تشكل عملية تحديد السلوك السوي والمضطرب حجر الأساس لجميع المهن المتعلقة بالصحة النفسية. غير أن هذا التحديد بحد ذاته ليس بالأمر السهل.
وقبل أن يطلب منا البحث عن السبب المؤدي إلى حدوث الاضطراب أو المشكلة علينا أن نكون قد قمنا بتحديد الاختلال أو الاضطراب الذي نحن بصدده مهما كان بسيطاً. وقبل أن نبحث عن معنى مصطلحات مثل السلوك السوي أو السلوك الشاذ لا بد وأن يكون لدينا تصوراً عما نقصده بالسواء أو العادية أو عدم السواء.
والسلوك_ أي سلوك- يمكن فهمه من وجهة نظر علم النفس على أنه استجابة لمنبه ما سبب هذا السلوك. ولكن إذا أردنا أن نحكم على طبيعة هذا السلوك، أي فيما إذا كان هذا السلوك سوياً أو مضطرباً، فإننا هنا نحتاج إلى معيار أو مقياس لنحكم وفقه على هذا السلوك. ونحن عندما نطلق على سلوك ما صفة السلوك السوي أو العادي أو غير السوي فإنه لابد لنا من الاستناد إلى معيار معين نقيس وفقه هذا السلوك ونطلق حكمنا بناء عليه. ونحن في حياتنا اليومية، وعندما نحكم على سلوك أي شخص نستخدم معايير مختلفة، منها ما هو معيار شخصي نابع عن قياس تصرفات الآخرين وفق ما نراه نحن لأنفسنا بأنه سوي أو غير سوي، ومنها ما هو معيار اجتماعي، نستمده من تربيتنا وعاداتنا وقيمنا. ويستخدم علماء النفس معايير أخرى كذلك، تقوم على أسس علمية مستخدمين في ذلك التشخيص القائم على الاختبارات النفسية.
وإذا ما انتقلنا إلى سلوك الأطفال فإن الحكم على السلوك السوي أو المضطرب للطفل يزداد تعقيداً بسبب الطبيعة الخاصة لسلوك الأطفال المتعلقة بمراحل النمو، حيث قد تبدو بعض السلوكات في مرحلة ما طبيعية وتصبح في مرحلة أخرى غير ذلك، وللتشابه الكبير أحياناً بين أنماط السلوك غير السوية وبين أنماط السلوك التي تعد نتيجة للمرحلة العمرية (كسلوك اللعب العنيف عند الأطفال الذكور).
كما وأن الوظيفة التي يؤديها السلوك عند الأطفال تختلف عن الوظيفة التي يؤديها السلوك عند الكبار. وهذا الأمر ينبغي لنا فهمه من أجل التمكن من كسر الحلقة المفرغة التي قد يقع فيها المربون في هذا المجال. فالأطفال من خلال سلوكهم الملفت للنظر يسعون إلى تحقيق وظيفة من وراء هذا السلوك إلا وهي لفت انتباه الكبار، أي أنهم يبحثون عن اهتمام الكبار بهم، وعادة ما لا يهتم الكبار بالأطفال إذا كان سلوكهم عادياً، ولكن عندما يقومون بسلوك ملفت للنظر وأظهروا اضطراباتهم فإنهم يكونون متأكدين من أن الكبار سوف يلتفتون إليهم. وعندما يهتم الآخرون بالأطفال نتيجة هذا السلوك الملفت للنظر فإنهم بهذا يعززون الحلقة المفرغة بصورة ا إرادية، ويصبح الطفل مبرمجاً وفق ((يكفي في المرة القادمة أن أضرب هذا الطفل حتى أصبح مركز اهتمام الآخرين))، حتى وإن كانت العاقبة أحياناً عقاب الطفل من الأهل. فهذا لا يهم المهم لفت النظر. والحل هنا طبعاً يتمثل في إبداء الاهتمام والرعاية بالطفل حتى عندما لا يكون سلوكه ملفتاً للنظر وتعزيز إنجازاته البسيطة دائماً.
ويحتاج الأهل والمربون في تعاملهم اليومي مع الأطفال إلى معايير تساعدهم في الحكم على سلوك الأطفال، من أجل تحديد فيما إذا كان هذا السلوك طبيعياً أم لا وبالتالي من أجل تحديد فيما إذا كان هذا الطفل أو ذاك بحاجة إلى الإرشاد والرعاية، وبالتالي إما مساعدته أو تحويله إلى هيئات متخصصة إذا ما دعت الضرورة لذلك.
وبشكل عام يمكننا أن نعتمد على المعايير التالية المترابطة مع بعضها بشكل وثيق في الحكم على السلوك، معتمدين في ذلك على الملاحظة والمقارنة:
1- السن:
قد يبدو سلوك طفل ما في مرحلة من مراحل السن غير سوي ولكن إذا ما ظهر في مرحلة أخرى فقد يبدو سوياً. فحين يبكي طفل في عمر الثالثة بسبب عدم حصوله على قطعة حلوى فإننا نعتبر ذلك طبيعياً، أما حين يصدر السلوك نفسه عن طفل في سن الخامسة عشرة فإننا نعتبر ذلك غير سوي. وحين يخاف الطفل الذي يلتحق بالروضة لأول مرة ويبكي أو يحاول الهرب أو يلتصق بأمه ولا يتركها ..الخ، فإننا نعد ذلك سوياً أما إذا ما صدر هذا السلوك عن طفل في المرحلة الإعدادية مثلاً فإننا نعد هذا السلوك غير سوي.
2- الموقف الذي يظهر فيه السلوك
يعتبر الموقف أو الإطار الذي يظهر فيه السلوك محدداً هاماً من محددات السلوك السوي أو غير السوي. فالسلوك الذي قد يبدو لنا مستهجناً قد لا يصبح كذلك إذا ما حللنا الموقف الذي ظهر فيه هذا السلوك وقد نعتبره ردة فعل عادية على الموقف الذي وجد الشخص فيه. فعندما يرفض طفل في العاشرة من عمره مثلاً إعطاء قطعة حلوى لطفل آخر فقد يبدو هذا السلوك أنانياً للوهلة الأولى ولكن إذا ما حللنا الموقف وأدركنا لماذا يرفض الطفل ذلك فقد يصبح سلوكه عادياً بالنسبة لنا. فقد يكون رفض الطفل نابعاً من كون زميله يملك قطعة أخرى، أو أن الطفل جائع أو أن رفضه نابع من كون الطفل الآخر قد رفض مرة إعطاء الطفل شيئاً ما مثلاً. وقد يكون عدوان طفل على طفل آخر نتيجة أو ردة فعل على إثارة الثاني للأول بشكل مباشر أو غير مباشر.
إذاً فما يبدو في لحظة معينة سلوكاً مضطرباً قد يبدو في لحظة أخرى سلوكاً سوياً
3- التكرار
المعيار الثالث والمهم الذي يمكننا من خلاله الحكم على سلوك ما بأنه سوي أو مضطرب هو مدى تكرار سلوك ما. فالسلوك الذي يظهر لمرة واحدة فقط أو لمرات قليلة متباعدة لا يمكن اعتباره غير سوي اللهم إلا إذا كان هذا السلوك يلحق الأذى الشديد بالآخرين. فعندما يكذب الطفل مرة لينقذ نفسه من حرج معين مثلاً مرة واحدة لا يجيز لنا إطلاق صفة الطفل الكاذب عليه بعد. أو مسألة التدخل ولكن إذا تكرر هذا السلوك في أكثر من موقف وفي مناسبات مختلفة فإنه يمكننا الحكم هنا على هذا السلوك بأنه غير سوي.
وتعد مسألة تكرار السلوك مسألة مهمة في الحكم على السلوك بالإضافة إلى معيار الموقف والسن.
4- القيم والمعايير
الأطفال أنفسهم لا يطلقون على سلوكهم أو سلوك بعضهم بأنه سوي أو مضطرب، وإنما هم الكبار من يطلق ذلك. ومن هنا يوجد تفاوت كبير في أحكام الكبار نتيجة اختلاف رؤيتهم للسلوك واختلاف معايير قيمهم الخاص بهم. فقد ينظر شخص ما لسلوك طفله العدواني تجاه شخص آخر على أنه شاذ وغريب، في حين ينظر شخص إلى السلوك نفسه على أنه سوي وطبيعي. ونحن نلاحظ مثلاً أن كثير من الأهل يضحكون ويفرحون لأن ابنتهم تصرخ وتعض وتسيطر على الأطفال الآخرين في حين أن بعضهم الآخر ينزعج من هذا السلوك. فموقف الكبار من هذا السلوك يعد إلى جانب المعايير السابقة محدداً هاماً من محددات الحكم على السلوك السوي والمضطرب.
5- الاستغراب
المقصود بالاستغراب هنا أن يكون السلوك ملفتاً للنظر. وأي سلوك ملفت للنظر يمكن اعتباره مضطرباً. وهنا لا يوجد فرق إذا كان السلوك ((مزعجاً)) أو ((لطيفاً)، إذ يمكن لطفل هادئ ((سهل العناية)) أن يكون مضطرباً سلوكياً تماماً مثل الطفل الصاخب فخلف الهدوء الشديد قد يكمن حزن عميق أو حتى اكتئاب.
ما هي أسباب اضطرابات السلوك عند الأطفال؟
تتنوع الأسباب الكامنة خلف اضطرابات سلوك الأطفال بدءاً من مشاعر الغيرة والإحساس بالإهمال إلى مشاعر فقدان الأمن. ويمكن إجمال الأسباب الممكنة الكامنة خلف اضطرابات السلوك عند الأطفال في النقاط التالية:
- الغيرة من ولادة أخ جديد في الأسرة
- فقدان الإحساس بالأمن بسبب تبديل المدرسة أو السكن، أو انفصال الوالدين أو غياب أحدهما بسبب السفر..الخ
- نقص اهتمام الأهل بالطفل وعدم الاعتراف بالطفل أو بإنجازاته. فالطفل يحتاج دائماً إلى الحصول على اعتراف الأهل به من خلال ما ينجزه من أعمال حتى وإن كانت من وجهة نظرنا نحن الكبار غير كاملة، وعلينا عدم التقليل من أهمية ما ينجزه من أعمال أو التبخيس بها.
- الحث الزائد عن اللزوم للطفل من أجل الإنجاز من قبل الأهل . وغالباً ما تكمن عوامل لا شعورية خلف ذلك من الأب أو الأم عندما يرغبان بأن يحقق لهما ابنهما ما عجزا هما عن تحقيقه.
ما الذي يمكن فعله لمعالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال
نعرف من خلال قوانين التعلم أن السلوك الذي يتم تجاهله وعدم تقويته أو تعزيزه ينطفئ بينما السلوك الذي يحظى بالتشجيع والدعم يميل للاستمرار. وهنا ليس من الضروري أن يعزز السلوك بالثواب حتى يستمر بل أن العقاب أيضاً يقود إلى تعزيز السلوك السلبي حتى وإن كانت النتيجة بالنسبة للطفل العقاب الجسدي. فالمهم هنا بالنسبة للطفل هو تحقيق الغاية من سلوكه بلفت نظر الراشدين إليه. فإذا كان السلوك مستغرباً ونادراً –كأن يستخدم الطفل كلمات نابية أو أن يصرخ ويبكي من أجل تحقيق غاية معينة كالحصول على قطعة حلوى مثلاً يكفي أن نتجاهل هذا التصرف، وكأننا لم نسمعه أو نلاحظه، ولا نلتفت للطفل أبداً. وهنا سوف يدرك الطفل بأن ما قام به من سلوك لا يحظى باهتمام الكبار، ولا بالاهتمام الإيجابي، أي بالرضوخ لمطالبه، ولا بالاهتمام السلبي، أي بضرب الطفل أو تأنيبه أو ما شابه. وبالتالي سوف لن يعود الطفل إلى مثل هذا السلوك لأن سلوكه هذا لم يحقق له النتيجة التي يرغبها. ولكن في حال ألحق الطفل الأذى بنفسه أو بالآخرين (كالعدوانية أو السرقة أو الكذب من أجل إلحاق الأذى المتعمد بطفل آخر) فعلى الوالدين أن يتدخلا هنا ومعاقبة الطفل عن طريق الحرمان من بعض المكاسب كمنعه من النزهة أو من الحصول على مصروف لفترة طويلة…الخ.
ومسألة الضرب هنا مسألة مهمة في التربية. فليس المقصود بالعقاب هنا هو ضرب الطفل لسلوك قام به. فهناك بدائل كثيرة ممكنة. ونحن عندما نعاقب الطفل بالضرب لسلوكه المضطرب، نكون قد حققنا الغرض له بالحصول عللا الانتباه. وهنا يستنتج الطفل الاستنتاج الخاطئ بأنه ليس علي في المرة القادمة إلا التصرف على هذا الشكل من أجل أن أحصل على الانتباه. وهنا يقع الأهل في فخ الدائرة المغلقة التي يمكن أن تكون مزعجة للوالدين والطفل معاً. عدا عن ذلك فإنه عندما نضرب طفلنا لسلوكه الخاطئ فإننا بذلك لا نكون قد قدمنا مساعدة له في إيضاح السلوك الصحيح. فالعقاب بالضرب قد يقود إلى إيقاف السلوك المزعج في اللحظة الراهنة ولكنه لا يعلم الطفل البديل السليم للسلوك. والمهم هنا في عقاب الطفل أن نوضح له أننا قد عاقبناه لسلوكه الخاطئ وليس لشخصه وأن نوضح له من خلال القدوة الأسلوب الصحيح للتعامل مع الأشياء. فليس من المعقول أن نطلب من أطفالنا أن يقولوا مثلاً أن والدهم ليس في البيت إذا ما كان هناك اتصال هاتفي معه، ونطالب أطفالنا ألا يكذبوا.
مراجع للاستزادة
-1- عبد الستار إبراهيم وعبد العزيز الدخيل و رضوى إبراهيم (1993): العلاج السلوكي للطفل، أساليبه ونماذج من حالاته. سلسلة عالم المعرفة الكويت –180
2- جيروم كاغان (1983): نمو الشخصية. ترجمة عبد المجيد نشواتي. منشورات وزارة الثقافة- دمشق.
وقبل أن يطلب منا البحث عن السبب المؤدي إلى حدوث الاضطراب أو المشكلة علينا أن نكون قد قمنا بتحديد الاختلال أو الاضطراب الذي نحن بصدده مهما كان بسيطاً. وقبل أن نبحث عن معنى مصطلحات مثل السلوك السوي أو السلوك الشاذ لا بد وأن يكون لدينا تصوراً عما نقصده بالسواء أو العادية أو عدم السواء.
والسلوك_ أي سلوك- يمكن فهمه من وجهة نظر علم النفس على أنه استجابة لمنبه ما سبب هذا السلوك. ولكن إذا أردنا أن نحكم على طبيعة هذا السلوك، أي فيما إذا كان هذا السلوك سوياً أو مضطرباً، فإننا هنا نحتاج إلى معيار أو مقياس لنحكم وفقه على هذا السلوك. ونحن عندما نطلق على سلوك ما صفة السلوك السوي أو العادي أو غير السوي فإنه لابد لنا من الاستناد إلى معيار معين نقيس وفقه هذا السلوك ونطلق حكمنا بناء عليه. ونحن في حياتنا اليومية، وعندما نحكم على سلوك أي شخص نستخدم معايير مختلفة، منها ما هو معيار شخصي نابع عن قياس تصرفات الآخرين وفق ما نراه نحن لأنفسنا بأنه سوي أو غير سوي، ومنها ما هو معيار اجتماعي، نستمده من تربيتنا وعاداتنا وقيمنا. ويستخدم علماء النفس معايير أخرى كذلك، تقوم على أسس علمية مستخدمين في ذلك التشخيص القائم على الاختبارات النفسية.
وإذا ما انتقلنا إلى سلوك الأطفال فإن الحكم على السلوك السوي أو المضطرب للطفل يزداد تعقيداً بسبب الطبيعة الخاصة لسلوك الأطفال المتعلقة بمراحل النمو، حيث قد تبدو بعض السلوكات في مرحلة ما طبيعية وتصبح في مرحلة أخرى غير ذلك، وللتشابه الكبير أحياناً بين أنماط السلوك غير السوية وبين أنماط السلوك التي تعد نتيجة للمرحلة العمرية (كسلوك اللعب العنيف عند الأطفال الذكور).
كما وأن الوظيفة التي يؤديها السلوك عند الأطفال تختلف عن الوظيفة التي يؤديها السلوك عند الكبار. وهذا الأمر ينبغي لنا فهمه من أجل التمكن من كسر الحلقة المفرغة التي قد يقع فيها المربون في هذا المجال. فالأطفال من خلال سلوكهم الملفت للنظر يسعون إلى تحقيق وظيفة من وراء هذا السلوك إلا وهي لفت انتباه الكبار، أي أنهم يبحثون عن اهتمام الكبار بهم، وعادة ما لا يهتم الكبار بالأطفال إذا كان سلوكهم عادياً، ولكن عندما يقومون بسلوك ملفت للنظر وأظهروا اضطراباتهم فإنهم يكونون متأكدين من أن الكبار سوف يلتفتون إليهم. وعندما يهتم الآخرون بالأطفال نتيجة هذا السلوك الملفت للنظر فإنهم بهذا يعززون الحلقة المفرغة بصورة ا إرادية، ويصبح الطفل مبرمجاً وفق ((يكفي في المرة القادمة أن أضرب هذا الطفل حتى أصبح مركز اهتمام الآخرين))، حتى وإن كانت العاقبة أحياناً عقاب الطفل من الأهل. فهذا لا يهم المهم لفت النظر. والحل هنا طبعاً يتمثل في إبداء الاهتمام والرعاية بالطفل حتى عندما لا يكون سلوكه ملفتاً للنظر وتعزيز إنجازاته البسيطة دائماً.
ويحتاج الأهل والمربون في تعاملهم اليومي مع الأطفال إلى معايير تساعدهم في الحكم على سلوك الأطفال، من أجل تحديد فيما إذا كان هذا السلوك طبيعياً أم لا وبالتالي من أجل تحديد فيما إذا كان هذا الطفل أو ذاك بحاجة إلى الإرشاد والرعاية، وبالتالي إما مساعدته أو تحويله إلى هيئات متخصصة إذا ما دعت الضرورة لذلك.
وبشكل عام يمكننا أن نعتمد على المعايير التالية المترابطة مع بعضها بشكل وثيق في الحكم على السلوك، معتمدين في ذلك على الملاحظة والمقارنة:
1- السن:
قد يبدو سلوك طفل ما في مرحلة من مراحل السن غير سوي ولكن إذا ما ظهر في مرحلة أخرى فقد يبدو سوياً. فحين يبكي طفل في عمر الثالثة بسبب عدم حصوله على قطعة حلوى فإننا نعتبر ذلك طبيعياً، أما حين يصدر السلوك نفسه عن طفل في سن الخامسة عشرة فإننا نعتبر ذلك غير سوي. وحين يخاف الطفل الذي يلتحق بالروضة لأول مرة ويبكي أو يحاول الهرب أو يلتصق بأمه ولا يتركها ..الخ، فإننا نعد ذلك سوياً أما إذا ما صدر هذا السلوك عن طفل في المرحلة الإعدادية مثلاً فإننا نعد هذا السلوك غير سوي.
2- الموقف الذي يظهر فيه السلوك
يعتبر الموقف أو الإطار الذي يظهر فيه السلوك محدداً هاماً من محددات السلوك السوي أو غير السوي. فالسلوك الذي قد يبدو لنا مستهجناً قد لا يصبح كذلك إذا ما حللنا الموقف الذي ظهر فيه هذا السلوك وقد نعتبره ردة فعل عادية على الموقف الذي وجد الشخص فيه. فعندما يرفض طفل في العاشرة من عمره مثلاً إعطاء قطعة حلوى لطفل آخر فقد يبدو هذا السلوك أنانياً للوهلة الأولى ولكن إذا ما حللنا الموقف وأدركنا لماذا يرفض الطفل ذلك فقد يصبح سلوكه عادياً بالنسبة لنا. فقد يكون رفض الطفل نابعاً من كون زميله يملك قطعة أخرى، أو أن الطفل جائع أو أن رفضه نابع من كون الطفل الآخر قد رفض مرة إعطاء الطفل شيئاً ما مثلاً. وقد يكون عدوان طفل على طفل آخر نتيجة أو ردة فعل على إثارة الثاني للأول بشكل مباشر أو غير مباشر.
إذاً فما يبدو في لحظة معينة سلوكاً مضطرباً قد يبدو في لحظة أخرى سلوكاً سوياً
3- التكرار
المعيار الثالث والمهم الذي يمكننا من خلاله الحكم على سلوك ما بأنه سوي أو مضطرب هو مدى تكرار سلوك ما. فالسلوك الذي يظهر لمرة واحدة فقط أو لمرات قليلة متباعدة لا يمكن اعتباره غير سوي اللهم إلا إذا كان هذا السلوك يلحق الأذى الشديد بالآخرين. فعندما يكذب الطفل مرة لينقذ نفسه من حرج معين مثلاً مرة واحدة لا يجيز لنا إطلاق صفة الطفل الكاذب عليه بعد. أو مسألة التدخل ولكن إذا تكرر هذا السلوك في أكثر من موقف وفي مناسبات مختلفة فإنه يمكننا الحكم هنا على هذا السلوك بأنه غير سوي.
وتعد مسألة تكرار السلوك مسألة مهمة في الحكم على السلوك بالإضافة إلى معيار الموقف والسن.
4- القيم والمعايير
الأطفال أنفسهم لا يطلقون على سلوكهم أو سلوك بعضهم بأنه سوي أو مضطرب، وإنما هم الكبار من يطلق ذلك. ومن هنا يوجد تفاوت كبير في أحكام الكبار نتيجة اختلاف رؤيتهم للسلوك واختلاف معايير قيمهم الخاص بهم. فقد ينظر شخص ما لسلوك طفله العدواني تجاه شخص آخر على أنه شاذ وغريب، في حين ينظر شخص إلى السلوك نفسه على أنه سوي وطبيعي. ونحن نلاحظ مثلاً أن كثير من الأهل يضحكون ويفرحون لأن ابنتهم تصرخ وتعض وتسيطر على الأطفال الآخرين في حين أن بعضهم الآخر ينزعج من هذا السلوك. فموقف الكبار من هذا السلوك يعد إلى جانب المعايير السابقة محدداً هاماً من محددات الحكم على السلوك السوي والمضطرب.
5- الاستغراب
المقصود بالاستغراب هنا أن يكون السلوك ملفتاً للنظر. وأي سلوك ملفت للنظر يمكن اعتباره مضطرباً. وهنا لا يوجد فرق إذا كان السلوك ((مزعجاً)) أو ((لطيفاً)، إذ يمكن لطفل هادئ ((سهل العناية)) أن يكون مضطرباً سلوكياً تماماً مثل الطفل الصاخب فخلف الهدوء الشديد قد يكمن حزن عميق أو حتى اكتئاب.
ما هي أسباب اضطرابات السلوك عند الأطفال؟
تتنوع الأسباب الكامنة خلف اضطرابات سلوك الأطفال بدءاً من مشاعر الغيرة والإحساس بالإهمال إلى مشاعر فقدان الأمن. ويمكن إجمال الأسباب الممكنة الكامنة خلف اضطرابات السلوك عند الأطفال في النقاط التالية:
- الغيرة من ولادة أخ جديد في الأسرة
- فقدان الإحساس بالأمن بسبب تبديل المدرسة أو السكن، أو انفصال الوالدين أو غياب أحدهما بسبب السفر..الخ
- نقص اهتمام الأهل بالطفل وعدم الاعتراف بالطفل أو بإنجازاته. فالطفل يحتاج دائماً إلى الحصول على اعتراف الأهل به من خلال ما ينجزه من أعمال حتى وإن كانت من وجهة نظرنا نحن الكبار غير كاملة، وعلينا عدم التقليل من أهمية ما ينجزه من أعمال أو التبخيس بها.
- الحث الزائد عن اللزوم للطفل من أجل الإنجاز من قبل الأهل . وغالباً ما تكمن عوامل لا شعورية خلف ذلك من الأب أو الأم عندما يرغبان بأن يحقق لهما ابنهما ما عجزا هما عن تحقيقه.
ما الذي يمكن فعله لمعالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال
نعرف من خلال قوانين التعلم أن السلوك الذي يتم تجاهله وعدم تقويته أو تعزيزه ينطفئ بينما السلوك الذي يحظى بالتشجيع والدعم يميل للاستمرار. وهنا ليس من الضروري أن يعزز السلوك بالثواب حتى يستمر بل أن العقاب أيضاً يقود إلى تعزيز السلوك السلبي حتى وإن كانت النتيجة بالنسبة للطفل العقاب الجسدي. فالمهم هنا بالنسبة للطفل هو تحقيق الغاية من سلوكه بلفت نظر الراشدين إليه. فإذا كان السلوك مستغرباً ونادراً –كأن يستخدم الطفل كلمات نابية أو أن يصرخ ويبكي من أجل تحقيق غاية معينة كالحصول على قطعة حلوى مثلاً يكفي أن نتجاهل هذا التصرف، وكأننا لم نسمعه أو نلاحظه، ولا نلتفت للطفل أبداً. وهنا سوف يدرك الطفل بأن ما قام به من سلوك لا يحظى باهتمام الكبار، ولا بالاهتمام الإيجابي، أي بالرضوخ لمطالبه، ولا بالاهتمام السلبي، أي بضرب الطفل أو تأنيبه أو ما شابه. وبالتالي سوف لن يعود الطفل إلى مثل هذا السلوك لأن سلوكه هذا لم يحقق له النتيجة التي يرغبها. ولكن في حال ألحق الطفل الأذى بنفسه أو بالآخرين (كالعدوانية أو السرقة أو الكذب من أجل إلحاق الأذى المتعمد بطفل آخر) فعلى الوالدين أن يتدخلا هنا ومعاقبة الطفل عن طريق الحرمان من بعض المكاسب كمنعه من النزهة أو من الحصول على مصروف لفترة طويلة…الخ.
ومسألة الضرب هنا مسألة مهمة في التربية. فليس المقصود بالعقاب هنا هو ضرب الطفل لسلوك قام به. فهناك بدائل كثيرة ممكنة. ونحن عندما نعاقب الطفل بالضرب لسلوكه المضطرب، نكون قد حققنا الغرض له بالحصول عللا الانتباه. وهنا يستنتج الطفل الاستنتاج الخاطئ بأنه ليس علي في المرة القادمة إلا التصرف على هذا الشكل من أجل أن أحصل على الانتباه. وهنا يقع الأهل في فخ الدائرة المغلقة التي يمكن أن تكون مزعجة للوالدين والطفل معاً. عدا عن ذلك فإنه عندما نضرب طفلنا لسلوكه الخاطئ فإننا بذلك لا نكون قد قدمنا مساعدة له في إيضاح السلوك الصحيح. فالعقاب بالضرب قد يقود إلى إيقاف السلوك المزعج في اللحظة الراهنة ولكنه لا يعلم الطفل البديل السليم للسلوك. والمهم هنا في عقاب الطفل أن نوضح له أننا قد عاقبناه لسلوكه الخاطئ وليس لشخصه وأن نوضح له من خلال القدوة الأسلوب الصحيح للتعامل مع الأشياء. فليس من المعقول أن نطلب من أطفالنا أن يقولوا مثلاً أن والدهم ليس في البيت إذا ما كان هناك اتصال هاتفي معه، ونطالب أطفالنا ألا يكذبوا.
مراجع للاستزادة
-1- عبد الستار إبراهيم وعبد العزيز الدخيل و رضوى إبراهيم (1993): العلاج السلوكي للطفل، أساليبه ونماذج من حالاته. سلسلة عالم المعرفة الكويت –180
2- جيروم كاغان (1983): نمو الشخصية. ترجمة عبد المجيد نشواتي. منشورات وزارة الثقافة- دمشق.