أذكر أن حوارًا دار بيني وبين رجل شيوعي حول المنابر والأحزاب، فكان مما قاله لي وأثَّر فيَّ أثرًا بالغًا قوله: "والله لو تهيأ لنا من الظروف والفرص ما تهيَّأ لكم، لأقمنا دولة شيوعية في أشهر معدودات"، ثم أردف يشرح ما يقصد بقوله: "أي منابر تريدون، وأي أحزاب تطلبون، وقد تهيأت لكم منابر في كل مدينة وقرية، وفي كل شارع وحي، ولكم مقار ينفق عليها على حساب غيركم، وتخدم وتُهيَّأ لاستقبالكم، ويسعى إليكم جمهور من كل طبقات الأمة دون جهد منكم، يأتي إليكم مدفوعًا بعقيدته، صادقًا في نيته، طالبًا منكم هدايته، ثم هو مع ذلك مصدق لكل ما تقولون، بل إن كلامكم ينزل منه منزلة الفريضة، ويحل من نفسه مكانة مقدسة، فالإمام في نظره مبلغ عن اللّه موقع عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.. فماذا تريدون أكثر من هذا؟ إنه لا ينقصكم إلا أن تكونوا صادقين.. ويوم يستشعر الناس الصدق فيكم؛ فإن دعوة الإسلام ستعم الدنيا وتملأ الأرض. وشعرت كأن الرجل يشعر نحو أئمتنا بنوع من الازدراء والتحقير عندما قال: "إن من أعجب العجب أن يتاح لكم هذا كله، ثم نرى انفضاض الناس عنكم وازدراءهم لكم وانعدام ثقتهم فيكم، بل إني لأعجب أكثر عندما أرى نجاحنا في استقطاب كثير من مثقفي الأمة، برغم أن دعوتنا تتعارض مع ما ورثوه وألفوه، وما اعتقدوه وناصروه".
والحقيقة أنني لم أجد ما أرد به على هذا الرجل إلا قولي: "وهل تظن أن الإسلام يخص الخطباء وحدهم أو لست أنت مسلم أيضًا؟ فلماذا لم تتقدم للقيام بهذه المهمة إن كنت ترى عجز الأئمة عن أدائها؟! فقال: "عندما أرى أهدافًا واضحةً، وخططًا ناجحةً، وهممًا عالية، وإصرارًا على تحقيق الأهداف، يومها ستجدونني أسبقكم إلى هذه الدعوة.. فقلت سبحان اللّه لقد صدق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. عندما قال: "اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز التقي".
وبرغم اختلافي مع الرجل فإني شعرت أن لكلامه أثرًا على قلبي، بل وجدت أن الحق كله معه، وجعلت أدير سؤاله في رأسي: "ماذا تريدون أكثر من هذا؟"، إن لكم أعظم حزب ويتبعكم أكبر جمهور وتملكون أكبر عدد من المقار النظيفة والمفروشة والمجهزة بكل المرافق المعينة على الراحة، ويصرف لكم ولهذه المقار ميزانية معلومة، تزداد مع الأيام، هذا فضلاً عن أن قضيتكم مقدسة وأقوالكم مصدقة، وفطرة الناس تهفو إليكم؛ فما الذي يحول بين الناس وبينكم؟!، إنه لا يمنع الخطباء من أن يستحوذوا على مشاعر الناس ويستوعبوهم إلا أن يكونوا صادقين، ولا يمكن أن نستشعر الصدق إلا إذا أحسسنا بهول الفاجعة وفداحة المأساة، وأن نستشعر بشاعة الهجمة الصليبية اليهودية وشراستها، عندها سيدرك كل خطيب أوتي فرصة الحديث إلى الناس أنه على ثغر من ثغور الإسلام، وعليه أن يختار بين أمرين أن يكون مجاهدًا أو خائنًا، أن يكون وارثًا للنبوة أو مضيعًا للأمانة.
إن على الداعية الذي يقرأ قول ربه سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)﴾ (الأنفال).
إن عليه أن يجتهد حتى لا يكون من أهل هذه الآية، ولينظر كيف ينجو من تبعة الخيانة, وكيف يتخلص من تبعتها بين يدي خالقه عندما ينادي منادي اللّه: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24)﴾ (الصافات).
إن الوقت لم يعد يتسع للتقصير والإهمال وإلقاء المسئولية على الغير، فالمعركة فاصلة، والعدو الأول فيها هو الجهل بالدين، والمحارب الأشد هو الأقدر على قهر هذا العدو.
وإذا كان كيد عدونا على مدى الثلاثة قرون السابقة قد انصب على كيفية تجهيل الأمة، بتجفيف منابعها الدينية، وتمييع عقيدتها الإسلامية وخلط مفاهيمها بالمفاهيم الأرضية العلمانية، ومحاولة تغريب شخصيتها عن طريق التعليم والإعلام؛ فإن مهمة الخطباء اليوم أن يعملوا بقوة أكبر وهمة أشد، ليصلحوا ما غفل عنه أسلافهم، أو ما غلبوا عليه، نتيجة إحكام الكيد، ودقة المؤامرات.
إن الداعية الذي يملك مفاتيح القلوب بما منحه اللّه من إخلاص، وبما أفاض عليه من تمكن في العلم الشرعي هو مرشدنا الروحي، وقائدنا السياسي، ومصلحنا الاجتماعي، وطبيبنا النفسي، وهو قبل ذلك وبعده هو الموقع لنا عن ربنا، والمبلغ عن رسولنا، والمستفتى في كل ما يعن لنا من أمور ديننا، ودنيانا ولهذا كان الداعية غير الخطيب.
يقول الشيخ البهي الخولي: "الداعية غير الخطيب، الخطيب خطيب وكفى، والداعية مؤمن بفكرة يدعو إليها بالكتابة، والخطابة، والحديث العادي، والعمل الجدي في سيرته الخاصة والعامة، وبكل ما يستطيع من وسائل الدعاية، فهو كاتب وخطيب ومحدث وقدوة، يؤثر في الناس بعمله وشخصه، والداعية أيضًا طبيب اجتماعي يعالج أمراض النفوس، ويصلح أوضاع المجتمع الفاسدة، فهو ناقد بصير يقف حياته على الإصلاح إلى ما شاء اللّه.. وهو رفيق وصديق، وأخٌ للغني والفقير، والكبير والصغير، ومن هذه الصفات تشيع المحبة في قلبه، وتتدفق الرحمة من عينيه، وتجري المواساة على لسانه ويديه، وهذا ضروري جدًّا للداعية.. وهو من مواهب الروح والجنان، لا من صفات البلاغة وملكات اللسان.. والداعية قائد في محيطه، وسياسي في بيئته، وزعيم لفكرته ومن يتبعه في ناحيته، وكل هذا لا تنهض الخطابة وحدها بحقوقه، فلا بد من التأثير النفساني، والهيمنة الروحية، والاتصال باللّه، واستعانة العقل بما حصل من تجارب التاريخ وأحوال الناس"(1).
إن الوقت لم يعد يتسع للوعظ السلبي وشغل الناس بالقصص الخيالية والأساطير الخرافية رغبة في إمتاعهم ودغدغة مشاعرهم، غير عابئ بما يجره على الدين من مطاعن وبما يدخله عليه من افتراءات لم ينزل بقدر الإسلام، ولا يشرفه، ويضع في يد أعداء الإسلام أمضى أسلحة التشكيك فيه والطعن في ثوابته.
إن الوقت قد حان لكي يتمايز الداعية الصادق من الداعي المحتال، وأن يتمايز أصحاب الهمم العالية المحترقون بهمّ الإسلام عن غيرهم من المتكسبين بالوظيفة الذين لا يرون العمل بالخطابة إلا وسيلة؛ لتحصيل الراتب والحرص على الحوافز والعلاوات.
إن الداعية الذي صعد المنبر وانتصب إمامًا للناس ينبغي أن يعلم أنه يقوم مقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهذا يعني أنه رضي أن يكون وارثًا لرسوله، مبلغًا عنه صلى اللّه عليه وسلمَ، فإن كان مدركًا لذلك حقًّا فليهيئ لذلك قلبًا تقيًّا، وفؤادًا ذكيًّا، وعزمًا فتيًّا، وليبع للّه نفسه غير عابئ بشيء إلا مرضاة اللّه تبارك وتعالى، وليعلم أن زاده الذي لا ينضب ومدده الذي لا ينقطع، يكون بمدى صدق معيته لربه واطمئنانه بجنابه وأنسه بمولاه، وليتذكر دائمًا قول ربه سبحانه ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾ (آل عمران).. وليتذكر بشارة الله لهم بقوله: ﴿فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)﴾ (آل عمران).
وليعلم أن الخوف الذي يلم بالقلب إنما مصدره الشيطان.. يضخم للمسلم أمر عدوه، ويقلل في قلبه ثقته بربه حتى يقع أسير خوفه وهلعه، وليدرك وقتها قول ربه سبحانه: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)﴾ (آل عمران).
وإذا استشعر الخطيب في نفسه الخوف، وأدرك أن هناك خصمًا يرصده أو باغيًا يطلبه؛ فليكثر من قول ربه سبحانه: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (غافر: من الآية 44)، فإنه واجد بعدها قول ربه سبحانه: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)﴾ (غافر).
إن الأمة الإسلامية تعاني اليوم مواتًا في مشاعرها وضحالة في إيمانها وضعفًا في غيرتها على عقيدتها ودينها، وخطباؤنا اليوم هم المنتدبون لأداء هذا الدور، ولا يكفي لهذه المهمة أن يكون الخطيب بارعًا في أدائه، فصيحًا في إلقائه بل لا بد له مع ذلك من نية صادقة وهمة عالية وغيرة محمودة على كتاب اللّه وسنة رسوله حتى يستطيع أن يحيي من الأمة ما أماتته مؤامرات التخريب وحملات التغريب؛ عندها ندرك يقينًا أن الداعية غير الخطيب وأن النائحة الثكلى ليست كالمستأجرة.
وإذا أردنا أن نحدد طبيعة العلاقة بين الداعية والخطيب فإننا نستطيع أن نقول إن كل خطيب داعية وليس كل داعية خطيبًا، فلا يقبل من خطيب أن يكون غير داعية لأنه ما قام يخطب إلا ليدعو الناس إلى ما يعتقد صلاحه وصدقه، أما الداعية فقد تكون الخطابة من أساليبه، أو ليست كذلك، وهذا لا يعيبه ولا يعد نقصًا فيه، فليس شرطًا للداعية أن يكون خطيبًا، وإذا كان لا بد للخطيب أن يكون داعيةً.. فهذا القول نقوله اعتمادًا على ما ينبغي أن يكون عليه الخطباء، أما ما هو كائن اليوم فإن الواقع يقول غير ذلك، فكثير من الخطباء، أو لعله غالبهم، لا يقصد أن يكون داعية؛ لأنه لا يُعرف له منهاج، ولا يدري إلى أي شيء يدعو الناس.
وأخيرًا.. أختم بهذه الوصية الغالية للشيخ البهي الخولي، إذ يقول: "لا يكن همك يا أخي أن تتظرف بالنكت اللبقة والفكاهات البارعة؛ ليقول الناس إنك مجدد في الوعظ، وعند هذا تنتهي مهمتك.. ولا يكن همك أن تسلي الجمهور، وتقضي معه ساعة في حديث لا يرمي إلى هدف.. لا تكن كذلك الذي يقبل على الناس في حذر وخفة.. فلا يمسهم إلا مسًّا رقيقًا كأنما يخشى عليهم أن يتكسروا، فيسوق لهم من قصص التاريخ وحكايات السابقين وأسباب نزول آيات القرآن الكريم ما لا صلة لبعضه ببعض، وما لا يؤلف بمجموعه موضوعًا ذا غرض معين وهدف مقصود.. لا يريد بما يسوق إلا أن يجلس الناس من حوله، فيستمعوا له ثم يخرجوا، وقد أسعدهم بوقت قضاه معهم في مؤانسة، ومتعة عاطفية بريئة... هذا وعظ سلبي لا شأن لك به، ولا مقام له في رسالتنا.. إن رسالتك تقتضيك أن تدخل على مشاعر جمهورك في حكمة، فتحرك وجدانهم، وتستثير عواطفهم إلى اللّه، فإذا تأتّى لك ذلك ولانت نفوسهم لقولك؛ فاصنع منهم ما تشاء صنعه، أبِنْ لهم عن غرضك، وابعث بآمال قلوبهم إلى ما تحب أن يصلوا إليه فإنهم مستجيبون لك إن شاء اللّه"(2).
-------------
1- تذكرة الدعاة، البهي الخولي- مكتبة الفلاح- الكويت- ص 6.
2- تذكرة الدعاة ص 39.
والحقيقة أنني لم أجد ما أرد به على هذا الرجل إلا قولي: "وهل تظن أن الإسلام يخص الخطباء وحدهم أو لست أنت مسلم أيضًا؟ فلماذا لم تتقدم للقيام بهذه المهمة إن كنت ترى عجز الأئمة عن أدائها؟! فقال: "عندما أرى أهدافًا واضحةً، وخططًا ناجحةً، وهممًا عالية، وإصرارًا على تحقيق الأهداف، يومها ستجدونني أسبقكم إلى هذه الدعوة.. فقلت سبحان اللّه لقد صدق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. عندما قال: "اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز التقي".
وبرغم اختلافي مع الرجل فإني شعرت أن لكلامه أثرًا على قلبي، بل وجدت أن الحق كله معه، وجعلت أدير سؤاله في رأسي: "ماذا تريدون أكثر من هذا؟"، إن لكم أعظم حزب ويتبعكم أكبر جمهور وتملكون أكبر عدد من المقار النظيفة والمفروشة والمجهزة بكل المرافق المعينة على الراحة، ويصرف لكم ولهذه المقار ميزانية معلومة، تزداد مع الأيام، هذا فضلاً عن أن قضيتكم مقدسة وأقوالكم مصدقة، وفطرة الناس تهفو إليكم؛ فما الذي يحول بين الناس وبينكم؟!، إنه لا يمنع الخطباء من أن يستحوذوا على مشاعر الناس ويستوعبوهم إلا أن يكونوا صادقين، ولا يمكن أن نستشعر الصدق إلا إذا أحسسنا بهول الفاجعة وفداحة المأساة، وأن نستشعر بشاعة الهجمة الصليبية اليهودية وشراستها، عندها سيدرك كل خطيب أوتي فرصة الحديث إلى الناس أنه على ثغر من ثغور الإسلام، وعليه أن يختار بين أمرين أن يكون مجاهدًا أو خائنًا، أن يكون وارثًا للنبوة أو مضيعًا للأمانة.
إن على الداعية الذي يقرأ قول ربه سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)﴾ (الأنفال).
إن عليه أن يجتهد حتى لا يكون من أهل هذه الآية، ولينظر كيف ينجو من تبعة الخيانة, وكيف يتخلص من تبعتها بين يدي خالقه عندما ينادي منادي اللّه: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24)﴾ (الصافات).
إن الوقت لم يعد يتسع للتقصير والإهمال وإلقاء المسئولية على الغير، فالمعركة فاصلة، والعدو الأول فيها هو الجهل بالدين، والمحارب الأشد هو الأقدر على قهر هذا العدو.
وإذا كان كيد عدونا على مدى الثلاثة قرون السابقة قد انصب على كيفية تجهيل الأمة، بتجفيف منابعها الدينية، وتمييع عقيدتها الإسلامية وخلط مفاهيمها بالمفاهيم الأرضية العلمانية، ومحاولة تغريب شخصيتها عن طريق التعليم والإعلام؛ فإن مهمة الخطباء اليوم أن يعملوا بقوة أكبر وهمة أشد، ليصلحوا ما غفل عنه أسلافهم، أو ما غلبوا عليه، نتيجة إحكام الكيد، ودقة المؤامرات.
إن الداعية الذي يملك مفاتيح القلوب بما منحه اللّه من إخلاص، وبما أفاض عليه من تمكن في العلم الشرعي هو مرشدنا الروحي، وقائدنا السياسي، ومصلحنا الاجتماعي، وطبيبنا النفسي، وهو قبل ذلك وبعده هو الموقع لنا عن ربنا، والمبلغ عن رسولنا، والمستفتى في كل ما يعن لنا من أمور ديننا، ودنيانا ولهذا كان الداعية غير الخطيب.
يقول الشيخ البهي الخولي: "الداعية غير الخطيب، الخطيب خطيب وكفى، والداعية مؤمن بفكرة يدعو إليها بالكتابة، والخطابة، والحديث العادي، والعمل الجدي في سيرته الخاصة والعامة، وبكل ما يستطيع من وسائل الدعاية، فهو كاتب وخطيب ومحدث وقدوة، يؤثر في الناس بعمله وشخصه، والداعية أيضًا طبيب اجتماعي يعالج أمراض النفوس، ويصلح أوضاع المجتمع الفاسدة، فهو ناقد بصير يقف حياته على الإصلاح إلى ما شاء اللّه.. وهو رفيق وصديق، وأخٌ للغني والفقير، والكبير والصغير، ومن هذه الصفات تشيع المحبة في قلبه، وتتدفق الرحمة من عينيه، وتجري المواساة على لسانه ويديه، وهذا ضروري جدًّا للداعية.. وهو من مواهب الروح والجنان، لا من صفات البلاغة وملكات اللسان.. والداعية قائد في محيطه، وسياسي في بيئته، وزعيم لفكرته ومن يتبعه في ناحيته، وكل هذا لا تنهض الخطابة وحدها بحقوقه، فلا بد من التأثير النفساني، والهيمنة الروحية، والاتصال باللّه، واستعانة العقل بما حصل من تجارب التاريخ وأحوال الناس"(1).
إن الوقت لم يعد يتسع للوعظ السلبي وشغل الناس بالقصص الخيالية والأساطير الخرافية رغبة في إمتاعهم ودغدغة مشاعرهم، غير عابئ بما يجره على الدين من مطاعن وبما يدخله عليه من افتراءات لم ينزل بقدر الإسلام، ولا يشرفه، ويضع في يد أعداء الإسلام أمضى أسلحة التشكيك فيه والطعن في ثوابته.
إن الوقت قد حان لكي يتمايز الداعية الصادق من الداعي المحتال، وأن يتمايز أصحاب الهمم العالية المحترقون بهمّ الإسلام عن غيرهم من المتكسبين بالوظيفة الذين لا يرون العمل بالخطابة إلا وسيلة؛ لتحصيل الراتب والحرص على الحوافز والعلاوات.
إن الداعية الذي صعد المنبر وانتصب إمامًا للناس ينبغي أن يعلم أنه يقوم مقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهذا يعني أنه رضي أن يكون وارثًا لرسوله، مبلغًا عنه صلى اللّه عليه وسلمَ، فإن كان مدركًا لذلك حقًّا فليهيئ لذلك قلبًا تقيًّا، وفؤادًا ذكيًّا، وعزمًا فتيًّا، وليبع للّه نفسه غير عابئ بشيء إلا مرضاة اللّه تبارك وتعالى، وليعلم أن زاده الذي لا ينضب ومدده الذي لا ينقطع، يكون بمدى صدق معيته لربه واطمئنانه بجنابه وأنسه بمولاه، وليتذكر دائمًا قول ربه سبحانه ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)﴾ (آل عمران).. وليتذكر بشارة الله لهم بقوله: ﴿فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)﴾ (آل عمران).
وليعلم أن الخوف الذي يلم بالقلب إنما مصدره الشيطان.. يضخم للمسلم أمر عدوه، ويقلل في قلبه ثقته بربه حتى يقع أسير خوفه وهلعه، وليدرك وقتها قول ربه سبحانه: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)﴾ (آل عمران).
وإذا استشعر الخطيب في نفسه الخوف، وأدرك أن هناك خصمًا يرصده أو باغيًا يطلبه؛ فليكثر من قول ربه سبحانه: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (غافر: من الآية 44)، فإنه واجد بعدها قول ربه سبحانه: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)﴾ (غافر).
إن الأمة الإسلامية تعاني اليوم مواتًا في مشاعرها وضحالة في إيمانها وضعفًا في غيرتها على عقيدتها ودينها، وخطباؤنا اليوم هم المنتدبون لأداء هذا الدور، ولا يكفي لهذه المهمة أن يكون الخطيب بارعًا في أدائه، فصيحًا في إلقائه بل لا بد له مع ذلك من نية صادقة وهمة عالية وغيرة محمودة على كتاب اللّه وسنة رسوله حتى يستطيع أن يحيي من الأمة ما أماتته مؤامرات التخريب وحملات التغريب؛ عندها ندرك يقينًا أن الداعية غير الخطيب وأن النائحة الثكلى ليست كالمستأجرة.
وإذا أردنا أن نحدد طبيعة العلاقة بين الداعية والخطيب فإننا نستطيع أن نقول إن كل خطيب داعية وليس كل داعية خطيبًا، فلا يقبل من خطيب أن يكون غير داعية لأنه ما قام يخطب إلا ليدعو الناس إلى ما يعتقد صلاحه وصدقه، أما الداعية فقد تكون الخطابة من أساليبه، أو ليست كذلك، وهذا لا يعيبه ولا يعد نقصًا فيه، فليس شرطًا للداعية أن يكون خطيبًا، وإذا كان لا بد للخطيب أن يكون داعيةً.. فهذا القول نقوله اعتمادًا على ما ينبغي أن يكون عليه الخطباء، أما ما هو كائن اليوم فإن الواقع يقول غير ذلك، فكثير من الخطباء، أو لعله غالبهم، لا يقصد أن يكون داعية؛ لأنه لا يُعرف له منهاج، ولا يدري إلى أي شيء يدعو الناس.
وأخيرًا.. أختم بهذه الوصية الغالية للشيخ البهي الخولي، إذ يقول: "لا يكن همك يا أخي أن تتظرف بالنكت اللبقة والفكاهات البارعة؛ ليقول الناس إنك مجدد في الوعظ، وعند هذا تنتهي مهمتك.. ولا يكن همك أن تسلي الجمهور، وتقضي معه ساعة في حديث لا يرمي إلى هدف.. لا تكن كذلك الذي يقبل على الناس في حذر وخفة.. فلا يمسهم إلا مسًّا رقيقًا كأنما يخشى عليهم أن يتكسروا، فيسوق لهم من قصص التاريخ وحكايات السابقين وأسباب نزول آيات القرآن الكريم ما لا صلة لبعضه ببعض، وما لا يؤلف بمجموعه موضوعًا ذا غرض معين وهدف مقصود.. لا يريد بما يسوق إلا أن يجلس الناس من حوله، فيستمعوا له ثم يخرجوا، وقد أسعدهم بوقت قضاه معهم في مؤانسة، ومتعة عاطفية بريئة... هذا وعظ سلبي لا شأن لك به، ولا مقام له في رسالتنا.. إن رسالتك تقتضيك أن تدخل على مشاعر جمهورك في حكمة، فتحرك وجدانهم، وتستثير عواطفهم إلى اللّه، فإذا تأتّى لك ذلك ولانت نفوسهم لقولك؛ فاصنع منهم ما تشاء صنعه، أبِنْ لهم عن غرضك، وابعث بآمال قلوبهم إلى ما تحب أن يصلوا إليه فإنهم مستجيبون لك إن شاء اللّه"(2).
-------------
1- تذكرة الدعاة، البهي الخولي- مكتبة الفلاح- الكويت- ص 6.
2- تذكرة الدعاة ص 39.