الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آل بيته الأطهار وصحابته الأخيار.
أمّا بعد :
فهو رائد الحركة الإصلاحية والنهضة في الجزائر وأب الثورة الجزائرية الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس بن المصطفى بن مكي بن باديس ولد في ستة 1308هــ الموافق ل 1889 م في مدينة قسنطينة وتوفي في 8 ربيع الأول 1359 هـ الموافق ل 16 أفريل 18.
ـ1 ـ محاولته الإصلاحية
تتمحور الإصلاحات التي قام بها الشيخ عبد الحميد بن باديس في إصلاح الشخصية الوطنية والهوية الجزائرية.
فمن خلال نظرة سريعة على الأوضاع السائدة وقت ظهور ابن باديس ، يتبين لنا أن المستعمر قد قام بطمس معالم الشخصية الجزائرية، من خلال فرنسة الإدارة والتعليم الذي أنشأه خصيصا لأبناء رعاياه ، وغلق مؤسسات التعليم الوطنية التي كانت تعلم الثقافة العربية، والإسلامية وشد الخناق على الدين الإسلامي وعلى اللغة العربية واعتبراها لغة أجنبية ، وتم ذلك بتدمير الممتلكات الثقافية وتخريب المكتبات وهدم المساجد أو تحويل وظيفتها ، والاستلاء على مواد الأوقاف، التي كانت تغذي التعليم ، فكان من نتائج ذلك انتشار الجهل والأمية والانحراف عن الدين، الجمود الفكري، وذيوع الخرافة وذوبان عناصر ومقومات الشخصية، مما أدى إلى تنكر فئة من أبناء الوطن إلى أصالتهم ووطنهم ودعوتهم إلى الاندماج .
أولا : أهداف الإصلاح عند عبد الحميد بن باديس :
يقول ابن باديس : " إن الذي نوجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح وتقويم الأخلاق " ( الحركة الإصلاحية ص 21 ).
ـ تكوين أجيال مستنيرة مؤمنة قوية قادرة على النهوض بالوطن وتخليصه من كل إشكال التخلف والركود وتحريره من الإستعمار.
ـ التربية الصحيحة: تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق.
ـ تأهيل الجزائري وتنمية قدرته العقلية والاجتماعية والأخلاقية.
ـ نشر العلم والمعرفة وتثقيف الناس وإيقاظ وعيهم، وتحرريهم من ضعفهم، وزرع الأمل في نفوسهم.
ـ بعث اللغة العربية التي كادت تفقد مقومات صيانتها وتعليمها وترقيتها والسعي إلى جعلها وسيلة لبناء الشخصية الوطنية.
ثانيا : وسائل الإصلاح عند عبد الحميد بن باديس :
ـ أهم هذه الوسائل هي: المسجد والمدرسة والصحافة.
ـ إنشاء جمعية العلماء المسلمين في 1931 وهو مجلس علمي لتنشيط الحركة الإصلاحية بالجزائر وتنهض بأعباء الإصلاح والإرشاد والدعوة الإسلامية والتوعية السياسية
ـ إنشاء هيئة إعلامية : الإدارة المشرفة على الصحافة وهيئة تربوية : جمعية التربية والتعليم الإسلامي.
ـ إحداث شعب لجمعية العلماء في مناطق الجزائر.
ـ إنشاء النوادي الخاصة بالشباب، وتنظيم تعليم خاص بهم وللبنات والنساء.
ـ إنشاء فرق الكشافة الإسلامية .
ـ تأسيس صحافة خاصة بالحركة الإصلاحية تنقل للقراء الأفكار الإصلاحية وتطلعهم على سياسة الاستعمار وقوانينه الجائرة مثل جريدة الشهاب، المنتقد ، جرائد الجمعية : البصائر ، الصراط ، السنّة والشريعة.
ثالثا : طرق الإصلاح عند عبد الحميد بن باديس :
يقول ابن باديس: " الأمة التي لا تحترم مقوماتها من جنسها ولغتها ودينها وتاريخها لا تعدّ أمة بين الأمم ، ولا ينظر إليها إلا بعين الاحتقار " ( إمام الجزائر ص 56 ) .
لذا فقد ركز في إصلاحاته على ثلاث محاور رئسية هي:
ـ أ ـ الجانب الثقافي والتربوي: اللغة والتعليم .
ـ ب ـ الجانب العقائدي : الدين.
ـ ج ـ الجانب السياسي : الوطن.
وهذه المحاورالثلاث كانت شعار جمعية العلماء المسلمين التي أنشأها ابن باديس: " الجزائر وطننا الإسلام ديننا والعربية لغتنا " .
ـ أ ـ الجانب الثقافي والتربوي: اللغة والتعليم .
يقول الشيخ ابن باديس : " لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم .... ولن يصلح العلماء حتى يصلح تعليمهم " ( الحركة الإصلاحية ص 26 )
ـ كان الشيخ العلامة يرحل في نشر العلم في مختلف مناطق الوطن.
ـ كان يهدف إلى تعليم طلبة العلم والعامة بمختلف أصنافهم ( كبارا وأطفالا ونساء ) .
ـ مكافحة الأمية التي فرضها المستعمر على الشعب الجزائري.
ـ إنعاش مؤسسات التربية ( الكتاتيب القرآنية ، والمساجد، والمدارس الإسلامية ).
ـ أنشأ أول مدرسة حرة : المكتب العربي : سنة 1926 ( مدرسة ابتدائية ) .
ـ إنشاء المدارس الحرة حيث بلغت 150 مدرسة تحوي 150 ألف تلميذ ، وقد كانت قبل ذلك 3 مدارس فقط وتحت تصرف المستعمر.
ـ كانت هذه المدارس تدرس اللغة العربية وأصول الدين الإسلامي وتاريخ الجزائر والإسلام.
ـ تجديد وسائل وطرق التعليم الإسلامي وإصلاحها .
ـ إعداد المدرسين لتعليم مبادئي القراءة وتحفيظ القرآن الكريم.
ـ تجديد نشاط المساجد التعليمي في كافة أنحاء الوطن.
ـ إنشاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية سنة 1931 والتي كانت تهدف إلى نشر الأخلاق الفاضلة والمعارف العربية والصنائع اليدوية بين أبناء وبنات المسلمين.
ـ إرسال البعثات التربوية إلى الخارج لإبقاء صلة المهاجرين بدينهم وعدم الذوبان.
ـ إحياء رسالة المسجد بتنظيم دروس تعليمية تثقيفية للعامة والخاصة.
ـ التعليم المسجدي : تدريس لبعض طلبة العلم كتاب الشفاء وللعامة دروس الوعظ والإرشاد وتعليم الصغار القرآن العظيم .
ـ قام بعقد مؤتمر سنة 1937 لكافة المعلمين في مدارس الجمعية حول منهجية التعليم والتربية ولدراسة الوسائل والأساليب والكتب والعلم في المساجد.
أما فيما يخص اللغة فيقول الشيخ العلامة : " ولا رابطة تربط ماضينا بحاضرنا الأخر والمستقبل السعيد إلا بهذا الحبل المتين : اللغة العربية لغة الدين ، لغة الجنس، لغة القومية : ( إمام الجزائر ص 77 ) .
ـ نشر اللغة عن طريق العلم والتعليم في المدارس الحرة التي أنشاها وكذا من خلال تفسير القرآن الكريم.
ـ ترقية أساليب تعليم اللغة العربية.
ـ ب ـ الجانب العقائدي : الدين.
ـ عمل على تطهير العقائد من الشرك الذي أرسى أطنابه على غالبية الشعب الجزائري.
ـ قام من خلال الجمعية بمحاربة الآفات الاجتماعية ( الخمر ، الميسر، البطالة ).
ـ محاربة الطرقية التي كانت تدعو إلى عبادة القبور والتواكل وإنكار حرية الإرادة ونشر العقائد الباطلة وبالتالي تشويه الإسلام وتحطيم القيم الأخلاقية الإسلامية، وذلك من خلال فضحهم عن طريق الصحافة وغيرها .
ـ ومحاربتهم عن طريق نشر العلم والعقيدة الصحيحة ومذهب السلف ومحاربة الشرك.
ـ كان ينكر على الطريقة العلوية وشيخها المتهم بالحلول ووحدة الوجود وعلى الشيخ ابن عليوه لسوء أدبه مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والحلول .
ـ كما قام بتفسير القرآن في خمس وعشرون سنة للعامة في دروس مسجدية.
ـ تعليم القرآن الكريم للنشء: يقول ابن باديس :" فإننا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن ...وغايتنا التي ستتحقق أن يكوّن القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم ، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق الأمة آمالها ( الحركة الإصلاحية ـ ص ـ 28 ).
ـ ج ـ الجانب السياسي : الوطن.
يقول الشيخ ابن باديس : " ...والنسبة للوطن توجب علم تاريخه والقيام بواجباته من نهضة علمية واقتصادية وعمرانية والمحافظة على شرف اسمه وسمعته " ( إمام الجزائرص57 ) .
ـ محاربة التفرقة بين الجزائريين : يقول الشيخ ابن باديس في كلمته المشهورة : " ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان " ( الحركة الإصلاحية ص 23).
ـ كما أعلن حربا لا هوادة فيها على دعاة الاندماج ، يقول : " أنّ هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا ولا يمكن أن تكون فرنسا ولا تستطيع أن تكون فرنسا ولو أرادت " ( الحركة الإصلاحية ص 40).
ـ أصدر فتوى بتكفير كل مسلم جزائري تنازل عن قانون الأحوال الشخصية الإسلامي والاندماج أو التجنس بالجنسية الفرنسية .
ـ قام في العديد من المرات بمحاورة دعاة الإدماج.
ـ طالب النواب الجزائريين بمقاطعة البرلمان يقول: " حرام على عزتنا العربية وشرفنا الإسلامي أن نبقى نترامى على أبواب برلمان أمة ترى أكثريتها ذلك كثير علينا ( الحركة الإصلاحية ص41).
ـ الدعوة إلى مقاطعة الاحتفالات الفرنسية مناسبة الذكرى المئوية لاحتلال قسنطينة.
ـ قام بالتصدي لكل سياسة ترمي إلى التنصير والفرنسة.
ـ الردّ على من شكك في أصالة الشعب الجزائري من خلال إدعاء أن الجزائر لا انتماء لها ، وتارة بأن سكانها الأصليين هم " الغال" أي الأصل الذي ينتمي إليه الفرنسيون، وتارة يعترفون بالأُصل الأمازيغي ويجعلونه أقرب للحضارة الأوربية .
ـ كما يعتبر الشيخ الإمام غارس بذور الثورة الجزائرية ، فمن أقواله التي كان يصدع بها : " أيها الشعب إنك بعملك العظيم الشريف برهنت على أنك شعب متعشق للحرية هائم بها ، تلك الحرية التي ما فارقت قلوبنا منذ كنا الحاملين للوائها، سنعرف في المستقبل كيف نعمل وكيف نحيى من أجلها ( إمام الجزائر ص 32 ).
وقال أيضا: " فما عهدنا الحرية تعطى إنما عهدنا الحرية تؤخذ، وما عهدنا الاستقلال يمنح ويوهب، وإنما عهدنا الاستقلال ينال بالجهاد والاستماتة والتضحية (إمام الجزائر ص 132).
ـ 2 ـ المواجهات التي اصطدم بها الشيخ الإمام :
ـ عان الشيخ الإمام الكثير من دسائس ومؤامرات خصومه والمتمثلين في :
ـ الحكومة الفرنسية.
ـ دعاة الإدماج المتشبعون بالثقافة الفرنسيين.
ـ العلماء الموظفين في السلك الديني الموالين للاستعمار.
ـ أصحاب الطريقة.
فقد تعرض الشيخ الإمام إلى شتى من أنواع المضايقات والمساومات والاعتداءات الجسدية وغيرها من طرف هؤلاء والمتمثلة أساسا فيما يلي :
أ ) ـ العلماء الموظفين في السلك الديني الموالين للاستعمار.
ـ منع في بداية دعوته من التدريس من طرف هؤلاء.
ب ) ـ الحكومة الفرنسية:
ب1 ) ـ المواجهات المباشرة :
ـ مساومته بالولاية العامة لحل جمعية العلماء أو التخلي عن رئاسة جمعيتها .
ـ مساومته على التخلي عن رئاستها بدعوى أنه رجل نبيل الأصل من أمجد الأسر الجزائرية وأشرفها بينما بقية الأعضاء رعاع لا أصالة ولا مكانة لهم في المجتمع.
ـ مساومته على الاستقالة من منصب رئيس الجمعية مقابل تقديم إعانة مالية لعائلته التي كانت تعيش ضائقة مالية حادة وهذا بحضور أبيه وفي مكتب مدير الولاية العامة.
ـ حاولوا التأثير عليه من قبل أبيه من خلال عروض مغرية: تعينه في أكبر منصب ديني.
ـ حرضت الطرقيين على إحداث انقلاب داخل مجلس الجمعية عند تجديده .
ب2 ) ـ المواجهات الغير مباشرة :
ـ عرقلت الحكومة إنشاء شعب جمعية العلماء المسلمين التي أسسها الشيخ ابن باديس.
ـ إغلاق مدارس جمعية العلماء.
ـ ملاحقة المعلمين في هذه المدارس ومنعهم من دخول المساجد الرسمية لإلقاء الدروس والوعظ.
ـ فرضت فرنسا على كل معلم في التعليم الحر إصدار رخصة وإلا تعرض للغرامة والسجن، ولقد حوكم العديد من المعلمين وأدخلوا السجون.
ـ مصادرة الجرائد التي كان يصدرها وكذا جرائد الجمعية.
ـ محاولة قتل الشيخ الحبيباتني ، لاتهام الشيخ بذلك ليتسنى لهم إلقاء القبض على الشيخ ابن باديس ، وتشويه صورة علماء الجمعية.
ـ تشويه صورة علماء الجمعية في 1936 من خلال قتل مفتى الجزائر.
ب ) ـ مشايخ الطرق:
ـ قرر العلويين الفتك بالشيخ العلامة ابن باديس ، فعقدوا اجتماع في مستغانم واتفقوا فيه أن يغتالوا الشيخ المصلح في مساء 9 جمادي 1341 هـ، فأرسلوا من ترصد له فضربه بهراوة وأصابه بضربتين على رأسه وصدغه فشج رأسه وأدماه وكاد أن يضربه بخنجر لولا عناية الله (إمام الجزائر صفحة 40).
ـ سلاح السب والشتم من خلال جريدة البلاغ للشيخ ابن عليوة وجريدة المعيار.
ـ التشويش وإثارة الفتن بين العلماء والقيام بإنشاء جمعية " السنّة " لمضادة جمعية العلماء المسلمين .
وكتبه أبو جابر الجزائري
المراجع :
ـ الحركة الإصلاحية في الفكر الإسلامي المعاصر ( الكتاب الثالث ) محمد طهاري، دار الأمة الطبعة 1999/1.
ـ إمام الجزائر ، د. عبد القادر فضيل ومحمد الصالح رمضان، دار الأمة بدون تاريخ طبع.
ـ من أعلام الإصلاح في الجزائر ( الجزء الأول ) محمد الحسن فضلاء ، دار هومه بدون تاريخ طبع.
"إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت بل هي أمه بعيده عن فرنسا كل البعد في لغتها وفى أخلاقها وفى عنصرها وفى دينها"..
" إننا نعتصم بالحق ونعتصم بالتواضع عندما نقول إننا شعب خالد ككثير من الشعوب، لكنا ننصف التاريخ إذا قلنا: إننا سبقنا هذه الشعوب في ميادين الحياة.... وعلينا أن نعرف تاريخنا فمن عرف تاريخه جدير بأن يتخذ لنفسه منزلة لائقة في هذا الوجود، ولا رابطة تربط ماضينا المجيد بحاضرنا الأعز ومستقبلنا السعيد إلا هذا الحبل المتين: اللغة العربية.. لغة الدين.. لغة القومية.. لغة الوطنية.
إنها وحدها الرابطة بيننا وبين أحفادنا الميامين، هي الترجمان عما في القلب من عقائد وما في العقل من أفكار وما في النفس من آمال وآلام.". هذه بعض أقوال عبد الحميد بن باديس أبو الثورة الجزائرية ورايتها ورمز هويتها... مؤسس "جمعية العلماء المسلمين"، العالم القرآني.. المفكر المناضل العروبى الإسلامي السلفي المعتزلي.. وهي صفات لا تحمل أي قدر من المبالغة في وصف هذا الرجل الذي امتدت رحلة عمره القصيرة (51عاماً.. 5 -12-1889م - 16-4-1940م).. وبحسب مصادر كثيره فإن وفاته يرجح أنها كانت اغتيالاً..
كانت نشأته في بيت من بيوت العلم والشرف والثروة في مدينة "قسنطينة"، وهو ما هيأه مبكراً للاضطلاع بدوره التاريخي في أحلك فترة من فترات التاريخ على العروبة والإسلام في الجزائر.. أتم حفظ القرآن وهو في الثالثة عشرة من عمره، ودرس علوم العربية والإسلام على يد شيخه وأستاذه "أبو حمدان الونيسي" في مسجد سيدي محمد النجار، الذي أخذ عليه عهداً ألا يعمل بوظيفة حكومية تحط من كرامته وتقيد حريته..
ثم ذهب إلى تونس سنة 1908م، حيث درس على يد اثنين من العقول النيرة في دنيا الفقه والفكر والأدب الشيخ "الطاهر بن عاشور" والشيخ "الخضر حسين" الذي أصبح شيخاً للأزهر، ثم عاد إلى الجزائر سنه 1912م بعد أن حمل شهادة "التطويع"..
كان الشيخ "أبو حمدان الونيسى" الذي لم يحتمل رؤية الجزائر وهي تسلخ من هويتها بهذه البشاعة والقسوة قد رحل إلى المدينة المنورة مهاجراً؛ إذ إن الحكومة الفرنسية كانت قد أصدرت قراراً عرف باسم "سانتوس كونسلت" الذي يجعل الجزائريين رعايا فرنسيين يحملون الجنسية الفرنسية، بشرط عدم الخضوع لقانون الأحوال الشخصية الإسلامي.. ويبدو أن فكرة الهجرة كادت تقترب من رأس صاحبنا، فسافر بالفعل وهو في السابعة والعشرين (1912م) إلى المدينة ليلتحق بشيخه، لكن الله قيض له من نصحه نصيحة العمر، وهو الشيخ "حسين أحمد الهندي" فقال له: "لا تترك وطنك واجتهد في خدمه دينك وعد إلى ديارك". ومر في طريق عودته بالشام ومصر التي قابل فيها الشيخ "محمد بخيت" بتوصية من شيخه "الونيسي" الذي منحه بدوره إجازة علمية من الأزهر، وعاد إلى بلاده وهو يحمل بين جنبيه مشروعاً متكاملاً لإنقاذ هوية وطنه، العربية والإسلامية من بين أيدي وأنياب أشرس استعمار عرفته الإنسانية في تاريخها كما يقول الدكتور حسين مؤنس يرحمه الله..
فكان مشروع "جيل يمتلك فكرة صحيحة ولو مع علم قليل".. تنحسر مهمة هذا الجيل في الحفاظ على الهوية والتمهيد للاستقلال، وتهيئه الطريق لجيل التحرير المنشود.. وبدأ الحرث والغرس من فوره، وفى خلال ثمانية عشر عاماً كان النبت قد استوى واستوفى.. ففي 5-5-1931م عقد مؤتمر كبير في العاصمة الجزائرية حضره علماء الجزائر وفقهاؤها ومثقفوها، واستمر لمدة أربعة أيام ويعلن قيام "جمعية علماء المسلمين"، وتم انتخاب ابن باديس بالإجماع رئيساً لها في غيابه.. ويتزامن ذلك مع مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسي للجزائر (14-6-1830م) الذي احتفت به سلطات الاحتلال بشكل هائل ،وقرروا أن تمتد الاحتفالات بهذه المناسبة لمدة ستة أشهر، ولكن رياح المقاومة التي بدأت تنتظم في هيكل وقيادة أوقفتها بعد مرور شهرين فقط..
حددت الجمعية أهم هدف لها وهو الحفاظ على عروبة وإسلامية الجزائر، حتى إذا ما تجاوز خطر (السلخ) من العروبة والإسلام الذي سخرت له فرنسا كل إمكاناتها.. يأتي الدور على الأجيال المحصنة ثقافياً وقومياً لحمل السلاح وتحرير كامل الوطن الجزائري.. وبدأت الجمعية من فورها في تأسيس الكتاتيب والمدارس وإحياء الدور التعليمي للمسجد.. وأدرك الفرنسيون خطورة هذه الخطوة فبدؤوا في التضييق عليه..
ومن أطرف ما يحكى في ذلك: أنه لما قامت الجمعية بتطوير الأساليب القديمة في الكتاتيب صدر قرار بإلغاء تراخيصها؛ لأنها مخالفة للقانون الذي يحتم أن يحوي الكتاب "حصيرة" و"عصا" و"فلقة"..!
على الرغم من أن أغلب الطرق الصوفية في مصر "مغاربية" الهوى الشاذلى والمرسى فقد كان للحركات الصوفية في مصر دور كبير في مواجهة الغزو الخارجي بكل أشكال المواجهة.. إلا أن الأمر لم يكن كذلك في التجربة الجزائرية وتحوي صفحات التاريخ تفاصيل كثيرة عما كان بين "جمعية علماء المسلمين" والطرق الصوفية التي كانت تسمى "الطرقية".
ورأى "ابن باديس" أن الطرقية يقومون بدور خطير في شل همة الأمة وإرادتها المستمدة من الإسلام حين أشاعوا بين الناس أن "الاندماج في فرنسا امتثال لإرادة الله.. وإذا أراد الله أن يكسح الفرنسيين من هذه البلاد لفعل، وهو على كل شيء قدير" وطبيعي أن يلقى هذا الخطاب الموغل في الانهزامية ترحيباً كبيرًا من الفرنسيين؛ إذ إنهم بذلك "يحطبون" في حبالهم ويصبون في أوانيهم، وسجل التاريخ هنا نقطة غير مضيئة للحركات الصوفية في هذا التعاون مع المحتل الذي تبدى في صورة خصومة معلنة مع "جمعية العلماء"، واعتبر ابن باديس هذه الخصومة موقفاً مبدئياً لا مساومة حوله، ورفض كل محاولات المصالحة التي تدخل في إحداها بعض علماء الأزهر، إلا أنه أعلن بحسم أنه "لا أمل في مثل هذه المصالحة"..
وانتهت تلك المواجهة مع الطرقية لصالح الجمعية، وانحسر بالفعل التأثير السلبي للطرقية بين جموع الشعب الجزائري، وظلت صورة "الإسلام المقاوم للفرنسة" حاضرة في وعي الناس.
لن ندهش حين نعلم أن الشيخ عبد الحميد بن باديس لم يجعل جهاده ونضاله مجرد رد فعل لغزو أجنبي، بل كان مشروعاً إصلاحياً بالأساس.. ويبدو أن محطة تفسير القرآن الكريم أغرت كل المصلحين العظام بالوقوف عندها (محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا) وعلى الدرب نفسه إلا قليلاً سار ابن باديس.. فكان يلقي دروس التفسير يومياً وعلى مدار 25 عاماً في الجامع الأخضر بقسنطينة.
كانت الصحافة أيضاً ميداناً فسيحاً صال فيه الشيخ وجال، فأصدر عام 1925م جريدة "المنتقد" الذي كتب في افتتاحيتها "باسم الله، ثم باسم الحق والوطن ندخل عالم الصحافة العظيم.." ويبدو أن "عالم الصحافة العظيم" هذا كان وقتها كالإنترنت والفضائيات في أيامنا.. لم يصدر من "المنتقد" سوى 18 عدداً وأوقفها الاحتلال. بعدها أصدر "الشهاب" سنة 1926م التي كانت فكرية الطابع، وتؤكد على ربط الواقع بالدين... فيكتب في أحد أعدادها ما اشتهر ب "الوصايا الثلاث":
كن صادقاً في معاملاتك بقولك وفعلك.
كن عصرياً في فكرك وعملك وتجارتك وصناعتك وفلاحتك وتمدنك ورقيك.
احذر الخيانة المادية في النفوس والأعراض والأموال، والأدبية ببيع الذمة والشرف والضمير.
سنة 1936م ذهب إلى باريس مع وفد من الجمعية لمقابلة وزير شؤون الجزائر الذي هدده بأن لدى فرنسا "مدافع طويلة"، فرد عليه ابن باديس فوراً: "لدينا مدافع أطول"، ويدهش الرجل فيسأله: ما هي؟! فيقول له مقولته الشهيرة "مدافع الله".
وحين عاد إلى الجزائر يأتيه شباب الحركة الوطنية ويطالبونه بإعلان الاستقلال والثورة، فيطالبهم بالتمهل لأن البيت لا يبدأ بناؤه بالسقف قبل الجدران والأعمدة.. ويطالبهم بحسن معاملة المختلفين معهم في الرأي فيوصيهم بأن "من قبل دعوتنا فهو أخ في الله، ومن ردها فهو أخ في الله، فالأخوة في الله فوق ما يقبل ويرد".. وتؤكد الروايات أنه كان ينوي إعلان الثورة على فرنسا في اليوم الذي تعلن فيه إيطاليا الحرب على فرنسا وقت الحرب العالمية الثانية.. ولكن دوماً في آمالنا طول وفي أعمارنا قصر.
"دعوتنا سلام على البشرية لا يخشاها النصرانى لنصرانيته، ولا اليهودي ليهوديته.. ولكن يخشاها الظالم لظلمه، والدجال لدجله، والخائن لخيانته"... كانت هذه الكلمات الرائعات في خطبة للرجل يدشن بها افتتاح مؤسسة تعليمية سنة 1937م، وكان الزرع قد بدأ يستوي على عوده، وقارب زمن القطاف... وكان التسليم والتسلم بين جيل المقاومة الثقافية وجيل المقاومة العسكرية قد بدأ.. ثم لم يلبث الرجل بعدها إلا قليلاً فينتقل إلى رحاب ربه بعد أن غرس في وعي أمته معنى "صون الهوية".. معنى أن تكون عربياً.. معنى أن تكون مسلماً.
أمّا بعد :
فهو رائد الحركة الإصلاحية والنهضة في الجزائر وأب الثورة الجزائرية الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس بن المصطفى بن مكي بن باديس ولد في ستة 1308هــ الموافق ل 1889 م في مدينة قسنطينة وتوفي في 8 ربيع الأول 1359 هـ الموافق ل 16 أفريل 18.
ـ1 ـ محاولته الإصلاحية
تتمحور الإصلاحات التي قام بها الشيخ عبد الحميد بن باديس في إصلاح الشخصية الوطنية والهوية الجزائرية.
فمن خلال نظرة سريعة على الأوضاع السائدة وقت ظهور ابن باديس ، يتبين لنا أن المستعمر قد قام بطمس معالم الشخصية الجزائرية، من خلال فرنسة الإدارة والتعليم الذي أنشأه خصيصا لأبناء رعاياه ، وغلق مؤسسات التعليم الوطنية التي كانت تعلم الثقافة العربية، والإسلامية وشد الخناق على الدين الإسلامي وعلى اللغة العربية واعتبراها لغة أجنبية ، وتم ذلك بتدمير الممتلكات الثقافية وتخريب المكتبات وهدم المساجد أو تحويل وظيفتها ، والاستلاء على مواد الأوقاف، التي كانت تغذي التعليم ، فكان من نتائج ذلك انتشار الجهل والأمية والانحراف عن الدين، الجمود الفكري، وذيوع الخرافة وذوبان عناصر ومقومات الشخصية، مما أدى إلى تنكر فئة من أبناء الوطن إلى أصالتهم ووطنهم ودعوتهم إلى الاندماج .
أولا : أهداف الإصلاح عند عبد الحميد بن باديس :
يقول ابن باديس : " إن الذي نوجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا هو تصحيح وتقويم الأخلاق " ( الحركة الإصلاحية ص 21 ).
ـ تكوين أجيال مستنيرة مؤمنة قوية قادرة على النهوض بالوطن وتخليصه من كل إشكال التخلف والركود وتحريره من الإستعمار.
ـ التربية الصحيحة: تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق.
ـ تأهيل الجزائري وتنمية قدرته العقلية والاجتماعية والأخلاقية.
ـ نشر العلم والمعرفة وتثقيف الناس وإيقاظ وعيهم، وتحرريهم من ضعفهم، وزرع الأمل في نفوسهم.
ـ بعث اللغة العربية التي كادت تفقد مقومات صيانتها وتعليمها وترقيتها والسعي إلى جعلها وسيلة لبناء الشخصية الوطنية.
ثانيا : وسائل الإصلاح عند عبد الحميد بن باديس :
ـ أهم هذه الوسائل هي: المسجد والمدرسة والصحافة.
ـ إنشاء جمعية العلماء المسلمين في 1931 وهو مجلس علمي لتنشيط الحركة الإصلاحية بالجزائر وتنهض بأعباء الإصلاح والإرشاد والدعوة الإسلامية والتوعية السياسية
ـ إنشاء هيئة إعلامية : الإدارة المشرفة على الصحافة وهيئة تربوية : جمعية التربية والتعليم الإسلامي.
ـ إحداث شعب لجمعية العلماء في مناطق الجزائر.
ـ إنشاء النوادي الخاصة بالشباب، وتنظيم تعليم خاص بهم وللبنات والنساء.
ـ إنشاء فرق الكشافة الإسلامية .
ـ تأسيس صحافة خاصة بالحركة الإصلاحية تنقل للقراء الأفكار الإصلاحية وتطلعهم على سياسة الاستعمار وقوانينه الجائرة مثل جريدة الشهاب، المنتقد ، جرائد الجمعية : البصائر ، الصراط ، السنّة والشريعة.
ثالثا : طرق الإصلاح عند عبد الحميد بن باديس :
يقول ابن باديس: " الأمة التي لا تحترم مقوماتها من جنسها ولغتها ودينها وتاريخها لا تعدّ أمة بين الأمم ، ولا ينظر إليها إلا بعين الاحتقار " ( إمام الجزائر ص 56 ) .
لذا فقد ركز في إصلاحاته على ثلاث محاور رئسية هي:
ـ أ ـ الجانب الثقافي والتربوي: اللغة والتعليم .
ـ ب ـ الجانب العقائدي : الدين.
ـ ج ـ الجانب السياسي : الوطن.
وهذه المحاورالثلاث كانت شعار جمعية العلماء المسلمين التي أنشأها ابن باديس: " الجزائر وطننا الإسلام ديننا والعربية لغتنا " .
ـ أ ـ الجانب الثقافي والتربوي: اللغة والتعليم .
يقول الشيخ ابن باديس : " لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم .... ولن يصلح العلماء حتى يصلح تعليمهم " ( الحركة الإصلاحية ص 26 )
ـ كان الشيخ العلامة يرحل في نشر العلم في مختلف مناطق الوطن.
ـ كان يهدف إلى تعليم طلبة العلم والعامة بمختلف أصنافهم ( كبارا وأطفالا ونساء ) .
ـ مكافحة الأمية التي فرضها المستعمر على الشعب الجزائري.
ـ إنعاش مؤسسات التربية ( الكتاتيب القرآنية ، والمساجد، والمدارس الإسلامية ).
ـ أنشأ أول مدرسة حرة : المكتب العربي : سنة 1926 ( مدرسة ابتدائية ) .
ـ إنشاء المدارس الحرة حيث بلغت 150 مدرسة تحوي 150 ألف تلميذ ، وقد كانت قبل ذلك 3 مدارس فقط وتحت تصرف المستعمر.
ـ كانت هذه المدارس تدرس اللغة العربية وأصول الدين الإسلامي وتاريخ الجزائر والإسلام.
ـ تجديد وسائل وطرق التعليم الإسلامي وإصلاحها .
ـ إعداد المدرسين لتعليم مبادئي القراءة وتحفيظ القرآن الكريم.
ـ تجديد نشاط المساجد التعليمي في كافة أنحاء الوطن.
ـ إنشاء جمعية التربية والتعليم الإسلامية سنة 1931 والتي كانت تهدف إلى نشر الأخلاق الفاضلة والمعارف العربية والصنائع اليدوية بين أبناء وبنات المسلمين.
ـ إرسال البعثات التربوية إلى الخارج لإبقاء صلة المهاجرين بدينهم وعدم الذوبان.
ـ إحياء رسالة المسجد بتنظيم دروس تعليمية تثقيفية للعامة والخاصة.
ـ التعليم المسجدي : تدريس لبعض طلبة العلم كتاب الشفاء وللعامة دروس الوعظ والإرشاد وتعليم الصغار القرآن العظيم .
ـ قام بعقد مؤتمر سنة 1937 لكافة المعلمين في مدارس الجمعية حول منهجية التعليم والتربية ولدراسة الوسائل والأساليب والكتب والعلم في المساجد.
أما فيما يخص اللغة فيقول الشيخ العلامة : " ولا رابطة تربط ماضينا بحاضرنا الأخر والمستقبل السعيد إلا بهذا الحبل المتين : اللغة العربية لغة الدين ، لغة الجنس، لغة القومية : ( إمام الجزائر ص 77 ) .
ـ نشر اللغة عن طريق العلم والتعليم في المدارس الحرة التي أنشاها وكذا من خلال تفسير القرآن الكريم.
ـ ترقية أساليب تعليم اللغة العربية.
ـ ب ـ الجانب العقائدي : الدين.
ـ عمل على تطهير العقائد من الشرك الذي أرسى أطنابه على غالبية الشعب الجزائري.
ـ قام من خلال الجمعية بمحاربة الآفات الاجتماعية ( الخمر ، الميسر، البطالة ).
ـ محاربة الطرقية التي كانت تدعو إلى عبادة القبور والتواكل وإنكار حرية الإرادة ونشر العقائد الباطلة وبالتالي تشويه الإسلام وتحطيم القيم الأخلاقية الإسلامية، وذلك من خلال فضحهم عن طريق الصحافة وغيرها .
ـ ومحاربتهم عن طريق نشر العلم والعقيدة الصحيحة ومذهب السلف ومحاربة الشرك.
ـ كان ينكر على الطريقة العلوية وشيخها المتهم بالحلول ووحدة الوجود وعلى الشيخ ابن عليوه لسوء أدبه مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والحلول .
ـ كما قام بتفسير القرآن في خمس وعشرون سنة للعامة في دروس مسجدية.
ـ تعليم القرآن الكريم للنشء: يقول ابن باديس :" فإننا والحمد لله نربي تلامذتنا على القرآن ...وغايتنا التي ستتحقق أن يكوّن القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم ، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق الأمة آمالها ( الحركة الإصلاحية ـ ص ـ 28 ).
ـ ج ـ الجانب السياسي : الوطن.
يقول الشيخ ابن باديس : " ...والنسبة للوطن توجب علم تاريخه والقيام بواجباته من نهضة علمية واقتصادية وعمرانية والمحافظة على شرف اسمه وسمعته " ( إمام الجزائرص57 ) .
ـ محاربة التفرقة بين الجزائريين : يقول الشيخ ابن باديس في كلمته المشهورة : " ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان " ( الحركة الإصلاحية ص 23).
ـ كما أعلن حربا لا هوادة فيها على دعاة الاندماج ، يقول : " أنّ هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا ولا يمكن أن تكون فرنسا ولا تستطيع أن تكون فرنسا ولو أرادت " ( الحركة الإصلاحية ص 40).
ـ أصدر فتوى بتكفير كل مسلم جزائري تنازل عن قانون الأحوال الشخصية الإسلامي والاندماج أو التجنس بالجنسية الفرنسية .
ـ قام في العديد من المرات بمحاورة دعاة الإدماج.
ـ طالب النواب الجزائريين بمقاطعة البرلمان يقول: " حرام على عزتنا العربية وشرفنا الإسلامي أن نبقى نترامى على أبواب برلمان أمة ترى أكثريتها ذلك كثير علينا ( الحركة الإصلاحية ص41).
ـ الدعوة إلى مقاطعة الاحتفالات الفرنسية مناسبة الذكرى المئوية لاحتلال قسنطينة.
ـ قام بالتصدي لكل سياسة ترمي إلى التنصير والفرنسة.
ـ الردّ على من شكك في أصالة الشعب الجزائري من خلال إدعاء أن الجزائر لا انتماء لها ، وتارة بأن سكانها الأصليين هم " الغال" أي الأصل الذي ينتمي إليه الفرنسيون، وتارة يعترفون بالأُصل الأمازيغي ويجعلونه أقرب للحضارة الأوربية .
ـ كما يعتبر الشيخ الإمام غارس بذور الثورة الجزائرية ، فمن أقواله التي كان يصدع بها : " أيها الشعب إنك بعملك العظيم الشريف برهنت على أنك شعب متعشق للحرية هائم بها ، تلك الحرية التي ما فارقت قلوبنا منذ كنا الحاملين للوائها، سنعرف في المستقبل كيف نعمل وكيف نحيى من أجلها ( إمام الجزائر ص 32 ).
وقال أيضا: " فما عهدنا الحرية تعطى إنما عهدنا الحرية تؤخذ، وما عهدنا الاستقلال يمنح ويوهب، وإنما عهدنا الاستقلال ينال بالجهاد والاستماتة والتضحية (إمام الجزائر ص 132).
ـ 2 ـ المواجهات التي اصطدم بها الشيخ الإمام :
ـ عان الشيخ الإمام الكثير من دسائس ومؤامرات خصومه والمتمثلين في :
ـ الحكومة الفرنسية.
ـ دعاة الإدماج المتشبعون بالثقافة الفرنسيين.
ـ العلماء الموظفين في السلك الديني الموالين للاستعمار.
ـ أصحاب الطريقة.
فقد تعرض الشيخ الإمام إلى شتى من أنواع المضايقات والمساومات والاعتداءات الجسدية وغيرها من طرف هؤلاء والمتمثلة أساسا فيما يلي :
أ ) ـ العلماء الموظفين في السلك الديني الموالين للاستعمار.
ـ منع في بداية دعوته من التدريس من طرف هؤلاء.
ب ) ـ الحكومة الفرنسية:
ب1 ) ـ المواجهات المباشرة :
ـ مساومته بالولاية العامة لحل جمعية العلماء أو التخلي عن رئاسة جمعيتها .
ـ مساومته على التخلي عن رئاستها بدعوى أنه رجل نبيل الأصل من أمجد الأسر الجزائرية وأشرفها بينما بقية الأعضاء رعاع لا أصالة ولا مكانة لهم في المجتمع.
ـ مساومته على الاستقالة من منصب رئيس الجمعية مقابل تقديم إعانة مالية لعائلته التي كانت تعيش ضائقة مالية حادة وهذا بحضور أبيه وفي مكتب مدير الولاية العامة.
ـ حاولوا التأثير عليه من قبل أبيه من خلال عروض مغرية: تعينه في أكبر منصب ديني.
ـ حرضت الطرقيين على إحداث انقلاب داخل مجلس الجمعية عند تجديده .
ب2 ) ـ المواجهات الغير مباشرة :
ـ عرقلت الحكومة إنشاء شعب جمعية العلماء المسلمين التي أسسها الشيخ ابن باديس.
ـ إغلاق مدارس جمعية العلماء.
ـ ملاحقة المعلمين في هذه المدارس ومنعهم من دخول المساجد الرسمية لإلقاء الدروس والوعظ.
ـ فرضت فرنسا على كل معلم في التعليم الحر إصدار رخصة وإلا تعرض للغرامة والسجن، ولقد حوكم العديد من المعلمين وأدخلوا السجون.
ـ مصادرة الجرائد التي كان يصدرها وكذا جرائد الجمعية.
ـ محاولة قتل الشيخ الحبيباتني ، لاتهام الشيخ بذلك ليتسنى لهم إلقاء القبض على الشيخ ابن باديس ، وتشويه صورة علماء الجمعية.
ـ تشويه صورة علماء الجمعية في 1936 من خلال قتل مفتى الجزائر.
ب ) ـ مشايخ الطرق:
ـ قرر العلويين الفتك بالشيخ العلامة ابن باديس ، فعقدوا اجتماع في مستغانم واتفقوا فيه أن يغتالوا الشيخ المصلح في مساء 9 جمادي 1341 هـ، فأرسلوا من ترصد له فضربه بهراوة وأصابه بضربتين على رأسه وصدغه فشج رأسه وأدماه وكاد أن يضربه بخنجر لولا عناية الله (إمام الجزائر صفحة 40).
ـ سلاح السب والشتم من خلال جريدة البلاغ للشيخ ابن عليوة وجريدة المعيار.
ـ التشويش وإثارة الفتن بين العلماء والقيام بإنشاء جمعية " السنّة " لمضادة جمعية العلماء المسلمين .
وكتبه أبو جابر الجزائري
المراجع :
ـ الحركة الإصلاحية في الفكر الإسلامي المعاصر ( الكتاب الثالث ) محمد طهاري، دار الأمة الطبعة 1999/1.
ـ إمام الجزائر ، د. عبد القادر فضيل ومحمد الصالح رمضان، دار الأمة بدون تاريخ طبع.
ـ من أعلام الإصلاح في الجزائر ( الجزء الأول ) محمد الحسن فضلاء ، دار هومه بدون تاريخ طبع.
"إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت بل هي أمه بعيده عن فرنسا كل البعد في لغتها وفى أخلاقها وفى عنصرها وفى دينها"..
" إننا نعتصم بالحق ونعتصم بالتواضع عندما نقول إننا شعب خالد ككثير من الشعوب، لكنا ننصف التاريخ إذا قلنا: إننا سبقنا هذه الشعوب في ميادين الحياة.... وعلينا أن نعرف تاريخنا فمن عرف تاريخه جدير بأن يتخذ لنفسه منزلة لائقة في هذا الوجود، ولا رابطة تربط ماضينا المجيد بحاضرنا الأعز ومستقبلنا السعيد إلا هذا الحبل المتين: اللغة العربية.. لغة الدين.. لغة القومية.. لغة الوطنية.
إنها وحدها الرابطة بيننا وبين أحفادنا الميامين، هي الترجمان عما في القلب من عقائد وما في العقل من أفكار وما في النفس من آمال وآلام.". هذه بعض أقوال عبد الحميد بن باديس أبو الثورة الجزائرية ورايتها ورمز هويتها... مؤسس "جمعية العلماء المسلمين"، العالم القرآني.. المفكر المناضل العروبى الإسلامي السلفي المعتزلي.. وهي صفات لا تحمل أي قدر من المبالغة في وصف هذا الرجل الذي امتدت رحلة عمره القصيرة (51عاماً.. 5 -12-1889م - 16-4-1940م).. وبحسب مصادر كثيره فإن وفاته يرجح أنها كانت اغتيالاً..
كانت نشأته في بيت من بيوت العلم والشرف والثروة في مدينة "قسنطينة"، وهو ما هيأه مبكراً للاضطلاع بدوره التاريخي في أحلك فترة من فترات التاريخ على العروبة والإسلام في الجزائر.. أتم حفظ القرآن وهو في الثالثة عشرة من عمره، ودرس علوم العربية والإسلام على يد شيخه وأستاذه "أبو حمدان الونيسي" في مسجد سيدي محمد النجار، الذي أخذ عليه عهداً ألا يعمل بوظيفة حكومية تحط من كرامته وتقيد حريته..
ثم ذهب إلى تونس سنة 1908م، حيث درس على يد اثنين من العقول النيرة في دنيا الفقه والفكر والأدب الشيخ "الطاهر بن عاشور" والشيخ "الخضر حسين" الذي أصبح شيخاً للأزهر، ثم عاد إلى الجزائر سنه 1912م بعد أن حمل شهادة "التطويع"..
كان الشيخ "أبو حمدان الونيسى" الذي لم يحتمل رؤية الجزائر وهي تسلخ من هويتها بهذه البشاعة والقسوة قد رحل إلى المدينة المنورة مهاجراً؛ إذ إن الحكومة الفرنسية كانت قد أصدرت قراراً عرف باسم "سانتوس كونسلت" الذي يجعل الجزائريين رعايا فرنسيين يحملون الجنسية الفرنسية، بشرط عدم الخضوع لقانون الأحوال الشخصية الإسلامي.. ويبدو أن فكرة الهجرة كادت تقترب من رأس صاحبنا، فسافر بالفعل وهو في السابعة والعشرين (1912م) إلى المدينة ليلتحق بشيخه، لكن الله قيض له من نصحه نصيحة العمر، وهو الشيخ "حسين أحمد الهندي" فقال له: "لا تترك وطنك واجتهد في خدمه دينك وعد إلى ديارك". ومر في طريق عودته بالشام ومصر التي قابل فيها الشيخ "محمد بخيت" بتوصية من شيخه "الونيسي" الذي منحه بدوره إجازة علمية من الأزهر، وعاد إلى بلاده وهو يحمل بين جنبيه مشروعاً متكاملاً لإنقاذ هوية وطنه، العربية والإسلامية من بين أيدي وأنياب أشرس استعمار عرفته الإنسانية في تاريخها كما يقول الدكتور حسين مؤنس يرحمه الله..
فكان مشروع "جيل يمتلك فكرة صحيحة ولو مع علم قليل".. تنحسر مهمة هذا الجيل في الحفاظ على الهوية والتمهيد للاستقلال، وتهيئه الطريق لجيل التحرير المنشود.. وبدأ الحرث والغرس من فوره، وفى خلال ثمانية عشر عاماً كان النبت قد استوى واستوفى.. ففي 5-5-1931م عقد مؤتمر كبير في العاصمة الجزائرية حضره علماء الجزائر وفقهاؤها ومثقفوها، واستمر لمدة أربعة أيام ويعلن قيام "جمعية علماء المسلمين"، وتم انتخاب ابن باديس بالإجماع رئيساً لها في غيابه.. ويتزامن ذلك مع مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسي للجزائر (14-6-1830م) الذي احتفت به سلطات الاحتلال بشكل هائل ،وقرروا أن تمتد الاحتفالات بهذه المناسبة لمدة ستة أشهر، ولكن رياح المقاومة التي بدأت تنتظم في هيكل وقيادة أوقفتها بعد مرور شهرين فقط..
حددت الجمعية أهم هدف لها وهو الحفاظ على عروبة وإسلامية الجزائر، حتى إذا ما تجاوز خطر (السلخ) من العروبة والإسلام الذي سخرت له فرنسا كل إمكاناتها.. يأتي الدور على الأجيال المحصنة ثقافياً وقومياً لحمل السلاح وتحرير كامل الوطن الجزائري.. وبدأت الجمعية من فورها في تأسيس الكتاتيب والمدارس وإحياء الدور التعليمي للمسجد.. وأدرك الفرنسيون خطورة هذه الخطوة فبدؤوا في التضييق عليه..
ومن أطرف ما يحكى في ذلك: أنه لما قامت الجمعية بتطوير الأساليب القديمة في الكتاتيب صدر قرار بإلغاء تراخيصها؛ لأنها مخالفة للقانون الذي يحتم أن يحوي الكتاب "حصيرة" و"عصا" و"فلقة"..!
على الرغم من أن أغلب الطرق الصوفية في مصر "مغاربية" الهوى الشاذلى والمرسى فقد كان للحركات الصوفية في مصر دور كبير في مواجهة الغزو الخارجي بكل أشكال المواجهة.. إلا أن الأمر لم يكن كذلك في التجربة الجزائرية وتحوي صفحات التاريخ تفاصيل كثيرة عما كان بين "جمعية علماء المسلمين" والطرق الصوفية التي كانت تسمى "الطرقية".
ورأى "ابن باديس" أن الطرقية يقومون بدور خطير في شل همة الأمة وإرادتها المستمدة من الإسلام حين أشاعوا بين الناس أن "الاندماج في فرنسا امتثال لإرادة الله.. وإذا أراد الله أن يكسح الفرنسيين من هذه البلاد لفعل، وهو على كل شيء قدير" وطبيعي أن يلقى هذا الخطاب الموغل في الانهزامية ترحيباً كبيرًا من الفرنسيين؛ إذ إنهم بذلك "يحطبون" في حبالهم ويصبون في أوانيهم، وسجل التاريخ هنا نقطة غير مضيئة للحركات الصوفية في هذا التعاون مع المحتل الذي تبدى في صورة خصومة معلنة مع "جمعية العلماء"، واعتبر ابن باديس هذه الخصومة موقفاً مبدئياً لا مساومة حوله، ورفض كل محاولات المصالحة التي تدخل في إحداها بعض علماء الأزهر، إلا أنه أعلن بحسم أنه "لا أمل في مثل هذه المصالحة"..
وانتهت تلك المواجهة مع الطرقية لصالح الجمعية، وانحسر بالفعل التأثير السلبي للطرقية بين جموع الشعب الجزائري، وظلت صورة "الإسلام المقاوم للفرنسة" حاضرة في وعي الناس.
لن ندهش حين نعلم أن الشيخ عبد الحميد بن باديس لم يجعل جهاده ونضاله مجرد رد فعل لغزو أجنبي، بل كان مشروعاً إصلاحياً بالأساس.. ويبدو أن محطة تفسير القرآن الكريم أغرت كل المصلحين العظام بالوقوف عندها (محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا) وعلى الدرب نفسه إلا قليلاً سار ابن باديس.. فكان يلقي دروس التفسير يومياً وعلى مدار 25 عاماً في الجامع الأخضر بقسنطينة.
كانت الصحافة أيضاً ميداناً فسيحاً صال فيه الشيخ وجال، فأصدر عام 1925م جريدة "المنتقد" الذي كتب في افتتاحيتها "باسم الله، ثم باسم الحق والوطن ندخل عالم الصحافة العظيم.." ويبدو أن "عالم الصحافة العظيم" هذا كان وقتها كالإنترنت والفضائيات في أيامنا.. لم يصدر من "المنتقد" سوى 18 عدداً وأوقفها الاحتلال. بعدها أصدر "الشهاب" سنة 1926م التي كانت فكرية الطابع، وتؤكد على ربط الواقع بالدين... فيكتب في أحد أعدادها ما اشتهر ب "الوصايا الثلاث":
كن صادقاً في معاملاتك بقولك وفعلك.
كن عصرياً في فكرك وعملك وتجارتك وصناعتك وفلاحتك وتمدنك ورقيك.
احذر الخيانة المادية في النفوس والأعراض والأموال، والأدبية ببيع الذمة والشرف والضمير.
سنة 1936م ذهب إلى باريس مع وفد من الجمعية لمقابلة وزير شؤون الجزائر الذي هدده بأن لدى فرنسا "مدافع طويلة"، فرد عليه ابن باديس فوراً: "لدينا مدافع أطول"، ويدهش الرجل فيسأله: ما هي؟! فيقول له مقولته الشهيرة "مدافع الله".
وحين عاد إلى الجزائر يأتيه شباب الحركة الوطنية ويطالبونه بإعلان الاستقلال والثورة، فيطالبهم بالتمهل لأن البيت لا يبدأ بناؤه بالسقف قبل الجدران والأعمدة.. ويطالبهم بحسن معاملة المختلفين معهم في الرأي فيوصيهم بأن "من قبل دعوتنا فهو أخ في الله، ومن ردها فهو أخ في الله، فالأخوة في الله فوق ما يقبل ويرد".. وتؤكد الروايات أنه كان ينوي إعلان الثورة على فرنسا في اليوم الذي تعلن فيه إيطاليا الحرب على فرنسا وقت الحرب العالمية الثانية.. ولكن دوماً في آمالنا طول وفي أعمارنا قصر.
"دعوتنا سلام على البشرية لا يخشاها النصرانى لنصرانيته، ولا اليهودي ليهوديته.. ولكن يخشاها الظالم لظلمه، والدجال لدجله، والخائن لخيانته"... كانت هذه الكلمات الرائعات في خطبة للرجل يدشن بها افتتاح مؤسسة تعليمية سنة 1937م، وكان الزرع قد بدأ يستوي على عوده، وقارب زمن القطاف... وكان التسليم والتسلم بين جيل المقاومة الثقافية وجيل المقاومة العسكرية قد بدأ.. ثم لم يلبث الرجل بعدها إلا قليلاً فينتقل إلى رحاب ربه بعد أن غرس في وعي أمته معنى "صون الهوية".. معنى أن تكون عربياً.. معنى أن تكون مسلماً.