إن تحديد اللاعبين الرئيسيين والدول المحورية الرئيسة يساعد في تحديد الأزمات التي تواجهها السياسة العليا لأميركا، وفي توقع التحديات الرئيسة في القارة الأوراسية الكبرى. ويمكن تلخيص هذه التحديات، قبل الانتقال إلى مناقشتها الشاملة في الفصول اللاحقة، في خمس قضايا واسعة هي كما يلي:
1ـ ما هي أوروبا التي يجب أن تفضلها أميركا وبالتالي تعمل على إيجادها؟
2ـ ما هي روسيا التي تخدم مصلحة أميركا، وماذا تفعل أميركا، وكم تستطيع أن تفعل، في هذا المجال؟
3ـ ما هي احتمالات ظهور "البلقنة "الجديدة في أوراسيا الوسطى، وماذا يجب على أميركا أن تفعل لكي تحّد، إلى أدنى حد، من المخاطر الناجمة عن ذلك ؟
4ـ ما هو الدور الذي يجب أن تشجع الصين على القيام به في الشرق الأقصى، وما هي انعكاسات ذلك لا على الولايات المتحدة فحسب، بل وعلى اليابان أيضاً ؟
5ـ ما هي التحالفات الاوراسية الجديدة المحتملة، والتي يمكن أن تكون الأكثر خطراً على المصالح الأميركية وماذا يجب أن نفعل لكي نستبعدها ؟
كانت الولايات المتحدة قد أعلنت دائما عن إخلاصها لقضية أوروبا الموحدة. فمنذ أيام إدرارة كنيدي، كان الاتجاه السائد يدعو إلى "الشراكة المتساوية "أو "المتوازية ". وقد أعلنت واشنطن الرسمية دائماً عن رغبتها في رؤية أوروبا المندمجة في كيان موحّد ذي قوة كافية للإسهام مع أميركا في حمل مسؤوليات وأعباء الزعامة العالمية .
كان ذلك هو الخطاب المعلن عن الموضوع ولكن في الواقع كانت الولايات المتحدة أقل وضوحاً وأقل إصراراً في هذا السياق. فهل تريد واشنطن فعلاً أن ترى في أوروبا ذلك الشريك المعادل لها بشكل حقيقي في الشؤون العالمية، أو أنها تفضل تحالفاً غير متعادل؟ وعلى سبيل المثال، فهل الولايات المتحدة مستعدة لمشاطرة أوروبا في الزعامة في الشرق الأوسط، الذي هو منطقة ليست أقرب جغرافيا إلى أوروبا من أميركا فحسب، بل هو أيضاً ذلك المكان الذي توجد فيه مصالح قائمة منذ زمن طويل لعدة دول أوروبية؟ وإن قضية إسرائيل تقفز فوراً إلى الذهن هنا.وكذلك، فإن الخلافات الأميركية الأوروبية في شأن إيران والعراق كانت قد عوملت من قبل الولايات المتحدة بوصفها قضية مثارة بين أطراف متعادلة بل كمسألة تتسم بوجود أطراف يحتل بعضها منزلة أدنى من البعض الآخر .
والغموض في شأن درجة الدعم الأميركي للوحدة الأوروبية يمتد أيضاً إلى القضية المتعلقة بكيفية تعريف هذه الوحدة، ولا سيما بما يخص أي دولة، إذا وجدت، سوف تقود أوروبا الموحدة. وقد شجعت واشنطن موقف لندن السلبي إزاء توحيد أوروبا بالرغم من أنها، أي واشنطن، أظهرت تفضيلاً واضحاً للزعامة الألمانية، وليس الفرنسية، في أوروبا. وكان ذلك مفهوما في ضوء الاندفاع التقليدي للسياسة الفرنسية، ولكن كان للتفضيل تأثير في عدم تشجيع الظهور في الوقت المناسب لوفاق تكتيكي فرنسي بريطاني يهدف إلى مقاومة ألمانيا، وفي عدم التشجيع أيضاً للغزل الفرنسي مع موسكو بغية مواجهة التحالف الأميركي الألماني .
إن ظهور أو ولادة أوروبا موحدة فعلاً، ولاسيما إذا حدث ذلك بدعم أميركي بَّناء سوف يتطلب تغييرات هامة في بنية وأعمال حلف الأطلسي، وفي الرابطة الرئيسة بين أميركا وأوروبا. فالناتو لا يقدم آلية العمل الرئيسة لممارسة النفوذ الأميركي المتعلق بالشؤون الأوروبية فحسب، بل يقدم أيضاً الأساس للوجود العسكري الأميركي الحرج على الصعيد السياسي في أوروبا الغربية. ومهما يكن الأمر، فإن الوحدة الأوروبية سوف تتطلب تلك البنية التي تتكّيف مع الحقائق الجديدة لحلف يعتمد على طرفين متعادلين بدرجة أكبر أو أقل، عوضاً عن ذلك الحلف الذي يضم، إذا استعملنا تعابير تقليدية في هذا المجال، دولة مهيمنة ودولاً أخرى تابعة. كانت هذه القضية قد أغفلت إلى حد كبير حتى الآن، بالرغم من الخطوات المتواضعة التي اتخذت في العام 1996 لتحسين دور الاتحاد الأوروبي الغربي ضمن الناتو، ودور التحالف العسكري بين الدول الأوروبية الغربية عموماً. وهكذا، فإن الاختيار الحقيقي لأوروبا موحدة سوف يستوجب إعادة تنظيم بعيدة المدى للناتو، مما سيضعف حتماً السيادة الأميركية ضمن الحلف.
وباختصار، فإن الجيواستراتيجية الأميركية البعيدة الأمد لأوروبا سوف تخاطب على نحو واضح قضايا الوحدة الأوروبية والشراكة الحقيقية مع أوروبا. فالأميركي الذي يرغب فعلاً في أوروبا الموحدة وبالتالي الأكثر استقلالية سوف يترتب عليه أن يرمي بثقله خلف تلك القوات الأوروبية الملتزمة فعلاً بالتكامل السياسي والاقتصادي لأوروبا. وإن مثل هذه الاستراتيجية سوف تعني أيضاً التخلص من آخر بقايا أو أثار تلك العلاقة الأميركية البريطانية الخاصة التي كانت مقدسة ومبجلة في يوم ما.
وكذلك سوف يترتب على السياسة المتعلقة بأوروبا الموحدة أن تخاطب، وإن بالاشتراك مع الأوروبيين، القضية العالية الحساسية المتعلقة بالأبعاد الجغرافية لأوروبا. فكم يجب أن يمتد الاتحاد الأوروبي نحو الشرق؟ وهل يجب أن تكون الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي متماثلة أو متطابقة مع خط الجبهة الشرقية للناتو؟ فالقسم الأول هو مسألة تخص بدرجة أكبر القرار الأوروبي، ولكن أي قرار أوروبي في شأن هذه القضية سوف تكون له تأثيرات مباشرة في قرار الناتو. أما القسم الثاني، عموماً، فهو يخص الولايات المتحدة، كما أن الصوت الأميركي في الناتو سيبقى حاسماً. وفي ضوء الاجماع المتزايد في مايخص الرغبة في إدخال دول أوروبا الوسطى إلى كل من الاتحاد الأوروبي والناتو، فإن المعنى العملي لهذه المسألة يركز الاهتمام على الموقف المستقبلي لجمهوريات البلطيق وربما أيضا لموقف أوكرانيا .
وهكذا يوجد تشابك بين الأزمة الأوروبية التي نوقشت أعلاه من ناحية، وبين الأزمة الأخرى المتعلقة بروسيا. ومن السهل أن نرد على السؤال المتعلق بمستقبل روسيا بالإعلان عن تفضيل دولة روسية ديموقراطية، ومرتبطة على نحو وثيق بأوروبا. وهكذا يفترص أن تكون روسيا الديمقراطية أكثر تعاطفاً مع القيم التي تأخذ بها أميركا وأوروبا، وبالتالي، يكبر احتمال أن تصبح روسيا شريكاً صغيراً في تشكيل أوراسيا التي تكون أكثر استقراراً ورغبة في التعاون. ولكن طموحات روسيا يمكن أن تذهب إلى أبعد من حصولها على الاعتراف والاحترام بوصفها دولة ديمقراطية. ففي مؤسسة السياسة الخارجية الروسية (المؤلفة في معظمها من مسؤولين سوفييت سابقين)، لا تزال تنمو رغبة عميقة الجذوز في دور أوراسي خاص، وهي الرغبة التي تؤدي لا حقاً إلى سيطرة موسكو على دول الاتحاد السوفييتي السابق التي استقلت حديثاً.
وفي هذا السياق، فحتى السياسة الغربية الودية ينظر إليها من قبل بعض الأعضاء المؤثرين في هيئة صنع القرار الروسية على أنها معدة لحرمان روسيا من المطالبة المحقة بموقف أو دور عالمي. وعن ذلك يقول اثنان من الجيوبوليتيين الروس:
"إن الولايات المتحدة ودول حلف الناتو تعمل،في الوقت الذي تستبعد فيه مسألة احترام الذات في روسيا إلى أقصى حد ممكن، وعلى نحو ثابت ومتماسك، على تدمير الأسس الجيوبوليتية التي تستطيع، إن نظرياً على الأقل، أن تسمح لروسيا بأن تأمل تحقيق موقف القوة الثانية في السياسة العالمية، والذي كان يتمتع به الاتحاد السوفييتي".
وفضلاً عن ذلك، ينظر إلى أميركا على أنها تتبع سياسة تتم فيها إقامة:
"التنظيم الجديد للمنطقة الأوروبية الذي يتم تصميمه من قبل الغرب، والذي يبني، من حيث الجوهر، على فكرة الدعم، في هذا الجزء من العالم، لدول قومية ضعيفة وصغيرة نسبياً وجديدة، من خلال جعلها تقترب بدرجة أكبر أو أقل من الناتو والاتحاد الأوروبي، لتقوية علاقاتها بهذه التنظيمات"(1).
إن هاتين الفقرتين تحددان جيداً، وإن مع شيء من العداء، الأزمة التي تواجهها الولايات المتحدة. فإلى أي حد يجب أن تتم مساعدة روسيا اقتصادياً، الأمر الذي يقويها حتماً سياسياً وعسكرياً، وإلى أي حد أيضاً يجب أن تتم المساعدة في الوقت ذاته للدول المستقلة حديثاً في الدفاع عن استقلالها وتدعيمه؛ وهل تستطيع روسيا أن تكون قوية وديمقراطية في آن واحد؟ وإذا أصبحت هذه الدولة أي روسيا قوية ثانية، ألن تسعى إلى استرجاع سيطرتها الإمبريالية المفقودة، وهل تستطيع عندئذ، أن تكون إمبراطورية وديمقراطية معاً؟
إن السياسة الأميركية إزاء المحاور الجيوبوليتية الحيوية لأوكرانيا وأذربيجان لا يمكنها أن تغفل هذه القضية وهكذا تواجه أميركا أزمة صعبة في ما يخص التوازن التكتيكي والهدف الاستراتيجي. وإن استعادة العافية الداخلية لروسيا هي أمر ضروري لجعلها ديمقراطية المنحى، ولإضفاء الطابع الأوروبي الفعلي عليها. ولكن أي استعادة لقدرتها الإمبريالية سوف تكون غير ملائمة لكلا هذين الهدفين. وفضلاً عن ذلك، فعلى هذه القضية ذاتها يمكن أن تنشأ الخلافات بين أميركا وبعض الدول الأوروبية، وخاصة عندما يتوسع الناتو والاتحاد الأوروبي. فهل يجب أن تعتبر روسيا مرشحة للعضوية المحتملة في أي من هذين التنظيمين؟ وماذا عن أو كرانيا في هذه الحال؟ إن ثمن استبعاد روسيا يمكن أن يكون عالياً، ولكن نتائج إضعاف أي من الاتحاد الأوروبي والناتو يمكن أن يكون مدعاة لعدم الاستقرار .
ثمة حالة مهمة أخرى من عدم اليقين تخيم على المنطقة الكبيرة من ناحية والمائعة جيوبوليتياً من ناحية ثانية في أوراسيا الوسطى، وتزداد حدة بسبب عدم المناعة المحتملة للمحورين التركي والإيراني. ففي المنطقة الممتدة من القرم في البحر الأسود وعلى نحو مباشر إلى الشرق على امتداد الحدود الجنوبية الجديدة لروسيا، مروراً بمقاطعة "كين جيانغ" الصينية. ثم نحو اشمال إلى شرق البحر المتوسط، ورجوعاً إلى القرم ذاته، يعيش نحو400 مليون إنسان في 25 دولة، علماً أن أغلبهم تقريباً ينتمون إلى اتنية وديانة واحدة، بينما لا تنعم أي دولة من كل هذه الدول، وبشكل عملي، بالاستقرار السياسي. إن بعض هذه الدول هو على وشك امتلاك الأسلحة النووية.
إن هذه المنطقة الكبيرة جداً والتي تمزقها الكراهية وتحيط بها دول مجاورة قوية منافسة يحتمل أن تصبح ميدان قتال رئيسياً إما للحروب بين الدول الأمم أو، وباحتمال أكبر، لممارسة أعمال العنف الأثني والديني الطويل الأمد. وإن تصرف الهند بوصفها قيداً او عنصراً مستغلاً لبعض الفرص بغية فرض إرادتها على الباكستان، سوف يؤثر إلى حد كبير في البعد الإقليمي للصراعات المحتملة. اما مصادر التوتر والإجهاد الداخلية ضمن إيران وتركيا فلا يحتمل أن تزداد سوءاً فحسب بل ستعمل أيضاً إلى حد كبير على إضعاف الدور المؤدي إلى الإستقرار الذي تلعبه هاتان الدولتان في هذه المنطقة البركانية. وسوف تجعل هذه التطورات بدورها عملية استيعاب الدول الجديدة في آسيا الوسطى أكثر صعوبة للمجتمع الدولي بينما تؤثر أيضاً وعلى نحو سبلي في أمن منطقة الخليج [العربي] الذي" أي الأمن"تسيطر عليه أميركا. وفي أي حال فمن الممكن أن تواجه أميركا والمجتمع الدولي معاً في هذه المنطقة تحدياً سوف يفاقم الأزمة التي حدثت مؤخراً في يوغسلافيا السابقة.
1ـ المنطقة العالمية التي ينشط فيها العنف2ـ مناطق الاضطراب والنزاع والعنف 3ـ المحيط الهندي 4ـ السودان 5ـ مصر 6ـ المملكة العربية السعودية 7ـ إيران 8ـ الباكستان 9ـ الهند 10ـ الصين 11ـ أفغانستان 12ـ العراق 13ـ سورية 14ـ تركيا 15ـ البحر الأسود 16ـ بحر قزوين 17ـ توركمنستان 18ـ أوزباكستان 19ـ طاجاكستان 20ـ كورغستان 21ـ كازاخستان 22ـ روسيا.
أن التحدي الممكن للسيادة الأميركية الذي تشكله الأصولية الإسلامية يمكن أن يكون جزءاً من المشكلة في هذه المنطقة غير المستقرة. وهكذا تستطيع الأصولية الإسلامية باستغلالها العداء الديني لطريقة الحياة الأميركية والإستفادة من النزاع العربي الإٍسرائيلي أن تسقط عدة حكومات شرق أوسطية مؤيدة للغرب وتشكل خطراً في نهاية المطاف على المصالح الإقليمية الأميركية ولا سيما في منطقة الخليج [العربي]. ومهما يكن الأمر فما لم يتوفر تماسك سياسي، ومع عدم وجود دولة إسلامية واحدة قوية فعلاً، فإن التحدي الذي تشكله الأصولية الإسلامية سوف يفتقر إلى لب أو قلب جيوبوليتي وبالتالي سوف يزيد إحتمال تعبيره عن ذاته عبر نشر الإرهاب .
نجمت القضية الجيواستراتيجية ذات الأهمية الحرجة من ظهور الصين كقوة رئيسية، فالنتيجة الأكثر إثارة سوف تأتي من إختيار الصين، بعد تحولها إلى النظام الديمقراطي والسوق الحرة ، الدخول إلى إطار تعاون إقليمي آسيوي أكبر. ولكن لنفترض أن الصين لم تتحول إلى دولة ديمقراطية واستمرت في المقابل في النمو في القوة الاقتصادية والعسكرية يمكن عندئذ أن تظهر (الصين العظمى) مهما كانت رغبات وحسابات جيرانها. وإن أي جهد يهدف إلى منع حدوث ذلك يستطيع أن يؤدي إلى نزاع حاد مع الصين وإن مثل هذا النزاع يمكنه أن يخلق التوتر في العلاقات الأميركية اليابانية لأن أحداً لا يمكنه التأكيد أن اليابان سوف تريد أن تسير على خطا أميركا في احتواء الصين وبالتالي يمكن لذلك أن يترك تأثيرات ثورية غالباً على تحديد طوكيو لدور اليابان الإقليمي وربما يؤدي ذلك أيضاً إلى إنهاء الوجود الأميركي في الشرق الأقصى. ومهما يكن الأمر فإن للتكيف مع الصين واستيعابها ثمناً أيضاً، فقبول الصين بوصفها قوة إقليمية ليس مسألة تتعلق بمجرد تطبيق شعار ما ولا بد أن يكون ثمة خلفية لمثل هذا البروز الإقليمي . ولكي نعبر عن هذا الموضوع بشكل مباشر يجب أن نعرف مدى ما تقبل به أميركا من تنامي نفوذ الصين وأين يتم هذا التنامي، وذلك كجزء من سياسة إدخال الصين على نحو ناجح إلى الشؤون العالمية. والسؤال الآخر هنا هو ما هي المناطق الموجودة خارج نصف قطر الاهتمامات السياسية للصين الآن والتي يمكن أن تنضم أو تسلم إلى الإمبراطورية الصينية التي تبرز إلى الوجود ثانية ؟
وفي هذا السياق فإن إبقاء الوجود الأميركي في كوريا الجنوبية يصبح مهما بشكل خاص، فبدونه يصعب أن نتصور استمرار الترتيبات الدفاعية الأميركية اليابانية في شكلها الحالي لأن اليابان سوف تضطر لأن تصبح ذات اكتفاء ذاتي أكبر من الناحية العسكرية. ولكن أي تحرك نحو إعادة توحيد الكوريتين يحتمل أن يشوش على خلفية الوجود العسكري الأميركي المستمر في كوريا الجنوبية. ويمكن لكوريا المعادة توحيدها أن تختار عدم استمرار الحماية العسكرية الأميركية وهذا يمكن أن يكون بالفعل الثمن الغالي الذي تتحمله الصين من خلال رمي ثقلها الحاسم وراء إعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية وباختصار فإن إدارة أو ممارسة الولايات المتحدة لعلاقتها مع الصين سوف تكون لها حتماً تأثيرات أو نتائج مباشرة على استقرار العلاقات الأمنية المثلثية الأميركية اليابانية الكورية.
وأخيراً يجب أن نلاحظ باختصار بعض حالات الطوارئ المتضمنة للإنحيازات السياسية المستقبلية وهو ما سوف يناقش بالتفصيل في فصول متعلقة به. ففي الماضي كانت الشؤون الدولية تحكم إلى حد كبير بالنزاعات بين دول منفردة على السيطرة الإقليمية وبالتالي، فإنه يمكن أن تضطر الولايات المتحدة لأن تقرر كيف تتكيف مع التحالفات الإقليمية التي تسعى إلى إخراج أميركا من أوراسيا مما يهدد موقف أو هيبة أميركا بوصفها قوة عالمية. ومهما يكن الأمر فإن قيام أو عدم قيام مثل هذه التحالفات بتحدي السيادة الأميركية سوف يعتمد في الواقع وإلى حد بعيد على مدى فعالية استجابة أو رد الولايات المتحدة على الأزمات الكبرى المحددة هنا.
من المحتمل أن يكون أخطر السيناريوهات هو الذي يتمثل في التحالف بين الصين و روسيا وربما إيران أيضا فيكون تحالفا (مضاداً للهيمنة) لا تجمعه الإيديولوجية وإنما تجمعه التظلمات أو حالات الضيم التي يكمل بعضها البعض الآخر. وسوف يذكر ذلك من حيث أبعاده بالتحدي الذي شكلته في يوم ما الكتلة الصينية السوفييتية بالرغم من أن الصين ستكون القائد في هذه المرة بينما تكون روسيا الطرف التابع. ولاستبعاد هذا الاحتمال مهما كان بعيداً عن الحدوث يقتضي أن تظهر الولايات المتحدة مهارة جيواستراتيجية على الحدود المحيطية الغربية والشرقية الجنوبية لأوراسيا في آن .
أما التحدي المحدود لدرجة أكبر على الصعيد الجغرافي، وإن كان أكثر أهمية غالباً، فهو الذي يمكن أن يضم المحور الصيني الياباني غداة انهيار الوضع الأميركي في الشرق الأقصى، ولدى حدوث تغير ثوري في النظرة العالمية لليابان فهو سيجمع قوة شعبين منتجين على نحو استثنائي، ويستطيع أن يستغل شكلاً ما من (النزعة الآسيوية) بوصفها عقيدة موحدة ضد الاميركيين. ومهما يكن الأمر فلا يبدوا محتملاً في المستقبل المنظور أن الصين واليابان سوف تشكلان تحالفاً إذا أخذنا في الاعتبار الخبرة التاريخية الحديثة، وبالتالي يجب على السياسة الأميركية البعيدة النظر في الشرق الأقصى ان تكون قادرة بالتأكيد على منع حدوث هذا الاحتمال. وكذلك فالأمر البعيد جداً، وإن لم يكن مستبعداً كلياً، هو احتمال حدوث تحالفات أوروبية كبيرة جديدة، تشمل إما التواطؤ الألماني الروسي أو الوفاق الفرنسي الروسي. وثمة سوابق تاريخية واضحة لكلا هذين التحالفين، وبالتالي يمكن لأي منهما أن يظهر إلى الوجود إذا توقفت لسبب أو لآخر عملية توحيد أوروبا أو إذا ساءت العلاقات بين أوروبا وأميركا على نحو حاد. وفي الواقع، ففي الاحتمال الأخير يمكن للمرء أن يتصور تقارباً أوروبياً روسيا يهدف إلى استبعاد أميركا من القارة وفي هذه المرحلة تبدوا كل هذه الاحتمالات غير ممكنة فهي لا تحتلج إلى إساءة شاملة لإدارة أميركا لسياستها الأوروبية فحسب بل تحتاج أيضاً إلى إعادة توجه درامية من قبل الدول الأوروبية الرئيسية.
ومهما كان المستقبل، فمن المنطقي أن نستنتج أن السيادة الأميركية على القارة الأوراسية سوف تواجه بالاضطراب والشغب وربما"على الأقل" بالعنف المتقطع، ومن المحتمل أن تكون السيادة الأميركية غير منيعة إزاء التحديات الجديدة سواء من قبل المنافسين الإقليميين أو التجمعات الجديدة. وإن النظام العالمي الأميركي المسيطر حالياً والذي نجد فيه (أن خطر الحرب مستبعد الآن) يحتمل أن يكون مستقراً فقط في تلك الأجزاء من العالم التي تعتمد فيها السيادة الأميركية الموجهة بجيواستراتيجية طويلة الأمد على أنظمة اجتماعية سياسية متناغمة ومنسجمة ومرتبطة معاً بإطارات عمل متعددة الأطراف وخاضعة للسيطرة الأميركية .
(1) أ. بوغاتوروف وف. كريمينوك (كلاهما يعملان مدرسين كبيرين في معهد الولايات المتحدة وكندا) في "العلاقات الراهنة والآفاق المستقبلية للتفاعل المتبادل بين روسيا والولايات المتحدة"،مجلة "المجلة المستقلة "28 حزيران، 1996.
بريجنيسكى مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقاً ، أستاذ السياسة الخارجية بجامعة جون هوبكنز - واشنطن
1ـ ما هي أوروبا التي يجب أن تفضلها أميركا وبالتالي تعمل على إيجادها؟
2ـ ما هي روسيا التي تخدم مصلحة أميركا، وماذا تفعل أميركا، وكم تستطيع أن تفعل، في هذا المجال؟
3ـ ما هي احتمالات ظهور "البلقنة "الجديدة في أوراسيا الوسطى، وماذا يجب على أميركا أن تفعل لكي تحّد، إلى أدنى حد، من المخاطر الناجمة عن ذلك ؟
4ـ ما هو الدور الذي يجب أن تشجع الصين على القيام به في الشرق الأقصى، وما هي انعكاسات ذلك لا على الولايات المتحدة فحسب، بل وعلى اليابان أيضاً ؟
5ـ ما هي التحالفات الاوراسية الجديدة المحتملة، والتي يمكن أن تكون الأكثر خطراً على المصالح الأميركية وماذا يجب أن نفعل لكي نستبعدها ؟
كانت الولايات المتحدة قد أعلنت دائما عن إخلاصها لقضية أوروبا الموحدة. فمنذ أيام إدرارة كنيدي، كان الاتجاه السائد يدعو إلى "الشراكة المتساوية "أو "المتوازية ". وقد أعلنت واشنطن الرسمية دائماً عن رغبتها في رؤية أوروبا المندمجة في كيان موحّد ذي قوة كافية للإسهام مع أميركا في حمل مسؤوليات وأعباء الزعامة العالمية .
كان ذلك هو الخطاب المعلن عن الموضوع ولكن في الواقع كانت الولايات المتحدة أقل وضوحاً وأقل إصراراً في هذا السياق. فهل تريد واشنطن فعلاً أن ترى في أوروبا ذلك الشريك المعادل لها بشكل حقيقي في الشؤون العالمية، أو أنها تفضل تحالفاً غير متعادل؟ وعلى سبيل المثال، فهل الولايات المتحدة مستعدة لمشاطرة أوروبا في الزعامة في الشرق الأوسط، الذي هو منطقة ليست أقرب جغرافيا إلى أوروبا من أميركا فحسب، بل هو أيضاً ذلك المكان الذي توجد فيه مصالح قائمة منذ زمن طويل لعدة دول أوروبية؟ وإن قضية إسرائيل تقفز فوراً إلى الذهن هنا.وكذلك، فإن الخلافات الأميركية الأوروبية في شأن إيران والعراق كانت قد عوملت من قبل الولايات المتحدة بوصفها قضية مثارة بين أطراف متعادلة بل كمسألة تتسم بوجود أطراف يحتل بعضها منزلة أدنى من البعض الآخر .
والغموض في شأن درجة الدعم الأميركي للوحدة الأوروبية يمتد أيضاً إلى القضية المتعلقة بكيفية تعريف هذه الوحدة، ولا سيما بما يخص أي دولة، إذا وجدت، سوف تقود أوروبا الموحدة. وقد شجعت واشنطن موقف لندن السلبي إزاء توحيد أوروبا بالرغم من أنها، أي واشنطن، أظهرت تفضيلاً واضحاً للزعامة الألمانية، وليس الفرنسية، في أوروبا. وكان ذلك مفهوما في ضوء الاندفاع التقليدي للسياسة الفرنسية، ولكن كان للتفضيل تأثير في عدم تشجيع الظهور في الوقت المناسب لوفاق تكتيكي فرنسي بريطاني يهدف إلى مقاومة ألمانيا، وفي عدم التشجيع أيضاً للغزل الفرنسي مع موسكو بغية مواجهة التحالف الأميركي الألماني .
إن ظهور أو ولادة أوروبا موحدة فعلاً، ولاسيما إذا حدث ذلك بدعم أميركي بَّناء سوف يتطلب تغييرات هامة في بنية وأعمال حلف الأطلسي، وفي الرابطة الرئيسة بين أميركا وأوروبا. فالناتو لا يقدم آلية العمل الرئيسة لممارسة النفوذ الأميركي المتعلق بالشؤون الأوروبية فحسب، بل يقدم أيضاً الأساس للوجود العسكري الأميركي الحرج على الصعيد السياسي في أوروبا الغربية. ومهما يكن الأمر، فإن الوحدة الأوروبية سوف تتطلب تلك البنية التي تتكّيف مع الحقائق الجديدة لحلف يعتمد على طرفين متعادلين بدرجة أكبر أو أقل، عوضاً عن ذلك الحلف الذي يضم، إذا استعملنا تعابير تقليدية في هذا المجال، دولة مهيمنة ودولاً أخرى تابعة. كانت هذه القضية قد أغفلت إلى حد كبير حتى الآن، بالرغم من الخطوات المتواضعة التي اتخذت في العام 1996 لتحسين دور الاتحاد الأوروبي الغربي ضمن الناتو، ودور التحالف العسكري بين الدول الأوروبية الغربية عموماً. وهكذا، فإن الاختيار الحقيقي لأوروبا موحدة سوف يستوجب إعادة تنظيم بعيدة المدى للناتو، مما سيضعف حتماً السيادة الأميركية ضمن الحلف.
وباختصار، فإن الجيواستراتيجية الأميركية البعيدة الأمد لأوروبا سوف تخاطب على نحو واضح قضايا الوحدة الأوروبية والشراكة الحقيقية مع أوروبا. فالأميركي الذي يرغب فعلاً في أوروبا الموحدة وبالتالي الأكثر استقلالية سوف يترتب عليه أن يرمي بثقله خلف تلك القوات الأوروبية الملتزمة فعلاً بالتكامل السياسي والاقتصادي لأوروبا. وإن مثل هذه الاستراتيجية سوف تعني أيضاً التخلص من آخر بقايا أو أثار تلك العلاقة الأميركية البريطانية الخاصة التي كانت مقدسة ومبجلة في يوم ما.
وكذلك سوف يترتب على السياسة المتعلقة بأوروبا الموحدة أن تخاطب، وإن بالاشتراك مع الأوروبيين، القضية العالية الحساسية المتعلقة بالأبعاد الجغرافية لأوروبا. فكم يجب أن يمتد الاتحاد الأوروبي نحو الشرق؟ وهل يجب أن تكون الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي متماثلة أو متطابقة مع خط الجبهة الشرقية للناتو؟ فالقسم الأول هو مسألة تخص بدرجة أكبر القرار الأوروبي، ولكن أي قرار أوروبي في شأن هذه القضية سوف تكون له تأثيرات مباشرة في قرار الناتو. أما القسم الثاني، عموماً، فهو يخص الولايات المتحدة، كما أن الصوت الأميركي في الناتو سيبقى حاسماً. وفي ضوء الاجماع المتزايد في مايخص الرغبة في إدخال دول أوروبا الوسطى إلى كل من الاتحاد الأوروبي والناتو، فإن المعنى العملي لهذه المسألة يركز الاهتمام على الموقف المستقبلي لجمهوريات البلطيق وربما أيضا لموقف أوكرانيا .
وهكذا يوجد تشابك بين الأزمة الأوروبية التي نوقشت أعلاه من ناحية، وبين الأزمة الأخرى المتعلقة بروسيا. ومن السهل أن نرد على السؤال المتعلق بمستقبل روسيا بالإعلان عن تفضيل دولة روسية ديموقراطية، ومرتبطة على نحو وثيق بأوروبا. وهكذا يفترص أن تكون روسيا الديمقراطية أكثر تعاطفاً مع القيم التي تأخذ بها أميركا وأوروبا، وبالتالي، يكبر احتمال أن تصبح روسيا شريكاً صغيراً في تشكيل أوراسيا التي تكون أكثر استقراراً ورغبة في التعاون. ولكن طموحات روسيا يمكن أن تذهب إلى أبعد من حصولها على الاعتراف والاحترام بوصفها دولة ديمقراطية. ففي مؤسسة السياسة الخارجية الروسية (المؤلفة في معظمها من مسؤولين سوفييت سابقين)، لا تزال تنمو رغبة عميقة الجذوز في دور أوراسي خاص، وهي الرغبة التي تؤدي لا حقاً إلى سيطرة موسكو على دول الاتحاد السوفييتي السابق التي استقلت حديثاً.
وفي هذا السياق، فحتى السياسة الغربية الودية ينظر إليها من قبل بعض الأعضاء المؤثرين في هيئة صنع القرار الروسية على أنها معدة لحرمان روسيا من المطالبة المحقة بموقف أو دور عالمي. وعن ذلك يقول اثنان من الجيوبوليتيين الروس:
"إن الولايات المتحدة ودول حلف الناتو تعمل،في الوقت الذي تستبعد فيه مسألة احترام الذات في روسيا إلى أقصى حد ممكن، وعلى نحو ثابت ومتماسك، على تدمير الأسس الجيوبوليتية التي تستطيع، إن نظرياً على الأقل، أن تسمح لروسيا بأن تأمل تحقيق موقف القوة الثانية في السياسة العالمية، والذي كان يتمتع به الاتحاد السوفييتي".
وفضلاً عن ذلك، ينظر إلى أميركا على أنها تتبع سياسة تتم فيها إقامة:
"التنظيم الجديد للمنطقة الأوروبية الذي يتم تصميمه من قبل الغرب، والذي يبني، من حيث الجوهر، على فكرة الدعم، في هذا الجزء من العالم، لدول قومية ضعيفة وصغيرة نسبياً وجديدة، من خلال جعلها تقترب بدرجة أكبر أو أقل من الناتو والاتحاد الأوروبي، لتقوية علاقاتها بهذه التنظيمات"(1).
إن هاتين الفقرتين تحددان جيداً، وإن مع شيء من العداء، الأزمة التي تواجهها الولايات المتحدة. فإلى أي حد يجب أن تتم مساعدة روسيا اقتصادياً، الأمر الذي يقويها حتماً سياسياً وعسكرياً، وإلى أي حد أيضاً يجب أن تتم المساعدة في الوقت ذاته للدول المستقلة حديثاً في الدفاع عن استقلالها وتدعيمه؛ وهل تستطيع روسيا أن تكون قوية وديمقراطية في آن واحد؟ وإذا أصبحت هذه الدولة أي روسيا قوية ثانية، ألن تسعى إلى استرجاع سيطرتها الإمبريالية المفقودة، وهل تستطيع عندئذ، أن تكون إمبراطورية وديمقراطية معاً؟
إن السياسة الأميركية إزاء المحاور الجيوبوليتية الحيوية لأوكرانيا وأذربيجان لا يمكنها أن تغفل هذه القضية وهكذا تواجه أميركا أزمة صعبة في ما يخص التوازن التكتيكي والهدف الاستراتيجي. وإن استعادة العافية الداخلية لروسيا هي أمر ضروري لجعلها ديمقراطية المنحى، ولإضفاء الطابع الأوروبي الفعلي عليها. ولكن أي استعادة لقدرتها الإمبريالية سوف تكون غير ملائمة لكلا هذين الهدفين. وفضلاً عن ذلك، فعلى هذه القضية ذاتها يمكن أن تنشأ الخلافات بين أميركا وبعض الدول الأوروبية، وخاصة عندما يتوسع الناتو والاتحاد الأوروبي. فهل يجب أن تعتبر روسيا مرشحة للعضوية المحتملة في أي من هذين التنظيمين؟ وماذا عن أو كرانيا في هذه الحال؟ إن ثمن استبعاد روسيا يمكن أن يكون عالياً، ولكن نتائج إضعاف أي من الاتحاد الأوروبي والناتو يمكن أن يكون مدعاة لعدم الاستقرار .
ثمة حالة مهمة أخرى من عدم اليقين تخيم على المنطقة الكبيرة من ناحية والمائعة جيوبوليتياً من ناحية ثانية في أوراسيا الوسطى، وتزداد حدة بسبب عدم المناعة المحتملة للمحورين التركي والإيراني. ففي المنطقة الممتدة من القرم في البحر الأسود وعلى نحو مباشر إلى الشرق على امتداد الحدود الجنوبية الجديدة لروسيا، مروراً بمقاطعة "كين جيانغ" الصينية. ثم نحو اشمال إلى شرق البحر المتوسط، ورجوعاً إلى القرم ذاته، يعيش نحو400 مليون إنسان في 25 دولة، علماً أن أغلبهم تقريباً ينتمون إلى اتنية وديانة واحدة، بينما لا تنعم أي دولة من كل هذه الدول، وبشكل عملي، بالاستقرار السياسي. إن بعض هذه الدول هو على وشك امتلاك الأسلحة النووية.
إن هذه المنطقة الكبيرة جداً والتي تمزقها الكراهية وتحيط بها دول مجاورة قوية منافسة يحتمل أن تصبح ميدان قتال رئيسياً إما للحروب بين الدول الأمم أو، وباحتمال أكبر، لممارسة أعمال العنف الأثني والديني الطويل الأمد. وإن تصرف الهند بوصفها قيداً او عنصراً مستغلاً لبعض الفرص بغية فرض إرادتها على الباكستان، سوف يؤثر إلى حد كبير في البعد الإقليمي للصراعات المحتملة. اما مصادر التوتر والإجهاد الداخلية ضمن إيران وتركيا فلا يحتمل أن تزداد سوءاً فحسب بل ستعمل أيضاً إلى حد كبير على إضعاف الدور المؤدي إلى الإستقرار الذي تلعبه هاتان الدولتان في هذه المنطقة البركانية. وسوف تجعل هذه التطورات بدورها عملية استيعاب الدول الجديدة في آسيا الوسطى أكثر صعوبة للمجتمع الدولي بينما تؤثر أيضاً وعلى نحو سبلي في أمن منطقة الخليج [العربي] الذي" أي الأمن"تسيطر عليه أميركا. وفي أي حال فمن الممكن أن تواجه أميركا والمجتمع الدولي معاً في هذه المنطقة تحدياً سوف يفاقم الأزمة التي حدثت مؤخراً في يوغسلافيا السابقة.
1ـ المنطقة العالمية التي ينشط فيها العنف2ـ مناطق الاضطراب والنزاع والعنف 3ـ المحيط الهندي 4ـ السودان 5ـ مصر 6ـ المملكة العربية السعودية 7ـ إيران 8ـ الباكستان 9ـ الهند 10ـ الصين 11ـ أفغانستان 12ـ العراق 13ـ سورية 14ـ تركيا 15ـ البحر الأسود 16ـ بحر قزوين 17ـ توركمنستان 18ـ أوزباكستان 19ـ طاجاكستان 20ـ كورغستان 21ـ كازاخستان 22ـ روسيا.
أن التحدي الممكن للسيادة الأميركية الذي تشكله الأصولية الإسلامية يمكن أن يكون جزءاً من المشكلة في هذه المنطقة غير المستقرة. وهكذا تستطيع الأصولية الإسلامية باستغلالها العداء الديني لطريقة الحياة الأميركية والإستفادة من النزاع العربي الإٍسرائيلي أن تسقط عدة حكومات شرق أوسطية مؤيدة للغرب وتشكل خطراً في نهاية المطاف على المصالح الإقليمية الأميركية ولا سيما في منطقة الخليج [العربي]. ومهما يكن الأمر فما لم يتوفر تماسك سياسي، ومع عدم وجود دولة إسلامية واحدة قوية فعلاً، فإن التحدي الذي تشكله الأصولية الإسلامية سوف يفتقر إلى لب أو قلب جيوبوليتي وبالتالي سوف يزيد إحتمال تعبيره عن ذاته عبر نشر الإرهاب .
نجمت القضية الجيواستراتيجية ذات الأهمية الحرجة من ظهور الصين كقوة رئيسية، فالنتيجة الأكثر إثارة سوف تأتي من إختيار الصين، بعد تحولها إلى النظام الديمقراطي والسوق الحرة ، الدخول إلى إطار تعاون إقليمي آسيوي أكبر. ولكن لنفترض أن الصين لم تتحول إلى دولة ديمقراطية واستمرت في المقابل في النمو في القوة الاقتصادية والعسكرية يمكن عندئذ أن تظهر (الصين العظمى) مهما كانت رغبات وحسابات جيرانها. وإن أي جهد يهدف إلى منع حدوث ذلك يستطيع أن يؤدي إلى نزاع حاد مع الصين وإن مثل هذا النزاع يمكنه أن يخلق التوتر في العلاقات الأميركية اليابانية لأن أحداً لا يمكنه التأكيد أن اليابان سوف تريد أن تسير على خطا أميركا في احتواء الصين وبالتالي يمكن لذلك أن يترك تأثيرات ثورية غالباً على تحديد طوكيو لدور اليابان الإقليمي وربما يؤدي ذلك أيضاً إلى إنهاء الوجود الأميركي في الشرق الأقصى. ومهما يكن الأمر فإن للتكيف مع الصين واستيعابها ثمناً أيضاً، فقبول الصين بوصفها قوة إقليمية ليس مسألة تتعلق بمجرد تطبيق شعار ما ولا بد أن يكون ثمة خلفية لمثل هذا البروز الإقليمي . ولكي نعبر عن هذا الموضوع بشكل مباشر يجب أن نعرف مدى ما تقبل به أميركا من تنامي نفوذ الصين وأين يتم هذا التنامي، وذلك كجزء من سياسة إدخال الصين على نحو ناجح إلى الشؤون العالمية. والسؤال الآخر هنا هو ما هي المناطق الموجودة خارج نصف قطر الاهتمامات السياسية للصين الآن والتي يمكن أن تنضم أو تسلم إلى الإمبراطورية الصينية التي تبرز إلى الوجود ثانية ؟
وفي هذا السياق فإن إبقاء الوجود الأميركي في كوريا الجنوبية يصبح مهما بشكل خاص، فبدونه يصعب أن نتصور استمرار الترتيبات الدفاعية الأميركية اليابانية في شكلها الحالي لأن اليابان سوف تضطر لأن تصبح ذات اكتفاء ذاتي أكبر من الناحية العسكرية. ولكن أي تحرك نحو إعادة توحيد الكوريتين يحتمل أن يشوش على خلفية الوجود العسكري الأميركي المستمر في كوريا الجنوبية. ويمكن لكوريا المعادة توحيدها أن تختار عدم استمرار الحماية العسكرية الأميركية وهذا يمكن أن يكون بالفعل الثمن الغالي الذي تتحمله الصين من خلال رمي ثقلها الحاسم وراء إعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية وباختصار فإن إدارة أو ممارسة الولايات المتحدة لعلاقتها مع الصين سوف تكون لها حتماً تأثيرات أو نتائج مباشرة على استقرار العلاقات الأمنية المثلثية الأميركية اليابانية الكورية.
وأخيراً يجب أن نلاحظ باختصار بعض حالات الطوارئ المتضمنة للإنحيازات السياسية المستقبلية وهو ما سوف يناقش بالتفصيل في فصول متعلقة به. ففي الماضي كانت الشؤون الدولية تحكم إلى حد كبير بالنزاعات بين دول منفردة على السيطرة الإقليمية وبالتالي، فإنه يمكن أن تضطر الولايات المتحدة لأن تقرر كيف تتكيف مع التحالفات الإقليمية التي تسعى إلى إخراج أميركا من أوراسيا مما يهدد موقف أو هيبة أميركا بوصفها قوة عالمية. ومهما يكن الأمر فإن قيام أو عدم قيام مثل هذه التحالفات بتحدي السيادة الأميركية سوف يعتمد في الواقع وإلى حد بعيد على مدى فعالية استجابة أو رد الولايات المتحدة على الأزمات الكبرى المحددة هنا.
من المحتمل أن يكون أخطر السيناريوهات هو الذي يتمثل في التحالف بين الصين و روسيا وربما إيران أيضا فيكون تحالفا (مضاداً للهيمنة) لا تجمعه الإيديولوجية وإنما تجمعه التظلمات أو حالات الضيم التي يكمل بعضها البعض الآخر. وسوف يذكر ذلك من حيث أبعاده بالتحدي الذي شكلته في يوم ما الكتلة الصينية السوفييتية بالرغم من أن الصين ستكون القائد في هذه المرة بينما تكون روسيا الطرف التابع. ولاستبعاد هذا الاحتمال مهما كان بعيداً عن الحدوث يقتضي أن تظهر الولايات المتحدة مهارة جيواستراتيجية على الحدود المحيطية الغربية والشرقية الجنوبية لأوراسيا في آن .
أما التحدي المحدود لدرجة أكبر على الصعيد الجغرافي، وإن كان أكثر أهمية غالباً، فهو الذي يمكن أن يضم المحور الصيني الياباني غداة انهيار الوضع الأميركي في الشرق الأقصى، ولدى حدوث تغير ثوري في النظرة العالمية لليابان فهو سيجمع قوة شعبين منتجين على نحو استثنائي، ويستطيع أن يستغل شكلاً ما من (النزعة الآسيوية) بوصفها عقيدة موحدة ضد الاميركيين. ومهما يكن الأمر فلا يبدوا محتملاً في المستقبل المنظور أن الصين واليابان سوف تشكلان تحالفاً إذا أخذنا في الاعتبار الخبرة التاريخية الحديثة، وبالتالي يجب على السياسة الأميركية البعيدة النظر في الشرق الأقصى ان تكون قادرة بالتأكيد على منع حدوث هذا الاحتمال. وكذلك فالأمر البعيد جداً، وإن لم يكن مستبعداً كلياً، هو احتمال حدوث تحالفات أوروبية كبيرة جديدة، تشمل إما التواطؤ الألماني الروسي أو الوفاق الفرنسي الروسي. وثمة سوابق تاريخية واضحة لكلا هذين التحالفين، وبالتالي يمكن لأي منهما أن يظهر إلى الوجود إذا توقفت لسبب أو لآخر عملية توحيد أوروبا أو إذا ساءت العلاقات بين أوروبا وأميركا على نحو حاد. وفي الواقع، ففي الاحتمال الأخير يمكن للمرء أن يتصور تقارباً أوروبياً روسيا يهدف إلى استبعاد أميركا من القارة وفي هذه المرحلة تبدوا كل هذه الاحتمالات غير ممكنة فهي لا تحتلج إلى إساءة شاملة لإدارة أميركا لسياستها الأوروبية فحسب بل تحتاج أيضاً إلى إعادة توجه درامية من قبل الدول الأوروبية الرئيسية.
ومهما كان المستقبل، فمن المنطقي أن نستنتج أن السيادة الأميركية على القارة الأوراسية سوف تواجه بالاضطراب والشغب وربما"على الأقل" بالعنف المتقطع، ومن المحتمل أن تكون السيادة الأميركية غير منيعة إزاء التحديات الجديدة سواء من قبل المنافسين الإقليميين أو التجمعات الجديدة. وإن النظام العالمي الأميركي المسيطر حالياً والذي نجد فيه (أن خطر الحرب مستبعد الآن) يحتمل أن يكون مستقراً فقط في تلك الأجزاء من العالم التي تعتمد فيها السيادة الأميركية الموجهة بجيواستراتيجية طويلة الأمد على أنظمة اجتماعية سياسية متناغمة ومنسجمة ومرتبطة معاً بإطارات عمل متعددة الأطراف وخاضعة للسيطرة الأميركية .
(1) أ. بوغاتوروف وف. كريمينوك (كلاهما يعملان مدرسين كبيرين في معهد الولايات المتحدة وكندا) في "العلاقات الراهنة والآفاق المستقبلية للتفاعل المتبادل بين روسيا والولايات المتحدة"،مجلة "المجلة المستقلة "28 حزيران، 1996.
بريجنيسكى مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقاً ، أستاذ السياسة الخارجية بجامعة جون هوبكنز - واشنطن