لفوضى الجيوسياسية ...
عرف المتابعون لشؤون المنطقة وتطوراتها،أن الولايات المتحدة أعدت خطة تغيير حكومات وأنظمة في بلدان العالم الإسلامي أو ما سمى بالشرق الأوسط الكبير،أطلق عليها "الفوضى البناءة" أو الفوضى الخلاقة -أو الفوضى الهلاكة -غير أن تلك الخطة ليست إلا جانبا واحدا أو أحد عناوين خطة استراتيجية أشمل،يجرى إنفاذها لتغيير الأوضاع في المنطقة،هي خطة إشاعة "الفوضى الجيوسياسية" في العالم الإسلامي وأقاليمه بل في العالم أجمع.
والفوضى الخلاقة،هي وسيلة لإحداث الاضطراب والفوضى في الدول القائمة من داخلها،من خلال تفكيك أجهزة الدول وإضعافها ولتغيير نظم الحكم من الداخل وصولا إلى تحويل الدول المستقرة إلى وضعية الاضطراب حتى وصمها بالدول الفاشلة ووضعها بمختلف الطرق والأشكال تحت الوصاية الاستعمارية.
أما الفوضى "الجيوسياسية" فهي أشبه بإحداث زلزال مدمر للعلاقات المستقرة بين الدول وللتوازن الحافظ لاستقرار العلاقات والنظم الإقليمية،لإدخال دول المنطقة في حالة غليان ودورة انقسام وصراع واضطراب وحروب،تكون قادرة على إعادة توليد ذاتها، فلا تنتهي إلا بخمود النيران التي لا تبقى إلا الرماد.
وهكذا إذا دققنا النظر،فنحن في الفوضى الخلاقة أمام عملية واليات لتفكيك الدول والمجتمعات من الداخل يفضى إلى انتهاء تلاحم وترابط المجتمعات،بما يدمر قدرات الدول على التنمية والتقوى وتطوير ذاتها،والقصد إضعاف قدرتها على مواجهة أي مخططات خارجية.
أما في الجانب الآخر فنحن أمام خطة إدخال دول المنطقة برمتها في حالة اضطراب وتصارع مع بعضها البعض، تؤدى إلى الفوضى الشاملة في الإقليم،بما يؤدى بدوره إلى حالة ضعف للإقليم كله،وهو ما يجرى وفق آليات أخرى تختلف عن آليات تحفيز الصراعات الداخلية،اذ تجرى عملية مخططة لتغيير التوازنات التي تحفظ استقرار العلاقات بين الدول،بتقوية بعضها على حساب أو بتقوية بعضها وإضعاف البعض الآخر،كما يجرى تحطيم وإضعاف المؤسسات الإقليمية الحافظة للعلاقات بين الدول والدافعة -كآلية – لتحقيق مصالحها المشتركة بهذا القدر أو ذاك،وكذا يجرى دفع الدول للدخول في صراعات مع بعضها البعض وتشكيل محاور وتحالفات ضد بعضها البعض،لإحداث حالة صراع شاملة في الإقليم متعددة الأطراف والاتجاهات،تكون هي ذاتها قادرة على توليد الصراعات حتى تصل المنطقة إلى حالة الإنهاك الكامل لبعضها البعض
وحين نقول إن الفوضى الخلاقة آلية لتفكيك الدول والمجتمعات ليست إلا عنوان فرعى من خطة الفوضى الجيوسياسية،فالقصد هنا أن الفوضى الجيوسياسية في الإقليم هي الاستراتيجية العليا وأن الفوضى الداخلية،هي أحد آليات ووسائل إحداث الفوضى في الإقليم،إذ الفوضى الداخلية لا تكتمل أهدافها في تفكيك الدول إلا بإنهاء وإزاحة حدود دول الجوار،أو أن الفوضى الداخلية لابد لها حتى تنتج أهدافها من فوضى عارمة في الإقليم،الذي "يجب عليه"-وفق الخطة الأمريكية –أن يلعب دوره في الفوضى الداخلية،ارتقاء وتصعيدا للفوضى في علاقات وتوازنات القوى بين الدول في الإقليم.
وهنا يأتي الدور الإيراني مساندا للدور الأمريكي،أو لنقل أن الدور الإيراني قد وظف هنا تحديدا أو التقى في مصالحه وأهدافه المرحلية مع الاستراتيجية الأمريكية،إذ إيران هي الدولة الفاعل في أعمال التفكيك الداخلي أو هي الدولة الموظفة في إحداث هذا التفكيك داخل كثير من الدول -خاصة في الدول الإسلامية الآسيوية -كما هي الدولة الفاعل في إشاعة حالة الفوضى الجيوسياسية في الإقليم.وبمعنى آخر فإن تلك الاستراتيجية الأمريكية،قد وجدت في الطموح والرؤية والأهداف والمصالح الإيرانية قوة دعم كبيرة ومهمة في إنفاذ استراتيجيتها،إذ التقت مصلحة البلدين وإن اختلفت أهداف كل منهما.وإذا كان من جدة القول بأن إيران ليست وحدها العنوان الأمريكي لإنفاذ خططها،إذ يلعب الكيان الصهيوني دورا بارزا في التفكير والتخطيط والتنفيذ،فيمكن القول أيضا،بان الرؤية الأمريكية تحوز قبول الأوروبيين وربما الروس أيضا،فضلا عن أن بعض الدول العربية الخائفة تجد نفسها مساهمة رغم انفها في تلك المخططات بردود أفعالها غير المخططة على الأقل.
الفوضى الداخلية
كثيرا ما جرى إطلاق تعبير الفوضى الهلاكة أو الفتاكة على مخطط الفوضى الخلاقة،كمحاولة لإبراز النتائج الحقيقية لهذا النمط من الخطط الأميركية.وواقع الحال أن اثارة الفوضى داخل الدول والمجتمعات التي تشكلت واعترف بكياناتها عقب الحرب العالمية الثانية بشكل واضح،يحدث بالفعل فتكا وهلاكا للقيم والأفكار والتنظيمات التنفيذية والتشريعية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية في كل بلد يتمكن منه فيروس الفوضى الخلاقة.فتلك الفوضى إذا كانت خلاقة بالنسبة للولايات المتحدة وتنتج لها دوليات أو تكوينات تتمكن هي من السيطرة عليها وإنفاذ مخططاتها الاستعمارية فيها،فهذا بالنسبة لأمريكا ومصالحها هو قمة الإبداع،لكن مفاعيل تلك الفوضى هي الهلاك لتلك الدول المصابة بها.
في هذا النمط تجرى في داخل المجتمعات عدة أمور في ذات الوقت،فهناك عملية تحطيم القيم والمفاهيم السائدة وإحلال أخرى محلها،عبر أخرى وسيطة تحض على تغيير القائم منها لا تطويره أو تصحيحه،أي أننا عملية تشويه منظمة للقيم السائدة وإظهارها بمظهر غير الإيجابية وغير الصحيحة (متخلفة –تمنع التطور والتقدم-رجعية –غير عصرية –جاهلة-غير متمدنة –غير علمية)والحض على تحطيمها وتغييرها،وهو ما يجرى وفق دراسات فكرية ونفسية تتعلق بثقافة كل مجتمع.والمتابع لما يجرى في المجتمعات العربية يلحظ أن معظم الضخ الإعلامي والفكري والسياسي يعمق تلك الأفكار ويسيد تلك النظرة للدين والقيم الأخلاقية والفكر المستقر في المجتمعات.
وهناك،عملية تغيير لأنماط السلوك الفردي والمجموعي والمجتمعي،ذلك أن المجتمعات المتماسكة والمستقرة تمتلك قيما جامعة، تنعكس في أنماط سلوكية تحض على الحفاظ على تلك القيم المشتركة وتمنع الخروج عنها،كما تنعكس تلك القيم في قواعد واليات تنتظم فيها سلوكيات جماعية ومن ثم يتطلب تحطيم القيم تحطيم تلك الآليات أيضا.وذلك ما نراه الآن في مختلف المجتمعات العربية من سيادة المناخات الذاتية والفردية في السلوك على حساب المجموع،ومن تراجع قيم وسلوكيات الحفاظ على الأسرة والسلوكيات التي تدعم وحدتها وتماسكها ومن تحويل العلاقة بين الرجل والمرأة إلى علاقات صراعية وتنافسية قائمة على تحويل الاختلاف إلى تنافر وتضاد لا إلى تكامل،ومن إفقاد الروح الجماعية والسلوك الجماعي والقيم الوطنية وتفكيك الأحزاب والجماعات والكيانات..الخ.
وفى جانب تفكيك الدول والمجتمعات -لكن على نحو أعلى في التأثير -تجرى عملية مخططة لإنهاض ثقافات كانت موجودة في المجتمعات ما قبل تشكيل الدولة الحديثة عبر إيقاظها وإعطائها قبلة الحياة وتحويلها إلى الصراع مع القيم الوطنية والمشتركة السائدة حاليا.كما تجرى عمليات تخريب للولاءات الوطنية واستبدالها بولاءات قبلية وعائلية وجهوية،وكل ذلك دفعا في اتجاه التعادي بين مكونات المجتمع وتحويل طاقة المجتمع من طاقة إيجابية تستهدف التطوير والتحديث،دون الخروج على الثابت المستقر والجوهري،إلى حالات عدمية مدمرة،تتوجه نحو تفكيك المنجزات والانقلاب عليها وتدمير ما يحافظ على بقاء المجتمع مستقرا.
في الجانب العملي،فالكل يتابع ما يجرى في أرجاء الدول العربية والإسلامية،إذ ما من دولة إلا وصارت تشهد أحياء حضارات ولغات وثقافات انقرض استخدامها أو حتى معرفتها والإلمام بها في المجتمعات،وأحياء لولاءات ما قبل الدولة واختراق لأجهزة الدول القائمة احتكاما وارتباطا بتلك الولاءات،وهو ما صار نماذج متعددة،من السودان إلى اليمن إلى لبنان إلى العراق وهو ما تجرى محاولات لحدوثه في دول الخليج العربي (بإخراج اليمن وتفكيكه أيضا) وفي التشابك الثنائي المصري السوداني الفريد عبر إخراج جنوب السودان ودفعه لأداء دور وظيفي مضاد،وفي دول المغرب العربي..الخ
الفوضى الإقليمية
واقع الحال أن إشاعة الفوضى الجيوسياسية في الإقليم جاء للحقيقة سابقا في دوره ونشاطه على دور ونشاط الفوضى الداخلية،وكانت إشاعة الفوضى الجيوسياسية كذلك الدافع والمحفز،
وكانت الطرقة الأولى لإشعالها قد جاءت بفعل خارجي تمثل في إخراج العراق من التوازن الحافظ للعلاقات والاستقرار في المنطقة.والاهم أن الفوضى الجيوسياسية القادمة ستأتي نقطة تفعيلها أيضاً بضربة من الخارج أيضا،ربما تكون باتجاه سوريا.وفى ذلك يمكن القول –ويجوز استخدام تعبير التحذير أيضا-بان الطرقة الأولى لكل الأحداث الداخلية وفي الإقليم بغزو واحتلال كل من أفغانستان والعراق من خلال ضرب التوازنات المستقرة في الإقليم.فبالإضافة إلى ما صار القراء والمتابعين العرب يحفظونه تماما من أهداف الغزو والاحتلال الأمريكي بدءا من الثار والرمزية لاحتلال دولة الخلافة،الى الاستيلاء على النفط والمواقع الاستراتيجية،
فإن أحد الأهداف الاستراتيجية الأمريكية من هذا الغزو والاحتلال كان بالدقة، إحداث زلزال مدمر في التوازنات الإقليمية يفتح الباب لتفعيل الحركة والصراع والاضطراب في المنظومة المستقرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وما بعد تشكيل الدول العربية وإعلان قيام الجامعة العربية الخ.لقد كان أحد اهم أهداف غزو العراق وتحطيمه هو إنهاء دوره الضامن والمنظم في علاقات التوازن في الإقليم،وتحويله إلى دولة صراع داخلي على أسس مذهبية وطائفية وعرقية.
وفى ذلك كانت الطرقة الأولى هي غزو العراق هو بدء وإطلاق استراتيجية الفوضى الجيوسياسية في الإقليم وإطلاق حالة ونموذج الفوضى الخلاقة في داخل العراق ودفعها للتمدد في الإقليم.الأمر نفسه حدث في عملية احتلال أفغانستان التي كانت نقطة التوازن -على ضعفها -فى الإقليم وفي الحفاظ على تماسك باكستان واستمرارها..الخ،والآن تبدو الولايات المتحدة في طريقها إلى تطوير خطتها من غزو إقليم أفغانستان وإقليم العراق عبر الانسحاب من كلا البلدين دون أية ترتيبات مسبقة مع أحد (كان ذلك أحد أسباب أبداً باكستان انزعاجها).
الفوضى القادمة
الآن تعلن الولايات المتحدة عن انسحابها كليا من العراق في نهاية عام 2011،وهو ذات العام الذي قالت أنها ستبدأ فيه انسحابها من أفغانستان،كما تتكاثر الأنباء عن احتمال الخلاص الأمريكي من الهزيمة في العراق وأفغانستان بأسرع من ذلك.
وهنا ينبغي التشديد أولا على أن الانسحاب الأمريكي والأطلسي من كل من العراق وأفغانستان يأتي أولا نتيجة للهزيمة تحت ضربات المقاومة إذ لم تعد القوات الأمريكية قادرة على البقاء في العراق كما كان مخططا لها من قبل سواء بفعل عمليات المقاومة أو بسبب الكلفة المالية للبقاء تحت هذا الضغط العسكري،وهنا يبدو الاعتزاز مهما والقول ضروريا بأن شعوب أمتنا أثبتت قدرة وعافية عقائدية وقيمية وإنسانية في صراعها مع قوات الاحتلال،غير أن الفهم الاستراتيجي يقول أيضا،
إن القوة الكبرى حين تهزم في معركة لا تكون هزيمتها كلية ولا تعنى هزيمتها في معركة هزيمة مخططاتها كليا في المنطقة التي لاقت فيها الهزيمة،إلا إذا كانت الدول الأخرى في الإقليم جاهزة لاستغلال تلك الهزيمة وتطويرها وتحويلها إلى هزيمة شاملة.
وبمعنى آخر،فان أميركا تعرف أنها لا تهزم هي ومخططاتها إلا إذا كانت الأمة الإسلامية تحت قيادة موحدة أو ذات رؤية مشتركة أو أن دولها تقوم بينها أشكال تعاون حقيقية،ذلك أنها تملك من الإمكانات والقدرات الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية التي تمكنها من تحويل هزيمتها في أفغانستان والعراق إلى حالة انتصار في جوانب أخرى من استراتيجيتها.
وذلك بالدقة ما يحدث الآن.لقد زلزلت أمريكا المنطقة في داخل الدول وفي علاقاتها الإقليمية وهى ستنسحب الآن مع إبقاء وجود قواتها على أضيق نطاق،لتفعيل عوامل القوة الناعمة لتؤدى دورها في إنفاذ استراتيجيتها أو بقية جوانب استراتيجيتها،في داخل الدول كل على حده،وفى علاقات دول الإقليم مع بعضها البعض
.
حين تنسحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان فإنها تنسحب فاتحة المجال لصراعات عميقة في الإقليم،الذي يعانى اختلال حاد جراء إطاحتها بالتوازانات السابقة،وهى ستظل تتواجد في المنطقة في مواقع ومراكز أخرى لمتابعة ودفع ما سيجرى.وبمعنى أدق فقد أطاحت أمريكا قوة العراق الموازنة للصراع في الإقليم في مواجهة إيران والكيان الصهيوني- ويمكن القول تركيا أيضاً -ومن ثم فتحت الصراع في المنطقة بين القوى الإقليمية الثلاث (إيران-إسرائيل-تركيا)التي تستهدف كل منها السيطرة والنفوذ في الإقليم، وهى حين تنسحب الآن فهي تعتمد على ما أحدثته من زلزال في داخل مكونات الدول الداخلية،كما هو الحال في العراق واليمن ولبنان –عبر آليات الفوضى الخلاقة الداخلية -لتكون تلك الدول والمنطقة جميعا في حالة صراع شامل لفترة طويلة بين دول الإقليم،وهو ما يمثل الوضع النموذجي للتدخل الدولي أو للتدخل الأمريكي وربما الأوروبي
وقوات الاحتلال الأمريكية حين تنسحب من أفغانستان بعد أن مزقتها،تكون قد أخلت بالتوازن في الإقليم الذي تتواجد فيه الهند والصين ودول الاتحاد السوفيتي السابق،وفتحت الصراعات الداخلية في أفغانستان والهند وباكستان والدول الإسلامية الخارجية من تحت عباءة الاتحاد السوفيتي السابق،وهى ستراقب وتعجل كل ذلك من خلال تواجدها في قواعد ثابتة في تلك المنطقة هي الأخرى.وها نحن الآن نشهد توسيعا للصراع الإقليمي بدخول طاجيكستان وروسيا إضافة إلى الهند وباكستان،حلبة الصراع حول أفغانستان.
وفى كل ذلك يبدو أن إيران هي الفاعل الأشد خطورة ونقطة التركيز في الخطة الأميركية،إذ نقطتي تحطيم التوازنات في الإقليم استهدفت تحديدا إطلاق الطاقة الإيرانية باتجاه تفكيك الإقليم،ليس فقط لأن كلا من العراق وأفغانستان هما تحديدا على حدود إيران وإزاحتهما من التوازن يفتح المجال لإيران تحديدا للاندفاع في الإقليمين –إذا جاز الوصف-بل أيضاً لأن لإيران اشتباك داخلي في معظم دول الجوار على ذات الأسس التي تحقق أهداف الاستراتيجية الأمريكية في إشعال الفوضى الهلاكة الداخلية،وذلك ما رأيناه في العراق ولبنان واليمن. الفوضى الجيوسياسية هي الحالة القادمة في المنطقة بعد أن أطاحت أمريكا بقوة دول كان وجودها ودورها الوظيفي هو الحافظ للتوازنات في الإقليم،كما كانت تلك الدول تمثل النموذج لإمكانية التعايش الداخلي المستقر بين القوميات والطوائف والمذاهب.
جريدة الشرق القطرية
عرف المتابعون لشؤون المنطقة وتطوراتها،أن الولايات المتحدة أعدت خطة تغيير حكومات وأنظمة في بلدان العالم الإسلامي أو ما سمى بالشرق الأوسط الكبير،أطلق عليها "الفوضى البناءة" أو الفوضى الخلاقة -أو الفوضى الهلاكة -غير أن تلك الخطة ليست إلا جانبا واحدا أو أحد عناوين خطة استراتيجية أشمل،يجرى إنفاذها لتغيير الأوضاع في المنطقة،هي خطة إشاعة "الفوضى الجيوسياسية" في العالم الإسلامي وأقاليمه بل في العالم أجمع.
والفوضى الخلاقة،هي وسيلة لإحداث الاضطراب والفوضى في الدول القائمة من داخلها،من خلال تفكيك أجهزة الدول وإضعافها ولتغيير نظم الحكم من الداخل وصولا إلى تحويل الدول المستقرة إلى وضعية الاضطراب حتى وصمها بالدول الفاشلة ووضعها بمختلف الطرق والأشكال تحت الوصاية الاستعمارية.
أما الفوضى "الجيوسياسية" فهي أشبه بإحداث زلزال مدمر للعلاقات المستقرة بين الدول وللتوازن الحافظ لاستقرار العلاقات والنظم الإقليمية،لإدخال دول المنطقة في حالة غليان ودورة انقسام وصراع واضطراب وحروب،تكون قادرة على إعادة توليد ذاتها، فلا تنتهي إلا بخمود النيران التي لا تبقى إلا الرماد.
وهكذا إذا دققنا النظر،فنحن في الفوضى الخلاقة أمام عملية واليات لتفكيك الدول والمجتمعات من الداخل يفضى إلى انتهاء تلاحم وترابط المجتمعات،بما يدمر قدرات الدول على التنمية والتقوى وتطوير ذاتها،والقصد إضعاف قدرتها على مواجهة أي مخططات خارجية.
أما في الجانب الآخر فنحن أمام خطة إدخال دول المنطقة برمتها في حالة اضطراب وتصارع مع بعضها البعض، تؤدى إلى الفوضى الشاملة في الإقليم،بما يؤدى بدوره إلى حالة ضعف للإقليم كله،وهو ما يجرى وفق آليات أخرى تختلف عن آليات تحفيز الصراعات الداخلية،اذ تجرى عملية مخططة لتغيير التوازنات التي تحفظ استقرار العلاقات بين الدول،بتقوية بعضها على حساب أو بتقوية بعضها وإضعاف البعض الآخر،كما يجرى تحطيم وإضعاف المؤسسات الإقليمية الحافظة للعلاقات بين الدول والدافعة -كآلية – لتحقيق مصالحها المشتركة بهذا القدر أو ذاك،وكذا يجرى دفع الدول للدخول في صراعات مع بعضها البعض وتشكيل محاور وتحالفات ضد بعضها البعض،لإحداث حالة صراع شاملة في الإقليم متعددة الأطراف والاتجاهات،تكون هي ذاتها قادرة على توليد الصراعات حتى تصل المنطقة إلى حالة الإنهاك الكامل لبعضها البعض
وحين نقول إن الفوضى الخلاقة آلية لتفكيك الدول والمجتمعات ليست إلا عنوان فرعى من خطة الفوضى الجيوسياسية،فالقصد هنا أن الفوضى الجيوسياسية في الإقليم هي الاستراتيجية العليا وأن الفوضى الداخلية،هي أحد آليات ووسائل إحداث الفوضى في الإقليم،إذ الفوضى الداخلية لا تكتمل أهدافها في تفكيك الدول إلا بإنهاء وإزاحة حدود دول الجوار،أو أن الفوضى الداخلية لابد لها حتى تنتج أهدافها من فوضى عارمة في الإقليم،الذي "يجب عليه"-وفق الخطة الأمريكية –أن يلعب دوره في الفوضى الداخلية،ارتقاء وتصعيدا للفوضى في علاقات وتوازنات القوى بين الدول في الإقليم.
وهنا يأتي الدور الإيراني مساندا للدور الأمريكي،أو لنقل أن الدور الإيراني قد وظف هنا تحديدا أو التقى في مصالحه وأهدافه المرحلية مع الاستراتيجية الأمريكية،إذ إيران هي الدولة الفاعل في أعمال التفكيك الداخلي أو هي الدولة الموظفة في إحداث هذا التفكيك داخل كثير من الدول -خاصة في الدول الإسلامية الآسيوية -كما هي الدولة الفاعل في إشاعة حالة الفوضى الجيوسياسية في الإقليم.وبمعنى آخر فإن تلك الاستراتيجية الأمريكية،قد وجدت في الطموح والرؤية والأهداف والمصالح الإيرانية قوة دعم كبيرة ومهمة في إنفاذ استراتيجيتها،إذ التقت مصلحة البلدين وإن اختلفت أهداف كل منهما.وإذا كان من جدة القول بأن إيران ليست وحدها العنوان الأمريكي لإنفاذ خططها،إذ يلعب الكيان الصهيوني دورا بارزا في التفكير والتخطيط والتنفيذ،فيمكن القول أيضا،بان الرؤية الأمريكية تحوز قبول الأوروبيين وربما الروس أيضا،فضلا عن أن بعض الدول العربية الخائفة تجد نفسها مساهمة رغم انفها في تلك المخططات بردود أفعالها غير المخططة على الأقل.
الفوضى الداخلية
كثيرا ما جرى إطلاق تعبير الفوضى الهلاكة أو الفتاكة على مخطط الفوضى الخلاقة،كمحاولة لإبراز النتائج الحقيقية لهذا النمط من الخطط الأميركية.وواقع الحال أن اثارة الفوضى داخل الدول والمجتمعات التي تشكلت واعترف بكياناتها عقب الحرب العالمية الثانية بشكل واضح،يحدث بالفعل فتكا وهلاكا للقيم والأفكار والتنظيمات التنفيذية والتشريعية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية في كل بلد يتمكن منه فيروس الفوضى الخلاقة.فتلك الفوضى إذا كانت خلاقة بالنسبة للولايات المتحدة وتنتج لها دوليات أو تكوينات تتمكن هي من السيطرة عليها وإنفاذ مخططاتها الاستعمارية فيها،فهذا بالنسبة لأمريكا ومصالحها هو قمة الإبداع،لكن مفاعيل تلك الفوضى هي الهلاك لتلك الدول المصابة بها.
في هذا النمط تجرى في داخل المجتمعات عدة أمور في ذات الوقت،فهناك عملية تحطيم القيم والمفاهيم السائدة وإحلال أخرى محلها،عبر أخرى وسيطة تحض على تغيير القائم منها لا تطويره أو تصحيحه،أي أننا عملية تشويه منظمة للقيم السائدة وإظهارها بمظهر غير الإيجابية وغير الصحيحة (متخلفة –تمنع التطور والتقدم-رجعية –غير عصرية –جاهلة-غير متمدنة –غير علمية)والحض على تحطيمها وتغييرها،وهو ما يجرى وفق دراسات فكرية ونفسية تتعلق بثقافة كل مجتمع.والمتابع لما يجرى في المجتمعات العربية يلحظ أن معظم الضخ الإعلامي والفكري والسياسي يعمق تلك الأفكار ويسيد تلك النظرة للدين والقيم الأخلاقية والفكر المستقر في المجتمعات.
وهناك،عملية تغيير لأنماط السلوك الفردي والمجموعي والمجتمعي،ذلك أن المجتمعات المتماسكة والمستقرة تمتلك قيما جامعة، تنعكس في أنماط سلوكية تحض على الحفاظ على تلك القيم المشتركة وتمنع الخروج عنها،كما تنعكس تلك القيم في قواعد واليات تنتظم فيها سلوكيات جماعية ومن ثم يتطلب تحطيم القيم تحطيم تلك الآليات أيضا.وذلك ما نراه الآن في مختلف المجتمعات العربية من سيادة المناخات الذاتية والفردية في السلوك على حساب المجموع،ومن تراجع قيم وسلوكيات الحفاظ على الأسرة والسلوكيات التي تدعم وحدتها وتماسكها ومن تحويل العلاقة بين الرجل والمرأة إلى علاقات صراعية وتنافسية قائمة على تحويل الاختلاف إلى تنافر وتضاد لا إلى تكامل،ومن إفقاد الروح الجماعية والسلوك الجماعي والقيم الوطنية وتفكيك الأحزاب والجماعات والكيانات..الخ.
وفى جانب تفكيك الدول والمجتمعات -لكن على نحو أعلى في التأثير -تجرى عملية مخططة لإنهاض ثقافات كانت موجودة في المجتمعات ما قبل تشكيل الدولة الحديثة عبر إيقاظها وإعطائها قبلة الحياة وتحويلها إلى الصراع مع القيم الوطنية والمشتركة السائدة حاليا.كما تجرى عمليات تخريب للولاءات الوطنية واستبدالها بولاءات قبلية وعائلية وجهوية،وكل ذلك دفعا في اتجاه التعادي بين مكونات المجتمع وتحويل طاقة المجتمع من طاقة إيجابية تستهدف التطوير والتحديث،دون الخروج على الثابت المستقر والجوهري،إلى حالات عدمية مدمرة،تتوجه نحو تفكيك المنجزات والانقلاب عليها وتدمير ما يحافظ على بقاء المجتمع مستقرا.
في الجانب العملي،فالكل يتابع ما يجرى في أرجاء الدول العربية والإسلامية،إذ ما من دولة إلا وصارت تشهد أحياء حضارات ولغات وثقافات انقرض استخدامها أو حتى معرفتها والإلمام بها في المجتمعات،وأحياء لولاءات ما قبل الدولة واختراق لأجهزة الدول القائمة احتكاما وارتباطا بتلك الولاءات،وهو ما صار نماذج متعددة،من السودان إلى اليمن إلى لبنان إلى العراق وهو ما تجرى محاولات لحدوثه في دول الخليج العربي (بإخراج اليمن وتفكيكه أيضا) وفي التشابك الثنائي المصري السوداني الفريد عبر إخراج جنوب السودان ودفعه لأداء دور وظيفي مضاد،وفي دول المغرب العربي..الخ
الفوضى الإقليمية
واقع الحال أن إشاعة الفوضى الجيوسياسية في الإقليم جاء للحقيقة سابقا في دوره ونشاطه على دور ونشاط الفوضى الداخلية،وكانت إشاعة الفوضى الجيوسياسية كذلك الدافع والمحفز،
وكانت الطرقة الأولى لإشعالها قد جاءت بفعل خارجي تمثل في إخراج العراق من التوازن الحافظ للعلاقات والاستقرار في المنطقة.والاهم أن الفوضى الجيوسياسية القادمة ستأتي نقطة تفعيلها أيضاً بضربة من الخارج أيضا،ربما تكون باتجاه سوريا.وفى ذلك يمكن القول –ويجوز استخدام تعبير التحذير أيضا-بان الطرقة الأولى لكل الأحداث الداخلية وفي الإقليم بغزو واحتلال كل من أفغانستان والعراق من خلال ضرب التوازنات المستقرة في الإقليم.فبالإضافة إلى ما صار القراء والمتابعين العرب يحفظونه تماما من أهداف الغزو والاحتلال الأمريكي بدءا من الثار والرمزية لاحتلال دولة الخلافة،الى الاستيلاء على النفط والمواقع الاستراتيجية،
فإن أحد الأهداف الاستراتيجية الأمريكية من هذا الغزو والاحتلال كان بالدقة، إحداث زلزال مدمر في التوازنات الإقليمية يفتح الباب لتفعيل الحركة والصراع والاضطراب في المنظومة المستقرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وما بعد تشكيل الدول العربية وإعلان قيام الجامعة العربية الخ.لقد كان أحد اهم أهداف غزو العراق وتحطيمه هو إنهاء دوره الضامن والمنظم في علاقات التوازن في الإقليم،وتحويله إلى دولة صراع داخلي على أسس مذهبية وطائفية وعرقية.
وفى ذلك كانت الطرقة الأولى هي غزو العراق هو بدء وإطلاق استراتيجية الفوضى الجيوسياسية في الإقليم وإطلاق حالة ونموذج الفوضى الخلاقة في داخل العراق ودفعها للتمدد في الإقليم.الأمر نفسه حدث في عملية احتلال أفغانستان التي كانت نقطة التوازن -على ضعفها -فى الإقليم وفي الحفاظ على تماسك باكستان واستمرارها..الخ،والآن تبدو الولايات المتحدة في طريقها إلى تطوير خطتها من غزو إقليم أفغانستان وإقليم العراق عبر الانسحاب من كلا البلدين دون أية ترتيبات مسبقة مع أحد (كان ذلك أحد أسباب أبداً باكستان انزعاجها).
الفوضى القادمة
الآن تعلن الولايات المتحدة عن انسحابها كليا من العراق في نهاية عام 2011،وهو ذات العام الذي قالت أنها ستبدأ فيه انسحابها من أفغانستان،كما تتكاثر الأنباء عن احتمال الخلاص الأمريكي من الهزيمة في العراق وأفغانستان بأسرع من ذلك.
وهنا ينبغي التشديد أولا على أن الانسحاب الأمريكي والأطلسي من كل من العراق وأفغانستان يأتي أولا نتيجة للهزيمة تحت ضربات المقاومة إذ لم تعد القوات الأمريكية قادرة على البقاء في العراق كما كان مخططا لها من قبل سواء بفعل عمليات المقاومة أو بسبب الكلفة المالية للبقاء تحت هذا الضغط العسكري،وهنا يبدو الاعتزاز مهما والقول ضروريا بأن شعوب أمتنا أثبتت قدرة وعافية عقائدية وقيمية وإنسانية في صراعها مع قوات الاحتلال،غير أن الفهم الاستراتيجي يقول أيضا،
إن القوة الكبرى حين تهزم في معركة لا تكون هزيمتها كلية ولا تعنى هزيمتها في معركة هزيمة مخططاتها كليا في المنطقة التي لاقت فيها الهزيمة،إلا إذا كانت الدول الأخرى في الإقليم جاهزة لاستغلال تلك الهزيمة وتطويرها وتحويلها إلى هزيمة شاملة.
وبمعنى آخر،فان أميركا تعرف أنها لا تهزم هي ومخططاتها إلا إذا كانت الأمة الإسلامية تحت قيادة موحدة أو ذات رؤية مشتركة أو أن دولها تقوم بينها أشكال تعاون حقيقية،ذلك أنها تملك من الإمكانات والقدرات الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية التي تمكنها من تحويل هزيمتها في أفغانستان والعراق إلى حالة انتصار في جوانب أخرى من استراتيجيتها.
وذلك بالدقة ما يحدث الآن.لقد زلزلت أمريكا المنطقة في داخل الدول وفي علاقاتها الإقليمية وهى ستنسحب الآن مع إبقاء وجود قواتها على أضيق نطاق،لتفعيل عوامل القوة الناعمة لتؤدى دورها في إنفاذ استراتيجيتها أو بقية جوانب استراتيجيتها،في داخل الدول كل على حده،وفى علاقات دول الإقليم مع بعضها البعض
.
حين تنسحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان فإنها تنسحب فاتحة المجال لصراعات عميقة في الإقليم،الذي يعانى اختلال حاد جراء إطاحتها بالتوازانات السابقة،وهى ستظل تتواجد في المنطقة في مواقع ومراكز أخرى لمتابعة ودفع ما سيجرى.وبمعنى أدق فقد أطاحت أمريكا قوة العراق الموازنة للصراع في الإقليم في مواجهة إيران والكيان الصهيوني- ويمكن القول تركيا أيضاً -ومن ثم فتحت الصراع في المنطقة بين القوى الإقليمية الثلاث (إيران-إسرائيل-تركيا)التي تستهدف كل منها السيطرة والنفوذ في الإقليم، وهى حين تنسحب الآن فهي تعتمد على ما أحدثته من زلزال في داخل مكونات الدول الداخلية،كما هو الحال في العراق واليمن ولبنان –عبر آليات الفوضى الخلاقة الداخلية -لتكون تلك الدول والمنطقة جميعا في حالة صراع شامل لفترة طويلة بين دول الإقليم،وهو ما يمثل الوضع النموذجي للتدخل الدولي أو للتدخل الأمريكي وربما الأوروبي
وقوات الاحتلال الأمريكية حين تنسحب من أفغانستان بعد أن مزقتها،تكون قد أخلت بالتوازن في الإقليم الذي تتواجد فيه الهند والصين ودول الاتحاد السوفيتي السابق،وفتحت الصراعات الداخلية في أفغانستان والهند وباكستان والدول الإسلامية الخارجية من تحت عباءة الاتحاد السوفيتي السابق،وهى ستراقب وتعجل كل ذلك من خلال تواجدها في قواعد ثابتة في تلك المنطقة هي الأخرى.وها نحن الآن نشهد توسيعا للصراع الإقليمي بدخول طاجيكستان وروسيا إضافة إلى الهند وباكستان،حلبة الصراع حول أفغانستان.
وفى كل ذلك يبدو أن إيران هي الفاعل الأشد خطورة ونقطة التركيز في الخطة الأميركية،إذ نقطتي تحطيم التوازنات في الإقليم استهدفت تحديدا إطلاق الطاقة الإيرانية باتجاه تفكيك الإقليم،ليس فقط لأن كلا من العراق وأفغانستان هما تحديدا على حدود إيران وإزاحتهما من التوازن يفتح المجال لإيران تحديدا للاندفاع في الإقليمين –إذا جاز الوصف-بل أيضاً لأن لإيران اشتباك داخلي في معظم دول الجوار على ذات الأسس التي تحقق أهداف الاستراتيجية الأمريكية في إشعال الفوضى الهلاكة الداخلية،وذلك ما رأيناه في العراق ولبنان واليمن. الفوضى الجيوسياسية هي الحالة القادمة في المنطقة بعد أن أطاحت أمريكا بقوة دول كان وجودها ودورها الوظيفي هو الحافظ للتوازنات في الإقليم،كما كانت تلك الدول تمثل النموذج لإمكانية التعايش الداخلي المستقر بين القوميات والطوائف والمذاهب.
جريدة الشرق القطرية