"عندما تبلغ أمة ما هذا المستوى من القوة فإنه من غير المستبعد أن تفقد حكمتها وعدالتها وإتزانها لتصبح خطرا" على البشرية فتفقد قوتها. لكنها قد تستعيدها لو هي عادت إلى هذه الفضائل" جون آدامز 1778
ملخــص
تمتاز المشاريع الأميركية بطابعها البراغماتي الذي يبعدها عن الإيديولوجيا. والذي يضعها في حالة من التبدل المستمر تجعل من دلالات المصطلح السياسي الأميركي دلالات متغيرة بحسب الظروف. من هنا فإن الخطأ الأول في التعاطي مع المشاريع الأميركية هو خطأ إعطاءها دلالات ثابتة ومحددة (إيديولوجية). فقد طرح الأميركيون فرضيات النهاية ( التاريخ والقوميات والإيديولوجيا والأنثروبولوجيا وغيرها) ثم طرحوا العولمة ووضعوا لها المؤسسات الدولية ليعودوا فيطرحوا صدام الحضارات ويعيدوا سياسة الأحلاف بما يشكل تراجعاً تاماً عن الطروحات السابقة. ومن هنا دعوتنا الى تجنب قراءة مشروع الشرق الأوسط الكبير قراءة إيديولوجية. وتقوم حجتنا على ضرورة طرح التساؤل التالي حول أي مشروع أو مصطلح أميركي: هل تتمسك الولايات المتحدة بهذا المشروع لو هو تعارض مع مصالحها؟. والجواب هو دائماً النفي. وعليه فإن أي مشروع أميركي قابل للتعديل حتى الإنقلاب لو هو تعارض مع المصلحة الأميركية. وفي رؤيتنا الشخصية أن مشروع الشرق الأوسط الكبير يحقق وجوهاً عديدة للمصالح الأميركية لكنه يتطلب تضحيات لا تشجع البراغماتية على تقديمها. ومن هنا نرى أن الولايات المتحدة بدأت بالتراجع عن هذا المشروع. وهذه الورقة تعرض للعلائم الأولية على التراجع الأميركي عن هذا المشروع بعد نقده على ضوء نظرية الإستقراء المستقبلي والتحليل النفسي- السياسي.
مقدمـــة
من عادة التاريخ أن يقوم المنتصر بإعادة ترتيب الجغرافيا. من هذه العادة تغيرت خارطة العالم عبر معاهدة فرساي عقب الحرب العالمية الأولى. وتم تقاسم أوروبا والعالم عقب الحرب العالمية الثانية. وعليه فإن الطموح الأميركي لتغيير الجغرافيا ،وتحديداً في منطقتنا، هو طموح ينسجم مع المنطق التاريخي. وهو كان قد بدأ مع سقوط جدار برلين وتعامل معه العالم ( اوروبا وتنازلاتها السياسية والإقتصادية في حرب كوسوفو وغيرها) ودول المنطقة بصورة براغماتية واقعية. وإستمر هذا التعامل لغاية إصرار جورج ووكر بوش على تحويل أميركا إلى دولة تحصل على ما تريده بالقوة وليس بالطلب. مما يعني تحويل الحلفاء الأميركيين الى مجرد زوائد إستراتيجية. وهو امر ينطبق على كافة الحلفاء بدءاً بأوروبا وصولاً الى أصدقاء أميركا من العرب. ووصلت فلسفة القوة البوشية الى قمتها عبر الحرب على العراق التي تذكر بالمقولة الصينية المذكورة أعلاه.
الشرق الأوسط الكبير وفقدان الخصوصية
درجت مسؤولة برامج التنمية في الأمم المتحدة على رواية الحكاية التالية لموظفيها الجدد: (( كان هنالك قرد شجاع وذي حمية. ورأى هذا القرد سمكة تسبح بعكس التيار فأثارت شفقته ودبت فيه الحمية فخاطر بالتعلق في غصن شجرة وإحتال كي يطال الماء ويخرج السمكة من الماء وهو يظن أنه ينقذها)).
أما عن عبر هذه الحكاية فتشرحها المسؤولة كما يلي: (( إن الحماس والنية الحسنة والرغبة الصادقة كلها لا تكفي إذا كنا لا نأخذ في الحسبان البيئة الملائمة والمناسبة للتنمية. وهذا يعني أنه ليس بمقدورنا تصميم الحلول فهذه قد تنجح في مجتمع وتفشل في آخر. فالحل الذي يلائم القرد لا يلائم السمكة. وما إعتبره القرد بطولة كان جريمة بحق السمكة.)).
المؤسف أن نفوذ هذه المسؤولة محدود بحيث يعجز عن وقاية الشعوب النامية عموماً وشعوب الشرق الأوسط خصوصاً من جرائم القرد الأميركي. والمؤسف أيضاً أن عقولنا الأسيرة لا تعرف هذه الحكاية ولا تستوعب بالتالي عبرها.
بالإنتقال الى تطبيق حكاية القرد على مشروع أمركة الشرق الأوسط نجد أن إحتلال العراق قد شكل حدثاً مفصلياً في تاريخ المنطقة. فالشرق الأوسط لم يعد بإمكانه إستعادة معادلة توازنه السابقة لتلك الحرب. فهذه المعادلة كانت تستند الى ملحقات معاهدة فرساي التي أعقبت الحرب العالمية الأولى. والتي أجرت قائمة من الجراحات الجغرافية الوحشية. ونقول وحشية لأن تقسيمات تلك المعاهدة تسببت في سلسلة طويلة من الحروب بدأت بالحرب العالمية الثانية ( جاءت محاولة إنتقام ألمانية على ظلم فرساي) ولم تنتهي حتى الآن. بل أن هذه التقسيمات تعد بجملة حروب أوروبية وشرق أوسطية جديدة. وهكذا فإن فهم الحقائق الجيوسياسية وتحدياتها في الشرق الاوسط ، بعد الحرب على العراق , لا بد لها من تركيز بحوثها الاكاديمية السياسية على محاور ثلاثة هي:
1. السياسات القوية اقليمياً.
2. المؤسسات الاقليمية.
3. القوى الخارجية والانماط الاقليمية.
في ما يلي سنحاول ان استعراض كل نقطة على حدة وتحديد ما يبدو منها إشكالياً بحيث لا يمكن التغاضي عنه.
الرغبة الأميركية في إلغاء أية قوة إقليمية
بالنظر الى التقسيم الهيكلي للسلطة في النظام الاقليمي, فإن سيطرة أميركا على المنطقة ستؤدي في المستقبل المنظور الى منع ظهور أو بقاء اي طرف مهيمن اقليمياً او مناطقياً. وأمام معوقات هذه السيطرة الأميركية فإن الأميركيين باشروا باللجوء الى تبني العمليات المخابراتية القذرة ( السوداء). يدفعهم الى ذلك عجزهم عن تورط عسكري أكبر في المنطقة. ( تحريك الأقليات في سوريا وايران خصوصاً. وفي هذا الإطار يمكن تصنيف أحداث القامشلي ومبالغات المجتمع المدني وحقوق الإنسان في دول المنطقة عموماً. مع الإشارة الى تزامن هذه التحركات لتعويض ضعفها. حيث التزامن يزيد الإرباك ويعطي حجماً أكبر للظواهر). وهم يسعون بجد للحد من التلهي الإسرائيلي في الإنتفاضة لتحرير إسرائيل من أعبائها وتجهيزها لتنفيذ عمليات قذرة ضد الدول المعنية بالصراع معها أو المشاركة فيها. وفي هذا الإطار يمكن تصنيف إتفاقية الكويز مع مصر. والتعجيل الأميركي للتفاوض مع الفلسطينيين بعد وفاة عرفات. وتأمل السياسة الأميركية بذلك أن تدفع بالدول القوية المحتملة للتفكير في الإنخراط في وضعية الوجود الاميركي. ( وهنا لا تكتفي الولايات المتحدة بتبادل المصالح بل هي تهرب الى الأمام بطلبات ضاغطة لإثبات الإنخراط. كمثل الورقة اللبنانية والمعارضة المتأمركة وإغلاق مكاب المنظمات الفلسطينية ...) اما الدول الاصغر والاضعف فهي سوف تستغل الفرصة للتعامل مع الولايات المتحدة مباشرة. وربما على قدم المساواة مع القوى الوسطى في المنطقة. ( وهذه نقطة رهان المعارضة اللبنانية المتأمركة ضد سوريا). ففي العقود الماضية, كانت الدول الاصغر تفكر ملياً في رغبات القوى الاقليمية واعتباراتها قبل اتخاذ اية خطوة مهمة في السياسة المحلية او الخارجية. أم بعد إحتلال العراق فإن كل الصغار يتطاولون على كل الكبار.
مثال ذلك المقدمات التي تتمثل بخطوات مثل اعلان حاكم البحرين نفسه ملكاً, ومن ثم عقده لإتفاقية التجارة مع أميركا متفرداً عن السعودية. او اتخاذ سلطان عمان قراراً باقامة انتخابات عامة, او انشاء دبي منطقة "اعلام حرة" حيث يمكن للمستثمرين أياً كانوا ان يتمتعوا بالحرية الاعلامية..الخ. فكل هذه الخطوات ما كانت لتتحقق لو أُخذت في الاعتبار الحساسيات الاقليمية مجتمعة. إذ أن هذه الدول الصغيرة باتت تنظر الى رد فعل واشنطن وليس الى اي عاصمة اقليمية قبل الاقدام على اي خطوة. وهذا يبرر إهتمام القيادات الاقليمية بأن تراقب عن كثب تطورات السياسية الداخلية للدول المجاورة.
والامر سيان بالنسبة الى مصر التي يبدو دورها يتضاءل اكثر فأكثر. فالقاهرة لن يسمح لها بأي دور ريادي في أمور الخليج الامنية مثلاً. وهي تفضل عوضاً عن ذلك ان تكون مفيدة في جوارها القريب. أن اي ان تكون وسيطاً بين الاسرائيليين والفلسطينيين او حتى بين الفصائل الفلسطينية المختلفة. كما يمكن لمصر أن تلعب دوراً رئيساً في المغرب العربي عبر ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير. اما عن التأثير السوري في المنطقة ،وفي لبنان تحديداً، فهو تعرض لتحديات تشبه تحديات البحرين والإمارات وقطر للسعودية. مثال ذلك تنامي الدعوة للخروج السوري من لبنان. وتشجيع الولايات المتحدة لتلك الدعوة عبر قانون مراجعة سوريا (وليس محاسبتها) وتهافت فرنسا على إستصجار القرار 1559 وعبر قائمة من السياسيين اللبنانيين المرتبطين بالسياسة الاميركية او المراهنين عليها. وهؤلاء يعتبرون أن السيطرة السورية على لبنان , مسألة وقت لا اكثر, وذلك بسبب الضغوط الاميركية والفرنسية من جهة, ولإعتبارهم أن الاسباب التي تضفي شرعية للوجود السوري في لبنان كالحرب الاهلية والمواجهة مع اسرائيل, لم تعد مقبولة محلياً ودولياً. لكن هؤلاء يهملون خلفية المشهد السياسي الأميركي. ومن مناظره رفض وزير الخارجية باول استقبال ميشال عون رغم الحاحه. وأيضاً إدلاء عون بشهادته في غرفة خلفية في الكونغرس بما ينتقص من اهمية شهادته. فالولايات المتحدة تريد مساومة سوريا على الورقة اللبنانية لكنها لاتريد اسقاط هذه الورقة التي قد تضطر اميركا للعبها في حال إضطرارها للخروج من المنطقة. لكن حاجة أميركا الى المصداقية أمام الأقليات التي تحركها قد تدفعها لتصعيد الضغوط على سوريا بتهديدات مباشرة للأمن السوري.
واذا إستمر غياب عنصر الهيمنة الاقليمية والمحلية, سيتوجب على الباحث الاكاديمي السياسي ان يسأل عن نتائج التعاون الاقليمي في ظل التبعات السلبية التي يتركها السعي الى الهمينة على التعاون السياسي والاقتصادي في المنطقة. وهذا السعي ليس المسؤول الوحيد عن فشل محاولات عدة لمأسسة العلاقات العربية وتأطير التعاون الاقتصادي, لكنه من دون شك عنصر مهم جداً في هذا الفشل.
توجّهـات مؤسساتيــة جديــدة
في ظل السعي للهيمنة الإقليمية بدت جامعة الدول العربية غير معنّية بالاحداث الجارية, وعلى رغم ذلك, بقيت على قيد الحياة. ثم أتت الحرب على العراق ، والفترة اللاحقة للحرب , لتقلّصا أكثر فأكثر شرعية الجامعة والاهمية التي توليها لها الدول الاعضاء. حتى باتت إستمراريتها جزءاً من الفولكلور السياسي العربي. وكان من الطبيعي أن يعزز عجز الجامعة توقعات ظهور مؤسسات اقليمية جديدة. بحيث يتجلّى لنا جيداً انبعاث منظمات اقليمية جديدة أو منظمات فرعية ينحصر هدفها في المصلحة المشتركة العملانية بدلاً من القومية وتضع نصب عينيها أهدافاً تقتصر على المكان والفعالية والوقت بدلاً من " المهمة الابدية العقائدية " التي أصبحت جالبة للتهم وللسخرية الأميركية. لكنها كسبت مواقع جديدة تتعزز بتنامي العداء الاميركي للمنطقة وردود فعلها على هذا العداء.
هذا ويمثل جيران العراق مثالاً على ذلك, فقد قام ممثلوهم الذين يضمون الدول العربية وغير العربية (ايران وتركيا) المحاذية للعراق, اضافة الى مصر, بالجلوس الى الطاولة مرات عدة ناشدين هدفاً محدوداً لكن محسوساً. وهو التباحث في مسألة تنسيق السياسات في ما يتعلق بالحرب الدائرة في العراق أولاً. ولاحقاً بنتائجها الاقليمية ووضع العراق الجديد في ظل الاحتلال الاميركي. وهنا يظهر سؤال واحد ينبغي عرضه على بساط البحث, وهو احتمال أن يتطوّر تجمع مماثل ليصبح نواة بنية فرعية أكثر استمرارية تابعة لمنظمة اقليمية للامن والتعاون على غرار لجنة الامن والتعاون في اوروبا/ ومنظمة الامن والتعاون الاوروبية مع احتمال مشاركة الفاعلين الدوليين الذين يشكلون رباعية الشرق الاوسط ( الولايات المتحدة, الاتحاد الاوروبي, روسيا, الامم المتحدة). وهو ما وضعت له الأسس في مؤتمر شرم الشيخ لدول الجوار العراقي.
كما أنه من المرجّح أن تطرأ تغيرات ايضاً تمسّ مجلس التعاون الخليجي, وهو توقع تؤكده خلافات قمة المجلس بسبب إتفاقية تجارة البحرين – أميركا وجملة أسباب اخرى غير معلنة. فاليمن والعراق يدقّان ابواب المجلس لدخوله. بل أهم من ذلك أنّه ينبغي اعادة النظر في هذه المنظمة التي هدفت اساساً الى تعزيز النظام الملكي الخليجي ضد التهديدات التي تشكلها ايران والعراق. والتي فقدت مبرر وجودها بعد احتلال العراق واحتواء ايران بتواجد اميركي على حدودها. كما أنّ تجمّعاً فرعياً توحّده المصالح المشتركة قد يتشكّل من تلك الدول العربية التي تتشارك في مصالح رئيسة متعلقة بالصراع العربي - الاسرائيلي وهذا مثال آخر.
حالياً, تتشكّل نواتان لمثل هذا التجمع هما:
أولاً: ما يسمّى باللجنة التابعة لجامعة الدول العربية (التي تتألف بشكل رئيسي من مصر والمغرب والسعودية وسورية) التي أبصرت النور لمتابعة تطبيق خطة السلام العربية التي تم اعتمادها في القمة العربية التي عقدت في بيروت عام 2002. والتي يمكن تطويرها للسعي من أجل تحديث هيكلية الجامعة وتطويرها.
ثانياً: مجموعة الدول التي اختارتها الولايات المتحدة (مصر, الاردن, المغرب, السعودية, البحرين, السلطة الفلسطينية) وقد اجتمع ممثلوها بالرئيس الاميركي جورج بوش في قمة شرم الشيخ التي عقدت في حزيران (يوينو) 2003.
هذا ولا يعتقد أن تفضيَ حداثة اطر العمل هذه الى شيء افضل مّما يوجد أصلاً. وفي الواقع, ينبغي أن يركّز البحث في توجيه السياسة الى الفرص والعوائق التي تقف امام هذه التجمعات وتحول دون تطوّرها الى عناصر راسخة لهيكلية أمنية اقليمية وأداة تسهم في الوقاية من الازمات وحلّها, والى صلة وصل بين القوى العالمية المحرّكة كما الى تطوير المؤسسات الاقليمية. وهنا يأتي تدخل القوى الخارجية لإبقاء كل مشاريع منظمات التعاون الإقليمي تحت السيطرة الخارجية والأميركية تحديداً. والخلاص من هذه السيطرة يقتضي العمل على إجراء تعديلات في صلاحيات وإستراتيجيات المؤسسات الإقليمية. وإيكالها أدوار فاعلة في مشروع إصلاح منبثق عن واقع دول المنطقة وظروفها الخاصة. حيث نرى ضرورة تفريع منظمة مصالحة تابعة للجامعة العربية. يكون هدفها التوسط لحل الخلافات البينية بين السلطة والمعارضات في كل دولة عربية على حدة. وذلك بغية الوقاية من التوظيف المخابراتي الأجنبي لهذه المعارضات على غرار ما حصل للمعارضات العراقية.
أما من حيث موضوعية طرح أميركا لمشروع الشرق الأوسط الكبير فلدى مراجعتنا لنص المشروع نجد أنه يقوم على مخالفات متشابكة للمنطق. وهي مخالفات تستدعي تعديلات لاحقة على المشروع. بل أن هذه التعديلات بدأت بالتبدي واضحة لدى متابعي السياسة الخارجية الأميركية. ولنستعرض أولاً المخالفات المنطقية التي تضمنها المشروع:
1- إستناده الى تقارير التنمية العربية: وهي نتاج عقول عربية أسيرة بتوجيهات أميركية خالصة. وهي تذكر بحكاية القرد والسمكة. حيث تتحول سعادة الإنسان الى أرقام. وحيث توضع الأرقام إستناداً الى عوامل غير متجانسة. مثال ذلك أن تتساوى علامات إستعمال الإنترنت مع متوسط الأعمار ومع تأمين مياه الشرب. وحيث يتم تجاهل عوامل مثل نسبة الإنتحار ونسبة إدمان الكحول والمخدرات وكأنها خارج إطار مؤشرات السعادة البشرية.
2- دخوله في إطار دمقرطة الشرق الأوسط: وهو مشروع يستند بدوره الى تقارير التنمية العربية ( راجع نقدنا المفصل للمشروع ملحق مع هذه الورقة). حيث نشر الديمقراطية الأميركية يمر بشن حروب تصل ضحاياها الى مئات الآلاف لتبقى الديمقراطية الموعودة من نصيب الناجين من هذه الحروب. ولو عدنا الى النموذج العراقي لوجدنا أن أوج هذه الديمقراطية يتجلى في إصرار بوش على إجراء إنتخابات لا يمكن له مجرد الإدعاء بديمقراطيتها. وإنما هي تحدد لها هدفاً مسبقاً هو إنتاج وتصنيع قرضاي عراقي.
3- تجاهل الخصوصيات الحضارية: ولنا هنا عودة أخرى الى القرد والسمكة. حيث توجد مسافة خفية بين الحرية وبين الكرامة. وحيث شعوب المنطقة تفضل الكرامة على الحرية لوكانت خياراً. وذلك بدليل المقاومة العراقية الشرسة في وجه الإحتلال. فالنظام الشمولي يقمع حريات معاديه السياسيين لكنه يحتفظ للشعوب بكرامتها. وهو عكس ما يفعله المحتل إذ ينتهك كرامة الشعوب ويحاول تعويضها بقناع من الحرية الزائفة. فهل دفع الشعب العراقي مئة ألف قتيل وثلاثة أضعاف هذا العدد من المعوقين والجرحى كي يحصل على نعمة الإنتخابات؟. وهل تم تهديم البنى التحتية العراقية في البلد من أجل دعم الشركات الأميركية المفلسة؟. وهل تم نشر الفوضى في العراق لغاية خطر إندلاع صراع أهلي فيه من أجل العودة الى حكم العشائر (الياور) وحكم البعث السابق (علاوي) وهو كان حاكماً؟.
4- تفجير التناقضات الداخلية: يبدو الطموح الأميركي في نشر الديمقراطية والتأسيس للشرق الأوسط الكبير مرتبطاً بصورة عضوية في تفجير التناقضات الداخلية في البلدان المستهدفة. وذلك دون خجل من توظيف المخابرات الأميركية في عمليات قذرة تستهدف هذه التفجيرات.
5- تهديد التوازنات الإقليمية: وهو ما أشرنا له أعلاه من إصرار أميركي على إلغاء المؤسسات الإقليمية وإصابة القوى الأساسية بالشلل وتشجيع الصغار على تجاوز حدود فعاليتهم الإقليمية. وذلك وصولاً الى نشر الفوضى الإستراتيجية بغية إعادة تركيب المنطقة وفق تصورات القرد الأميركي. وهنا يطرح السؤال حول مستقبل المنطقة وشعوبها في حال إنعدام صلاحية التصورات الأميركية وعدم قابليتها للحباة في هذه المنطقة من العالم؟.
6- تجاهل التناقضانت الإقليمية: يحاول الأميركيون تطبيق مشروعهم في منطقة عابقة بالتراث وبالتالي بتاريخ من الأحقاد البينية. بحيث يصبح من الحماقة التفكير في جمع هذه الأحقاد التاريخية في تصور موحد. فالتاريخ لم ينتهي وهو لم يأتي بالمصادفة. إذ تتوزع دول وشعوب المنطقة وفق نسيج حضاري يضم ملامح التاريخ المشترك لكنه يحتوي أيضاً على تاريخ الخلافات بين المكونات الحضارية للمنطقة.
7- أن أميركا إنتصرت في حرب باردة طالت الجوانب الثقافية والإيديولوجية والإقتصادية دون أن تكون عسكرية بحال من الأحوال. ولو قبل الإتحاد السوفياتي التحول الى فاشية شبيهة لكانت لديه قوة عسكرية كافية للإستمرار وإن كانت غير كافية للنصر. وعليه فإنه من الخطورة بمكان أن تبدأ الحروب العسكرية الأميركية بعد الإنتصار الفكري النظري الخالص.
8- تناقض المنطلقات السياسية الأميركية الراهنة مع جملة ثوابت إستراتيجية أميركية سابقة. حتى يمكن القول بوجود إنقلاب على هذه الثوابت يقوم به صقور إدارة بوش. ولعل في مقدمة هذه الثوابت الرفض الأميركي لخوض الحروب مفتوحة النهايات. فلا حرب أفغانستان إنتهت ولا الحرب العراقية تنبيء بنهاية قريبة.
9- تحول الفكر السياسي الأميركي من الليبرالية والواقعية المطلقة الى مبدأ الكرامة الصوفية. ومحور الصوفية البوشية الإعتقاد بحتمية النصر الأميركي مهما كانت الظروف. ومن مظاهر هذه الصوفية طروحات النهايات: التاريخ والإيديولوجيا والأنثروبولوجيا وغيرها من النهايات. وهذه الصوفية السياسية هي محرك الحرب على العراق. وهي حرب إحتاجت الى التفاؤل الصوفي المتطرف لخوضها.
10- إن سوابق القوة الأميركية لا تدعم بحال هذا التفاؤل الصوفي. فقد فشلت هذه القوة في كوريا وفيتنام وغيرهما. وهي حملت وزر قنبلتين نوويتين في اليابان بثمن تحريك المارد الصيني.
11- إن المراجعة التاريخية لمحاولات تغيير الجغرافيا غير مشجعة. فالعديد من حروب القرن العشرين إنطلقت من ظلم معاهدة فرساي. بما في ذلك الحرب العالمية الثانية والحروب العربية الإسرائيلية...الخ.
12- أن معارضة الأمركة المتحولة الى الفاشية هي معارضة عالمية. بدليل إضطرار بوش لخوض حرب العراق بدون موافقة مجلس الأمن الدولي وحتى حلف الأطلسي.
13- الإعلان الأميركي الصريح عن رفض هيكلية الأمم المتحدة. وذلك عبر تجاوزها والدعوة لإعادة هيكليتها. مع تحويلها الى وظيفة كاتب العقود على غرار إستصدار القرار 1559 كتكريس لعقد أميركي – فرنسي بعودة فرنسا الى الساحة اللبنانية.
14- الخطأ القاتل بتحويل دلالة الشرق الأوسط الى الشرق المسلم عبر إعلان الصدام مع الإسلام (هنتنغتون وغيره) وإستخدام مصطلح الحرب الصليبية. والأهم بطرح الشرق الوسط الكبير بشعوب إسلامية وشراكة يهودية.
15- أن العسكريتاريا والفاشية تحتاج الى مساندة شعوب مستعدة للتضحية بأبنائها ورخائها. وهي تضحيات يستحيل طلبها من الشعب الاميركي مهما بلغت درجة تخويفه.
الشرق الأوسط الكبير
عندما يطرح الأميركيون الإسلام كعدو حضاري فإن الجمهور الغربي يفسر هذا الطرح عبر دلالاته الخاصة إذ يعتبر هذا الجمهور أن كل دولة إسلامية هي دولة عربية. بما يعادل القول بأن صدام الحضارة الغربية سيكون صداماً مع قوميات دينية (العرب والصينين). بهذا يحتفظ هذا الطرح بعضوية كافة دول الشرق الأوسط في نادي العداء لأميركا (باستثناء إسرائيل اليهودية) وللغرب عموماً. وهكذا فإن عضوية النادي تضم بالإضافة للدول العربية (بما فيها فلسطين – حماس) كلاً من تركيا - وإيران وأفغانستان وباكستان وصولاً إلى حدود الصين. دون إهمال الحزام الأوراسي المسلم (جهموريات سوفياتية مسلمة سابقة). وهكذا فإن مقولة الصدام مع الإسلام تنعكس أول ما تنعكس بتغيير الدلالة الديموغرافية لمصطلح الشرق الأوسط لتحوله إلى دلالة الشرق المسلم. بما في ذلك من توسيع لرقعته الجغرافية. وهو توسيع يجد تبريره في تغيير جغرافية المصالح الإستراتيجية لدول المنطقة في فترة ما بعد الحرب الباردة. حيث نلاحظ رغبة كل دولة في تأمين مصالحها الإستراتيجية في هذا الفراغ ونعدد:
1- تركيا: التي تحاول ملء الفراغ في جمهوريات آسيا الوسطى ذات الأصول التركية ولدى الأقلّيات التركية في دول أوروبا الشرقية ومنها ألبانيا المسلمة.
2- ايران : التي احتوت أعداد كبيرة من الأذربيجانيين هاجرت إليها عقب قيام الدولة الشيوعية. والتي تجد لنفسها حقوقاً في كافة جمهوريات آسيا الوسط المتاخمة لحدودها. كما في أفغانستان والدول التي تحوي أقلّيات شيعية.
3- اسرائيل: التي تطالب بحصتها في ثروات آسيا الوسطى وتتخذ من تحالفها مع تركيا مدخلاً لتأمين هذه المصالح لكلا البلدين.
4- الدول العربية : الباحثة عن تحالفات جديدة لِحماية ثرواتها من الاستنـزاف وهكذا فإن حدود الشرق الأوسط الجغرافية تشهد توسعاً لا يمكن للتسمية الأصلية أن تستوعبه. كما تشهد المنطقة احتمالات تصادم المصالح في ما بينها لدرجة يمكنها أن تصل إلى حدود التفجير. ولو كانت فرضية "صدام الحضارات" قابلة للاعتماد والتصديق لكانت قارب نجاة لِهذه الدول وحماية لَها من تفجر صراعاتِها الخارجية والداخلية على حد سواء. ولا نستثني إسرائيل كونَها أكثر دول المنطقة استفادة من هذه المقولة.
وهذه الوقائع تدفعنا للتساؤل عما إذا كان من الممكن احتواء صراعات المنطقة والحؤول دون تفجرها لنجد أنفسنا في شرق أوسط مُمتد ومتجاوز لِحدوده الجغرافية؟. أم أن الصراعات ستفجر هذه المنطقة لتحدث فيها تغييرات جذرية يصعب تحديدها بدقة؟ وهنا كانت الولايات المتحدة أمام الخيارات التالية:
أ- أن تتابع الولايات المتحدة إثارة مشاكل الأقليات في المنطقة فتقضي بذلك على توازنها الديموغرافي الراهن. بِما ينْزع عن المنطقة طابعها الإسلامي أو العربي المهيمن. فتصبح قادرة على استيعاب الحاقات جيوسياسية تمهد الطريق أمام شرق أوسطية ممتدة وغير قادرة على رفض عضوية إسرائيل ؟. وهو حل يتيح للولايات المتحدة تجاوز المناطق الشرق أوسطية العصية على مشروعها.
ب- أن تركز الولايات المتحدة على مصالحها في آسيا الوسطى (حيث بلغت استثماراتها حدود الـ 200 مليار دولار) فتعمد إلى إلْهاء الدول المتاخمة لآسيا الوسطى بجملة مشاكل داخلية تجعلها عاجزة عن تَهديد هذه المصالح ؟. وبذلك تمتنع عن استمرارية الشراكة مع إسرائيل. مقابل ضمان أمنها بتسوية مع العرب أو بالحفاظ على تفوق عسكري يبقيها في إطار حرب باردة معهم. وهو يتيح للولايات المتحدة سيطرة غير مباشرة وبدون تورط على النفط العربي.
ج- أن تسعى الولايات المتحدة لاستغلال القبول السياسي الذي لم يسبق لَها و أن تمتعت به في دول المنطقة لتحول كامل المنطقة إلى حزام أمني في مواجهة الخطر سواء كان صينياً أو يابانياً أو روسياً أو حتى أوروبياً ؟. مع ما يتيحه ذلك من استفادتها من ثروات المنطقة ؟ مع تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة عولمة - أمركة نموذجية؟.
هذا الطرح الأخير هو الطرح المثالي الصوفي الكامن وراء مشروع الشرق الأوسط الكبير. الذي تعثر في محطته الأولى وهي المحطة العراقية.
ومهما يكن فإن غموض مستقبل المنطقة مرتبط بغموض الإستراتيجية الأميركية. فلو نحن تحرينا أوضاع المنطقة ما بعد حربي العراق (الأولى والثانية) لوجدنا أنّها شديدة السوء بالمقارنة بفترة ما قبلهما. وهذا يشكل إدانة جماعية، من أطراف متناقضة، للسياسة الخارجية الأميركية. فعداك عن الخسائر الخليجية الفادحة والانْهيار العراقي فإنك تجد أن الانعكاسات الاقتصادية لِهذه الحرب تؤثر على دول الجوار الجغرافي وعلى دول العمالة البعيدة عن المنطقة. دون تجاهل العواقب التفككية لِهذه الحرب. حيث أدت لوضع مشاكل دول الشرق الأوسط الداخلية على نار متقدة. حتى بتنا نلاحظ علائم التفكك وكأنّها تنتظر الفرص حتى تنفجر. ويكفي أن نذكر في هذا المجال الأزمات التالية :
أ- احتمالات تقسيم العراق والتي تولد انقسامات عنقودية في أرجاء المنطقة في حال حدوثها.
ب- أزمة الأقلية الشيعية في الخليج (البحرين والعراق خصوصاً).
ج- أزمة الجزر الثلاث بين الإمارات وإيران.
د- أزمة المياه مع تركيا.
ه- توجه المعارضة الداخلية باتجاه لعب دور السلطة الموازية وليس البديلة.
هذا دون أن ننسى الأزمات المزمنة للمنطقة والتي عاودت للظهور. أما إسرائيل فقد تضررت بدورها من حرب العراق. فهي وأن حققت فائدة اقتصادية منهما فإنّها قد أفقدتْها دور الناطق باسم الولايات المتحدة والمدافع عن حقوقها في المنطقة. وهو دور طالما أحسنت إسرائيل استغلاله. وتلازم فقدان هذا الدور مع الحد من صلاحيات إسرائيل وتعرضها لضغوطات أميركية لم تتعرض لِمثلها منذ مشاركتها بالعدوان الثلاثي عام 1956. وانعكس ذلك في داخل إسرائيل بتصاعد تأثير الأصولية اليهودية واغتيالِها لرابين وإتيانِها بنتنياهو الذي صرح أن هنالك 4 إسرائيلات وليس إسرائيل واحدة في إشارة له إلى تفجر التناقضات الإسرائيلية – الداخلية. ثم عاد باراك بإرادة أميركية ليكمل دور رابين. ومن بعده شارون الذي يستعد اليوم لموقف شبيه على الرغم من مواقفه الرافضة لأية تسوية سلمية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل السلام بالنسبة لأميركا هو مسألة استراتيجية أم مجرد صيغة تكتيكية ؟ وبالتالي هل هو سلام ؟ أم تسوية ؟ أم حرب باردة جديدة ؟.
والواقع أنه ومنذ سقوط جدار برلين ظهرت حماسة أميركية ملفتة لتجميع دول المنطقة في حلف يتخطى حدوده الجغرافية. فقد إستعجلت أميركا عقد مؤتمر جينيف ثم شجعت الحلف التركي – الإسرائيلي ودعمته وأمنته من المعارضات العربية والإسلامية. كما عملت على ترسيخه بتهيئة بعض الدول العربية للإنضمام إليه. وهذا ما أعلنته كونداليزا رايس فور تسلمها منصبها في ادارة بوش الأولى (2001). وبعدها بدأت لولايات المتحدة باستخدام الأزمات الاقتصادية لدول المنطقة لتضغط عليها باتجاه الدخول في هذا الحلف. وبطبيعة الحال فإن هذا الحلف لا بد له من أن يتسع لعضوية الأعماق الإستراتيجية لدول المنطقة. وخصوصاً جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة والإسلام الشمال أفريقي والشرق أوروبي. وهذا الحلف هو نواة مشروع الشرق الأوسط الكبير. وتتدعم هذه الصورة الوردية للحلف الشرق أوسطي بإنْهاء حالة العداء العربي – الإسرائيلي عبر معاهدة تسوية معجلة.
المكاسب الأميركية من الشرق الأوسط الكبير
تمتد خارطة الشرق الأوسط الكبير من شمال أفريقيا المتاخم لأوروبا الى تخوم الصين وروسيا. وبالتالي فإن قيام هذا الحلف سيكون أداة إحتواء أميركية لكل الخلفاء المحتملين للإتحاد السوفياتي. عداك عن كون هذه المنطقة تحتوي على معظم المخزون النفطي العالمي. إلا أن هذا المشروع يأتي في ظل تشكيك مطلق في مبدأ الصداقة والمصداقية الأميركية. فبمراجعة التعديلات الإستراتيجية لحلف الأطلسي ( 26 / 4 / 1999) نجد فيها تعهدات أميركية تتناقض ومشروع الشرق الأوسط الكبير. وهذه التعهدات هي التالية:
1- التعهد الأميركي بعدم وجود مصالح للحلف على تخوم الصين. وهو تعهد خرقته إدارة بوش عبر تكثيف نشاطها التجسسي على الصين فكانت أزمة الطائرة الصينية ( شباط 2001) وبعدها بحجة الرد على حوادث أيلول عبر حربها على أفغانستان. وأعقبتها بتفجير الأزمة الكورية (قرار أميركي بقطع المساعدات النفطية عن كوريا الشمالية بهدف إفتعال الأزمة). ومن ثم تكثيف الوجود الأميركي في المنطقة وأخيراً بطرح مشروع الشرق الأوسط الكبير كخطوة على طريق إحتواء الصين.
2- تراجع إدارة بوش عن الإعتراف الأميركي بوجود مصالح أوروبية حيوية في شمال أفريقيا لغاية ضمه الى النفوذ الأميركي عبر الشرق الأوسط الكبير. وكانت الإستفزازات الأميركية قد بدأت في الأسبوع الأول لدخول بوش البيت الأبيض عبر إعلانه عن مشروع الدرع الصاروخي. ومعه عن الحظر الأميركي عن تكوين قوة أوروبية للتدخل السريع.
3- تحدي إدارة بوش لروسيا عبر إعلانها عن الدرع الصاروخي كما عبر تدخلها في دول الإتحاد السوفياتي السابق وخاصة منها المرشحة للإنضمام الى حلف مع روسيا.
وعليه فإن هذه التراجعات هي مكاسب محتملة لأميركا. إلا أنها تدفع هذه القوى ومعها الدول الصناعية الكبرى بإتجاه التكتل لمواجهة تهديدات مصالحها وتحويلها بإتجاه خدمة المصالح الأميركية بثمن تراجع نمو هذه الدول ومستقبلها. وهذا ما بدأ بالتبدي عبر ضعف الدولار والتلاعب الأميركي بأسعار النفط وقبلهما بالتلاعب الأميركي بقوانين منظمة التجارة العالمية (الغات). حيث وصلت الأمور الى حدود المواجهة الإقتصادية بين الإتحاد الأوروبي وأميركا بسبب هذه المخالفات ومنها الدعم الذي تقدمه الدولة الأميركية لصناعة الفولاذ ولبعض الزراعات.
تهديدات الشرق الأوسط الكبير للمصالح الأميركية
سيناريو الشرق الأوسط الكبير ينتمي إلى الطوباوية أكثر منه إلى البراغماتية الأميركية. فهو يحول الشرق الأوسط إلى جنة متكفلة برعاية المصالح الأميركية. لكن هذه الكفالة لا تلغي قائمة من الأسئلة المصيرية بالنسبة لمستقبل المصالح الأميركية في المنطقة وفي طليعتها :
أ - ما هي الفائدة الأميركية من إجبار أغنياء المنطقة على تبني فقرائها والدخول معهم في حلف استراتيجي ؟.
ب- أن هذا الحلف يجمع بين مالكي الثروات ومالكي التقنيات العسكرية وبالتالي فإنه يشكل خطراً على المستقبل الأميركي في المنطقة.
ج- أن التناقضات بين دول هذا الحلف تجعله قابلاً للانفجار في أية أزمة مفصلية. خصوصاً وأنها تجمع بين التناقض العرقي والديني والمذهبي والثقافي واللغوي. وقبل هذه الأسباب، وكثيرة غيرها ، فإن البراغماتية الأميركية لا تؤمن أساساً بالأحلام الوردية فهي سياسة مصالح تحسن تحديد غاياتها وهي تحدد أهدافها في المنطقة على النحو الآتي :
1- الدول النفطية : وتضم دول الخليج العربي والعراق وإيران.
2- التخلص من أعباء المعونات المقدمة لإسرائيل والتي لَم تعد مبررة استراتيجياً. وتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي هي أكثر الحلول وجاهة بهذا الصدد.
3- التحكم في تناقضات المنطقة وملكية خيوطها التي تسمح بقلب الطاولة على أي نظام أو توازن يهدد المصالح الأميركية في المنطقة.
وهذه الأهداف باتت بحكم المضمونة التحقيق بعد حرب العراق وهي لا تحتاج سوى لبعض اللمسات التجميلية الأخيرة لإخراجها. ومن هذه اللمسات نذكر أهمها:
1- إخراج تسوية سلام مقبولة من جميع الأطراف أو التأسيس لحرب باردة عربية – إسرائيلية.
2- إيجاد منافذ لتأمين الانفتاح الإيراني على الحلف الأميركي. حيث تستخدم إدارة بوش الملف النووي الإيراني للضغط بإتجاه مثل هذا الإنفتاح.
3- تعويض مشاعر الخسارة الناجمة عن الحرب على العراق.
4- تأمين مخرج مقبول للأزمة العراقية حيث يرجح تشجيع مخرج عربي لَها وذلك على غرار مخرج الأزمة الليبية.
والسؤال هنا لا يطرح حول القدرة الأميركية على تأمين ضبط الحلول بل هو يطرح حول قبول إسرائيل بتهميش دورها الإستراتيجي على هذا النحو. حيث الإغراء الاقتصادي ضعيف في هذا السيناريو لأن إسرائيل محاطة بفقراء العرب. ولأن أغنياءهم لا يحتاجون للأسلحة في ظل تحالفهم مع الولايات المتحدة. فإذا ما لاحظنا أن متوسط دخل الفرد الإسرائيلي الحالي هو في حدود الستة عشر ألف دولار سنوياً فإننا ندرك خطورة هذا التهميش على إسرائيل، فاليهودي يفضل الشتات على تدني المدخول المادي. وهو سيترك أرض ميعاده إذا ما تراجع دخله. ولكن هل يصل الخلاف الأميركي – الإسرائيلي إلى حدود التصادم ؟
لقد وصل هذا الخلاف لغاية الآن إلى حدود تضارب المصالح والصراع الخفي. أما أن يتحول إلى صدام فهذا أمر مستبعد تماماً. فاليهود أحسنوا، عبر تاريخهم المتقطع، تجنب مصادمة الأقوياء. كما أحسنوا الهروب من أية مواجهة من هذا النوع. لكنهم أتقنوا في المقابل التخطيط طويل الأمد لإحتواء أعدائهم وتأجيج صراعهم مع الغير. ويبدو أن محاولات احتواء اليهود للولايات المتحدة قد بدأت منذ فترة ليست بالقصيرة. ومن علائم هذا الاحتواء نذكر:
أ- الحضور السياسي اليهودي وأثره على الحكومة الفيديرالية. ومُمارسة هذا التأثير بصورة استعراضية – استفزازية (تعكس جنون العظمة اليهودية). هذه الصورة التي كانت سبباً لردود فعل تاريخية سببت لليهود محاولات جادة لتصفيتهم. أما عن ردود الفعل الراهنة فتمثلها داخل أميركا مجموعات من الآريين المتطرفين (الميليشيات الأميركية البيضاء التي تضع الخلاص من اليهود في مقدمة أهدافها).
ب- التدخل اليهودي المباشر في الأسرار الأميركية الإستراتيجية. سواء عن طريق تجنيد عملاء للموساد داخل المخابرات الأميركية أو عن طريق اليهود الذين تتيح لَهم وظائفهم الإطلاع على هذه الأسرار.
ج- الخيانة الإستراتيجية : حيث تورد تحقيقات وزارة الدفاع الأميركية ما يشير إلى أن إسرائيل قد حصلت على أسرار القنبلة النوترونية من مخترعها اليهودي الأميركي صمؤيل كوهين. وذلك قبل إطلاع الرئيس نيكسون عليها. كما تشير هذه التقارير إلى أن إسرائيل باعت هذه الأسرار للصين لقاء مبالغ طائلة وهذا النوع من الخيانة لا يخضع عادة لاعتبارات الصفح والغفران.
د- إن اعتماد الإدارة الأميركية مبدأ "حقوق الأقليات" وترجمته إلى قانون يعكسان السيطرة اليهودية على العقل السياسي الأميركي. ذلك أن أثارة الفوضى الديموغرافية في أي مكان من العالم هي فلسفة يهودية بحتة. فاليهود عملوا عبر تاريخهم على استغلال مثل هذه الفوضى بعد إثارتها. وفي خضم الفوضى الإستراتيجية الأميركية الراهنة فقد تحولت هذه الفوضى إلى بديل استراتيجي ورط الولايات المتحدة في حروب صغيرة ذات منحى ديموغرافي. وصحيح أن هذه الحروب قد عادت على الولايات المتحدة بفوائد اقتصادية لكنها في الوقت ذاته ورطت الولايات المتحدة في صراعات من شأنِها تعميق العداء لأميركا وتشعيبه. بحيث يتحول إلى تهديد مستقبلي جاد للمصالح الأميركية. مثال ذلك التورط الأميركي في يوغسلافيا وما يستتبعه من تورط بلقاني مستقبلي. والتورط في القضية الكردية (خصوصاً بعد اعتقال أوجلان) وغيرها من التدخلات المعلنة وغير المعلنة.
ه- إن اليهود الأميركيون يهددون التوازن الاجتماعي داخل الولايات المتحدة بما يمهد لتنامي مشاعر الاضطهاد لدى الأميركيين غير اليهود إذ يبلغ متوسط دخل الفرد الأميركي حدود السبعة وثلاثين ألف دولار سنوياً في حين يبلغ مثيله لليهودي الأميركي خمسة وأربعون ألف دولار أميركي. مع ملاحظة إنكار أو كتمان عدد كبير من يهود أميركا ليهوديتهم.
ولعله من المنطقي بعد كل ذلك التأكيد على أن أية محاولة لإعادة ترتيب المصالح الأميركية، ووضعها في إطار استراتيجي، ستكون مضطرة لأن تأخذ هذه الأضرار اليهودية في حسبانها.
بالرغم من المحاذير المعروضة أعلاه فإن الولايات المتحدة أمام التهديد الاقتصادي مستعدة لاحتلال الشرق الأوسط على الطريقة الكولونيالية القديمة كبديل لصيغة الانتداب التي تمارسها راهناً.
لكن حكمة لابد من ذكرها في سياقنا وهي القائلة أن القوة ليست واقية من الموت. وأن الجبابرة الأسطوريون يموتون دائما" بصورة مفاجئة وغير متوقعة وهم في أوج قوتهم وجبروتهم. هكذا مات شمشوم وأخيل والاتحاد السوفياتي. واذا كان لكل من هؤلاء الجبابرة نقطة ضعفهم المميتة فلا بأس من مجرد تعداد نقاط ضعف الجبار الأميركي وهي التالية:
1. الثغرات الأمنية واختراقات ما بعد التراخي الأميركي في التسعينيات.
2. ثغرات النظام الرأسمالي ( انظر كتاب شوروش: أزمة الرأسمالية العالمية).
3. انفجار الايديولوجيات الذي صاحب انفجارات الثلاثاء وبعدها الحرب على العراق.
4. التفرقة العنصرية داخل اميركا ( من ليتل روك الى سينسيناتي).
5. ثغرات جهاز المناعة في الجسد الاميركي ( الجمرة الخبيثة كنموذج اختباري).
6.عشوائية السوق والبورصات ( لم تتوصل اميركا حتى اليوم الى استقرار مؤشرات بورصتها. وبينت جميع الدراسات أن للسوق مزاجها الخاص ومن مظاهره ضعف الدولار).
7.الميليشيات الأميركية البيضاء ( المسؤولة عن انفجار اوكلاهوما).
8.حرب المعلوماتية وفيروساتها القادمة ( فيروس ريد كود هو مقدمتها).
على طريق عقلنة الشرق الأوسط الكبير
على صعيد النقاش حول السياسة الدولية في اعقاب الحرب على العراق, بات هناك حديث واسع حول "اعادة صنع" و"اعادة تشكيل" و"اعادة تنظيم" الشرق الاوسط". هذه هي الحال على رغم مصاعب الولايات المتحدة وحلفائها في العراق. و هذا النقاش يشمل المطالبة بدمقرطة "الشرق الاوسط الكبير" وهو ضمن اجندتي دوائر المحافظين الجدد والليبراليين الاميركيين, ويراها الفريق الاول أميركية فيما يعتبرها الثاني أطلسية.
على الاكاديميين ان يسألوا على الأقل, كيف يصل مثل هذا النمط الى المنطقة؟. اي ما هي الاشارات التي يتلقاها اللاعبون الاجتماعيون في المنطقة من خلال هذا النقاش؟ وما هي ردود الفعل التي ينتجها (النقاش) في المجتمعات الشرق اوسطية؟.
وعلى رغم هذا يبدو ان هناك مفارقة مهمة بين الاصرار على هذا النقاش والحاجة الى "فرض النظام" في المنطقة, والنقص في الافكار حول الادوات المناسبة او الاساليب (المقاربات) الجديدة والعملية من اجل المضي قدماً في تنفيذ مثل هذه الاهداف.
وتبدو المادة السهلة في استراتيجية الادارة الاميركية في الشرق الاوسط متمثلة ، لغاية الآن ، بمجموعة مبادرات خلبية هوامية كمثل ما يسمى بمبادرة الشراكة في الشرق الاوسط. التي أعلنها باول وخصص لها مبلغاً كوميدياً هو 29 مليون دولار. والتي تبدو وكأنها نسخة من مشروع برشلونة بقيادة الاتحاد الاوروبي او الشراكة الاوروبية - الشرق اوسطية, ولكن مع امتداد جغرافي اوسع وموارد مالية أقل. ولقد تكرست هذه السعة الجغرافية بإعلان بوش عن مشروع " الشرق الأوسط العظيم " الممتد من المغرب وحتى باكستان بعضوية إسرائيلية ناجزة.
هذا ويشير الإستقراء التاريخي الى ان اللاعبين الاقليميين سيبقون جاهزين لتهميش مشاريع وتصاميم كبيرة يخطط لها لاعبون خارج المنطقة.
ويعود السبب في ذلك الى ان اللاعبين الاقليميين, بغض النظر عن ميولهم في السياسة الخارجية او اعتمادهم على قوى خارجية, يمنحون مصالحهم اهمية اكبر من مسائل النظام العالمي الذي يتجاهل تقليدياً هذه المصالح. خاصة وأن اللاعبين الإقليميين مجهزون ايضاً لتحمّل خسائر اكبر من اللاعبين الخارجيين من اجل الدفاع عن مصالحهم المركزة اقليمياً.
ووفقاً للمنطق ذاته, قد تعطي التطورات في مرحلة ما بعد الحرب في العراق دليلاً جديداً الى ما شدد عليه ليونارد بايندر في مقال نشر قبل 45 عاماً, وهو ان القوة المفروضة على منطقة من الخارج سـوف "تُحطم" من جانب ديناميكية النظام شبه الاقليمي.
وفي عبارات اخرى, لا يُمكن تأكيد السيطرة في النظام العالمي عندما يتعلق الامر بمسألة النظام الاقليمي. وحتى القوة العسكرية المتفوقة, كما هي الحال في العراق, قد لا تترجم الى قوة في منطق ويبيري (ماكس ويبير), اي الى القدرة على حمل الارادة على التفوق حتى على المقاومة. ولقد درس الكثير من الباحثين ،بالنسبة الى الشرق الاوسط، الكيفية التي يهزم فيها لاعبون اقليميون تصاميم قوى خارجية داخل نظامهم الخاص.
ولقد فسر باحثون اكاديميون مثل ل. كارل براون وغيره ،اثناء الحرب الباردة، هذه الظاهرة بالاعتماد على قدرة اللاعبين الاقليميين على ابعاد القوى الخارجية عبر زجها في صراعات مع بعضها بعضاً وسحبها نحو صراعات اقليمية مخالفة لمصالحها. وفيما الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة لن يمنحا اللاعبين الاقليميين فرصاً عدة لابعادهما. فهؤلاء سيحاولون على الارجح جر أي من هذين اللاعبين الى الاصطفاف الى جانبهم في صراعات اقليمية او محلية في مواجهة قوى اخرى (روسيا واليابان او قوى في العالم الثالث مثل الصين والهند). وقد تتوافر مثل هذه الفرص في اطار ما يسمى بالحرب العالمية على الارهاب. وبذلك يمكن للحرب على الإرهاب ان تتحول الى فخ غير محسوب للولايات المتحدة. التي إخترعت هذه الحرب بهدف التوظيف الاستراتيجي لتغطية طموحاتها الاستراتيجية وتوريتها خلف ستار الدفاع عن الأمن الأميركي وعن امن العالم ضد الإرهاب.
وعدا عن درس الآلية التي ستُقاوم بموجبها او تُهمش, محلياً واقليمياً, التصاميم الدولية للشرق الاوسط, فإن على الابحاث السياسية الأميركية ان تركزعلى فرص ووسائل تدخلات بناءة لقوى العالم الثالث, سواء كان ذلك في الصراع العربي - الاسرائيلي أم في صراعات داخلية مثل تلك في السودان والجزائر, او على صعيد اقليمي في مسائل الحد من التسلح والانظمة الامنية. ولن يركز مثل هذا البحث في التعاون فقط, ولكن سيتم باسلوب متعاون ليشمل باحثين شرق اوسطيين واوروبيين واميركيين. وستشمل الاهلية المكتسبة باتباع هذا الاسلوب الجانب العلمي الى جانب السياسات. إلا أن تجربة تقارير التنمية البشرية لا تبشر بنجاح مثل هذا التعاون الأكاديمي المختلط ( يسميه الأميركيون عادة بدبلوماسية الأبواب الخلفية). فصحيح أن هذه التقارير أعطت النموذج للمشاريع الخارجية للمنطقة ( الشرق الاوسط العظيم الأميركي والإصلاح الأوروبي ) إلا أنها لم تثبت فعاليتها. فالمقاومة العراقية مثالاً تتدعم بمقاومة عربية لتبين أن عوامل مياه الشرب والانترنت وحتى الحريات الاعلامية والشخصية ليست موضع أولوية لدى شعوب المنطقة. فهذه الشعوب تقدم كرامتها القومية وعوامل الإعتراف الهيغلي على كل نصائح تقارير التنمية البشرية. وهذا ينفي صلاحية هذه التقارير للاعتماد كنواة لإطلاق مشاريع مقبولة من شعوب المنطقة. وهي تثبت بأشكال عديدة رفضها إستبدال الإعتراف بسعادة مياه الشرب. خاصة وأنها تدرك أنها ليست فقيرة بل هي تعرضت على مدى عقود لسياسة إفقار منظمة. وبالتالي فإن الحل لا يكون بتبرعات أميركية وإنما باطلاق حرية استثمار ثروات المنطقة بدون تقنين الإفقار الأميركي. وهذه عوامل واجبة التركيز الإعلامي عليها. في مواجهة افستعراضات الإعلامية للتبرعات الأميركية الواردة الى المنطقة ببخل شديد تحت شعارات المؤسسات الأميركية للتنمية. وهي مجرد فروع مخابراتية. وعليه فإنه من الضرورة بمكان تفريع منظمة مصالحة تابعة للجامعة العربية. يكون هدفها التوسط لحل الخلافات البينية بين السلطة والمعارضات في كل دولة عربية على حدة. وذلك بغية الوقاية من التوظيف المخابراتي الأجنبي لهذه المعارضات على غرار ما حصل للمعارضات العراقية. وعن هذه المنظمة تتفرع المسؤوليات التالية:
1. الإصلاح بأيدينا: تجنباً للخضوع الى المشاريع المخابراتية الأميركية للإصلاح وتولية قادة المجتمع من نوع قرضاي على شعوبنا. مما يقتضي العمل على تأسيس المنظمة العربية للإصلاح وإلحاقها بالجمعة العربية.
2. إدخال التعديلات المناسبة على ميثاق الجامعة. والإستفادة من كل الفرص المتاحة لتطوير هذه الجامعة.
3. تعزيز ودعم قيام مؤسسات إقليمية جديدة تنطلق من الواقع الاستراتيجي الجديد للمنطقة. مثال ذلك تجمع دول الجوار العراقي في منظمة إقليمية جديدة تهدف للحد من أضرار فوضى إحتلال العراق على هذه الدول.
4. تشجيع المصالحات والحوار الداخلي في كل دول المنطقة.
5. التصنيف الحاسم للمعارضات العربية في فئتين رئيستين: فئة تقبل مصير العراق لبلدها وفئة ترفض هذا المصير.
ملخــص
تمتاز المشاريع الأميركية بطابعها البراغماتي الذي يبعدها عن الإيديولوجيا. والذي يضعها في حالة من التبدل المستمر تجعل من دلالات المصطلح السياسي الأميركي دلالات متغيرة بحسب الظروف. من هنا فإن الخطأ الأول في التعاطي مع المشاريع الأميركية هو خطأ إعطاءها دلالات ثابتة ومحددة (إيديولوجية). فقد طرح الأميركيون فرضيات النهاية ( التاريخ والقوميات والإيديولوجيا والأنثروبولوجيا وغيرها) ثم طرحوا العولمة ووضعوا لها المؤسسات الدولية ليعودوا فيطرحوا صدام الحضارات ويعيدوا سياسة الأحلاف بما يشكل تراجعاً تاماً عن الطروحات السابقة. ومن هنا دعوتنا الى تجنب قراءة مشروع الشرق الأوسط الكبير قراءة إيديولوجية. وتقوم حجتنا على ضرورة طرح التساؤل التالي حول أي مشروع أو مصطلح أميركي: هل تتمسك الولايات المتحدة بهذا المشروع لو هو تعارض مع مصالحها؟. والجواب هو دائماً النفي. وعليه فإن أي مشروع أميركي قابل للتعديل حتى الإنقلاب لو هو تعارض مع المصلحة الأميركية. وفي رؤيتنا الشخصية أن مشروع الشرق الأوسط الكبير يحقق وجوهاً عديدة للمصالح الأميركية لكنه يتطلب تضحيات لا تشجع البراغماتية على تقديمها. ومن هنا نرى أن الولايات المتحدة بدأت بالتراجع عن هذا المشروع. وهذه الورقة تعرض للعلائم الأولية على التراجع الأميركي عن هذا المشروع بعد نقده على ضوء نظرية الإستقراء المستقبلي والتحليل النفسي- السياسي.
مقدمـــة
من عادة التاريخ أن يقوم المنتصر بإعادة ترتيب الجغرافيا. من هذه العادة تغيرت خارطة العالم عبر معاهدة فرساي عقب الحرب العالمية الأولى. وتم تقاسم أوروبا والعالم عقب الحرب العالمية الثانية. وعليه فإن الطموح الأميركي لتغيير الجغرافيا ،وتحديداً في منطقتنا، هو طموح ينسجم مع المنطق التاريخي. وهو كان قد بدأ مع سقوط جدار برلين وتعامل معه العالم ( اوروبا وتنازلاتها السياسية والإقتصادية في حرب كوسوفو وغيرها) ودول المنطقة بصورة براغماتية واقعية. وإستمر هذا التعامل لغاية إصرار جورج ووكر بوش على تحويل أميركا إلى دولة تحصل على ما تريده بالقوة وليس بالطلب. مما يعني تحويل الحلفاء الأميركيين الى مجرد زوائد إستراتيجية. وهو امر ينطبق على كافة الحلفاء بدءاً بأوروبا وصولاً الى أصدقاء أميركا من العرب. ووصلت فلسفة القوة البوشية الى قمتها عبر الحرب على العراق التي تذكر بالمقولة الصينية المذكورة أعلاه.
الشرق الأوسط الكبير وفقدان الخصوصية
درجت مسؤولة برامج التنمية في الأمم المتحدة على رواية الحكاية التالية لموظفيها الجدد: (( كان هنالك قرد شجاع وذي حمية. ورأى هذا القرد سمكة تسبح بعكس التيار فأثارت شفقته ودبت فيه الحمية فخاطر بالتعلق في غصن شجرة وإحتال كي يطال الماء ويخرج السمكة من الماء وهو يظن أنه ينقذها)).
أما عن عبر هذه الحكاية فتشرحها المسؤولة كما يلي: (( إن الحماس والنية الحسنة والرغبة الصادقة كلها لا تكفي إذا كنا لا نأخذ في الحسبان البيئة الملائمة والمناسبة للتنمية. وهذا يعني أنه ليس بمقدورنا تصميم الحلول فهذه قد تنجح في مجتمع وتفشل في آخر. فالحل الذي يلائم القرد لا يلائم السمكة. وما إعتبره القرد بطولة كان جريمة بحق السمكة.)).
المؤسف أن نفوذ هذه المسؤولة محدود بحيث يعجز عن وقاية الشعوب النامية عموماً وشعوب الشرق الأوسط خصوصاً من جرائم القرد الأميركي. والمؤسف أيضاً أن عقولنا الأسيرة لا تعرف هذه الحكاية ولا تستوعب بالتالي عبرها.
بالإنتقال الى تطبيق حكاية القرد على مشروع أمركة الشرق الأوسط نجد أن إحتلال العراق قد شكل حدثاً مفصلياً في تاريخ المنطقة. فالشرق الأوسط لم يعد بإمكانه إستعادة معادلة توازنه السابقة لتلك الحرب. فهذه المعادلة كانت تستند الى ملحقات معاهدة فرساي التي أعقبت الحرب العالمية الأولى. والتي أجرت قائمة من الجراحات الجغرافية الوحشية. ونقول وحشية لأن تقسيمات تلك المعاهدة تسببت في سلسلة طويلة من الحروب بدأت بالحرب العالمية الثانية ( جاءت محاولة إنتقام ألمانية على ظلم فرساي) ولم تنتهي حتى الآن. بل أن هذه التقسيمات تعد بجملة حروب أوروبية وشرق أوسطية جديدة. وهكذا فإن فهم الحقائق الجيوسياسية وتحدياتها في الشرق الاوسط ، بعد الحرب على العراق , لا بد لها من تركيز بحوثها الاكاديمية السياسية على محاور ثلاثة هي:
1. السياسات القوية اقليمياً.
2. المؤسسات الاقليمية.
3. القوى الخارجية والانماط الاقليمية.
في ما يلي سنحاول ان استعراض كل نقطة على حدة وتحديد ما يبدو منها إشكالياً بحيث لا يمكن التغاضي عنه.
الرغبة الأميركية في إلغاء أية قوة إقليمية
بالنظر الى التقسيم الهيكلي للسلطة في النظام الاقليمي, فإن سيطرة أميركا على المنطقة ستؤدي في المستقبل المنظور الى منع ظهور أو بقاء اي طرف مهيمن اقليمياً او مناطقياً. وأمام معوقات هذه السيطرة الأميركية فإن الأميركيين باشروا باللجوء الى تبني العمليات المخابراتية القذرة ( السوداء). يدفعهم الى ذلك عجزهم عن تورط عسكري أكبر في المنطقة. ( تحريك الأقليات في سوريا وايران خصوصاً. وفي هذا الإطار يمكن تصنيف أحداث القامشلي ومبالغات المجتمع المدني وحقوق الإنسان في دول المنطقة عموماً. مع الإشارة الى تزامن هذه التحركات لتعويض ضعفها. حيث التزامن يزيد الإرباك ويعطي حجماً أكبر للظواهر). وهم يسعون بجد للحد من التلهي الإسرائيلي في الإنتفاضة لتحرير إسرائيل من أعبائها وتجهيزها لتنفيذ عمليات قذرة ضد الدول المعنية بالصراع معها أو المشاركة فيها. وفي هذا الإطار يمكن تصنيف إتفاقية الكويز مع مصر. والتعجيل الأميركي للتفاوض مع الفلسطينيين بعد وفاة عرفات. وتأمل السياسة الأميركية بذلك أن تدفع بالدول القوية المحتملة للتفكير في الإنخراط في وضعية الوجود الاميركي. ( وهنا لا تكتفي الولايات المتحدة بتبادل المصالح بل هي تهرب الى الأمام بطلبات ضاغطة لإثبات الإنخراط. كمثل الورقة اللبنانية والمعارضة المتأمركة وإغلاق مكاب المنظمات الفلسطينية ...) اما الدول الاصغر والاضعف فهي سوف تستغل الفرصة للتعامل مع الولايات المتحدة مباشرة. وربما على قدم المساواة مع القوى الوسطى في المنطقة. ( وهذه نقطة رهان المعارضة اللبنانية المتأمركة ضد سوريا). ففي العقود الماضية, كانت الدول الاصغر تفكر ملياً في رغبات القوى الاقليمية واعتباراتها قبل اتخاذ اية خطوة مهمة في السياسة المحلية او الخارجية. أم بعد إحتلال العراق فإن كل الصغار يتطاولون على كل الكبار.
مثال ذلك المقدمات التي تتمثل بخطوات مثل اعلان حاكم البحرين نفسه ملكاً, ومن ثم عقده لإتفاقية التجارة مع أميركا متفرداً عن السعودية. او اتخاذ سلطان عمان قراراً باقامة انتخابات عامة, او انشاء دبي منطقة "اعلام حرة" حيث يمكن للمستثمرين أياً كانوا ان يتمتعوا بالحرية الاعلامية..الخ. فكل هذه الخطوات ما كانت لتتحقق لو أُخذت في الاعتبار الحساسيات الاقليمية مجتمعة. إذ أن هذه الدول الصغيرة باتت تنظر الى رد فعل واشنطن وليس الى اي عاصمة اقليمية قبل الاقدام على اي خطوة. وهذا يبرر إهتمام القيادات الاقليمية بأن تراقب عن كثب تطورات السياسية الداخلية للدول المجاورة.
والامر سيان بالنسبة الى مصر التي يبدو دورها يتضاءل اكثر فأكثر. فالقاهرة لن يسمح لها بأي دور ريادي في أمور الخليج الامنية مثلاً. وهي تفضل عوضاً عن ذلك ان تكون مفيدة في جوارها القريب. أن اي ان تكون وسيطاً بين الاسرائيليين والفلسطينيين او حتى بين الفصائل الفلسطينية المختلفة. كما يمكن لمصر أن تلعب دوراً رئيساً في المغرب العربي عبر ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير. اما عن التأثير السوري في المنطقة ،وفي لبنان تحديداً، فهو تعرض لتحديات تشبه تحديات البحرين والإمارات وقطر للسعودية. مثال ذلك تنامي الدعوة للخروج السوري من لبنان. وتشجيع الولايات المتحدة لتلك الدعوة عبر قانون مراجعة سوريا (وليس محاسبتها) وتهافت فرنسا على إستصجار القرار 1559 وعبر قائمة من السياسيين اللبنانيين المرتبطين بالسياسة الاميركية او المراهنين عليها. وهؤلاء يعتبرون أن السيطرة السورية على لبنان , مسألة وقت لا اكثر, وذلك بسبب الضغوط الاميركية والفرنسية من جهة, ولإعتبارهم أن الاسباب التي تضفي شرعية للوجود السوري في لبنان كالحرب الاهلية والمواجهة مع اسرائيل, لم تعد مقبولة محلياً ودولياً. لكن هؤلاء يهملون خلفية المشهد السياسي الأميركي. ومن مناظره رفض وزير الخارجية باول استقبال ميشال عون رغم الحاحه. وأيضاً إدلاء عون بشهادته في غرفة خلفية في الكونغرس بما ينتقص من اهمية شهادته. فالولايات المتحدة تريد مساومة سوريا على الورقة اللبنانية لكنها لاتريد اسقاط هذه الورقة التي قد تضطر اميركا للعبها في حال إضطرارها للخروج من المنطقة. لكن حاجة أميركا الى المصداقية أمام الأقليات التي تحركها قد تدفعها لتصعيد الضغوط على سوريا بتهديدات مباشرة للأمن السوري.
واذا إستمر غياب عنصر الهيمنة الاقليمية والمحلية, سيتوجب على الباحث الاكاديمي السياسي ان يسأل عن نتائج التعاون الاقليمي في ظل التبعات السلبية التي يتركها السعي الى الهمينة على التعاون السياسي والاقتصادي في المنطقة. وهذا السعي ليس المسؤول الوحيد عن فشل محاولات عدة لمأسسة العلاقات العربية وتأطير التعاون الاقتصادي, لكنه من دون شك عنصر مهم جداً في هذا الفشل.
توجّهـات مؤسساتيــة جديــدة
في ظل السعي للهيمنة الإقليمية بدت جامعة الدول العربية غير معنّية بالاحداث الجارية, وعلى رغم ذلك, بقيت على قيد الحياة. ثم أتت الحرب على العراق ، والفترة اللاحقة للحرب , لتقلّصا أكثر فأكثر شرعية الجامعة والاهمية التي توليها لها الدول الاعضاء. حتى باتت إستمراريتها جزءاً من الفولكلور السياسي العربي. وكان من الطبيعي أن يعزز عجز الجامعة توقعات ظهور مؤسسات اقليمية جديدة. بحيث يتجلّى لنا جيداً انبعاث منظمات اقليمية جديدة أو منظمات فرعية ينحصر هدفها في المصلحة المشتركة العملانية بدلاً من القومية وتضع نصب عينيها أهدافاً تقتصر على المكان والفعالية والوقت بدلاً من " المهمة الابدية العقائدية " التي أصبحت جالبة للتهم وللسخرية الأميركية. لكنها كسبت مواقع جديدة تتعزز بتنامي العداء الاميركي للمنطقة وردود فعلها على هذا العداء.
هذا ويمثل جيران العراق مثالاً على ذلك, فقد قام ممثلوهم الذين يضمون الدول العربية وغير العربية (ايران وتركيا) المحاذية للعراق, اضافة الى مصر, بالجلوس الى الطاولة مرات عدة ناشدين هدفاً محدوداً لكن محسوساً. وهو التباحث في مسألة تنسيق السياسات في ما يتعلق بالحرب الدائرة في العراق أولاً. ولاحقاً بنتائجها الاقليمية ووضع العراق الجديد في ظل الاحتلال الاميركي. وهنا يظهر سؤال واحد ينبغي عرضه على بساط البحث, وهو احتمال أن يتطوّر تجمع مماثل ليصبح نواة بنية فرعية أكثر استمرارية تابعة لمنظمة اقليمية للامن والتعاون على غرار لجنة الامن والتعاون في اوروبا/ ومنظمة الامن والتعاون الاوروبية مع احتمال مشاركة الفاعلين الدوليين الذين يشكلون رباعية الشرق الاوسط ( الولايات المتحدة, الاتحاد الاوروبي, روسيا, الامم المتحدة). وهو ما وضعت له الأسس في مؤتمر شرم الشيخ لدول الجوار العراقي.
كما أنه من المرجّح أن تطرأ تغيرات ايضاً تمسّ مجلس التعاون الخليجي, وهو توقع تؤكده خلافات قمة المجلس بسبب إتفاقية تجارة البحرين – أميركا وجملة أسباب اخرى غير معلنة. فاليمن والعراق يدقّان ابواب المجلس لدخوله. بل أهم من ذلك أنّه ينبغي اعادة النظر في هذه المنظمة التي هدفت اساساً الى تعزيز النظام الملكي الخليجي ضد التهديدات التي تشكلها ايران والعراق. والتي فقدت مبرر وجودها بعد احتلال العراق واحتواء ايران بتواجد اميركي على حدودها. كما أنّ تجمّعاً فرعياً توحّده المصالح المشتركة قد يتشكّل من تلك الدول العربية التي تتشارك في مصالح رئيسة متعلقة بالصراع العربي - الاسرائيلي وهذا مثال آخر.
حالياً, تتشكّل نواتان لمثل هذا التجمع هما:
أولاً: ما يسمّى باللجنة التابعة لجامعة الدول العربية (التي تتألف بشكل رئيسي من مصر والمغرب والسعودية وسورية) التي أبصرت النور لمتابعة تطبيق خطة السلام العربية التي تم اعتمادها في القمة العربية التي عقدت في بيروت عام 2002. والتي يمكن تطويرها للسعي من أجل تحديث هيكلية الجامعة وتطويرها.
ثانياً: مجموعة الدول التي اختارتها الولايات المتحدة (مصر, الاردن, المغرب, السعودية, البحرين, السلطة الفلسطينية) وقد اجتمع ممثلوها بالرئيس الاميركي جورج بوش في قمة شرم الشيخ التي عقدت في حزيران (يوينو) 2003.
هذا ولا يعتقد أن تفضيَ حداثة اطر العمل هذه الى شيء افضل مّما يوجد أصلاً. وفي الواقع, ينبغي أن يركّز البحث في توجيه السياسة الى الفرص والعوائق التي تقف امام هذه التجمعات وتحول دون تطوّرها الى عناصر راسخة لهيكلية أمنية اقليمية وأداة تسهم في الوقاية من الازمات وحلّها, والى صلة وصل بين القوى العالمية المحرّكة كما الى تطوير المؤسسات الاقليمية. وهنا يأتي تدخل القوى الخارجية لإبقاء كل مشاريع منظمات التعاون الإقليمي تحت السيطرة الخارجية والأميركية تحديداً. والخلاص من هذه السيطرة يقتضي العمل على إجراء تعديلات في صلاحيات وإستراتيجيات المؤسسات الإقليمية. وإيكالها أدوار فاعلة في مشروع إصلاح منبثق عن واقع دول المنطقة وظروفها الخاصة. حيث نرى ضرورة تفريع منظمة مصالحة تابعة للجامعة العربية. يكون هدفها التوسط لحل الخلافات البينية بين السلطة والمعارضات في كل دولة عربية على حدة. وذلك بغية الوقاية من التوظيف المخابراتي الأجنبي لهذه المعارضات على غرار ما حصل للمعارضات العراقية.
أما من حيث موضوعية طرح أميركا لمشروع الشرق الأوسط الكبير فلدى مراجعتنا لنص المشروع نجد أنه يقوم على مخالفات متشابكة للمنطق. وهي مخالفات تستدعي تعديلات لاحقة على المشروع. بل أن هذه التعديلات بدأت بالتبدي واضحة لدى متابعي السياسة الخارجية الأميركية. ولنستعرض أولاً المخالفات المنطقية التي تضمنها المشروع:
1- إستناده الى تقارير التنمية العربية: وهي نتاج عقول عربية أسيرة بتوجيهات أميركية خالصة. وهي تذكر بحكاية القرد والسمكة. حيث تتحول سعادة الإنسان الى أرقام. وحيث توضع الأرقام إستناداً الى عوامل غير متجانسة. مثال ذلك أن تتساوى علامات إستعمال الإنترنت مع متوسط الأعمار ومع تأمين مياه الشرب. وحيث يتم تجاهل عوامل مثل نسبة الإنتحار ونسبة إدمان الكحول والمخدرات وكأنها خارج إطار مؤشرات السعادة البشرية.
2- دخوله في إطار دمقرطة الشرق الأوسط: وهو مشروع يستند بدوره الى تقارير التنمية العربية ( راجع نقدنا المفصل للمشروع ملحق مع هذه الورقة). حيث نشر الديمقراطية الأميركية يمر بشن حروب تصل ضحاياها الى مئات الآلاف لتبقى الديمقراطية الموعودة من نصيب الناجين من هذه الحروب. ولو عدنا الى النموذج العراقي لوجدنا أن أوج هذه الديمقراطية يتجلى في إصرار بوش على إجراء إنتخابات لا يمكن له مجرد الإدعاء بديمقراطيتها. وإنما هي تحدد لها هدفاً مسبقاً هو إنتاج وتصنيع قرضاي عراقي.
3- تجاهل الخصوصيات الحضارية: ولنا هنا عودة أخرى الى القرد والسمكة. حيث توجد مسافة خفية بين الحرية وبين الكرامة. وحيث شعوب المنطقة تفضل الكرامة على الحرية لوكانت خياراً. وذلك بدليل المقاومة العراقية الشرسة في وجه الإحتلال. فالنظام الشمولي يقمع حريات معاديه السياسيين لكنه يحتفظ للشعوب بكرامتها. وهو عكس ما يفعله المحتل إذ ينتهك كرامة الشعوب ويحاول تعويضها بقناع من الحرية الزائفة. فهل دفع الشعب العراقي مئة ألف قتيل وثلاثة أضعاف هذا العدد من المعوقين والجرحى كي يحصل على نعمة الإنتخابات؟. وهل تم تهديم البنى التحتية العراقية في البلد من أجل دعم الشركات الأميركية المفلسة؟. وهل تم نشر الفوضى في العراق لغاية خطر إندلاع صراع أهلي فيه من أجل العودة الى حكم العشائر (الياور) وحكم البعث السابق (علاوي) وهو كان حاكماً؟.
4- تفجير التناقضات الداخلية: يبدو الطموح الأميركي في نشر الديمقراطية والتأسيس للشرق الأوسط الكبير مرتبطاً بصورة عضوية في تفجير التناقضات الداخلية في البلدان المستهدفة. وذلك دون خجل من توظيف المخابرات الأميركية في عمليات قذرة تستهدف هذه التفجيرات.
5- تهديد التوازنات الإقليمية: وهو ما أشرنا له أعلاه من إصرار أميركي على إلغاء المؤسسات الإقليمية وإصابة القوى الأساسية بالشلل وتشجيع الصغار على تجاوز حدود فعاليتهم الإقليمية. وذلك وصولاً الى نشر الفوضى الإستراتيجية بغية إعادة تركيب المنطقة وفق تصورات القرد الأميركي. وهنا يطرح السؤال حول مستقبل المنطقة وشعوبها في حال إنعدام صلاحية التصورات الأميركية وعدم قابليتها للحباة في هذه المنطقة من العالم؟.
6- تجاهل التناقضانت الإقليمية: يحاول الأميركيون تطبيق مشروعهم في منطقة عابقة بالتراث وبالتالي بتاريخ من الأحقاد البينية. بحيث يصبح من الحماقة التفكير في جمع هذه الأحقاد التاريخية في تصور موحد. فالتاريخ لم ينتهي وهو لم يأتي بالمصادفة. إذ تتوزع دول وشعوب المنطقة وفق نسيج حضاري يضم ملامح التاريخ المشترك لكنه يحتوي أيضاً على تاريخ الخلافات بين المكونات الحضارية للمنطقة.
7- أن أميركا إنتصرت في حرب باردة طالت الجوانب الثقافية والإيديولوجية والإقتصادية دون أن تكون عسكرية بحال من الأحوال. ولو قبل الإتحاد السوفياتي التحول الى فاشية شبيهة لكانت لديه قوة عسكرية كافية للإستمرار وإن كانت غير كافية للنصر. وعليه فإنه من الخطورة بمكان أن تبدأ الحروب العسكرية الأميركية بعد الإنتصار الفكري النظري الخالص.
8- تناقض المنطلقات السياسية الأميركية الراهنة مع جملة ثوابت إستراتيجية أميركية سابقة. حتى يمكن القول بوجود إنقلاب على هذه الثوابت يقوم به صقور إدارة بوش. ولعل في مقدمة هذه الثوابت الرفض الأميركي لخوض الحروب مفتوحة النهايات. فلا حرب أفغانستان إنتهت ولا الحرب العراقية تنبيء بنهاية قريبة.
9- تحول الفكر السياسي الأميركي من الليبرالية والواقعية المطلقة الى مبدأ الكرامة الصوفية. ومحور الصوفية البوشية الإعتقاد بحتمية النصر الأميركي مهما كانت الظروف. ومن مظاهر هذه الصوفية طروحات النهايات: التاريخ والإيديولوجيا والأنثروبولوجيا وغيرها من النهايات. وهذه الصوفية السياسية هي محرك الحرب على العراق. وهي حرب إحتاجت الى التفاؤل الصوفي المتطرف لخوضها.
10- إن سوابق القوة الأميركية لا تدعم بحال هذا التفاؤل الصوفي. فقد فشلت هذه القوة في كوريا وفيتنام وغيرهما. وهي حملت وزر قنبلتين نوويتين في اليابان بثمن تحريك المارد الصيني.
11- إن المراجعة التاريخية لمحاولات تغيير الجغرافيا غير مشجعة. فالعديد من حروب القرن العشرين إنطلقت من ظلم معاهدة فرساي. بما في ذلك الحرب العالمية الثانية والحروب العربية الإسرائيلية...الخ.
12- أن معارضة الأمركة المتحولة الى الفاشية هي معارضة عالمية. بدليل إضطرار بوش لخوض حرب العراق بدون موافقة مجلس الأمن الدولي وحتى حلف الأطلسي.
13- الإعلان الأميركي الصريح عن رفض هيكلية الأمم المتحدة. وذلك عبر تجاوزها والدعوة لإعادة هيكليتها. مع تحويلها الى وظيفة كاتب العقود على غرار إستصدار القرار 1559 كتكريس لعقد أميركي – فرنسي بعودة فرنسا الى الساحة اللبنانية.
14- الخطأ القاتل بتحويل دلالة الشرق الأوسط الى الشرق المسلم عبر إعلان الصدام مع الإسلام (هنتنغتون وغيره) وإستخدام مصطلح الحرب الصليبية. والأهم بطرح الشرق الوسط الكبير بشعوب إسلامية وشراكة يهودية.
15- أن العسكريتاريا والفاشية تحتاج الى مساندة شعوب مستعدة للتضحية بأبنائها ورخائها. وهي تضحيات يستحيل طلبها من الشعب الاميركي مهما بلغت درجة تخويفه.
الشرق الأوسط الكبير
عندما يطرح الأميركيون الإسلام كعدو حضاري فإن الجمهور الغربي يفسر هذا الطرح عبر دلالاته الخاصة إذ يعتبر هذا الجمهور أن كل دولة إسلامية هي دولة عربية. بما يعادل القول بأن صدام الحضارة الغربية سيكون صداماً مع قوميات دينية (العرب والصينين). بهذا يحتفظ هذا الطرح بعضوية كافة دول الشرق الأوسط في نادي العداء لأميركا (باستثناء إسرائيل اليهودية) وللغرب عموماً. وهكذا فإن عضوية النادي تضم بالإضافة للدول العربية (بما فيها فلسطين – حماس) كلاً من تركيا - وإيران وأفغانستان وباكستان وصولاً إلى حدود الصين. دون إهمال الحزام الأوراسي المسلم (جهموريات سوفياتية مسلمة سابقة). وهكذا فإن مقولة الصدام مع الإسلام تنعكس أول ما تنعكس بتغيير الدلالة الديموغرافية لمصطلح الشرق الأوسط لتحوله إلى دلالة الشرق المسلم. بما في ذلك من توسيع لرقعته الجغرافية. وهو توسيع يجد تبريره في تغيير جغرافية المصالح الإستراتيجية لدول المنطقة في فترة ما بعد الحرب الباردة. حيث نلاحظ رغبة كل دولة في تأمين مصالحها الإستراتيجية في هذا الفراغ ونعدد:
1- تركيا: التي تحاول ملء الفراغ في جمهوريات آسيا الوسطى ذات الأصول التركية ولدى الأقلّيات التركية في دول أوروبا الشرقية ومنها ألبانيا المسلمة.
2- ايران : التي احتوت أعداد كبيرة من الأذربيجانيين هاجرت إليها عقب قيام الدولة الشيوعية. والتي تجد لنفسها حقوقاً في كافة جمهوريات آسيا الوسط المتاخمة لحدودها. كما في أفغانستان والدول التي تحوي أقلّيات شيعية.
3- اسرائيل: التي تطالب بحصتها في ثروات آسيا الوسطى وتتخذ من تحالفها مع تركيا مدخلاً لتأمين هذه المصالح لكلا البلدين.
4- الدول العربية : الباحثة عن تحالفات جديدة لِحماية ثرواتها من الاستنـزاف وهكذا فإن حدود الشرق الأوسط الجغرافية تشهد توسعاً لا يمكن للتسمية الأصلية أن تستوعبه. كما تشهد المنطقة احتمالات تصادم المصالح في ما بينها لدرجة يمكنها أن تصل إلى حدود التفجير. ولو كانت فرضية "صدام الحضارات" قابلة للاعتماد والتصديق لكانت قارب نجاة لِهذه الدول وحماية لَها من تفجر صراعاتِها الخارجية والداخلية على حد سواء. ولا نستثني إسرائيل كونَها أكثر دول المنطقة استفادة من هذه المقولة.
وهذه الوقائع تدفعنا للتساؤل عما إذا كان من الممكن احتواء صراعات المنطقة والحؤول دون تفجرها لنجد أنفسنا في شرق أوسط مُمتد ومتجاوز لِحدوده الجغرافية؟. أم أن الصراعات ستفجر هذه المنطقة لتحدث فيها تغييرات جذرية يصعب تحديدها بدقة؟ وهنا كانت الولايات المتحدة أمام الخيارات التالية:
أ- أن تتابع الولايات المتحدة إثارة مشاكل الأقليات في المنطقة فتقضي بذلك على توازنها الديموغرافي الراهن. بِما ينْزع عن المنطقة طابعها الإسلامي أو العربي المهيمن. فتصبح قادرة على استيعاب الحاقات جيوسياسية تمهد الطريق أمام شرق أوسطية ممتدة وغير قادرة على رفض عضوية إسرائيل ؟. وهو حل يتيح للولايات المتحدة تجاوز المناطق الشرق أوسطية العصية على مشروعها.
ب- أن تركز الولايات المتحدة على مصالحها في آسيا الوسطى (حيث بلغت استثماراتها حدود الـ 200 مليار دولار) فتعمد إلى إلْهاء الدول المتاخمة لآسيا الوسطى بجملة مشاكل داخلية تجعلها عاجزة عن تَهديد هذه المصالح ؟. وبذلك تمتنع عن استمرارية الشراكة مع إسرائيل. مقابل ضمان أمنها بتسوية مع العرب أو بالحفاظ على تفوق عسكري يبقيها في إطار حرب باردة معهم. وهو يتيح للولايات المتحدة سيطرة غير مباشرة وبدون تورط على النفط العربي.
ج- أن تسعى الولايات المتحدة لاستغلال القبول السياسي الذي لم يسبق لَها و أن تمتعت به في دول المنطقة لتحول كامل المنطقة إلى حزام أمني في مواجهة الخطر سواء كان صينياً أو يابانياً أو روسياً أو حتى أوروبياً ؟. مع ما يتيحه ذلك من استفادتها من ثروات المنطقة ؟ مع تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة عولمة - أمركة نموذجية؟.
هذا الطرح الأخير هو الطرح المثالي الصوفي الكامن وراء مشروع الشرق الأوسط الكبير. الذي تعثر في محطته الأولى وهي المحطة العراقية.
ومهما يكن فإن غموض مستقبل المنطقة مرتبط بغموض الإستراتيجية الأميركية. فلو نحن تحرينا أوضاع المنطقة ما بعد حربي العراق (الأولى والثانية) لوجدنا أنّها شديدة السوء بالمقارنة بفترة ما قبلهما. وهذا يشكل إدانة جماعية، من أطراف متناقضة، للسياسة الخارجية الأميركية. فعداك عن الخسائر الخليجية الفادحة والانْهيار العراقي فإنك تجد أن الانعكاسات الاقتصادية لِهذه الحرب تؤثر على دول الجوار الجغرافي وعلى دول العمالة البعيدة عن المنطقة. دون تجاهل العواقب التفككية لِهذه الحرب. حيث أدت لوضع مشاكل دول الشرق الأوسط الداخلية على نار متقدة. حتى بتنا نلاحظ علائم التفكك وكأنّها تنتظر الفرص حتى تنفجر. ويكفي أن نذكر في هذا المجال الأزمات التالية :
أ- احتمالات تقسيم العراق والتي تولد انقسامات عنقودية في أرجاء المنطقة في حال حدوثها.
ب- أزمة الأقلية الشيعية في الخليج (البحرين والعراق خصوصاً).
ج- أزمة الجزر الثلاث بين الإمارات وإيران.
د- أزمة المياه مع تركيا.
ه- توجه المعارضة الداخلية باتجاه لعب دور السلطة الموازية وليس البديلة.
هذا دون أن ننسى الأزمات المزمنة للمنطقة والتي عاودت للظهور. أما إسرائيل فقد تضررت بدورها من حرب العراق. فهي وأن حققت فائدة اقتصادية منهما فإنّها قد أفقدتْها دور الناطق باسم الولايات المتحدة والمدافع عن حقوقها في المنطقة. وهو دور طالما أحسنت إسرائيل استغلاله. وتلازم فقدان هذا الدور مع الحد من صلاحيات إسرائيل وتعرضها لضغوطات أميركية لم تتعرض لِمثلها منذ مشاركتها بالعدوان الثلاثي عام 1956. وانعكس ذلك في داخل إسرائيل بتصاعد تأثير الأصولية اليهودية واغتيالِها لرابين وإتيانِها بنتنياهو الذي صرح أن هنالك 4 إسرائيلات وليس إسرائيل واحدة في إشارة له إلى تفجر التناقضات الإسرائيلية – الداخلية. ثم عاد باراك بإرادة أميركية ليكمل دور رابين. ومن بعده شارون الذي يستعد اليوم لموقف شبيه على الرغم من مواقفه الرافضة لأية تسوية سلمية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل السلام بالنسبة لأميركا هو مسألة استراتيجية أم مجرد صيغة تكتيكية ؟ وبالتالي هل هو سلام ؟ أم تسوية ؟ أم حرب باردة جديدة ؟.
والواقع أنه ومنذ سقوط جدار برلين ظهرت حماسة أميركية ملفتة لتجميع دول المنطقة في حلف يتخطى حدوده الجغرافية. فقد إستعجلت أميركا عقد مؤتمر جينيف ثم شجعت الحلف التركي – الإسرائيلي ودعمته وأمنته من المعارضات العربية والإسلامية. كما عملت على ترسيخه بتهيئة بعض الدول العربية للإنضمام إليه. وهذا ما أعلنته كونداليزا رايس فور تسلمها منصبها في ادارة بوش الأولى (2001). وبعدها بدأت لولايات المتحدة باستخدام الأزمات الاقتصادية لدول المنطقة لتضغط عليها باتجاه الدخول في هذا الحلف. وبطبيعة الحال فإن هذا الحلف لا بد له من أن يتسع لعضوية الأعماق الإستراتيجية لدول المنطقة. وخصوصاً جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة والإسلام الشمال أفريقي والشرق أوروبي. وهذا الحلف هو نواة مشروع الشرق الأوسط الكبير. وتتدعم هذه الصورة الوردية للحلف الشرق أوسطي بإنْهاء حالة العداء العربي – الإسرائيلي عبر معاهدة تسوية معجلة.
المكاسب الأميركية من الشرق الأوسط الكبير
تمتد خارطة الشرق الأوسط الكبير من شمال أفريقيا المتاخم لأوروبا الى تخوم الصين وروسيا. وبالتالي فإن قيام هذا الحلف سيكون أداة إحتواء أميركية لكل الخلفاء المحتملين للإتحاد السوفياتي. عداك عن كون هذه المنطقة تحتوي على معظم المخزون النفطي العالمي. إلا أن هذا المشروع يأتي في ظل تشكيك مطلق في مبدأ الصداقة والمصداقية الأميركية. فبمراجعة التعديلات الإستراتيجية لحلف الأطلسي ( 26 / 4 / 1999) نجد فيها تعهدات أميركية تتناقض ومشروع الشرق الأوسط الكبير. وهذه التعهدات هي التالية:
1- التعهد الأميركي بعدم وجود مصالح للحلف على تخوم الصين. وهو تعهد خرقته إدارة بوش عبر تكثيف نشاطها التجسسي على الصين فكانت أزمة الطائرة الصينية ( شباط 2001) وبعدها بحجة الرد على حوادث أيلول عبر حربها على أفغانستان. وأعقبتها بتفجير الأزمة الكورية (قرار أميركي بقطع المساعدات النفطية عن كوريا الشمالية بهدف إفتعال الأزمة). ومن ثم تكثيف الوجود الأميركي في المنطقة وأخيراً بطرح مشروع الشرق الأوسط الكبير كخطوة على طريق إحتواء الصين.
2- تراجع إدارة بوش عن الإعتراف الأميركي بوجود مصالح أوروبية حيوية في شمال أفريقيا لغاية ضمه الى النفوذ الأميركي عبر الشرق الأوسط الكبير. وكانت الإستفزازات الأميركية قد بدأت في الأسبوع الأول لدخول بوش البيت الأبيض عبر إعلانه عن مشروع الدرع الصاروخي. ومعه عن الحظر الأميركي عن تكوين قوة أوروبية للتدخل السريع.
3- تحدي إدارة بوش لروسيا عبر إعلانها عن الدرع الصاروخي كما عبر تدخلها في دول الإتحاد السوفياتي السابق وخاصة منها المرشحة للإنضمام الى حلف مع روسيا.
وعليه فإن هذه التراجعات هي مكاسب محتملة لأميركا. إلا أنها تدفع هذه القوى ومعها الدول الصناعية الكبرى بإتجاه التكتل لمواجهة تهديدات مصالحها وتحويلها بإتجاه خدمة المصالح الأميركية بثمن تراجع نمو هذه الدول ومستقبلها. وهذا ما بدأ بالتبدي عبر ضعف الدولار والتلاعب الأميركي بأسعار النفط وقبلهما بالتلاعب الأميركي بقوانين منظمة التجارة العالمية (الغات). حيث وصلت الأمور الى حدود المواجهة الإقتصادية بين الإتحاد الأوروبي وأميركا بسبب هذه المخالفات ومنها الدعم الذي تقدمه الدولة الأميركية لصناعة الفولاذ ولبعض الزراعات.
تهديدات الشرق الأوسط الكبير للمصالح الأميركية
سيناريو الشرق الأوسط الكبير ينتمي إلى الطوباوية أكثر منه إلى البراغماتية الأميركية. فهو يحول الشرق الأوسط إلى جنة متكفلة برعاية المصالح الأميركية. لكن هذه الكفالة لا تلغي قائمة من الأسئلة المصيرية بالنسبة لمستقبل المصالح الأميركية في المنطقة وفي طليعتها :
أ - ما هي الفائدة الأميركية من إجبار أغنياء المنطقة على تبني فقرائها والدخول معهم في حلف استراتيجي ؟.
ب- أن هذا الحلف يجمع بين مالكي الثروات ومالكي التقنيات العسكرية وبالتالي فإنه يشكل خطراً على المستقبل الأميركي في المنطقة.
ج- أن التناقضات بين دول هذا الحلف تجعله قابلاً للانفجار في أية أزمة مفصلية. خصوصاً وأنها تجمع بين التناقض العرقي والديني والمذهبي والثقافي واللغوي. وقبل هذه الأسباب، وكثيرة غيرها ، فإن البراغماتية الأميركية لا تؤمن أساساً بالأحلام الوردية فهي سياسة مصالح تحسن تحديد غاياتها وهي تحدد أهدافها في المنطقة على النحو الآتي :
1- الدول النفطية : وتضم دول الخليج العربي والعراق وإيران.
2- التخلص من أعباء المعونات المقدمة لإسرائيل والتي لَم تعد مبررة استراتيجياً. وتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي هي أكثر الحلول وجاهة بهذا الصدد.
3- التحكم في تناقضات المنطقة وملكية خيوطها التي تسمح بقلب الطاولة على أي نظام أو توازن يهدد المصالح الأميركية في المنطقة.
وهذه الأهداف باتت بحكم المضمونة التحقيق بعد حرب العراق وهي لا تحتاج سوى لبعض اللمسات التجميلية الأخيرة لإخراجها. ومن هذه اللمسات نذكر أهمها:
1- إخراج تسوية سلام مقبولة من جميع الأطراف أو التأسيس لحرب باردة عربية – إسرائيلية.
2- إيجاد منافذ لتأمين الانفتاح الإيراني على الحلف الأميركي. حيث تستخدم إدارة بوش الملف النووي الإيراني للضغط بإتجاه مثل هذا الإنفتاح.
3- تعويض مشاعر الخسارة الناجمة عن الحرب على العراق.
4- تأمين مخرج مقبول للأزمة العراقية حيث يرجح تشجيع مخرج عربي لَها وذلك على غرار مخرج الأزمة الليبية.
والسؤال هنا لا يطرح حول القدرة الأميركية على تأمين ضبط الحلول بل هو يطرح حول قبول إسرائيل بتهميش دورها الإستراتيجي على هذا النحو. حيث الإغراء الاقتصادي ضعيف في هذا السيناريو لأن إسرائيل محاطة بفقراء العرب. ولأن أغنياءهم لا يحتاجون للأسلحة في ظل تحالفهم مع الولايات المتحدة. فإذا ما لاحظنا أن متوسط دخل الفرد الإسرائيلي الحالي هو في حدود الستة عشر ألف دولار سنوياً فإننا ندرك خطورة هذا التهميش على إسرائيل، فاليهودي يفضل الشتات على تدني المدخول المادي. وهو سيترك أرض ميعاده إذا ما تراجع دخله. ولكن هل يصل الخلاف الأميركي – الإسرائيلي إلى حدود التصادم ؟
لقد وصل هذا الخلاف لغاية الآن إلى حدود تضارب المصالح والصراع الخفي. أما أن يتحول إلى صدام فهذا أمر مستبعد تماماً. فاليهود أحسنوا، عبر تاريخهم المتقطع، تجنب مصادمة الأقوياء. كما أحسنوا الهروب من أية مواجهة من هذا النوع. لكنهم أتقنوا في المقابل التخطيط طويل الأمد لإحتواء أعدائهم وتأجيج صراعهم مع الغير. ويبدو أن محاولات احتواء اليهود للولايات المتحدة قد بدأت منذ فترة ليست بالقصيرة. ومن علائم هذا الاحتواء نذكر:
أ- الحضور السياسي اليهودي وأثره على الحكومة الفيديرالية. ومُمارسة هذا التأثير بصورة استعراضية – استفزازية (تعكس جنون العظمة اليهودية). هذه الصورة التي كانت سبباً لردود فعل تاريخية سببت لليهود محاولات جادة لتصفيتهم. أما عن ردود الفعل الراهنة فتمثلها داخل أميركا مجموعات من الآريين المتطرفين (الميليشيات الأميركية البيضاء التي تضع الخلاص من اليهود في مقدمة أهدافها).
ب- التدخل اليهودي المباشر في الأسرار الأميركية الإستراتيجية. سواء عن طريق تجنيد عملاء للموساد داخل المخابرات الأميركية أو عن طريق اليهود الذين تتيح لَهم وظائفهم الإطلاع على هذه الأسرار.
ج- الخيانة الإستراتيجية : حيث تورد تحقيقات وزارة الدفاع الأميركية ما يشير إلى أن إسرائيل قد حصلت على أسرار القنبلة النوترونية من مخترعها اليهودي الأميركي صمؤيل كوهين. وذلك قبل إطلاع الرئيس نيكسون عليها. كما تشير هذه التقارير إلى أن إسرائيل باعت هذه الأسرار للصين لقاء مبالغ طائلة وهذا النوع من الخيانة لا يخضع عادة لاعتبارات الصفح والغفران.
د- إن اعتماد الإدارة الأميركية مبدأ "حقوق الأقليات" وترجمته إلى قانون يعكسان السيطرة اليهودية على العقل السياسي الأميركي. ذلك أن أثارة الفوضى الديموغرافية في أي مكان من العالم هي فلسفة يهودية بحتة. فاليهود عملوا عبر تاريخهم على استغلال مثل هذه الفوضى بعد إثارتها. وفي خضم الفوضى الإستراتيجية الأميركية الراهنة فقد تحولت هذه الفوضى إلى بديل استراتيجي ورط الولايات المتحدة في حروب صغيرة ذات منحى ديموغرافي. وصحيح أن هذه الحروب قد عادت على الولايات المتحدة بفوائد اقتصادية لكنها في الوقت ذاته ورطت الولايات المتحدة في صراعات من شأنِها تعميق العداء لأميركا وتشعيبه. بحيث يتحول إلى تهديد مستقبلي جاد للمصالح الأميركية. مثال ذلك التورط الأميركي في يوغسلافيا وما يستتبعه من تورط بلقاني مستقبلي. والتورط في القضية الكردية (خصوصاً بعد اعتقال أوجلان) وغيرها من التدخلات المعلنة وغير المعلنة.
ه- إن اليهود الأميركيون يهددون التوازن الاجتماعي داخل الولايات المتحدة بما يمهد لتنامي مشاعر الاضطهاد لدى الأميركيين غير اليهود إذ يبلغ متوسط دخل الفرد الأميركي حدود السبعة وثلاثين ألف دولار سنوياً في حين يبلغ مثيله لليهودي الأميركي خمسة وأربعون ألف دولار أميركي. مع ملاحظة إنكار أو كتمان عدد كبير من يهود أميركا ليهوديتهم.
ولعله من المنطقي بعد كل ذلك التأكيد على أن أية محاولة لإعادة ترتيب المصالح الأميركية، ووضعها في إطار استراتيجي، ستكون مضطرة لأن تأخذ هذه الأضرار اليهودية في حسبانها.
بالرغم من المحاذير المعروضة أعلاه فإن الولايات المتحدة أمام التهديد الاقتصادي مستعدة لاحتلال الشرق الأوسط على الطريقة الكولونيالية القديمة كبديل لصيغة الانتداب التي تمارسها راهناً.
لكن حكمة لابد من ذكرها في سياقنا وهي القائلة أن القوة ليست واقية من الموت. وأن الجبابرة الأسطوريون يموتون دائما" بصورة مفاجئة وغير متوقعة وهم في أوج قوتهم وجبروتهم. هكذا مات شمشوم وأخيل والاتحاد السوفياتي. واذا كان لكل من هؤلاء الجبابرة نقطة ضعفهم المميتة فلا بأس من مجرد تعداد نقاط ضعف الجبار الأميركي وهي التالية:
1. الثغرات الأمنية واختراقات ما بعد التراخي الأميركي في التسعينيات.
2. ثغرات النظام الرأسمالي ( انظر كتاب شوروش: أزمة الرأسمالية العالمية).
3. انفجار الايديولوجيات الذي صاحب انفجارات الثلاثاء وبعدها الحرب على العراق.
4. التفرقة العنصرية داخل اميركا ( من ليتل روك الى سينسيناتي).
5. ثغرات جهاز المناعة في الجسد الاميركي ( الجمرة الخبيثة كنموذج اختباري).
6.عشوائية السوق والبورصات ( لم تتوصل اميركا حتى اليوم الى استقرار مؤشرات بورصتها. وبينت جميع الدراسات أن للسوق مزاجها الخاص ومن مظاهره ضعف الدولار).
7.الميليشيات الأميركية البيضاء ( المسؤولة عن انفجار اوكلاهوما).
8.حرب المعلوماتية وفيروساتها القادمة ( فيروس ريد كود هو مقدمتها).
على طريق عقلنة الشرق الأوسط الكبير
على صعيد النقاش حول السياسة الدولية في اعقاب الحرب على العراق, بات هناك حديث واسع حول "اعادة صنع" و"اعادة تشكيل" و"اعادة تنظيم" الشرق الاوسط". هذه هي الحال على رغم مصاعب الولايات المتحدة وحلفائها في العراق. و هذا النقاش يشمل المطالبة بدمقرطة "الشرق الاوسط الكبير" وهو ضمن اجندتي دوائر المحافظين الجدد والليبراليين الاميركيين, ويراها الفريق الاول أميركية فيما يعتبرها الثاني أطلسية.
على الاكاديميين ان يسألوا على الأقل, كيف يصل مثل هذا النمط الى المنطقة؟. اي ما هي الاشارات التي يتلقاها اللاعبون الاجتماعيون في المنطقة من خلال هذا النقاش؟ وما هي ردود الفعل التي ينتجها (النقاش) في المجتمعات الشرق اوسطية؟.
وعلى رغم هذا يبدو ان هناك مفارقة مهمة بين الاصرار على هذا النقاش والحاجة الى "فرض النظام" في المنطقة, والنقص في الافكار حول الادوات المناسبة او الاساليب (المقاربات) الجديدة والعملية من اجل المضي قدماً في تنفيذ مثل هذه الاهداف.
وتبدو المادة السهلة في استراتيجية الادارة الاميركية في الشرق الاوسط متمثلة ، لغاية الآن ، بمجموعة مبادرات خلبية هوامية كمثل ما يسمى بمبادرة الشراكة في الشرق الاوسط. التي أعلنها باول وخصص لها مبلغاً كوميدياً هو 29 مليون دولار. والتي تبدو وكأنها نسخة من مشروع برشلونة بقيادة الاتحاد الاوروبي او الشراكة الاوروبية - الشرق اوسطية, ولكن مع امتداد جغرافي اوسع وموارد مالية أقل. ولقد تكرست هذه السعة الجغرافية بإعلان بوش عن مشروع " الشرق الأوسط العظيم " الممتد من المغرب وحتى باكستان بعضوية إسرائيلية ناجزة.
هذا ويشير الإستقراء التاريخي الى ان اللاعبين الاقليميين سيبقون جاهزين لتهميش مشاريع وتصاميم كبيرة يخطط لها لاعبون خارج المنطقة.
ويعود السبب في ذلك الى ان اللاعبين الاقليميين, بغض النظر عن ميولهم في السياسة الخارجية او اعتمادهم على قوى خارجية, يمنحون مصالحهم اهمية اكبر من مسائل النظام العالمي الذي يتجاهل تقليدياً هذه المصالح. خاصة وأن اللاعبين الإقليميين مجهزون ايضاً لتحمّل خسائر اكبر من اللاعبين الخارجيين من اجل الدفاع عن مصالحهم المركزة اقليمياً.
ووفقاً للمنطق ذاته, قد تعطي التطورات في مرحلة ما بعد الحرب في العراق دليلاً جديداً الى ما شدد عليه ليونارد بايندر في مقال نشر قبل 45 عاماً, وهو ان القوة المفروضة على منطقة من الخارج سـوف "تُحطم" من جانب ديناميكية النظام شبه الاقليمي.
وفي عبارات اخرى, لا يُمكن تأكيد السيطرة في النظام العالمي عندما يتعلق الامر بمسألة النظام الاقليمي. وحتى القوة العسكرية المتفوقة, كما هي الحال في العراق, قد لا تترجم الى قوة في منطق ويبيري (ماكس ويبير), اي الى القدرة على حمل الارادة على التفوق حتى على المقاومة. ولقد درس الكثير من الباحثين ،بالنسبة الى الشرق الاوسط، الكيفية التي يهزم فيها لاعبون اقليميون تصاميم قوى خارجية داخل نظامهم الخاص.
ولقد فسر باحثون اكاديميون مثل ل. كارل براون وغيره ،اثناء الحرب الباردة، هذه الظاهرة بالاعتماد على قدرة اللاعبين الاقليميين على ابعاد القوى الخارجية عبر زجها في صراعات مع بعضها بعضاً وسحبها نحو صراعات اقليمية مخالفة لمصالحها. وفيما الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة لن يمنحا اللاعبين الاقليميين فرصاً عدة لابعادهما. فهؤلاء سيحاولون على الارجح جر أي من هذين اللاعبين الى الاصطفاف الى جانبهم في صراعات اقليمية او محلية في مواجهة قوى اخرى (روسيا واليابان او قوى في العالم الثالث مثل الصين والهند). وقد تتوافر مثل هذه الفرص في اطار ما يسمى بالحرب العالمية على الارهاب. وبذلك يمكن للحرب على الإرهاب ان تتحول الى فخ غير محسوب للولايات المتحدة. التي إخترعت هذه الحرب بهدف التوظيف الاستراتيجي لتغطية طموحاتها الاستراتيجية وتوريتها خلف ستار الدفاع عن الأمن الأميركي وعن امن العالم ضد الإرهاب.
وعدا عن درس الآلية التي ستُقاوم بموجبها او تُهمش, محلياً واقليمياً, التصاميم الدولية للشرق الاوسط, فإن على الابحاث السياسية الأميركية ان تركزعلى فرص ووسائل تدخلات بناءة لقوى العالم الثالث, سواء كان ذلك في الصراع العربي - الاسرائيلي أم في صراعات داخلية مثل تلك في السودان والجزائر, او على صعيد اقليمي في مسائل الحد من التسلح والانظمة الامنية. ولن يركز مثل هذا البحث في التعاون فقط, ولكن سيتم باسلوب متعاون ليشمل باحثين شرق اوسطيين واوروبيين واميركيين. وستشمل الاهلية المكتسبة باتباع هذا الاسلوب الجانب العلمي الى جانب السياسات. إلا أن تجربة تقارير التنمية البشرية لا تبشر بنجاح مثل هذا التعاون الأكاديمي المختلط ( يسميه الأميركيون عادة بدبلوماسية الأبواب الخلفية). فصحيح أن هذه التقارير أعطت النموذج للمشاريع الخارجية للمنطقة ( الشرق الاوسط العظيم الأميركي والإصلاح الأوروبي ) إلا أنها لم تثبت فعاليتها. فالمقاومة العراقية مثالاً تتدعم بمقاومة عربية لتبين أن عوامل مياه الشرب والانترنت وحتى الحريات الاعلامية والشخصية ليست موضع أولوية لدى شعوب المنطقة. فهذه الشعوب تقدم كرامتها القومية وعوامل الإعتراف الهيغلي على كل نصائح تقارير التنمية البشرية. وهذا ينفي صلاحية هذه التقارير للاعتماد كنواة لإطلاق مشاريع مقبولة من شعوب المنطقة. وهي تثبت بأشكال عديدة رفضها إستبدال الإعتراف بسعادة مياه الشرب. خاصة وأنها تدرك أنها ليست فقيرة بل هي تعرضت على مدى عقود لسياسة إفقار منظمة. وبالتالي فإن الحل لا يكون بتبرعات أميركية وإنما باطلاق حرية استثمار ثروات المنطقة بدون تقنين الإفقار الأميركي. وهذه عوامل واجبة التركيز الإعلامي عليها. في مواجهة افستعراضات الإعلامية للتبرعات الأميركية الواردة الى المنطقة ببخل شديد تحت شعارات المؤسسات الأميركية للتنمية. وهي مجرد فروع مخابراتية. وعليه فإنه من الضرورة بمكان تفريع منظمة مصالحة تابعة للجامعة العربية. يكون هدفها التوسط لحل الخلافات البينية بين السلطة والمعارضات في كل دولة عربية على حدة. وذلك بغية الوقاية من التوظيف المخابراتي الأجنبي لهذه المعارضات على غرار ما حصل للمعارضات العراقية. وعن هذه المنظمة تتفرع المسؤوليات التالية:
1. الإصلاح بأيدينا: تجنباً للخضوع الى المشاريع المخابراتية الأميركية للإصلاح وتولية قادة المجتمع من نوع قرضاي على شعوبنا. مما يقتضي العمل على تأسيس المنظمة العربية للإصلاح وإلحاقها بالجمعة العربية.
2. إدخال التعديلات المناسبة على ميثاق الجامعة. والإستفادة من كل الفرص المتاحة لتطوير هذه الجامعة.
3. تعزيز ودعم قيام مؤسسات إقليمية جديدة تنطلق من الواقع الاستراتيجي الجديد للمنطقة. مثال ذلك تجمع دول الجوار العراقي في منظمة إقليمية جديدة تهدف للحد من أضرار فوضى إحتلال العراق على هذه الدول.
4. تشجيع المصالحات والحوار الداخلي في كل دول المنطقة.
5. التصنيف الحاسم للمعارضات العربية في فئتين رئيستين: فئة تقبل مصير العراق لبلدها وفئة ترفض هذا المصير.