اولاً: الصلاة
لا تجد آية في كتاب الله عز وجل ذكرت الصلاة بوصف أداء الصلاة، ولكنها إقامة- أقيموا- أقم- أقام.. بينما اللفظ نفسه ذكر في القرآن: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ (النساء: من الآية 58)، فلو كان المطلوب تأدية الصلاة، لجاء اللفظ كما في الأمانات التي هي تسليم بلا تغيير بزيادة أو نقصان، فلا يضيف الإنسان للأمانة شيئًا على شكلها، ولكن الأمر مختلف تمامًا في حالة الصلاة؛ ولذلك لا بد من الرجوع إلى مادة أقام يقيم ومعانيها المتعددة؛ لتفهم مراد ربنا منا في الصلاة، ولإلقاء مزيد من الضوء على المطلوب في الصلاة، ثم إذا نظرنا إلى الحديث الذي هو من نفس المشكاة النورانية الربانية لمن علمه ربه ما لم يكن يعلم.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل عن الصلاة لمن أحسن ركوعها وسجودها وتلاوتها: "حفظك الله كما حفظتني"، ولمن أساء: "ضيعك الله كما ضيعتني"، فما هي الإضاعة وما هو الحفظ؟ ويضيف حديث آخر في شأن صلاة الجماعة: "يخرج المسلمون من الصلاة، هذا بنصف صلاته، وهذا بعشر صلاته، وهذا بصلاته كلها"، رغم أنهم خلف إمام واحد، بحركات واحدة، وقراءة مشتركة عن الإمام، فما الذي تغير؟ "ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها"، أليس له أصل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعود إلى الاشتقاق اللغوي.. أقام من إقامة البناء وتشييده، وأقام من الإقامة أي من السكن والاستقرار، وأقام العود المعوج وجعله مستقيمًا.
مَن أقامها فقد أقام الدين ومقابله ومَن هدمها، فهي بناء يبنى فوق بعضه، وفيها تقيم وتسكن وتستقر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت قرة عيني في الصلاة" (النسائي- بسند صحيح)، وأما الحديث فإن الحفظ يدل على أنها أمانة بين يديك، الله عز وجل سائلك عنها، والتضييع يدل على أنها شيء ثمين، أكرمك الله عز وجل به فضيعته ولم تحافظ عليه، لذا كان وصف المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)﴾ (المؤمنون)، فلا بد أن هناك شيئًا آخر داخل الصلاة غير استيفاء شكلها وحركاتها وألفاظها، وهو لب الصلاة أي روح الصلاة، والشكل هو جسدها، وهي بالاثنين قد أقيمت، أما بغير روحها فهي ميتة تلف كالخرقة البالية، وتقذف في وجه صاحبها؛ لذلك لم يكن عجيبًا أن تبقى هي كآخر ما ينقص من عرى الإسلام؛ لأنها البذرة التي تبقى بعد جفاف الشجرة وذبول الثمرة، وبقاء البذرة يؤكد أنها من الممكن زراعتها ثانيًا في التربة البشرية، وسقيها بماء السماء وهو الوحي، فتنبت شجرة الإسلام كاملة كما سنرى؛ لأن فيها كل خصائص وصفات ووراثة الإسلام كالشجرة، ومع هذا الفهم الشامل العظيم لقيمة الصلاة تكون بالفعل حدًّا فاصلاً بين الكفر والإيمان، وتكون أيضًا ناهية عن الفحشاء والمنكر، وتكون بحق عماد الدين، وعمود الأمر، ولو كانت تقتصر على شكلها وأركانها فقط، فكيف تكون بهذا عماد الدين وعمود الأمر؟!.
لذا كان التنبيه الخطير من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أمرنا بالحكم بإسلام من صلى، ولكنه حذَّر من سلوكه ونفاقه، ومخالفته لأوامر الله، وارتكابه للكبائر أنه بعد ذلك يكون زاعمًا أنه مسلم، فقال عن المنافق، وعمن دعا بدعوى الجاهلية، فإسلامه زعم، وإيمانه ناقص، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم.
هيا نستعرض الصلاة جسدًا وروحًا، ولفظًا ومعنى، وحركة وسكنة، وركوعًا وسجودًا، وشرعًا، ونغوص في أعماقها بقدر ما يفتح الله لنا، فإن مثل الصلاة كعامل يعمل لحسابك، فإن كان صحيحًا سليمًا قويًّا، فهو يعمل ويأتي لك بأجر تنتفع من ورائه خيرًا على قدر نشاطه، وإن كان مريضًا معلولاً، فإنه لا يأتيك بأي عائد، بل يكلفك من وقتك ومالك وصحتك ما تحاول به علاجه، ويعود عليك بالخسارة لا بالربح.
هيا أولاً إلى الأذان: نفرغ مما في أيدينا، ومما يشغل نفوسنا وقلوبنا؛ لنسمع نداءً علويًّا جميلاً جاء بإلهامٍ من الله في رؤيا رآها- في ليلة واحدة- اثنان من الصحابة عندما كان المسلمون مشغولين مهمومين بكيفية النداء للصلاة والإعلام بدخول وقتها، هل يضربون ناقوسًا كالنصارى، أم ينفخون بوقًا كاليهود، إذا بالرؤيا الصالحة الصادقة تأتي كفلق الصبح، جائزة لمن حمل همَّ دينه ودعوته، بل وإخوانه وأمته تكملة قبل الأذان نفسه: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله.
ولنتوقف هنا قليلاً؛ لأن الافتتاح مذهل يهز الأعماق، ويقطع كل حالات الإنسان، واهتمامات الإنسان، وأشغال الإنسان، بلفظ جامع لا يمكن أن يعظم معه شيء، أو يشغل عنه شيء، الله أكبر، إنها صيغة تفضيل، على ماذا؟ على كل من وما سيعظم في نفسك، وعلى كل من وما سيكبر في عينك، (فالله أكبر) مطلقة، تقطع كل علائق الدنيا، وهي الشعار الدائم في الأذان والصلاة والذبائح وشعائر العيد وشعائر الحج والإيذان بالصلاة وبداية الصوم ونهاية الصوم، لذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها، تصف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحدثهم ويحدثونه، حتى إذا نودي للصلاة قام كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه، أتدرون لماذا؟ لأن (الله أكبر) اعتراف منك أنت أيضًا، وإقرار بذلك، وبقى أن يدلك خلقك على ذلك، لأن (الله أكبر) فليس هناك شيء أكبر، فكله منه وهو الأكبر وغيره صغير ضئيل حقير زائل، والله أكبر لذلك كان الأمر: ﴿وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)﴾ (الإسراء)، ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)﴾ (المدثر)، أي زد ربك عظمة في نفسك، وكبره في اهتمامك تكبيرًا يليق بعظمته وجلال وجهه وعظيم سلطانه، بل وعظم ما عظمه، وحقر ما حقره، والله أكبر تملأ القلوب، ثم الشهادتين مفتاح الإسلام ومفتاح الجنة، تشهد مكررًا خلف المؤذن ما تقر به وتشهد أمام الناس، فتقيم الحجة على نفسك، وتعترف بهذا حتى إذا خالفت ذلك أقمت من نفسك الدليل على نفسك، وليس فقط معنى أنك تشهد، هو إقرار بألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، بل إن اللفظ يعني أنه قد ثبت لديك ثبوت من شاهد؛ ليشهد ما شاهده، أي أرى بعيني رأسي، وأرى ببصيرة قلبي، أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأقر واعترف بلساني، وأقيم الحجة على نفسي، وعلى غيري حقًّا وصدقًا.
بعد هذه الوقفة، بل الاستراحة سنطوف مع مشهد آخر من مشاهد الأذان.
(حي على الصلاة.. حي على الصلاة..
نداء معناه لمن يفهم العربية، هلموا هلموا إلى الصلاة، وهذا الذي يفهم من النداء، أن من ينادي هلموا، يعني أنه يريدك أن تأتي إليه، لهذا كان أذان المؤذن في المسجد، يعني أن تذهب إليه لتلبي نداءه، وإلا ما كان هناك داعٍ لأن يناديك لهذا اللفظ، فليس الهدف من الأذان الإخبار بدخول الوقت فقط، ولكن شفرة لإعلان إسلام أهل هذه البلد، للغريب المار على الطريق، وكذلك إعلام بوجود مكان للصلاة، وتحديد لهذا المكان؛ ليقصده الناس ويجتمعوا فيه، والأعجب من هذا الفهم الشامل، هو الرد الذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلبي به، أو نتجاوب به مع المؤذن بعد حي على الصلاة.. إننا نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.. لا حول ولا قوة إلا بالله.
هل شغلت نفسك ولو مرة واحدة يا أخي المسلم المصلي والملبي لنداء الأذان ماذا تعني بالنسبة لك هذه الكلمات، أو حتى ماذا تقصد أنت بقولك لها عندما تقولها؟ إنه اعتراف وشهادة أيضًا بأنه لا حول أي قوة معنوية نفسية، ولا قوة أي قوة مادية عضلية حركية إلا بالله، أي إلا استمدادًا من واهب القوى والعزائم، الذي إن شاء وهب وإن شاء سلب، وكذلك لا حول أي لا تحول عن الحال التي أنا فيها، إلى حالة الصلاة، ولا قوة لي على ذلك التعبير، إلا بالله القوي القادرة المعطي المانع.. ويأتي بعد حي على الصلاة: حي على الفلاح، أي أنك إذا أقبلت على الصلاة، أقبلت على الفلاح، فما هو الفلاح؟ إنه نجاح المقاصد وتحقيق الغايات وحتى جني الثمار، فما الذي في الصلاة ليتحقق ذلك كله؟ إنها الصلة بالله- عز وجل- لذلك كانت قوام هذا الدين ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)﴾ (المعارج)، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)﴾ (المعارج) فالأولى تعني الصلة بالله، والثانية تعني الصلاة، ثم تذكير أخير بخلاصة القضية، الله أكبر الله أكبر، النداء الأخير قبل الوداع والختام، وختام ألفاظ الأذان، بل ختام الحياة الصالحة وحسن الختام لكل مسلم مؤمن في آخر حياته كلها، لا إله إلا الله، أخف حروف ينطق بها اللسان بأقل مجهود، ولكنها أثقل ما يوضع في الميزان، زالت في كفته الأخرى كل سجلات الذنوب، كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يثقل مع اسم الله شيء.
انتهى الإعلان والإعلام، وبدأت قضية وجودنا، ومحور حياتنا، وسبب نجاتنا من مهالك الدنيا، وأهوال القبر والقيامة، وآخر وصايا نبينا صلى الله عليه وسلم قبل أن يغادر دنيانا ويودعنا الوداع الأخير قبل لحوقه بالرفيق الأعلى: "الصلاة الصلاة وما ملكت إيمانكم"، على أمل أن نلقاه على الحوض بإذن الله وفضله وكرمه لنشرب من يده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدًا، لم نسعد بصحبته في الفردوس الأعلى بمن الحنان المنان، ذي الجلال والإكرام.
لا شك أن صور وهيئات بعض الصلوات كصلاة الخوف، وصلاة العصر، وحالات الصلاة والجمع، وفي المرض وعلى الدابة، وفي السيارة، وفي الطائرة، وفي الباخرة، والقطار وأركان وفرائض، وسنن الصلاة، ونوافل الصلاة، وسهام الليل، والوتر، وصلوات المناسبات، والحاجات، والكسوف، والخوف والاستسقاء، والحاجة، والجنازة، كما شرعها الله وطبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلها تعني شيئًا واحدًا أنه لا يعفى مسلم بالغ عاقل من أداء الصلاة مهما كانت الظروف (إلا الحائض والنفساء)، وتدور حول معنى واحد أنك- في كل حالاتك- في حاجة إلى ربك- تلقاه لتكلمه في الصلاة، وتقرأ القرآن ليكلمك سبحانه وتعالى، وتشكو إليه بثك وحزنك وحاجتك، فكان لك في كل حالاتك صلاة، وفتح الباب لك فوق ذلك بأن تدخل على رحاب ربك بصلاة تستأذن بها عليه في أي وقت وكل حال.
نعم إن الأصل في العبادات التعبد دون الالتفاف إلى الأسرار والحكم والمقاصد، لكن التدبر يعين على الفهم، والفهم يعين على العمل بإذن الله، لكن الشيء المحير.. هو هذه الأواني المستطرقة روحانيًّا فيما نفرد به الفرد على المجموع، ويؤثر به المجموع على الفرد، وعلى المستوى الفردي ما يعطيه المرء لصلاته من الاهتمام، وما تعود به عليه الصلاة من الكرم الإلهي والإنعام بشرط واحد: أن يتناول المصلي دواء الصلاة كما شرحه طبيبه صلى الله عليه وسلم في مواعيده، وبانتظام حتى يبرأ بإذن الله من كل العلل والأسقام والآثام.
فبماذا بحول الله وقوته، لعل صلاة الفرد وحده تكون البداية ونتدرج منها إلى صلاة الجماعة؛ ليميز أثر الصلاة على الفرد هو وحده عن أثر الصلاة على الفرد أيضًا وهو في جماعة، وندرك قيمة السبع والعشرين درجة، ثم بعدها نتناول أثر صلاة الجماعة على المجتمع.
أولاً: صلاة الفرد في بيته وحده أو حتى في المسجد وحده، أليست صحيحة ومقبولة بإذن الله؟ نعم ولكن مع الحرمان من أجر الجماعة، فيخسر ست وعشرين درجة من درجات العطاء الرباني، فما الذي يمنع أن يستمر على صلاته في بيته فلا يذوق طعم الجماعة، ولا ينتفع بدروسها، أتدرون ما الذي يمنعه من الاستمرار، وما ينبهه إلى فرضية العبادة الجماعية وضرورتها له، إنها صلاة الجمعة فالله- عز وجل- يرغب المسلم في الحضور إلى المسجد ولقاءه سبحانه في جماعة من إخوانه المسلمين ليفيض عليهم من رحماته وفيوضاته ستة أيام في الأسبوع، إذا هو لم يحضر برغبته وإقباله على الله؛ طمعًا في الأجر والثواب، فإذا باليوم السابع يكون الأمر فيه وجوبيًّا وإجباريًّا وليس اختياريًّا، إنها فريضة الجمعة التي إن تخلف عنها مسلم أربع جمع ختم على قلبه، فيحرم الخير كله والتوفيق كله.. إذن الأجر مداره في البداية على الترغيب، ولكن إذا لم يستجب للترغيب كان الأجر الجازم الإجباري بالحضور؛ لأنه أصبح لا يدرك مصلحته، فليفرض عليه ما فيه خيره حتى يفيق من غفلته، وأيضًا ليذوق حلاوة صلاة الجماعة؛ لعله لا يفرط فيها بعد أن ذاق وعرف.
نعود لوقفة العبد بين يدي ربه بعد غسل كل أعضائه الظاهرة، وتساقطت ذنوبه مع ماء الوضوء؛ ليقدم على ربه بطهارة ظاهرة، تتجاوب معها طهارة باطنة، يجاهد نفسه عليها؛ لأن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
توزيع الصلوات على اليوم والليلة بعدها، ففي المفروض والمسنون وسرها وجهرها توقيفي ولكنه يدور مع حاجات الإنسان في اليوم والليلة، وقد فرض قيام الليل قبل الصلوات الخمس المكتوبة، بأكثر من ست سنوات، وخفف فرض قيام الليل بعد حوالي سنة؛ لكي يصبح تطوعًا، وتم التنبيه على أن هذا التخفيف يترك أثرًا تربويًّا عميقًا عندما تأتي الصلاة المكتوبة، فأقيموها واهتموا بإتقانها بعد أن خفف الله عنكم كما خفف عددها من خمسين في اليوم والليلة إلى خمس؛ ليكون الاهتمام بالكيف بعد أن خفف الله الكم، وبعد أن رفع الصلاة خفف قيام الليل من فريضة ثلثي الليل إلى التنفل بما تيسر منه تطوعًا، فكلما حاول الشيطان أن يثقلها عليك أو يثقلك عنها قل له كيف بك يا عدو الله لو كانت فرضت على خمسين قبل أن يخفف عني ربي الرءوف الرحيم؟، وكيف بك يا عدو الله لو كان قيام الليل بقى فرضًا على ثلثي أو نصف أو ثلث كل ليلة؟.
هيا لنكبر وندخل في الصلاة مهيئين، فإني تركت الدنيا خلف ظهري، وأقبلت عليك يا ربي، تحريت قبلة ووجهة بيتك، لأكون على خط من الخطوط الموصلة إليه، وليكن لي تحريًا دقيقًا لوجهة بيتك قبل كل عمل، وأتوجه لبيتك وأنا بعيد عنه فأكون في شوق دائم إليه، حتى تأذن لي بزيارته لأراه عن قرب وأسعد بالطواف حوله والصلاة إليه وقراءة: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)﴾ (قريش)، فأذوق حلاوة القرآن حيث نزل القرآن
الوضوء: لا شك أن له أثرًا مرئيًّا محسوسًا في تطهر الأعضاء المتحركة والفاعلة طيلة اليوم وغسلها ماديًّا ومعنويًّا.. عيون وآذان وفم ولسان ورأس ويدان وكفان ورجلان بعد طهارة القبل والدبر وطهارة البدن كله من حدث أكبر، وبالإضافة إلى غسل هذه الأعضاء يقترن معنويًّا في حديث الصادق المصدوق بالطهارة في الذنوب التي اقترفتها الجوارح طيلة اليوم والليلة: ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ (الأنعام: من الآية 60)، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الذنوب تتساقط مع غسيل الأعضاء وتنزل ذائبة في قطرات الماء"، ما أكرم ربنا وأرحمه وأرأفه بالعباد المذنبين، المقبلين عليه، وما أيسر مغفرته وتوبته على أمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أعنت الأمم السابقة بالتوبة التي تحتاج إلى قتل النفس كي تقبل، ويبدلنا بها كلمات تقال باللسان يصدقه القلب التائب، يراجع خواطر آية الوضوء وآية التيمم في كتاب (خواطر حول آيات القرآن) فإن التطهر بالتراب آية من آيات الله البينات، وفضل من الله على الأمة الإسلامية، وتيسير على العباد، يحتاج إلى شكر وامتنان واعتراف بالفضل والجميل للحنان المنان.
صلاة الجماعة:
برنامج تدريبي جماعي إسلامي على أهم مميزات وخصائص المجتمع المسلم حسب النظام الرباني، مهما حاول الحكام إفساده وتغييره خارج المسجد، ولكن تبقى عروة الصلاة، وتبقى مساجد الله التي أذن سبحانه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ولا يطبق فيها إلا نظامه القويم من خلال العبادة الدائمة الخماسية في اليوم والليلة، والتي لا تنقطع في أي مكان ولا زمان، ولا ينفك عنها إنسان إلى قيام الساعة.
نحن- أول ما نبدأ في صلاة الجماعة- نختار الإمام وكذلك فعل الصحابة رضوان الله عليهم الذين تعلموا دروس صلاة الجماعة المسلمة الأولى، تركوا جثمان الرسول الطاهر صلى الله عليه وسلم مسجى في حجرة السيدة عائشة- رضي الله عنها- وذهبوا ليجمعوا أمرهم حول الخليفة حتى يؤمهم في الصلاة، ولا يتم حسم أي أمر إلا في وجوده، فهو أول كل الخطوات، ولو كانت أول فريضة سيصليها المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فمن الإمام؟ وهو صلى الله عليه وسلم الذي وضع القواعد لاختيار الإمام: "ليؤمكم أقرؤكم لكتاب الله" فمن أين لنا أن نعرف أقرأنا لا بد أن نقرأ سويًّا، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أكثرنا قراءة من؟ وأفضلنا قراءة من؟ وبالتالي الاتفاق عليه؛ لتميزه وشهادة الجميع له، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إن على الإمام أن ينبه المجتمع المسلم الذي سيرأسه وسيؤمه في الصلاة، "ليليني أولو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".. بالله عليكم كيف سنعرف هذا أو ليس هذا لا ينتج إلا بعرض مشكلات أهل كل منطقة وحي، في مسجد جامع على أهل الحل والعقد فيه، ويدلي كل منهم بدلوه في حل المشكلة، ويتم تجريب هذه الحلول، ويظهر منها صاحب أرجح رأي وأقوى حجة ومن بعده ومن بعده ومن بعده، لإعداد صفوف المجتمع المسلم كله بالصف الأول والثاني والذي يليه والذي يليه.
ولكن هل كما تعودنا أن يحجز الصف الأول للمسئولين سواء كانوا يستحقون هذا أم لا؟ ليس هذا في الإسلام، إنما التنافس على مرضاة الله، والمسارعة لتلبية نداء الله، فيكون خير صفوف الرجال أولها، ولا يحجز مكان لصاحبه، إنما مسارعته لتلبية نداء الله هي التي تفرض على الآخرين، لذا كان المتثاقلون عن تلبية نداء الله في آخر صفوف الرجال، وهي شر صفوف الرجال.. ويكون الإحساس بالموجود في الصف الأول دوافعه المسارعة، والمواجهة في أول الصفوف، وستر الإمام، والاستعداد لخلافته إذا حدث طارئ، وفدائه بالنفس، وكذا يبدأ الصف من خلف الإمام، ليكون الأفضل هو الذي خلف الإمام مباشرة، ثم ينتشر الصف يمينًا، ثم ينتشر شمالاً، ولا يبدأ صف حتى يستكمل الذي قبله، فلا توجد ثغرة واحدة ولو مكان لفرد واحد، ثم بعد هذه التنبيهات لا يتوقف دور الإمام والمسئول عند إصدار الأوامر، ولكن بعد ذلك متابعتها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير بين الصفوف يسويها بنفسه، وينبه كل من يترك ثغرة، أو لا يسوي ما بينه وبين إخوانه، أو عنده بوادر نفور أو خروج تتمثل في تقدم أو تأخر عن موقعه وثغرته، بكلمات هي وصايا، بل هي أوامر تتجاوز الموقف في الصلاة إلى السلوك في الحياة من المسلمين وتحذيرات من أمور خطيرة تبدأ زوايا انحرافها من عند ضلعي زاوية الصلاة بينك وبين أخيك.
استمعوا إلى هذه البيانات الهامة من القائد الذي سيؤم المصلين، والذي سيقود الجيش الذي سيقف صفًا كأنه بنيان مرصوص: "لينوا بأيدي إخوانكم، لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج تماسوا تراحموا سووا الصفوف وسدوا الخلل".
ولكل جملة فيها حديث خاص نتناوله بشيء من التفصيل بعون الله.
موضوع شكل الصلاة قبل الإسراء، وموضوع إلغاء كل أشكال الصلاة لغير القادر، وبقاء لب الصلاة، وموضوع عدة صور للصلاة حسب الحالة في الخوف والسفر.
"لينوا بأيدي إخوانكم- تماسوا تراحموا" أوامر تدعو إلى بث روح المودة والرحمة، والتطاوع المتبادل، ونبذ الغلظة والقسوة، والتعصب للموقف وللوقفة، وتجربة أثر التلامس الذي لا يؤذي؛ يؤدي إلى سريان كهرباء الأخوة والمودة بين الصفوف.
"لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" تنبيه على الحرص على عدم الاختلاف في الشكل، فيحدث الاختلاف في الموضوع، والهدف هو الاهتمام بالصغيرة حتى لا تؤدي إلى الكبيرة، فما ضرر الاختلاف بين أصابع الأقدام، إنه أمر هين ولكنك ستجده يحدث فيمن لا يهتم بأمر إخوانه، ولا يعنيه أمر من يقف بجواره من المسلمين، ولا يحب أن يتواصل معهم، ولا أن يتساوى معهم بأطراف أصابعه وقدميه وكتفيه، ولذلك ستجد الأنانية تدفع كل فرد أن يقف كما يشاء، ولا ينصاع ولا يلين في يد أخيه الذي يقف بجواره، ولا يحرص على البنيان المرصوص، ليشد بعضه بعضًا كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن يأتيه التحذير، بل يأتي الكل من معه في الصف، لا تتركوه لهواه، فإن ذلك سوف يضركم جميعًا لأن الصف كله إذا أعوج فيه واحد فقط؛ فإن الله لا ينظر إلى الصف كله نظرة رحمة، من هنا يتم القضاء على الأنانية بل ويقضي على السلبية في نفوس الآخرين، فإنه صف واحد وسفينة واحدة، إن أخذوا على يد المعوج نجا ونجوا جميعًا، وإن تركوه هلك وهلكوا جميعًا، هذا هو الدرس اليومي.
درس آخر إذا وجدت ثغرة في أي صف وجب على كل من يراها أن يسدها ولو بجسده، بل واجب عليه أن يتحرك في الصلاة التي يتطلب فيها السكينة وعدم الحركة، بل ويمشي ليسد الثغرة في الصف الذي أمامه وله أجر هذه الحركة.
ودرس ثالث لا صلاة لمنفرد خلف الصف. لماذا؟ حتى تتربى في الفرد روح الجماعة، ويخاف من الانعزالية والانفرادية، حتى ولو خلف نفس الإمام، حتى لا يأكله الذئب الذي يأكل من الغنم القاصية، فالشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم كما قال صلى الله عليه وسلم.
ولا نعلم كيف كانت الصلاة قبل صورتها النهائية في ليلة الإسراء إلا أنها كانت قراءة قرآن وسجدات، لكن اللب الأصلي هو مناجاة الله عز وجل وتلاوة القرآن بين يدي رب العزة، فالأصل موجود قبل اكتمال الشكل، ما يجب لفت الأنظار إليه عندما لا يقدر المسلم على أداء حركات الصلاة بسبب مرضه أو ما شابه ذلك، يبقى لبها وخلاصتها، وهي الصلة القلبية برب العزة وهي الأصل، ويجرى حركات الصلاة وكلماتها على قلبه أي أن أوراق الصلاة قد تسقط عن العبد المسلم غير المستطيع وتبقى شجرة الصلاة ولو بدون أوراق الشكل، فيظل الموضوع هو الأصل واللب الضروري الذي لا يعفي منه أحد.
نعود إلى صلاة الجماعة، لنرى الإمام يطبق على نفسه ما سيأمر به أتباعه بعد أن يفعله هو أولاً، ويجب على الجنود والتابعين عدم الحركة إلا بعد أن يسمعوا الأمر من القائد، بل عند تمام الأمر سماعًا، وليس حتى اعتمادًا على الرؤية قبل صدور الأمر، لتضبط حركة المأمومين حركة واحدة متناسقة، بل لأن الإمام قد يرجع في قراره أن يعلن الأمر، حتى ولو تحرك هو، فلا يحدث ارتباك ويصبح الخطأ مردودًا بأقل المشاكل.
وتضع صلاة الجماعة أمس العلاقة بين الإمام والمأمومين أو القادة والجنود.. إذا أخطأ الإمام، وجب على أي من المأمومين رده- ما دام يعرف الصواب، حتى ولو كان صبيًّا أو امرأة- وعلى الإمام أن ينزل إلى الصواب ويرجع عن الخطأ، فإذا أصر القائد على خطئه وكان الخطأ مسموحًا به أي فيما لا يؤثر في صحة الصلاة، وجب على المأمومين متابعة الإمام ولو مع الخطأ اليسير بعد التنبيه، أما لو حدث خطأ جسيم؛ كأن أراد مثلاً زيادة ركعة خطأ ولم ينزل على مقتضى التنبيه والنصيحة؛ وجب على المأمومين التوقف عن المتابعة، والبقاء جالسين، وعدم التسليم حتى ينتهي الإمام من الركعة الخطأ، ثم يسلمون معه بعد التحيات حرصًا على وحدة الجماعة وعدم الفرقة.
لا يجوز في المسجد إقامة جماعة والجماعة الأولى قائمة، هذا مبدأ ينبه كل من أراد أن يفعل ذلك أن أجر الجماعة الأولى يفوق كل ما يمكن أن يحصل عليه، حتى من حرص على جماعة بركعات كاملة.
فإن مجرد الدخول في الجماعة الأولى له أجر أكبر، حتى ولو قبل التسليم، وكذلك قد يكرمه الله بمن يأتي ويقدمه إمامًا فيستحق له كل الأجر (بأجر الجماعة الأولى، وأجر الوصل بين جماعتين، وأجر كل الركعات بعد ذلك جماعة).
ولا يجوز لمن هو خارج الجماعة أن يصوب للإمام أي خطأ فإن أراد تصويب أي خطأ فلينضم إلى الجماعة، فيكون له الحق في التصويب، وعلى الإمام سماع رأيه طالما أنه صواب، بتصحيح آية أو حركة من حركات الصلاة، والإمام يعطي ظهره للمأمومين ليس إعراضًا عنهم ولكن لأنه يتوجه بهم إلى الله، وعندما ينتهي من لقائه بربه، فإنه يعطيهم ظهره إلا ليتوجه بهم على الله أو يدعو الله بعد صلاة الفجر والمغرب ثم يلتفت إليهم بعد ذلك، (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) 10 مرات ثم (اللهم إني أسألك الجنة، اللهم أجرني من النار) (سبع مرات) في المغرب والصبح.
شكل الصلوات، وأنواع الصلوات، يتفاعل مع ظروف المسلم والجماعة المسلمة، ويتناسب معها كي يكون المسلم والمسلمون على يقين من أن دينهم دين عملي واقعي يراعى الظروف، فالهدف هو الصلة الوثيقة بين العبد وربه، ورحمة ربه ورأفته به وتخفيفه عنه، وأن الله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولو شاء الله لأعنتكم، وشدد عليكم، وشق عليكم، ولكن هناك صلاة القصر والجمع في السفر والمطر والخوف، وأشكال صلاة الخوف في الحرب مختلفة لتناسب كل حالة من حالات المعركة، ويتأقلم المسلم مع الظروف بمرونة منه، وتيسير وتخفيف من الله اللطيف الخبير؛ الذي يتوجه إليه المسلمون بكل عباداتهم وجهادهم، بلا شقاق بين دينهم وجهادهم وصلاتهم، ولا أمتعتهم وأسلحتهم.
وملاحظة أخرى حول سرية صلاة الجماعة وجهريتها، تجد صلاة الظهر والعصر سرية، وبقية الصلوات جهرية، وتجد أن الصلاة الجامعة إذا تمت بالنهار ولغير الظهر والعصر مثل صلاة الاستسقاء، صلاة الخوف، صلاة العيدين، تتحول السرية إلى الجهرية مما يسترعي الانتباه، ويحتاج إلى التفكير في العبر والدروس المستفادة من هذا، وضرورة دمج دروس الصلاة في دروس الحياة