hmsain.ahlamontada.com

نشكرك على التسجيل فى هدا المنتدى زرنا باستمرار و شاركنا رايك فاليد الواحدة لا تصفق ورايك يهمنا كما ان حضورك الدائم يحفزنا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

hmsain.ahlamontada.com

نشكرك على التسجيل فى هدا المنتدى زرنا باستمرار و شاركنا رايك فاليد الواحدة لا تصفق ورايك يهمنا كما ان حضورك الدائم يحفزنا

hmsain.ahlamontada.com

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
hmsain.ahlamontada.com

منتدى يهتم بنشاطات حركة مجتمع السلم بلدية عين بوزيان


    الديمقراطية في مجتمع مسلم 1/3

    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 2093
    تاريخ التسجيل : 01/03/2010
    الموقع : hmsain.ahlamontada.com

    الديمقراطية في مجتمع مسلم 1/3 Empty الديمقراطية في مجتمع مسلم 1/3

    مُساهمة  Admin الإثنين 27 يونيو 2011 - 21:48

    عبدالله بن ناصر الصبيح / كاتب وباحث سعودي

    ورغم ما في الديمقراطية من عيوب ومخالفات، إلا أن معالجتها ممكنة، وبعض دول المنطقة العربية سارعت في الأخذ ببعض مظاهر الديمقراطية، وكان من أبرز ما أخذوا به المجالس البرلمانية والانتخابات، وبعض تجاربها مشوهة، لم يحصد منها الشعب إلا الحصرم، وبعض التجارب تضمنت بعض معاني الشورى، فكانت خيرا من استبداد غاشم ظلوم. وهذه الورقة تضمنت مراجعات لمفهوم الديمقراطية وإمكانية تطبيقها في مجتمع مسلم. كما تناولت ما يمكن أن ينتج عن تطبيق الديمقراطية من تغيرات ثقافية وتغيرات في البنية الاجتماعية.
    بقلم د.عبدالله بن ناصر الصبيح

    * مقدمة:

    استقر في ذهن كثيرين في هذا العصر أن الديمقراطية من مواصفات الحكم الجيد، ومما رسخ هذا التصور عدم وضوح النماذج البديلة ودعاية الإعلام وما شاع في العالم العربي من نظم فاسدة متسلطة على رقاب الناس تمنع عنهم حقوقهم وتأبى تطبيق الشريعة وتحول بينهم وبين العيش في ظلها، مما دفعهم إلى التطلع إلى مخلص لهم، مما هم فيه من البلاء ورأوا أن في الديمقراطية فرجا.

    ولاشك أن الديمقراطية تنطوي على بعض مواصفات الحكم الجيد كسيادة القانون ومحاسبة الحاكم وفصل السلطات واستقلال القضاء، ولكنها لا تخلو من عيوب ومنها تأثير أرباب الأموال على نتائج الانتخابات، وعلى قرارات المجالس المنتخبة فيما يعرف باللوبي lobbying، وتنطوي أيضا على مخالفة شرعية تهدم أصل الإسلام وهي الاعتقاد بأن المرجعية في الحكم إنما هي للشعب وليست لله عز وجل.

    ورغم ما في الديمقراطية من عيوب ومخالفات، إلا أن معالجتها ممكنة، وبعض دول المنطقة العربية سارعت في الأخذ ببعض مظاهر الديمقراطية وكان من أبرز ما أخذوا به المجالس البرلمانية والانتخابات، وبعض تجاربها مشوهة برق خلب لم يحصد منها الشعب إلا الحصرم، وبعض التجارب تضمنت بعض معاني الشورى، فكانت خيرا من استبداد غاشم ظلوم.

    وهذه الورقة تضمنت مراجعات لمفهوم الديمقراطية وإمكانية تطبيقها في مجتمع مسلم. كما تناولت ما يمكن أن ينتج عن تطبيق الديمقراطية من تغيرات ثقافية وتغيرات في البنية الاجتماعية.

    وهدف الورقة بحث إمكانية تطبيق الديمقراطية في مجتمع هويته الإسلام، ذلك أن الديمقراطية بصيغتها المعهودة لا تتفق مع التصور الإسلامي في نقاط أبرزها ثلاث:

    1. تعارض الديمقراطية مع حاكمية الشريعة

    2. قد ينجح في الانتخابات الرئاسية من ليس مسلما أو من هو معارض للشريعة الإسلامية.

    3. مشاركة غير المسلمين في الانتخابات الرئاسية.

    والورقة جاءت في ستة أقسام موجزة:

    أولا: مفهوم الديمقراطية.

    ثانيا: مواصفات الديمقراطية.

    ثالثا: الثقافة الديمقراطية والتطبيع عليها.

    رابعا: المفاهيم الثقافية والأبعاد الاجتماعية للديمقراطية.

    خامسا: الديمقراطية والعالم العربي.

    سادسا: خاتمة

    وهذه الورقة أعددتها منذ بضع سنوات، واطلع عليها من استأنس برأيه فاستحسنها بعضهم وانتقدها آخرون، وقد تريثت في نشرها لأضيف عليها واستكمل ما يحتاج إلى إكمال، وقد استكملت جوانب منها وبقي الكثير مما يمكن إضافته واستدراكه ورأيت نشرها لعلها تستثير رغبة البحث عند من يعنيه هذا الموضوع. وما كان في الورقة من صواب فهو من الله عز وجل وما كان فيها من خطأ فهو مني وأستغفر الله منه. وما أردت إلا الخير وعسى أن أبلغ بعضه.

    أولا: مفهوم الديمقراطية

    "الديمقراطية"، كلمة اخترعت في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد لتصف نظام الحكم المستخدم هناك. ويجمع من تحدث عن الديمقراطية بأنها كلمة يونانية معناها حكم الشعب، أما كيف يحكم الشعب فيختلف بحسب تطور مفهوم الديمقراطية من عصر إلى آخر. و في الاستعمال المعاصر تعني الديمقراطية الحكومة المنتخبة من قبل المواطنين سواء كانت مباشرة أو بالتمثيل. وهذا المفهوم نشأ في القرن الثامن عشر الميلادي، ولكن لم يوجد قبل عام 19 دولة ديمقراطية ليبرالية واحدة يتمتع جميع أفراد شعبها بحق الاقتراع العام كما أفاد بذلك فريد زكريا في كتابه (The Future of Freedom).

    ـ تطور الديمقراطية:

    في الثمانينات من القرن الثامن عشر، تطورت الحركات الاجتماعية التي تصف نفسها بالديمقراطية، وبسبب الصراع السياسي الذي نشأ بينها وبين طبقة النبلاء تغيرت الصورة السلبية عن الديمقراطية في أوربا فأصبحت إيجابية ورأى فيها العامة حركة مضادة لاستبداد الطبقة الارستقراطية، وكان الناس يرونها من قبل كلمة مرادفة للفوضى.

    وفي الفترة نفسها صدرت دساتير حددت صلاحيات السلطات ومنها الدستور الفرنسي والدستور الأمريكي.. وفي أول القرن التاسع عشر، ظهرت الأحزاب التي تتنافس على أصوات الجماهير، وهذا عزز من مكانة الديمقراطية في الفكر السياسي.

    وفي الفترة نفسها نشأت فكرة الديمقراطية التمثيلية وانتخاب أعضاء للبرلمان، ومن ثم بدأ التحول من الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية التمثيلية. وتوسعت الحقوق السياسية لتشمل أنواعا من الطبقات الاجتماعية. وبدأت تزول العقبات التي تحول بين بعض المواطنين وبين الانتخاب كاشتراط الثروة أوالملكية أو الذكورة أو العرق، وكانت شروطا لازمة في ديمقراطية أثينا.

    وفيما يلي عرض لديمقراطية أثينا ومقارنتها ببعض الديمقراطيات الحديثة.

    ـ ديمقراطية أثينا:

    ممن تحدث عن ديمقراطية أثينا، ول ديورانت (1419)، في كتابه قصة الحضارة، وفيما يلي نصوص من كتابه:

    "ولقد كان يحد منها أولا أن أقلية صغيرة من الأهلين كانت هي التي تستطيع القراءة، ويحد منها من الوجهة الطبيعية صعوبة الوصول إلى أثينة من المدن القاصية في أتكا.هذا إلى أن حق الانتخاب كان مقصورا على من ولد من أبويين أثنيين حرين، وبلغ الحادية والعشرين من العمر. وكان هؤلاء وأسرهم دون غيرهم هم الذين يستمتعون بالحقوق المدنية أو يتحملون مباشرة أعباء الدولة الحربية والمالية. وفي داخل محيط هذه الدائرة التي تضم 43 من المواطنين يحرصون على ألا تشمل غيرهم من سكان أتكا البالغين 315".

    "قلما يحضر أي اجتماع من اجتماعاتها إلا عدد قليل من أعضائها قلما كان يزيد على ألفين أو ثلاثة آلاف، وكان المواطنون الذين يعيشون في أثينة أو في ثغر بيرية يحضرون وكأنهم مصممون على أن يكون موطنهم هو المسيطر على الجمعية" (ج7، ص23).

    "وكان أرقاء أتكا جميعهم البالغ عددهم 115، وجميع النساء وجميع العمال وجميع المستوطنين الغرباء البالغ عددهم 28 وعدد كبير من طبقة التجار كان هؤلاء كلهم تبعا لهذا محرومين من الحقوق السياسية" (ص 22).

    من لهم الحق في الانتخاب لم يكونوا يجتمعون في أحزاب سياسية وإنما كانوا يقسمون إلى أنصار الألجركية أو أنصار الديمقراطية على أساس ميلهم إلى توسيع الحقوق السياسية أو تضييقها.

    "وكان كل ناخب يعد بهذا الوصف عضوا في الهيئة الحاكمة الأساسية وهي الأكليزيا أو الجمعية، وعند هذا الحد من الحكم لم تكن هناك حكومة نيابية" (ص23).

    " وكانت الجمعية تعقد جلساتها أربع مرات في الشهر، تعقدها في المناسبات الهامة في السوق العامة أو في ملهى ديونيس أو في ثغر بيرية. أما الجلسات العادية فكانت تعقد في مكان نصف دائري يدعى البنيكس على منحدر تل غرب الأريوبجوس وكان الأعضاء في هذه الحالات كلها يجلسون على مقاعد مكشوفة للسماء وتبدأ الجلسات عند مطلع الفجر ويفتتح كل دور بالتضحية بخنزير إلى زيوس" (ص23).

    "ولم يكن يصح عرض تشريعات جديدة إلا في الجلسة الأولى في كل شهر وكان العضو الذي يقترحها هو الذي يعمل على قبولها. فإذا تبين بعد هذا أن هذه الشرائع شديدة الضرر كان من حق أي عضو آخر أن يلجأ خلال عام من قبولها إلى ما يسمى عدم الشرعية، فيطلب أن تفرض على صاحب التشريع غرامة أو أن يحرم من حقوقه السياسية أو يعدم. وكانت هذه هي الطريقة التي تتبعها أثينة لمنع العجلة في التشريع. (ص24).

    "وكان لقرار عدم الشرعية هذا صيغة أخرى تجعل من حق الجمعية أن تعرض أي تشريع جديد قبل البت فيه على إحدى المحاكم لتبحثه من الناحية الدستورية أي من ناحية اتفاقه مع القوانين القائمة المعمول بها في البلاد. هذا إلى أنه كان على الجمعية قبل النظر في مشروع قانون أن تعرضه عن مجلس الخمس مائة ليبحثه أولا، كما يعرض أي مشروع قانون يقدم إلى مجلس الأمة الأمريكي في هذه الأيام قبل بحثه في المجلس على لجنة يفترض فيها أنها ذات علم خاص بموضوع المشروع وكفاية خاصة لبحثه. ولم يكن من حق مجلس الخمسمائة أن يرفض الاقتراح رفضا باتا بل كان كل ما يستطيعه أن يقدم تقريرا عنه مصحوبا بتوصية أو غير مصحوب بها" (ص 24).

    "وكان المعتاد أن يفتتح رئيس الجمعية دور انعقادها بعرض تقرير عن مشروع مقدم لها. وكانت الجمعية تستمع إلى من يطلبون الكلام حسب سنهم، ولكن يجوز حرمان أي عضو من مخاطبة الجمعية إذا ثبت أنه لا يملك أرضا أو أنه غير متزوج زواجا شرعيا أو أهمل القيام بواجبه نحو أبويه أو أساء إلى الأخلاق العامة أو تهرب من القيام بالواجبات العسكرية أو ألقى درعه في إحدى المعارك الحربية أو أنه مدين للدولة بضريبة أو غيرها من المال" (ص 24).

    "غير أن الخطباء المدربين وحدهم هم الذين كانوا يستخدمون حق الكلام لأنه لم يكن من السهل حمل الجمعية على الإصغاء للمتكلمين، فقد كانت تضحك من الخطأ في نطق الألفاظ وتحتج بصوت عال على الخروج عن موضوع النقاش وتعبر عن موافقتها بالصراخ الشديد والصفير والتصفيق باليدين وعن عدم موافقتها التامة بإحداث جلبة شديدة تضطر المتكلم إلى النزول عن المنصة وكان يحدد لكل متكلم وقت معين لايتجاوزه يقاس مداه بساعة مائية. وكانت طريقة الاقتراع هي رفع الأيدي إلا إذا كان للاقتراح أثر خاص مباشر في شخص ما، وفي هذه الحال يكون الاقتراع سريا" (ص24-25).

    "وكانت هناك هيئة أعظم من الجمعية منزلة ولكنها أقل منها سلطانا، وهي هيئة المجلس المعروف باسم البول Boule. وكان البول في أصله مجلسا أعلى شبيها بمجالس الشيوخ في الحكومات النيابية. ولكن منزلته انحطت قبل عصر بركليز حتى أصبح لجنة تشريعية تابعة للإكليزيا. وكان أعضاؤه يختارون بالقرعة وبالدور من سجل المواطنين، على أن يختار خمسون منهم عن كل قبيلة من القبائل العشر وألا تطول مدة خدمتهم أكثر من سنة واحدة، كان العضو في القرن الرابع يتقاضى خمس أبولات في كل يوم من أيام انعقاد المجلس...(ص25).

    "وكانت جلساته العادية علنية واختصاصاته تشريعية وتنفيذية واستشارية: فكان يفحص عن مشروعات القوانين المعروضة على الجمعية ويعدل صياغتها ويشرف على أعمال موظفي المدينة الدينيين والإداريين ويراقب حساباتهم ويشرف على الأموال والمشروعات والمباني العامة ويصدر مراسيم تنفيذية حين يتطلب العمل إصدارها، وتكون الجمعية غير منعقدة ويسيطر على شؤون الدولة الخارجية على أن تراجع الجمعية أعماله من هذه الناحية فيما بعد" (ص25-26).

    ـ القوانين:

    "يبدو أن القوانين كانت في نظر اليونان الأقدمين عادات مقدسة ارتضتها الآلهة وأوحت بها، وكانت لفظة ثميس themis في لغتهم تطلق على هذه العادات وعلى الآلهة التي يتمثل فيها نظام العالم الأخلاقي وائتلافه .. وكان القانون عندهم جزءا من الدين. وشاهد ذلك أن أقدم قوانين الملكية عند اليونان كانت ممتزجة بالطقوس الدينية وبقوانين المعابد".

    "وكانت المرحلة الثانية من مراحل تاريخ التشريع اليوناني هي جمع العادات المقدسة وتنسيقها على يد مشترعين thesmothetai، أمثال زلولسوس وكرونداس ودراكون وصولون. وأما أن دون هؤلاء الرجال وأمثالهم قوانينهم الجديدة أصبحت العادات المقدسة thesmoi قوانين من وضع الإنسان nomoi. وفي هذه الكتب القانونية تحرر القانون من سيطرة الدين وازدادت على توالي الأيام صبغته الدنيوية.

    "وكانت الخطوة الثالثة في تطور التشريع اليونان هي نمو الشرائع المطرد وتجمعها"(قصة الحضارة، 27-28).

    "ولم تبلغ الشرائع الأثينية ما كنا نتوقعه لها من الاستنارة، وهي لا تسمو كثيرا عن شرائع حمورابي، وعيبها الأساسي أنها تقصر الحقوق القانونية على الأحرار الذين لا يكادون يتجاوزون سبع السكان، وحتى النساء والأطفال كانوا خارجين عن نطاق المواطنين أصحاب الحقوق. ولم يكن في وسع النزلاء أو الأجانب أو الأرقاء أن يرفعوا الدعاوى إلى المحاكم إلا عن طريق مواطن يأخذهم في كنفه. وكان ابتزاز المال بطريق الإرهاب وتعذيب العبيد المتكرر .. كان هذا كله وصمة لنظام أثينة القضائي الذي كانت تحسدها عليه سائر بلاد اليونان للينه وعدالته إذا قيس إلى غيره من النظم القضائية.." (قصة الحضارة، ج7، ص 34).

    ـ النظام الإداري:

    "حلت القرعة منذ عام 487 أو قبله محل الانتخاب في اختيار الاركونين، ذلك أنه كان لابد من إيجاد طريقة ما لمنع الأغنياء من أن يجدوا سبيلهم إلى هذا المنصب بالمال ومنع السفلة أن يصلوا إليه بالملق والدهان. وأرادوا مع هذا ألا يجعلوا الاختيار وليد المصادفة المحضة، فكانوا يفرضون على جميع من تقع عليهم القرعة أن يجتازوا قبل القيام بواجباتهم اختبارا صارما في الأخلاق، أمام المجلس أو المحاكم. فكان على الطالب أن يثبت أنه من أبوين أثينيين وأنه سليم من العيوب الجسمية والخلقية يكرم أسلافه ويقوم بواجباته العسكرية ويؤدي الضرائب كاملة" ( 37).

    ـ "عدد الأركونين تسعة":

    "ولم يكن الأركونون إلا هيئة من هيئات كثيرة تشترك كلها في تصريف شؤون المدينة الإدارية تحت إشراف الجمعية والمجلس والمحاكم ويذكر أرسطاليس خمسا وعشرين من هذه الهيئات المختلفة ويقدر عدد الموظفين الإداريين في المدينة بسبعمائة موظف. وكان هؤلاء كلهم يختارون كل عام بطريق القرعة، ولم يكن في وسع أي إنسان أن يكون عضوا في لجنة بعينها أكثر من مرة واحدة..(وأثينة) لم تكن تؤمن بطريقة الحكم على أيدي الخبراء الإخصائيين" (ص 38).

    "وكانت المناصب العسكرية أكثر أهمية في نظرهم من المناصب المدنية، ولذلك لم يكن القواد العشرة يختارون بالقرعة بل كانوا ينتخبون انتخابا علنيا في الجمعية، وإن كانوا هم أيضا لا يبقون في مناصبهم أكثر من عام واحد.." (ص38).

    ـ تقويم:

    "تلك هي الديمقراطية الأثينية، أضيق الديمقراطيات وأكملها في التاريخ. لقد كانت أضيقها لقلة عدد من يشتركون في امتيازاتها، وأكملها لأنها تتيح لجميع المواطنين على قدم المساواة فرصة السيطرة بأنفسهم على التشريع وتصريف الشؤون الإدارية.

    وتتكشف عيوب هذا النظام واضحة على مر الأيام ، بل إن الناس قد أخذوا يتحدثون بها في أيام أرسطوفان. وكان من أظهر هذه العيوب التي كفرت عنها أثينة بخضوعها لإسبارطة وفيليب والإسكندر ورومة أن قامت فيها جمعية لا تسأل عما تفعل تدفعها عواطفها فتقرر أمرا ما في أحد الأيام لا يعوقها عائق من سابقة أو مراجعة ثم تعود في اليوم الثاني فتندم أشد الندم على ما فعلت وهي بندمها لا تعاقب نفسها بل تعاقب من أضلوها . ومنها قصر السلطة التشريعية على الذين يستطيعون حضور الإكليزيا وتشجيع الزعماء المهرجين ونفي القادرين من الرجال نفيا أفقد المدينة عددا كبيرا من خبرة كبرائها وملء المناصب العامة بالقرعة والدور وتغيير الموظفين في كل عام وإشاعة الفوضى في الأداة الحكومية ومنها نزاع الأحزاب الذي لم ينفك يحدث الارتباك في توجيه أعمال الدولة الإدارية"(ص42).

    من الفروق بين ديمقراطية أثينا وديمقراطية اليوم:

    اختيار الحكومة التنفيذية في ديمقراطية أثينا بالاقتراع وليس بالانتخاب، والحكومة التنفيذية لا تتخذ قرارات وإنما تسير شؤون الدولة. والأثينيون لا يعدون الانتخاب نظاما ديمقراطيا وإنما يرونه حكومة أقلية.

    أما التشريعات فتتخذ في مجالس دورية assemblies، يشارك فيها جميع الذكور من سكان أثينا ممن لهم حق المشاركة وفقا للضوابط التي وضعها الأثينيون.

    وأحد الأسباب التي جعلت من الديمقراطية في أثينا ممكنة، أن عدد السكان قليل، فهم لا يتجاوزون ثلاثمائة ألف ومن يحق لهم الانتخاب منهم فئة محدودة جدا وهم الذكور البالغون الأحرار. وعلى هذا، فالعبيد والأطفال والنساء والأجانب والغرباء المقيمون في أثينا لا يحق لهم المشاركة في المجلس assembly.

    ولهذا بعض مؤرخي الديمقراطية لا يرى أن المجتمع الأثيني كان مجتمعا ديمقراطيا بالمعنى الحديث، حيث لم يكن يتمتع بالديمقراطية إلا في حدود 16 في المائة من المجتمع، فهي إذن ديمقراطية تفتقد الاقتراع العام، وهو أحد أبرز سمات الديمقراطية المعاصرة.

    وبعد سقوط أثينا ضعفت الديمقراطية. والجمهورية الرومانية التي جاءت بعد أثينا كانت تختار زعماءها وتصدر قراراتها من خلال المجالس الشعبية، ولكن هذا النظام كان يعمل لمصلحة الأغنياء.

    وفي الديمقراطية الحديثة المشاركة مقصورة على المواطنين وهي محصورة في التصويت، والتصويت لايتم إلا مرة واحدة في عدد من السنين، والمنتخبون يختارون ممثليهم في السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية.

    بعد هذا العرض الموجز لمفهوم الديمقراطية وتطورها، لابد من الإشارة إلى أمور:

    1. لم يكن مفهوم الديمقراطية ثابتا مستقرا على معنى واحد ، وإنما كان يتغير بحسب حاجة الناس. يقول أليكسس توكفيل أحد منظري الديمقراطية ومؤرخيها في القرن التاسع عشر في كتابه "الديمقراطية في أمريكا":

    "إن للنظام الديمقراطي أنواعا، يصح لكل شعب أن يختار منها النوع الذي يتفق وتاريخه وتقاليده، وإن الدستور الامريكي ليس إلا واحدا من هذه الأنواع، وإنه بالرغم من الفوائد العديدة التي يجنيها الأمريكيون منه، فإن هذه الفوائد يمكن الحصول عليها بنوع آخر من أنواع الدساتير والقوانين الديمقراطية".

    2. رغم تبدل المفهوم من ديمقراطية مباشرة إلى ديمقراطية تمثيلية، إلا أن غاية الديمقراطية كانت واحدة لم تتغير، وهي تمكين الشعب من إدارة أموره بنفسه وإرجاع الأمر إليه.

    ثانيا: مواصفات الديمقراطية

    الديمقراطية مجردة لا تعني إلا حكم الشعب، وربما تكون الحكومة الناتجة عن ذلك حكومة عادلة أو ليبرالية أو ديكتاتورية أو دينية أو ما شئت أن تتخيله من الأنواع، مما يمكن أن يختاره الشعب.

    وبعض الباحثين يفرقون بين نوعين من الديمقراطيات الديمقراطية الليبرالية أو الحرة والديمقراطية غير الليبرالية أو المحافظة. والديمقراطية غير الليبرالية مرفوضة عندهم تماما لأنها قد تأتي بأناس إلى الحكم لا يؤمنون بالديمقراطية ولا يحافظون على الحريات الأساسية للأفراد. ومن التجارب الديمقراطية التي يرفضها الكتاب الغربيون تجربة إيران لأنها ديمقراطية دينية، تشترط مواصفات دينية معينة لمن يحق له ترشيح نفسه للانتخابات.

    يقول فريد زكريا في كتابه (مستقبل الحرية) (The Future of Freedom): "الديمقراطية تعني للناس في الغرب الديمقراطية الليبرالية" ويوضحها بأنها "نظام سياسي لا يتميز فقط بانتخابات حرة نزيهة وإنما بسيادة القانون وفصل السلطات وحماية الحريات الأساسية وهي : حرية الكلام والتجمع والدين والملكية" (ص 17).

    ولهذا يرفض فريد زكريا وآخرون إدخال الديمقراطية إلى المجتمعات التي لم تنتشر فيها القيم الليبرالية، ويقولون إن دخول الديمقراطية للمجتمعات التقليدية معناه سيطرة القيم التقليدية ووصول من لا يؤمن بالديمقراطية للحكم. ويرى زكريا أنه يجب أولا الدعوة للقيم الليبرالية فإذا انتشرت أمكن إدخال الديمقراطية إلى العالم العربي، أما الدعوة إليها الآن فيرى أنها سوف تأتي للحكم بالإسلاميين أعداء الديمقراطية.

    إذن الديمقراطية التي يراد نشرها في العالم العربي هي الديمقراطية الليبرالية، فما الديمقراطية الليبرالية؟

    جاء في موسوعة ويكيبيديا الحرة (Wikipedia, the free encyclopedia) عن مواصفات الديمقراطية الليبرالية مايلي:

    • دستور يحد من صلاحيات السلطة ويحمي الحقوق المدنية

    • اقتراع عام

    • حرية التعبير ويشمل حق الكلام وحق التجمع وحق الاعتراض

    • حرية الروابط التنظيمية

    • المساواة أمام القانون

    • حق الملكية الخاصة وحق الخصوصية

    • معرفة المواطنين بحقوقهم ومسؤولياتهم المدنية

    • المجتمع المدني الراسخ

    • القضاء المستقل

    • فصل السلطات ووجود نظام المحاسبة والموازنة بين أنظمة الحكم checks and balances.

    وهذا الإيضاح للديمقراطية الليبرالية ليس كافيا لأن أحد عناصرها لم يذكر وهو حقوق الفرد أو الحرية الفردية. وأوضح مما جاء في هذه الموسوعة ماورد في وثيقة صادرة من الولايات المتحدة الأمريكية عن قيم الديمقراطية الأساسية وعنوان الوثيقة هو "إطار للتربية المدنية" 2، وهي صادرة من مركز التربية المدنية ومجلس الرقي بالمواطنة والمجلس الوطني للدراسات الاجتماعية. هذه الوثيقة حددت قيم الديمقراطية وحددت أيضا معها القيم الدستورية وجاء في الورقة إن المصدر لهذه القيم هو إعلان الاستقلال للولايات المتحدة الأمريكية والدستور الأمريكي ووثائق أخرى مهمة وكتابات وخطب الأمة الأمريكية. ووصفت الوثيقة هذه القيم بأنها هي ما يوحد جميع الأمريكيين.

    قسمت الورقة القيم إلى قسمين، هما:

    1. العقائد الأساسية Fundamental Beliefs، وهي بمثابة أسس الليبرالية.

    2. المبادئ الدستورية Constitutional Principles

    أولا: العقائد الأساسية

    1. الحياة: احترام حياة الإنسان وعدم التعرض لها

    2. الحرية وتشمل

    o الحرية الشخصية : حق التفكير والتصرف من غير تقييدات الحكومة

    o والحرية السياسية : حق المشاركة في العملية السياسية

    o والحرية الاقتصادية: حق البيع والشراء والتملك وحق التوظف من غير تدخل الحكومة

    3. البحث عن الحياة الطيبة أو السعادة: لكل فرد الحق في البحث عن الحياة الطيبة بطريقته الخاصة مادام لا يتعارض مع حقوق الآخرين. و لايوجد تحديد لمفهوم الحياة الطيبة متفق عليه بين المواطنين أو محدد من قبل الدستور أو الأنظمة والتشريعات فكل هذه تدخلات من قبل الدولة في حرية الفرد، وهي تدخلات غير مقبولة، ولهذا تحديد المفهوم متروك للفرد.

    4. الخير العام: العمل من أجل مصلحة الجميع

    5. العدل: العدل في معاملة الناس في ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات

    6. المساواة: معاملة الجميع على حد المساواة بغض النظر عن قيمهم الدينية والاجتماعية والعرقية ومستوياتهم الاقتصادية.

    7. التنوع: في الثقافة والحضارة واللغة والدين

    8. الحقيقة يتوقع المواطن ألا تكذب عليه الحكومة وألا يكذب هو عليها وأن تطلعه الحكومة على المعلومات المتعلقة بعملها

    9. السيادة الشعبية: قوة الحكومة تأتي من الشعب ولهم السلطة العليا على الحكومة

    1. الوطنية: تعبير المواطنين عن محبتهم وطنهم بالقول والفعل وتضحيتهم من أجله.

    ثانيا: المبادئ الدستورية

    1. سيادة القانون: يجب أن يخضع الجميع - الشعب والحكومة - لسلطة القانون

    2. فصل السطات: السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية، فيجب أن تستقل هذه المؤسسات كل منها عن الآخر، فلا يصح أن تجمع مؤسسات الصلاحيات عندها وحدها.

    3. الحكومة التمثيلية: للناس الحق في أن ينتخبوا من يمثلهم في الحكومة.

    4. الرقابة وتوازن القوى: صلاحيات السلطات الثلاث يجب أن تكون متساوية فلا واحدة منها تستأثر بالسلطة دون البقية، ولكل فرع الحق في مراقبة بقية الفروع

    5. الحقوق الفردية: لكل فرد الحق في الحياة والحرية والحرية الاقتصادية والبحث عن الحياة الطيبة . وهذه الحقوق حددها ميثاق الحقوق ويجب على الحكومة حمايتها وعدم وضع أي قيود عليها

    6. الفيدرالية: الولايات والحكومة الفيدرالية يتقاسمون السلطة كما يحددها الدستور

    7. حرية الدين: حرية التدين وعدمه وممارسة أي دين من غير قيد من الحكومة

    8. السيطرة المدنية على الجيش: الشعب هو الذي يسيطر على الجيش من أجل حماية الديمقراطية.

    بعد هذا العرض الموجز لمواصفات الديمقراطية، لابد من الإشارة إلى أمور:

    1. في جميع مراحل الديمقراطية المرجعية محصورة في الشعب، ولا سلطة أعلى من سلطته، فالشعب هو الذي يمنح الحاكم مشروعية الحكم وهو ينزعها منه ويعزله، وهو الذي يقرر الدستور وهو الذي يغيره إذا أراد. وهذا المفهوم يثير قلقا كبيرا عند المسلم لأنه يعتقد أن الحكم لله عزوجل وليس للشعب، والله سبحانه وتعالى يقول :"إن الحكم إلا لله". ولمعالجة هذا الإشكال لابد من تحليل سلطة الشعب هذه التي منحته إياها الديمقراطية كي نستبعد منها ما يتعارض مع التصور الإسلامي ونقر منها ما يقره الإسلام.

    سلطة الشعب في الديمقراطية تشمل أمورا:

    i. التشريع من خلال وضع مواد الدستور وصياغة القوانين والنظم التي تحكم البلد

    ii. تفسير القوانين والأنظمة.

    iii. اختيار الحاكم وتنصيبه.

    iv. عزله

    v. مراقبة عمله ومحاسبته

    هذه خمس وظائف داخلة في سلطة الشعب، وليست كلها مما يمنعه الإسلام، بل إن بعضها حقوق منحها الله عز وجل للناس لا يحق لأحد أن يحول بينهم وبينها. والسلطة التي ليست من حق الشعب وإنما هي حق لله عز وجل هي سلطة تشريع الدستور. أما سلطة صياغة بعض الأنظمة والقوانين التي تقنن المباح أو تحدد العقود وكذلك المذكرات التفسيرية فهي من حقوق الشعب من خلال علمائه المؤهلين لذلك. وهذه التشريعات إنما هي فيما لم يرد فيه نص من مصالح الناس المرسلة كبعض أنظمة المرور والعقوبات التعزيرية، وتخطيط المدن وتقييد المباحات محافظة على مصالح الناس، و نظم التعليم، والشريعة لا تمنع من وضع هذه التشريعات والنظم مادامت في مصلحة الناس ولا تتعارض مع نص شرعي أو مع مقاصد الشريعة.

    وأما حق اختيار الحاكم وعزله ومراقبة عمله ومحاسبته، فهي حقوق جعلها الله للناس، ومن هذا الباب يمكن أن نقول إن للشعب على الحاكم سلطة عليا ولكن هذه السلطة محكومة بالشريعة الإسلامية. (يتبع).
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 2093
    تاريخ التسجيل : 01/03/2010
    الموقع : hmsain.ahlamontada.com

    الديمقراطية في مجتمع مسلم 1/3 Empty الديمقراطية في مجتمع مسلم 2/ 3

    مُساهمة  Admin الإثنين 27 يونيو 2011 - 21:52

    والديمقراطية لم تطبق في الغرب إلا بمحتوى علماني. ولما حاولت بعض الحكومات تطبيقها في العالم الإسلامي عامة وفي العالم العربي، خاصة فشلت بسبب تناقضها مع دين الشعب. وكان من في سدة الحكم، يرون أنفسهم مغتصبين لحق الشعب، ويعلمون أن الشعب لو أتيح له الخيار لاختار سواهم، ولهذا استبدوا بالحكم وشاعت الدكتاتوريات في العالم الإسلامي، وحالوا بين من يرفع راية الإسلام وبين حقه في خوض الانتخابات، بل حالوا بين الشعب وبين حق الاقتراع السليم، فكانت الانتخابات تزور، والشعب يروع فلا ينتخب غير من في يده السلطة..والديمقراطية لم تنشأ في الأصل لمعارضة شريعة الله عز وجل، لأن اليونان لا يعرفون الدين الحق، وإنما نشأت لمقاومة استبداد الفرد
    بقلم د.عبدالله بن ناصر الصبيح

    2. الديمقراطية والعلمانية:

    هذه لها علاقة بالمسألة التي قبلها، والديمقراطية لم تطبق في الغرب إلا بمحتوى علماني. ولما حاولت بعض الحكومات تطبيقها في العالم الإسلامي عامة وفي العالم العربي، خاصة فشلت بسبب تناقضها مع دين الشعب. وكان من في سدة الحكم، يرون أنفسهم مغتصبين لحق الشعب، ويعلمون أن الشعب لو أتيح له الخيار لاختار سواهم، ولهذا استبدوا بالحكم وشاعت الدكتاتوريات في العالم الإسلامي، وحالوا بين من يرفع راية الإسلام وبين حقه في خوض الانتخابات، بل حالوا بين الشعب وبين حق الاقتراع السليم، فكانت الانتخابات تزور، والشعب يروع فلا ينتخب غير من في يده السلطة.

    والعلاقة بين الديمقراطية والعلمانية سبق أن ناقشتها في مقال عنوانه "نحو تصور إسلامي للديمقراطية"، وسبقت الإشارة إليه، ومما ذكرته هناك، أن الديمقراطية لم تنشأ في الأصل لمعارضة شريعة الله عز وجل، لأن اليونان لا يعرفون الدين الحق، وإنما نشأت لمقاومة استبداد الفرد.

    ولما انتشرت النصرانية في أوربا لم يكن معها شريعة للحكم بين الناس وكان رجال الدين يحكمون بين الناس بخرافات ينسبونها لله عز وجل ويزعمون أنه سبحانه أوحى بها إليهم. والعلمانية كانت ثورة ضد هذا الضلال ولم تكن ضد شريعة الله لأنها غير موجودة أصلا. وموقف الديمقراطية من الدين ليس ثابتا فهو يختلف في بريطانيا عنه في أمريكا. ويصح أن نقول إن الديمقراطية وعاء يمكن أن يملأ بثقافة البلد الذي نشأت فيه.

    3. مبدأ الأغلبية ومبدأ حماية حقوق الأقلية:

    الديمقراطية تعاني من إشكالية حقيقية أدركها منظرو الديمقراطية ولم يستطيعوا معالجتها معالجة سليمة. وهذه الإشكالية هي إمكان استبداد الأكثرية واعتدائها على حقوق الأقلية. وتوكفيل أحد أشهر منظري الديمقراطية الأوائل حذر في كتابه "Democracy in America"، من تعدي الأكثرية على حقوق الأقلية وسماه طغيان الأكثرية tyranny of the majority. وكان الحل المقترح لا يعدو عن تبني الليبرالية مع الديمقراطية وأن الدستور يمكن أن يتضمن ما يحمي حقوق الأقلية وحماية الدستور تكون بوضع شروط صعبة تمنع من تعديله بيسر. وهذا في الحقيقة غير كاف لأن من وضع الدستور هو الشعب وهو يستطيع تعديله إذا أراد مهما كانت صعوبة ذلك التعديل. والتعديل إذا تحقق متوافق مع الديمقراطية لأنه جاء وفقا لمبدأ الأغلبية. أما تطبيق الديمقراطية بمحتوى ليبرالي، فهو يحتوي على تناقض لأن من مبادئ الديمقراطية "مبدأ الأغلبية Majority Principle"، والليبرالية من مبادئها مبدأ حقوق الفرد التي لا يحق لأحد الحد منها، ويدخل في ذلك حقوق الأقليات. والتناقض يقع حينما تقرر الأغلبية أمرا يحد من حقوق الفرد أو من حقوق الأقلية، ومبدأ الأغلبية يوجب القبول بهذا الأمر بينما مبدأ الحقوق الفردية يوجب منعه.

    4. الديمقراطية والليبرالية:

    الديمقراطية المطبقة في الغرب الآن ذات محتوى ليبرالي، وكثير من منظري الديمقراطية يرون أن الليبرالية مقدمة على الديمقراطية ولو تعارضتا وجب تقديم الليبرالية والتضحية بالديمقراطية. ومن هذا الباب يعارض فريد زكريا وآخرون إدخال الديمقراطية إلى العالم العربي قبل انتشار الليبرالية.

    والليبرالية لم تكن مرتبطة بالديمقراطية في أصل نشأتها ولهذا نشأت ديمقراطيات ذات محتويات مختلفة فهناك الديمقراطية الاشتراكية أو الشعبية وكانت مطبقة في الاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية والديمقراطية الدينية كالتي نراها في إيران. وهذا يؤكد ما قاله المفكر الأمريكي زبغنيو بريجنسكي: "إن الديمقراطية يمكن أن تكون هي إسهام الغرب الأساسي، إلا أن الديمقراطية ما هي إلا وعاء يجب أن يمتلئ بمحتوى...". وإذا كان الغرب رأى أن المحتوى الأفضل هو الليبرالية فمن حق سواهم أن يبحثوا عن محتوى يناسب وضعهم وتستقيم معه أمورهم.

    5. المحتوى والوسيلة:

    هذه المسألة هي بمثابة الأصل لما سبق من مسائل، فالديمقراطية يمكن النظر إليها باعتبارها ذات محتوى فلسفي أو ينظر إليها على أنها وسيلة يتوصل بها إلى تحقيق ما فيه مصلحة الشعب.

    فإن نظرنا إليها على أنها مذهب فلسفي، فأي مذهب يمكن تعديله والإضافة عليه ولازال المفكرون يعملون ذلك وبهذا تتطور المذاهب الفكرية والتصورات الفلسفية. وللديمقراطية من ذلك نصيب كبير، فقد تغيرت من عصر إلى عصر ومن بلد إلى بلد، ولهذا فالمسلم يستطيع أن يصوغ الديمقراطية التي تتفق مع دينه وتناسب حاجته. ومن اعترض على التعديل في الديمقراطية لم يكن اعتراضه على مبدأ التعديل ولكن على بعض محتوى التعديل، وهو اعتراض متناقض ليس له مستند علمي ومبعثه العصبية الأيديولوجية ليس إلا.

    ومن نظر إلى الديمقراطية على أنها وسيلة اختار من سبلها ما يصلح لبلده وتستقيم معه أموره. ويبدو من تاريخ الديمقراطية أنها وسيلة لتحقيق العدل وحفظ حقوق الشعب وتحقيق قدر من الرضا بينهم، ولهذا تغيرت وسائل تحقيق هذه الأهداف بما يحفظ الأهداف. في اليونان كانت القرعة العشوائية هي وسيلة اختيار الحكومة التنفيذية، أما السلطة التشريعية فجميع المواطنين مشاركون فيها. وكان هذا مناسبا لوضع اليونان حيث كان السائد بينهم هو ما يعرف بدولة المدينة. ولكن فيما بعد لم تعد تلك الوسائل مجدية في تحقيق أهداف إقامة الحكومة ولم يعد ممكنا جمع كافة المواطنين في مكان واحد لإصدار التشريعات فعالج منظرو الديمقراطية هذا الأمر بانتخاب ممثلين للشعب يفوض لهم الشعب مسؤولية الحكم، وألغيت القرعة العشوائية لاختيار الحكومة التنفيذية. وإدراك هذه التحولات مهم جدا في صياغة نظرية جديدة في الحكم الصالح أو الحكم الأولى، الذي يحفظ حقوق الناس ويقوم به العدل ويتحقق به الاستقرار.

    والخطوة الأولى من أجل صياغة نظرية في الحكم تكمن في تحديد مقاصد الحكم أو مقاصد الإمامة كما كان علماؤنا يعبرون عنها ومن ثم يتفق الناس على الوسائل التي تتحقق بها تلك الأهداف.

    إن أهداف الإمامة أو الحكومة الصالحة، مما يشترك في كثير منه البشر، فهي تدخل ضمن التجربة البشرية العامة المشتركة وبعضها يمكن أن يكون خاصا بثقافة معينة أو بشعب معين أو بعصر أو ظرف معين. وفي صياغة الأهداف يمكن أن ننظر فيما قرره علماؤنا في كتب الإمامة والسياسة، ويمكن أن ننظر فيما اختاره الآخرون من خلال التجربة البشرية العامة. ولأنه ما من أمة إلا ونصبت لها حاكما يسوسها واهتدت إلى مبادئ وقيم رأت أنها ضرورة إما لجلب مصلحة أو دفع مضرة، ومن ذلك مثلا مبدأ فصل السلطات الذي يمنع سلطة من الاستبداد على بقية السلطات.

    6. الحرية الفردية:

    ليست الحرية الفردية من مبادئ الديمقراطية ولكنها من مبادئ الليبرالية وبسبب الارتباط بين الديمقراطية والليبرالية في التطبيق ظن البعض أن الحرية الفردية من أصول الديمقراطية، ومع ذلك فمناقشة هذا الأصل ضرورية لوضع نظرية سياسية في مجتمع مسلم. ومناقشة هذا الأصل يندرج تحت مناقشة الليبرالية، وهو مبدأ واسع ـ يندرج تحته مما له علاقة بالديمقراطية ـ ثلاثة أمور كل منها مرتبط بالآخر، وهي:

    1. حدود حرية الفرد

    2. حدود صلاحية الحكومة في التدخل في حياة الناس وتقييدها

    3. حقوق الأقليات

    أولا: الحرية الفردية

    جاء في وثيقة "إطار للتربية المدنية"، التي سبقت الإشارة إليها توصيف واضح للحرية الفردية، وهذا التوصيف هو بمثابة الأساس لهذا المفهوم: "البحث عن الحياة الطيبة أو السعادة: لكل فرد الحق في البحث عن الحياة الطيبة بطريقته الخاصة مادام لا يتعارض مع حقوق الآخرين". وحددت الوثيقة ثلاثة أنواع لحرية الفرد، وهي:

    1. الحرية الشخصية: حق التفكير والتصرف من غير تقييدات الحكومة.

    2. والحرية السياسية: حق المشاركة في العملية السياسية، ومن ذلك حق التجمع والاعتراض والمشاركة في العملية الانتخابية من غير تدخل الحكومة.

    3. والحرية الاقتصادية: حق البيع والشراء والتملك وحق التوظف من غير تدخل الحكومة.

    والنظرية الليبرالية ترفض أي تقييد لحرية الفرد من أي مصدر كان ماعدا التقييدات التي يلزم الفرد بها نفسه بطوعه واختياره.

    والقيد الذي تفرضه الفلسفة الليبرالية على حرية الفرد هو أن ينشأ عنها اعتداء مباشر على حرية الآخرين. وقد نتج عن هذه الحرية المطلقة آثار سلبية على الأسرة والمجتمع والأخلاق فلم تعد الأسرة هي الأسرة المعهودة بل أعاد المجتمع تعريفها ولم تعد الأخلاق هي الأخلاق المعهودة بل أعاد المجتمع تعريفها أيضا. فالتأثير لم يكن تأثيرا سلوكيا يرى المجتمع أنه خطأ ومن ثم يقوم بالتصحيح بل تغير معه مفهوم الخطأ والصواب في الأسرة والمجتمع. وأعظم التغيرات شأنا هي التغيرات المعرفية التي يستسلم لها المجتمع ويرى أنه يجب عليه أن يتكيف وفقها فيعدل بموجب ذلك نظمه وقوانينه وبنيته الاجتماعية، وهي إن كانت صوابا، سعد بها المجتمع، وإن كانت خطأ، شقي بها المجتمع شقاء عظيما يصعب تعديله.

    الحرية الفردية المطلقة التي لا ضابط لها إلا الإرادة الفردية مرفوضة في الإسلام، وذلك التقييد الذي يلغي معه إرادة الفرد ويجعله يعيش في مجتمع من الممنوعات ويقلص دائرة المباح مرفوض في الإسلام كذلك سواء كان في الحرية الشخصية أو السياسية أو الاقتصادية. والشريعة جاءت بضوابط في ذلك ومهمة العلماء البحث عنها وإبرازها ونشرها بين الناس. والضوابط الشرعية زاحمتها رغبات الناس وشهواتهم ورغبات ذوي النفوذ والحكومة والعرف والتقاليد، وظن كثيرون أن الضوابط الشرعية هي مايمارس في المجتمع بينما عند التحقيق ليس الأمر كذلك.

    والحرية الشخصية لا يمكن دراستها بعيدا عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا المبدأ لايمكن تناوله منفصلا عن مسائل الاجتهاد والمصلحة والمفسدة.

    ثانيا: حدود صلاحية الحكومة في التدخل في حياة الناس وتقييدها

    يختلف معنى الليبرالية من عصر إلى آخر، ففي وقت من الأوقات كانت ليبرالية الحكومة تعني أن مهمة الحكومة محصورة في جمع الضرائب وحفظ الأمن وصد العدوان الخارجي وحفظ الأمن الداخلي وتنفيذ القانون وما سوى ذلك متروك للناس في مناطقهم ومدنهم ومحلاتهم، يقرر فيه كل قوم ما يرونه الأصلح لهم. وما كان منه خاصا بالأفراد لا تعلق له بالآخرين فللفرد أن يختار ما يشاء. وهم بذلك لا يرون للدولة مسؤولية تجاه المواطن في تقديم الخدمات العامة مثلا أو التعليم أو في حفظ الأخلاق وقيم المجتمع. وفي وقت آخر تأثرت الفلسفة الليبرالية بالاشتراكية فكانت الحكومة ترى أنها مسؤولة عن تقديم الخدمات وتأمين مستوى معيشي للمواطنين مع مراعاة أن للفرد حرية التصرف والسلوك. ومع سقوط الاتحاد السوفيتي تخلت الليبرالية عن الجانب الإنساني فيها ورأى عدد من مفكريها أن الدولة ينبغي أن لا يكون لها تدخل في حياة الناس.

    ثالثا: حقوق الأقليات

    حقوق الأقليات تشمل أمورا منها: حق التمثيل النسبي في السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية وحق التعبير عن الهوية وحق الاستفادة من الخدمات أسوة بغيرهم وحق المشاركة في المجتمع المدني، وحق التساوي في الفرص أسوة بالأكثرية، وبعض هذه الحقوق تصطدم مع التصور الإسلامي ولاسيما إذا كانت حقوقا مطلقة أو متعارضة مع حقوق الأكثرية، مثل حق الدعوة إلى دين الأقلية أو مذهبها أو تولي الولايات العامة.

    وحقوق الأقليات من القضايا التي يحتاج المفكر المسلم أن يقدم فيها تصورا يراعي فيه حقوق الأقلية والأكثرية ودرء مفسدة الاضطراب الداخلي. والتصور عن حقوق الأقليات مرتبط بالتصور عن طبيعة المجتمع المسلم، وهذه المسألة ـ أعني طبيعة المجتمع المسلم ـ مما يحتاج إلى زيادة تحرير وبحث. إن المجتمع المسلم عبر التاريخ ليس هو المجتمع الذي لا يعيش فيه إلا المسلمون فقط أو المجتمع المتجانس، إنه مجتمع يعيش فيه مع المسلمين أقليات مذهبية ودينية وعرقية. ونحتاج هنا معادلة نحمي بها حقوق كل طرف فلا الأكثرية تطغى على الأقلية وتسلبها حقوقها ولا تستبيح الأقلية أيضا حقوق الأكثرية بحجة المحافظة على حقوق الأقلية.

    ومسألة الحقوق في التصور العلماني، وحسب ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 عن هيئة الأمم المتحدة وكذلك التصور الليبرالي، وكذلك الشأن في الديمقراطية محور الحقوق هو الإنسان فهو المستفيد وهو الذي يقررها. ولهذا من استطاع أن ينال شيئا عن طريق الانتخابات، فهو الأحق به، ليس هناك حق ثابت، وإنما الحق تبع للقوة الانتخابية.

    وما يحدث هنا هو صورة عن الصراع في الحياة كلها سواء كان صراعا في الغابة أو صراعا في المجتمع أو صراعا في السلم أو في الحرب. الحق ليس له استقلال بذاته بل هو تبع للقوة، والقوة ربما تكون قوة جماعات الضغط lobbying، كما في النظام الديمقراطي أو قوة السلاح كما هو في ساحة الحرب أو قوة الناب والمخلب كما في الغابة أو القوة الاجتماعية كما في المجتمعات التقليدية

    أما في التصور الإسلامي فالحق قائم بذاته وضعف أصحابه لا يجعل منه باطلا ولا يسقطه عمن استحقه. ومصدر الحق ليس الإنسان بل هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يشرع لعباده من الحقوق ما تستقيم به حياتهم وتتأيد به الفضيلة ويتحقق به العدل. والأقليات الدينية في المجتمع المسلم لها حقوق ثابتة سواء وافقت عليها الأكثرية أو عارضتها.

    7. نظام الانتخابات:

    هذه من المسائل الدقيقة في الديمقراطية وهي تعكس ما تنطوي عليه من تنوع وأنها في الحقيقة ديمقراطيات متعددة. وحبذا لو نشط لهذا الموضوع بعض المتخصصين في العلوم السياسية فجمع هذه النظم المتنوعة في مقال واحد ووازن بينها. وأنا هنا أعرض بإيجاز طريقة انتخاب الرئيس.

    طريقة انتخاب الرئيس في أمريكا تمر بمراحل:

    الأولى: أن يرشح من يرغب نفسه ثم عليه أن يدخل في تنافس مع المرشحين الآخرين أمام أنصار الحزب.

    الثانية: الفائز هو الذي يدخل الانتخابات الرسمية فيختار الشعب بينه وبين مرشح الحزب الآخر.

    الثالثة: يجتمع ممثلو الولايات في المجمع الانتخابي فيختارون الرئيس وعادة يختارون من فاز في المرحلة الثانية.

    وفي بريطانيا توجد صورة أخرى مختلفة فرئيس الوزراء يختاره الحزب وليس الشعب والشعب يصوت للحزب من خلال اختيار ممثليه، والحزب الفائز هو الذي يختار رئيس الوزراء، ومن يتولى رئاسة الوزارة هو رئيس الحزب الفائز.وكما أن الحزب هو من يختاه فهو أيضا من يعزله. ولعل المتابع يلاحظ أن مؤهلات رؤساء الوزراء في بريطانيا غالبا أفضل من مؤهلات الرؤساء الأمريكيين. وسبب ذلك أن المؤثر في اختيار الرئيس في أمريكا هم العامة وهم يتأثرون بالإعلام والخطابة والصورة الظاهرة، أما في بريطانيا فالمؤثر في اختيار رئيس الوزراء هو الحزب نفسه والحزب أعرف بأفراده وأحرص على اختيار المؤهل في إدارته. والصورة التي رأيناها في بريطانيا هي التي نلاحظها في اختيار رئيس الوزراء في تركيا وكذلك في إسرائيل. أما اختيار رئيس الدولة في تركيا فالذي ينتخبه ليس هو الشعب وإنما هو البرلمان بعد إجراءات محددة.

    وفي إيران المرشح للرئاسة لا يقدم لعامة الشعب للانتخاب العام إلا بعد أن توافق عليه مؤسسة مصلحة تشخيص النظام، وهذه المؤسسة تنظر في مؤهلاته ومدى إخلاصه لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

    والغرض من إيراد هذه الصور المتعددة هو تبديد وهم استقر في أذهان كثيرين، وهو أن الانتخابات ليس لها إلا صورة واحدة، وهي أنه يتساوى فيها العالم مع العامي والمتعلم مع الجاهل. وهذه بلا شك صورة من الصور ولكنها ليست مطردة في كل أمر من أمور الديمقراطية كما أنها ليست المعمول به في كل قطر.

    ثالثا: الثقافة الديمقراطية والتطبيع عليها democratization

    أي سلوك لا ينشأ بمعزل عن الفكر والبيئة المناسبة له، وإذا نشأ عن طريق القسر فإنه لايلبث أن يزول لأن الشروط الضرورية له غير موجودة.

    والديمقراطية شأنها شأن أي نظام سياسي أو اجتماعي إذا لم تكن تستند إلى الثقافة العامة والقبول الاجتماعي فإنها لا تنجح ولا تستقر ولاسيما أن من شروطها قبول الناس لها ورضوخهم لقيمها. ويرى دعاة الديمقراطية أنه من أجل ثقافة الديمقراطية في المجتمع فلابد من:

    1. الوعي بالحقوق: فالذي لا يعي حقوقه لن يسعى في تحصيلها ولن يدافع عنها إذا اعتدي عليها. ولهذا لابد من ثقافة حقوقية يعرف الناس بها مالهم وما عليهم.

    2. إتاحة المعلومات وعدم الحجز على قنواتها، وإتاحتها يساعد في تقويم تصرفات الجهات التنفيذية ومحاسبتها: هل كانت تصرفاتها بمقتضى المصلحة العامة أم لا؟

    3. توازن القوى في المجتمع الذي يمنع فئة من الاعتداء على فئة أخرى.

    أما الانتخابات وحدها، فيرى دعاة الديمقراطية أنه من خلال التجربة لا يكفي إدخال الانتخابات فقط إلى بلد ما لجعله بلدا ديمقراطيا ما لم يكن لديه تقليد راسخ في الديمقراطية، ولهذا لابد من تحول واسع في الثقافة السياسية وتكوين متدرج للمؤسسات الديمقراطية.

    وأحد مفاهيم الثقافة الديمقراطية ما يسمى بـ"المعارضة المخلصة"، وهذا المفهوم من الصعب تحقيقه في مجتمع لا يمكن الوصول فيه إلى السلطة إلا من خلال العنف. وهو يعني أن جميع المشاركين في العملية الديمقراطية مخلصون لقيمها الأساسية، يقبلون تداول السلطة، وهم وإن اختلفوا إلا إن كلا منهم يحتمل الآخر ويحترم قواعد العملية الديمقراطية ويعترف بها.

    والخاسر في الانتخابات يقبل حكم المنتخبين ويسمح بانتقال السلطة إلى من رضيه الشعب وينصرف آمنا على حقوقه وحرياته ويستطيع المشاركة في الحياة العامة.

    ومن أجل وجود ما يسمى بـ"المعارضة المخلصة"، حدد فلاسفة الديمقراطية ثلاث مسلمات يجب أن يلتزم بها المشاركون في العملية الديمقراطية وهذه المسلمات هي (علي محمد (د ت).أصول الاجتماع السياسي: السياسة والمجتمع في العالم الثالث. ج2):

    1. مبدأ حق الاختلاف Agreement to Differفلكل طرف الحق في المخالفة وإبداء وجهة نظره في القضايا المطروحة من غير ضير يصيبه . وهذا المبدأ لايمنع الأطراف الأخرى من مناقشته والرد عليه وبيان ما اخطأ فيه بل إن هذا من مقتضيات هذا الحق.

    2. مبدأ الأغلبية Majority Principleوذلك بأن تقبل جميع الأطراف ما تنتهي إليه المجالس المنتخبة من قرار تتخذه الأغلبية.

    3. مبدأ التسوية Principle of Compromiseويعني التقريب بين الآراء والتنازل عن بعض الحقوق من أجل مصلحة المجموع.

    وهذه المسلمات تحتاج إلى ثقافة ديمقراطية كي تنشأ وتصبح حاضرة في ذهن أفراد الشعب فتمنع من التمرد على قيم الديمقراطية وشروطها.

    وواضح من هذا العرض ومن خلال هذه القيم أن الديمقراطية أسلوب عملي لتقرير الصيغ العملية في حال الاختلاف وليست لتقرير الحق والباطل، ومن فشل مشروعه في التصويت فله الحق أن يعيد طرحه مرة ومرات بعد أن يحشد له الأدلة والمناصرين الذين يؤيدون إعادة طرحه للمناقشة مرة أخرى.

    في العالم العربي فشل مبدأ المعارضة المخلصة أو مبدأ تداول السلطة، وسببه اختلاف الأيديولوجيات بين المشاركين في العملية الديمقراطية فهناك اليساري والقومي والإسلامي والليبرالي المستغرب. أما الصورة في الغرب فبخلاف ذلك حيث قبل جميع المشاركين العلمانية مرجعا لهم.

    ـ التطبيع على الديمقراطية democratization:

    يرى منظرو الديمقراطية الأوائل أن الديمقراطية لا يصلح تطبيقها في كل مجتمع، وقد كان الإغريق يرون – كما يذكر روبرت دال في كتابه "الديمقراطية ونقادها" أنها لا تصلح إلا في دولة المدينة polis، فهي تطبق في الدولة التي تتكون من مدينة واحدة حيث يستطيع المواطنون حضور اجتماعات المجالس العامة assemblies والمشاركة في اتخاذ القرارات ويتمكن بعضهم من معرفة بعض. ويرى الإغريق أيضا أنه يشترط في المواطنين قدر عال من التجانس فالاختلاف العرقي والديني والتباين الثقافي من معوقات الديمقراطية في نظرهم.

    وهذان الشرطان مما لا تحفل به الديمقراطية اليوم، بل إن منظريها يرونها الأسلوب الأمثل لمعالجة التباين والاختلافات بين المواطنين. ولكن هذا الاختلاف لابد أن يكون محدودا بسقف أو محكوما بمرجعية واحدة، وإلا أصبح مدمرا للعملية الديمقراطية. وهذه المرجعية هي أن يقبل الجميع بمبادئ الديمقراطية في الاختلاف وأن صندوق التصويت هو الحكم.

    وهذا التباين في الشروط بين ديمقراطية اليوم وديمقراطية الإغريق سببه التحول من الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية التمثيلية.

    وفي الدراسات المعاصرة يرى عدد من دارسي الديمقراطية أن من العوامل التي تساعد في الاتجاه نحو الديمقراطية ما يلي:

    1. الثروة والتحديث: فالبلدان الثرية أسرع من غيرها في التحول إلى الديمقراطية ولكن ليس واضحا هل الثروة سبب للديمقراطية أو نتيجة لها أو ربما ليس بينهما علاقة إطلاقا.

    والثروة والتحديث ينتج عنهما عادة مستوى عال من التعليم والتحضر ونسبة كبيرة من المتعلمين وتطور وسائل الإعلام والاتصال، وبهذا يكون الناس أكثر وعيا بحقوقهم ومطالبة بها.

    وتظهر بعض الإحصاءات أن هناك علاقة إيجابية بين الديمقراطية ومستوى الدخل القومي فكلما كان المستوى مرتفعا كلما كان البلد أكثر تقبلا للديمقراطية وأكثر ممارسة لها. وهذه النتيجة ليست موضع تسليم من بعض الباحثين فالهند بلد ديمقراطي ولكنه ليس غنيا وبروناي بلد غني جدا ولكنه ليس ديمقراطيا.

    2. النظام الاقتصادي، ويعنون به الرأسمالية فالحرية الرأسمالية والحرية السياسية صنوان لا يفترقان، ويجادل في ذلك بعض الماركسيين إذ يرون أن الرأسمالية ليست في حقيقتها ديمقراطية وإنما تقوم على استغلال طبقة لأخرى، وينتقدون الديمقراطية الغربية بأنها حرية رأس المال والشركات العملاقة وليست حرية المواطن العادي.

    3. الطبقة الوسطى الواسعة، وهذا العامل له علاقة بالعامل الأول فيما يبدو، فوجود طبقة تتمتع بمستوى معيشي جيد يمنحها قدرا من التأثير ويحميها من الاستغلال ويسمح للديمقراطية بأن تنمو.

    4. المجتمع المدني ويقصد به المؤسسات غير الحكومية كالاتحادات، والأكاديميات والروابط العلمية، ومنظمات حقوق الإنسان، وكل هذه تشجع على الديمقراطية لأنها توحد الناس وتجعل لهم أهدافا مشتركة.

    5. التشابه السكاني، فالتعدد المذهبي في البلد والعرقي يدفع كل طائفة للاهتمام بقضاياها الخاصة بها بدلا من تقاسم السلطة مع الآخرين.

    ويفترض في الديمقراطية أن تعالج مشاكل الاختلاف العرقي والمذهبي والثقافي والاقتصادي فمن خلال التصويت وتعبير الأقلية عن رأيها وتمثيلها في المؤسسات التنفيذية والتشريعية تستطيع المحافظة على حقوقها والمطالبة بما فاتها منها، و يرى منظرو الديمقراطية، أن الدستور يجب أن يتضمن ما يحمي حقوق الأقليات من طغيان الأكثرية وقد تناول هذا الموضوع آلان تورين في كتاب خاص عنوانه: "ما هي الديمقراطية: حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية". ونشرته دار الساقي في لندن يحسن الرجوع إليه. (يتبع).
    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 2093
    تاريخ التسجيل : 01/03/2010
    الموقع : hmsain.ahlamontada.com

    الديمقراطية في مجتمع مسلم 1/3 Empty الديمقراطية في مجتمع مسلم 3/ 3 التوعية بالديمقراطية في المجتمع المسلم

    مُساهمة  Admin الإثنين 27 يونيو 2011 - 21:53

    الشعوب العربية مسلمة، ومن أجل تطبيق الديمقراطية في بلادها، لا بد من مراعاة الهوية، لأنها خيار الشعب. والديمقراطية إذا كانت متناقضة مع إرادة الشعب واختياره، كانت تعديا على هوية المجتمع وعبثا بحقوقه الأصيلة ومنازعة لإرادته. وديمقراطية هذا شأنها لا يمكن أن تحقق الحرية للناس وتحفظ حقوقهم، بل سوف تكون وبالا ودمارا على المجتمع، وتفضي إلى الضد من مقاصدها، فلا حرية ولا استقرار معها. إن نزع مواطن الصدام بين الشريعة والديمقراطية، والاحتكام إلى مرجعية واحدة محددة، هو أول شروط أي حركة في الاتجاه نحو الديمقراطية. ولا شك أن معضلة المسلم مع الديمقراطية هي في العلمانية التي تتضمنها. ورغم أن العلمانية ربما تكون من أسباب نجاح الديمقراطية في الغرب، لأنها موافقة لرأي الأكثرية، إلا أنها سبب رئيس في فشل الديمقراطية في العالم الإسلامي، لأن الديمقراطية جاءت بمشروع إقصاء الشريعة عن الحياة، فهي بهذا لا تمثل إلا رأي أقلية اختطفت الحكم على حين غفلة من الناس رغما عنهم، فهي خائفة أبدا لا تثق في اختيارات الناس، ولهذا لا تتيح لهم الفرصة ليختاروا ويعبروا عن إرادتهم. وكي تنجح الديمقراطية في العالم الإسلامي لابد من تحويرها، بحيث تكون متفقة مع إرادة غالبية الشعب، وذلك بأن تكون الشريعة هي المرجع الأساس في الحكم. وكما أن في كل دولة دستورا، تحترمه الديمقراطية ويرجع إليه أهلها في التحاكم، فكذلك الشريعة هي خيار الشعب، ويجب أن تكون هي الدستور الذي يرجع إليه الناس في التحاكم. إن النظم الاجتماعية والقوانين لن يكتب لها النجاح ولن تعمل بفاعلية إذا لم تكن تستند إلى رضا الناس.

    بقلم د.عبدالله بن ناصر الصبيح

    وعي الشعب بحقوقه هو الذي يحمي الديمقراطية، وبعض الانقلابات فشلت بسبب وعي الناس، حيث خرجوا إلى الشارع وتصدوا للانقلابيين ورفضوا التعاون معهم وأفشلوا عملهم. ومن الحوادث الشهيرة في ذلك انقلاب بعض الضباط الروس على يلتسين وسيطرتهم على البرلمان ومع ذلك فشل انقلابهم، ورجع يلتسين إلى السلطة مرة أخرى. ومنها انقلاب بعض الضباط بدعم من الشركات الأمريكية في فنزويلا على شافيز ولم يدم الانقلاب أكثر من ثلاثة أيام ثم فشل وأخرج الشعب الفنزويلي رئيسه من السجن وأعاده إلى سدة الحكم مرة أخرى.

    إن مقاومة الشعب ما كان لها أن تنجح لو كان الشعب يعتقد أن ليس له حق المقاومة أو ليس له حق في رفض ما يجبر عليه، أو لو كان يعتقد أن الأمر لا يعنيه، وأيضا ما كان للمقاومة أن تنجح لو كانت مشروع فئة صغيرة من فئات المجتمع. إن المقاومة نجحت لما كانت مشروع القطاع العريض من الشعب، ونجحت لما اعتقد هؤلاء أن حقا لهم اغتصب من قبل فئة معتدية وعليهم استعادته.

    والتوعية واجب على العلماء والمفكرين والمثقفين، ولكن يحول دون ذلك في العالم العربي ثلاث عقبات:

    1. اضطراب موقف العلماء من الديمقراطية:

    فالبعض يمنع والبعض يجيز مطلقا أو مع بعض التعديل، والبعض يجيزها من باب الضرورة. هذا الموقف المتذبذب المضطرب عرقل التوعية بحقوق الناس في المشاركة السياسية، بل جعل البعض يهون من الشأن السياسي ومحاسبة أصحاب الولايات العامة وتقويمهم ونصحهم، أما الديمقراطية، فكان نهج كثيرين التحذير منها والتقليل من شأنها وتسفيه من أخذ بها.

    وإنك لتعجب أن تجد من بعض طلاب العلم لسانا عريضا وقولا مجلجلا في التحذير من الديمقراطية بكل صورها، ولا تجد له قولا في التحذير من الظلم والاستبداد والمنكرات السياسية والاقتصادية التي يعج بها بلده.

    إن نتيجة ذلك عدم وعي الناس بحقوقهم والتقصير فيما يجب عليهم من النصيحة لولي الأمر ومحاسبته إذا انحرف بالولاية عن غايتها الشرعية وقصر في رعاية مصالح الناس. ومن رفض الديمقراطية فلا إنكار عليه، وهو وما اختار لنفسه والشريعة تتسع له، وكذلك من عجز عنها فلا عتب عليه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. والعاجز يلام في إنكاره على غيره التصدي لما عجز هو عنه، ومن رفضها يلام في تقصيره في تطوير تصور بديل يأخذ به ويلام في تقصيره في العناية بالحقوق العامة والفروض الكفائية. وهذا سوف أتناوله في العقبة الثانية

    2. تخلي بعض العلماء والدعاة عن حقوق العامة، والاكتفاء بالحديث عن الواجبات الفردية:

    فبيان أحكام العبادات ومسائل من العقيدة، كالصلاة والصيام وتوحيد الإلوهية والأسماء والصفات والتحذير من الشرك وأنواعه من الدين، ولا يستقيم الدين بدونها ولا يجوز لعالم أن يقصر في بيانها. ولكن إهمال حقوق الناس العامة المنتهكة وعدم بيان خطورة التعدي عليها يجعل الناس يستمرئون الظلم ويستكينون له، بل ربما ظن بعضهم أن السكوت عن ظلم الظالم من الطاعات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه.

    وإنك لتجد بعض الأخيار من المحتسبين من حصر إنكاره المنكر في المخالفات الأخلاقية والعقدية وبعض البدع لا يكاد يتجاوزها، أما الاستبداد في الحكم والانحراف في الاقتصاد والشؤون المالية والتخطيط فلا شأن له به. إن منكرا تتضمنه خطط التنمية التي توجه البلد سنوات أو منكرا تتضمنه عقود اقتصادية أو معاهدات وأحلاف دولية أو منكرا تتضمنه قوانين وأنظمة أشد ضررا وأعظم أثرا في المجتمع من منكر يقع فيه بعض آحاد الناس.

    3. عدم وجود تصور سياسي واضح:

    كثير ممن يعترض على الديمقراطية ليس لديه تصور واضح بديل عنها، فهو يرفضها وهذا لا اعتراض عليه، ولكن اعتراضه ربما تضمن ـ علم أو لم يعلم ـ الاعتراض على أي بادرة للإصلاح، ويبدو كأنه مؤيد للاستبداد مناصر للظلم والعسف. وانتقاد المفاهيم التي تواضع عليها الناس، سواء كانت سياسية أو غير سياسية، ضرورة من أجل تطوير المفاهيم والأفكار، ولكن هدم التصورات القائمة من غير تقديم بديل وترك الناس في فراغ فكري يملأه الاستبداد ويستمر به الظلم سيء أيضا، ومعوق للإصلاح.

    وبعض من ينتقد الديمقراطية يقابل بينها وبين الشورى وهذا ليس صحيحا لأن الشورى طريقة لاستخراج الرأي بينما الديمقراطية نظام حكم متكامل، يتكون من أجهزة متعددة، وليست مجرد انتخابات أو تصويت أو استطلاع للرأي.

    ونحن نعلم يقينا أن الديمقراطية ليست شرطا لتقدم المجتمع ورقيه وليست شرطا لاستقراره، فهناك مجتمعات تقدمت وازدهرت وهي ليست ديمقراطية كالمجتمع الصيني، ولكنها ـ أي الديمقراطية ـ ربما تكون من أفضل أنظمة الحكم في استيعاب الاختلاف وإتاحة الفرص للجميع. وهذا لا يعني أنها من غير عيوب، فهي مثلا لا تحقق الرضا دائما، وليس هذا من مقاصدها، ولكنها تحقق مخرجا من الخلاف، وتتيح فرصة لمن خسر التصويت لإعادة طرح موضوعه.

    والرضا قد يتحقق إذا كان المختلفون ينطلقون من أصل واحد ورؤية واحدة، أما إذا كانوا ينطلقون من رؤى متباينة، كالذي نجده عند الأقليات، فالتصويت لا يحقق الرضا. ولما صوت البرلمان الفرنسي ضد رموز العبادة والشعائر الدينية، رفض تلك النتيجة المسلمون واحتجوا عليها ورأوا في ذلك تعديا على حقوقهم، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، جدل طويل عن الإجهاض ومشروعيته لا يمكن أن يحسمه التصويت، وأمثال ذلك كثير. والمقصد من ذلك أن الديمقراطية لا تفضي دائما إلى الرضا بين المختلفين، بل ربما أفضت إلى نقيضه، ولكنها تقدم مخرجا من الاختلاف بالتصويت، وتضمن سبيلا لمن لم يكسب الجولة في إعادة طرح الموضوع للتصويت ضمن شروط محددة.

    والبعض يقترح الحكم الرشيد بديلا للديمقراطية، وخاصة لدول العالم الثالث. وقد تبنى هذا المصطلح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 3. والمصطلح ترجمة لمصطلح Good Governance، والبعض ربما ترجمه بالحكم الصالح أو الحكم الجيد. وهو تكييف للنظام الديمقراطي ليناسب تلك الأنظمة التي قد لا ترتاح كثيرا للنظام الديمقراطي الصارم الذي يعطي الشعب رقابة وسلطة عليا على الحكومة، ولا يخفى أن من أهم سمات الحكم الديمقراطي المشاركة الشعبية ورقابة الشعب على الحكومة من خلال ممثليه واستقلال السلطات الذي يمنع من الاستبداد. ومن اقترح هذا النظام ربط بينه وبين التنمية وجعلها الهدف الأساس لنظام الحكم الرشيد.

    ـ نظام الحكم الإسلامي:

    لا شك أن نظام الحكم الإسلامي، نظام مستقل عن النظام الديمقراطي، أو هذا المسمى بالحكم الرشيد أو الصالح. ولكن هذا النظام يفتقر إلى تطوير صيغه العملية الممكنة التطبيق.

    وبعض من كتب عنه، تناول قضايا عامة وأعرض عن الإشكاليات العلمية والعملية التي عانى منها تاريخنا السياسي. إن تاريخنا السياسي مصبوغ بالدم، وكثير من الخلفاء كان مصيرهم القتل أو الحجر عليهم من بعض المتنفذين، وحكام آخرون كانوا مستبدين سفاكين للدماء، خشية من إفلات الحكم من بين أيديهم.

    إن هذه مفاسد بينة ظاهرة، ولكن مع ذلك لم يجتهد أحد في البحث عن مخرج منها، وكان العالم يجتهد فيما هو أقل من ذلك مما هو من حاجات الأفراد ويؤلف فيه الكتب والرسائل لرفع الحرج عنهم بينما هذه المسائل التي تعم الأمة كلها لم تجد من يبحثها.

    إن المؤمل من الباحثين سواء أيدوا الديمقراطية أو عارضوها، بحث أمثال هذه القضايا والخروج بتصور للحكم، يصلح أن يطبق في المجتمع المسلم. ويمكن في ذلك الاستفادة من تجارب غيرنا فهذه المسائل مما تعاني منها أنظمة الحكم في كل ملة وعند كل شعب، وأينما وجد الحق فنحن أولى به. وأحسب أن التجربة الديمقراطية الغربية قدمت بعض الحلول ومنها فصل السلطات الذي يمنع تركزها عند شخص واحد فيحول بينه وبين الاستبداد، ومنها تداول السلطة الذي يتيح الفرصة للتخلص من الحاكم السيئ من غير حاجة لإراقة الدماء واستخدام القوة.

    وإن مما يساعد في تطوير الفكر السياسي إنشاء مراكز غايتها تطوير الفكر السياسي وتقديم صيغ عملية قابلة للتطبيق. وهذه المراكز يشترك فيها بعض علماء الشريعة والعلماء في العلوم السياسية فيكمل أحدهما الآخر. وأحسب أن العالم الآن، بعد الانهيار المالي المهول الذي ظهر في أمريكا، مستعد أن يسمع من المسلمين بعض ما عندهم، كما أحسب أن بريق بعض المنتجات الفكرية الغربية ربما انكسرت حدته بعد الانهيار المالي الكبير.

    إن أولئك الذين ينتقدون الديمقراطية ويرفضونها جمله وتفصيلا ملزمون بتقديم بدائل عملية لما يرونه ضلالا وانحرافا عن الطريق السوي، ولا يكفي منهم التحذير من ضلال الديمقراطية، والحديث العام المجمل عن نظام الحكم الإسلامي.

    رابعا: المفاهيم الثقافية والأبعاد الاجتماعية للديمقراطية

    ما التغيرات الاجتماعية والثقافية المرتبطة بتطبيق الديمقراطية، أو بعض صورها في العالم العربي؟

    من التغيرات المصاحبة للديمقراطية إذا طبقت ما يلي:

    o اتساع مفهوم المشاركة الشعبية: كانت المشاركة الشعبية محصورة في العمل الاجتماعي والإغاثي، ومع نمو العملية الديمقراطية اتسعت لتشمل المشاركة الشعبية العمل السياسي والمشاركة في القرار كما سوف تتسع لتشمل شرائح اجتماعية متعددة.

    o نمو المجتمع الأهلي أو المدني بتطور مؤسساته وتنوعها، وربما كثير من الأفكار تتحول إلى مؤسسات ينشأ عنها روابط اجتماعية ومؤسسات تقدم خدمات متنوعة للجمهور. وربما نتج عن ذلك أو يجب أن ينتج عنه توصيف قانوني لعمل المؤسسات.

    o تغير العلاقات السياسية بين الحاكم والمحكوم: في العادة إذا رغب الناس في أمر ما أو ضجروا من شيء ما، اتجهوا لصاحب القرار مباشرة، ولكن مع نمو العملية الديمقراطية، يصبح الناس أكثر نضجا فيتجهون إلى أنفسهم ليقرروا ماذا يريدون من خلال صندوق الانتخاب وإلى ممثليهم في المجالس المنتخبة ليعبروا لهم عما يرونه، وإلى مؤسسات المجتمع المدني لتدافع عن حقوقهم. وهذا التغير سوف يكسب الناس إدراكا أسمى لحقوقهم ووعيا بها.

    o الصراع بين سيادة النفوذ وسيادة القانون أو بين قانون القوة وقوة القانون. إذا تمت العملية الديمقراطية بصورة جيدة في بلد ما فلابد أن يبسط القانون سيادته على المجتمع ومن ثم ينحصر نفوذ ذوي النفوذ، فمع الشفافية والرقابة و المحاسبة وسيادة القانون تتحدد السلطات وتكون الصلاحيات إلى حد ما في حدود القانون وليس وفقا لنفوذ الأشخاص. وربما يحدث العكس سيما إذا كانت الخطوات الديمقراطية صورية فيصبح الانتخاب وجاهة اجتماعية تقضى بها المصالح والمطالب الخاصة.

    o اتضاح مفهوم الحقوق واتساعه ووعي الناس بحقوقها ومطالبتها بها، ومما يساعد في ذلك نمو المجتمع المدني وسيادة القانون وحرية التعبير.

    o سعي الأقليات في التعبير عن نفسها وقيمها ودينها بصورة علنية ومطالبتها بتمثيلها في المجالس التشريعية والتنفيذية. وهذه إحدى ضرائب الديمقراطية التي لا تتحملها المجتمعات الإسلامية المحافظة، ولهذا ربما رفضها بعض علماء الشريعة لما يرى فيها من إتاحة الفرصة لطوائف بدعية في الدعوة لبدعتها أو لمذاهب منحرفة في الإعلان عن انحرافها. وهذه المسألة تحتاج إلى إعادة نظر، فليس هذا التخوف مسلما به. بل إن أعظم ما تسعى إليه كثير من الأقليات الطائفية، الانغلاق حول ذاتها لأنهم يرون أن الانفتاح على الأكثرية والاختلاط بهم خطر عليهم. ألا ترى كثيرا من تلك الطوائف، تتكتم على أفكارها وعقائدها وتعيش فيما يسمى بجيتوات ghettosأو أحياء مغلقة. إن إتاحة التعبير للأقليات، سوف يتيح للمعارضين داخلها أن يعبروا عن آرائهم ضد ما يتلقونه من قياداتهم من فكر وتوجيه وبهذا تنشط حركة النقد داخل الأقلية، والفكر السري لا يمكن أن يصمد في الهواء الطلق. والأكثرية ينبغي أن تتقبل أفراد الأقليات ممن هو مستعد للاندماج معها وتقيم الحوار معهم. ولكن هل هذا الانفتاح وحرية التعبير للأقلية من غير ضوابط؟ بالطبع كلا، وأهم ضابط هو أن لا تتضمن حرية التعبير تعديا على قيم الأكثرية وعقائدها.

    o مفهوم الحرية ربما يتسع سواء في التعبير عن الحقوق والرأي، وفي التصرف والسلوك، ويتبع ذلك التوسع في مفهوم الحرية الفردية، وربما ينشأ عن ذلك أنوع من السلوك لا تتفق مع الاتجاه العام السائد في المجتمع.

    ولعل أكثر ما يؤثر في الحرية ثلاثة عوامل، هي:

    - الوصول إلى قنوات التعبير سواء كانت منابر أو فضائيات وأجهزة إعلام.

    - التوصيف القانوني للتعبير، ومع أهمية حرية التعبير، إلا أنه لابد من وضع ضوابط تحمي خصوصية الناس وتحمي دينهم من السخرية به وتحمي ثوابت المجتمع ووحدته من عبث العابثين.

    - المبادرة، فأولئك الذين يبادرون قبل غيرهم، ربما يكون لهم أثر على المجتمع أكثر من غيرهم وربما هم من يحدد سقف حرية التعبير.

    • تطور الفقه السياسي الذي يتناول الديمقراطية والانتخابات ومشاركة المرأة في السياسة. وربما ينشأ عن المخاض الفقهي خلاف بين المختلفين، فيضلل بعضهم بعضا وتتحزب فئة من المجتمع لرأي وأخرى لرأي آخر. ولعل مما يعين على تفادي ذلك الحوار بين العلماء والمفكرين والمثقفين. ومما يخفف حدة الخلاف في أي مفهوم تحليل المفهوم إلى مكوناته الأساسية.

    وتحليل المفاهيم سوف يساعد الباحثين على التمييز بين الخطأ والصواب فيها، وبين ما هو إيديولوجي محض وبين ما هو تجربة إنسانية، يمكن أن تكون مشتركة بين الناس. فالعدل مثلا هو مما تتوخاه النظرية الديمقراطية، وهو مطلب إنساني، بل هو فطرة في الناس، وبعض وسائل تحقيقه العملية، يمكن أن تكون تجربة مشتركة بين الناس، وهذه الوسائل يمكن الاستفادة منها وتطويرها.

    وتحليل محتوى الديمقراطية إلى مكوناتها الأساسية، سوف يعيننا في تحديد المخالف للشريعة والموافق لها، ويمكننا من وضع بدائل للمخالف ووضع قيود لما يظن أنه يفضي إلى مخالفة شرعية أو مفسدة.

    خامسا: الديمقراطية والعالم العربي

    قبل الحديث عن الديمقراطية في العالم العربي، أقدم بتمهيد ضروري، وإن كان لا يخفى على من درس الديمقراطية. الديمقراطية ليست شيئا واحدا ولا مفهوما جامدا لا يقبل التعديل والتطوير، بل هي متغيرة ومتطورة حسب المكان والزمان، وأذكر هنا شاهدين:

    1. تحول مفهوم الديمقراطية من المباشرة إلى التمثيلية في القرن الثامن عشر. وكان اليونان لا يرون غير المباشرة ديمقراطية، ويرون التمثيلية حكومة أقلية. كما سبق بيان ذلك في تطور مفهوم الديمقراطية.

    2. أعمال من يعرفون في التاريخ الأمريكي بالآباء المؤسسين، وهم من صاغ الدستور الأمريكي وأسس الحكومة الأمريكية؛ فهؤلاء لم يستخدموا لفظة الديمقراطية، وكانوا يفضلون عليها لفظة الجمهورية. والديمقراطية تعني عندهم الديمقراطية المباشرة فقط، أما الديمقراطية التمثيلية التي فيها يحكم ممثلو الشعب وفقا للدستور، فيسمونها الجمهورية. وكانوا مدركين لعيوب الديمقراطية، ومنها خطورة حكم الأغلبية في انتقاص حقوق الفرد أو الأقلية، بل إن أحد هؤلاء، هو جيمس ماديسون، في الورقة التاسعة من الأوراق الفدرالية، دافع عن الجمهورية وفضلها على الديمقراطية من أجل حماية الفرد من الأغلبية. وقد اجتهد هؤلاء في إيجاد مؤسسات ديمقراطية وإيجاد مجتمع منفتح من خلال دستور وميثاق للحقوق. وقد أبقوا من عناصر الديمقراطية ما رأوا أنه الأفضل وخففوها بتوازن القوى ووضعوا البناء الفيدرالي.

    والآن، ماذا بشأن الديمقراطية في العالم العربي؟

    الديمقراطية الحقيقية لم تطبق في العالم العربي فيما مضى، كما أنها قد لا تطبق فيه في المستقبل القريب، لأنها غير مرغوبة بكامل حذافيرها من جميع القوى السياسية الفاعلة في المجتمعات العربية.

    فالنظم الحاكمة لا تريدها لأن أحد مفاهيمها تحديد صلاحيات السلطة الحاكمة والشفافية وفصل السلطات، والاتجاهات الليبرالية والعلمانية لا تريدها، لأن أغلبية الشعوب العربية مسلمة ترغب في الإسلام وترفض العلمانية، ولا مكان لهذه الاتجاهات مع هذه الأغلبية. وبعض الاتجاهات الإسلامية تتحفظ عليها، لأنها تتضمن إلغاء حاكمية الشريعة.

    من أبرز معاني الديمقراطية، تداول السلطة وحرية الشعب في التعبير عن إرادته، وكلا هذين مفقودان في الديمقراطية العربية. ولم تشهد الديمقراطية العربية إطلاقا تداولا للسلطة، بل إن حقيقة النظام الديمقراطي لم تنشأ في العالم العربي: فلا زال تداخل السلطات واجتماعها في يد واحدة تستبد بها، ولازالت حرية التعبير ضعيفة، ووسائل الإعلام لازالت تزيف الرأي العام وتمارس تضليل المواطن، ولازال الفساد الإداري والمالي منتشرا، أما مشاركة المواطن في العملية السياسية سواء بالاختيار أو المراقبة والمحاسبة أو بالرأي وصناعة القرار فغائبة في الجملة. ولا شك أن بين الدول العربية تفاوتا في ذلك، ولكن لا أحد منها يصل إلى مستوى الدولة الديمقراطية الجديرة بالاحترام.

    ولو أخذنا الانتخابات باعتبارها أحد أبرز مظاهر الديمقراطية، لوجدنا أنها تطبق على مستويين:

    الأول: الانتخابات الرئاسية التي ينتخب فيها الناس رئيس البلاد, وهذه محدودة جدا، بل تكاد أن تكون غائبة عن الساحة العربية. والبلد العربي الوحيد الذي يأتي رئيسه عادة عن طريق الانتخاب هو لبنان، ولكن الرئيس اللبناني تختاره دول أجنبية لها نفوذ في لبنان قبل انتخابه من قبل الشعب، ومع ذلك فمنصب الرئاسة ليس متاحا لجميع الطوائف، وإنما هو محصور في الأقلية المارونية فقط، وهذا معارض لمبدأ الديمقراطية. وانتخابات الرئاسة في سوى لبنان مزورة، وليست متاحة لجميع الشعب ليشارك فيها وإنما هي تصويت على الرئيس الموجود بنعم أو لا، والنتيجة معروفة سلفا وهي أربع تسعات في العادة.

    الثاني: الانتخابات البرلمانية، وهذه موجودة في أكثر من بلد، ومنها مصر والكويت واليمن والبحرين وموريتانيا والسودان والمغرب، وهي انتخابات لا تخلو من التزوير والتلاعب في بعض الدول، وهي في كل أحوالها منقوصة لا ترقى لمستوى الديمقراطية الحقيقية، فمثلا في الكويت ـ وهي أحقها بوصف النزاهة ـ ليس من حق من فازوا في الانتخابات تشكيل الحكومة، وهذا مخالفة لأهم مفاهيم الديمقراطية التي تعني حكم الشعب، ومن ثم فمن حق ممثلي الشعب الذين اختارهم الشعب في انتخابات نزيهة أن يحكموا الشعب نيابة عنه. ولكن مما يسجل لدولة الكويت أن من حق مجلس الأمة محاسبة الحكومة، ولكن الفئة الحاكمة هناك كثيرا ما ضاقت بذلك، فيبادر الأمير إلى حل البرلمان أو حل الحكومة. أما في مصر واليمن، فالانتخابات تشهد تزويرا وبلطجة وتعديا على المنتخبين. وفي دول ـ بعضها غنية ـ تشترى الأصوات صراحة ويستغل المرشح حاجة الناس وفقرهم وجهلهم.

    ومما يعيق الديمقراطية في العالم العربي، إرادة الدول الكبرى النافذة في بعض دوله، فالشعب الفلسطيني مثلا عوقت تجربته الديمقراطية، وأجمع العالم تقريبا على محاصرة الشعب الفلسطيني في غزة لأن الديمقراطية حملت حماس الإسلامية إلى الحكم، وتجربة الجزائر الديمقراطية أجهضت، لأن جبهة الإنقاذ انتصرت فيها، وللإنصاف لا يعزى إجهاض التجربة الجزائرية للعدو الخارجي، فتصريحات بعض زعماء جبهة الإنقاذ الذين كانوا يهددون بمحاكمة مخالفيهم من رجال الحكم وغيرهم، كانت مسوغا للعدو الخارجي للتدخل لإفشال التجربة.

    الشعوب العربية مسلمة، ومن أجل تطبيق الديمقراطية في بلادها، لا بد من مراعاة الهوية، لأنها خيار الشعب. والديمقراطية إذا كانت متناقضة مع إرادة الشعب واختياره، كانت تعديا على هوية المجتمع وعبثا بحقوقه الأصيلة ومنازعة لإرادته. وديمقراطية هذا شأنها لا يمكن أن تحقق الحرية للناس وتحفظ حقوقهم، بل سوف تكون وبالا ودمارا على المجتمع، وتفضي إلى الضد من مقاصدها، فلا حرية ولا استقرار معها.

    إن نزع مواطن الصدام بين الشريعة والديمقراطية، والاحتكام إلى مرجعية واحدة محددة، هو أول شروط أي حركة في الاتجاه نحو الديمقراطية. ولا شك أن معضلة المسلم مع الديمقراطية هي في العلمانية التي تتضمنها.

    ورغم أن العلمانية ربما تكون من أسباب نجاح الديمقراطية في الغرب، لأنها موافقة لرأي الأكثرية، إلا أنها سبب رئيس في فشل الديمقراطية في العالم الإسلامي، لأن الديمقراطية جاءت بمشروع إقصاء الشريعة عن الحياة، فهي بهذا لا تمثل إلا رأي أقلية اختطفت الحكم على حين غفلة من الناس رغما عنهم، فهي خائفة أبدا لا تثق في اختيارات الناس، ولهذا لا تتيح لهم الفرصة ليختاروا ويعبروا عن إرادتهم.

    وكي تنجح الديمقراطية في العالم الإسلامي، لابد من تحويرها، بحيث تكون متفقة مع إرادة غالبية الشعب، وذلك بأن تكون الشريعة هي المرجع الأساس في الحكم. وكما أن في كل دولة دستورا، تحترمه الديمقراطية ويرجع إليه أهلها في التحاكم، فكذلك الشريعة هي خيار الشعب، ويجب أن تكون هي الدستور الذي يرجع إليه الناس في التحاكم. إن النظم الاجتماعية والقوانين لن يكتب لها النجاح ولن تعمل بفاعلية إذا لم تكن تستند إلى رضا الناس.

    وهذا في حالة الاختيار، أما في حالة الاضطرار، فينبغي المشاركة في الديمقراطية على علاتها مهما كانت، لأنها إذا كانت ديمقراطية حقيقية، فهي كفيلة بتصحيح ذاتها من خلال المشاركين فيها وتحقيق إرادة الشعب واختياراته. ومهمة من يشارك فيها حينئذ المطالبة بديمقراطية حقيقية تحترم إرادة الجمهور وتسعى إلى إنشاء مؤسساتها وتكفل المشاركة للجميع.

    إن فكرة الديمقراطية الأساسية، أن منتجها النهائي يعبر عن إرادة المشاركين فيها، ويفترض أنه إذا شارك فيها العلمانيون فالمنتج سوف يكون علمانيا، وإذا شارك الإسلاميون، فالمنتج سوف يكون إسلاميا. وحينما تتكافأ القوى، فالمنتج النهائي لابد أن يخضع لمبدأ التسوية السابق ذكره في أول البحث، وهذا ربما قصر بالمنتج عن المستوى الإسلامي المأمول، ولكن كما قيل: "حنانيك..فإن بعض الشر أهون من بعض". وشريعتنا بحمد الله واقعية، جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ومنع المفاسد وتقليلها، والله عز وجل يقول: "فاتقوا الله ما استطعتم" ويقول: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها".

    * نحو تطوير أنموذج للديمقراطية يصلح لبلد مسلم:

    النزاع بين الإسلاميين، ممن يؤيد الديمقراطية ومن يعارضها، يظهر في حالة غياب المشروع الإسلامي السياسي، فحينما لا يوجد بديل للديمقراطية، ويتحاور هؤلاء حول الديمقراطية، باعتبارها قضية ذهنية مجردة لا علاقة لها بواقعهم، فإن الخلاف يظهر، وربما كان حادا، لأن أحدهما ينظر إلى الجانب العملي ولهذا يبحث عن المنافذ التي تتيح له المشاركة فيها مستقبلا لو فرضت عليه، والآخر ينظر إليها من حيث هي قضية ذهنية مجردة، تخالف الشريعة وتتضمن العلمانية، ولهذا هو يتخوف منها فيحاربها. ولكن حينما يواجه الجميع الديمقراطية، باعتبارها حالة واقعة مفروضة عليه، فلن يتردد أحد منهم في المشاركة إذا كان يملك القوة الاجتماعية الكافية لإحداث التغيير في النتيجة الانتخابية، وشاهد هذا أمران:

    الأول: ما استقر عند الأصوليين من وجوب دفع المفسدة وجلب المصلحة ما أمكن.

    والثاني: شواهد الواقع، فأبرز من يعارض الديمقراطية شارك في الانتخابات في البلاد التي يملكون فيها قوة مؤثرة في نتائج الانتخابات والتجربة الكويتية شاهد على ذلك.

    ولهذا، لعله من الأولى الاتجاه إلى البحث العلمي لإنتاج صيغ عملية سياسية صالحة للتطبيق في المجتمع المسلم، ويمكن في هذه الحال الاستفادة من الديمقراطية ومن غيرها، كما يمكن استخدام أسلوب تحليل محتوى الديمقراطية الذي سبقت الإشارة إليه.

    سادسا: خاتمة

    وختاما، فمما يتقدم يظهر لنا أن الديمقراطية مفهوم متغير متطور حسب المكان والزمان، والكل يكيفه حسب حاجته. ومن المفكرين من يرى أنها بمثابة الوعاء الذي يستطيع كل أحد أن يملأه بما شاء، ولكن وفق معايير محددة، كالمشاركة الشعبية والشفافية وحرية التعبير وفصل السلطات وسيادة القانون.

    وعلى هذا، فالمجتمع المسلم يستطيع أن يكيف الديمقراطية التي تناسبه، ويتحقق بها دينه ويقوم بها العدل. ومع التسليم بحق كل أحد في نقد أي تجربة بشرية، إلا أنه مما ينبغي ملاحظته، أن النقد ربما كان سببا في استمرار الظلم والطغيان وضياع الحدود، سيما إذا كان خاليا من تقديم بدائل عملية، تفي بحاجة الشعب في الشأن السياسي وتتحقق به مراقبة الحكام.

    المراجع:

    تورين آلان (1995). ما هي الديمقراطية: حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية. لندن: دار الساقي

    روبرت دال (1995). الديمقراطية ونقادها.ترجمة نمير مظفر. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر

    ديورانت، ول (1419). قصة الحضارة، ج7، ترج. محمد بدران، جامعة الدول العربية.

    محمد، علي (د ت). أصول الاجتماع السياسي: السياسة والمجتمع في العالم الثالث. ج2

    Tocqueville, Alexis de (3).Democracy in America. Penguin Books.

    Zakaria, Farid (4).The Future of Freedom: Illiberal Democracy at Home and Abroad, Revised Edition. W.W. Norton and company

    http://tech.bcschools.net/bcps/Curriculum/Social%Studies%Curriculum/L%%Resources/7%%Core%Democratic%Values/Core%Democratic%Values.pdf

    http://www.pogar.org/arabic/governance/.

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد 28 أبريل 2024 - 12:07