لاحظ المتابعون للعلاقات المصرية الإيرانية ، منذ شهور، توالي التصريحات من الجانبين عن قرب عودة العلاقات بينهما إلى طبيعتها ، وعن رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين، و ضرورته، وعن تشجيع العلاقات الثقافية و التجارية، وعن تبادل الزيارات ، بين وفود من مستويات مختلفة، كان آخرها مشاركة إيران بوفد عالي المستوى في المؤتمر السنوي للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، رأسه صديقنا آية الله أحمد جنتي، رئيس مجلس أمناء الدستور، و ضم عددا من العلماء البارزين. وكانت هذه المشاركة هي الأولى من نوعها، وأثرَّت تأثيرات إيجابياً في تكوين تصور أدنى إلى الصحة والحقيقة، لدى علماء مصر والعالم العربي المشاركين في المؤتمر ، عن جانب مهم ، بالغ التأثير سياسياً، من القيادة الدينية الإيرانية التي توصف بأنها من رؤوس القوى المحافظة في إيران.
و عقب ذلك مباشرة كان وفد من «الأهرام» يتوجه إلى إيران ليمضي حوالي الأسبوع في زيارة مركز الدراسات الاستراتيجية في وزارة الخارجية الإيرانية ، وغيره من المؤسسات الإيرانية، ومن المتوقع أن يكون قراء «الأهرام» – عند نشر هذا المقال- قد تابعوا ردود فعل الكتَّاب الذين شاركوا في هذه الزيارة على صفحات الصحيفة المصرية – بل العربية – الأولى.
و النشاط الاقتصادي المصري – الإيراني يزداد نطاقه اتساعاً ، والسلع الإيرانية تظهر كل يوم في السوق المصرية .. من الفاكهة إلى السلع المعمرة! و لعل رجال الأعمال المصريين أن يكونوا في مثل نشاط زملائهم الإيرانيين وتكون منتجات مصانعهم و مزارعهم قد وجدت طريقها إلى الأسواق الإيرانية أيضاً.
و كان للأدباء و المفكرين المصريين حضور كبير ملحوظ في ملتقى الشاعر الفارسي الكبير سعدي الشيرازي الذي أقامته في طهران مؤسسة عبد العزيز البابطين الثقافية ( مؤسسة عربية نشطة تهتم بالشعر و الشعراء خاصة و بالأدب العربي بوجه عام ).
و تابع المثقفون المصريون باهتمام عددا من التقارير الصحفية و التحليلات النقدية الأدبية لما دار في هذا الملتقى كان من أهمها المقال الذي كتبه العلامة الأستاذ الدكتور محمود علي مكي، عضو مجمع اللغة العربية، في «أهرام» الثلاثاء 18/7/2000.
و الواقع أن العلاقات الشعبية المصرية الإيرانية لم تنقطع أبداً .. بل شاركت رموز مصرية ، كانت دائماً محمل تقدير مجمع عليه، في عديد من الأنشطة الإيرانية على امتداد السنوات الماضية منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران حتى اليوم. وكانت العلاقات المصرية الإيرانية دائماً على رأس الموضوعات التي يحرص كبار المسؤولين الإيرانيين على بحثها مع هؤلاء المصريين ولو لم يكونوا من ذوي المناصب السياسية أو النفوذ السياسي ، لأنهم في إيران – كما سمعت من عدد من كبارهم مراراً- لا يملكون تَرَفَ بقاء العلاقات بين مصر وإيران فاترة فضلا عن أن تكون سيئة أو مقطوعة!!
وبعض الذين أتيح لهم القيام بزيارات متكررة لإيران نقلوا إلى المسؤولين في مصر – شفاهة و كتابة – هذه المشاعر الإيرانية ، ونقلوا – في بعض الأحيان – رغبة رسمية في اتخاذ خطوات ذات دلاله رمزية على رغبة مصرية مماثلة ، أو على مجرد الترحيب بالرغبة الإيرانية ... و لكن ظروفا شتى بعضها معروف و مقَّدر، وبعضها مجهول غير معلوم الأثر ، حالت دون تحقق ذلك في حينه. والأمور تجري بالمقادير ، لا وفق أهوائنا وتمنياتنا!
و لم يبدأ تحسن ملحوظ في العلاقات المصرية الإيرانية إلا بعد مشاركة الوزير عمرو موسى، على رأس الوفد المصري، في مؤتمر القمة الإسلامية الذي عقد في طهران ، وتوالت بعده الترتيبات الهادئة التي اتخذها الطرفان –بجدية ملموسة – لإخراج العلاقات بين البلدين من نفق الخوف و التربص الحذر إلى فضاء الثقة المتبادلة و التعاون المشترك لتحقيق المصالح الخاصة و العامة على السواء.
وقد ذكرت في مقال سابق ( الدبلوماسي ، عدد مارس 2000) صوراً من المواقف الإيرانية الإيجابية نحو مصر ، وعزوت هذه المواقف إلى وجود توجه جاد نحو علاقات إيرانية أفضل مع القاهرة ، وقلت إنه توجه تصنعه القوى الإصلاحية في إيران بقدر ما تصنعه الدبلوماسية المصرية المتميزة.
و لم أكن آنئذ – ولست الآن – غافلا عن الخلافات التي أكَّدْتُ أنها ستبقى قطعاً بين الفكرين العربي – بإجمال – و الإيراني ، ولا عن الاختلاف الوقتي، في المصالح الصغيرة أو المحدودة، الذي سيظهر – حتماً – من حين إلى حين ، ولا عن محاولات الدس و الوقيعة التي لن تكف القوى الكارهة للتقارب المصري أو العربي – أو المضرورة منه ، عن اصطناعها واختلاق فرص الإفادة منها . ولكنني كنت – ولا أزال – أومن بأن المصلحة السياسية المصرية و العربية ، فضلا عن الفريضة الإسلامية و الضرورة الواقعية ، توجب كلها ، أن نُحِسنَ التعامل مع هذه الأمور ، كلها ، إحساناً يضع المصلحة الاستراتيجية المصرية و العربية و الإسلامية فوق المواقف الصغيرة التي يخبو وهج الاهتمام بها بالسرعة نفسها التي تشتعل بها نارها ! وفوق المخاوف الحقيقية التي يسهل تجنب أسبابها؛ وفوق المخاوف المتوهمة التي ينبغي الالتفات عنها و عدم التأثر بها.
فما هي اليوم المسائل التي تبدو مثاراً للتردد في الوصول بالعلاقات المصرية الإيرانية إلى غايتها : قوةً ، ومستوى تمثيلٍ ، وانفتاحاً ثقافياً وسياسياً؟
إن الذين يُخوِّفون من اتخاذ القرارات التي تضع ذلك كله موضع التنفيذ يتحدثون عن النفوذ الإقليمي لإيران، ويتحدثون عن موقف إيران من الإرهاب ، ويتحدثون عن فكرة «تصدير الثورة» التي شاعت عن النظام الإيراني الإسلامي منذ قيامه ، ويتحدثون – أخيراً و همساً غيرَ عَلَنٍ – عن الخوف من انتشار المذهب الشيعي في مصر انتشاراً يهدد الوحدة الدينية الإسلامية فيها.
و التحليل السياسي الصريح لكل واحدة من هذه المسائل يسهل على صناع القرار اتخاذه في الوقت المناسب .. فالتردد والإحجام قد يكونان أسوأ من الامتناع المطلق عن اتخاذ القرار الصحيح .
والتأخر قد يضيِّع فرصاً لا تعود.
والتوقيت في اتخاذ القرارات المصيرية نصف الصواب ، أو نصف الخطأ ، بحسب الأحوال!
أولا : النفوذ الإقليمي الإيراني:
إن النفوذ الإقليمي لإيران ، في منطقة الخليج وما حولها ، و في دول الجوار الإسلامي لها ، هو حقيقة واقعة .وهو حقيقة قديمة غير مرتبطة بقيام النظام الإسلامي في إيران ، وإنما هي مرتبطة بوضعها الجغرافي و ثقلها التاريخي و دورها الاستراتيجي الممَيز الذي عرف لها قبل الإسلام ، ولم يزده إسلام إيران إلا قوة ووضوحاً.
و هذا النفوذ الإقليمي لا يمثل عقبةً أمام العلاقات المصرية الإيرانية لأي سبب كان . فليس بين البلدين منافسة على النفوذ في الخليج ، فالنفوذ المصري في الخليج يقوم على مصادر و أسباب موضوعية تختلف كل الاختلاف عن مصادر النفوذ الإيراني وأسبابه.
النفوذ المصري في الخليج بدأ منذ الثلاثينيات من القرن العشرين بالبعثات التعليمية التي أرسلها محمد العشماوي باشا – وزير المعارف في حكومة إسماعيل صدقي و الوكيل الدائم للوزارة سنين عديدة قبل توليه إياها – إلى البحرين و الكويت و بعض دول الخليج الأخرى ، فافتتحت المدارس ، و بدأت حركة التعليم النظامي في تلك الدول ، و تبع ذلك وفود علماء أزهريين أجلاء إلى عدد من بلدان الخليج أسسوا فيها التعليم الديني الحديث.
و ما إن قامت الثورة المصرية حتى أصبحت مصر حاملة لواء المد العربي القومي الذي وجد في كثير من دول الخليج العربية – بما في ذلك المملكة العربية السعودية – أرضاً خصبة «أمسكت الماء وأنبتت الكلأ»، بتعبير الحديث النبوي الشريف ، فكان الماء هو مشاعر العروبة و الدعوة إليها، و كان الكلأ ولاءً لمصر و قيادتها السياسية .
ثم جاءت مرحلة التوسع التنموي في تلك الدول الخليجية ، و قامت فيه الخبرة المصرية و العمالة المصرية بدور بالغ الأهمية استمر ثلاثة عقود من الزمان ، وله بقايا مهمة حتى الآن ، فأنشأ لمصر مصالح اقتصادية حيوية لا يمكن تجاهلها ، وعلاقات إنسانية تعد ثروة مضافة حقيقية على المستويين الرسمي و الشعبي معاً.
وساهمت مصر بدورها المعروف في أزمة الخليج الثانية ، بعد الغزو العراقي للكويت ، وتكونت مجموعة «إعلان دمشق» وازدادت العلاقات المصرية الخليجية توثقاً، و جرى تجاوز حكيم من جانب مصر عن أحداث في مواقع شتى كان من الممكن أن تسبب شروخاً في العلاقات المصرية الخليجية ، واستثمرت القيادة المصرية هذه الأحداث و المواقف – وتجاوزها عن آثارها السلبية حتى على الرأي العام المصري - لتأكيد رسوخ العلاقات مع دول الخليج العربية و ثباتها.
و ليس لمصر – قطعاً – مطامع جغرافية أو عسكرية في الخليج، و ليس هناك أدنى احتمال لتعارض المصالح المصرية - الإيرانية تعارضاً مباشر بسبب شأن خليجي.
هناك – كمالا يخفى – مسألة الجزر الخليجية الثلاث التي تتنازع إيران والإمارات العربية المتحدة السيادة عليها ، وهناك الخلافات البترولية بين إيران و الكويت و العراق على بعض الحقول النفطية البحرية ؛ وقد أعلنت مصر مراراً أن الحوار و التفاوض هو السبيل الأمثل لحل هذا الخلاف . وقبل نشر هذا المقال يتوقع أن يكون وزير البترول الكويتي قد زار إيران لإبرام اتفاق خاص باستغلال حقل البترول الواقع في الجُرْف القاري في مياه الخليج بين إيران و الكويت، وهو اتفاق سيزيل عقبة غير ضئيلة من طريق العلاقات الإيرانية العربية . و يبقى الشأن الإيراني – العراقي معلقاً كالشأن العراقي – العربي نفسه ؛ بسبب التعقيدات الكثيرة التي صنعها العدوان العراقي مرتين على إيران ثم على الكويت، وهي تعقيدات تخرج عن نطاق البحث هنا ، وتستعصي على الحل مع بقاء الوضع العراقي على ما هو عليه.
خاتمة القول في المسألة إذن أن النفوذ الإيراني في الخليج ، القائم على خلفية تاريخية لا يمكن تجاهلها، ووضع جغرافي ثابت ، وتركيبة سكانية مشتركة ، لايقوم عقبة بوجه من الوجوه في سبيل تطوير العلاقات المصرية الإيرانية تطويرا يحقق مصالح البلدين و الشعبين و المصلحة الإسلامية بوجه عام.
ثانياً : إيران والإرهاب:
المحللون السياسيون يعلمون يقيناً أن إلصاق تهمة الإرهاب بدولة من الدول هو نتيجة للتصنيف الأمريكي الذي يقرر كل عام من هي الدول التي تبقى في قائمة الدول المساندة للإرهاب ، و من هي الدول التي تُرفع أسماؤها من هذه القائمة .
و قد أُدْرِجَتْ إيران في قائمة الدول المساندة للإرهاب ضد احتلال السفارة الأمريكية عام 1980 ، ولا تزال القائمة تضع إيران في مقدمة الدول حتى الآن.
و لكن الموقف المصري من مسألة إيران و الإرهاب لم يكن – في كل الأوقات – متأثرا بالموقف الأمريكي.
فقد كانت لمصر أسبابها الخاصة في اعتبار إيران دولة ترعى الإرهاب و تدعمه في الشرق الأوسط . وإن كان الواقع أن هذه الأسباب لم تَرْقَ في أي وقت إلى مستوى الوقائع المادية الثابتة، وإنما ظلت دائماً في دائرة التقارير التي لا يعلم صُدْقها من كذبها ؛ وفي إطار التصريحات التي كان يطلقها بعض رجال الدين الإيرانيين أو بعض المسؤولين عن تأييد الجماعات التي تمارس العنف السياسي المتسربل برداء الدين؛ و ساعد على تصديق تلك التقارير و التصريحات دعوة إيران – من حين إلى آخر – بعض الأشخاص الذين يؤيدون مسلك جماعات العنف السياسي إلى المهرجانات السنوية التي تقام في ذكرى الثورة الإسلامية في فبراير من كل عام ، وظهور هؤلاء على شاشة التلفزيون الإيراني معبرين عن مواقف سلبية ضد مصر وقيادتها.و ساعد على ذلك – أيضا – إبقاء إيران على اسم خالد الإسلامبولي، الذي أطلق على أحد شوارع طهران ، على الرغم من الطلب المصري المتكرر بتغيير ذلك الاسم لما يحمله من إشارة -لا تخطئ - إلى تأييد إيران للجماعة التي اغتالت الرئيس السادات.
و الذين يعارضون التقارب المصري الإيراني – علانيةً و سرًا – يُضَخِّمون من آثار هذه الأسباب ، ويُبْدِئون القول فيها و يُعيدُونه دون ملل، ويؤثِّرون بذلك – بدرجات متفاوتة – في الدوائر المختلفة التي يتخذ فيها القرار المصري في الشأن الإيراني .
و الحقائق التي يعرفها المتابعون تشير إلى أن الدولة الإيرانية – منذ انتصار الثورة الإسلامية – لم يكن لها في أي وقت موقف مؤيد للإرهاب ، وأن الدوائر الإيرانية التي كانت تعلن موقفاً مسانداً لجماعات العنف السياسي كانت، دائماً، منظمات تتبع بعض القيادات الدينية التي لا تخضع – بحكم التنظيم الديني الشعبي – للحكومة ، و لا تلتزم بأوامرها، و لا تعبر عن سياستها . والمثال الذي يوضح هذه الحقيقة هو موقف الحكومة الإيرانية منذ انتخابات الرئيس السيد محمد خاتمي، حتى اليوم، من قضية الفتوى التي أصدرها الإمام آية الله خوميني بإباحة دم الكاتب الهندي – البريطاني سلمان رشدي على أثر نشر كتابه «آيات شيطانية». لقد أعلنت الحكومة الإيرانية مراراً أنها غير معنية بتنفيذ تلك الفتوى . وردت عليها – في كل مرة – جمعية دينية، أو أكثر، برصد مكافأة – أو برفع قيمتها – لمن يقوم بتنفيذ الفتوى ! إن القوة الدينية في إيران ، بسبب استقلال «الحوزة» ( العلماء ) مالياً وإدارياً ، لا تخضع للإدارة السياسية و لا تأتمر بأمرها، بل يوجد فيها دائماً معارضون علناً لسياسة الحكومة و توجهاتها. و الدول و الحكومات لا تقيم علاقاتها ، بعضها مع بعض ، على أساس تصريحات المعارضة ومواقفها ، وإنما يتم ذلك في إطار توجهات الدول و الحكومة نفسها، و قراراتها و تصرفاتها.
و لعل آخر المواقف الإيرانية التي تعني مصر، في هذا الشان ، هو رفض الحكومة الإيرانية استقبال بعض المحكوم عليهم غيابياً في قضايا الإرهاب من المحاكم المصرية ، وإعادتها إياهم و عائلاتهم إلى البلد الذي توجهوا منه إلى طهران.
وهو موقف لا يذكره أحد من الخائفين أو الكارهين للتقارب المصري الإيراني .. و لايجوز أن تغفله السياسة المصرية وهي تضع أمامها الملف الإيراني لاتخاذ قرارها في شأنه.
ثالثاً : تصدير الثورة :
في أعقاب انتصار الثورة الإسلامية في إيران كنت أؤدي عملا قانونياً استدعى أن أحضر مجلس أحد الحكام العرب مع مجموعة من الوزراء من دول شتى .ووجه الحاكم العربي سؤاله إلى الجالسين عن حقيقة إصرار إيران على «تصدير ثورتها» إلى الدول المجاورة لها ، وعن العلاقة بين «الشيعة» و«الشيوعيين» . وقال إنه بعد استقباله لنا سوف يستقبل السيد / قطب زادة وزير الخارجية الإيرانية يومئذ، ويريد أن يتبين ، أكثر ما يمكن ، حقيقة الأمر قبل لقائه إياه.
وكان أحد الوزراء الحاضرين صديقاً قديماً ، وكنت المصري الوحيد في ذلك المجلس ، فقال للحاكم العربي : عليك بفلان .. فهو الذي يتابع أحوال إيران و يهتم بنظام الحكم الجديد فيها ! وعلى الرغم من الورطة الظاهرة التي وضعني فيها هذا الصديق فقد حاولت أن أبين أن فكرة «تصدير الثورة» هي، في الحقيقة، كلمة قالها أحد رجال الدين الإيرانيين ( حجة الإسلام مدرِّسي) وأصبحت شعاراً يروجه المناهضون للحكم الإسلامي في إيران و يستخدمونه في تخويف جيران إيران من أن يصيب بلادهم المد الثوري الإيراني.
وبنيت في أثناء الحديث ما كنت قد كتبته- آنئذ- في كتابي عن «النظام السياسي للدولة الإسلامية» من اختلاف الظروف التي صنعت الثورة في إيران عنها في أي بلد مجاور، ومن انفراد إيران بالتنظيم المحكم للعلماء، وباستقلالهم المالي القائم على ما يدفعه المسلمون الشيعة للأئمة الذين يقلدونهم ليقوموا بأنفاقه في الوجوه المقررة في المذهب، وهو نظام لا نظير له في البلاد السنية مما يحول دون قيام « ثورة» على النمط الإيراني في تلك البلاد.
ولا يزال رأيي في مسألة تصدير الثورة هوهو.
وقد اختفى هذا الشعار من على ألسنة المعنيين بالحالة الإيرانية داخل الأوساط المؤيدة والمعارضة على سواء.
وإثارة هذه الحجة في وجه القرار، الذي تأخر كثيراً، في الشأن المصري- الإيراني لا يفتح إلا باب جدل عقيم لا فائدة منه ولا نتيجة له.
والثورة- في النهاية- ليست منتجاً يعلَّب أو يغلَّف ويتم تصديره.الثورة حالة نفسية، أولا، واستعداد شعبي، ثانيا، وتنظيم محكم، ثالثا، وظروف موضوعية مواتية، رابعاً. وكل ذلك لا يتوافر لا في مصر ولا في غيرها من البلدان العربية اليوم بحيث يخشى أحد من أن تجد الثورة الإيرانية «مستَوْرِداً، إذا كان لها هناك» مُصَدِّر"!
رابعاً: الخوف من التشيع :
ليس في البلاد العربية والإسلامية- فيما أعلم- بلد يحتفي أهله بآل البيت النبوي الشريف، ويحبونهم حبا معلناً، مثلما يحتفي بهم المصريون، ويعلنون هذا الحب في كل مناسبة. بل إنهم يخترعون لإعلانه المناسبات اختراعاً!
ولازلت أذكر ذلك الخطيب المفوّه الذي كان يخطب في شبابنا في مساجد الإسكندرية- كان أحد وعاظ الأزهر الشريف- وكان ينهى خطبته كل جمعة بقول الشاعر:
لي خمسة أرمي بهم
شر الوباء الحاطمة..
المصطفى والمرتضى..
..وابناهما والفاطمة!!
يقول هذا كل جمعة، وهو سُنِّيُ العقيدة، حَنَفِيُّ المذهب، ويري التشيع«رفضا» والاعتقاد بالإمامة «زيغاً» ، ويرى- في الوقت نفسه- كما يري المصريون جميعاً- حبًّ آل البيت قربةً وعبادة.
فلم ينتشر التشيع في مصر عبر القرون إذن. ولم يترك الفاطميون من تشيعهم بعد العقود العشرين المتوالية التي حكموا فيها مصر إلا الجامع الأزهر الذي سر عان ما أصبح معقل الإسلام السني الأول في العالم الإسلامي كله.
ومن أجمل ما سمعته من الأخ الجليل آية الله الامام محمد مهدي شمس الدين- رئيس المجلس الإسلامي الشيعى الأعلى في لبنان ، شفاه الله- قوله- غير مرة- «إن التبشير الإسلامي- الإسلامي حرام. فلا يجوز للمسلم الشيعي أن يحاول نشر مذهبه بين أهل المذاهب السنية،ولا يجوز لهؤلاء أن يفعلوا ذلك». وأعرف كثيرين من آيات الله والعلماء المجتهدين ، في إيران، يرددون مثل هذا الرأي ويعلنونه لأتباعهم .
والحديث الدائر- على كل حال- ليس عن علاقات دينية مصرية إيرانية ولا عن الاختلافات العقيدية والفقهية التي يصرفها المتخصصون، فهذه العلاقات والخلافات مدارها بين العلماء، والبحث في شؤونها وشجونها يجب أن يكون في مجامعهم، التي لا يتاح ولوجوها لغير أصحاب العلم الدين الراسخ. ولكن الحديث الدائر اليوم هو عن علاقاتنا السياسية والدبلوماسية والثقافية والاقتصادية. وهى علاقات كلما أسرعنا الخطو إلى تحسينها، وتطوير المؤسسات القائمة عليها، كلما ازددنا- معاً- قوة وهيبة، وقدرة على مواجهة محاولات الهيمنة المستمرة، من الغرب والشرق، على العالم الإسلامي وقلبه الوطن العربي، وازددنا قدرة-كذلك- على مواجهة مخططات الصهيونية المحلية والعالمية للسيطرة الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولاستكمال الاستيلاء المطلق على فلسطين والقدس الشريف.
ولو لم يكن للعلاقات العربية الإيرانية من فضل يذكر سوى دعم الصمود السوري في مواجهة الضغوط الدولية الطاغية، حتى تمكنت سوريا من الإفلات، إلى الآن ، من قبول اتفاق سلام منقوص لا يحقق لها استرداد أرضها والسيطرة على مياهها في بحيرة طبرية؛ وسوى الدعم المستمر طيلة اثنين وعشرين عاماً ، للمقاومة اللبنانية التي دحرت، بسلاح حزب الله، الاحتلال الصهيوني للجنوب اللبناني؛ أقول لو لم يكن العلاقات العربية الإيرانية سوى هذين الأثرين ، لكان ذلك جديراً جدارة كافية جداً بأن يسرع القرار المصري - الإيراني بعودة العلاقات في المجالات كافة إلى المستوى اللائق بقوتين إقليميتين كبيرتين يجمعهما من الوشائج والمصالح أضعاف ما يفرق بينهما من المخاوف والأوهام
و عقب ذلك مباشرة كان وفد من «الأهرام» يتوجه إلى إيران ليمضي حوالي الأسبوع في زيارة مركز الدراسات الاستراتيجية في وزارة الخارجية الإيرانية ، وغيره من المؤسسات الإيرانية، ومن المتوقع أن يكون قراء «الأهرام» – عند نشر هذا المقال- قد تابعوا ردود فعل الكتَّاب الذين شاركوا في هذه الزيارة على صفحات الصحيفة المصرية – بل العربية – الأولى.
و النشاط الاقتصادي المصري – الإيراني يزداد نطاقه اتساعاً ، والسلع الإيرانية تظهر كل يوم في السوق المصرية .. من الفاكهة إلى السلع المعمرة! و لعل رجال الأعمال المصريين أن يكونوا في مثل نشاط زملائهم الإيرانيين وتكون منتجات مصانعهم و مزارعهم قد وجدت طريقها إلى الأسواق الإيرانية أيضاً.
و كان للأدباء و المفكرين المصريين حضور كبير ملحوظ في ملتقى الشاعر الفارسي الكبير سعدي الشيرازي الذي أقامته في طهران مؤسسة عبد العزيز البابطين الثقافية ( مؤسسة عربية نشطة تهتم بالشعر و الشعراء خاصة و بالأدب العربي بوجه عام ).
و تابع المثقفون المصريون باهتمام عددا من التقارير الصحفية و التحليلات النقدية الأدبية لما دار في هذا الملتقى كان من أهمها المقال الذي كتبه العلامة الأستاذ الدكتور محمود علي مكي، عضو مجمع اللغة العربية، في «أهرام» الثلاثاء 18/7/2000.
و الواقع أن العلاقات الشعبية المصرية الإيرانية لم تنقطع أبداً .. بل شاركت رموز مصرية ، كانت دائماً محمل تقدير مجمع عليه، في عديد من الأنشطة الإيرانية على امتداد السنوات الماضية منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران حتى اليوم. وكانت العلاقات المصرية الإيرانية دائماً على رأس الموضوعات التي يحرص كبار المسؤولين الإيرانيين على بحثها مع هؤلاء المصريين ولو لم يكونوا من ذوي المناصب السياسية أو النفوذ السياسي ، لأنهم في إيران – كما سمعت من عدد من كبارهم مراراً- لا يملكون تَرَفَ بقاء العلاقات بين مصر وإيران فاترة فضلا عن أن تكون سيئة أو مقطوعة!!
وبعض الذين أتيح لهم القيام بزيارات متكررة لإيران نقلوا إلى المسؤولين في مصر – شفاهة و كتابة – هذه المشاعر الإيرانية ، ونقلوا – في بعض الأحيان – رغبة رسمية في اتخاذ خطوات ذات دلاله رمزية على رغبة مصرية مماثلة ، أو على مجرد الترحيب بالرغبة الإيرانية ... و لكن ظروفا شتى بعضها معروف و مقَّدر، وبعضها مجهول غير معلوم الأثر ، حالت دون تحقق ذلك في حينه. والأمور تجري بالمقادير ، لا وفق أهوائنا وتمنياتنا!
و لم يبدأ تحسن ملحوظ في العلاقات المصرية الإيرانية إلا بعد مشاركة الوزير عمرو موسى، على رأس الوفد المصري، في مؤتمر القمة الإسلامية الذي عقد في طهران ، وتوالت بعده الترتيبات الهادئة التي اتخذها الطرفان –بجدية ملموسة – لإخراج العلاقات بين البلدين من نفق الخوف و التربص الحذر إلى فضاء الثقة المتبادلة و التعاون المشترك لتحقيق المصالح الخاصة و العامة على السواء.
وقد ذكرت في مقال سابق ( الدبلوماسي ، عدد مارس 2000) صوراً من المواقف الإيرانية الإيجابية نحو مصر ، وعزوت هذه المواقف إلى وجود توجه جاد نحو علاقات إيرانية أفضل مع القاهرة ، وقلت إنه توجه تصنعه القوى الإصلاحية في إيران بقدر ما تصنعه الدبلوماسية المصرية المتميزة.
و لم أكن آنئذ – ولست الآن – غافلا عن الخلافات التي أكَّدْتُ أنها ستبقى قطعاً بين الفكرين العربي – بإجمال – و الإيراني ، ولا عن الاختلاف الوقتي، في المصالح الصغيرة أو المحدودة، الذي سيظهر – حتماً – من حين إلى حين ، ولا عن محاولات الدس و الوقيعة التي لن تكف القوى الكارهة للتقارب المصري أو العربي – أو المضرورة منه ، عن اصطناعها واختلاق فرص الإفادة منها . ولكنني كنت – ولا أزال – أومن بأن المصلحة السياسية المصرية و العربية ، فضلا عن الفريضة الإسلامية و الضرورة الواقعية ، توجب كلها ، أن نُحِسنَ التعامل مع هذه الأمور ، كلها ، إحساناً يضع المصلحة الاستراتيجية المصرية و العربية و الإسلامية فوق المواقف الصغيرة التي يخبو وهج الاهتمام بها بالسرعة نفسها التي تشتعل بها نارها ! وفوق المخاوف الحقيقية التي يسهل تجنب أسبابها؛ وفوق المخاوف المتوهمة التي ينبغي الالتفات عنها و عدم التأثر بها.
فما هي اليوم المسائل التي تبدو مثاراً للتردد في الوصول بالعلاقات المصرية الإيرانية إلى غايتها : قوةً ، ومستوى تمثيلٍ ، وانفتاحاً ثقافياً وسياسياً؟
إن الذين يُخوِّفون من اتخاذ القرارات التي تضع ذلك كله موضع التنفيذ يتحدثون عن النفوذ الإقليمي لإيران، ويتحدثون عن موقف إيران من الإرهاب ، ويتحدثون عن فكرة «تصدير الثورة» التي شاعت عن النظام الإيراني الإسلامي منذ قيامه ، ويتحدثون – أخيراً و همساً غيرَ عَلَنٍ – عن الخوف من انتشار المذهب الشيعي في مصر انتشاراً يهدد الوحدة الدينية الإسلامية فيها.
و التحليل السياسي الصريح لكل واحدة من هذه المسائل يسهل على صناع القرار اتخاذه في الوقت المناسب .. فالتردد والإحجام قد يكونان أسوأ من الامتناع المطلق عن اتخاذ القرار الصحيح .
والتأخر قد يضيِّع فرصاً لا تعود.
والتوقيت في اتخاذ القرارات المصيرية نصف الصواب ، أو نصف الخطأ ، بحسب الأحوال!
أولا : النفوذ الإقليمي الإيراني:
إن النفوذ الإقليمي لإيران ، في منطقة الخليج وما حولها ، و في دول الجوار الإسلامي لها ، هو حقيقة واقعة .وهو حقيقة قديمة غير مرتبطة بقيام النظام الإسلامي في إيران ، وإنما هي مرتبطة بوضعها الجغرافي و ثقلها التاريخي و دورها الاستراتيجي الممَيز الذي عرف لها قبل الإسلام ، ولم يزده إسلام إيران إلا قوة ووضوحاً.
و هذا النفوذ الإقليمي لا يمثل عقبةً أمام العلاقات المصرية الإيرانية لأي سبب كان . فليس بين البلدين منافسة على النفوذ في الخليج ، فالنفوذ المصري في الخليج يقوم على مصادر و أسباب موضوعية تختلف كل الاختلاف عن مصادر النفوذ الإيراني وأسبابه.
النفوذ المصري في الخليج بدأ منذ الثلاثينيات من القرن العشرين بالبعثات التعليمية التي أرسلها محمد العشماوي باشا – وزير المعارف في حكومة إسماعيل صدقي و الوكيل الدائم للوزارة سنين عديدة قبل توليه إياها – إلى البحرين و الكويت و بعض دول الخليج الأخرى ، فافتتحت المدارس ، و بدأت حركة التعليم النظامي في تلك الدول ، و تبع ذلك وفود علماء أزهريين أجلاء إلى عدد من بلدان الخليج أسسوا فيها التعليم الديني الحديث.
و ما إن قامت الثورة المصرية حتى أصبحت مصر حاملة لواء المد العربي القومي الذي وجد في كثير من دول الخليج العربية – بما في ذلك المملكة العربية السعودية – أرضاً خصبة «أمسكت الماء وأنبتت الكلأ»، بتعبير الحديث النبوي الشريف ، فكان الماء هو مشاعر العروبة و الدعوة إليها، و كان الكلأ ولاءً لمصر و قيادتها السياسية .
ثم جاءت مرحلة التوسع التنموي في تلك الدول الخليجية ، و قامت فيه الخبرة المصرية و العمالة المصرية بدور بالغ الأهمية استمر ثلاثة عقود من الزمان ، وله بقايا مهمة حتى الآن ، فأنشأ لمصر مصالح اقتصادية حيوية لا يمكن تجاهلها ، وعلاقات إنسانية تعد ثروة مضافة حقيقية على المستويين الرسمي و الشعبي معاً.
وساهمت مصر بدورها المعروف في أزمة الخليج الثانية ، بعد الغزو العراقي للكويت ، وتكونت مجموعة «إعلان دمشق» وازدادت العلاقات المصرية الخليجية توثقاً، و جرى تجاوز حكيم من جانب مصر عن أحداث في مواقع شتى كان من الممكن أن تسبب شروخاً في العلاقات المصرية الخليجية ، واستثمرت القيادة المصرية هذه الأحداث و المواقف – وتجاوزها عن آثارها السلبية حتى على الرأي العام المصري - لتأكيد رسوخ العلاقات مع دول الخليج العربية و ثباتها.
و ليس لمصر – قطعاً – مطامع جغرافية أو عسكرية في الخليج، و ليس هناك أدنى احتمال لتعارض المصالح المصرية - الإيرانية تعارضاً مباشر بسبب شأن خليجي.
هناك – كمالا يخفى – مسألة الجزر الخليجية الثلاث التي تتنازع إيران والإمارات العربية المتحدة السيادة عليها ، وهناك الخلافات البترولية بين إيران و الكويت و العراق على بعض الحقول النفطية البحرية ؛ وقد أعلنت مصر مراراً أن الحوار و التفاوض هو السبيل الأمثل لحل هذا الخلاف . وقبل نشر هذا المقال يتوقع أن يكون وزير البترول الكويتي قد زار إيران لإبرام اتفاق خاص باستغلال حقل البترول الواقع في الجُرْف القاري في مياه الخليج بين إيران و الكويت، وهو اتفاق سيزيل عقبة غير ضئيلة من طريق العلاقات الإيرانية العربية . و يبقى الشأن الإيراني – العراقي معلقاً كالشأن العراقي – العربي نفسه ؛ بسبب التعقيدات الكثيرة التي صنعها العدوان العراقي مرتين على إيران ثم على الكويت، وهي تعقيدات تخرج عن نطاق البحث هنا ، وتستعصي على الحل مع بقاء الوضع العراقي على ما هو عليه.
خاتمة القول في المسألة إذن أن النفوذ الإيراني في الخليج ، القائم على خلفية تاريخية لا يمكن تجاهلها، ووضع جغرافي ثابت ، وتركيبة سكانية مشتركة ، لايقوم عقبة بوجه من الوجوه في سبيل تطوير العلاقات المصرية الإيرانية تطويرا يحقق مصالح البلدين و الشعبين و المصلحة الإسلامية بوجه عام.
ثانياً : إيران والإرهاب:
المحللون السياسيون يعلمون يقيناً أن إلصاق تهمة الإرهاب بدولة من الدول هو نتيجة للتصنيف الأمريكي الذي يقرر كل عام من هي الدول التي تبقى في قائمة الدول المساندة للإرهاب ، و من هي الدول التي تُرفع أسماؤها من هذه القائمة .
و قد أُدْرِجَتْ إيران في قائمة الدول المساندة للإرهاب ضد احتلال السفارة الأمريكية عام 1980 ، ولا تزال القائمة تضع إيران في مقدمة الدول حتى الآن.
و لكن الموقف المصري من مسألة إيران و الإرهاب لم يكن – في كل الأوقات – متأثرا بالموقف الأمريكي.
فقد كانت لمصر أسبابها الخاصة في اعتبار إيران دولة ترعى الإرهاب و تدعمه في الشرق الأوسط . وإن كان الواقع أن هذه الأسباب لم تَرْقَ في أي وقت إلى مستوى الوقائع المادية الثابتة، وإنما ظلت دائماً في دائرة التقارير التي لا يعلم صُدْقها من كذبها ؛ وفي إطار التصريحات التي كان يطلقها بعض رجال الدين الإيرانيين أو بعض المسؤولين عن تأييد الجماعات التي تمارس العنف السياسي المتسربل برداء الدين؛ و ساعد على تصديق تلك التقارير و التصريحات دعوة إيران – من حين إلى آخر – بعض الأشخاص الذين يؤيدون مسلك جماعات العنف السياسي إلى المهرجانات السنوية التي تقام في ذكرى الثورة الإسلامية في فبراير من كل عام ، وظهور هؤلاء على شاشة التلفزيون الإيراني معبرين عن مواقف سلبية ضد مصر وقيادتها.و ساعد على ذلك – أيضا – إبقاء إيران على اسم خالد الإسلامبولي، الذي أطلق على أحد شوارع طهران ، على الرغم من الطلب المصري المتكرر بتغيير ذلك الاسم لما يحمله من إشارة -لا تخطئ - إلى تأييد إيران للجماعة التي اغتالت الرئيس السادات.
و الذين يعارضون التقارب المصري الإيراني – علانيةً و سرًا – يُضَخِّمون من آثار هذه الأسباب ، ويُبْدِئون القول فيها و يُعيدُونه دون ملل، ويؤثِّرون بذلك – بدرجات متفاوتة – في الدوائر المختلفة التي يتخذ فيها القرار المصري في الشأن الإيراني .
و الحقائق التي يعرفها المتابعون تشير إلى أن الدولة الإيرانية – منذ انتصار الثورة الإسلامية – لم يكن لها في أي وقت موقف مؤيد للإرهاب ، وأن الدوائر الإيرانية التي كانت تعلن موقفاً مسانداً لجماعات العنف السياسي كانت، دائماً، منظمات تتبع بعض القيادات الدينية التي لا تخضع – بحكم التنظيم الديني الشعبي – للحكومة ، و لا تلتزم بأوامرها، و لا تعبر عن سياستها . والمثال الذي يوضح هذه الحقيقة هو موقف الحكومة الإيرانية منذ انتخابات الرئيس السيد محمد خاتمي، حتى اليوم، من قضية الفتوى التي أصدرها الإمام آية الله خوميني بإباحة دم الكاتب الهندي – البريطاني سلمان رشدي على أثر نشر كتابه «آيات شيطانية». لقد أعلنت الحكومة الإيرانية مراراً أنها غير معنية بتنفيذ تلك الفتوى . وردت عليها – في كل مرة – جمعية دينية، أو أكثر، برصد مكافأة – أو برفع قيمتها – لمن يقوم بتنفيذ الفتوى ! إن القوة الدينية في إيران ، بسبب استقلال «الحوزة» ( العلماء ) مالياً وإدارياً ، لا تخضع للإدارة السياسية و لا تأتمر بأمرها، بل يوجد فيها دائماً معارضون علناً لسياسة الحكومة و توجهاتها. و الدول و الحكومات لا تقيم علاقاتها ، بعضها مع بعض ، على أساس تصريحات المعارضة ومواقفها ، وإنما يتم ذلك في إطار توجهات الدول و الحكومة نفسها، و قراراتها و تصرفاتها.
و لعل آخر المواقف الإيرانية التي تعني مصر، في هذا الشان ، هو رفض الحكومة الإيرانية استقبال بعض المحكوم عليهم غيابياً في قضايا الإرهاب من المحاكم المصرية ، وإعادتها إياهم و عائلاتهم إلى البلد الذي توجهوا منه إلى طهران.
وهو موقف لا يذكره أحد من الخائفين أو الكارهين للتقارب المصري الإيراني .. و لايجوز أن تغفله السياسة المصرية وهي تضع أمامها الملف الإيراني لاتخاذ قرارها في شأنه.
ثالثاً : تصدير الثورة :
في أعقاب انتصار الثورة الإسلامية في إيران كنت أؤدي عملا قانونياً استدعى أن أحضر مجلس أحد الحكام العرب مع مجموعة من الوزراء من دول شتى .ووجه الحاكم العربي سؤاله إلى الجالسين عن حقيقة إصرار إيران على «تصدير ثورتها» إلى الدول المجاورة لها ، وعن العلاقة بين «الشيعة» و«الشيوعيين» . وقال إنه بعد استقباله لنا سوف يستقبل السيد / قطب زادة وزير الخارجية الإيرانية يومئذ، ويريد أن يتبين ، أكثر ما يمكن ، حقيقة الأمر قبل لقائه إياه.
وكان أحد الوزراء الحاضرين صديقاً قديماً ، وكنت المصري الوحيد في ذلك المجلس ، فقال للحاكم العربي : عليك بفلان .. فهو الذي يتابع أحوال إيران و يهتم بنظام الحكم الجديد فيها ! وعلى الرغم من الورطة الظاهرة التي وضعني فيها هذا الصديق فقد حاولت أن أبين أن فكرة «تصدير الثورة» هي، في الحقيقة، كلمة قالها أحد رجال الدين الإيرانيين ( حجة الإسلام مدرِّسي) وأصبحت شعاراً يروجه المناهضون للحكم الإسلامي في إيران و يستخدمونه في تخويف جيران إيران من أن يصيب بلادهم المد الثوري الإيراني.
وبنيت في أثناء الحديث ما كنت قد كتبته- آنئذ- في كتابي عن «النظام السياسي للدولة الإسلامية» من اختلاف الظروف التي صنعت الثورة في إيران عنها في أي بلد مجاور، ومن انفراد إيران بالتنظيم المحكم للعلماء، وباستقلالهم المالي القائم على ما يدفعه المسلمون الشيعة للأئمة الذين يقلدونهم ليقوموا بأنفاقه في الوجوه المقررة في المذهب، وهو نظام لا نظير له في البلاد السنية مما يحول دون قيام « ثورة» على النمط الإيراني في تلك البلاد.
ولا يزال رأيي في مسألة تصدير الثورة هوهو.
وقد اختفى هذا الشعار من على ألسنة المعنيين بالحالة الإيرانية داخل الأوساط المؤيدة والمعارضة على سواء.
وإثارة هذه الحجة في وجه القرار، الذي تأخر كثيراً، في الشأن المصري- الإيراني لا يفتح إلا باب جدل عقيم لا فائدة منه ولا نتيجة له.
والثورة- في النهاية- ليست منتجاً يعلَّب أو يغلَّف ويتم تصديره.الثورة حالة نفسية، أولا، واستعداد شعبي، ثانيا، وتنظيم محكم، ثالثا، وظروف موضوعية مواتية، رابعاً. وكل ذلك لا يتوافر لا في مصر ولا في غيرها من البلدان العربية اليوم بحيث يخشى أحد من أن تجد الثورة الإيرانية «مستَوْرِداً، إذا كان لها هناك» مُصَدِّر"!
رابعاً: الخوف من التشيع :
ليس في البلاد العربية والإسلامية- فيما أعلم- بلد يحتفي أهله بآل البيت النبوي الشريف، ويحبونهم حبا معلناً، مثلما يحتفي بهم المصريون، ويعلنون هذا الحب في كل مناسبة. بل إنهم يخترعون لإعلانه المناسبات اختراعاً!
ولازلت أذكر ذلك الخطيب المفوّه الذي كان يخطب في شبابنا في مساجد الإسكندرية- كان أحد وعاظ الأزهر الشريف- وكان ينهى خطبته كل جمعة بقول الشاعر:
لي خمسة أرمي بهم
شر الوباء الحاطمة..
المصطفى والمرتضى..
..وابناهما والفاطمة!!
يقول هذا كل جمعة، وهو سُنِّيُ العقيدة، حَنَفِيُّ المذهب، ويري التشيع«رفضا» والاعتقاد بالإمامة «زيغاً» ، ويرى- في الوقت نفسه- كما يري المصريون جميعاً- حبًّ آل البيت قربةً وعبادة.
فلم ينتشر التشيع في مصر عبر القرون إذن. ولم يترك الفاطميون من تشيعهم بعد العقود العشرين المتوالية التي حكموا فيها مصر إلا الجامع الأزهر الذي سر عان ما أصبح معقل الإسلام السني الأول في العالم الإسلامي كله.
ومن أجمل ما سمعته من الأخ الجليل آية الله الامام محمد مهدي شمس الدين- رئيس المجلس الإسلامي الشيعى الأعلى في لبنان ، شفاه الله- قوله- غير مرة- «إن التبشير الإسلامي- الإسلامي حرام. فلا يجوز للمسلم الشيعي أن يحاول نشر مذهبه بين أهل المذاهب السنية،ولا يجوز لهؤلاء أن يفعلوا ذلك». وأعرف كثيرين من آيات الله والعلماء المجتهدين ، في إيران، يرددون مثل هذا الرأي ويعلنونه لأتباعهم .
والحديث الدائر- على كل حال- ليس عن علاقات دينية مصرية إيرانية ولا عن الاختلافات العقيدية والفقهية التي يصرفها المتخصصون، فهذه العلاقات والخلافات مدارها بين العلماء، والبحث في شؤونها وشجونها يجب أن يكون في مجامعهم، التي لا يتاح ولوجوها لغير أصحاب العلم الدين الراسخ. ولكن الحديث الدائر اليوم هو عن علاقاتنا السياسية والدبلوماسية والثقافية والاقتصادية. وهى علاقات كلما أسرعنا الخطو إلى تحسينها، وتطوير المؤسسات القائمة عليها، كلما ازددنا- معاً- قوة وهيبة، وقدرة على مواجهة محاولات الهيمنة المستمرة، من الغرب والشرق، على العالم الإسلامي وقلبه الوطن العربي، وازددنا قدرة-كذلك- على مواجهة مخططات الصهيونية المحلية والعالمية للسيطرة الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولاستكمال الاستيلاء المطلق على فلسطين والقدس الشريف.
ولو لم يكن للعلاقات العربية الإيرانية من فضل يذكر سوى دعم الصمود السوري في مواجهة الضغوط الدولية الطاغية، حتى تمكنت سوريا من الإفلات، إلى الآن ، من قبول اتفاق سلام منقوص لا يحقق لها استرداد أرضها والسيطرة على مياهها في بحيرة طبرية؛ وسوى الدعم المستمر طيلة اثنين وعشرين عاماً ، للمقاومة اللبنانية التي دحرت، بسلاح حزب الله، الاحتلال الصهيوني للجنوب اللبناني؛ أقول لو لم يكن العلاقات العربية الإيرانية سوى هذين الأثرين ، لكان ذلك جديراً جدارة كافية جداً بأن يسرع القرار المصري - الإيراني بعودة العلاقات في المجالات كافة إلى المستوى اللائق بقوتين إقليميتين كبيرتين يجمعهما من الوشائج والمصالح أضعاف ما يفرق بينهما من المخاوف والأوهام