ممدوح رحمون يروي للشروق القصة الكاملة لتهريب بن بلة من مطار بيروت عام 1955
"طلبت* من* زوجتي* أن* ترافق* بن* بلة* وتمشي* معه* إلى* غاية* خروجنا* من* المطار*"
في هذا الحوار الذي خص به "الشروق اليومي" في مدينة اسطنبول، يتحدث المفكر السوري ممدوح رحمون، عن تفاصيل تهريب الرئيس أحمد بن بلة سنة 1955 من بيروت إلى دمشق ومنها إلى بغداد، حين سعى إلى تحصيل السلاح لدعم الثورة التحريرية إذّاك، فكان أن أدخل باخرة الأسلحة الشهيرة، وأكد السيد ممدوح أن هذه التفاصيل يرويها لأول مرة على الإطلاق، مشيرا إلى أنه قد سبق وأن نشر بعضا من تفاصيل هذه الحادثة بجريدة "السفير" اللبنانية أواخر القرن الماضي، مازجا شهادته بدموع باردة يذرفها بين الحين والآخر.. وفي سياق متصل، اتصلت الشروق بعميد السياسيين الجزائريين الأستاذ عبد الحميد مهري، على اعتبار أنه هو من كلف الأستاذ ممدوح بالمهمة، وهو صاحب المشكل بالأساس، لمّا كان ممثلا لجبهة التحرير الوطني في سوريا.. وسردت عليه القصة من باب الأمانة العلمية، فأكد أنه يعرف هذا الشخص، مضيفا أنه لا يتذكر الحادثة* بالتفاصيل* التي* أوردتها* الشروق،* قائلا* بأنه* من* الممكن* أنه* يكون* قد* طلب* من* الأستاذ* ممدوح* مساعدته،* لكنه* لا* يتذكر* بالتفصيل،* "لأن* الحادثة* وقعت* قبل* خمسين* عاما*"...
أجرى* الحوار* مبعوث* الشروق* إلى* تركيا*: هشام* موفق
بداية* أنتم* في* الشام،* كيف* تعرفتم* على* الثورة* التحريرية؟*
نحن من حيث الأساس كنا في سوريا متعاطفين مع الثورة الجزائرية من خلال شخص رحمة الله عليه اسمه يوسف الرويسي، وهو تونسي وليس جزائريا، لكن أنذاك لم نكن نعرف الجزائر، المغرب، تونس.. إلخ، بهذه الأسماء، بل كلها نطلق عليها "المغرب العربي"، فكان المتكلم باسمها هو يوسف الرويسي، وهو جاري بالبيت، وأنا تلميذ بالجامعة "جامعة دمشق"، كانت مهمتنا جمع السلاح والمال وتوريده إلى الجزائر، وبالتالي إعانة الجرحى الذين يتمكنون من الوصول إلينا، فكان لدينا مستوصف خاص للمقاتلين الجزائريين، بمعلومات يوسف الرويسي.
فيوسف الرويسي كان هو الممثل وكان ارتباطه مع جماعة من المغرب، كعبد الخالق التريس وعلال الفاسي، ومن الجزائر بمجموعة من أهل الجزائر من جماعة الأمير عبد القادر، هؤلاء كنا نتعاون معهم، لكن على مستوى الجامعة باعتبارنا طلبة فإمكاناتنا محدودة، وكنا على صلة بـوالٍ في تونس وهو عضو في اللجنة التنفيذية للحكومة التونسية مع بورقيبة، كان اسمه محمد بن لمين، هو تونسي وكان تهريب السلاح عن طريقه، فلما كان الجيش الجزائري في تونس، كان بومدين في تونس، وكان تحت رعايتهم هم، لهذا السبب ومن خلال هذه الأسماء تعرفنا على الثورة الجزائرية،* طبعا* مع* بعض* الإخوة* الأكبر* منا* سنا،* وأوسع* منا* نشاطا*..
فيما* يخص* علاقتك* بالجزائر* والتقائك* مع* مسؤوليين* جزائريين،* سمعت* الآن* أنك* أنك* ساعدت* الرئيس* الجزائري* الأسبق* أحمد* بن* بلة* في* مطار* بيروت* سنة* 55،* هلا* رويتم* لنا* هذه* الحادثة؟
أما موضوع الرئيس بن بلة تحديدا، فقصته وقعت في شهر نوفمبر من عام 1955، حيث كنت راكبا أنا وزوجتي في "طاكسي" آتيين من دمشق إلى بيروت، فكان ممثل الجبهة بدمشق أنذاك عبد الحميد مهري قد وصل هو على الحدود، عرفوا من اسمه أنه جزائري فما تركوه يمر، رغم إلحاحه وإخباره إياهم بأن له مهمة، منعوه وأخبروه أنه يجب أن يرجع من حيث أتى وإلاّ فسيتم اعتقاله، فعبد الحميد كنا نرى بعضنا في الاجتماعات ولا يوجد شيء شخصي، جاء عندي وسألني إذا ما كنت ذاهبا إلى بيروت، فأجبته بنعم ، فقال مباشرة: "توجد مهمة خطيرة، ممكن أكلفك بها؟"، فقلت: "أنا* موجود* وأنا* ربها*"..
فقال إن أحمد بن بلة آت إلى بيروت ومعه مجموعة، بعدها عرفت المجموعة على ما أتذكر رابح بيطاط وخيضر، قال سيأتون على طائرة TLM، ومن المقرر أن الأمن اللبناني التابع للرئيس كميل شمعون سيعتقلهم، ويسلمهم لفرنسا، فلا بد من أن تخرجهم من المطار وتوصلهم على الشام قبل أن يصل إليهم اللبنانيون... تصور وضعي أنا وزوجتي معي وأنا متزوج حديثا، وقد قصدنا بيروت من أجل التسوق، فزوجتي تسألني من يكون هذا؟ فأخبرتها أنه رجل عازمنا على الغداء في "سان جورج"، ولما وصلنا على بيروت أعطيتها المال وطلبت منها أن تذهب وتشتري الأغراض لوحدها، لأني* مشغول*.
ذهبت* انا* شخصيا* لجهات* معينة* من* الذين* تعاونوا* معنا،* أعطوني* مرافقين* اثنين* مسلحين* ورشاش* لي* وصندوق* قنابل،* وطلعنا* على* مطار* بيروت* مباشرة*.
ما* سأعطيه* لك* غير* موجود* في* أي* مرجع،* حتى* في* كتابي* لم* أذكر* التفاصيل،* فالكل* يعرف* أننا* هربنا* أحمد* بن* بلة،* ولكن* التفاصيل* لا* أحد* يعرفها* إلا* بعض* المقربين* وأنت* الآن* فقط* ستنفرد* بها*..
وماذا* فعلت؟
استعلمت* عن* رئيس* مخفر* الأمن* هناك،* سألتهم* عما* إذا* كان* متزوجا،* فأجابوا* بنعم،* سألت* هل* له* اولاد؟* قالوا* نعم،* عنده* كذا* وكذا،* فذهبت* لعنده*.
وهل* كنت* تعرفه* من* قبل؟*
لا، لم أكن أعرفه، أنا من الشام وهو من بيروت، هو من بلد وانا من بلد آخر، فلما وصلت لمكتبه، قلت له: "حضرتك فلان؟"، قال: "في شيء؟"، فأخذت سلاحي وقلت له: "أي حرف تتلفظ به فأنت مقتول، وأي حركة فبيتك محاط بالديناميت وزوجتك وأولادك أسرى عندنا...".
وهذه* حقيقة* أم؟
والله كله كذب، كان تمثيل، كان لابد أن ننفذ العملية بأي طريقة كانت، ثم استطردت: "الآن نزلت الطائرة الفلانية، وأنت تمشي معي إليها، ودون أن تتفوه بأية كلمة"، وكنت في ذلك اليوم ببدلة كاكي، أخذت قبعة وبعض الأشياء لأبدو مثل الجيش اللبناني، فكنت قد سألت عبد الحميد كيف أتعرف على بن بلة؟ فأخبرني أنه أسمر طويل، فقلت لعبد الحميد: "على أي أساس أحكي معه"، قال ناديه باسمه الحركي الثوري اسمه المزياني مسعود.. نزل الناس من الطائرة، والتلميحات التي أعطاني إياها عبد الحميد تتطابق في شكل بن بلة، قلت له: "سي مسعود". قال: "أنعم"، فقلت له: suivez moi "اتبعني"، وبعدها دخلنا على ضابط الأمن وأخذنا جوازاتهم وختمناها لهم، فصاروا نظاميين ودخلوا على بيروت وزوجتي بالسيارة تنتظرني ما تعرف شيئا، ولما وصلنا إليها قلت لها "رافقي السي مسعود وامشي معه"، فزوجتي استغربت، فقلت لها: "طبقي التعليمات* إلى* غاية* خروجنا* من* المطار*"..
وأنا* تعليماتي* للضابط* كانت* معه* ساعة* كاملة* "أي* حركة* تُنسف* بيتك* ويموت* اولادك،* بعد* ساعة* اعمل* ما* تريد* وتصرف* كما* تشاء*"،* مضت* ساعة* فأصبحنا* على* الحدود* السورية*...
ألم* تذكروا* هذا* الكلام* من* قبل؟* ألم* تدونوه* أو* تنشروا* تفاصيله؟
بالمطلق، الناس تعرف أنني هربت الرئيس بن بلة، لكن كيف، هذه أول مرة يطلع فيها السر، وراح الحديث الى سنة 1997 كان عندنا المؤتمر القومي السابع الذي انعقد بالدار البيضاء (المغرب) في 20 مارس من تلك السنة، وقالوا إن الرئيس بن بلة آت، فكل من بالمؤتمر طلعوا يستقبلونه إلاّ أنا، الوفد السوري فيهم الشيوعي وفيهم البعثي، قلت لهم "أنا ماني طالع إذا بدكم تروحوا روحوا أنا ماني رايح"، إذا أتى ودخل أسلم عليه، نزل طبعا وبدأ يدور ويسلم، لما وصل عندنا قلت له: "أهلا وسهلا سيادة الرئيس، أنا ممدوح رحمون"، قال لي تشرفنا، قلت له: "ألا يذكرك هذا الاسم بشيء يا... "سي مسعود"، فانخطف وأبدى اهتماما، وزدت: "ما يذكرك بمطار بيروت قبل 40 سنة"، فقال أذكر شابا أخذنا وأخذ جوازاتنا وخرجنا بالمطار، فقلت له هذا "الختيار" هو أنا... (يبكي)... أخذنا صورا مع الكل، فقال لا، آخذ صورة أنا وإياه منفردة (..*.يعتذر* على* اتمام* الحديث*) هذا* ما* جرى*..
بعد لحظات يكمل الكلام قائلا: "وبعد سنة جاء أحمد بن بلة على بيروت هو وامرأته وابنته زهرة فاستقبلوه في بيروت في فندق "كورال بيتش" على العشاء، الرئيس سليم الحص قال لي: بن بلة آت هل تذهب؟ قلت له طبعا، فقال تعرفه؟ قلت له: "إلى حد ما"، فقال أريد ان أعرف كيف إلى حد ما؟ قلت له: "بيني وبينه تاريخ طويل وتجدد بالمغرب"، فقصيت عليه القصة، فقال هذه مسرحية غير معقولة، هذه لازم تكتبها الآن، وثاني يوم كتبت بعض الوقائع منها بجريدة السفير اللبنانية تحت عنوان "هكذا تعرفت على الثائر مسعود"، وقد عملت ضجة كبيرة حينها..
ثم* ذهبتم* على* العشاء؟
نعم، على طاولة العشاء كان أحد الوزراء اللبنانيين يحكي عن بن بلة أنه في سنة 56 جاء على بيروت وتحدث على أساس أنه قد كلف باستقباله بالمطار، وقال أنه قد جاء به إلى هنا وأنه هو من كان مرافقه كل الوقت، هكذا يكذب على الناس، فقلت له: "أظن أن هناك خطأ في التاريخ، في سنة 56 بن بلة كان في السجن بعد أن اختطفته فرنسا"، فرد الوزير: "أخي أنا طلعت معه للمطار واستقبلته ومثلت دولتي، تقول لي غلط؟، استقبلته أنت في المطار أم أنا؟"، وبدأ من كان هناك ينظرون إلي باستهتار كبير، هو الوزير استقبله باسم الدولة، معناه أنا كذاب فشيء طبيعي*..
وللتحدي* مددت* يدي* إلى* جيبي،* أخرجت* منه* مئة* الف* ليرة،* قلت* له* معالي* الوزير*: "مني* مائة* ألف* ليرة* ومنك* ليرة* واحدة،* إذا* كانت* الحادثة* في* 56* صحيحة* فحلال* عليك* المائة* ألف* ليرة*..*".
جاء الرئيس بن بلة، فقاموا ورحبوا به، وأقعدوه بالطاولة الأولى وأخذوا له الصور، وانا كنت جالسا في الطاولة الثانية خلف طاولة الرئيس سليم الحص ومفتي الجمهورية اللبنانية، وآخرين.. فالرئيس بن بلة قال خلال كلمته أنه دخل إلى بيروت عدة مرات متخفيا، وخرج منها متخفيا ولا أحد يعلم ذلك، وأنه دخل سوريا متخفيا إلى غير ذلك، ونحن نسمعه، وهو من فوق المنبر رآني، ولما أتم خطابه صفقوا له نزل من فوق المنبر، ووقف كل الوزراء يحيونه فنزل وتخطى طاولته وجاء عندي وقال "ممدوح"، وتعانقنا، فالتفت الرئيس الحص وقال له: "منين بتعرفوا.. اشلون بتعرفوا"، فأجابه قائلا: "ممدوح كان لوّل (الأول)"، لما انتهينا وعاد بن بلة لطاولته، وجلست، التفت فإذا بالوزير اختفى، والإخوة الذين شككوا يقولون كيف تعرفه، إلى هذه الدرجة العناق... (يبكي) فقلت لهم: "أنا أنقذت حياته، وأنا ساهمت في إنقاذ الثورة الجزائرية..."*.
وهل* عندكم* من* تفاصيل* لما* وصل* بغداد؟
طلع من دمشق وراح لبغداد، قابل نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي أنذاك، وطلب منه سلاحا فرفض أن يعطيه السلاح، وبعد ضغط رجال العشائر أعطى له 300 بندقية، رصاصها غير سوي بالمرة، انجليزي على فرنساوي وفرنساوي على ألماني، فرجع على الشام منكسر الخاطر، قابل العقيد عبد الحميد السراج، فأخذ منه الـ300 بندقية المهترئة، وأدخله على مستودع الجيش السوري واعطاه 3000 بندقية فرنسية، لأننا نحن كنا قد تخلينا عن السلاح الفرنسي، واقتنينا سلاحا من التشيك، فأخذ الـ3000 آلاف بندقية وحملها على الباخرة الشهيرة.
* هذه* الحادثة* انت* كيف* عرفتها؟* هل* رافقته* إلى* بغداد؟
هذه الحادثة عرفتها لما كان عندنا مؤتمر في القاهرة، المؤتمر القومي العربي، وأقف أنا وبن بلة ووزير الاعلام المصري أنذاك وسامي شرف مرافق عبد الناصر، وقائد الجيش المصري الفريق امحمد فوزي، فسألني بن بلة إذا ما كنت التقي عبد الحميد السراج، قلت له نعم، فقال أريد أن* أراه،* هاتفت* السيد* عبد* الحميد* وذهبنا* أنا* وإياه* اليه،* فروى* الحادثة* امامي* المتعلقة* بـ* 3000* بندقية،* يعني* كلا* الطرفين* حكوها،* فأنا* من* الطرفين* أعرف* هذه* الحقيقة* التاريخية*..
ممدوح* رحمون* في* أسطر
ممدوح* رحمون،* هو* مفكر* سوري،* ومؤرخ* مهتم* بالشأن* القومي،* ينحدر* من* عائلة* شامية* عريقة،* لها* تاريخ* طويل* في* ممارسة* السياسة،* وسبق* له* أن* شارك* في* حرب* 1948* التي* جرت* بين* العرب* واليهود* أنذاك،* كجندي* في جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القوقجي.. وقد حضر اجتماعا مهما للقادة العرب في تلك الحرب وشهد كما يقول على "الخيانة العربية"، حيث يسرد شهادته المثيرة لهذه الواقعة في حواره مع أسبوعية "الشروق العربي" الذي يُنشر الاثنين المقبل..
والأستاذ* ممدوح* من* مؤسسي* وزارة* الإعلام* السورية* سنة* 1949،* وقد* حكي* العديد* من* التطورات* في* المنطقة* العربية* مما* جعله* أحد* المؤرخين* الذين* يعتدّ* برأيهم*..
وقد عُرضت على الأستاذ ممدوح ثلاثُ وزارات ورفضها كلها من منطلق أنه من مؤيدي الوحدة من أيام عبد الناصر، ورفض شغل أي منصب أيام الانفصال، وحيث خُير بعد نكبة 67 بين الوزارة والحبس، فاختار السجن...
وهو* اليوم* عضو* الهيئة* العليا* للإشراف* على* التأمين* في* سوريا،* ورئيس* مجلس* إدارة* شركة* تأمين* سوريا*/لبنان،* وهو* عضو* مجلس* أمناء* مؤسسة* القدس* الدولية* التي* يشغل* الدكتور* يوسف* القرضاوي* رئاستها*..
وللأستاذ* عدة* كتابات* تاريخية* وشخصية* ودراسات،* وكذا* إسهامات* صحفية،* حيث* يكتب* في* جريدة* السفير* اللبنانية* بصفة* شبه* منتظمة،* متناولا* قضايا* تاريخية* تهم* الشأن* القومي،* ومسائل* تحليلية* للأخبار*..
"طلبت* من* زوجتي* أن* ترافق* بن* بلة* وتمشي* معه* إلى* غاية* خروجنا* من* المطار*"
في هذا الحوار الذي خص به "الشروق اليومي" في مدينة اسطنبول، يتحدث المفكر السوري ممدوح رحمون، عن تفاصيل تهريب الرئيس أحمد بن بلة سنة 1955 من بيروت إلى دمشق ومنها إلى بغداد، حين سعى إلى تحصيل السلاح لدعم الثورة التحريرية إذّاك، فكان أن أدخل باخرة الأسلحة الشهيرة، وأكد السيد ممدوح أن هذه التفاصيل يرويها لأول مرة على الإطلاق، مشيرا إلى أنه قد سبق وأن نشر بعضا من تفاصيل هذه الحادثة بجريدة "السفير" اللبنانية أواخر القرن الماضي، مازجا شهادته بدموع باردة يذرفها بين الحين والآخر.. وفي سياق متصل، اتصلت الشروق بعميد السياسيين الجزائريين الأستاذ عبد الحميد مهري، على اعتبار أنه هو من كلف الأستاذ ممدوح بالمهمة، وهو صاحب المشكل بالأساس، لمّا كان ممثلا لجبهة التحرير الوطني في سوريا.. وسردت عليه القصة من باب الأمانة العلمية، فأكد أنه يعرف هذا الشخص، مضيفا أنه لا يتذكر الحادثة* بالتفاصيل* التي* أوردتها* الشروق،* قائلا* بأنه* من* الممكن* أنه* يكون* قد* طلب* من* الأستاذ* ممدوح* مساعدته،* لكنه* لا* يتذكر* بالتفصيل،* "لأن* الحادثة* وقعت* قبل* خمسين* عاما*"...
أجرى* الحوار* مبعوث* الشروق* إلى* تركيا*: هشام* موفق
بداية* أنتم* في* الشام،* كيف* تعرفتم* على* الثورة* التحريرية؟*
نحن من حيث الأساس كنا في سوريا متعاطفين مع الثورة الجزائرية من خلال شخص رحمة الله عليه اسمه يوسف الرويسي، وهو تونسي وليس جزائريا، لكن أنذاك لم نكن نعرف الجزائر، المغرب، تونس.. إلخ، بهذه الأسماء، بل كلها نطلق عليها "المغرب العربي"، فكان المتكلم باسمها هو يوسف الرويسي، وهو جاري بالبيت، وأنا تلميذ بالجامعة "جامعة دمشق"، كانت مهمتنا جمع السلاح والمال وتوريده إلى الجزائر، وبالتالي إعانة الجرحى الذين يتمكنون من الوصول إلينا، فكان لدينا مستوصف خاص للمقاتلين الجزائريين، بمعلومات يوسف الرويسي.
فيوسف الرويسي كان هو الممثل وكان ارتباطه مع جماعة من المغرب، كعبد الخالق التريس وعلال الفاسي، ومن الجزائر بمجموعة من أهل الجزائر من جماعة الأمير عبد القادر، هؤلاء كنا نتعاون معهم، لكن على مستوى الجامعة باعتبارنا طلبة فإمكاناتنا محدودة، وكنا على صلة بـوالٍ في تونس وهو عضو في اللجنة التنفيذية للحكومة التونسية مع بورقيبة، كان اسمه محمد بن لمين، هو تونسي وكان تهريب السلاح عن طريقه، فلما كان الجيش الجزائري في تونس، كان بومدين في تونس، وكان تحت رعايتهم هم، لهذا السبب ومن خلال هذه الأسماء تعرفنا على الثورة الجزائرية،* طبعا* مع* بعض* الإخوة* الأكبر* منا* سنا،* وأوسع* منا* نشاطا*..
فيما* يخص* علاقتك* بالجزائر* والتقائك* مع* مسؤوليين* جزائريين،* سمعت* الآن* أنك* أنك* ساعدت* الرئيس* الجزائري* الأسبق* أحمد* بن* بلة* في* مطار* بيروت* سنة* 55،* هلا* رويتم* لنا* هذه* الحادثة؟
أما موضوع الرئيس بن بلة تحديدا، فقصته وقعت في شهر نوفمبر من عام 1955، حيث كنت راكبا أنا وزوجتي في "طاكسي" آتيين من دمشق إلى بيروت، فكان ممثل الجبهة بدمشق أنذاك عبد الحميد مهري قد وصل هو على الحدود، عرفوا من اسمه أنه جزائري فما تركوه يمر، رغم إلحاحه وإخباره إياهم بأن له مهمة، منعوه وأخبروه أنه يجب أن يرجع من حيث أتى وإلاّ فسيتم اعتقاله، فعبد الحميد كنا نرى بعضنا في الاجتماعات ولا يوجد شيء شخصي، جاء عندي وسألني إذا ما كنت ذاهبا إلى بيروت، فأجبته بنعم ، فقال مباشرة: "توجد مهمة خطيرة، ممكن أكلفك بها؟"، فقلت: "أنا* موجود* وأنا* ربها*"..
فقال إن أحمد بن بلة آت إلى بيروت ومعه مجموعة، بعدها عرفت المجموعة على ما أتذكر رابح بيطاط وخيضر، قال سيأتون على طائرة TLM، ومن المقرر أن الأمن اللبناني التابع للرئيس كميل شمعون سيعتقلهم، ويسلمهم لفرنسا، فلا بد من أن تخرجهم من المطار وتوصلهم على الشام قبل أن يصل إليهم اللبنانيون... تصور وضعي أنا وزوجتي معي وأنا متزوج حديثا، وقد قصدنا بيروت من أجل التسوق، فزوجتي تسألني من يكون هذا؟ فأخبرتها أنه رجل عازمنا على الغداء في "سان جورج"، ولما وصلنا على بيروت أعطيتها المال وطلبت منها أن تذهب وتشتري الأغراض لوحدها، لأني* مشغول*.
ذهبت* انا* شخصيا* لجهات* معينة* من* الذين* تعاونوا* معنا،* أعطوني* مرافقين* اثنين* مسلحين* ورشاش* لي* وصندوق* قنابل،* وطلعنا* على* مطار* بيروت* مباشرة*.
ما* سأعطيه* لك* غير* موجود* في* أي* مرجع،* حتى* في* كتابي* لم* أذكر* التفاصيل،* فالكل* يعرف* أننا* هربنا* أحمد* بن* بلة،* ولكن* التفاصيل* لا* أحد* يعرفها* إلا* بعض* المقربين* وأنت* الآن* فقط* ستنفرد* بها*..
وماذا* فعلت؟
استعلمت* عن* رئيس* مخفر* الأمن* هناك،* سألتهم* عما* إذا* كان* متزوجا،* فأجابوا* بنعم،* سألت* هل* له* اولاد؟* قالوا* نعم،* عنده* كذا* وكذا،* فذهبت* لعنده*.
وهل* كنت* تعرفه* من* قبل؟*
لا، لم أكن أعرفه، أنا من الشام وهو من بيروت، هو من بلد وانا من بلد آخر، فلما وصلت لمكتبه، قلت له: "حضرتك فلان؟"، قال: "في شيء؟"، فأخذت سلاحي وقلت له: "أي حرف تتلفظ به فأنت مقتول، وأي حركة فبيتك محاط بالديناميت وزوجتك وأولادك أسرى عندنا...".
وهذه* حقيقة* أم؟
والله كله كذب، كان تمثيل، كان لابد أن ننفذ العملية بأي طريقة كانت، ثم استطردت: "الآن نزلت الطائرة الفلانية، وأنت تمشي معي إليها، ودون أن تتفوه بأية كلمة"، وكنت في ذلك اليوم ببدلة كاكي، أخذت قبعة وبعض الأشياء لأبدو مثل الجيش اللبناني، فكنت قد سألت عبد الحميد كيف أتعرف على بن بلة؟ فأخبرني أنه أسمر طويل، فقلت لعبد الحميد: "على أي أساس أحكي معه"، قال ناديه باسمه الحركي الثوري اسمه المزياني مسعود.. نزل الناس من الطائرة، والتلميحات التي أعطاني إياها عبد الحميد تتطابق في شكل بن بلة، قلت له: "سي مسعود". قال: "أنعم"، فقلت له: suivez moi "اتبعني"، وبعدها دخلنا على ضابط الأمن وأخذنا جوازاتهم وختمناها لهم، فصاروا نظاميين ودخلوا على بيروت وزوجتي بالسيارة تنتظرني ما تعرف شيئا، ولما وصلنا إليها قلت لها "رافقي السي مسعود وامشي معه"، فزوجتي استغربت، فقلت لها: "طبقي التعليمات* إلى* غاية* خروجنا* من* المطار*"..
وأنا* تعليماتي* للضابط* كانت* معه* ساعة* كاملة* "أي* حركة* تُنسف* بيتك* ويموت* اولادك،* بعد* ساعة* اعمل* ما* تريد* وتصرف* كما* تشاء*"،* مضت* ساعة* فأصبحنا* على* الحدود* السورية*...
ألم* تذكروا* هذا* الكلام* من* قبل؟* ألم* تدونوه* أو* تنشروا* تفاصيله؟
بالمطلق، الناس تعرف أنني هربت الرئيس بن بلة، لكن كيف، هذه أول مرة يطلع فيها السر، وراح الحديث الى سنة 1997 كان عندنا المؤتمر القومي السابع الذي انعقد بالدار البيضاء (المغرب) في 20 مارس من تلك السنة، وقالوا إن الرئيس بن بلة آت، فكل من بالمؤتمر طلعوا يستقبلونه إلاّ أنا، الوفد السوري فيهم الشيوعي وفيهم البعثي، قلت لهم "أنا ماني طالع إذا بدكم تروحوا روحوا أنا ماني رايح"، إذا أتى ودخل أسلم عليه، نزل طبعا وبدأ يدور ويسلم، لما وصل عندنا قلت له: "أهلا وسهلا سيادة الرئيس، أنا ممدوح رحمون"، قال لي تشرفنا، قلت له: "ألا يذكرك هذا الاسم بشيء يا... "سي مسعود"، فانخطف وأبدى اهتماما، وزدت: "ما يذكرك بمطار بيروت قبل 40 سنة"، فقال أذكر شابا أخذنا وأخذ جوازاتنا وخرجنا بالمطار، فقلت له هذا "الختيار" هو أنا... (يبكي)... أخذنا صورا مع الكل، فقال لا، آخذ صورة أنا وإياه منفردة (..*.يعتذر* على* اتمام* الحديث*) هذا* ما* جرى*..
بعد لحظات يكمل الكلام قائلا: "وبعد سنة جاء أحمد بن بلة على بيروت هو وامرأته وابنته زهرة فاستقبلوه في بيروت في فندق "كورال بيتش" على العشاء، الرئيس سليم الحص قال لي: بن بلة آت هل تذهب؟ قلت له طبعا، فقال تعرفه؟ قلت له: "إلى حد ما"، فقال أريد ان أعرف كيف إلى حد ما؟ قلت له: "بيني وبينه تاريخ طويل وتجدد بالمغرب"، فقصيت عليه القصة، فقال هذه مسرحية غير معقولة، هذه لازم تكتبها الآن، وثاني يوم كتبت بعض الوقائع منها بجريدة السفير اللبنانية تحت عنوان "هكذا تعرفت على الثائر مسعود"، وقد عملت ضجة كبيرة حينها..
ثم* ذهبتم* على* العشاء؟
نعم، على طاولة العشاء كان أحد الوزراء اللبنانيين يحكي عن بن بلة أنه في سنة 56 جاء على بيروت وتحدث على أساس أنه قد كلف باستقباله بالمطار، وقال أنه قد جاء به إلى هنا وأنه هو من كان مرافقه كل الوقت، هكذا يكذب على الناس، فقلت له: "أظن أن هناك خطأ في التاريخ، في سنة 56 بن بلة كان في السجن بعد أن اختطفته فرنسا"، فرد الوزير: "أخي أنا طلعت معه للمطار واستقبلته ومثلت دولتي، تقول لي غلط؟، استقبلته أنت في المطار أم أنا؟"، وبدأ من كان هناك ينظرون إلي باستهتار كبير، هو الوزير استقبله باسم الدولة، معناه أنا كذاب فشيء طبيعي*..
وللتحدي* مددت* يدي* إلى* جيبي،* أخرجت* منه* مئة* الف* ليرة،* قلت* له* معالي* الوزير*: "مني* مائة* ألف* ليرة* ومنك* ليرة* واحدة،* إذا* كانت* الحادثة* في* 56* صحيحة* فحلال* عليك* المائة* ألف* ليرة*..*".
جاء الرئيس بن بلة، فقاموا ورحبوا به، وأقعدوه بالطاولة الأولى وأخذوا له الصور، وانا كنت جالسا في الطاولة الثانية خلف طاولة الرئيس سليم الحص ومفتي الجمهورية اللبنانية، وآخرين.. فالرئيس بن بلة قال خلال كلمته أنه دخل إلى بيروت عدة مرات متخفيا، وخرج منها متخفيا ولا أحد يعلم ذلك، وأنه دخل سوريا متخفيا إلى غير ذلك، ونحن نسمعه، وهو من فوق المنبر رآني، ولما أتم خطابه صفقوا له نزل من فوق المنبر، ووقف كل الوزراء يحيونه فنزل وتخطى طاولته وجاء عندي وقال "ممدوح"، وتعانقنا، فالتفت الرئيس الحص وقال له: "منين بتعرفوا.. اشلون بتعرفوا"، فأجابه قائلا: "ممدوح كان لوّل (الأول)"، لما انتهينا وعاد بن بلة لطاولته، وجلست، التفت فإذا بالوزير اختفى، والإخوة الذين شككوا يقولون كيف تعرفه، إلى هذه الدرجة العناق... (يبكي) فقلت لهم: "أنا أنقذت حياته، وأنا ساهمت في إنقاذ الثورة الجزائرية..."*.
وهل* عندكم* من* تفاصيل* لما* وصل* بغداد؟
طلع من دمشق وراح لبغداد، قابل نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي أنذاك، وطلب منه سلاحا فرفض أن يعطيه السلاح، وبعد ضغط رجال العشائر أعطى له 300 بندقية، رصاصها غير سوي بالمرة، انجليزي على فرنساوي وفرنساوي على ألماني، فرجع على الشام منكسر الخاطر، قابل العقيد عبد الحميد السراج، فأخذ منه الـ300 بندقية المهترئة، وأدخله على مستودع الجيش السوري واعطاه 3000 بندقية فرنسية، لأننا نحن كنا قد تخلينا عن السلاح الفرنسي، واقتنينا سلاحا من التشيك، فأخذ الـ3000 آلاف بندقية وحملها على الباخرة الشهيرة.
* هذه* الحادثة* انت* كيف* عرفتها؟* هل* رافقته* إلى* بغداد؟
هذه الحادثة عرفتها لما كان عندنا مؤتمر في القاهرة، المؤتمر القومي العربي، وأقف أنا وبن بلة ووزير الاعلام المصري أنذاك وسامي شرف مرافق عبد الناصر، وقائد الجيش المصري الفريق امحمد فوزي، فسألني بن بلة إذا ما كنت التقي عبد الحميد السراج، قلت له نعم، فقال أريد أن* أراه،* هاتفت* السيد* عبد* الحميد* وذهبنا* أنا* وإياه* اليه،* فروى* الحادثة* امامي* المتعلقة* بـ* 3000* بندقية،* يعني* كلا* الطرفين* حكوها،* فأنا* من* الطرفين* أعرف* هذه* الحقيقة* التاريخية*..
ممدوح* رحمون* في* أسطر
ممدوح* رحمون،* هو* مفكر* سوري،* ومؤرخ* مهتم* بالشأن* القومي،* ينحدر* من* عائلة* شامية* عريقة،* لها* تاريخ* طويل* في* ممارسة* السياسة،* وسبق* له* أن* شارك* في* حرب* 1948* التي* جرت* بين* العرب* واليهود* أنذاك،* كجندي* في جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القوقجي.. وقد حضر اجتماعا مهما للقادة العرب في تلك الحرب وشهد كما يقول على "الخيانة العربية"، حيث يسرد شهادته المثيرة لهذه الواقعة في حواره مع أسبوعية "الشروق العربي" الذي يُنشر الاثنين المقبل..
والأستاذ* ممدوح* من* مؤسسي* وزارة* الإعلام* السورية* سنة* 1949،* وقد* حكي* العديد* من* التطورات* في* المنطقة* العربية* مما* جعله* أحد* المؤرخين* الذين* يعتدّ* برأيهم*..
وقد عُرضت على الأستاذ ممدوح ثلاثُ وزارات ورفضها كلها من منطلق أنه من مؤيدي الوحدة من أيام عبد الناصر، ورفض شغل أي منصب أيام الانفصال، وحيث خُير بعد نكبة 67 بين الوزارة والحبس، فاختار السجن...
وهو* اليوم* عضو* الهيئة* العليا* للإشراف* على* التأمين* في* سوريا،* ورئيس* مجلس* إدارة* شركة* تأمين* سوريا*/لبنان،* وهو* عضو* مجلس* أمناء* مؤسسة* القدس* الدولية* التي* يشغل* الدكتور* يوسف* القرضاوي* رئاستها*..
وللأستاذ* عدة* كتابات* تاريخية* وشخصية* ودراسات،* وكذا* إسهامات* صحفية،* حيث* يكتب* في* جريدة* السفير* اللبنانية* بصفة* شبه* منتظمة،* متناولا* قضايا* تاريخية* تهم* الشأن* القومي،* ومسائل* تحليلية* للأخبار*..