الحد الأدنى لأجور الموظفين ...رؤية شرعية
الشيخ حامد العطار
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ثار في الآونة الأخيرة في مصر مطالبات شعبية بإقرار حد أدنى للأجور، يؤمن للموظفين الحاجات الأساسية والضرورية التي لا يمكن للإنسان أن يعيش بدونها، فيما طالب آخرون من أصحاب الشركات أن ترتبط الأجور بقيمة العمل لا بما يحتاج إليه الموظف من المصروفات الأساسية، نادوا بذلك خوفا من أن تلزمهم الدولة بحد أدنى للأجور يفوق بكثير ما يدفعونه بالفعل للموظفين، وبين هذه النداءات وتلك التخوفات يبرز السؤال عن موقف الإسلام من هذه القضية الكبيرة، التي تعد معلما رئيسا من معالم الاقتصاد، وركيزة تتباين عندها الأنساق الاقتصادية وتكون منعطفاتها، فإذا كان النسق الرأسمالي يحدد موقفه من هذه المسألة لصالح رب العمل، والنسق الاشتراكي يميل لصالح العامل، فما التصور الإسلامي الذي قدمه الإسلام لحل هذه المتباينة!!
قانون العرض والطلب
من المعروف أن القانون الذي يحدد الأثمان هو قانون العرض والطلب، وهو العلاقة العكسية بين ثَمَن السلعة والكمية المطلوبة منها، هذه العلاقة هي ما يسمى بـ"قانون الطلب" الذي ينطوي على أن الكمية المطلوبة من سلعة معينة تتغير تغيرًا عكسيًّا بوجه عام مع تغيُّر الثمن الذي تباع به في السوق، فتزيد بانخفاضه، وتقل بارتفاعه، ما يحملان الأسعار على الارتفاع أو الانخفاض، فكلما زاد العرض وقل الطلب انخفض الثمن، وكلما قل العرض وزاد الطلب ارتفع الثمن، وهذا من القوانين الطبيعية في السوق، وهو قانون لا يحكم السلع فحسب ، بل إنه يمتد ليتحكم في أسعار الخدمات ، فإذا قل العمال مقدمو الخدمات زاد الطلب وارتفعت أجورهم، وإذا كثر العمال انخفضت أجورهم ، فقانون العرض والطلب له أثره الكبير في رفع الأسعار أو خفضها، وقد احترم الإسلام هذا القانون وتركه على سجيته، واعتبر التدخل في هذا القانون من المخالفات الشرعية .
وفي مصر، نجد زيادة مطردة في العمالة غير النوعية مما يجعل أجورهم تميل إلى الانخفاض تبعا لهذا القانون ، ولا يستثنى من ذلك إلا العمالة النوعية؛ لذلك وجدنا الأجور تقل بكثير عن حد الكفاية، إلا أننا نجد في الإسلام مع احترام قانون العرض والطلب احتراما لآدمية الإنسان ، ومن ثم اهتم الإسلام بتأمين حد الكفاية لعموم الناس، فإذا شرط رب العمل على الموظف أن يستغرق وقته ثم لم يعطه كفايته، أو لم يستغرق وقته إلا أنه منعه من مزاولة عمل آخر- والحال أنه لم يعطه كفايته- فإن هذا لا يجوز في التصور الإسلامي.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" إن حصول الكفاية أمر لا بد منه، حتى لو قدر أن الواقف صرح بخلاف ذلك كان شرطا باطلا، مثل أن يقول : إن المرتب بها لا يرتزق من غيرها ولو لم تحصل له كفايته، فلو صرح بهذا لم يمض؛ لأن هذا شرط يخالف كتاب الله، فإن حصول الكفاية لا بد منه، وتحصيلها للمسلم واجب، إما عليه وإما على المسلمين، فلا يصح شرط يخالف ذلك".
موظفو الحكومة
ولا شك أن الدولة في التصور الإسلامي ، عليها أن تقدم الأسوة في ذلك قبل أن تطلبه من عموم الناس، وبالفعل وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يضمن لموظفي الدولة في عهده حد الكفاية، فعن المستورد بن شداد قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا"، قال: قال أبو بكر أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق. رواه أبو داود بسند صحيح. وهذا ما نص عليه الفقهاء، يقول الماوردي- وهو بصدد بيان أسس احتساب رواتب موظفي الدولة -: "فيقدر كفايته في نفقته وكسوته لعامه كله، فيكون هذا المقدار في عطائه، ثم تعرض حاله في كل عام، فإن زادت رواتبه الماسة زيد له في العطاء، وإن نقصت رواتبه نقص له في العطاء"[1] كما نص البهوتي على ذلك أيضا.[2]
موظفو القطاع الخاص
اتجه الفقهاء المعاصرون إلى وجوب ارتباط رواتب العمال والموظفين بحد الكفاية، يقول الشيخ محمد أبو زهرة- رحمه الله- "من المقرر أن أجور الأعمال تقدر بقيمة العمل، وبما يكفي العامل وأهله بالمعروف، من غير تقتير ولا إسراف، وأن ذلك يختلف باختلاف الأعمال والأشخاص والأحوال والأعراف"[3]
ويقول المفكر الإسلامي الدكتور صبحي الصالح ، وهو بصدد تعليقه على حديث: "من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا" ، يقول: "ولا ريب في أن هذا وارد أصلا في شأن من يلي عملا عاما، لكن روح الشريعة تقضي باعتباره مبدأ شاملا للجميع، ولمن يعملون بأيديهم بوجه شديد الخصوصية"[4] ويرى بعض الباحثين أن الدكتور صبحي الصالح هنا كان شديد التأثر بالمذهب الاشتراكي في الاقتصاد، الذي كانت تغرق فيه معظم البلاد وقتها.
ولكن الدكتور أحمد حسن يقول في كتابه نظرية الأجور في الفقه الإسلامي: ما ذكره الدكتور صبحي الصالح من اعتبار هذا المبدأ مبدأ لجميع الموظفين، بحيث يشمل من يعملون بأيديهم أجراء في القطاع الخاص ، لا يمت إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم بصلة؛ فالقياس قياس مع الفارق، وهو اجتهاد محض لا يستند إلى أصل شرعي، ولم يرد عن فقيه من الفقهاء، بل يتناقض مع مبادئ الإسلام في مجال تقدير الأجور في القطاع الخاص للنص على اشتراط العلم بالأجرة، وفي التقدير بالكفاية جهالة مفضية للمنازعة ، ولم يرد بها العرف فتؤصل على أساس الاستحسان فتبقى على أصل المنع"[5]
كما يذهب الدكتور ضياء مجيد مذهب الشيخ أبو زهرة ، فيقول" إن ذلك يشمل سائر العاملين، ولا يقتصر على العاملين لدى الدولة فقط"[6]
وفي نفس الاتجاه ، يقول الدكتور يوسف كمال محمد: "إن الإسلام ابتداء يحقق لكل فرد من المجتمع حد الكفاية لا حد الكفاف، ومن ضمن هؤلاء كل عامل لا يجد فرصة عمل ، وتحدث الفقهاء كثيرا في ذلك، واعتبروا من مصارف الزكاة أن يمد العامل بأداة الحرفة"[7]
ويقول الدكتور مصطفى السباعي في كتابه اشتراكية الإسلام[8]: " فإذا رضي العامل مضطرا بأجره دون ما يستحقه وجب أن يدفع له رب العمل ما يستحقه ولا عبرة برضاه في الأجر المخفض، كمن اضطر إلى بيع سلعته بأقل من ثمنها الحقيقي؛ فإن الإيجار هو بيع المنافع.
إلى أن قال وهو بصدد تعليقه على حديث: " من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا" قال : "....وهذا وإن كان واردا في حق موظفي الدولة إلا أن العلة التي اقتضت حصول الموظف على ذلك – وهي تحقيق كفايته للقيام بعمله بأمان واستقرار- تقتضي شمول هذا الحكم للعامل، وليس معنى ذلك أن رب العمل ملزم بإعطائه ما يحتاج إليه من نفقات ولو كان أكثر مما يستحقه من أجر عادل، بل معنى ذلك أن على الدولة أن تضمن للعامل هذا الحق إذا كان أجره العادل لا يكفيه"[9]
توفير حد الكفاية
والذي يتضح لي من مراجعة أصول الشريعة واستقراء النصوص الواردة بالمسألة، وعلى رأسها حديث الباب "من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا" أن الموظف الخاص- الذي يعرف في الفقه بالأجير الخاص- وأبرز تجلياته الموظفون النمطيون، هؤلاء الموظفون إذا استغرقت مؤسسات أعمالهم جميع وقتهم الذي يعمل فيه الموظف فلا بد أن تكون الأجرة العادلة حينئذ هو الحد الأدنى للكفاية، لكفاية الآدمي، ولا يجوز حينئذ أن يعدل عن ذلك بدعوى قانون العرض والطلب وغير ذلك.
ولست أذهب إلى ذلك تحت ضغط الاتجاه الاشتراكي، ولكني أرى أن الشريعة الإسلامية تكفل هذا الحد الأدنى للكفاية، فقد مر بنا قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن حصول الكفاية أمر لا بد منه" كما رأينا الفقهاء يجيزون التسعير في السلع درءا للاحتكار ؛ ولأن الشريعة تضمنت في مبادئها وجود ما يكفي الناس من السلع على وجه الكفاية، وليس التسعير للأجور بأقل حاجة من تسعير الأثمان أثناء الاحتكار.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إذا كان الناس قد التزموا ألا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون لا تباع تلك السلع إلا لهم؛ ثم يبيعونها هم؛ فلو باع غيرهم ذلك منع إما ظلما لوظيفة[10] تؤخذ من البائع؛ أو غير ظلم؛ لما في ذلك من الفساد فهاهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء؛ لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه: فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا كان ذلك ظلما للخلق من وجهين: ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال؛ وظلما للمشترين منهم. والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم ألا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل.
ولهذا منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القسام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا والناس محتاجون إليهم ويغلوا عليهم الأجر؛ فمنع البائعين الذين تواطئوا على ألا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى.
وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضا، فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل المعروف؛ ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف؛ وينمون ما يشترونه: كان هذا أعظم عدوانا من تلقي السلع ومن بيع الحاضر للبادي ومن النجش ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فإنه يجب ألا يباع إلا بثمن المثل: إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة"[11]
كما رأينا تدخل السوق الإسلامية لتوفير حدود الكفاية ، فإذا تكتل العمال، وغالوا فيما يقدمون من خدمات أساسية ، فهنا يتدخل الإسلام ويأمرهم بالعمل بالسعر العادل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: " الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم : فإن الجند يلزمون بأن لا يظلموا الفلاح كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند .
[1] - الأحكام السلطانية (344)
[2] كشاف القناع (3/103)
[3] - التكافل الاجتماعي في الإسلام(46)
[4] - معالم الشريعة الإسلامية لصبحي الصالح (320)
[5] - نظرية الأجور (337)
[6] - انظر كتاب : اقتصاد العمل في الفقه الإسلامي، للدكتور ضياء مجيد ، ص(20)
[7] - فقه الاقتصاد الإسلامي ، ص(161)
[8] - اشتراكية الإسلام (99)
[9] - اشتراكية الإسلام (100)
[10] - المراد بالوظيفة هنا : الإتاوة.
[11] - فتاوى ابن تيمية (28/78)
الشيخ حامد العطار
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ثار في الآونة الأخيرة في مصر مطالبات شعبية بإقرار حد أدنى للأجور، يؤمن للموظفين الحاجات الأساسية والضرورية التي لا يمكن للإنسان أن يعيش بدونها، فيما طالب آخرون من أصحاب الشركات أن ترتبط الأجور بقيمة العمل لا بما يحتاج إليه الموظف من المصروفات الأساسية، نادوا بذلك خوفا من أن تلزمهم الدولة بحد أدنى للأجور يفوق بكثير ما يدفعونه بالفعل للموظفين، وبين هذه النداءات وتلك التخوفات يبرز السؤال عن موقف الإسلام من هذه القضية الكبيرة، التي تعد معلما رئيسا من معالم الاقتصاد، وركيزة تتباين عندها الأنساق الاقتصادية وتكون منعطفاتها، فإذا كان النسق الرأسمالي يحدد موقفه من هذه المسألة لصالح رب العمل، والنسق الاشتراكي يميل لصالح العامل، فما التصور الإسلامي الذي قدمه الإسلام لحل هذه المتباينة!!
قانون العرض والطلب
من المعروف أن القانون الذي يحدد الأثمان هو قانون العرض والطلب، وهو العلاقة العكسية بين ثَمَن السلعة والكمية المطلوبة منها، هذه العلاقة هي ما يسمى بـ"قانون الطلب" الذي ينطوي على أن الكمية المطلوبة من سلعة معينة تتغير تغيرًا عكسيًّا بوجه عام مع تغيُّر الثمن الذي تباع به في السوق، فتزيد بانخفاضه، وتقل بارتفاعه، ما يحملان الأسعار على الارتفاع أو الانخفاض، فكلما زاد العرض وقل الطلب انخفض الثمن، وكلما قل العرض وزاد الطلب ارتفع الثمن، وهذا من القوانين الطبيعية في السوق، وهو قانون لا يحكم السلع فحسب ، بل إنه يمتد ليتحكم في أسعار الخدمات ، فإذا قل العمال مقدمو الخدمات زاد الطلب وارتفعت أجورهم، وإذا كثر العمال انخفضت أجورهم ، فقانون العرض والطلب له أثره الكبير في رفع الأسعار أو خفضها، وقد احترم الإسلام هذا القانون وتركه على سجيته، واعتبر التدخل في هذا القانون من المخالفات الشرعية .
وفي مصر، نجد زيادة مطردة في العمالة غير النوعية مما يجعل أجورهم تميل إلى الانخفاض تبعا لهذا القانون ، ولا يستثنى من ذلك إلا العمالة النوعية؛ لذلك وجدنا الأجور تقل بكثير عن حد الكفاية، إلا أننا نجد في الإسلام مع احترام قانون العرض والطلب احتراما لآدمية الإنسان ، ومن ثم اهتم الإسلام بتأمين حد الكفاية لعموم الناس، فإذا شرط رب العمل على الموظف أن يستغرق وقته ثم لم يعطه كفايته، أو لم يستغرق وقته إلا أنه منعه من مزاولة عمل آخر- والحال أنه لم يعطه كفايته- فإن هذا لا يجوز في التصور الإسلامي.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" إن حصول الكفاية أمر لا بد منه، حتى لو قدر أن الواقف صرح بخلاف ذلك كان شرطا باطلا، مثل أن يقول : إن المرتب بها لا يرتزق من غيرها ولو لم تحصل له كفايته، فلو صرح بهذا لم يمض؛ لأن هذا شرط يخالف كتاب الله، فإن حصول الكفاية لا بد منه، وتحصيلها للمسلم واجب، إما عليه وإما على المسلمين، فلا يصح شرط يخالف ذلك".
موظفو الحكومة
ولا شك أن الدولة في التصور الإسلامي ، عليها أن تقدم الأسوة في ذلك قبل أن تطلبه من عموم الناس، وبالفعل وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم يضمن لموظفي الدولة في عهده حد الكفاية، فعن المستورد بن شداد قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا"، قال: قال أبو بكر أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق. رواه أبو داود بسند صحيح. وهذا ما نص عليه الفقهاء، يقول الماوردي- وهو بصدد بيان أسس احتساب رواتب موظفي الدولة -: "فيقدر كفايته في نفقته وكسوته لعامه كله، فيكون هذا المقدار في عطائه، ثم تعرض حاله في كل عام، فإن زادت رواتبه الماسة زيد له في العطاء، وإن نقصت رواتبه نقص له في العطاء"[1] كما نص البهوتي على ذلك أيضا.[2]
موظفو القطاع الخاص
اتجه الفقهاء المعاصرون إلى وجوب ارتباط رواتب العمال والموظفين بحد الكفاية، يقول الشيخ محمد أبو زهرة- رحمه الله- "من المقرر أن أجور الأعمال تقدر بقيمة العمل، وبما يكفي العامل وأهله بالمعروف، من غير تقتير ولا إسراف، وأن ذلك يختلف باختلاف الأعمال والأشخاص والأحوال والأعراف"[3]
ويقول المفكر الإسلامي الدكتور صبحي الصالح ، وهو بصدد تعليقه على حديث: "من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا" ، يقول: "ولا ريب في أن هذا وارد أصلا في شأن من يلي عملا عاما، لكن روح الشريعة تقضي باعتباره مبدأ شاملا للجميع، ولمن يعملون بأيديهم بوجه شديد الخصوصية"[4] ويرى بعض الباحثين أن الدكتور صبحي الصالح هنا كان شديد التأثر بالمذهب الاشتراكي في الاقتصاد، الذي كانت تغرق فيه معظم البلاد وقتها.
ولكن الدكتور أحمد حسن يقول في كتابه نظرية الأجور في الفقه الإسلامي: ما ذكره الدكتور صبحي الصالح من اعتبار هذا المبدأ مبدأ لجميع الموظفين، بحيث يشمل من يعملون بأيديهم أجراء في القطاع الخاص ، لا يمت إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم بصلة؛ فالقياس قياس مع الفارق، وهو اجتهاد محض لا يستند إلى أصل شرعي، ولم يرد عن فقيه من الفقهاء، بل يتناقض مع مبادئ الإسلام في مجال تقدير الأجور في القطاع الخاص للنص على اشتراط العلم بالأجرة، وفي التقدير بالكفاية جهالة مفضية للمنازعة ، ولم يرد بها العرف فتؤصل على أساس الاستحسان فتبقى على أصل المنع"[5]
كما يذهب الدكتور ضياء مجيد مذهب الشيخ أبو زهرة ، فيقول" إن ذلك يشمل سائر العاملين، ولا يقتصر على العاملين لدى الدولة فقط"[6]
وفي نفس الاتجاه ، يقول الدكتور يوسف كمال محمد: "إن الإسلام ابتداء يحقق لكل فرد من المجتمع حد الكفاية لا حد الكفاف، ومن ضمن هؤلاء كل عامل لا يجد فرصة عمل ، وتحدث الفقهاء كثيرا في ذلك، واعتبروا من مصارف الزكاة أن يمد العامل بأداة الحرفة"[7]
ويقول الدكتور مصطفى السباعي في كتابه اشتراكية الإسلام[8]: " فإذا رضي العامل مضطرا بأجره دون ما يستحقه وجب أن يدفع له رب العمل ما يستحقه ولا عبرة برضاه في الأجر المخفض، كمن اضطر إلى بيع سلعته بأقل من ثمنها الحقيقي؛ فإن الإيجار هو بيع المنافع.
إلى أن قال وهو بصدد تعليقه على حديث: " من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا" قال : "....وهذا وإن كان واردا في حق موظفي الدولة إلا أن العلة التي اقتضت حصول الموظف على ذلك – وهي تحقيق كفايته للقيام بعمله بأمان واستقرار- تقتضي شمول هذا الحكم للعامل، وليس معنى ذلك أن رب العمل ملزم بإعطائه ما يحتاج إليه من نفقات ولو كان أكثر مما يستحقه من أجر عادل، بل معنى ذلك أن على الدولة أن تضمن للعامل هذا الحق إذا كان أجره العادل لا يكفيه"[9]
توفير حد الكفاية
والذي يتضح لي من مراجعة أصول الشريعة واستقراء النصوص الواردة بالمسألة، وعلى رأسها حديث الباب "من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا" أن الموظف الخاص- الذي يعرف في الفقه بالأجير الخاص- وأبرز تجلياته الموظفون النمطيون، هؤلاء الموظفون إذا استغرقت مؤسسات أعمالهم جميع وقتهم الذي يعمل فيه الموظف فلا بد أن تكون الأجرة العادلة حينئذ هو الحد الأدنى للكفاية، لكفاية الآدمي، ولا يجوز حينئذ أن يعدل عن ذلك بدعوى قانون العرض والطلب وغير ذلك.
ولست أذهب إلى ذلك تحت ضغط الاتجاه الاشتراكي، ولكني أرى أن الشريعة الإسلامية تكفل هذا الحد الأدنى للكفاية، فقد مر بنا قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن حصول الكفاية أمر لا بد منه" كما رأينا الفقهاء يجيزون التسعير في السلع درءا للاحتكار ؛ ولأن الشريعة تضمنت في مبادئها وجود ما يكفي الناس من السلع على وجه الكفاية، وليس التسعير للأجور بأقل حاجة من تسعير الأثمان أثناء الاحتكار.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إذا كان الناس قد التزموا ألا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون لا تباع تلك السلع إلا لهم؛ ثم يبيعونها هم؛ فلو باع غيرهم ذلك منع إما ظلما لوظيفة[10] تؤخذ من البائع؛ أو غير ظلم؛ لما في ذلك من الفساد فهاهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء؛ لأنه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه: فلو سوغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا كان ذلك ظلما للخلق من وجهين: ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال؛ وظلما للمشترين منهم. والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يدفع الممكن منه فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم ألا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل.
ولهذا منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القسام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا والناس محتاجون إليهم ويغلوا عليهم الأجر؛ فمنع البائعين الذين تواطئوا على ألا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى.
وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضا، فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه فيشترونه بدون ثمن المثل المعروف؛ ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف؛ وينمون ما يشترونه: كان هذا أعظم عدوانا من تلقي السلع ومن بيع الحاضر للبادي ومن النجش ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه وما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فإنه يجب ألا يباع إلا بثمن المثل: إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة"[11]
كما رأينا تدخل السوق الإسلامية لتوفير حدود الكفاية ، فإذا تكتل العمال، وغالوا فيما يقدمون من خدمات أساسية ، فهنا يتدخل الإسلام ويأمرهم بالعمل بالسعر العادل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: " الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم : فإن الجند يلزمون بأن لا يظلموا الفلاح كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند .
[1] - الأحكام السلطانية (344)
[2] كشاف القناع (3/103)
[3] - التكافل الاجتماعي في الإسلام(46)
[4] - معالم الشريعة الإسلامية لصبحي الصالح (320)
[5] - نظرية الأجور (337)
[6] - انظر كتاب : اقتصاد العمل في الفقه الإسلامي، للدكتور ضياء مجيد ، ص(20)
[7] - فقه الاقتصاد الإسلامي ، ص(161)
[8] - اشتراكية الإسلام (99)
[9] - اشتراكية الإسلام (100)
[10] - المراد بالوظيفة هنا : الإتاوة.
[11] - فتاوى ابن تيمية (28/78)