حتى سنوات قليلة مضت كان مبدأ الاختلاط المدرسي من المسلمات التي لم يكن أحد يجرؤ على التشكيك فيها أو نقدها في الدول الغربية خشية أن يتهم بالرجعية. لكن أصوات عديد من الباحثين بدأت ترتفع، منذ بداية العقد الحالي، للمطالبة بإجراء جردة حساب نقدية لتقييم تجارب الاختلاط، بعد مرور ثلاثين سنة على اعتمادها كمبدأ تربوي إجباري في غالبية الدول الغربية.
وتستند آراء هؤلاء الباحثين إلى كون الاختلاط ارتبط بما يسمى حركات تحرر المرأة، في الخمسينيات والستينيات، وتم اعتماده كقاعدة تربوية تهدف إلى محو الفوارق وتحقيق المساواة في مجال التعليم بين الذكور والإناث، لكن هذا الطابع الذي سمي بالنضالي الذي اتسمت به حركة تعميم الاختلاط أدى إلى إغفال كثير من الحقائق والنقائص والعيوب التربوية التي أفرزتها هذه الظاهرة، وفي مقدمتها تراجع قدرات الأولاد الذكور على التحصيل العلمي مقارنة بالإناث.
ورغم أن عديدا من الإخصائيين في مجال التربية أشاروا إلى هذه الظاهرة في أبحاثهم، منذ منتصف الثمانينيات، إلا أن أصواتهم بقيت مهمشة، ولم تلق أي صدى لدى السلطات المشرفة على قطاعات التربية والتعليم في الغرب، وذلك حتى شهر مارس 2001، حين كُشف عن نتائج أول دراسة موسعة ذات طابع علمي أجريت في هذا المجال، تحت إشراف وزارة التربية الاسترالية، وأُوكلت إلى 19وحدة بحث منفصلة ضمت فرقا مختلطة من المدرّسين والإخصائيين التربويين والاجتماعيين.
وكانت هذه الدراسة أول بحث أثبت بشكل علمي أن للاختلاط انعكاسات سلبية عدة، أبرزها تراجع قدرات الذكور على التحصيل العلمي، وظهور قدر متزايد من العنف والعدوانية في علاقات الأولاد والبنات في الإطار المدرسي، خصوصاً في سن المراهقة.
وسرعان ما بدأ "تابو" الاختلاط يسقط تدريجيا؛ ففي الولايات المتحدة الأميركية التي كانت أول بلد اعتمد نظام الاختلاط المدرسي، تم سن قانون في فبراير 2000 لم يعد بموجبه الاختلاط إجباريا حتى في المدارس الحكومية، حيث سمح لأول مرة بإعادة فتح أقسام غير مختلطة.
وكان اللافت أن هذا القانون لم يأت باقتراح من التيارات المحافظة المرتبطة بالحزب الجمهوري، بل حظي بدعم وتأييد السيدة الأولى الأميركية سابقا "هيلاري كلينتون" المعروفة بأفكارها المدافعة عما تسميها حقوق النساء!
أقسام غير مختلطة
ومنذ مطلع العقد الحالي، تم الشروع في تجريب أقسام دراسية غير مختلطة في المدارس الحكومية ببريطانيا والسويد وفنلندا وألمانيا وكندا.
ويُرجع الباحث السوسيولوجي الفرنسي "ميشال فيز" مؤلّف كتاب "مطبّات الاختلاط المدرسي"، أسباب هذا إلى كون ظاهرة الاختلاط اعتُبرت كأداة تحديث تربوي وتطوير اجتماعي منذ إقرارها رسميا في الستينيات ثم تحويلها إلى قاعدة إجبارية في منتصف السبعينيات، ولم يهتم أحد منذ تلك الفترة بإعادة تقييم هذه التجربة وفحص نتائجها من وجهة نظر تربوية محضة.
ويضيف: "إن مواقف الجميع في هذا الشأن، سواء من المدرّسين أو الباحثين أو المشرفين على قطاعات التربية، اتستمت دوما بالازدواجية والنفاق. فلا أحد تجرأ على نقد الاختلاط أو التصدي لمساوئه التربوية ومحاولة تصحيحها، وذلك خشية أن تلصق به تهمة "الرجعية"، فالجميع كانوا يخلطون بين الاختلاط المدرسي وبين مبدأ المساواة بين الذكور والإناث من حيث الحقوق التربوية، في حين أنهما ليسا أمرين منفصلين فحسب، بل إن الاختلاط ـ كما بيّنته أحدث الدراسات - لم يسهم في تحقيق المساواة، وإنما بالعكس عمّق الفوارق أكثر وخلق أشكالاً جديدة من التفرقة بين الذكور والإناث" بحسب رأيه.
الاختلاط وراء تزايد العنف
وللتدليل على ذلك، يقول الباحث فيز: "لم يحقق الاختلاط النتائج التي كانت مرجوّة منه على الإطلاق، فعلى صعيد العلاقات بين الذكور والإناث، لم تؤد تجارب الاختلاط إلى بروز علاقات أكثر توازنا وفقا لمبادئ المساواة والاحترام المتبادل، بل بالعكس تولّد قدر متزايد من العنف في الإطار المدرسي، فحسب تقرير لوزارة التربية الفرنسية، نُشر في مارس 2003، تم تسجيل 1400 حادثة اعتداء أو عنف ذات طابع جنسي في المدارس التكميلية الفرنسية البالغ عددها 7859 مدرسة، خلال موسم دراسي واحد! الشيء الذي لم يكن ليخطر في أذهان الذين تحمسوا للاختلاط في الستينيات، لأنهم كانوا يتصوّرون أنه يحقق للفتيات المساواة، في حين أن النتائج جاءت عكسية تماما، فالبنات في المدارس المختلطة أصبحن عرضة بشكل متزايد للاعتداءات الجنسية وللعنف الذكوري بمختلف أشكاله".
أما على صعيد التحصيل العملي المحض، فإن المساواة لم تتحقق أيضا، حيث تقول الباحثة في علوم التربية "ماري دورو بيلات": لا يوجد على الصعيد البيولوجي أي سند علمي يثبت وجود فروق طبيعية في القدرة على التحصيل العلمي بين الذكور والإناث، لكن العقليات الاجتماعية تميل دوما إلى الاعتقاد بأن البنات أكثر تأهيلا في مجال العلوم الإنسانية والآداب، وأن الذكور أكثر تفوقا في المجالات العملية.
وعلى الرغم من مرور 30 سنة على تعميم تجارب الاختلاط تحت شعار المساواة بين الأولاد والبنات في الحقوق التربوية، إلا أن ثقل هذه العقليات ما يزال على حاله، فالإحصائيات الحالية في أغلب الدول الغربية ما تزال تشير إلى أن نسبة البنات في الاختصاصات الأدبية تصل إلى 82 بالمائة، بينما لا تتجاوز 43 بالمائة في مجال العلوم، و22 بالمائة في مجال الهندسة و14 بالمائة فقط في الاختصاصات التقنية، وبالتالي فإن ما يقال عن دور الاختلاط في تحقيق المساواة ـ تضيف الباحثة بيلات ـ ليس سوى محض سراب!".
مساوئ الاختلاط في أوروبا
أما الباحث "أندريه روش"، مؤلف كتاب "تحوّلات الهوية الذكورية"، فإنه يذهب أبعد من ذلك، ويقول إن مساوئ تجارب الاختلاط لا تكمن فقط في قصورها عن تدارك الفوارق التي كانت قائمة في السابق، بل إن الاختلاط في حد ذاته أدى إلى إفراز وخلق فوارق جديدة تتمثل في تراجع قدرات التلاميذ الذكور على التحصيل العلمي، بدءًا من السلك التكميلي حتى نهاية الثانوي، حيث لا يتجاوز عدد الناجحين الذكور في امتحان الباكالوريا 63 بالمائة من مجموع المسجلين في المدارس المختلطة، في حين أن نسب النجاح في المدارس الخاصة (الدينية) التي لا تعتمد الاختلاط يصل إلى 76 بالمائة.
ويُرجع الباحث روش أسباب هذه الظاهرة إلى التأثيرات السلبية لوجود البنات والذكور في أقسام مشتركة، خصوصاً في سن المراهقة، حيث يؤدي ذلك إلى تراجع قدرات الذكور على التركيز والتحصيل العلمي.
والمفعول ذاته موجود أيضا لدى البنات، لكنهن في العادة أكثر انضباطا والتزاما بالقواعد الدراسية من الذكور، ولذا فإن هذه الانعكاسات بالنسبة لهن محدودة جدا.
وفضلا عن هذه الأسباب ـ يضيف الباحث روش ـ هناك عامل آخر يتمثل في وجود أعداد متزايدة من النساء في السلك التعليمي كمدرّسات أو مربّيات، وذلك يلعب دورا سلبيا في قدرة الذكور على التحصيل، خصوصاً في فترات المراهقة، كما أنه يخلق لديهم ردود فعل عدوانية تجاه البنات، بسبب عقدة النقص التي تتولّد لديهم حيال سلطة المدرّسات الإناث وحيال تفوّق البنات وتفضيلهن في أحيان كثيرة من قبل المدرّسين والمدرّسات، لأنهن لسن أكثر تفوقاً فحسب، بل أكثر انضباطا وانصياعا للقوانين والقواعد الدراسية، وبالتالي فهن أقل إثارة للمشاكل من زملائهن الذكور.
وتستند آراء هؤلاء الباحثين إلى كون الاختلاط ارتبط بما يسمى حركات تحرر المرأة، في الخمسينيات والستينيات، وتم اعتماده كقاعدة تربوية تهدف إلى محو الفوارق وتحقيق المساواة في مجال التعليم بين الذكور والإناث، لكن هذا الطابع الذي سمي بالنضالي الذي اتسمت به حركة تعميم الاختلاط أدى إلى إغفال كثير من الحقائق والنقائص والعيوب التربوية التي أفرزتها هذه الظاهرة، وفي مقدمتها تراجع قدرات الأولاد الذكور على التحصيل العلمي مقارنة بالإناث.
ورغم أن عديدا من الإخصائيين في مجال التربية أشاروا إلى هذه الظاهرة في أبحاثهم، منذ منتصف الثمانينيات، إلا أن أصواتهم بقيت مهمشة، ولم تلق أي صدى لدى السلطات المشرفة على قطاعات التربية والتعليم في الغرب، وذلك حتى شهر مارس 2001، حين كُشف عن نتائج أول دراسة موسعة ذات طابع علمي أجريت في هذا المجال، تحت إشراف وزارة التربية الاسترالية، وأُوكلت إلى 19وحدة بحث منفصلة ضمت فرقا مختلطة من المدرّسين والإخصائيين التربويين والاجتماعيين.
وكانت هذه الدراسة أول بحث أثبت بشكل علمي أن للاختلاط انعكاسات سلبية عدة، أبرزها تراجع قدرات الذكور على التحصيل العلمي، وظهور قدر متزايد من العنف والعدوانية في علاقات الأولاد والبنات في الإطار المدرسي، خصوصاً في سن المراهقة.
وسرعان ما بدأ "تابو" الاختلاط يسقط تدريجيا؛ ففي الولايات المتحدة الأميركية التي كانت أول بلد اعتمد نظام الاختلاط المدرسي، تم سن قانون في فبراير 2000 لم يعد بموجبه الاختلاط إجباريا حتى في المدارس الحكومية، حيث سمح لأول مرة بإعادة فتح أقسام غير مختلطة.
وكان اللافت أن هذا القانون لم يأت باقتراح من التيارات المحافظة المرتبطة بالحزب الجمهوري، بل حظي بدعم وتأييد السيدة الأولى الأميركية سابقا "هيلاري كلينتون" المعروفة بأفكارها المدافعة عما تسميها حقوق النساء!
أقسام غير مختلطة
ومنذ مطلع العقد الحالي، تم الشروع في تجريب أقسام دراسية غير مختلطة في المدارس الحكومية ببريطانيا والسويد وفنلندا وألمانيا وكندا.
ويُرجع الباحث السوسيولوجي الفرنسي "ميشال فيز" مؤلّف كتاب "مطبّات الاختلاط المدرسي"، أسباب هذا إلى كون ظاهرة الاختلاط اعتُبرت كأداة تحديث تربوي وتطوير اجتماعي منذ إقرارها رسميا في الستينيات ثم تحويلها إلى قاعدة إجبارية في منتصف السبعينيات، ولم يهتم أحد منذ تلك الفترة بإعادة تقييم هذه التجربة وفحص نتائجها من وجهة نظر تربوية محضة.
ويضيف: "إن مواقف الجميع في هذا الشأن، سواء من المدرّسين أو الباحثين أو المشرفين على قطاعات التربية، اتستمت دوما بالازدواجية والنفاق. فلا أحد تجرأ على نقد الاختلاط أو التصدي لمساوئه التربوية ومحاولة تصحيحها، وذلك خشية أن تلصق به تهمة "الرجعية"، فالجميع كانوا يخلطون بين الاختلاط المدرسي وبين مبدأ المساواة بين الذكور والإناث من حيث الحقوق التربوية، في حين أنهما ليسا أمرين منفصلين فحسب، بل إن الاختلاط ـ كما بيّنته أحدث الدراسات - لم يسهم في تحقيق المساواة، وإنما بالعكس عمّق الفوارق أكثر وخلق أشكالاً جديدة من التفرقة بين الذكور والإناث" بحسب رأيه.
الاختلاط وراء تزايد العنف
وللتدليل على ذلك، يقول الباحث فيز: "لم يحقق الاختلاط النتائج التي كانت مرجوّة منه على الإطلاق، فعلى صعيد العلاقات بين الذكور والإناث، لم تؤد تجارب الاختلاط إلى بروز علاقات أكثر توازنا وفقا لمبادئ المساواة والاحترام المتبادل، بل بالعكس تولّد قدر متزايد من العنف في الإطار المدرسي، فحسب تقرير لوزارة التربية الفرنسية، نُشر في مارس 2003، تم تسجيل 1400 حادثة اعتداء أو عنف ذات طابع جنسي في المدارس التكميلية الفرنسية البالغ عددها 7859 مدرسة، خلال موسم دراسي واحد! الشيء الذي لم يكن ليخطر في أذهان الذين تحمسوا للاختلاط في الستينيات، لأنهم كانوا يتصوّرون أنه يحقق للفتيات المساواة، في حين أن النتائج جاءت عكسية تماما، فالبنات في المدارس المختلطة أصبحن عرضة بشكل متزايد للاعتداءات الجنسية وللعنف الذكوري بمختلف أشكاله".
أما على صعيد التحصيل العملي المحض، فإن المساواة لم تتحقق أيضا، حيث تقول الباحثة في علوم التربية "ماري دورو بيلات": لا يوجد على الصعيد البيولوجي أي سند علمي يثبت وجود فروق طبيعية في القدرة على التحصيل العلمي بين الذكور والإناث، لكن العقليات الاجتماعية تميل دوما إلى الاعتقاد بأن البنات أكثر تأهيلا في مجال العلوم الإنسانية والآداب، وأن الذكور أكثر تفوقا في المجالات العملية.
وعلى الرغم من مرور 30 سنة على تعميم تجارب الاختلاط تحت شعار المساواة بين الأولاد والبنات في الحقوق التربوية، إلا أن ثقل هذه العقليات ما يزال على حاله، فالإحصائيات الحالية في أغلب الدول الغربية ما تزال تشير إلى أن نسبة البنات في الاختصاصات الأدبية تصل إلى 82 بالمائة، بينما لا تتجاوز 43 بالمائة في مجال العلوم، و22 بالمائة في مجال الهندسة و14 بالمائة فقط في الاختصاصات التقنية، وبالتالي فإن ما يقال عن دور الاختلاط في تحقيق المساواة ـ تضيف الباحثة بيلات ـ ليس سوى محض سراب!".
مساوئ الاختلاط في أوروبا
أما الباحث "أندريه روش"، مؤلف كتاب "تحوّلات الهوية الذكورية"، فإنه يذهب أبعد من ذلك، ويقول إن مساوئ تجارب الاختلاط لا تكمن فقط في قصورها عن تدارك الفوارق التي كانت قائمة في السابق، بل إن الاختلاط في حد ذاته أدى إلى إفراز وخلق فوارق جديدة تتمثل في تراجع قدرات التلاميذ الذكور على التحصيل العلمي، بدءًا من السلك التكميلي حتى نهاية الثانوي، حيث لا يتجاوز عدد الناجحين الذكور في امتحان الباكالوريا 63 بالمائة من مجموع المسجلين في المدارس المختلطة، في حين أن نسب النجاح في المدارس الخاصة (الدينية) التي لا تعتمد الاختلاط يصل إلى 76 بالمائة.
ويُرجع الباحث روش أسباب هذه الظاهرة إلى التأثيرات السلبية لوجود البنات والذكور في أقسام مشتركة، خصوصاً في سن المراهقة، حيث يؤدي ذلك إلى تراجع قدرات الذكور على التركيز والتحصيل العلمي.
والمفعول ذاته موجود أيضا لدى البنات، لكنهن في العادة أكثر انضباطا والتزاما بالقواعد الدراسية من الذكور، ولذا فإن هذه الانعكاسات بالنسبة لهن محدودة جدا.
وفضلا عن هذه الأسباب ـ يضيف الباحث روش ـ هناك عامل آخر يتمثل في وجود أعداد متزايدة من النساء في السلك التعليمي كمدرّسات أو مربّيات، وذلك يلعب دورا سلبيا في قدرة الذكور على التحصيل، خصوصاً في فترات المراهقة، كما أنه يخلق لديهم ردود فعل عدوانية تجاه البنات، بسبب عقدة النقص التي تتولّد لديهم حيال سلطة المدرّسات الإناث وحيال تفوّق البنات وتفضيلهن في أحيان كثيرة من قبل المدرّسين والمدرّسات، لأنهن لسن أكثر تفوقاً فحسب، بل أكثر انضباطا وانصياعا للقوانين والقواعد الدراسية، وبالتالي فهن أقل إثارة للمشاكل من زملائهن الذكور.