بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله بديع السموات والأرض، خالق المخلوقات دون مثال سبق. والصلاة والسلام على من بُعث على مثال سبق، جاءنا بالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وضح شرع الله بفعله وقوله وتقريره، وجمع منهجية التوحيد في قوله صلى الله عليه وسلم: »إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم« الحديث (1).
فدل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ميز الفرائض من السنن لما حدَّ الواجبات، تنصيصاً على النواهي؛ لأن النهي يفيد حتمية وفورية المنع، وحدَّ السنن بالتراخي لأن الأصل في الأشياء الإباحة مالم يرد دليل نهي، وليس الأمر كما فهم بعضهم أن الأصل في الأشياء الحرمة مالم يرد دليل أمر، فهذا فهم المرجفين ومن حرموا نور اليقين.
واتضح لأولي الألباب أن الشارع إذا نهى ألزم، وإذا أمر لم يمنع، وإذا لم يمنع لم ينه، ولذا صدَّر النبي صلى الله عليه وسلم الوجوب في الحديث بالنهي، وصدَّر النفي بالأمر، لأن الأمر اشتماله محتمل، أما النهي فاشتماله حسمٌ ،فللشارع أمران ونهيان، أمر وجوب لا مندوحة لأحد بتركه إلا لضرورة، وأمر استحباب محمول على الاستطاعة،وكذلك الحال في النهي في الصورتين،وبذلك قَعَّد النبي صلى الله عليه وسلم القواعد للمنهجية الإسلامية متمشياً مع روح الإسلام ونور الشريعة، يشهد له قوله سبحانه: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً الآية [المائدة:3].
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: »لقد خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،خُطْبَةً ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه وجهله من جهله«(1).
وأخرجه مسلم(2) بلفظ: »قـام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدَّث به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه...«.
وأخرجه مسلم أيضاً بلفظ آخر: »... بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة«.
فمن يطالب المسلم إذا فعل أمراً مستحسناً في الدين راجعاً إلى أصل مكين بفعل النبي وأمره صلى الله عليه وسلم فهو رجلٌ يكذب الرسول والرسالة، ويعارض روح الشريعة؛ لأن الشريعة يسر وما هي بعسر، وما خُير الشارع بين أمرين إلا اختار أيسرهما، بل إن الشارع الحكيم الرؤوف الرحيم لم يلزم الأمة بأوامره في النوافل تأدباً مع أمر الله، فأمر الله حسمٌ، لذا عبر بنهيتكم، وأمر رسول الله تخيير، ومن هذاالمفهوم وذاك أصبح لزاماً عليَّ بيان الأخطاء الشائعة في فهم هديه صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ«(1)، فالسنة التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي المنهجية في التعامل مع أصول الشريعة وأحكامها، لا يعني به السنة التشريعية التي هي الأصل الثاني من أصول التشريع؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم بعد انقطاع الوحي ليس بمقدورهم أن يؤصلوا أصلاً إلا على مثال سبق، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يشير في هديه هذا إلى تأسيس أصل من أصـول الشــريعة ألا وهــو الــقياس، الذي دلت عليه الآية الكريمة في معرض قوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[النساء:59].
يذكر الإمام الفخر رحمه الله في تفسيره أن هذه الآية تجمع في ثناياها مصادر التشريع الأربعة:
الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
أما الكتاب والسنة فمأخوذان من قوله سبحانه: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.
ـ وأما الإجماع فمأخوذ من قوله سبحانه وتعالى: وأولي الأمر منكم أي أهل الحل والعقد.
وأما القياس فمأخوذ من قوله تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول.اهـ.
وذكر رحمه الله في أثناء عرضه للقضية ما نصه: اعلم أن قوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول يدل عندنا على أن القياس حجة، والذي يدل على ذلك أن قوله: فإن تنازعتم في شيء إما أن يكون المراد: فإن اختلفتم في شيء حكمه منصوص عليه في الكتاب أو السنة أو الإجماع، أو المراد: فإن اختلفتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثلاثة، والأول باطل لأن على ذلك التقدير وجب عليه طاعته فكان ذلك داخلاً تحت قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، وحينئذ يصير قوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إعادة لعين ما مضى وإنه غير جائز.
وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني... إلى أن قال: فوجب أن يكون المراد رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له وذلك هو القياس، فثبت أن الآية دالة على الأمر بالقياس. انتهى.
قلت: يعضد هذا المعنى عدم تكرار وأطيعوا قبل أولي الأمر منكم، فقد عطف أولي الأمر على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: عطف الإجماع على السنة القياسية، والقياس على الإجماع، فأصبح القياس والإجماع قائمين على الأصلين؛ الكتاب والسنة، فعُلم من هذا أن سنة الصحابة المهديين ليست هي ذات سنة المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم؛ فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقتها التشريع، وسنة الصحابة وأهل الحل والعقد حقيقتها التفريع. ويتفاضل في التقديم السابق على اللاحق لقوله صلى الله عليه وسلم: »خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم«.
ثم أردف رحمه الله متناولاً من قال: فردوه إلى الله والرسول: فوضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له بأنه لا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت، لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل ذلك، بل لا بد من قطع الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد منها إلى الله على السكوت.انتهى(1).
قلت: لعل ذلك صواب فيما إذا لم يرجع إلى القياس، أما إذا رجع إليه ولم يحل مشكلة فليس ثمة مصير إلا إلى التفويض، وهو قول جمهور أهل العلم كما هو الشأن عند تعارض الأدلة.
وقد عضد ذلـك الإمـام الــقــرطــبي فـي قــول مـرجـوح عـنده نسبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونصه: »قولوا: الله ورسوله أعلم« فهذا هو الرد كما قال عمر: »الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل« وقد يرجح لديّ هذا القول بدلائل عدة من الآية وغيرها.
أما من الآية فإن السياق فيها يقتضي هذا المفهوم حيث إنه بدأ في الآية بقوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ثم أردف بقوله سبحانه فإن تنازعتم والتنازع أقصى درجات الخلاف، أي إذا وصل بكم اللجاج في النقاش بعد أن نظرتم في الكتاب والسنة والإجماع والقياس إلى التنازع فليس لكم إلا التفويض أو التوقف.
يؤكد ذلك قوله سبحانه وتعالى في الآية نفسها: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر والإيمان هو التسليم والإقرار بالقلب والانقياد المطلق لليقين المتحقق بالتصديق. ونتيجة ذلك الخير والفضيلة لما ختمت به الآية وهو قوله تعالى: ذلك خير وأحسن تأويلاً أي ذلك أفضل مزية وأحسن حالاً ومآلاً.
أما الدلائل الخارجية فمنها قوله سبحانه وتعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم[الأنفال:46] فهذه الآية الكريمة ترشد المسلم إلى أن النزاع يذهب المكانة ويضعف القوة ويضعضع صفوف الجماعة. وفي الآية تشنيع على الخلاف المذموم الذي لا يؤدي إلى خير، أي مالم يحتمله القياس.
ومن الدلائل الخارجية أيضاً قوله تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [الشورى:10]. فهذه الآية الكريمة توضح للمسلم الفطن أن الخلاف نوعان:
ـ خلاف محمود.
ـ وخلاف مذموم.
ولذا بدئت الآية بقوله سبحانه: وما اختلفتم فيه من شيء وختمت بقوله فحكمه إلى الله، أي مآله ومرده إلى شرع الله.
أما الآيتان المتقدمتان فإنما وردتا في الخلاف المذموم؛ فقد صدرتا بمادة »التنازع« وهو كما قلنا أقصى درجات الخلاف الذي لا يفصل في قضيته إلا التوقف والتفويض والرد إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا إظهار لنمط عظيم من أنماط التربية الإيمانية، ومقام عزيز من مقامات المعرفة وهو: أن الأمر جميعاً لله، وأن الإنسان مهما بلغ في علمه، فإنه عاجز عن المعرفة.
قل أأنتم أعلم أم الله[البقرة:140]، ووما أوتيتم من العلم إلا قليلاً[الإسراء:85] صدق الله العظيم.
لذا ينبغي علينا أن لا ننسى مراد الشارع من الخلاف، فالخلاف المحمود يزيد في الثراء العلمي ويدعم العطاء الإنساني في البذل والإبداع في ما أذن الله به، لذا قال أمير المــؤمنين عـمــر بن عبدالعزيز: »ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وســلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخــصة«(1). وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: »كان اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للناس«. وما ذلك إلا تمشياً مع مراد الله سبحانه وتعالى في الحكمة الوجودية من خلق الإنسان، ولما كان الإسلام ديناً خالداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وضع النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة للأجيال بعده فقال: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي«، وبهذا النص أثبت النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة البدعة الحسنة أو السنة الحسنة التي هي عرض الحدث بعد وقوعه، على حضرته صلى الله عليه وسلم، ومن بعده على سنته صلى الله عليه وسلم أي على أصل قُعد في عهد التنزيل، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يوجهنا إلى أن ننهج في ذلك نهجه ونهج أصحابه، أبي بكر وعمر والسابقين بإحسان رضوان الله عليهم، وكأن الصادق صلى الله عليه وسلم يشير إلى معجزة تحققت من بعده في أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجسد ذلك المنهج حين جمع الناس على صلاة التراويح وقال: »نعم البدعة هذه« تلك التي تتقابل في التاريخ الإسلامي مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: »من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة«(1).
فيمتدح النبي صلى الله عليه وسلم تلك البدعة الحسنة ويسميها سنة حسنة تأصيلاً منه لقاعدة القياس، وبياناً منه أن ما يحدث في عهده سنة تقريرية إن أقرَّها أو أقرَّتها سنته من بعده، ويوضح الفاروق رضي الله عنه ذلك المفهوم بقوله فيما أُحدث على مثال سبق: »نعم البدعة هذه«، وبناء على ما تقرر تبين فُحش وغلط من فسّر قول عمر بالبدعة بالمعنى اللغوي، حيث إنه اتهم الفاروق والصحابة أجمعين بأنهم يُحْدِثون ما ليس على مثال سبق، وقابل فعلهم بعد التنزيل بفعلهم وقت التنزيل،وأنزلهم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في المصدرين الأساسيين للتشريع وكأن الوحي لم ينقطع،وهذا المفهوم ابتليت به خوارج هذه الأمة منذ ميلاد الرسالة، وكمن ذلك البلاء في أفراخهم إلى يومنا هذا بتلك الركاكة في الفهم، حتى ضللوا جميع من خالفهم وسرى ذلك الضلال ـ على رأيهم ـ في علماء الأمة حتى شمل بعض الصادقين من أبناء هذه الأمة دون أن يلقوا لتلك المقولة بالاً، وأول من ضرب على ذلك الوتر بعد ذي الخويصرة ابن تيمية الحرّاني ومن لفَّ لفه، ومن المؤسف أن يتبعه بعض الفضلاء كفضيلة الشيخ المختار الشنقيطي والشيخ نجيب المطيعي، وما أعظمها من زلة وما أقساه من اتهام، أبرئ منه عمر رضي الله عنه وإخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في أنزه رجال مع أكرم رجل صلى الله عليه وسلم، وكلمة الفاروق رضي الله عنه دقيقة المعنى واضحة الفحوى كما قد بيّنا .
وبناء على ذلك استخرت الله في كتابة رسالة في البدعة أسميتها في البداية: »ضوء الشمعة في التلازم بين السنة التشريعية والبدعة«، ولما حققت المسألة وخضت في غمارها طرأ لي أن أسمي الرسالة:
» البدعة الحسنة أصل من أصول التشريع« وقسمت الكتاب إلى ثلاثة فصول وخاتمة:
الفصل الأول
تحديد مفهوم البدعة
وينقسم إلى أربعة مطالب:
1ـ تعريف البدعة في اللغة.
2ـ تعريف البدعة في الاصطلاح.
3ـ معنى البدعة في القرآن.
4ـ معنى البدعة في السنة المطهرة.
الفصل الثاني
الفرق بين السنة والبدعة
وينقسم إلى ثلاثة مطالب:
1 ـ السنة والبدعة.
2 ـ سنة الترك.
3 ـ قول الصحابي (فتواه).
الفصل الثالث
مناقشة آراء العلماء في تقسيم البدعة
وفيه ثلاثة مطالب:
1 ـ منكرو البدعة الحسنة وأدلتهم.
2 ـ مثبتو البدعة الحسنة وأدلتهم.
3 ـ الرأي الذي نرجِّحُهُ.
خاتمة
في ذكر شروط وضوابط البدعة الحسنة
* * *
الفصل الأول
تحديد مفهوم البدعة
وفيه أربعة مطالب:
1 ـ تعريف البدعة في اللغة.
2 ـ تعريف البدعة في الاصطلاح.
3 ـ معنى البدعة في القرآن.
4 ـ معنى البدعة في السنة المطهرة.
المطلب الأول
تعريف البدعة في اللغة
البدعة في اللغة العربية: اسم من الابتداع، يقال: أبدع الشيء يبدعه بدعاً، وابتدعه: أنشأه وبدأه. والبدع والبديع: الشيء الذي يكون أولاً.
وفي التنزيل: قل ما كنت بدعاً من الرسل [الأحقاف:9]. أي: ما كنت أول من أرسل بل أرسل قبلي رسل كثيرون.
والبديع: من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياءوإحداثه إياها، وهو البديع الأول قبل كل شيء. وهو الذي بدع الخلق، أي بدأه، كما قال سبحانه: بديع السماوات والأرض [البقرة:117] أي خالقها ومبدعها(1).
والباء والدال والعين أصلان لشيئين:
أحدهما: ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال سابق.
والثاني: الانقطاع والكلال، كقولهم: أبدعت الراحلة إذا كلّت وعطبت(1).
ويقال: »هذا أمر بديع« للشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ماهو مثله ولا ما يشبهه فيكون البديع المحدث العجيب، واستبدعه عدّه بديعاً، ولكن الكلمة غلب استعمالها فيما نقص من الدين، أو زيد فيه(2).
قال أبو البقاء في الكليات : البدعة هي عملُ عَمَلٍ على غير مثال سبق. ومفهوم هذا التعريف أن كل عمل يُعْمَلُ دون أن يكون له مثال سابق سواء كان على أصل أو غير أصل فهو بدعة، ودليله من الكتاب بديع السماوات والأرض [البقرة:117]. أي:مبدعهما وخالقهما على غير مثال سابق أي على غير أصل سابق، والمثال هنا يشمل الأصل والصورة، إذ إنه أوجد السماوات والأرض من العدم المحض من غير أصل سابق يستند إليه ولا صورة صنع مثلها، ودليله أيضاً: قُلْ ما كنتُ بدعاً من الرُسل[الأحقاف:9]. فتحصَّل من ذلك أنَّ معنى قولِ أبي البقاء: على غير مثال. أي: على غير أصلٍ أو صورةٍ مشابهة، وبهذا المعنى يكون التعريف مفيداً للعموم، فلا يؤخذ منه دليل قاطع في هذه المسألة، فلابد من الرجوع إلى بيان الكتاب المتقدم، وإفصاح السنة. فقوله سبحانه: بديع السماوات والأرض يعني: إحداثاً لهما على غير أصلٍ ولا صورة ولم يُضِف إليه المثالية؛ لأن كلمة »المثالية« في اللغة تُفيد القياس، فلا مصيرَ إلى غيرهِ.
وأكَّد الحقُّ بقوله سبحانه وتعالى: قُلْ ما كنتُ بدعاً من الرُّسل بمعنى ما كنتُ إلا على مثال سابق: وهذا المثال هم الأنبياء والمرسلون، وبذلك يتضحُ لنا أن البدعة قسمان: بدعةٌ ذاتُ أصل، وبدعة ليست ذات أصلٍ، أشار إلى ذلك الملمح قوله سبحانه في سورة النساء (85): من يشْفع شفاعة حسنة يكن له نصيبٌ منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها، والشفاعة هي السنة والنهج الذي سنَّ الله عليه وفطر عليه النحل والملل، وعليه قام الكتاب والسنة ولأجله جاءت الشرائع للتمييز بين الطيب والخبيث. فالقائل بالبدعة الحسنة قد استنبط هذا الاصطلاح من روح الشريعة ومقاصدها وسيأتي بيان ذلك في بابه.
المطلب الثاني
البدعة في اصطلاح العلماء
هناك تعاريف كثيرة للبدعة عند العلماء فمن ذلك:
1ـ تعريف الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى المتوفى سنة 204هـ:
قال الشافعي: المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث يخالف كتاباً، أو سنة، أو أثراً، أو إجماعاً. فهذه البدعة الضلالة.
والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة.
وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: »نعمت البدعة هذه« يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى(1). وإسناده صحيح. وأخرجه من طريق آخر:أبو نعيم في حلية الأولياء(1) قال الشافعي: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم. واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: »نعمت البدعة هي«.
2ـ تعريف الحافظ علي بن محمد بن حزم رحمه الله، المتوفى سنة 456هـ:
قال ابن حزم: البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إلا أن منها ما يُؤجر عليه صاحبه، ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسناً، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه:
»نعمت البدعة هذه«. وهو ما كان فعل خير وجاء النص بعمومه استحباباً، وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به. انتهى.
3ـ تعريف الإمام العز بن عبدالسلام الشافعي رحمه الله،المتوفى سنة 660 هـ.
قال العز بن عبدالسلام:
البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى:
بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة. وللبدع الواجبة أمثلة:
أحدها: الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
المثال الثاني: حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة.
المثال الثالث: تدوين أصول الفقه.
المثال الرابع: الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم.
وقد دلت قواعد الشريعة على أن حفظ الشريعة فرض كفاية فيما زاد على القدر المتعين، ولا يتأتى حفظ الشريعة إلا بما ذكرناه.
وللبدع المحرمة أمثلة: منها مذهب القدرية، ومنها مذهب الجبرية، ومنها مذهب المرجئة، ومنها مذهب المجسمة. والردُّ على هؤلاء من البدع الواجبة.
وللبدع المندوبة أمثلة: منها: إحداث الرُّبُط والمدارس وبناء القناطر، ومنها كل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها صلاة التراويح، ومنها الكلام في دقائق التصوف، ومنها الكلام في الجدل في جمع المحافل للاستدلال في المسائل إذا قصد بذلك وجه الله سبحانه.
وللبدع المكروهة أمثلة: منها زخرفة المساجد، ومنها تزويق المصاحف، وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي، فالأصح أنه من البدع المحرمة.
وللبدع المباحة أمثلة: منها المصافحة عقيب الصبح والعصر، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، ولبس الطيالسة، وتوسيع الأكمام، وقد يختلف في بعض ذلك، فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة،ويجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بعده، وذلك كالاستعاذة والبسملة(1).
وتعريف العزِّ هذا تعريفٌ استنباطيٌّ يستندُ إلى أحكامٍ شرعية، فهو تعريفٌ جامعٌ ومانعٌ في بابه.
4 ـ تعريف الإمام الغزالي المتوفى سنة 505هـ:
قال حجة الإسلام الإمام الغزالي(1) : البدعة قسمان: بدعة مذمومة وهي ما تصادم السنة القديمة ويكاد يفضي إلى تغييرها . وبدعة حسنة ما أحدث على مثال سبق. انتهى.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء أيضاً:وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما أبدع منهياً عنه، بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمراً من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد
يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب.اهـ وتعريفه هذا جامعٌ مانعٌ وموجز.
5 ـ تعريف الإمام المحدِّث عبدالرحمن بن الجوزي الحنبلي رحمه الله، المتوفى سنة 597.
قال ابن الجوزي: »البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعالي عليها بزيادة أو نقص، فإن ابتدع شيء لا يخالف الشريعة، ولا يوجب التعالي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه، وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزاً، حفظاً للأصل وهو الاتباع. وقد قال زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين قالا له: »اجمع القرآن«. كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال ابن الجوزي: إن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا مالم يكن، وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا تتعارض معها، فلم يروا بفعلها بأساً مثل جمع عمر الناس على صلاة القيام في رمضان فقال: نعمت البدعة هذه. انتهى(1).
6ـ تعريف الإمام أبي شامة عبدالرحمن بن إسماعيل المقدسي الشافعي رحمه الله تعالى، المتوفى سنة 665هـ.
البدعة: الحدث، وهو مالم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، مما فعله، أو أقر عليه، أو علم من قواعد شريعته الإذن فيه، وعدم النكير. وفي معنى ذلك: ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم مما أجمعوا عليه قولاً أو فعلاً أو تقريراً، وكذا ما اختلفوا فيه،فإن اختلافهم رحمة مهما كان للاجتهاد والتردد مساغ، وليس لغيرهم إلا الاتباع دون الابتداع(1). وتعريفه هذا جامعٌ، وليس مانعاً؛ إذ فعلُ الصحابيِّ في عهد التنزيل يُعتبر إحداثاً، فإن أقرَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، صار سُنَّة، وبعد انقطاع الوحي أصبح إحداثهم بدعة حسنة مقيسة على الكتاب والسنة، فيعتبرُ سنة حسنة من وجهٍ، لقوله صلى الله عليه وسلم: »من سنَّ سُنَّةً حسنةً ...«. الحديث.
فبهذا تقرَّر بأنه غير مانعٍ لورود ما ذكرنا عليه.
ثم قال أبو شامة(2): »ثم الحوادث منقسمة إلى بدع مستحسنة، وبدع مستقبحة. (ثم نقل قول الإمام الشافعي في البدعة، الذي تقدم، ثم قال
قلت: وإنما كان كذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على قيام شهر رمضان وفعله هو صلى الله عليه وسلم بالمسجد، واقتدى فيه بعض الصحابة، ليلة بعد أخرى، ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بالمسجد جماعة وعلل ذلك بأنه خشي أن تفرض عليهم، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم أمن ذلك، فاتفق الصحابة على فعل قيام رمضان في المسجد جماعة، لما فيه من إحياء هذا الشعار الذي أمر به الشارع، وفعله، والحثّ عليه، والترغيب فيه، والله أعلم.
المقدمة
الحمد لله بديع السموات والأرض، خالق المخلوقات دون مثال سبق. والصلاة والسلام على من بُعث على مثال سبق، جاءنا بالمحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وضح شرع الله بفعله وقوله وتقريره، وجمع منهجية التوحيد في قوله صلى الله عليه وسلم: »إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم« الحديث (1).
فدل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ميز الفرائض من السنن لما حدَّ الواجبات، تنصيصاً على النواهي؛ لأن النهي يفيد حتمية وفورية المنع، وحدَّ السنن بالتراخي لأن الأصل في الأشياء الإباحة مالم يرد دليل نهي، وليس الأمر كما فهم بعضهم أن الأصل في الأشياء الحرمة مالم يرد دليل أمر، فهذا فهم المرجفين ومن حرموا نور اليقين.
واتضح لأولي الألباب أن الشارع إذا نهى ألزم، وإذا أمر لم يمنع، وإذا لم يمنع لم ينه، ولذا صدَّر النبي صلى الله عليه وسلم الوجوب في الحديث بالنهي، وصدَّر النفي بالأمر، لأن الأمر اشتماله محتمل، أما النهي فاشتماله حسمٌ ،فللشارع أمران ونهيان، أمر وجوب لا مندوحة لأحد بتركه إلا لضرورة، وأمر استحباب محمول على الاستطاعة،وكذلك الحال في النهي في الصورتين،وبذلك قَعَّد النبي صلى الله عليه وسلم القواعد للمنهجية الإسلامية متمشياً مع روح الإسلام ونور الشريعة، يشهد له قوله سبحانه: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً الآية [المائدة:3].
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: »لقد خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،خُطْبَةً ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه وجهله من جهله«(1).
وأخرجه مسلم(2) بلفظ: »قـام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدَّث به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه...«.
وأخرجه مسلم أيضاً بلفظ آخر: »... بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة«.
فمن يطالب المسلم إذا فعل أمراً مستحسناً في الدين راجعاً إلى أصل مكين بفعل النبي وأمره صلى الله عليه وسلم فهو رجلٌ يكذب الرسول والرسالة، ويعارض روح الشريعة؛ لأن الشريعة يسر وما هي بعسر، وما خُير الشارع بين أمرين إلا اختار أيسرهما، بل إن الشارع الحكيم الرؤوف الرحيم لم يلزم الأمة بأوامره في النوافل تأدباً مع أمر الله، فأمر الله حسمٌ، لذا عبر بنهيتكم، وأمر رسول الله تخيير، ومن هذاالمفهوم وذاك أصبح لزاماً عليَّ بيان الأخطاء الشائعة في فهم هديه صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ«(1)، فالسنة التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي المنهجية في التعامل مع أصول الشريعة وأحكامها، لا يعني به السنة التشريعية التي هي الأصل الثاني من أصول التشريع؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم بعد انقطاع الوحي ليس بمقدورهم أن يؤصلوا أصلاً إلا على مثال سبق، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يشير في هديه هذا إلى تأسيس أصل من أصـول الشــريعة ألا وهــو الــقياس، الذي دلت عليه الآية الكريمة في معرض قوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[النساء:59].
يذكر الإمام الفخر رحمه الله في تفسيره أن هذه الآية تجمع في ثناياها مصادر التشريع الأربعة:
الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
أما الكتاب والسنة فمأخوذان من قوله سبحانه: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.
ـ وأما الإجماع فمأخوذ من قوله سبحانه وتعالى: وأولي الأمر منكم أي أهل الحل والعقد.
وأما القياس فمأخوذ من قوله تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول.اهـ.
وذكر رحمه الله في أثناء عرضه للقضية ما نصه: اعلم أن قوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول يدل عندنا على أن القياس حجة، والذي يدل على ذلك أن قوله: فإن تنازعتم في شيء إما أن يكون المراد: فإن اختلفتم في شيء حكمه منصوص عليه في الكتاب أو السنة أو الإجماع، أو المراد: فإن اختلفتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثلاثة، والأول باطل لأن على ذلك التقدير وجب عليه طاعته فكان ذلك داخلاً تحت قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، وحينئذ يصير قوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إعادة لعين ما مضى وإنه غير جائز.
وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني... إلى أن قال: فوجب أن يكون المراد رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له وذلك هو القياس، فثبت أن الآية دالة على الأمر بالقياس. انتهى.
قلت: يعضد هذا المعنى عدم تكرار وأطيعوا قبل أولي الأمر منكم، فقد عطف أولي الأمر على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: عطف الإجماع على السنة القياسية، والقياس على الإجماع، فأصبح القياس والإجماع قائمين على الأصلين؛ الكتاب والسنة، فعُلم من هذا أن سنة الصحابة المهديين ليست هي ذات سنة المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم؛ فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقتها التشريع، وسنة الصحابة وأهل الحل والعقد حقيقتها التفريع. ويتفاضل في التقديم السابق على اللاحق لقوله صلى الله عليه وسلم: »خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم«.
ثم أردف رحمه الله متناولاً من قال: فردوه إلى الله والرسول: فوضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له بأنه لا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت، لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل ذلك، بل لا بد من قطع الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات وإذا كان كذلك امتنع حمل الرد منها إلى الله على السكوت.انتهى(1).
قلت: لعل ذلك صواب فيما إذا لم يرجع إلى القياس، أما إذا رجع إليه ولم يحل مشكلة فليس ثمة مصير إلا إلى التفويض، وهو قول جمهور أهل العلم كما هو الشأن عند تعارض الأدلة.
وقد عضد ذلـك الإمـام الــقــرطــبي فـي قــول مـرجـوح عـنده نسبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونصه: »قولوا: الله ورسوله أعلم« فهذا هو الرد كما قال عمر: »الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل« وقد يرجح لديّ هذا القول بدلائل عدة من الآية وغيرها.
أما من الآية فإن السياق فيها يقتضي هذا المفهوم حيث إنه بدأ في الآية بقوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ثم أردف بقوله سبحانه فإن تنازعتم والتنازع أقصى درجات الخلاف، أي إذا وصل بكم اللجاج في النقاش بعد أن نظرتم في الكتاب والسنة والإجماع والقياس إلى التنازع فليس لكم إلا التفويض أو التوقف.
يؤكد ذلك قوله سبحانه وتعالى في الآية نفسها: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر والإيمان هو التسليم والإقرار بالقلب والانقياد المطلق لليقين المتحقق بالتصديق. ونتيجة ذلك الخير والفضيلة لما ختمت به الآية وهو قوله تعالى: ذلك خير وأحسن تأويلاً أي ذلك أفضل مزية وأحسن حالاً ومآلاً.
أما الدلائل الخارجية فمنها قوله سبحانه وتعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم[الأنفال:46] فهذه الآية الكريمة ترشد المسلم إلى أن النزاع يذهب المكانة ويضعف القوة ويضعضع صفوف الجماعة. وفي الآية تشنيع على الخلاف المذموم الذي لا يؤدي إلى خير، أي مالم يحتمله القياس.
ومن الدلائل الخارجية أيضاً قوله تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [الشورى:10]. فهذه الآية الكريمة توضح للمسلم الفطن أن الخلاف نوعان:
ـ خلاف محمود.
ـ وخلاف مذموم.
ولذا بدئت الآية بقوله سبحانه: وما اختلفتم فيه من شيء وختمت بقوله فحكمه إلى الله، أي مآله ومرده إلى شرع الله.
أما الآيتان المتقدمتان فإنما وردتا في الخلاف المذموم؛ فقد صدرتا بمادة »التنازع« وهو كما قلنا أقصى درجات الخلاف الذي لا يفصل في قضيته إلا التوقف والتفويض والرد إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا إظهار لنمط عظيم من أنماط التربية الإيمانية، ومقام عزيز من مقامات المعرفة وهو: أن الأمر جميعاً لله، وأن الإنسان مهما بلغ في علمه، فإنه عاجز عن المعرفة.
قل أأنتم أعلم أم الله[البقرة:140]، ووما أوتيتم من العلم إلا قليلاً[الإسراء:85] صدق الله العظيم.
لذا ينبغي علينا أن لا ننسى مراد الشارع من الخلاف، فالخلاف المحمود يزيد في الثراء العلمي ويدعم العطاء الإنساني في البذل والإبداع في ما أذن الله به، لذا قال أمير المــؤمنين عـمــر بن عبدالعزيز: »ما سرني لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وســلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخــصة«(1). وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: »كان اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للناس«. وما ذلك إلا تمشياً مع مراد الله سبحانه وتعالى في الحكمة الوجودية من خلق الإنسان، ولما كان الإسلام ديناً خالداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وضع النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة للأجيال بعده فقال: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي«، وبهذا النص أثبت النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة البدعة الحسنة أو السنة الحسنة التي هي عرض الحدث بعد وقوعه، على حضرته صلى الله عليه وسلم، ومن بعده على سنته صلى الله عليه وسلم أي على أصل قُعد في عهد التنزيل، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يوجهنا إلى أن ننهج في ذلك نهجه ونهج أصحابه، أبي بكر وعمر والسابقين بإحسان رضوان الله عليهم، وكأن الصادق صلى الله عليه وسلم يشير إلى معجزة تحققت من بعده في أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجسد ذلك المنهج حين جمع الناس على صلاة التراويح وقال: »نعم البدعة هذه« تلك التي تتقابل في التاريخ الإسلامي مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: »من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة«(1).
فيمتدح النبي صلى الله عليه وسلم تلك البدعة الحسنة ويسميها سنة حسنة تأصيلاً منه لقاعدة القياس، وبياناً منه أن ما يحدث في عهده سنة تقريرية إن أقرَّها أو أقرَّتها سنته من بعده، ويوضح الفاروق رضي الله عنه ذلك المفهوم بقوله فيما أُحدث على مثال سبق: »نعم البدعة هذه«، وبناء على ما تقرر تبين فُحش وغلط من فسّر قول عمر بالبدعة بالمعنى اللغوي، حيث إنه اتهم الفاروق والصحابة أجمعين بأنهم يُحْدِثون ما ليس على مثال سبق، وقابل فعلهم بعد التنزيل بفعلهم وقت التنزيل،وأنزلهم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في المصدرين الأساسيين للتشريع وكأن الوحي لم ينقطع،وهذا المفهوم ابتليت به خوارج هذه الأمة منذ ميلاد الرسالة، وكمن ذلك البلاء في أفراخهم إلى يومنا هذا بتلك الركاكة في الفهم، حتى ضللوا جميع من خالفهم وسرى ذلك الضلال ـ على رأيهم ـ في علماء الأمة حتى شمل بعض الصادقين من أبناء هذه الأمة دون أن يلقوا لتلك المقولة بالاً، وأول من ضرب على ذلك الوتر بعد ذي الخويصرة ابن تيمية الحرّاني ومن لفَّ لفه، ومن المؤسف أن يتبعه بعض الفضلاء كفضيلة الشيخ المختار الشنقيطي والشيخ نجيب المطيعي، وما أعظمها من زلة وما أقساه من اتهام، أبرئ منه عمر رضي الله عنه وإخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في أنزه رجال مع أكرم رجل صلى الله عليه وسلم، وكلمة الفاروق رضي الله عنه دقيقة المعنى واضحة الفحوى كما قد بيّنا .
وبناء على ذلك استخرت الله في كتابة رسالة في البدعة أسميتها في البداية: »ضوء الشمعة في التلازم بين السنة التشريعية والبدعة«، ولما حققت المسألة وخضت في غمارها طرأ لي أن أسمي الرسالة:
» البدعة الحسنة أصل من أصول التشريع« وقسمت الكتاب إلى ثلاثة فصول وخاتمة:
الفصل الأول
تحديد مفهوم البدعة
وينقسم إلى أربعة مطالب:
1ـ تعريف البدعة في اللغة.
2ـ تعريف البدعة في الاصطلاح.
3ـ معنى البدعة في القرآن.
4ـ معنى البدعة في السنة المطهرة.
الفصل الثاني
الفرق بين السنة والبدعة
وينقسم إلى ثلاثة مطالب:
1 ـ السنة والبدعة.
2 ـ سنة الترك.
3 ـ قول الصحابي (فتواه).
الفصل الثالث
مناقشة آراء العلماء في تقسيم البدعة
وفيه ثلاثة مطالب:
1 ـ منكرو البدعة الحسنة وأدلتهم.
2 ـ مثبتو البدعة الحسنة وأدلتهم.
3 ـ الرأي الذي نرجِّحُهُ.
خاتمة
في ذكر شروط وضوابط البدعة الحسنة
* * *
الفصل الأول
تحديد مفهوم البدعة
وفيه أربعة مطالب:
1 ـ تعريف البدعة في اللغة.
2 ـ تعريف البدعة في الاصطلاح.
3 ـ معنى البدعة في القرآن.
4 ـ معنى البدعة في السنة المطهرة.
المطلب الأول
تعريف البدعة في اللغة
البدعة في اللغة العربية: اسم من الابتداع، يقال: أبدع الشيء يبدعه بدعاً، وابتدعه: أنشأه وبدأه. والبدع والبديع: الشيء الذي يكون أولاً.
وفي التنزيل: قل ما كنت بدعاً من الرسل [الأحقاف:9]. أي: ما كنت أول من أرسل بل أرسل قبلي رسل كثيرون.
والبديع: من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياءوإحداثه إياها، وهو البديع الأول قبل كل شيء. وهو الذي بدع الخلق، أي بدأه، كما قال سبحانه: بديع السماوات والأرض [البقرة:117] أي خالقها ومبدعها(1).
والباء والدال والعين أصلان لشيئين:
أحدهما: ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال سابق.
والثاني: الانقطاع والكلال، كقولهم: أبدعت الراحلة إذا كلّت وعطبت(1).
ويقال: »هذا أمر بديع« للشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ماهو مثله ولا ما يشبهه فيكون البديع المحدث العجيب، واستبدعه عدّه بديعاً، ولكن الكلمة غلب استعمالها فيما نقص من الدين، أو زيد فيه(2).
قال أبو البقاء في الكليات : البدعة هي عملُ عَمَلٍ على غير مثال سبق. ومفهوم هذا التعريف أن كل عمل يُعْمَلُ دون أن يكون له مثال سابق سواء كان على أصل أو غير أصل فهو بدعة، ودليله من الكتاب بديع السماوات والأرض [البقرة:117]. أي:مبدعهما وخالقهما على غير مثال سابق أي على غير أصل سابق، والمثال هنا يشمل الأصل والصورة، إذ إنه أوجد السماوات والأرض من العدم المحض من غير أصل سابق يستند إليه ولا صورة صنع مثلها، ودليله أيضاً: قُلْ ما كنتُ بدعاً من الرُسل[الأحقاف:9]. فتحصَّل من ذلك أنَّ معنى قولِ أبي البقاء: على غير مثال. أي: على غير أصلٍ أو صورةٍ مشابهة، وبهذا المعنى يكون التعريف مفيداً للعموم، فلا يؤخذ منه دليل قاطع في هذه المسألة، فلابد من الرجوع إلى بيان الكتاب المتقدم، وإفصاح السنة. فقوله سبحانه: بديع السماوات والأرض يعني: إحداثاً لهما على غير أصلٍ ولا صورة ولم يُضِف إليه المثالية؛ لأن كلمة »المثالية« في اللغة تُفيد القياس، فلا مصيرَ إلى غيرهِ.
وأكَّد الحقُّ بقوله سبحانه وتعالى: قُلْ ما كنتُ بدعاً من الرُّسل بمعنى ما كنتُ إلا على مثال سابق: وهذا المثال هم الأنبياء والمرسلون، وبذلك يتضحُ لنا أن البدعة قسمان: بدعةٌ ذاتُ أصل، وبدعة ليست ذات أصلٍ، أشار إلى ذلك الملمح قوله سبحانه في سورة النساء (85): من يشْفع شفاعة حسنة يكن له نصيبٌ منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها، والشفاعة هي السنة والنهج الذي سنَّ الله عليه وفطر عليه النحل والملل، وعليه قام الكتاب والسنة ولأجله جاءت الشرائع للتمييز بين الطيب والخبيث. فالقائل بالبدعة الحسنة قد استنبط هذا الاصطلاح من روح الشريعة ومقاصدها وسيأتي بيان ذلك في بابه.
المطلب الثاني
البدعة في اصطلاح العلماء
هناك تعاريف كثيرة للبدعة عند العلماء فمن ذلك:
1ـ تعريف الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى المتوفى سنة 204هـ:
قال الشافعي: المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث يخالف كتاباً، أو سنة، أو أثراً، أو إجماعاً. فهذه البدعة الضلالة.
والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة.
وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: »نعمت البدعة هذه« يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى(1). وإسناده صحيح. وأخرجه من طريق آخر:أبو نعيم في حلية الأولياء(1) قال الشافعي: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم. واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: »نعمت البدعة هي«.
2ـ تعريف الحافظ علي بن محمد بن حزم رحمه الله، المتوفى سنة 456هـ:
قال ابن حزم: البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إلا أن منها ما يُؤجر عليه صاحبه، ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسناً، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه:
»نعمت البدعة هذه«. وهو ما كان فعل خير وجاء النص بعمومه استحباباً، وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به. انتهى.
3ـ تعريف الإمام العز بن عبدالسلام الشافعي رحمه الله،المتوفى سنة 660 هـ.
قال العز بن عبدالسلام:
البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى:
بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة. وللبدع الواجبة أمثلة:
أحدها: الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
المثال الثاني: حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة.
المثال الثالث: تدوين أصول الفقه.
المثال الرابع: الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم.
وقد دلت قواعد الشريعة على أن حفظ الشريعة فرض كفاية فيما زاد على القدر المتعين، ولا يتأتى حفظ الشريعة إلا بما ذكرناه.
وللبدع المحرمة أمثلة: منها مذهب القدرية، ومنها مذهب الجبرية، ومنها مذهب المرجئة، ومنها مذهب المجسمة. والردُّ على هؤلاء من البدع الواجبة.
وللبدع المندوبة أمثلة: منها: إحداث الرُّبُط والمدارس وبناء القناطر، ومنها كل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها صلاة التراويح، ومنها الكلام في دقائق التصوف، ومنها الكلام في الجدل في جمع المحافل للاستدلال في المسائل إذا قصد بذلك وجه الله سبحانه.
وللبدع المكروهة أمثلة: منها زخرفة المساجد، ومنها تزويق المصاحف، وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي، فالأصح أنه من البدع المحرمة.
وللبدع المباحة أمثلة: منها المصافحة عقيب الصبح والعصر، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، ولبس الطيالسة، وتوسيع الأكمام، وقد يختلف في بعض ذلك، فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة،ويجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بعده، وذلك كالاستعاذة والبسملة(1).
وتعريف العزِّ هذا تعريفٌ استنباطيٌّ يستندُ إلى أحكامٍ شرعية، فهو تعريفٌ جامعٌ ومانعٌ في بابه.
4 ـ تعريف الإمام الغزالي المتوفى سنة 505هـ:
قال حجة الإسلام الإمام الغزالي(1) : البدعة قسمان: بدعة مذمومة وهي ما تصادم السنة القديمة ويكاد يفضي إلى تغييرها . وبدعة حسنة ما أحدث على مثال سبق. انتهى.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء أيضاً:وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما أبدع منهياً عنه، بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمراً من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد
يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب.اهـ وتعريفه هذا جامعٌ مانعٌ وموجز.
5 ـ تعريف الإمام المحدِّث عبدالرحمن بن الجوزي الحنبلي رحمه الله، المتوفى سنة 597.
قال ابن الجوزي: »البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعالي عليها بزيادة أو نقص، فإن ابتدع شيء لا يخالف الشريعة، ولا يوجب التعالي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه، وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزاً، حفظاً للأصل وهو الاتباع. وقد قال زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين قالا له: »اجمع القرآن«. كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال ابن الجوزي: إن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا مالم يكن، وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا تتعارض معها، فلم يروا بفعلها بأساً مثل جمع عمر الناس على صلاة القيام في رمضان فقال: نعمت البدعة هذه. انتهى(1).
6ـ تعريف الإمام أبي شامة عبدالرحمن بن إسماعيل المقدسي الشافعي رحمه الله تعالى، المتوفى سنة 665هـ.
البدعة: الحدث، وهو مالم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، مما فعله، أو أقر عليه، أو علم من قواعد شريعته الإذن فيه، وعدم النكير. وفي معنى ذلك: ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم مما أجمعوا عليه قولاً أو فعلاً أو تقريراً، وكذا ما اختلفوا فيه،فإن اختلافهم رحمة مهما كان للاجتهاد والتردد مساغ، وليس لغيرهم إلا الاتباع دون الابتداع(1). وتعريفه هذا جامعٌ، وليس مانعاً؛ إذ فعلُ الصحابيِّ في عهد التنزيل يُعتبر إحداثاً، فإن أقرَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، صار سُنَّة، وبعد انقطاع الوحي أصبح إحداثهم بدعة حسنة مقيسة على الكتاب والسنة، فيعتبرُ سنة حسنة من وجهٍ، لقوله صلى الله عليه وسلم: »من سنَّ سُنَّةً حسنةً ...«. الحديث.
فبهذا تقرَّر بأنه غير مانعٍ لورود ما ذكرنا عليه.
ثم قال أبو شامة(2): »ثم الحوادث منقسمة إلى بدع مستحسنة، وبدع مستقبحة. (ثم نقل قول الإمام الشافعي في البدعة، الذي تقدم، ثم قال
قلت: وإنما كان كذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على قيام شهر رمضان وفعله هو صلى الله عليه وسلم بالمسجد، واقتدى فيه بعض الصحابة، ليلة بعد أخرى، ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بالمسجد جماعة وعلل ذلك بأنه خشي أن تفرض عليهم، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم أمن ذلك، فاتفق الصحابة على فعل قيام رمضان في المسجد جماعة، لما فيه من إحياء هذا الشعار الذي أمر به الشارع، وفعله، والحثّ عليه، والترغيب فيه، والله أعلم.