كيف تمسك بزمام المبادرة
ينقله لكم الشيخ أبو جرة سلطاني
من أيّ طينة أنت؟
هذا عنوان كتاب كبير الحجم (740 صفحة) عظيم الفائدة (يضع بين يديك 48 قاعدة للتعامل السياسي) عنوانه : كيف تمسك بزمام القوة، أهداه لي أخ كريم اسمه أ. محمد بن يوسف، في شهر سبتمبر 2010، ورصعه بكلمات إهداء ثمينة، أسأل الله أن يتقبلها منه وينفعنا بها، وقد شُغلت عن قراءة هذا الكتاب لأسباب تعرفونها، حتى جاءني سفر طويل فكان فرصة لقراءته، وقد إستمتعت به أيما إستمتاع، فأردت أن أنقل"زبدته" إلى إخواني بعد تسجيل ملاحظتين على مضمونه.
أ- تعري السياسة من الأخلاق : همُّ المؤلف الأساس، في هذا الكتاب، هو رسم قواعد السيطرة المطلقة في لعبة السلطة، ولا تهمة الوسيلة، فمنطلقاته ميكيا فيلية، ولذلك يستعرض قصص الصراع حول السلطة من زواية القدرة على المسك بزمام القوة العارية من الأخلاق تماما، لأن السياسة في نظره نفعية وبلا خُلق.
وهذه نقطة نخالفه فيها جملة وتفصيلا، ذلك أن أعظم سياسي على وجه الأرض – وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد وصفه المولى عز وجل بقوله : "وإنك لعلى خلق عظيم"، والشاعر يؤكد هذا المعنى بقوله :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
ب- إسقاط حسن الظن : ففي نظره لا يوجد في السياسة رجل طيب، وعليه فإن كل الحسابات السياسية يجب أن تقوم على أساس سوء الظن، فالعواطف لم تصنع – عبر التاريخ كله- حاكما واحدا نجح في إدارة شؤون الحكم لفترة طويلة.
وهو ما نخالفه فيه، من حيث المبدأ، كون ديننا قائما على التراحم والتعاطف والحرص على مشاعر المحيطين بك، خاصة إذا كنت قائدا : "حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
وفي ما عدا هذين العيبين، فإن ما جاء في هذا الكتاب يعدّ "ثروة عظيمة" لمن يريد أن يعرف كيف أدار الزعماء – عبر التاريخ كله- لعبة السياسة وفق 48 قاعدة سياسية تعلمك أن تعرف الفرق بين قيمة ما تحصل عليه والثمن الذي تدفعه للحصول على ما تريد (بحساب الوقت والجهد والمال..).
أولا، الناس معادن : إن فهم نفسيات الناس مسألة جوهرية، لأن التعامل مع النفس البشرية يحتاج إلى أن يعرف الإنسان "معادنهم" وأحذر كل الحذر أن تضع المحيطين بك في سلة واحدة، لأن الله خلقهم مختلفين، و"كل ميسَّر لما خُلق له".
وفي التقسيم العام نجد الناس أربعة (04) أقسام كبرى هي :
- ترابيون : وهم الذين لا يؤمنون إلاّ بالملموس، ولا يرضيهم إلاّ ما تضعه في رصيدهم الخاص، ولا يربطون علاقاتهم بالناس إلاّ على أساس المصلحة، فإذا كنت قويا تزاحموا على بابك، فإذا ضعفت : "إنفضوا إليها وتركوك قائما".
- العلاج : قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، والله خير الرازقين، أي لا تهتم بهم كثيرا، لأنهم – كما قلناه دائما- هم الكرارون عند المغانم الفرارون يوم المغارم لأنهم ترابيون.
- هوائيون : يتأثرون بالدعاية والإشاعة، فيرضون عنك في الصباح فيمدحونك وكأنك ملك كريم، ويسخطون عليك في المساء فيذمونك وكأنك شيطان رجيم، وهؤلاء هم الذين قال فيهم القرآن الكريم : "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق (أي المصلحة) يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم إرتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله..".
- العلاج : قل لهم في أنفسهم قولا معروفا، وأفضل طريقة لمعالجة أمراضهم الهوائية هي توجيه الحديث إلى غيرهم بحضورهم – دون التوجه إلى مخاطبتهم مباشرة- فهم أكثر الناس تأثرًا بأسلوب "إياك أعني وأسمعي يا جارة".
- مائيون : نفعهم كبير للمجتمع، وفضلهم عظيم على الأفراد والمؤسسات لأنهم يعطون بلا مقابل، ويضحون بلا منَّ، ويتكيفون مع كل الظروف بلا ميوعة وبلا مداهنة..إلخ، ولكن مشكلتهم الوحيدة هي أنهم يكرهون الصعود، ويحبون الإستقرار – ولو على الحد الأدنى- لأنهم يخافون الإنفتاح ويصيبهم الرعب إذا سمعوا أحاديث الإنتقال إلى طور جديد.
- العلاج : هؤلاء يحتاجون إلى قدوة فعل لا موعظة قول (تنحر وتحلق) كما حصل يوم الحديبية، أما كلام النحر والحلق فيعتبرون أنفسهم غير معنيين به، لأن طبيعتهم المائية تعمل بمدإ الإيدروليك وليس، بمبدإ التيرموديناميك.
- ناريون : متسرعون في كل شيء..لا يعملون إلاّ وسط الضجيج، ولا يتحركون إلاّ إذا إختلط الحابل بالنابل، ليس لهم صبر على المداومة، ولا طاقة لهم بمعاني "خير الأعمال أدومها وإن قل" فهم رجال مناسبات يحبون التصدر، وتجذ بهم البهارج، ويتحمسون لكل جديد، وليس لهم قدرة على "الإنضباط التنظيمي" لأنهم يرتاحون أكثر – وربما ينتجون أفضل وينفعون أكثر- إذا كلفوا بمهام خاصة وبرامج حرة خارج الإطار التنظيمي.
- العلاج : تسريح الطريق أمامهم بنقل نظرية "الدخول من الباب الواحد" إلى منهج "الدخول من أبواب متفرقة" بتكثير الواجهات وفتح الفضاءات، وتنويع البرامج و"تكليفهم" بمهام خاصة.
والعقدة في هذا التقسيم الرباعي المشتقة من التراب، والهواء، والماء، والنار، هي عقدة مرتبطة أساسا بطبيعة بشرية متأصلة في أصل الخلقة، فلا تستطيع أنت أن تغيرها بل جهدك أن تتكيف معها، وهذا بالضبط ما فعله رســــول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي لم يطرد المنافقين من داخل الصف الإسلامي –وهو يعرفهم حق المعرفة- وأبقى على المسافة الإيمانية الفاصلة بين التمكين لدين الله وتأليف القلوب بالعطايا والهدايا والهبات والكلمة الطيبة..لإستيعاب حركة النفس البشرية في ثنائيات الخير والشر، والعطاء والمنع، والرضا والغضب، والحب والكرة، والإقبال والإدبار، والكرّ والفرّ، والحلو والمرّ..إلخ.
ثانيا، قواعد لعبة السلطة : لا أعني بالسلطة النظام القائم، وإنما أعني العلاقة القائمة بين الراعي والرعية، أو بين القيادة والجندية، أو بين رب الأسرة ومن تحت رعايته ووصايته، فلجميع هؤلاء- في نظر روبرت قرين، صاحب الكتاب المذكور- قواعد مشتركة للتحكم حصرها في 48 قاعدة ضابطة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، هذه خلاصاتها :
1- القاعدة الأولى، التواضع للقيادة : فالقاعدة الأولى تدعوك إلى أن تتواضع لمن فوقك حتى لو كنت أكثر علما منه وأقدر على الإنجاز في ميدانه، فالقائد يقبل النصح من جنوده، ولكنه يرفض "التدخل" في صلاحياته، لذلك ينصح صاحب الكتاب الموهوبين والعباقرة – من داخل الصف- بأن يتواضعوا، وأن يضعوا مواهبهم تحت تصرف القائد لا أن يستعرضوا عضلاتهم عليه، فهذه طريقة تكسر السُّلّم التصاعدي وتجعل أمثال المقداد بن الأسود (رضي الله عنه) أعلم بشؤون الحرب من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكنه تواضع – مع دقة علمه بخفايا الحرب- فقام يسأل قائده : هل هو منزل محدَّد بالوحي أم هو الرأي والحرب والمكيدة، ثم قدم رأيه لقائده بكثير من التواضع، ولم ينشر في الصف دعاية تشيع في الناس أنه أعلم من قائده بفنون الحرب، وأنه هو الذي أشار على القيادة بهذا الرأي البارع.. (راجع فقه غزوة بدر).
إن تواضعك للقيادة يجعلك تكبر في عينها، أما تعاليك عليها –بالعلم أو المال أو الجاه أو السبق..إلخ- فكلها نواسف لوحدة الصف، وهي من إختراع إبليس (عليه لعائن الله) يوم ظن نفسه خيرا من آدم (عليه السلام) فرفض أمر الله بالسجود، فكانت النتيجة مرعبة (خروجا أبديا من رحمة الله) لأنه ذو طبيعة نارية.
2- القاعدة الثانية، إستفد من خصومك : أفضل من يعرف عيوبك هم خصومك، وما ينفعنا به خصومنا أجدى مما تنفعنا به خدمات الأصدقاء، لأن من معك في الصف يدافع عادة عن خطك – لأنه خطه أيضا- ولو كان فيه بعض إعوجاج لأن "عين الرضا عن كل عيب كليلة" أما خصومك فلا يرون فيك إلاّ الشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض - وهم محقون في ذلك- وعليك أنت أن تبادر بمعالجة ما بك من خطإ وتقويم ما طرأ عليك من إعوجاج، وتشكر هؤلاء الخصوم الذين أهدوا لك عيوبك بسبب سخطهم عليك، لأن عين السخط تبدي المساوئ.
ولذلك إذا لم يكن للحركة خصوم وجب أن تبحث عنهم وأن توجدهم، لأن حركة بغير خصوم سوف تموت مرتين :
- مرة بكثرة مديح الأصدقاء إلى درجة إعتقاد العصمة في الأشخاص والمؤسسات، وهذا فساد في العقيدة وخطأ في المنهج.
- ومرة بضياع قضيتها، لأن حركة التاريخ قائمة على مبدإ التدافع بين الأضداد (الخير والشر، والحق والباطل، والإستقامة والإعوجاج، والإسلام والكفر، والعدل والظلم..إلخ) فإذا إختفى الشيطان من الأرض –ولم يعد للحركة أي عدوّ- تحول بعض الناس إلى شياطين "يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا".
فائدة عظيمة : قبل أن أواصل معكم عرض بقية القواعد (46 الباقية) أرى من أوكد الواجبات التربوية أن أضع بين أيديكم مفتاح الولوج إلى عالم القلوب، وهو حسن الظن بالناس، وتقدير جهودهم وإحترام مشاعرهم.. ومعاملتهم على أساس أنهم يحبون لنا الخير، حتى هؤلاء الذين يسيئون بنا الظن ويرموننا بأقبح النعوت، فالذي يريد أن يمسك بزمام القوة – على خلاف ما يراه صاحب هذا الكتاب – هو الذي يتربع فوق عرش القلوب ويقاتلهم بالحب وبكثرة التسامح، فمن أساء إليك فسامحته وأحسنت إليه بالدفاع عن رأيه في غيابه يكون لك وليا حميما، هذا الكلام دقيق 100% لأنه لم يقله بشر، وإنما أنزله الذي خلق البشر، وأوصى المؤمنين منهم بالدفع بالتي هي أحسن (وليس بمجرد الحسنة، بل بأفضل ما تملك من حسنات) وكل ينفق مما عنده:
- فإذا الذي بينك وبينه عداوة (وليس خصومة، ولا إختلاف في خط سياسي أو وجهة نظر..) بل عداوة لها جذورها الشيطانية.
- كأنه وليّ حميم، والحميمية هنا معناها التحول الجذري من كره ناسف إلى حب عاطف..لأن القلب يَأسره الإحسان، كما قال الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ *** فلطالما إستعبد الإنسان إحسانُ
لكن إستخدام مفتاح القلوب مشروط بشرطين، هما من مغذيات الحب :
- الصبر : على تجاوزات بعض الخصوم، وتجريح بعض الموتورين، وتهجم بعض "من يأكل التمر ويعصي الأمر" وهم كثر في زماننا .
- الحظوة : التي تعني حساب الآخرة، أو حساب العاقبة، وهو خلق متأصل في نفوس أصحاب النظر البعيد ممن يدركون فقه "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة" ويعرفون الحدود الفاصلة بين "فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" وشتان بين أن تصل من وصلك وتقطع من قطعك على قاعدة "العين بالعين والسن بالسن.." وبين أن تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك على قاعدة : "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. والله يحب المحسنين".
الحلقة الثانية :
ينقله لكم الشيخ أبوجرة سلطاني
عرفنا أن الإنسان تغلب عليه “طينته” فيتصرف وفق ما خُلق عليه، وما غلب على طبعه من تراب، أو هواء، أو ماء، أو نار، وأن علينا أن نراعي ما يغلب على تطبّعه من طبع، لأن الطبع يغلب التطبع، وعرضنا قانونين من أصل 48 قانونا هما : التواضع للقيادة، والإستفادة من نقد الخصوم، ووضعنا بين يديك فائدة عظيمة هي مفتاح الولوج إلى عالم القلوب بصبر جميل وحظ عظيم.
3- إستعن بالكتمان : فالوضوح سلوك جيد في معاملة الناس، إذا قصدت أنت إلى بيان ما تريد، لكن الإبقاء على أسرارك محفوظة في صدرك علامة قوة لك، تجعل خصومك يتوقعون منك كل شيء غير متوقع، فيعيشون في حالة عدم توازن ويحسبون لك ألف حساب، ويترصدون أي كلمة تنطق بها ليقيسوا عليها مؤشرات توجهاتك، ويظلون حذرين من مهاجمتك لأنهم لا يعرفون ردود أفعالك، وكثيرا ما يتعبون أنفسهم بوضع مخططات خاطئة تشعرهم – عند إكتشاف بطلانها- بالتعاسة لأنهم “قطعوا مسافة طويلة للوصول إليك عبر الطريق الخاطئ” بسبب غموض مواقفك وكتمان مخططاتك..
لذلك وجهنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى ضرورة الإستعانة على قضاء حوائجنا بالسرّ والكتمان، وعلّل ذلك بأن كل ذي نعمة محسود، فالإنسان الذي يكتشف عجزه عن مواجهتك يصاب بخيبة أمل قد تصل به إلى حافة التعاسة إذا تسبب كتمانك لأسرارك عنه في كشف خططه وغبائه من الجهات الخمس :
- أنه يعيش على ما تصرح به أنت من مقاصد
- أن سلطته مرهونة بما تتنازل عليه أنت من مواقع.
- أنه يتوسع على حساب المساحات الفارغة من حولك.
- أنه يبني مجده فوق ما يستطيع هدمه من خططك.
- أن زاده الوحيد هو ما تصرح به وما تكشف عنه من نوايا.
فما أعظم تربية الرسول (صلى الله عليه وسلم) لنا بالتكتم، لأنه يدرك أن كثيرا من الناس لا يفكرون في زراعة الأرض البور، وإنما يزاحمونك على المساحات المزروعة، بابتزازك و”سرقة” جهدك..بأن يزرعوا بذورهم في الأرض التي إستصلحتها، ولا أحد منهم يفكر في أن يصنع لنفسه كرسيا يجلس عليه، بل كلهم يفكرون في إزاحتك عن كرسيك لأنه، في نظرهم، موقع جاهز وهم أحق بالجلوس على “العرش” منك حسب ما يعتقدون. (وفي قصة إخوة يوسف عليه السلام ما يغنيني عن طول الشرح والبيان).
إن المشكلة لا تكمن في ما يفكر فيه الآخرون وفي ما يخططون له، فذلك حقهم لأنه أمر طبيعي بالنسبة لعاجز عن التوسع بعيدا عن مجالك، إنما المشكلة الحقيقية تكمن في عجزك أنت عن حماية “مكاسبك” بحيث تتسبب في إهدارها بكثرة الكلام، وتخسر بعضها بكثرة الخصام والثرثرة والجدل..أو بالتباهي بها أمام أصدقائك أو بحضرة خصومك.
والحل المقترح هو أن تكون حكيما فتحتمي بالصمت إلاّ لضرورة..وتحارب خصومك بالغموض، فلا أحد يستطيع أن يعرف ما تريد، ولا أحد يملك أن يتوقع خطوتك الثانية والثالثة.. ما لم تفصح أنت عنها، وعليك أن تدرب نفسك على الصمت، فإذا كنت في مجلس جاد فكن واحدا من إثنين ولا تكن الثالث :
- كن مستمعا لتزداد علما ومعرفة بمن حولك وما يدور في رؤوسهم.
- أو كن سائلا لتعرف ما أنت بحاجة إليه لإستكمال معلوماتك.
ولا تكن متحدثا ثرثارا تكشف عن خططك وتنشر أسرارك..فلا يبقى لك سرٌّ تخفيه في صدرك، كان يبحث عنه الناس، فـ”إستعينوا على قضاء حوائجهم بالسرّ والكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود” ومن ذلك لا تكن مكثرا :
- تجنب الكثرة في كل شيء (كثرة الظهور، وكثرة الكلام، وكثرة المزاح، وكثرة التدخل، وكثرة الأكل والشرب، وكثرة الضحك..إلخ) فإن الله تعالى ذم الكثرة إلاّ في الذكر..فقلل من كل شيء واذكر الله كثيرا.
- إياك والخلط بين عملك (وظيفتك) والإرتباط العاطفي، فالمواقف العاطفية في القضايا الجادة، فوق كونها من المهلكات هي أيضا مطية للشيطان، ومائلة مع الهوى، وناسفة من نواسف المروءة، وسوس ينخر في أصل جذع شجرة القوة الإيمانية والشجاعة الخلقية، ويكفي أن يقال : “فلان رجل طيب ولكنه عاطفي” لتسقط الهيبة..وتُشوَّه القدوة.
- إياك أن تصبح، لدى الرأي العام، كتابا مفتوحا يقرأ فيه الناس “أسرارك”، فللسان حصائد لا تقطع ولكنها تدمي، وكثير الكلام رجل عريان يعرف الناس تفاصيل عوراته، فلا يخشاه أحد ولا يحترمه أحد، والمحيطون به عادة صنفان إما أناس يبتزونه أو أقوام يتندرون به، لأنه كثير الكلام.. “ومن كثر لغطه كثر سقطه”.
- دافع عن وجهة النظر المخالفة بمثل ما تدافع به عن وجهة نظرك حتى يتبين الحق من أحدهما، فلا تفترض في نفسك العصمة وتقطع بخطإ من يجادلك، فالحكمة ضالة المؤمن، والدفاع عن وجهة نظر الخصم يربكه أمامك.
- إذا إضطررت إلى الحديث عن إنجازات مؤسساتك فاستبعد كلية (وبشكل مطلق) الحديث عن نفسك، فلا أحد يحترم من “يسوَّق” لبضاعة الأنانية، وتسويق إنجازات النفس فوق كونها غرورا يزري بصاحبه، فهي كذلك من خوادش المروءة ومن مبطلات الصدقات لأنها – مهما حاول صاحبها تزيينها- تبقى منّا، والله تعالى ينهانا عن المنّ : “يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى” وهل هناك ما هو أشنع من أن تؤذي جليسك بالحديث عن نفسك..وتصد رأسه بالحديث عن بطولاتك..؟؟
- 4- عش بسيطا : على خلاف ما يعتقد الكثيرون، فإن حياة البساطة هي قمة الذكاء والسعادة والإستعلاء، لأن التعقيد يحسنه الجميع، والتصنّع تكلف يمقته الطبع القويم : “وما أنا من المتكلفين”، وكل من “يعقَّد” الحياة من حوله يخسر مرتين :
- يخسر علاقته بالطيبين والبسطاء من الناس ممن يكرهون التكلف والتعقيد والتصنّع..وهو منهج يحتاج إلى دراسة وتحليل وفك رموز..فينفضّ البسطاء من حوله.
- ويخسر نفسه لأنه يصبح إنسانا معقدا في نظر الناس.
إن الأهداف الكبرى هي التي أنجزها أصحابها إنطلاقا من فكرة بسيطة تبدو للناس عادية ولا تلفت أيَّ إنتباه، فالذي يهدد ويتوعد ثم لا ينفذ تهديده ووعيده يصبح إنسانا تافها، بينما الذي يستدرج خصومه إلى مقاتلهم بالإبتسامة الساخرة يملك أن يملي شروطه في الوقت المناسب، فالطبل الأجوف يصدع الرأس كلما ضربته، فإذا توقفت عن ضربه سكت.
تذكر أن الناس لا ينتبهون لما تعودوا عليه من أمور الحياة، وقليل منهم من يلاحظ ما سبقت ملاحظته، كما أن “الضربة القاضية” لا يسبقها صراخ ولا تحذير، لذلك تقول الحكمة البارعة : إحصل على النصر قبل أن تعلن الحرب، فلا تقل سأفعل بل إفعل وسوف يتحدث الناس عنك. ويتناقل الناس أخبارك..وإنجازاتك وفضلك على الناس.
وقديما قيل : إهتدى ثعلب إلى حيلة ماكرة مكنته من إفتراس كل الدجاج من غير ضجيج ودون أن ينتبه أحد إلى “بساطة” الحيلة التي إعتمدها، فقد إرتدى جلد خروف ودخل الدار مع قطعان الغنم، وخلال الليل كان يدخل خمّ الدجاج بهدوء وثقة نفس ودون ضجيج فيفترس ما يشاء من الدجاج بهدوء ثم يخرج – دون صراخ-، لينضمّ إلى قطيع الغنم..وهكذا..
هي فكرة بسيطة ولكنها بارعة، لأنها غير مألوفة، بحيث لم ينتبه إليها صاحب الدار، ولم تكشفها الأغنام، ولم يعرف “سرَّها” الدجاج..فالحرب لم تعلن ولكن النصر تحقق بصمت وهدوء وبفكرة بسيطة ولكنها بارعة..
فكثرة الصراخ تنبه الدجاج وتلفت نظر صاحب البيت..وتوقع الثعلب في حرج..
فائدة عظيمة : عندما ألّف ميكيا فيلي كتابه “الأمير” سنة 1513 كانت تدور في رأسه فكرة واحدة هي تحرير إيطاليا وتوحيدها، فلم يجد من طريقة لتجسيد هذا الطموح إلاّ الفلسفة الإنتهازية القائمة على مبدإ “الغاية تبرر الوسيلة”، وبهذه الفلسفة قدم لبلده خدمة تاريخية عظيمة (بطريقته الخاصة)، أما نحن فديننا يمنعنا من المرور على المزابل للوصول إلى المساجد، لذلك عندما نقرأ أو نكتب أو نفكر أو نحدث الناس..وجب علينا دينا وخلقا، أن نتعامل وفق قواعد الشرع وضوابط الخلق.. لكن من منطلقات بعيدة عن “غفلة الصالحين” التي إستبعدها الفاروق عمر (رضي الله عنه) بقوله : “لست خبًّا ولا الخبُّ يخدعني”، فأن تكون طيبا، هذا شيء جميل وخلق قويم، لكن أن تصل بك الطيبة إلى حد السذاجة بحيث يخدعك كل خبيث و”يضحك” عليك كل جليس..فهذه ليست طيبة إنما هي حمق لا دواء له، كما قال الشاعر :
لكل داء دواء يستطبّ به * إلاّ الحماقة أعيت من يداويها
والفرق شاسع بين المكر والدهاء كما بين الطيبة والحماقة “فالله طيب لا يقبل إلاّ طيبا” والمؤمن كيَّس فطن.
- 5- سُمعتك رأسمال الدنيا : المحافظة على السمعة هي القاعدة الخامسة التي بها تصبح "سيد نفسك" فالإنسان لا يكون غنيا بكثرة ما عنده من مال ورياش..وإنما الغني الحقيقي هو غني النفس المتعففة عما في أيدي الناس، والفقر ليس خُلوّ اليد من الدينار والدرهم وإنما فراغ القلب من معاني العفاف والكفاف.
ولك أن تتأمل معي هذه المتناقضات كأمثلة تقيس عليها كل ما حولك من نماذج بشرية – بدئًا بنفسك- وصولا إلى قارون الذي خرج على قومه في زينته :
- صاحب ملايير مكدّسة ولكنه يعيش التعاسة ويشكو للناس تكالب أصدقائه عليه طمعا في ماله، وأولاده الذين ينتظرون نهايته للإنقضاض على ثروته..إلخ، يقابله رجل فقير يعيش لحظته راضيا بما قسم الله له، فلا يتحدث عن أمسه الذي مضى بحلوه ومرّه وخيره وشره، ولا يتطلع إلى غد هو غيب عند الله تعالى، وإنما هو واثق بخالقه الذي يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا.
ونعود إلى موضوع السمعة التي هي رأس مال الإنسان الذي لا يمكن أن يقايضه فيها أحد بالقارات الخمس وما فيها من نفط وغاز وذهب وفضة..إلخ، فالسًّمعة هي "الروح" الذي يسري فيك، فإذا لفظت أنفاسك وغادرت هذه الحياة الدنيا بالموت، سارع أهلك وعشيرتك ومحبوك فكفنوك وعجلوا بدفنك :
- فإكرام الميت هو التعجيل بدفنه.
- وإكرام من باع سمعته للشيطان هو التعجيل بفراقه.
- والإحتفاظ بجثة الميت إهانة لصاحبها.
- والإحتفاظ بصحبه فاقد السمعة إهانة لك.
يتحدث القرآن الكريم عن أقوام من الفقراء بلغوا القمة وفرضوا إحترامهم على كل من لا علم له بحالهم لسبب بسيط ولكنه جوهري في حياة الفرد وهو التعفف : "لا يسألون الناس إلحافا" ولأنهم لا يسألون أحدا لأنفسهم فإن الجاهلين بأحوالهم يعتقدون أنهم في قمة الغنى : "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف".
- فالرفعة مقرونة بالتعفف
- والإحترام مرتبط بصون النفس عما يدنسها
- والتقدير صنْوُ اليد المرفوعة
- والسمعة نورها الإستغناء عما في أيدي الناس.
فلا بأس أن تسعى في قضاء حوائج الناس – ولاسيما المحتاجون منهم- بل إن من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته..لكن طلب قضاء حوائج النفس من فوارم المروءة، وقد مضت شريعة الله تعالى بألاّ تعطي المسؤولية من يطلبها لأنها "أمانة، وأنها يوم القيامة خزي وندامة إلاّ من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها"، أما ما أقدم عليه يوسف الصديق (عليه السلام) فمرتبط بالتطوع لحلّ أزمة وإنقاذ أمة تماما كما تطوع خالد بن الوليد (رضي الله عنه) يوم مؤته بأخذ زمام القيادة بعد سقوط القادة الثلاثة شهداء (زيد بن ثابت، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحه).
وشتان بين واضع سمعته موضع الإختبار لإنقاذ أمة والبحث عن شهادة، وبين من يجهل ضعفة على إدارة شؤون الناس والسهر على سلامة حياتهم وأقواتهم وأرزاقهم وشرفهم..فيلقى من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جوابا تربويا يحميه من ضعفه : "إنك ضعيف يا أبا ذرّ..وإنها أمانة..إلخ) ضعيف في إدارة شؤون الناس مهما كان إيمانك قويا..فلا تعرض سمعتك للإختبار!؟
وانظر كيف سقطت أوزان ثقيلة – في العالم كله- لمجرد أنها إبتذلت سمعتها بطلب شيء رخيص، فمدّ بعضهم يده فهان، ومدّ بعضهم عينه فخان، وقديما قيل : إذا أردت أن تقتل كلبا فأرمِه بالكلَب، أما إذا أردت أن تقتل رجلاً شريفًا فأرمِه بإشاعة وأترك الرأي العام يتداولها بشماته.
فالسمعة مثل السلاح النووي، قوته في التلويح للتخويف مع عدم إستخدامه (السلاح النووي تهدد به الدول العظمى بعضها بعضا ولكنها لا تستخدمه، فإذا إستخدمته صار جريمة ضد الإنسانية كما حصل في نهاية الحرب العالمية الثانية من طرف أمريكا ضد اليابان في ناغازاكي وهيروشيما).
فالشائعات سلاح مدمَّر إذا إستهدفت كرامة الإنسان وسمعته تحولت إلى دمار يزعزع ثقة الناس في صاحب سمعة كان لهم قدوة، لذلك، لما فشلت مخططات المشركين واليهود والمنافقين في النيل من رسالة الإسلام "فبركوا" حادثة الإفك لتشويه سمعة قدوة المسلمين وإسوتهم محمد (صلى الله عليه وسلم) وعطلوا المسيرة 30 يوما حتى نزلت سورة النور "لتبدد" ظلمات المرجفين في المدينة.
وما أكثر مخططات الإرجاف في حياتنا اليوم.
فما هو العلاج؟ أقترح عليك وصفة من تسعة أدوية، وهي :
- حافظ على سمعتك أكثر مما تحافظ على سلامة بصرك.
- إبتعد عن الشبهات "فمن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام".
- لا تمدّ يدك بطلب لمخلوق "فاليد العليا خير من اليد السفلى".
- لا تسأل أحدًا شيئًا لخاصة نفسك..وإذا سألت فأسأل الله.. فالمعطي والمانع والخافض والرافع..هو الله.
- أقنع بما قسم الله لك تكن أغنى الناس.
- أزهد عما في أيدي الناس يكبر رصيدك في صدورهم.
- كن كريما بما عندك، ولو كان قليلا، تؤسس لمدرسة الإيثار.
- سمعتك هي رأسمالك وما سواها أرباح. فاحرص على حماية رأسمالك.
- وإياك أن تخالط من سمعته في الحضيض أو في "المزاد العلني" فإن من باع سمعته بسؤال الناس يبيع "صاحبه" إذا طلب منه الناس ذلك!؟ .
فإن عدوى "القابلية" للسقوط تقع أكثر ما تقع على أصحاب السمعات المشهورة لأن أثوابهم شديدة البياض تؤثر فيها النكتة السوداء. ومن كان مشهورا صار شخصية عمومية، وأصحاب الضمائر الميتة يعشقون التسلق على أكتاف ذوي المروءات.
وما أعظم الكلمات التي علمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لنا من خلال توجيه كلامه لغلام صغير (إبن عباس) كان رديفه، فقال له : "يا غلام إني أعلمك كلمات : إحفظ الله يحفظك..إحفظ الله تجده تجاهك..فإذا سألت فأسأل الله، وإذا إستعنث فاستعن بالله..وأعلم :
- أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك. (يا سبحان الله ما أعظم هذا الكلام).
- ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلاّ بشيء كتبه الله عليك. (فالنفع والضرّ من الله جلّ جلاله، فلماذا تمدّ يدك لبشر!؟)
- رفعت الأقلام. (فكل شيء مكتوب في لوح محفوظ).
- وجفت الصحف". (لا جديد إلاّ أمورا يبديها ولا يبتديها..ولو أنك هربت من رزقك لطارك حتى يدخل عليك الباب، ولو فررت من أجلك لوجدته بانتظارك..).
فائدة عظيمة : تقول الحكمة، أنت سيد نفسك ما لم تطلب شيئًا لنفسك من مخلوق، فإذا طلبت شيئًا لنفسك صرت له عبدا، فإذا أعطاك ما طلبت رهنت جزءا من سمعتك (كرامتك) له يفعل بها ما يشاء، فإذا منعك ذهب منك الحياء وخسرت علاقتك به مرتين :
- الأولى، أنك طلبت ما لا تحتاج ممن لا يملك، والدليل أنه عندما حرمك حاجتك لم تمت، وهو ما يعني أنه لو أعطاكها ما أحياك بها، فهي "زائدة" من الزوائد، ولو تركتها كان ذلك أفضل لك وأحفظ لكرامتك.
- والثانية، أنه بمنعك حاجتك بيَّن لك أنك ناقص، بل إنّ عقيدة التوكل على الله عندك فيها ما يقال خاصة إذا تجاوزت فقه الأخذ بالأسباب إلى منهيات الحرص..فالحرص مرض يعرض جزءا من كرامتك للخدش، ولو صبرت على الحرمان مما هو من "نوافل" الحياة لوجدت إطمئنانا قلبيا يعوضك حالة الحرمان والمنع إذا كنت ممن يؤمنون بقوله تعالى : "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير". فهل بقيّ للناس شيء يعطوه أو يمنعوا منه السائلين؟؟
لا تطلب شيئًا لنفسك من أحد تعش "سلطان" نفسك، وخذ بالأسباب التي تأخذ بها الطيور "تغذو..وتروح" لكنها لا تملك حقلا ولا تطلب شيئًا "تغذو خماصا..وتروح بطانا" لا تسأل ولا تبذل سمعتها بالطلب.. لأن الطالب مجازف بسمعته إذا أعطاه الناس ملكوه، وإذا منعوه أهانوه، وفي كلتيهما خدش للسمعة وزراية بالشرف، ومن مدّ يده هان، ومن مدّ عينه خان.
لاتـرد علـى من يهاجمــك
ينقله لكم الشيخ أبو جرة سلطاني
تناولنا في الحلقة الثالثة قاعدة واحدة من القواعد 48 لكيفيات المسك بزمام القوة هي سمعة الإنسان، وأكدنا على ضرورة صيانتها بالبعد عن الشبهات والتعفف عن طلب شيء من أحد، ‘”فإذا سألت فاسأل اللّه ، وإذا استعنت فاستعن باللّه ..” ووجهنا اهتمامك إلى ضرورة المحافظة على “سيادتك” على نفسك بألاّ تشكو حاجتك لأحد، ولا تمد يدك فتهون ولا عينك فتخون.
6. الشهرة :
ونعني بها بلوغ الإنسان درجة إجتماعية يصبح فيها شخصية عمومية معرضة للنقد، فالشهرة لها ثمن، ولا يوجد في هذه الدنيا شيئ مجاني، فلكلّ شيء ثمنه مهما حاول أصحابه تغليفه بألفاظ مؤدّبة كالهدية، والإكراميات، والمساعدة و” الوساطة”..إلخ، وقد يخرج عن هذه القاعدة أمران فقط:
- محض العمل لوجه اللّه” بنية صادقة لا يتبعها منٌّ ولا أذى.
- وخدمة الوالدين لعظم مكانتهما في النفس البشرية.
أمّا خارج هذين النّشاطين (العمل لوجه الله وطاعة الوالدين) فإنّ النّفس البشرية تحدث صاحبها بشهوة قبض مقابل أو ثمن ما على أي خدمة يقوم بها، ولو كان ثمنا معنويا (كمدح، وشكر، وذكر حسن بين الناس..الخ)، بدليل أنّك تصادف في طريقك من يقول لك مثلا :
- كنت أحسن لفلان ثم قطعت عنه مساعداتي لأنّه ناكر للجميل. (فالإعتراف بالجميل ثمن).
- وفعلت الخير في فلان ولم يقل لي حتى كلمة شكر. (فالشكر ثمن).
- وحضرت زفاف إبن فلان ولكنّه لم يحضر زفاف ولدي.
- وأفشيت السّلام على فلان فلم يرد على سلامي، فلن يسمعها منّي مرّة أخرى.(فرد السلام ثمن).
- ووصلت رحمي مع أقاربي فعقني الجميع إلخ. (فوصل من وصلك ثمن..).
وهكذا تتحول الدنيا كلها إلى مقايضات حتى لو إتخذت أشكالا من “التضحية” الظاهرة..فكل هذه المفردات مؤدّاها واحد هو أنّ أصحابها يشعرون بحاجة إلى مقايضة من نوع ما هي بمثابة ثمن مقبوض لسلعة يتطوعون هم بتقديمها هدية لك، ولكن بعض الناس يعتبرون الهدية مقدمة لقبض ثمن (أي أنهم يقومون بفعل فيه جمال الهدية ولكنّهم يشوّهون جماله بنية فاسدة، أو بطلب ثمن بخس ولو كان معنويا) فالحياة في نظرهم مقايضات إلاّ ما رحم ربّي.
وهذه طبيعة بشرية تكاد تكون عامة في كلّ شؤون الحياة، فما بالك إذا تعلّق الأمر بالشّهرة، فأصبح صاحب الشهرة شخصية عمومية يغشى المحافل ويتصدّر المجالس، ويبحث له الناس – من أصدقائه ومقربيه- عن حظوة له تكون مقدمة أو وسيلة لحظوتهم من خلاله، ولذلك يدفعون به إلى تبوء المواقع الأمامية والمزاحمة على الظهور..لأن “مقامه” صار قرين الشهرة..
هنا وجب التّفريق بوضوح بين صنفين من المشاهير:
مشاهير مطبوعون: وهم العاملون في حقل الدعوة والقائمون على قضاء حوائج الناس، وهم صنف محظوظ صنعتهم الظروف، أو صنعوا أنفسهم، أو ربما صنعهم الله على عينه ليكونوا مفاتيح خير مغاليق شر..فمنّ الله عليهم بخدمة عباده المحتاجين.. ورفعتهم قدراتهم وقدمهم نضالهم واشتهروا بين النّاس بالقدوة الحسنة وصناعة الحياة.. هؤلاء عادة لهم تاريخ مثقل بالإنجازات، وبمقدار ما يحققون من إنتصارات يكثر أعداؤهم ويتكاثر خصومهم وتتنوع وسائل التهجّم عليهم والتّشهير بهم.. لأنّهم صاروا يتحركون في الواجهة ولا يمكن لأحد تجاهلهم فيكبر القصف عليهم ومن حولهم (قصف المقربين منهم) ولكن هؤلاء المشاهير – عادة- لا يبالون بما يُقال فيهم ولا بما يتهجم به الناس عليهم وعلى المقربين منهم..ولا بما يحدث من حولهم من ضجيج، ولا يردون على المرجفين في المدينة، فطريقهم إلى الجنة محفوف بالمكاره.
ومشاهير مصنوعون : وهم صنف من النّاس لا يملكون من مؤهلات التصدر والقيادة شيئًا، ولكنهم يحوزون على كثير من المكر والدّهاء، فيعمدون إلى الظّهور على مسرح الأحداث بافتعال “ضجّة” صادمة للمشاعر ليلتفت الناس إليهم، فإذا إكتشفوا حقيقتهم كان ذلك نهاية مأساوية لحياتهم. وكم تحدث التاريخ عن سير هؤلاء التافهين!؟
فالتّاريخ يتحدّث مثلا عن تافه لم يجد طريقا للشّهرة إلاّ أن يفكر في
التبوّل (أكرمكم اللّه ) في بئر زمزم، فعاد الحجيج ولا حديث لهم إلاّ عن مارق إسمه “زفت” فعل فعلته في أقدس مكان، فانتهى نهاية مأساوية، لأنّه أراد أن يدخل التّاريخ من أحد أبواب نواقض المروءة، ومن ذهبت مروءته ذهب حياؤه.
والشاعر يقول :
إذا قلّ ماء الوجه قل حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
وفي قصص الحيوان خرافة تقول : دخل زنبور (حشرة تشبه النحلة ولكنها لا تنتج عسلا ولا
خلاًّ..)
دخل هذا الزنبور التاريخ بلسعة وجّهها لولي العهد (وهو لا يزال رضيعا في مهده)،
فتحرّكت القوّات البريّة والبحرية والجوّية وأجهزة الأمن والمخابرات…وغلّقت كلّ المنافذ وألقي عليه القبض وأعدم وهو يقول: “حياة بلا شهرة كنار بلا شعلة “.
هذه الشهرة الزنبورية ساقطة من حساب الشرفاء، ومن باب أولى فهي ساقطة من حساب أهل الفضل والإيمان، لأن صاحبها يريدها لذاته، “ومن طلب الشهرة شهَّر الله به”. لذلك سوف أتجاوزها، وأسقطها من حسابي وحسابكم.. لأحدّثكم عن الشّهرة المطبوعة التي تلفت أنظار النّاس إليها بإنجازاتها الخارقة، وتفرض على الجميع الإحترام والتقدير وتصبح هي نفسها الشّرعية التي يميل النّاس معها حيث مالت، لأنّ صاحبها يصبح “مغناطيسيا” يجذب إليه الاهتمام فيتجمهر حوله النّاس بالآلاف ثمّ بالملايين، وتصبح فكرته هي الشرعية، وعمله هو المنهج، وأخلاقه هي الطريق المستقيم.. ويصبح صاحب كاريزما آسرة (نموذج سلطان العلماء العزّ بن عبد السّلام مثلا).
هذا الموقع المستشرف – ليس شهرة ولكنه قدوة- لا يصله أيّ أحد بضربة حظ، وإنّما بنضال طويل وجهاد مرير وصبر جميل وتميّز فريد من نوعه، يستحيل أن يتجاهله النّاس، ومع ما يحوز عليه هذا الرّمز من تقدير وتبجيل نابع عن تضحياته في سبيل خدمة الناس، يبقى أقوام كثيرون من التافهين حاقدين وحاسدين .. يتحرّكون على مسرح الأحداث بالدعايات والأراجيف للنّيل منه والسّعي في تشويه سمعته، معتقدين أنّهم أفضل منه، وأنهم هم الأعزة.. تماما كما قالها كبير المنافقين في حقّ رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ وسجّلها القرآن الكريم للتّاريخ: “لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ “.
فضجّ بعض الصحابة عليهم الرضوان، ولكن الرسول فهمها فهما تربويا، لأنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وسلّم ) كان كبيرا (لأنه قدوة) ولذلك لم يرد عليه، لأنّ أصحاب الرّسالات لا يتاثّرون بالهجمات على أشخاصهم ولا يجدون أيّة حاجة للدّفاع عن أنفسهم لإدراكهم أنّ هجمات التّافهين على أشخاصهم تقوّيهم، وأنّ تعرّضهم للنّقد والتّجريح والإساءة والإفتراء.. هو جزء من ضريبة تصدّر الصفوف (راجع مقالاتنا: ضريبة الصّف الأوّل ). وكل قدوة يعلم يقينا أن شخصه الناجح مزعج للفاشلين، ومعرض للهجمات من طرف أصحاب الشهرة المصنوعة لأنه كبير :
- فلا يوجد في التّاريخ كلّه “كبير” لم يهاجمه الصّغار.
- ولا يمكن أن تسلّم الأشجار المثمرة من رشق الأطفال لها بالحجارة.
- وكل من يقف أمام البحر تحدّثه نفسه أن يرميه بحجر.
- وما من شهير إلاّ و “فبرك” له النّاس الإشاعات.
- ولا يوجد إمام لم يقل فيه المصلّون كلاما غير لائق.
- وما من مسؤول إلاّ ونال نصيبه من الجرح دون أن يشفع له التّعديل.
وقد قصّ علينا القرآن الكريم فصولا طويلة من “معاناة” الأنبياء والمرسلين (عليهم السّلام) مع أقوامهم، فما سلم منهم أحد، وكذلك حال (العلماء مع العامة، والدّعاة مع الجماهير، والقادة مع شعوبهم…)فالناس يعشقون التسلق على أكتاف المشاهير..وأصحاب الألسنة الطويلة يحترفون الجرح بلا تعديل في حق القامات العالية. و”الطفل” لا يستطيع أن يرى ما يجري إلاّ إذا رفعه أبوه فوق كتفيه، فإذا إرتفع نسي فضل الوالد وصار يحدثه عن قامته الفارهة!؟
إنّ المشكلة لا تكمن فيمن يفتري على الكبار، فهذه سنَّة من سنن اللّه في خلقه، إنّما تكمن فيمن يريد أن يكون كبيرا – فيدفع ضريبة تصدر الصف الأول- ثمّ يتنازل عن هذا المقام ليناوش الصّغار، أو يرد على إشاعة مسّت شخصه أو شوهت سمعة أحد من أقاربه بحقًّ أو بباطل (أبناؤه، أزواجه، إخوانه، أصدقاؤه، ذوو أرحامه… إلخ) فنزول (أو تنازل) الكبير إلى الصّغار إنتصار لهم، ومطاردة العقلاء للشبهات يشبه صيد الثعالب (وهل رأيت أسدا يطارد الثعالب؟ ! ).
لقد وجّه المنافقون طعنة مسمومة للرّسول (عليه الصّلاة والسّلام) عندما إتهموه في فراشه الطّاهر (بما صار يُعرف بحادثة الإفك)، فهل سخّر وسائل الإعلام للردّ على المرجفين؟ وهل ـ بعد نزول سورة النّور التي كشفت المستور ـ ضبط رسول الله قائمة “الذين جاؤوا بالإفك ” وصفّى حسابهم؟ لا شيء من هذا حدث، إنّما العكس هو الذي أمر به التّوجيه القرآني الكريم في أكثر من 31 موضعا، أهمّها:
- ضرورة تحرير الولاء لله ولرسوله والمؤمنين
- إذا تمت خلخلة الصف فإن العيب فيكم فرصّوا صفوفكم وسدّوا الفرج.
- إذا نجح خصومك في زعزعة صفكم فإن منسُوب الثقة ضعيف بين القيادة وقواعدها فقوُّوه.
- إذا دبَّ الخلاف فإن الأخلاق الإجتماعية فيها ثغور مفتوحة فسارعوا بسدّها.
- التبرّج آفة فلتحتجب نساؤكم إلاّ عن المحارم.
- لا تنتقموا ممّن كان سببا في هذه الأراجيف، وليستمر الخير والعطاء فيكم :
“ألا تحبّون أن يغفر اللّه لكم”..إلخ.
إذا كنت كبيرا، أو تريد أن تكون كبيرا، فلا تردّ على الصغار، ولا تحمل الحقد على أحد، فإنه لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب..وتجاهل ما يقال فيك، فالنّاس قد يُخدَعون لبعض الوقت ولكنّهم ــ إذا كثرت الإشاعات وتنوّعت الدّعايات والأراجيف ــ فإنهم سوف يكتشفون حقيقتين هما أبلغ ما سوف يخدمك به خصومك مجانا ويكسبك أعداؤك بغبائهم وحقدهم عليك المزيد من الإحترام والتّقدير وحبّ النّاس لك و” ندامة ” من كان مكلّفا بمهمّة مهاجمتك وتشويه سمعتك، وهما :
- أنّ تجاهلك لخصومك بعدم الردّ عليهم يقتلهم معنويا.
- أنّ إنصرافك إلى تنفيذ برنامجك هو أفضل ردّ في الميدان.
ونصيحة الحكماء لي ولك قيدها أحد الشعراء في بيت حكيم، فاحفظه وأعمل به تسلم وتغنم، يقول الشاعر :
إذا نطق السفيه فلا تجبه *** فإن خير إجابته السكوت
فالشّهرة المطبوعة – مثل القدوة الموروثة تماما – لها ثمن باهض، ولها تكلفة مرتفعة جدا..ولذلك لا ينبغي أن تهتمّ ــ إذا كنت تسير في صدارة الصّف ــ بكثرة الإلتفات إلى الصّائحين والنّائحين والصّافرين والمصفّقين، فضجيج هؤلاء يشبه هتافات المعجبين والمشجّعين إذا فقه “القائد” قاعدة ذهبية تقول: “كلّما علا الضّجيج دلّ على الفراغ”، فكلّ فارغ له صوت مخيف بينما الملآن يقدّم لك الحساب أفعالا لا أقوالا.
فاحذر من الوقوع في ثلاث هنّ رأسمال كلّ قدوة وعصمته كلّ سقوط :
- إحذر أن ترد على تافه فتكون كمن ينثر الدرر على رؤوس الخنازير.
- واحذر أن تكثر من الإلتفات، فالظبي أسرع ولكن تثنيه كثرة الإلتفات.
- واحذر أن تدخل في جدل (أو مراء) مع “مأجور” فالكلب الذي يصطاد لصاحبه يخونه إذا إختلى بالطريدة، فلا تكن أنت الطريدة..
وكم نفعني الله – بعد القرآن والسنّة وسيّر الصالحين- ببيتين من درر شعر الحكمة جعلتهما مبدأ لمعاملات السفهاء الذين يحبون أن يبنوا مجدهم على أكتاف الرجال، فكنت أعاملهم – فعلا لا كلاما- بقول الشاعر :
يخاطبني السفيه بكل قبح *** فأكره أن أكون له مجيبـا
يزيد سفاهة فأزيد حلمــا *** كعود زاده الإحراق طيبا
وإذا كنت من الذين أبتلاهم الله بالإشاعات والأراجيف وكثرت حولهم الزنابير (الباحثين عن الشهرة بلدغ من طاولهم قامة) فلذ بالصّمت واضرب حول نفسك ستارا من الغموض “فالنّاس يأسرهم الغموض ” وأغلق منافذ الابتذال في وجوه التافهين “فالأمة المجاهدة لا تعرف الضحك “، واجعل دائما هامشا لعدم الشّعور بالأمن، فلا تبقى طول الوقت مسترخيا، ولا ظاهرا، ولا مطيلا للمكوث مع من تعوّدوا تزجية أوقات فراغهم بصحبتك، وتوارى عن الأنظار لبعض الوقت لتتفرّغ لحاجة نفسك وإنجاز المهم من الأشياء، ولا تكثر التردد على بيوت الناس..وباعد بين الزيارات “زرْ غبّاَ تزدد حبّا”، ولا بأس من التبسّط مع إخوانك في المناسبات إذا كان المزاح “فاصلا ترويحيا” بين نشاطين، واحذر من الإكثار في كل شيء.. فالكثرة قاتلة إلاّ في الذكر والدعاء..
- فائدة عظيمة : الهيبة يقتلها الإلف، وقد رأيت أطفالاً من ذراري المسلمين يتنذّرون بالشيخ الفلاني لأنّه مازحهم، وينكتون عن الداعية الفلاني لأنّه أجلسهم إلى مائدة الطعام بجواره تواضعا منه، فخرج هؤلاء الأطفال يتحدّثون أمام النّاس عن “عادة” الشيخ في الأكل، وعن طاقم أسنانه الذي خلعه للتنظيف، فسقطت هيبته، لأنّه لم يراع مقامه. (فالأسود لا تلاعب الثعالب).
إنّ علماء البلاغة عندنا يقولون “لكلّ مقام مقال ” وللنّاس مقامات يجب أن تُحفظ ليس كبْرا ولا تكلّفا (فالله يمقت الكبْر ويكره التكلّف).. وإنّما ”
إنزال النّاس منازلهم ” وتذكر التوجيه النبوي القويم في حقّ الأطفال ــ إذا تجاوزوا العشر سنوات – بأن “نفرق بينهم في المضاجع” لأن للناس إذا ناموا عورات، والعالم القدوة قد يغفل وقد يتبسط وقد يتحدّث إلى “خاصته” من الكبار – في حضرة الصغار- فتكون له عورات يجب حمايتها وسترها لاسيما عند ثلاث: الطعام، والكلام، والمنام.
وأخيرا، تذكر شيئا مهمّا في حياتك، إذا كنت تريد أن تصبح كبيرا فلا تجعل أعداءك صغارا فالعداوات كالصداقات إنما تقوم بين النظراء في السلم “المرء على دين خليله” وفي الحرب : “أخرجوا لنا نظراءنا”، فقوة أعدائك من قوتك، وكثرة خصومك دليل على علوّ همّتك، فصاحب الطّموح الكبير له أعداء كبار من الأوزان الثقيلة.
وإلى القاعدة السابعة
حبُّ الظهور مطيَّة للقبور
ينقله لكم الشيخ أبو جرة سلطاني
تناولنا في الحلقة الرابعة مسألة عدم الرد على المهاجمين، والسكوت عن السفهاء، وعدم التنازل لمن يتخذون المشاهير سُلّما يصعدون عليه إلى قمة موهومة، وبيننا أن السكوت عنهم يقتلهم، وأن عدم الإلتفات إليهم يردهم إلى حجمهم الحقيقي، وعدم ذكرهم بخير أو بشر في أي مجلس يقوض أحلامهم، وأن على “الشخصية العمومية” أن تترفع عن الرد على الشتيمة بالشتيمة لأن “لعبة الكبار” لا يقبل أصحابها تضييع الوقت في الرد على نهازي الفرص، أو تبديد الجهد مع الصغار، وكل ذلك شرحناه في القاعدة السادسة.
7- حبّ الظهور
وهي القاعدة السابعة من قانون التحكم والسيطرة على زمام القوة، وهي – كما سوف تلاحظ- من أخطر المزالق التي يتردى فيها كثير من الناس، خاصة المسؤولون وذوو الطموح المتضخم، لخمسة أسباب تتكرر في حياة الناس ولا يستوعب إلا القليلون دروسها المدمرة، وهي :
- إعتقاد البعض أن وجودهم ضروري للحياة كالماء والهواء.
- مرض الأنانية المتضخمة التي تريد أن يخدمها الناس جميعا.
- المزاحمة على الصف الأول بلا مؤهلات، وحب الوقوف تحت الأضواء.
- النظر إلى كل منافس على أنه عدّو لابد من “تصفيته” بأية وسيلة.
- الإعتداد بالرأي ورفض كل رأي مخالف ولو كان فيه خير العباد والبلاد.
ويجب أن نعترف – منذ بداية الحديث عن قاعدة حب الظهور بأن أصحاب هذا النزوع المنحرف يعانون من عقدتين خطيرتين إحداهما يعرفها الناس من ممارسات وسلوكيات صاحبها والأخرى لا يمكن الكشف عنها إلاّ عندما تسقط هيبة الباحث عن الشهرة ويكتشف الناس حقيقته، وهاتان العقدتان هما :
- عقدة الإستعلاء، التي تجعل صاحبها يعتقد أنه فوق الزمان وفوق المكان والإنسان وأن الناس جميعا خُلقوا لخدمته، فإذا نطق وجب عليهم أن يسكتوا وينصتوا، وإذا دخل وجب عليهم أن
يقوموا له إحتراما وتقديرا وتبجيلا.
.فهو “
محور” الجماعة وقطبها الأوحد..بل هو محور الكون!
- وعقدة الدونية، التي يحسّ صاحبها بأنه دون مستوى الناس ذكاء وخبرة وفطنة وحظاّ..وأن عليه أن يمثل دور الإنسان الكامل، ويتصنّع هذا الدور.. حتى يستر نقصه ويحجب عن الناس هزالة..فتراه يزاحم الكبار بلا زاد.
في الحالات العادية للإنسان السّوي يعيش المصاب بواحدة من هاتين العقدتين “واقعة” ويتكيف مع ظروفه، أما لدى صاحب نزعة حب الظهور فالتناقض الحاصل في بنية هذه الشخصية يستثير الإعجاب من جهة والغرابة من جهة أخرى بسبب ما يصدر عن صاحب هذه العقدة من تصرفات مريبة :
- فظاهره يوحي بالقوة والتمكن والقدرة لكن باطنه عارٍ من كل هذه المظاهر الخداعة، فهو ضعيف وجبان وفازع ورعديد وقليل الحيلة والقدرة والكفاءة..
- تصرفاته الظاهرة توحي بأنه واثق من نفسه وقادر على القيادة والإنجاز لكنه إذا إصطدم بحاجز إنكشفت عوراته وافتضحت سوءاته.
- خطابه يتصنع فيه القوة ويرفعه فوق ما يجب ويغطيه “بمحفوظاته” فإذا جلست تناقشه في التفاصيل والأعماق وجدته أفرغ من جوف أم موسى ولكنه، مع كل هذه العيوب، يصر على التمسك “بحقه” في التصّدر والظهور واحتكار الحقيقة وجلجلة الخطاب وفرض الرأي..وتجده حريصا على مرافقة “الكبار” والتحدث باسمهم وانتحال شخصيتهم..لأنه يعيش طول حياته على الجثث والجيف ويعتاش بصيد الآخرين، ويحب أن يحمد بما لم يفعل، وأغرب ما فيه أنه يدعي العلم بكل شيء، والسبق إلى كل شيء..وأنه صاحب الفضل على الجميع، وأنه أحرص الناس على المصلحة وأولى الناس بتصدر المحافل..
هذه النماذج من الناس نحتاج أن نفهم نفسيتهم فهما مستبطناً قبل أن نخالطهم، لأن خلطتهم تكتسي خطرين مدمرين هما :
- التسلقية، التي تجعل أكتاف الرجال في خدمة الأغراض الشخصية لهم، وليست في خدمة المبادئ والثوابت والقيم التي يتطلع إلى إنجازها الكبار.
- والتدميرية، التي يجتهد صاحبها في زرع الأحقاد بين المتنافسين، لأن المصاب بإزدواجية العقد (عقدة الإستعلاء المفتعل وعقده الدونية الحقيقية) لا يملك مقومات المنافسة الشريفة فيلجأ إلى الدسيسة والخديعة والوقيعة بين الناس، وشراء الذمم..وإيغار الصدور..ليضرب هذا بهذا، ويشيع داخل الصف ثقافة “أنا خير منه” ويدفع الناس للحديث عن إنجازاته الوهمية ومآثره ويده البيضاء على المجتمع..حتى إذا تناقلت أخباره وسائل الإعلام دخل في مفهوم “الأحاديث الموضوعة” ونُسجت حوله الأحاجي والأساطير الشعبية..تماما كما حدث مع الشخصيات الخرافية التي ينسب إليها الخيال الشعبي كل المكبوتات التي تحدثت عنها الملاحم الوهمية في سيرة بني هلال، وسيف بن ذي يزن، وألف ليلة وليلة..إلخ.
كيف نعالج هذه الظاهرة؟
إن التحليل النفسي لسيكولوجية هذه الشخصيات – وما أكثرها في كل الصفوف- تقودنا إلى مصطلح النرجسية أو البطولات الوهمية للأنا” المتضخم التي ينسجها خيال بعض الذين يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فهم
ينقله لكم الشيخ أبو جرة سلطاني
من أيّ طينة أنت؟
هذا عنوان كتاب كبير الحجم (740 صفحة) عظيم الفائدة (يضع بين يديك 48 قاعدة للتعامل السياسي) عنوانه : كيف تمسك بزمام القوة، أهداه لي أخ كريم اسمه أ. محمد بن يوسف، في شهر سبتمبر 2010، ورصعه بكلمات إهداء ثمينة، أسأل الله أن يتقبلها منه وينفعنا بها، وقد شُغلت عن قراءة هذا الكتاب لأسباب تعرفونها، حتى جاءني سفر طويل فكان فرصة لقراءته، وقد إستمتعت به أيما إستمتاع، فأردت أن أنقل"زبدته" إلى إخواني بعد تسجيل ملاحظتين على مضمونه.
أ- تعري السياسة من الأخلاق : همُّ المؤلف الأساس، في هذا الكتاب، هو رسم قواعد السيطرة المطلقة في لعبة السلطة، ولا تهمة الوسيلة، فمنطلقاته ميكيا فيلية، ولذلك يستعرض قصص الصراع حول السلطة من زواية القدرة على المسك بزمام القوة العارية من الأخلاق تماما، لأن السياسة في نظره نفعية وبلا خُلق.
وهذه نقطة نخالفه فيها جملة وتفصيلا، ذلك أن أعظم سياسي على وجه الأرض – وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد وصفه المولى عز وجل بقوله : "وإنك لعلى خلق عظيم"، والشاعر يؤكد هذا المعنى بقوله :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
ب- إسقاط حسن الظن : ففي نظره لا يوجد في السياسة رجل طيب، وعليه فإن كل الحسابات السياسية يجب أن تقوم على أساس سوء الظن، فالعواطف لم تصنع – عبر التاريخ كله- حاكما واحدا نجح في إدارة شؤون الحكم لفترة طويلة.
وهو ما نخالفه فيه، من حيث المبدأ، كون ديننا قائما على التراحم والتعاطف والحرص على مشاعر المحيطين بك، خاصة إذا كنت قائدا : "حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
وفي ما عدا هذين العيبين، فإن ما جاء في هذا الكتاب يعدّ "ثروة عظيمة" لمن يريد أن يعرف كيف أدار الزعماء – عبر التاريخ كله- لعبة السياسة وفق 48 قاعدة سياسية تعلمك أن تعرف الفرق بين قيمة ما تحصل عليه والثمن الذي تدفعه للحصول على ما تريد (بحساب الوقت والجهد والمال..).
أولا، الناس معادن : إن فهم نفسيات الناس مسألة جوهرية، لأن التعامل مع النفس البشرية يحتاج إلى أن يعرف الإنسان "معادنهم" وأحذر كل الحذر أن تضع المحيطين بك في سلة واحدة، لأن الله خلقهم مختلفين، و"كل ميسَّر لما خُلق له".
وفي التقسيم العام نجد الناس أربعة (04) أقسام كبرى هي :
- ترابيون : وهم الذين لا يؤمنون إلاّ بالملموس، ولا يرضيهم إلاّ ما تضعه في رصيدهم الخاص، ولا يربطون علاقاتهم بالناس إلاّ على أساس المصلحة، فإذا كنت قويا تزاحموا على بابك، فإذا ضعفت : "إنفضوا إليها وتركوك قائما".
- العلاج : قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، والله خير الرازقين، أي لا تهتم بهم كثيرا، لأنهم – كما قلناه دائما- هم الكرارون عند المغانم الفرارون يوم المغارم لأنهم ترابيون.
- هوائيون : يتأثرون بالدعاية والإشاعة، فيرضون عنك في الصباح فيمدحونك وكأنك ملك كريم، ويسخطون عليك في المساء فيذمونك وكأنك شيطان رجيم، وهؤلاء هم الذين قال فيهم القرآن الكريم : "وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق (أي المصلحة) يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم إرتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله..".
- العلاج : قل لهم في أنفسهم قولا معروفا، وأفضل طريقة لمعالجة أمراضهم الهوائية هي توجيه الحديث إلى غيرهم بحضورهم – دون التوجه إلى مخاطبتهم مباشرة- فهم أكثر الناس تأثرًا بأسلوب "إياك أعني وأسمعي يا جارة".
- مائيون : نفعهم كبير للمجتمع، وفضلهم عظيم على الأفراد والمؤسسات لأنهم يعطون بلا مقابل، ويضحون بلا منَّ، ويتكيفون مع كل الظروف بلا ميوعة وبلا مداهنة..إلخ، ولكن مشكلتهم الوحيدة هي أنهم يكرهون الصعود، ويحبون الإستقرار – ولو على الحد الأدنى- لأنهم يخافون الإنفتاح ويصيبهم الرعب إذا سمعوا أحاديث الإنتقال إلى طور جديد.
- العلاج : هؤلاء يحتاجون إلى قدوة فعل لا موعظة قول (تنحر وتحلق) كما حصل يوم الحديبية، أما كلام النحر والحلق فيعتبرون أنفسهم غير معنيين به، لأن طبيعتهم المائية تعمل بمدإ الإيدروليك وليس، بمبدإ التيرموديناميك.
- ناريون : متسرعون في كل شيء..لا يعملون إلاّ وسط الضجيج، ولا يتحركون إلاّ إذا إختلط الحابل بالنابل، ليس لهم صبر على المداومة، ولا طاقة لهم بمعاني "خير الأعمال أدومها وإن قل" فهم رجال مناسبات يحبون التصدر، وتجذ بهم البهارج، ويتحمسون لكل جديد، وليس لهم قدرة على "الإنضباط التنظيمي" لأنهم يرتاحون أكثر – وربما ينتجون أفضل وينفعون أكثر- إذا كلفوا بمهام خاصة وبرامج حرة خارج الإطار التنظيمي.
- العلاج : تسريح الطريق أمامهم بنقل نظرية "الدخول من الباب الواحد" إلى منهج "الدخول من أبواب متفرقة" بتكثير الواجهات وفتح الفضاءات، وتنويع البرامج و"تكليفهم" بمهام خاصة.
والعقدة في هذا التقسيم الرباعي المشتقة من التراب، والهواء، والماء، والنار، هي عقدة مرتبطة أساسا بطبيعة بشرية متأصلة في أصل الخلقة، فلا تستطيع أنت أن تغيرها بل جهدك أن تتكيف معها، وهذا بالضبط ما فعله رســــول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي لم يطرد المنافقين من داخل الصف الإسلامي –وهو يعرفهم حق المعرفة- وأبقى على المسافة الإيمانية الفاصلة بين التمكين لدين الله وتأليف القلوب بالعطايا والهدايا والهبات والكلمة الطيبة..لإستيعاب حركة النفس البشرية في ثنائيات الخير والشر، والعطاء والمنع، والرضا والغضب، والحب والكرة، والإقبال والإدبار، والكرّ والفرّ، والحلو والمرّ..إلخ.
ثانيا، قواعد لعبة السلطة : لا أعني بالسلطة النظام القائم، وإنما أعني العلاقة القائمة بين الراعي والرعية، أو بين القيادة والجندية، أو بين رب الأسرة ومن تحت رعايته ووصايته، فلجميع هؤلاء- في نظر روبرت قرين، صاحب الكتاب المذكور- قواعد مشتركة للتحكم حصرها في 48 قاعدة ضابطة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، هذه خلاصاتها :
1- القاعدة الأولى، التواضع للقيادة : فالقاعدة الأولى تدعوك إلى أن تتواضع لمن فوقك حتى لو كنت أكثر علما منه وأقدر على الإنجاز في ميدانه، فالقائد يقبل النصح من جنوده، ولكنه يرفض "التدخل" في صلاحياته، لذلك ينصح صاحب الكتاب الموهوبين والعباقرة – من داخل الصف- بأن يتواضعوا، وأن يضعوا مواهبهم تحت تصرف القائد لا أن يستعرضوا عضلاتهم عليه، فهذه طريقة تكسر السُّلّم التصاعدي وتجعل أمثال المقداد بن الأسود (رضي الله عنه) أعلم بشؤون الحرب من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولكنه تواضع – مع دقة علمه بخفايا الحرب- فقام يسأل قائده : هل هو منزل محدَّد بالوحي أم هو الرأي والحرب والمكيدة، ثم قدم رأيه لقائده بكثير من التواضع، ولم ينشر في الصف دعاية تشيع في الناس أنه أعلم من قائده بفنون الحرب، وأنه هو الذي أشار على القيادة بهذا الرأي البارع.. (راجع فقه غزوة بدر).
إن تواضعك للقيادة يجعلك تكبر في عينها، أما تعاليك عليها –بالعلم أو المال أو الجاه أو السبق..إلخ- فكلها نواسف لوحدة الصف، وهي من إختراع إبليس (عليه لعائن الله) يوم ظن نفسه خيرا من آدم (عليه السلام) فرفض أمر الله بالسجود، فكانت النتيجة مرعبة (خروجا أبديا من رحمة الله) لأنه ذو طبيعة نارية.
2- القاعدة الثانية، إستفد من خصومك : أفضل من يعرف عيوبك هم خصومك، وما ينفعنا به خصومنا أجدى مما تنفعنا به خدمات الأصدقاء، لأن من معك في الصف يدافع عادة عن خطك – لأنه خطه أيضا- ولو كان فيه بعض إعوجاج لأن "عين الرضا عن كل عيب كليلة" أما خصومك فلا يرون فيك إلاّ الشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض - وهم محقون في ذلك- وعليك أنت أن تبادر بمعالجة ما بك من خطإ وتقويم ما طرأ عليك من إعوجاج، وتشكر هؤلاء الخصوم الذين أهدوا لك عيوبك بسبب سخطهم عليك، لأن عين السخط تبدي المساوئ.
ولذلك إذا لم يكن للحركة خصوم وجب أن تبحث عنهم وأن توجدهم، لأن حركة بغير خصوم سوف تموت مرتين :
- مرة بكثرة مديح الأصدقاء إلى درجة إعتقاد العصمة في الأشخاص والمؤسسات، وهذا فساد في العقيدة وخطأ في المنهج.
- ومرة بضياع قضيتها، لأن حركة التاريخ قائمة على مبدإ التدافع بين الأضداد (الخير والشر، والحق والباطل، والإستقامة والإعوجاج، والإسلام والكفر، والعدل والظلم..إلخ) فإذا إختفى الشيطان من الأرض –ولم يعد للحركة أي عدوّ- تحول بعض الناس إلى شياطين "يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا".
فائدة عظيمة : قبل أن أواصل معكم عرض بقية القواعد (46 الباقية) أرى من أوكد الواجبات التربوية أن أضع بين أيديكم مفتاح الولوج إلى عالم القلوب، وهو حسن الظن بالناس، وتقدير جهودهم وإحترام مشاعرهم.. ومعاملتهم على أساس أنهم يحبون لنا الخير، حتى هؤلاء الذين يسيئون بنا الظن ويرموننا بأقبح النعوت، فالذي يريد أن يمسك بزمام القوة – على خلاف ما يراه صاحب هذا الكتاب – هو الذي يتربع فوق عرش القلوب ويقاتلهم بالحب وبكثرة التسامح، فمن أساء إليك فسامحته وأحسنت إليه بالدفاع عن رأيه في غيابه يكون لك وليا حميما، هذا الكلام دقيق 100% لأنه لم يقله بشر، وإنما أنزله الذي خلق البشر، وأوصى المؤمنين منهم بالدفع بالتي هي أحسن (وليس بمجرد الحسنة، بل بأفضل ما تملك من حسنات) وكل ينفق مما عنده:
- فإذا الذي بينك وبينه عداوة (وليس خصومة، ولا إختلاف في خط سياسي أو وجهة نظر..) بل عداوة لها جذورها الشيطانية.
- كأنه وليّ حميم، والحميمية هنا معناها التحول الجذري من كره ناسف إلى حب عاطف..لأن القلب يَأسره الإحسان، كما قال الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ *** فلطالما إستعبد الإنسان إحسانُ
لكن إستخدام مفتاح القلوب مشروط بشرطين، هما من مغذيات الحب :
- الصبر : على تجاوزات بعض الخصوم، وتجريح بعض الموتورين، وتهجم بعض "من يأكل التمر ويعصي الأمر" وهم كثر في زماننا .
- الحظوة : التي تعني حساب الآخرة، أو حساب العاقبة، وهو خلق متأصل في نفوس أصحاب النظر البعيد ممن يدركون فقه "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة" ويعرفون الحدود الفاصلة بين "فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" وشتان بين أن تصل من وصلك وتقطع من قطعك على قاعدة "العين بالعين والسن بالسن.." وبين أن تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك على قاعدة : "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. والله يحب المحسنين".
الحلقة الثانية :
ينقله لكم الشيخ أبوجرة سلطاني
عرفنا أن الإنسان تغلب عليه “طينته” فيتصرف وفق ما خُلق عليه، وما غلب على طبعه من تراب، أو هواء، أو ماء، أو نار، وأن علينا أن نراعي ما يغلب على تطبّعه من طبع، لأن الطبع يغلب التطبع، وعرضنا قانونين من أصل 48 قانونا هما : التواضع للقيادة، والإستفادة من نقد الخصوم، ووضعنا بين يديك فائدة عظيمة هي مفتاح الولوج إلى عالم القلوب بصبر جميل وحظ عظيم.
3- إستعن بالكتمان : فالوضوح سلوك جيد في معاملة الناس، إذا قصدت أنت إلى بيان ما تريد، لكن الإبقاء على أسرارك محفوظة في صدرك علامة قوة لك، تجعل خصومك يتوقعون منك كل شيء غير متوقع، فيعيشون في حالة عدم توازن ويحسبون لك ألف حساب، ويترصدون أي كلمة تنطق بها ليقيسوا عليها مؤشرات توجهاتك، ويظلون حذرين من مهاجمتك لأنهم لا يعرفون ردود أفعالك، وكثيرا ما يتعبون أنفسهم بوضع مخططات خاطئة تشعرهم – عند إكتشاف بطلانها- بالتعاسة لأنهم “قطعوا مسافة طويلة للوصول إليك عبر الطريق الخاطئ” بسبب غموض مواقفك وكتمان مخططاتك..
لذلك وجهنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى ضرورة الإستعانة على قضاء حوائجنا بالسرّ والكتمان، وعلّل ذلك بأن كل ذي نعمة محسود، فالإنسان الذي يكتشف عجزه عن مواجهتك يصاب بخيبة أمل قد تصل به إلى حافة التعاسة إذا تسبب كتمانك لأسرارك عنه في كشف خططه وغبائه من الجهات الخمس :
- أنه يعيش على ما تصرح به أنت من مقاصد
- أن سلطته مرهونة بما تتنازل عليه أنت من مواقع.
- أنه يتوسع على حساب المساحات الفارغة من حولك.
- أنه يبني مجده فوق ما يستطيع هدمه من خططك.
- أن زاده الوحيد هو ما تصرح به وما تكشف عنه من نوايا.
فما أعظم تربية الرسول (صلى الله عليه وسلم) لنا بالتكتم، لأنه يدرك أن كثيرا من الناس لا يفكرون في زراعة الأرض البور، وإنما يزاحمونك على المساحات المزروعة، بابتزازك و”سرقة” جهدك..بأن يزرعوا بذورهم في الأرض التي إستصلحتها، ولا أحد منهم يفكر في أن يصنع لنفسه كرسيا يجلس عليه، بل كلهم يفكرون في إزاحتك عن كرسيك لأنه، في نظرهم، موقع جاهز وهم أحق بالجلوس على “العرش” منك حسب ما يعتقدون. (وفي قصة إخوة يوسف عليه السلام ما يغنيني عن طول الشرح والبيان).
إن المشكلة لا تكمن في ما يفكر فيه الآخرون وفي ما يخططون له، فذلك حقهم لأنه أمر طبيعي بالنسبة لعاجز عن التوسع بعيدا عن مجالك، إنما المشكلة الحقيقية تكمن في عجزك أنت عن حماية “مكاسبك” بحيث تتسبب في إهدارها بكثرة الكلام، وتخسر بعضها بكثرة الخصام والثرثرة والجدل..أو بالتباهي بها أمام أصدقائك أو بحضرة خصومك.
والحل المقترح هو أن تكون حكيما فتحتمي بالصمت إلاّ لضرورة..وتحارب خصومك بالغموض، فلا أحد يستطيع أن يعرف ما تريد، ولا أحد يملك أن يتوقع خطوتك الثانية والثالثة.. ما لم تفصح أنت عنها، وعليك أن تدرب نفسك على الصمت، فإذا كنت في مجلس جاد فكن واحدا من إثنين ولا تكن الثالث :
- كن مستمعا لتزداد علما ومعرفة بمن حولك وما يدور في رؤوسهم.
- أو كن سائلا لتعرف ما أنت بحاجة إليه لإستكمال معلوماتك.
ولا تكن متحدثا ثرثارا تكشف عن خططك وتنشر أسرارك..فلا يبقى لك سرٌّ تخفيه في صدرك، كان يبحث عنه الناس، فـ”إستعينوا على قضاء حوائجهم بالسرّ والكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود” ومن ذلك لا تكن مكثرا :
- تجنب الكثرة في كل شيء (كثرة الظهور، وكثرة الكلام، وكثرة المزاح، وكثرة التدخل، وكثرة الأكل والشرب، وكثرة الضحك..إلخ) فإن الله تعالى ذم الكثرة إلاّ في الذكر..فقلل من كل شيء واذكر الله كثيرا.
- إياك والخلط بين عملك (وظيفتك) والإرتباط العاطفي، فالمواقف العاطفية في القضايا الجادة، فوق كونها من المهلكات هي أيضا مطية للشيطان، ومائلة مع الهوى، وناسفة من نواسف المروءة، وسوس ينخر في أصل جذع شجرة القوة الإيمانية والشجاعة الخلقية، ويكفي أن يقال : “فلان رجل طيب ولكنه عاطفي” لتسقط الهيبة..وتُشوَّه القدوة.
- إياك أن تصبح، لدى الرأي العام، كتابا مفتوحا يقرأ فيه الناس “أسرارك”، فللسان حصائد لا تقطع ولكنها تدمي، وكثير الكلام رجل عريان يعرف الناس تفاصيل عوراته، فلا يخشاه أحد ولا يحترمه أحد، والمحيطون به عادة صنفان إما أناس يبتزونه أو أقوام يتندرون به، لأنه كثير الكلام.. “ومن كثر لغطه كثر سقطه”.
- دافع عن وجهة النظر المخالفة بمثل ما تدافع به عن وجهة نظرك حتى يتبين الحق من أحدهما، فلا تفترض في نفسك العصمة وتقطع بخطإ من يجادلك، فالحكمة ضالة المؤمن، والدفاع عن وجهة نظر الخصم يربكه أمامك.
- إذا إضطررت إلى الحديث عن إنجازات مؤسساتك فاستبعد كلية (وبشكل مطلق) الحديث عن نفسك، فلا أحد يحترم من “يسوَّق” لبضاعة الأنانية، وتسويق إنجازات النفس فوق كونها غرورا يزري بصاحبه، فهي كذلك من خوادش المروءة ومن مبطلات الصدقات لأنها – مهما حاول صاحبها تزيينها- تبقى منّا، والله تعالى ينهانا عن المنّ : “يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى” وهل هناك ما هو أشنع من أن تؤذي جليسك بالحديث عن نفسك..وتصد رأسه بالحديث عن بطولاتك..؟؟
- 4- عش بسيطا : على خلاف ما يعتقد الكثيرون، فإن حياة البساطة هي قمة الذكاء والسعادة والإستعلاء، لأن التعقيد يحسنه الجميع، والتصنّع تكلف يمقته الطبع القويم : “وما أنا من المتكلفين”، وكل من “يعقَّد” الحياة من حوله يخسر مرتين :
- يخسر علاقته بالطيبين والبسطاء من الناس ممن يكرهون التكلف والتعقيد والتصنّع..وهو منهج يحتاج إلى دراسة وتحليل وفك رموز..فينفضّ البسطاء من حوله.
- ويخسر نفسه لأنه يصبح إنسانا معقدا في نظر الناس.
إن الأهداف الكبرى هي التي أنجزها أصحابها إنطلاقا من فكرة بسيطة تبدو للناس عادية ولا تلفت أيَّ إنتباه، فالذي يهدد ويتوعد ثم لا ينفذ تهديده ووعيده يصبح إنسانا تافها، بينما الذي يستدرج خصومه إلى مقاتلهم بالإبتسامة الساخرة يملك أن يملي شروطه في الوقت المناسب، فالطبل الأجوف يصدع الرأس كلما ضربته، فإذا توقفت عن ضربه سكت.
تذكر أن الناس لا ينتبهون لما تعودوا عليه من أمور الحياة، وقليل منهم من يلاحظ ما سبقت ملاحظته، كما أن “الضربة القاضية” لا يسبقها صراخ ولا تحذير، لذلك تقول الحكمة البارعة : إحصل على النصر قبل أن تعلن الحرب، فلا تقل سأفعل بل إفعل وسوف يتحدث الناس عنك. ويتناقل الناس أخبارك..وإنجازاتك وفضلك على الناس.
وقديما قيل : إهتدى ثعلب إلى حيلة ماكرة مكنته من إفتراس كل الدجاج من غير ضجيج ودون أن ينتبه أحد إلى “بساطة” الحيلة التي إعتمدها، فقد إرتدى جلد خروف ودخل الدار مع قطعان الغنم، وخلال الليل كان يدخل خمّ الدجاج بهدوء وثقة نفس ودون ضجيج فيفترس ما يشاء من الدجاج بهدوء ثم يخرج – دون صراخ-، لينضمّ إلى قطيع الغنم..وهكذا..
هي فكرة بسيطة ولكنها بارعة، لأنها غير مألوفة، بحيث لم ينتبه إليها صاحب الدار، ولم تكشفها الأغنام، ولم يعرف “سرَّها” الدجاج..فالحرب لم تعلن ولكن النصر تحقق بصمت وهدوء وبفكرة بسيطة ولكنها بارعة..
فكثرة الصراخ تنبه الدجاج وتلفت نظر صاحب البيت..وتوقع الثعلب في حرج..
فائدة عظيمة : عندما ألّف ميكيا فيلي كتابه “الأمير” سنة 1513 كانت تدور في رأسه فكرة واحدة هي تحرير إيطاليا وتوحيدها، فلم يجد من طريقة لتجسيد هذا الطموح إلاّ الفلسفة الإنتهازية القائمة على مبدإ “الغاية تبرر الوسيلة”، وبهذه الفلسفة قدم لبلده خدمة تاريخية عظيمة (بطريقته الخاصة)، أما نحن فديننا يمنعنا من المرور على المزابل للوصول إلى المساجد، لذلك عندما نقرأ أو نكتب أو نفكر أو نحدث الناس..وجب علينا دينا وخلقا، أن نتعامل وفق قواعد الشرع وضوابط الخلق.. لكن من منطلقات بعيدة عن “غفلة الصالحين” التي إستبعدها الفاروق عمر (رضي الله عنه) بقوله : “لست خبًّا ولا الخبُّ يخدعني”، فأن تكون طيبا، هذا شيء جميل وخلق قويم، لكن أن تصل بك الطيبة إلى حد السذاجة بحيث يخدعك كل خبيث و”يضحك” عليك كل جليس..فهذه ليست طيبة إنما هي حمق لا دواء له، كما قال الشاعر :
لكل داء دواء يستطبّ به * إلاّ الحماقة أعيت من يداويها
والفرق شاسع بين المكر والدهاء كما بين الطيبة والحماقة “فالله طيب لا يقبل إلاّ طيبا” والمؤمن كيَّس فطن.
- 5- سُمعتك رأسمال الدنيا : المحافظة على السمعة هي القاعدة الخامسة التي بها تصبح "سيد نفسك" فالإنسان لا يكون غنيا بكثرة ما عنده من مال ورياش..وإنما الغني الحقيقي هو غني النفس المتعففة عما في أيدي الناس، والفقر ليس خُلوّ اليد من الدينار والدرهم وإنما فراغ القلب من معاني العفاف والكفاف.
ولك أن تتأمل معي هذه المتناقضات كأمثلة تقيس عليها كل ما حولك من نماذج بشرية – بدئًا بنفسك- وصولا إلى قارون الذي خرج على قومه في زينته :
- صاحب ملايير مكدّسة ولكنه يعيش التعاسة ويشكو للناس تكالب أصدقائه عليه طمعا في ماله، وأولاده الذين ينتظرون نهايته للإنقضاض على ثروته..إلخ، يقابله رجل فقير يعيش لحظته راضيا بما قسم الله له، فلا يتحدث عن أمسه الذي مضى بحلوه ومرّه وخيره وشره، ولا يتطلع إلى غد هو غيب عند الله تعالى، وإنما هو واثق بخالقه الذي يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا.
ونعود إلى موضوع السمعة التي هي رأس مال الإنسان الذي لا يمكن أن يقايضه فيها أحد بالقارات الخمس وما فيها من نفط وغاز وذهب وفضة..إلخ، فالسًّمعة هي "الروح" الذي يسري فيك، فإذا لفظت أنفاسك وغادرت هذه الحياة الدنيا بالموت، سارع أهلك وعشيرتك ومحبوك فكفنوك وعجلوا بدفنك :
- فإكرام الميت هو التعجيل بدفنه.
- وإكرام من باع سمعته للشيطان هو التعجيل بفراقه.
- والإحتفاظ بجثة الميت إهانة لصاحبها.
- والإحتفاظ بصحبه فاقد السمعة إهانة لك.
يتحدث القرآن الكريم عن أقوام من الفقراء بلغوا القمة وفرضوا إحترامهم على كل من لا علم له بحالهم لسبب بسيط ولكنه جوهري في حياة الفرد وهو التعفف : "لا يسألون الناس إلحافا" ولأنهم لا يسألون أحدا لأنفسهم فإن الجاهلين بأحوالهم يعتقدون أنهم في قمة الغنى : "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف".
- فالرفعة مقرونة بالتعفف
- والإحترام مرتبط بصون النفس عما يدنسها
- والتقدير صنْوُ اليد المرفوعة
- والسمعة نورها الإستغناء عما في أيدي الناس.
فلا بأس أن تسعى في قضاء حوائج الناس – ولاسيما المحتاجون منهم- بل إن من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته..لكن طلب قضاء حوائج النفس من فوارم المروءة، وقد مضت شريعة الله تعالى بألاّ تعطي المسؤولية من يطلبها لأنها "أمانة، وأنها يوم القيامة خزي وندامة إلاّ من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها"، أما ما أقدم عليه يوسف الصديق (عليه السلام) فمرتبط بالتطوع لحلّ أزمة وإنقاذ أمة تماما كما تطوع خالد بن الوليد (رضي الله عنه) يوم مؤته بأخذ زمام القيادة بعد سقوط القادة الثلاثة شهداء (زيد بن ثابت، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحه).
وشتان بين واضع سمعته موضع الإختبار لإنقاذ أمة والبحث عن شهادة، وبين من يجهل ضعفة على إدارة شؤون الناس والسهر على سلامة حياتهم وأقواتهم وأرزاقهم وشرفهم..فيلقى من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جوابا تربويا يحميه من ضعفه : "إنك ضعيف يا أبا ذرّ..وإنها أمانة..إلخ) ضعيف في إدارة شؤون الناس مهما كان إيمانك قويا..فلا تعرض سمعتك للإختبار!؟
وانظر كيف سقطت أوزان ثقيلة – في العالم كله- لمجرد أنها إبتذلت سمعتها بطلب شيء رخيص، فمدّ بعضهم يده فهان، ومدّ بعضهم عينه فخان، وقديما قيل : إذا أردت أن تقتل كلبا فأرمِه بالكلَب، أما إذا أردت أن تقتل رجلاً شريفًا فأرمِه بإشاعة وأترك الرأي العام يتداولها بشماته.
فالسمعة مثل السلاح النووي، قوته في التلويح للتخويف مع عدم إستخدامه (السلاح النووي تهدد به الدول العظمى بعضها بعضا ولكنها لا تستخدمه، فإذا إستخدمته صار جريمة ضد الإنسانية كما حصل في نهاية الحرب العالمية الثانية من طرف أمريكا ضد اليابان في ناغازاكي وهيروشيما).
فالشائعات سلاح مدمَّر إذا إستهدفت كرامة الإنسان وسمعته تحولت إلى دمار يزعزع ثقة الناس في صاحب سمعة كان لهم قدوة، لذلك، لما فشلت مخططات المشركين واليهود والمنافقين في النيل من رسالة الإسلام "فبركوا" حادثة الإفك لتشويه سمعة قدوة المسلمين وإسوتهم محمد (صلى الله عليه وسلم) وعطلوا المسيرة 30 يوما حتى نزلت سورة النور "لتبدد" ظلمات المرجفين في المدينة.
وما أكثر مخططات الإرجاف في حياتنا اليوم.
فما هو العلاج؟ أقترح عليك وصفة من تسعة أدوية، وهي :
- حافظ على سمعتك أكثر مما تحافظ على سلامة بصرك.
- إبتعد عن الشبهات "فمن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام".
- لا تمدّ يدك بطلب لمخلوق "فاليد العليا خير من اليد السفلى".
- لا تسأل أحدًا شيئًا لخاصة نفسك..وإذا سألت فأسأل الله.. فالمعطي والمانع والخافض والرافع..هو الله.
- أقنع بما قسم الله لك تكن أغنى الناس.
- أزهد عما في أيدي الناس يكبر رصيدك في صدورهم.
- كن كريما بما عندك، ولو كان قليلا، تؤسس لمدرسة الإيثار.
- سمعتك هي رأسمالك وما سواها أرباح. فاحرص على حماية رأسمالك.
- وإياك أن تخالط من سمعته في الحضيض أو في "المزاد العلني" فإن من باع سمعته بسؤال الناس يبيع "صاحبه" إذا طلب منه الناس ذلك!؟ .
فإن عدوى "القابلية" للسقوط تقع أكثر ما تقع على أصحاب السمعات المشهورة لأن أثوابهم شديدة البياض تؤثر فيها النكتة السوداء. ومن كان مشهورا صار شخصية عمومية، وأصحاب الضمائر الميتة يعشقون التسلق على أكتاف ذوي المروءات.
وما أعظم الكلمات التي علمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لنا من خلال توجيه كلامه لغلام صغير (إبن عباس) كان رديفه، فقال له : "يا غلام إني أعلمك كلمات : إحفظ الله يحفظك..إحفظ الله تجده تجاهك..فإذا سألت فأسأل الله، وإذا إستعنث فاستعن بالله..وأعلم :
- أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك. (يا سبحان الله ما أعظم هذا الكلام).
- ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلاّ بشيء كتبه الله عليك. (فالنفع والضرّ من الله جلّ جلاله، فلماذا تمدّ يدك لبشر!؟)
- رفعت الأقلام. (فكل شيء مكتوب في لوح محفوظ).
- وجفت الصحف". (لا جديد إلاّ أمورا يبديها ولا يبتديها..ولو أنك هربت من رزقك لطارك حتى يدخل عليك الباب، ولو فررت من أجلك لوجدته بانتظارك..).
فائدة عظيمة : تقول الحكمة، أنت سيد نفسك ما لم تطلب شيئًا لنفسك من مخلوق، فإذا طلبت شيئًا لنفسك صرت له عبدا، فإذا أعطاك ما طلبت رهنت جزءا من سمعتك (كرامتك) له يفعل بها ما يشاء، فإذا منعك ذهب منك الحياء وخسرت علاقتك به مرتين :
- الأولى، أنك طلبت ما لا تحتاج ممن لا يملك، والدليل أنه عندما حرمك حاجتك لم تمت، وهو ما يعني أنه لو أعطاكها ما أحياك بها، فهي "زائدة" من الزوائد، ولو تركتها كان ذلك أفضل لك وأحفظ لكرامتك.
- والثانية، أنه بمنعك حاجتك بيَّن لك أنك ناقص، بل إنّ عقيدة التوكل على الله عندك فيها ما يقال خاصة إذا تجاوزت فقه الأخذ بالأسباب إلى منهيات الحرص..فالحرص مرض يعرض جزءا من كرامتك للخدش، ولو صبرت على الحرمان مما هو من "نوافل" الحياة لوجدت إطمئنانا قلبيا يعوضك حالة الحرمان والمنع إذا كنت ممن يؤمنون بقوله تعالى : "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير". فهل بقيّ للناس شيء يعطوه أو يمنعوا منه السائلين؟؟
لا تطلب شيئًا لنفسك من أحد تعش "سلطان" نفسك، وخذ بالأسباب التي تأخذ بها الطيور "تغذو..وتروح" لكنها لا تملك حقلا ولا تطلب شيئًا "تغذو خماصا..وتروح بطانا" لا تسأل ولا تبذل سمعتها بالطلب.. لأن الطالب مجازف بسمعته إذا أعطاه الناس ملكوه، وإذا منعوه أهانوه، وفي كلتيهما خدش للسمعة وزراية بالشرف، ومن مدّ يده هان، ومن مدّ عينه خان.
لاتـرد علـى من يهاجمــك
ينقله لكم الشيخ أبو جرة سلطاني
تناولنا في الحلقة الثالثة قاعدة واحدة من القواعد 48 لكيفيات المسك بزمام القوة هي سمعة الإنسان، وأكدنا على ضرورة صيانتها بالبعد عن الشبهات والتعفف عن طلب شيء من أحد، ‘”فإذا سألت فاسأل اللّه ، وإذا استعنت فاستعن باللّه ..” ووجهنا اهتمامك إلى ضرورة المحافظة على “سيادتك” على نفسك بألاّ تشكو حاجتك لأحد، ولا تمد يدك فتهون ولا عينك فتخون.
6. الشهرة :
ونعني بها بلوغ الإنسان درجة إجتماعية يصبح فيها شخصية عمومية معرضة للنقد، فالشهرة لها ثمن، ولا يوجد في هذه الدنيا شيئ مجاني، فلكلّ شيء ثمنه مهما حاول أصحابه تغليفه بألفاظ مؤدّبة كالهدية، والإكراميات، والمساعدة و” الوساطة”..إلخ، وقد يخرج عن هذه القاعدة أمران فقط:
- محض العمل لوجه اللّه” بنية صادقة لا يتبعها منٌّ ولا أذى.
- وخدمة الوالدين لعظم مكانتهما في النفس البشرية.
أمّا خارج هذين النّشاطين (العمل لوجه الله وطاعة الوالدين) فإنّ النّفس البشرية تحدث صاحبها بشهوة قبض مقابل أو ثمن ما على أي خدمة يقوم بها، ولو كان ثمنا معنويا (كمدح، وشكر، وذكر حسن بين الناس..الخ)، بدليل أنّك تصادف في طريقك من يقول لك مثلا :
- كنت أحسن لفلان ثم قطعت عنه مساعداتي لأنّه ناكر للجميل. (فالإعتراف بالجميل ثمن).
- وفعلت الخير في فلان ولم يقل لي حتى كلمة شكر. (فالشكر ثمن).
- وحضرت زفاف إبن فلان ولكنّه لم يحضر زفاف ولدي.
- وأفشيت السّلام على فلان فلم يرد على سلامي، فلن يسمعها منّي مرّة أخرى.(فرد السلام ثمن).
- ووصلت رحمي مع أقاربي فعقني الجميع إلخ. (فوصل من وصلك ثمن..).
وهكذا تتحول الدنيا كلها إلى مقايضات حتى لو إتخذت أشكالا من “التضحية” الظاهرة..فكل هذه المفردات مؤدّاها واحد هو أنّ أصحابها يشعرون بحاجة إلى مقايضة من نوع ما هي بمثابة ثمن مقبوض لسلعة يتطوعون هم بتقديمها هدية لك، ولكن بعض الناس يعتبرون الهدية مقدمة لقبض ثمن (أي أنهم يقومون بفعل فيه جمال الهدية ولكنّهم يشوّهون جماله بنية فاسدة، أو بطلب ثمن بخس ولو كان معنويا) فالحياة في نظرهم مقايضات إلاّ ما رحم ربّي.
وهذه طبيعة بشرية تكاد تكون عامة في كلّ شؤون الحياة، فما بالك إذا تعلّق الأمر بالشّهرة، فأصبح صاحب الشهرة شخصية عمومية يغشى المحافل ويتصدّر المجالس، ويبحث له الناس – من أصدقائه ومقربيه- عن حظوة له تكون مقدمة أو وسيلة لحظوتهم من خلاله، ولذلك يدفعون به إلى تبوء المواقع الأمامية والمزاحمة على الظهور..لأن “مقامه” صار قرين الشهرة..
هنا وجب التّفريق بوضوح بين صنفين من المشاهير:
مشاهير مطبوعون: وهم العاملون في حقل الدعوة والقائمون على قضاء حوائج الناس، وهم صنف محظوظ صنعتهم الظروف، أو صنعوا أنفسهم، أو ربما صنعهم الله على عينه ليكونوا مفاتيح خير مغاليق شر..فمنّ الله عليهم بخدمة عباده المحتاجين.. ورفعتهم قدراتهم وقدمهم نضالهم واشتهروا بين النّاس بالقدوة الحسنة وصناعة الحياة.. هؤلاء عادة لهم تاريخ مثقل بالإنجازات، وبمقدار ما يحققون من إنتصارات يكثر أعداؤهم ويتكاثر خصومهم وتتنوع وسائل التهجّم عليهم والتّشهير بهم.. لأنّهم صاروا يتحركون في الواجهة ولا يمكن لأحد تجاهلهم فيكبر القصف عليهم ومن حولهم (قصف المقربين منهم) ولكن هؤلاء المشاهير – عادة- لا يبالون بما يُقال فيهم ولا بما يتهجم به الناس عليهم وعلى المقربين منهم..ولا بما يحدث من حولهم من ضجيج، ولا يردون على المرجفين في المدينة، فطريقهم إلى الجنة محفوف بالمكاره.
ومشاهير مصنوعون : وهم صنف من النّاس لا يملكون من مؤهلات التصدر والقيادة شيئًا، ولكنهم يحوزون على كثير من المكر والدّهاء، فيعمدون إلى الظّهور على مسرح الأحداث بافتعال “ضجّة” صادمة للمشاعر ليلتفت الناس إليهم، فإذا إكتشفوا حقيقتهم كان ذلك نهاية مأساوية لحياتهم. وكم تحدث التاريخ عن سير هؤلاء التافهين!؟
فالتّاريخ يتحدّث مثلا عن تافه لم يجد طريقا للشّهرة إلاّ أن يفكر في
التبوّل (أكرمكم اللّه ) في بئر زمزم، فعاد الحجيج ولا حديث لهم إلاّ عن مارق إسمه “زفت” فعل فعلته في أقدس مكان، فانتهى نهاية مأساوية، لأنّه أراد أن يدخل التّاريخ من أحد أبواب نواقض المروءة، ومن ذهبت مروءته ذهب حياؤه.
والشاعر يقول :
إذا قلّ ماء الوجه قل حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قل ماؤه
وفي قصص الحيوان خرافة تقول : دخل زنبور (حشرة تشبه النحلة ولكنها لا تنتج عسلا ولا
خلاًّ..)
دخل هذا الزنبور التاريخ بلسعة وجّهها لولي العهد (وهو لا يزال رضيعا في مهده)،
فتحرّكت القوّات البريّة والبحرية والجوّية وأجهزة الأمن والمخابرات…وغلّقت كلّ المنافذ وألقي عليه القبض وأعدم وهو يقول: “حياة بلا شهرة كنار بلا شعلة “.
هذه الشهرة الزنبورية ساقطة من حساب الشرفاء، ومن باب أولى فهي ساقطة من حساب أهل الفضل والإيمان، لأن صاحبها يريدها لذاته، “ومن طلب الشهرة شهَّر الله به”. لذلك سوف أتجاوزها، وأسقطها من حسابي وحسابكم.. لأحدّثكم عن الشّهرة المطبوعة التي تلفت أنظار النّاس إليها بإنجازاتها الخارقة، وتفرض على الجميع الإحترام والتقدير وتصبح هي نفسها الشّرعية التي يميل النّاس معها حيث مالت، لأنّ صاحبها يصبح “مغناطيسيا” يجذب إليه الاهتمام فيتجمهر حوله النّاس بالآلاف ثمّ بالملايين، وتصبح فكرته هي الشرعية، وعمله هو المنهج، وأخلاقه هي الطريق المستقيم.. ويصبح صاحب كاريزما آسرة (نموذج سلطان العلماء العزّ بن عبد السّلام مثلا).
هذا الموقع المستشرف – ليس شهرة ولكنه قدوة- لا يصله أيّ أحد بضربة حظ، وإنّما بنضال طويل وجهاد مرير وصبر جميل وتميّز فريد من نوعه، يستحيل أن يتجاهله النّاس، ومع ما يحوز عليه هذا الرّمز من تقدير وتبجيل نابع عن تضحياته في سبيل خدمة الناس، يبقى أقوام كثيرون من التافهين حاقدين وحاسدين .. يتحرّكون على مسرح الأحداث بالدعايات والأراجيف للنّيل منه والسّعي في تشويه سمعته، معتقدين أنّهم أفضل منه، وأنهم هم الأعزة.. تماما كما قالها كبير المنافقين في حقّ رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ وسجّلها القرآن الكريم للتّاريخ: “لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ “.
فضجّ بعض الصحابة عليهم الرضوان، ولكن الرسول فهمها فهما تربويا، لأنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وسلّم ) كان كبيرا (لأنه قدوة) ولذلك لم يرد عليه، لأنّ أصحاب الرّسالات لا يتاثّرون بالهجمات على أشخاصهم ولا يجدون أيّة حاجة للدّفاع عن أنفسهم لإدراكهم أنّ هجمات التّافهين على أشخاصهم تقوّيهم، وأنّ تعرّضهم للنّقد والتّجريح والإساءة والإفتراء.. هو جزء من ضريبة تصدّر الصفوف (راجع مقالاتنا: ضريبة الصّف الأوّل ). وكل قدوة يعلم يقينا أن شخصه الناجح مزعج للفاشلين، ومعرض للهجمات من طرف أصحاب الشهرة المصنوعة لأنه كبير :
- فلا يوجد في التّاريخ كلّه “كبير” لم يهاجمه الصّغار.
- ولا يمكن أن تسلّم الأشجار المثمرة من رشق الأطفال لها بالحجارة.
- وكل من يقف أمام البحر تحدّثه نفسه أن يرميه بحجر.
- وما من شهير إلاّ و “فبرك” له النّاس الإشاعات.
- ولا يوجد إمام لم يقل فيه المصلّون كلاما غير لائق.
- وما من مسؤول إلاّ ونال نصيبه من الجرح دون أن يشفع له التّعديل.
وقد قصّ علينا القرآن الكريم فصولا طويلة من “معاناة” الأنبياء والمرسلين (عليهم السّلام) مع أقوامهم، فما سلم منهم أحد، وكذلك حال (العلماء مع العامة، والدّعاة مع الجماهير، والقادة مع شعوبهم…)فالناس يعشقون التسلق على أكتاف المشاهير..وأصحاب الألسنة الطويلة يحترفون الجرح بلا تعديل في حق القامات العالية. و”الطفل” لا يستطيع أن يرى ما يجري إلاّ إذا رفعه أبوه فوق كتفيه، فإذا إرتفع نسي فضل الوالد وصار يحدثه عن قامته الفارهة!؟
إنّ المشكلة لا تكمن فيمن يفتري على الكبار، فهذه سنَّة من سنن اللّه في خلقه، إنّما تكمن فيمن يريد أن يكون كبيرا – فيدفع ضريبة تصدر الصف الأول- ثمّ يتنازل عن هذا المقام ليناوش الصّغار، أو يرد على إشاعة مسّت شخصه أو شوهت سمعة أحد من أقاربه بحقًّ أو بباطل (أبناؤه، أزواجه، إخوانه، أصدقاؤه، ذوو أرحامه… إلخ) فنزول (أو تنازل) الكبير إلى الصّغار إنتصار لهم، ومطاردة العقلاء للشبهات يشبه صيد الثعالب (وهل رأيت أسدا يطارد الثعالب؟ ! ).
لقد وجّه المنافقون طعنة مسمومة للرّسول (عليه الصّلاة والسّلام) عندما إتهموه في فراشه الطّاهر (بما صار يُعرف بحادثة الإفك)، فهل سخّر وسائل الإعلام للردّ على المرجفين؟ وهل ـ بعد نزول سورة النّور التي كشفت المستور ـ ضبط رسول الله قائمة “الذين جاؤوا بالإفك ” وصفّى حسابهم؟ لا شيء من هذا حدث، إنّما العكس هو الذي أمر به التّوجيه القرآني الكريم في أكثر من 31 موضعا، أهمّها:
- ضرورة تحرير الولاء لله ولرسوله والمؤمنين
- إذا تمت خلخلة الصف فإن العيب فيكم فرصّوا صفوفكم وسدّوا الفرج.
- إذا نجح خصومك في زعزعة صفكم فإن منسُوب الثقة ضعيف بين القيادة وقواعدها فقوُّوه.
- إذا دبَّ الخلاف فإن الأخلاق الإجتماعية فيها ثغور مفتوحة فسارعوا بسدّها.
- التبرّج آفة فلتحتجب نساؤكم إلاّ عن المحارم.
- لا تنتقموا ممّن كان سببا في هذه الأراجيف، وليستمر الخير والعطاء فيكم :
“ألا تحبّون أن يغفر اللّه لكم”..إلخ.
إذا كنت كبيرا، أو تريد أن تكون كبيرا، فلا تردّ على الصغار، ولا تحمل الحقد على أحد، فإنه لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب..وتجاهل ما يقال فيك، فالنّاس قد يُخدَعون لبعض الوقت ولكنّهم ــ إذا كثرت الإشاعات وتنوّعت الدّعايات والأراجيف ــ فإنهم سوف يكتشفون حقيقتين هما أبلغ ما سوف يخدمك به خصومك مجانا ويكسبك أعداؤك بغبائهم وحقدهم عليك المزيد من الإحترام والتّقدير وحبّ النّاس لك و” ندامة ” من كان مكلّفا بمهمّة مهاجمتك وتشويه سمعتك، وهما :
- أنّ تجاهلك لخصومك بعدم الردّ عليهم يقتلهم معنويا.
- أنّ إنصرافك إلى تنفيذ برنامجك هو أفضل ردّ في الميدان.
ونصيحة الحكماء لي ولك قيدها أحد الشعراء في بيت حكيم، فاحفظه وأعمل به تسلم وتغنم، يقول الشاعر :
إذا نطق السفيه فلا تجبه *** فإن خير إجابته السكوت
فالشّهرة المطبوعة – مثل القدوة الموروثة تماما – لها ثمن باهض، ولها تكلفة مرتفعة جدا..ولذلك لا ينبغي أن تهتمّ ــ إذا كنت تسير في صدارة الصّف ــ بكثرة الإلتفات إلى الصّائحين والنّائحين والصّافرين والمصفّقين، فضجيج هؤلاء يشبه هتافات المعجبين والمشجّعين إذا فقه “القائد” قاعدة ذهبية تقول: “كلّما علا الضّجيج دلّ على الفراغ”، فكلّ فارغ له صوت مخيف بينما الملآن يقدّم لك الحساب أفعالا لا أقوالا.
فاحذر من الوقوع في ثلاث هنّ رأسمال كلّ قدوة وعصمته كلّ سقوط :
- إحذر أن ترد على تافه فتكون كمن ينثر الدرر على رؤوس الخنازير.
- واحذر أن تكثر من الإلتفات، فالظبي أسرع ولكن تثنيه كثرة الإلتفات.
- واحذر أن تدخل في جدل (أو مراء) مع “مأجور” فالكلب الذي يصطاد لصاحبه يخونه إذا إختلى بالطريدة، فلا تكن أنت الطريدة..
وكم نفعني الله – بعد القرآن والسنّة وسيّر الصالحين- ببيتين من درر شعر الحكمة جعلتهما مبدأ لمعاملات السفهاء الذين يحبون أن يبنوا مجدهم على أكتاف الرجال، فكنت أعاملهم – فعلا لا كلاما- بقول الشاعر :
يخاطبني السفيه بكل قبح *** فأكره أن أكون له مجيبـا
يزيد سفاهة فأزيد حلمــا *** كعود زاده الإحراق طيبا
وإذا كنت من الذين أبتلاهم الله بالإشاعات والأراجيف وكثرت حولهم الزنابير (الباحثين عن الشهرة بلدغ من طاولهم قامة) فلذ بالصّمت واضرب حول نفسك ستارا من الغموض “فالنّاس يأسرهم الغموض ” وأغلق منافذ الابتذال في وجوه التافهين “فالأمة المجاهدة لا تعرف الضحك “، واجعل دائما هامشا لعدم الشّعور بالأمن، فلا تبقى طول الوقت مسترخيا، ولا ظاهرا، ولا مطيلا للمكوث مع من تعوّدوا تزجية أوقات فراغهم بصحبتك، وتوارى عن الأنظار لبعض الوقت لتتفرّغ لحاجة نفسك وإنجاز المهم من الأشياء، ولا تكثر التردد على بيوت الناس..وباعد بين الزيارات “زرْ غبّاَ تزدد حبّا”، ولا بأس من التبسّط مع إخوانك في المناسبات إذا كان المزاح “فاصلا ترويحيا” بين نشاطين، واحذر من الإكثار في كل شيء.. فالكثرة قاتلة إلاّ في الذكر والدعاء..
- فائدة عظيمة : الهيبة يقتلها الإلف، وقد رأيت أطفالاً من ذراري المسلمين يتنذّرون بالشيخ الفلاني لأنّه مازحهم، وينكتون عن الداعية الفلاني لأنّه أجلسهم إلى مائدة الطعام بجواره تواضعا منه، فخرج هؤلاء الأطفال يتحدّثون أمام النّاس عن “عادة” الشيخ في الأكل، وعن طاقم أسنانه الذي خلعه للتنظيف، فسقطت هيبته، لأنّه لم يراع مقامه. (فالأسود لا تلاعب الثعالب).
إنّ علماء البلاغة عندنا يقولون “لكلّ مقام مقال ” وللنّاس مقامات يجب أن تُحفظ ليس كبْرا ولا تكلّفا (فالله يمقت الكبْر ويكره التكلّف).. وإنّما ”
إنزال النّاس منازلهم ” وتذكر التوجيه النبوي القويم في حقّ الأطفال ــ إذا تجاوزوا العشر سنوات – بأن “نفرق بينهم في المضاجع” لأن للناس إذا ناموا عورات، والعالم القدوة قد يغفل وقد يتبسط وقد يتحدّث إلى “خاصته” من الكبار – في حضرة الصغار- فتكون له عورات يجب حمايتها وسترها لاسيما عند ثلاث: الطعام، والكلام، والمنام.
وأخيرا، تذكر شيئا مهمّا في حياتك، إذا كنت تريد أن تصبح كبيرا فلا تجعل أعداءك صغارا فالعداوات كالصداقات إنما تقوم بين النظراء في السلم “المرء على دين خليله” وفي الحرب : “أخرجوا لنا نظراءنا”، فقوة أعدائك من قوتك، وكثرة خصومك دليل على علوّ همّتك، فصاحب الطّموح الكبير له أعداء كبار من الأوزان الثقيلة.
وإلى القاعدة السابعة
حبُّ الظهور مطيَّة للقبور
ينقله لكم الشيخ أبو جرة سلطاني
تناولنا في الحلقة الرابعة مسألة عدم الرد على المهاجمين، والسكوت عن السفهاء، وعدم التنازل لمن يتخذون المشاهير سُلّما يصعدون عليه إلى قمة موهومة، وبيننا أن السكوت عنهم يقتلهم، وأن عدم الإلتفات إليهم يردهم إلى حجمهم الحقيقي، وعدم ذكرهم بخير أو بشر في أي مجلس يقوض أحلامهم، وأن على “الشخصية العمومية” أن تترفع عن الرد على الشتيمة بالشتيمة لأن “لعبة الكبار” لا يقبل أصحابها تضييع الوقت في الرد على نهازي الفرص، أو تبديد الجهد مع الصغار، وكل ذلك شرحناه في القاعدة السادسة.
7- حبّ الظهور
وهي القاعدة السابعة من قانون التحكم والسيطرة على زمام القوة، وهي – كما سوف تلاحظ- من أخطر المزالق التي يتردى فيها كثير من الناس، خاصة المسؤولون وذوو الطموح المتضخم، لخمسة أسباب تتكرر في حياة الناس ولا يستوعب إلا القليلون دروسها المدمرة، وهي :
- إعتقاد البعض أن وجودهم ضروري للحياة كالماء والهواء.
- مرض الأنانية المتضخمة التي تريد أن يخدمها الناس جميعا.
- المزاحمة على الصف الأول بلا مؤهلات، وحب الوقوف تحت الأضواء.
- النظر إلى كل منافس على أنه عدّو لابد من “تصفيته” بأية وسيلة.
- الإعتداد بالرأي ورفض كل رأي مخالف ولو كان فيه خير العباد والبلاد.
ويجب أن نعترف – منذ بداية الحديث عن قاعدة حب الظهور بأن أصحاب هذا النزوع المنحرف يعانون من عقدتين خطيرتين إحداهما يعرفها الناس من ممارسات وسلوكيات صاحبها والأخرى لا يمكن الكشف عنها إلاّ عندما تسقط هيبة الباحث عن الشهرة ويكتشف الناس حقيقته، وهاتان العقدتان هما :
- عقدة الإستعلاء، التي تجعل صاحبها يعتقد أنه فوق الزمان وفوق المكان والإنسان وأن الناس جميعا خُلقوا لخدمته، فإذا نطق وجب عليهم أن يسكتوا وينصتوا، وإذا دخل وجب عليهم أن
يقوموا له إحتراما وتقديرا وتبجيلا.
.فهو “
محور” الجماعة وقطبها الأوحد..بل هو محور الكون!
- وعقدة الدونية، التي يحسّ صاحبها بأنه دون مستوى الناس ذكاء وخبرة وفطنة وحظاّ..وأن عليه أن يمثل دور الإنسان الكامل، ويتصنّع هذا الدور.. حتى يستر نقصه ويحجب عن الناس هزالة..فتراه يزاحم الكبار بلا زاد.
في الحالات العادية للإنسان السّوي يعيش المصاب بواحدة من هاتين العقدتين “واقعة” ويتكيف مع ظروفه، أما لدى صاحب نزعة حب الظهور فالتناقض الحاصل في بنية هذه الشخصية يستثير الإعجاب من جهة والغرابة من جهة أخرى بسبب ما يصدر عن صاحب هذه العقدة من تصرفات مريبة :
- فظاهره يوحي بالقوة والتمكن والقدرة لكن باطنه عارٍ من كل هذه المظاهر الخداعة، فهو ضعيف وجبان وفازع ورعديد وقليل الحيلة والقدرة والكفاءة..
- تصرفاته الظاهرة توحي بأنه واثق من نفسه وقادر على القيادة والإنجاز لكنه إذا إصطدم بحاجز إنكشفت عوراته وافتضحت سوءاته.
- خطابه يتصنع فيه القوة ويرفعه فوق ما يجب ويغطيه “بمحفوظاته” فإذا جلست تناقشه في التفاصيل والأعماق وجدته أفرغ من جوف أم موسى ولكنه، مع كل هذه العيوب، يصر على التمسك “بحقه” في التصّدر والظهور واحتكار الحقيقة وجلجلة الخطاب وفرض الرأي..وتجده حريصا على مرافقة “الكبار” والتحدث باسمهم وانتحال شخصيتهم..لأنه يعيش طول حياته على الجثث والجيف ويعتاش بصيد الآخرين، ويحب أن يحمد بما لم يفعل، وأغرب ما فيه أنه يدعي العلم بكل شيء، والسبق إلى كل شيء..وأنه صاحب الفضل على الجميع، وأنه أحرص الناس على المصلحة وأولى الناس بتصدر المحافل..
هذه النماذج من الناس نحتاج أن نفهم نفسيتهم فهما مستبطناً قبل أن نخالطهم، لأن خلطتهم تكتسي خطرين مدمرين هما :
- التسلقية، التي تجعل أكتاف الرجال في خدمة الأغراض الشخصية لهم، وليست في خدمة المبادئ والثوابت والقيم التي يتطلع إلى إنجازها الكبار.
- والتدميرية، التي يجتهد صاحبها في زرع الأحقاد بين المتنافسين، لأن المصاب بإزدواجية العقد (عقدة الإستعلاء المفتعل وعقده الدونية الحقيقية) لا يملك مقومات المنافسة الشريفة فيلجأ إلى الدسيسة والخديعة والوقيعة بين الناس، وشراء الذمم..وإيغار الصدور..ليضرب هذا بهذا، ويشيع داخل الصف ثقافة “أنا خير منه” ويدفع الناس للحديث عن إنجازاته الوهمية ومآثره ويده البيضاء على المجتمع..حتى إذا تناقلت أخباره وسائل الإعلام دخل في مفهوم “الأحاديث الموضوعة” ونُسجت حوله الأحاجي والأساطير الشعبية..تماما كما حدث مع الشخصيات الخرافية التي ينسب إليها الخيال الشعبي كل المكبوتات التي تحدثت عنها الملاحم الوهمية في سيرة بني هلال، وسيف بن ذي يزن، وألف ليلة وليلة..إلخ.
كيف نعالج هذه الظاهرة؟
إن التحليل النفسي لسيكولوجية هذه الشخصيات – وما أكثرها في كل الصفوف- تقودنا إلى مصطلح النرجسية أو البطولات الوهمية للأنا” المتضخم التي ينسجها خيال بعض الذين يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فهم