شأن الدماء، وإن شطراً من الممارسات الجهادية المعاصرة قد حرفتها مثل هذه الأخطاء في التأصيل، فزادت الأمر سلباً زيادة على سلبيات غموض الأهداف والوسائل والآليات وجنوحها إلى مهاجمة المدنيين والقطاعات المدنية ومرافق الخدمات، مما ضرب مثالاً مشوهاً لمعنى الجهاد تنكره قواعد وقوانين الحركة الحيوية.


    المعادلات الحيوية هي نظام ضابط صارم
    ومعنى ذلك كله: أن التداول المنهجي لأعمالنا وأشكال أنشطتنا هو الذي يعصمنا من المغامرة والتهور والأساليب الخاطئة، وذلك يلزمنا بمزيد توغل في المحاكمات المنطقية والطرق العقلانية وتحكيم القواعد المنهجية وأصول التخطيط، لمنع المتاهة وتبديد الطاقة والحيلولة دون حصول نتائج عكسية جراء الارتجال والنظر السطحي.
    وأتم ذلك وأحسنه وأقربه إلى الإتقان: أن تصطفي مجموعات الريادة القيادية لأنفسها نظاماً من المعادلات والأنساق المستخرجة من كتلة الظواهر الحيوية وجزئيات محركات الحياة، فتحاول الالتزام بها والرجوع إليها كلما عصفت عاصفة وتراكمت ضغوط وحصلت أحوال حرجة، فتكون هذه المعادلات والنسقات ذات الدلالة التخطيطية هي المشيرة إلى التصرف الصحيح، ويكون إليها الاحتكام عند اختلاف التقدير، وخير مقاييس الاحتكام ما كان سابقاً على وقت الأزمة وموجوداً ومتفقاً عليه في أيام وفرة الحوار الفكري والتأمل النظري، ولا يعني ذلك أن لا يكون فكرنا عملياً ونمنعه من مجاراة المصالح الطارئة والضرورات والعوامل المستجدة، ولكن أن نميز الثابت والمتغير، ونصون الثوابت عن آثار الانهيارات النفسية التي تعرض نفسها في صورة ضرورة ضاغطة، وعن الاستعجال، ونفاذ الصبر، وعن هواتف الشيطان حين يدعو إلى تقاسمات وقناعة بنصف وثلث وربع، وإلى استطابة حفنة حمص نخرج بها من المولد هي خير من حرمان.
    والنسق، أو المعادلة، أو القانون الحيوي: هو ترتيب منطقي وتجريبي لمفردات من الحركة الحيوية. فهناك حركات، وهناك ترتيب للحركات، وقيمة هذا الترتيب ليست أقل من قيمة الحركة نفسها.
    من ذلك قول ابن المبارك في الترتيب التنازلي لأحسن ما يؤتى المرء، أنه: غريزة عقل، فأدب حسن، فأخ صالح يستشيره، فصمت، وإلا فالموت أفضل(34).
    وهذه نصيحة من إمام كبير، فلو فرضنا أن ألفاً من الناس في كل جيل يأخذون بنصيحته، فإنهم سيتأدبون إن لم يجدوا الذكاء الذي يشاركون به في إنشاء حركة من حركات الحياة، فهنا تكون قد ضمنت ألف موقف وسطي يمنع إنشاء شيء سلبي، فإن لم يكونوا كذلك: فالرضا بأن يكونوا تبعاً لعقلاء، وهذا بقاء في دائرة الإيجاب أيضاً، فإن لم يجدوه أو صعب عليهم الولاء: وقفوا على الحياد بالصمت، وهذا منع من السوء، فإن لم يستطع هذا الرهط الصمت فمعنى ذلك بداية هدم وفساد وفتنة، والموت خير من ذلك في ميزان العقل.
    فهذا النمط من الترتيب يضمن بعض التأثير بالتأدب والتشاور والحياد، إذا كانت النفوس سوية، وهي مواقف تساهم في تشكيل الحركة الحيوية العامة في وقت ما، ومرد ذلك تأسيس عنصر "الشعور بالمسؤولية" في نفس قليل الذكاء، وذلك عمل تربوي مبني على ظاهرة نفسية، والذي أتاح ذلك هو إدلاء بمنطق يقنع المقابل بجدوى الترتيب التنازلي للحركات، وحمد الإنصاف، وشكر البراءة من العيب، وعلى ذلك فإن بعض فن السيطرة على الحركة الحيوية يتحكم به مجرد ترتيب الأولويات وبيان درجات أهمية الأفعال والمواقف وردود الفعل، فينشأ من ذلك تكثير الخير وتقليل السوء، وذلك يعني أن العاقل بعقله ومشاركته في وصف الواقع والواجب والعلاج: يستطيع أن يحمل الآخرين على تصرف نافع يتيح السيطرة، وذلك مثال لجدوى تحليل مثل هذه الوصايا وبيان جذورها النفسية والتربوية ومن الأمثلة الواضحة لمثل هذه الممارسات: مواقف الناس في اعتزال لتأييد جهاد إذا لم يستطع القتال بنفسه، خوفاً أو لسبب آخر.
    ومثال آخر لمعادلة حيوية أنشأها الشاعر عبدة بن الطبيب، فأيد صوابها عمر الفاروق رضي الله عنه ويمثلها قول عبدة:
    *والعيش: شح، وإشفاق، وتأميل*
    فقال عمر: (على هذا بنيت الدنيا)(35).
    وهو تفسير عمري لبعض مظاهر حركة الحياة، فإن تعبير العيش هنا يرادفها، والشاعر يتكلم عما يراه يحرك الحياة وأنها ثلاثة محركات.
    فالشح: كناية مختصرة عن ظاهرة إشباع الحاجة التي أسرف بعض الفلاسفة فجعلها أصل التصرف الإنساني، وهي أحد أصوله دون شك، والعمل الاقتصادي كله يتركز في اصطلاح الشح هذا.
    والإشفاق: تردد بين الأخلاق النبيلة الواعظة لمسرف، فتجعله يبطئ، والجبن الذي يعتري المتردد، فيتراجع أو ينهض، والحساب الذي يستولي على حائر، فيتقن التقدير، ويخطط ويلتزم التأني والتقدم المدروس.
    وأما التأميل: فهو فتح أبواب الأمل، لتؤدي إلى كل الإيجابيات النفسية، فيتقد الطموح والتحدي، ويكون امتلاء الروح بالعزة والإصرار، وتتعمق الثقة بالنفس، لتطل من نوافذ التفاؤل، ويكون طلب الاستدراك، وتحصل نهضة بعد كل عثرة، ويتجمع وعي بعد الكبوة، فيكون تخطيط وتستولي منهجية.
    قال عمر: على هذا بنيت الدنيا. ويقول علم الحياة: وعلى هذا بنيت حركة الحياة.


    وختاما....................

    تحالف الومضة العقلية والأنغام القلبية في الحكمة الجديدة

    فتأهب للدخول أيها المؤمن الإبداعي، فإني قد دققت لك الأبواب...
    وكنت أثناء التوغل في اكتشاف حركة الحياة مل المحب الولهان الذي يصف حبيبته.
    فحقيقتي: أني:
    قلب يمل على لسان ناطق*** ويد تخط رسالة من عاشق
    مزج المداد بعبرة شهدت له***من كل جارحة بحب صادق(36)

    فهذه رسائل عاشق لمعنى اسمه "فقه الدعوة" يحييه، ولفن طارفٍ لقبه "فلسفة التخطيط" فيذيعه، وقد أفنيت أكر من نصف قرن من الزمان ولهاناً أطيل التفكير في صفات هذا المحبوب قبل أن أنطق بوصفه، فقلبي هو الذي يتكلم ها هنا، وأشواقي وعواطفي هي التي تباشر الإملاء على لساني وقلمي، وقد كانت السراء تستدعي المعنى السهل المنفتح الذي يمتلئ بالبشائر التي تعد دعاة الإسلام بخير وتمكين، فإذا استرجعت خبر المضايق فلربما نزلت دمعة تختلط بالحبر الذي يترجم خواطري، فمن م امتزجت نبضة الصدق بومضة العقل، فاتحدتا، فكانت نفضة الانطلاق لفكرٍ جديد في عرصات الدعوة الإسلامية يكون الإيماء إلى براهينه وشواهده وخواطره وافتراضاته وتحليلاته تحت عنوان "علم استراتيجيات الحركة الحيوية" فمن اقترب منه وجد فوق الهمس: حباً واضطراما، وحرقة وهياماً، وثورة وغراماً.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 28 مارس 2024 - 22:05