تأليف
د/ آمال يس عبد المعطي البنداري
أستاذ الفقه المقارن المساعد
كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالقاهرة
جامعة القاهرة
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأصلي وأسلم على خير خلق الله سيد الأنام، سيدنا محمد وعلى آله، وصحابته رضوان الله عليهم، وعلى التابعين من بعدهم إلى يوم الدين.
وبعد:
النكاح مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية لعمارة الكون وحفظ العرض وشرف النسب، ولهذا أولته الشريعة اهتمامًا بالغًا، وأمرت بإشهاره وإعلانه بشتى الوسائل تمييزًا له عن السفاح( ).
فأمرت بالإشهاد عليه، وإشهاره بجمع الناس لوليمته، وإعلانه بالضرب بالدف ليشيع أمره وينتشر.
ولم تجعل في مال الرجل للمرأة قبل الدخول عليها سوى أمرين:
المهر ووليمة العرس.
وهذا إن دلَّ، فإنه يدل على أن النكاح من أعظم العقود، التي يبني عليها استقرار المجتمع، واستقراره يكون بنشره وإعلانه بين الناس لنزول كل شبهة أو لبس، وحتى لا يكون هناك مجال للطعن في الأنساب أو التجاحد والإنكار.
والوليمة وإن كانت وسيلة من وسائل إعلان النكاح، ففيها أيضًا تكريم للمرأة وقومها، بعمل طعام يجمع الأهل والإخوان والأصدقاء والجيران، فيضفي ذلك شعورًا بالود والسرور في بداية الحياة الزوجية، كما أن فيها شكرًا لنعمة الله على النكاح الذي به تتحقق مصالح الدنيا والدين.
منهاج البحث:
1- حاولت خلال عرض البحث الخروج بالموضوع من الدائرة التقليدية من تقسيم البحث إلى أبواب وفصول، ثم تقسيم الفصول إلى مباحث، والمباحث إلى مطالب، واقتصرت أثناء العرض على فصول، وجعلت كل فصل مستقل بذاته تندرج تحته مجموعة من الموضوعات التي تشمله دون إخلال بكل فصل.
2- عرضت في كل مسألة ذكرتها في البحث أقوال الفقهاء، وأدلتهم، ومناقشتها مع بيان الراجح منها، معتمدة في ذلك على أمهات الكتب الفقهية الأصيلة.
3- لما كان موضوع الوليمة ثابتًا بسنة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- القولية والفعلية، فقد اعتمدت على أمهات الكتب في الحديث الشريف تخريجًا ودلالةً وتوضيحًا لبعض معانيه مشيرة إلى المصادر الأصلية، فإن عزَّ عليَّ الحصول على وجه الدلالة من مظان وجوده، أتصرف فيه بنفسي دون إشارة إلى مصدره.
4- ترجمت لبعض الأعلام الذين وردت أسماؤهم في البحث، والذين رأيت لترجمتهم فائدة في سير البحث أو استشهدت بأقوالهم في ثنايا الحديث.
5- بينت الألفاظ الغامضة التي وردت بالبحث مستعينة في ذلك بأمهات المصادر اللغوية.
6- تناولت بعض القضايا المعاصرة التي لها مساس بحياتنا اليومية كالموسيقى والغناء والرقص، والتصوير الفوتوغرافي مبينة المباح منها والمحرم.
أسباب اختيار الموضوع:
كان لاختيار موضوع البحث أسباب كثيرة منها:
1- معرفة الأحكام الشريعة المتعلقة بموضوع الوليمة جملةً وتفصيلاً.
2- كثير من الأسر تشترط أن تكون الوليمة في قاعة فاخرة تتكلف الألوف من الجنيهات بقصد المباهاة، مما يثقل كاهل الزوج في بداية حياته الزوجية، وتحول حياته لجحيم يطارده شبح الدَّين، فيظل فترة من حياته يسدد ما أنفقه في ليلة واحدة، فأحببت بيان موقف الشرع من قدر الوليمة والمدة المثلى لها.
3- ما رأيته من إسراف بعض الناس في الولائم من حيث تنوع الأطعمة، وكثرتها، ثم إلقاء الباقي في القمامة دون الإفادة منه، أو إعطائه للفقراء والمساكين.
4- اشتمال بعض الولائم على منكرات من جلب راقصات عاريات، أو غناء فاحش، أو شرب الخمر والمخدرات، فأحببت بيان ما حرمه الشرع وما أباحه ابتهاجًا بليلة العرس، وأوضحت أن الدين لا يمنع من اللهو البريء الذي لا يتنافى مع قيمه.
5- بيان موقف الشرع من حكم من يقصر دعوته على الأغنياء دون الفقراء بحجة أن هؤلاء دون المستوى أو لا يليق مجالستهم.
6- بعض المدعوين يحضر في صحبته من لم يدعه صاحب الوليمة أو يقوم بحمل الطعام إلى داره دون إذن من رب الوليمة، فأحببت بيان موقف الشرع فيما يصدر من بعض المدعوين ويتنافى مع الآداب الإسلامية.
لهذه الأسباب وغيرها كان اختياري لموضوع وليمة العرس.
خطة البحث:
اشتمل البحث على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة:
في المقدمة: بينت مقصد الشرع من النكاح والحرص على إشهاره بإقامة وليمة يتم من خلالها إشهار العرس جريًا على العرف وتكريمًا للزوجة وأهلها.
الفصل الأول: في حقيقة وليمة العرس وما يتعلق بها.
وفيه:
- تعريف وليمة العرس لغةً واصطلاحًا.
- أنواع الولائم.
- حكم وليمة العرس
- مشروعية الوليمة
- مقدار الوليمة
- مدتها
- وقتها
- حكمة مشروعية الوليمة
- حكم غيرها من الولائم
الفصل الثاني: الدعوة لوليمة العرس
وفيه:
- شروط الدعوة وآدابها
- حكم إجابة الدعوة
الفصل الثالث: الآكل من الوليمة
وفيه:
- حكم من كان مفطرًا
- حكم من كان صائمًا
- حكم من أكل بغير دعوة
- النثار وحكم التقاطه
الفصل الرابع: موجبات إجابة الدعوة ومسقطاتها
وفيه:
- شروط وجوب الإجابة إلى الوليمة (متى تجب)
- مسقطات الإجابة (الأعذار التي تبيح التخلف عن الحضور)
الخاتمة: وفيها أهم نتائج البحث
وبعد:
فهذا جهد المقل، وقد حاولت خلال عرض البحث استقصاء الموضوع من جميع أطرافه مستعينة في بعض مسائله بقضايا فقهية معاصرة رأيت أننا في حاجة إليها لنكون على بينة من أمرنا فيما نأتي وما نذر، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، ولكن عذري أني لم أقصر، فيما قصدت به وجه الله الكريم، ولكنها الطبيعة البشرية التي لا ترتقي للكمال، فالكمال لله وحده، والله من وراء القصد.
الفصل الأول
حقيقة وليمة العرس
وما يتعلق بها
وفيه:
• تعريف وليمة العرس لغةً واصطلاحًا
• أنواع الولائم
• حكم وليمة العرس
• مشروعية الوليمة
• مقدار الوليمة
• مدتها
• وقتها
• حكمة مشروعية الوليمة
• حكم غيرها من الولائم
الفصل الأول
حقيقة وليمة العرس وما يتعلق بها
تعريف وليمة العرس لغةً:
وليمة العرس مركبة من كلمتين أضيفت الأولى إلى الثانية وهما: (الأولى) وليمة (الثانية) العرس.
ولكل من الكلمتين في اللغة معنى.
أما الوليمة: فهي في اللغة( ) مشتقة من الوَلْم، وهو: القيد والجمع؛ لأن الزوجين يجتمعان.
وأولم فلان: إذا اجتمع خلقه وعقله، وأولم فلان أيضًا: عمل وليمة.
والوليمة: طعام العرس أو كل طعام صنع لدعوة وغيرها.
وعرفها( ) ابن منظور وغيره بأنها: كل طعام صنع لعرس وغيره.
وقيل( ) الوليمة: طعام العرس والإملاك( ).
وقيل( ) يسمى الطعام الذي يصنع عند العرس: وليمة، والذي يصنع عند الإملاك: نقيعة( ).
أما العرس( ) في اللغة فهو: الزفاف والتزويج، يقال: أعرس بالمرأة: إذا دخل بها.
وهذا يعني أن وليمة العرس هي الطعام الذي يعد عند الزفاف والدخول بالمرأة.
أما تعريفها في الاصطلاح:
الوليمة في اصطلاح الفقهاء لها تعريفات متعددة.
فعند الحنفية( )، الوليمة: طعام العرس، وقيل الوليمة: اسم لكل طعام.
وعند المالكية( )، الوليمة: طعام العرس خاصة.
وعند الشافعية( ): (الوليمة تقع على كل طعام يتخذ عند حادث سرور) إلا أن استعمالها في العرس أشهر.
وعرفها( ) الشربيني( ) بأنها تقع على كل طعام يتخذ لسرور حادث من عرس وإملاك وغيرهما.
وعند الحنابلة( ): هي اسم لدعوة العرس خاصة.
وقيل الوليمة: تقع على كل طعام لسرور حادث.
والأشهر( ) في الوليمة أنها إذا أطلقت انصرفت إلى وليمة العرس، أما في غير طعام العرس فلا تطلق إلا بقرينة فيقال وليمة الختان... إلخ.
العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:
العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي وطيدة الصلة، إذ إننا لا نكاد نفرق بينهما، فقد اتفقا على أن الوليمة بمعناها العام هي كل طعام أعد لحادث سرور وبمعناها الخاص هي طعام العرس خاصة.
الراجح من التعريفات الاصطلاحية:
والذي يظهر لي أن الوليمة عند إطلاقها اسم لكل طعام سواء أكان لسرور أو غيره، فتشمل وليمة العرس وتشمل غيرها حتى وإن كانت لحزن.
وعلى هذا فقول الحنفية: إن الوليمة اسم لكل طعام هو الراجح لا سيما وأن التعريفات الأخرى قد قصرت التعريف على الطعام المعد لحادث سرور فأخرجت الوضيمة - طعام المآتم الذي يصنعه الغير لأهل الميت - من جملة الولائم نظرًا لاعتبار السرور.
ولكن الظاهر( ) أنها منها، واعتبار السرور إنما هو في الغالب، لهذا كان قولهم أولى بالاعتبار. والله أعلم
ولما كان الأمر كذلك قيدت الحديث عن الوليمة بالعرس لتتميز عن غيرها من الولائم.
أنواع الولائم
الوليمة بصفة عامة هي إصلاح الطعام، واستدعاء الناس لأجله وهي أنواع( ):
1- وليمة العرس: وهي الوليمة على اجتماع الزوجين، وبعبارة أوضح: هي التي تصنع عند الزفاف والدخول بالزوجة.
2- وليمة الخُرْس: (طعام النفاس) وهي الوليمة على ولادة الولد. أما الطعام المعد للنفساء نفسها يسمى: خرسة.
3- وليمة الإعذار: وهي الوليمة على الختان.
4- وليمة الوكيرة ( ): وهي الوليمة على بناء الدار.
5- وليمة النقيعة( ): وهي وليمة القادم من السفر، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم من السفر، والتي تصنع له تسمى: التحفة.
6- العقيقة: الذبح لأجل الولد، وبعبارة أوضح: هي الطعام الذي يصنع في سابع يوم الولادة فرحًا بالمولود.
7- حِذاقة( ): وهو الطعام الذي يصنع عند ختم الصبي للقرآن، أو ختم قدر مقصود منه. ويحتمل أن تكون في حذقة لكل صنعة، أو تعلم العلوم.
8- الشُنْدَخ( ) أو الشُنْدُخ: وهو طعام الإملاك (التزويج)؛ لأنه يتقدم الدخول. وقيل: وليمة الإملاك يقال لها: نقيعة( ).
وبهذا يتبين لنا أن للنكاح وليمتين، وليمة عند العقد ويقال لها: شندخ أو نقيعة أو إملاك، ووليمة عند الدخول بالمرأة وتسمى وليمة العرس.
9- مأدُبة، مأدَبة: وهي الوليمة لغير سبب، وبعبارة أخرى: هي الطعام الذي يعمله الجيران والأصحاب لأجل المودة، فإن كانت لقوم مخصوصين فهي النَّقَرَى( )، وإن كانت عامة فهي الجَفَلَى( ) قال طرفة( ) بن العبد:
نَحنُ في المَشتاةِ نَدعو الجَفَلى
لا تَرى الآدِبَ فينا يَنتَقِر
10- وضيمة أو وضيحة( ): وهي طعام المآتم أو ما يتخذ عند المصيبة.
حكم وليمة العرس
اختلف الفقهاء في حكمها على ثلاثة أقوال:
(الأول): أنها مستحبة وليست بواجبة، وبهذا قال جمهور الفقهاء من الحنفية( ) والمالكية( ) في قول هو المذهب( )، والشافعية( ) في قول هو الأصح والأظهر، والحنابلة( ) في رواية هي المذهب، وإليه ذهب الشيعة الزيدية( ) والإمامية( ).
(الثاني): إنها واجبة وبهذا قال المالكية( ) في قول آخر، والشافعية( ) في قول آخر هو المنصوص( ) والحنابلة( ) في رواية ثانية، وهو قول الظاهرية( ).
(الثالث): الوليمة من فروض الكفايات، إذا أظهرت الواحد في عشيرته أو قبيلته ظهورًا منتشرًا سقط فرضها عمن سواه، وإلا أثموا بتركها أجمعين، وبهذا قال الشافعية( ) في قول ثالث.
وسأقتصر في عرض الأدلة على القولين الأوليين؛ لأن القول الثالث لم تظهر حجته، ولأنه لا تقوم وليمة مقام أخرى في الوجوب أو الاستحباب إذ القصد من الوليمة إشهار النكاح وإعلانه فلا يقوم الإشهار والإعلان في نكاح مقامه في الآخر إلا في حالات الزفاف الجماعي التي يقصد منها التغلب على مشاكل الغلاء والاقتصاد في التكاليف.
الأدلة
أولاً: أدلة القائلين بالاستحباب:
استدل جمهور الفقهاء القائلون بأن الوليمة سنة مؤكدة أو مندوبة بأدلة من السنة والمعقول.
أ-من السنة:
1- عن أبي حمزة، عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته، تعني النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ليس في المال حق سوى الزكاة»( ).
فقد دلَّ( ) الحديث بعمومه على أنه ليس في المال حق سوى الزكاة بطريق الأصالة؛ فخرج ما عداه والوليمة منها.
2- قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أولم ولو بشاة»( ).
فقوله( ) -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف (أولم) أمر، وأقل أحوال الأمر الاستحباب.
أ- من المعقول ( ):
1- إن وليمة العرس طعام لحادث سرور فلم تجب كسائر الولائم.
2- إن سبب هذه الوليمة عقد النكاح، هو غير واجب، ففرعه أولى بعدم الوجوب.
3- إن الوليمة لو وجبت لتقدرت كالزكاة والكفارات، ولكان لها بدل عند الإعسار، كما يعدل المكفر في إعساره من عتق الرقبة إلى الصيام، فدل عدم تقديرها وعدم بدلها على سقوط وجوبها.
4- إن الوليمة لو وجبت لكان مأخوذًا بفعلها حيًّا، ومأخوذة من تركته ميتًا كسائر الحقوق.
5- إن الوليمة طعام لا يختص بالمحتاجين، فأشبهت الأضحية في كونها مستحبة.
ثانيًا: أدلة القائلين بالوجوب:
استدل المالكية في القول الثاني ومن تبعهم من القائلين بالوجوب بأدلة من السنة والمعقول:
أ- من السنة:
1- «عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة( )، فقال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة على وزن نواة( ) من ذهب، قال: فبارك الله لك أولم ولو بشاة»( ).
فقد( ) أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالوليمة؛ فلو رخص في تركها، لما وقع الأمر باستدراكها بعد انقضاء الدخول.
2- قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أولم ولو بشاة»( ). فقد( ) أمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالوليمة، والأمر للوجوب.
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله»( ).
فقد دلَّ الحديث على وجوب إجابة الدعوة، ووجوب الإجابة دليل على وجوب الوليمة.
ب: من المعقول( ).
1- إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما نكح قط إلا أولم في ضيق أو سعة.
2- إن في الوليمة إعلانًا للنكاح تفرقة بينه وبين السفاح.
3- لما كانت إجابة الداعي إليها واجبة، دلَّ على أن فعل الوليمة واجب؛ لأن وجوب المسبب دليل على وجوب السبب.
المناقشة
بعد العرض السابق لأدلة الفريقين؛ نوقشت أدلة القائلين بالوجوب من قبل القائلين بالاستحباب فقالوا لهم:
1- استدلالكم بحديث عبد الرحمن بن عوف «أولم ولو بشاة».
لا حجة ( ) لكم فيه؛ لأن الأمر محمول على الاستحباب، ولكونه -صلى الله عليه وسلم- أمره بشاة وهي غير واجبة اتفاقًا.
أجيب عليهم: لم يرد ما يصرف الأمر من الوجوب للندب، ثم إن القصد من الوليمة فعلها لا بيان قدرها، فلا تلازم بين الوليمة وقدرها.
2- استدلالكم بحديث: «ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» لا حجة( ) لكم فيه أيضًا على وجوب الوليمة؛ لأن العصيان في ترك الإجابة لا في ترك الوليمة، ولا غرابة في وجوب الإجابة دون الوليمة، ألا ترون أن السلام لا يجب الابتداء به، ورده واجب.
أجيب عليهم( ): إن العصيان مخالفة الأمر، والمندوب مأمور به؛ لأن تركه عصيان، يترتب عليه ذم.
الرأي الراجح
والذي يظهر لي من خلال العرض السابق لأقوال الفقهاء؛ أن ما ذهب إليه القائلون بوجوب الوليمة أولى بالاعتبار وذلك للأسباب الآتية:
1- إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بها عبد الرحمن بن عوف وقال له: «أولم» والأمر للوجوب ما لم يوجد صارف يصرف إلى الندب، ولم أجد صارفًا يصرفه عن الوجوب.
2- إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أولم على زوجاته في السفر والحضر وفي السعة والضيق، فلو كانت محمولة على الاستحباب لتركها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السفر أو الضيق تعليمًا لأمته، ولكنه لم يفعل فدل ذلك على وجوبها.
3- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس في المال حق سوى الزكاة» حديث ضعيف لا تقوم به الحجة، ومع هذا فقد ورد بنفس السند ما يعارضه وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن في أموالكم حقًّا سوى الزكاة»( ). وإذا كان في المال حق سوى الزكاة، كانت الوليمة منها.
4- إن السنة النبوية المطهرة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، وقد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالوليمة عند الدخول بالمرأة فلا يسعنا تركها؛ لأنها تتحقق بما قل وكثر.
5- إن الوليمة لو كانت مستحبة لسكت عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع بعض أزواجه، وما أمر بها عبد الرحمن بن عوف وقد دخل بزوجته، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل فدلَّ ذلك على الوجوب.
6- ولا يقول قائل: إن السنة ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها؛ لأن القائلين حتى بالاستحباب منهم من قال: إن الوليمة سنة( ) مؤكدة، والمؤكدة يثاب فاعلها ويعاتب تاركها، فتركها عند الحنفية قريب( ) من الحرام وليس بحرام. ويكفي في هذه المسألة مواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها في جميع أنكحته، ولنا فيه عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة لقوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ )( ). وقال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا )( )، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالوليمة قولاً وفعلاً فوجب الاقتداء به.
7- كما روي أن عليًّا رضي الله عنه لما خطب فاطمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنه لابد للعروس من وليمة»( )، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «الوليمة حق»( )، فقد دلَّ الحديثان على أن الوليمة واجبة؛ لأن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لابد»( ) فيه دلالة على الإلزام، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «حق» تأكيد للمعنى السابق؛ لأنها إذا كانت حقًّا وجب فعلها.
ولا يقول قائل: إن (حق) معناها( ) ليست بباطل؛ لأننا جميعًا نتفق على أن ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس بباطل، فلا داعي للعدول باللفظ عن ظاهره.
يقول( ) ابن عبد البر( ) في هذا المقام: ما أعلم خلافًا بين السلف من الصحابة والتابعين في القول بالوليمة، وإجابة من دعي إليه. كما قال( ) الإمام الشافعي بعد أن تحدث عن الولائم: ومن تركها لم يبن لي أنه عاصٍ كما يبين لي في وليمة العرس؛ لأني لا أعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك الوليمة على العرس، ولا أعلمه أولم على غيره.
لهذه الأسباب كان القول بوجوب صنع الوليمة أولى بالاعتبار. والله أعلم.
مشروعية وليمة العرس
لا خلاف( ) بين أهل العلم أن وليمة العرس مشروعة، وثابتة بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله.
فقد قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «أولم ولو بشاة»( )، وثبت ( ) عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أولم على نسائه.
فتكون الوليمة ثابتة بالسنة القولية والفعلية.
مقدار الوليمة
قال( ) القاضي عياض( ): أجمعوا على أنه لا حد لأكثرها ولا لأقلها، فما تيسر أجزأ.
والمستحب أنها على قدر حال الزوج، أقلها للمتمكن شاة، ولغيره ما قدر عليه، استدلالاً بما يأتي:
1- عن أنس رضي الله عنه قال: «ما أولم النبي -صلى الله عليه وسلم- على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة»( ) كما أنه -صلى الله عليه وسلم- أولم ( ) على ميمونة بنت الحارث لما تزوجها بمكة عام القضية، وطلب من أهل مكة أن يحضروا فامتنعوا بأكثر من وليمته على زينب.
2- كما قال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «أولم ولو بشاة»( ).
وبأي شيء من الأطعمة أولم به جاز:
1- لما روي عن صفية( ) بنت شيبة قالت: (أولم النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعض نسائه بمدين( ) من شعير)( ). فقد دلَّ( ) الحديث على أن الوليمة تحصل بأي شيء من الأطعمة ولو مدين من شعير.
2- كما أولم النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعض نسائه بتمر وسمن كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: «أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بين خيبر والمدينة ثلاثًا يبني عليه بصفية بنت حيي، فدعوت المسلمين إلى وليمته، فما كان فيها خبز ولا لحم، أمر بالأنطاع( ) فألقى فيها من التمر والأقط والسمن فكانت وليمته»( ).
فقد دلت الأحاديث بمجموعها على أن الوليمة تحصل بأي شيء من الأطعمة، حسب حال الزواج من اليسر أو العسر.
وقال بعض أهل( ) العلم: إن الوليمة من النفقة الراجعة إلى العرف، فتسن بما يقتضيه العرف للموسر قدره وللمقتر قدره، لكن بشرط أن لا تصل إلى حد الإسراف أو المباهاة، فإن وصلت إلى حد الإسراف أو المباهاة، صارت محرمة أو مكروهة، وأقلها شاة للغني، ولو كان غناه كبيرًا يجعل شاتين أو ثلاثًا حسب حاله والعرف، بشرط ألا يخرج إلى حد الإسراف، وألا يراد بها المباهاة فإن وصلت إلى حد الإسراف، فالإسراف محرم، أو إلى حد المباهاة فإنها مكروهة.
والظاهر مما تقدم: أن الوليمة يقدر قدرها حسب حال الزوج والعرف، ولا يشترط فيها لحم.
وقد رأينا تنوع ولائم النبي -صلى الله عليه وسلم- بين لحم، وشعير، وتمر، وهذا الاختلاف ليس مرجعه تفضيل بعض نسائه على بعض، وإنما سببه اختلاف حالتي العسر واليسر.
مدتها
اختلف السلف في تكرار الوليمة على قولين:
الأول: تجوز في يومين وتكره في اليوم الثالث، وبهذا قال الجمهور الفقهاء من الحنفية( ) والمالكية( ) في المختار عندهم والشافعية( ) والحنابلة( ) والزيدية( ) والإمامية( ).
الثاني: يجوز الزيادة على يومين، وبهذا قال المالكية( ) في رواية أخرى، وإليه مال الإمام البخاري( ). فيستحب لمن كان من أهل السعة أن يولم أسبوعًا.
وذهب البعض إلى جوازها ثمانية أيام حكاه الزرقاني( ) عن ابن سيرين.
الأدلة
أولاً:أدلة القائلين بالكراهة فيما زاد على يومين:
استدل جمهور الفقهاء بأدلة من السنة والأثر.
أ- من السنة:
1- عن زهير بن عثمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، واليوم الثالث رياء وسمعة»( ).
فقد دلَّ( ) الحديث على مشروعية الوليمة في اليوم الأول وعدم كراهتها في اليوم الثاني؛ لأنها معروف، والمعروف ليس بمنكر ولا مكروه، وكراهتها في اليوم الثالث؛ لأن الشيء إذا كان للسمعة والرياء لم يكن حلالاً.
2- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة، ومَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ به»( ).
فقد دلَّ( ) الحديث على أن مَن أراد بعلمه الناس أسمعه الله الناس وكان ذلك ثوابه، وفي هذا دليل على أنه لا ثواب لمن قصد السمعة والمباهاة.
3- عن ابن عباس رفعه: «طعام يوم في العرس سنة، وطعام يومين فضل( )، وطعام ثلاثة أيام رياء وسمعة»( ). فقد دلَّ( ) الحديث على أن الرجل إذا أولم ثلاثًا فالإجابة في اليوم الثالث مكروهة لما فيها من الرياء والسمعة.
ب: من الأثر:
عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه دعي أول يوم فأجاب، ودعي اليوم الثاني فأجاب، ودعي اليوم الثالث فحصَّب( ) الرسول ولم يجبه وقال: (أهل سمعة ورياء)( ). فقد دلَّ( ) الأثر على أن الإجابة في اليوم الثالث مكروهة، إذا كان هناك رياء وسمعة ومباهاة، فيكون الرابع وما بعده كذلك.
ثانيًا: أدلة القائلين بجواز الزيادة على يومين:
استدل المالكية في رواية والبخاري على جوازها أسبوعًا لأهل السعة، بأدلة من السنة والأثر.
أ- من السنة:
1- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها»( ).
2- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب»( ) في رواية أخرى قال: «إذا دعي أحدكم إلى وليمة العرس فليجب»( ).
فقد دلت ( ) الروايات بإطلاقها على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يجعل للوليمة وقتًا معينًا، ولم يخص ثلاثة أيام ولا غيرها.
3- عن أنس رضي الله عنه قال: «تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- صفية وجعل عقتها صداقها، وجعل الوليمة ثلاثة أيام»( ). فقد دلَّ الحديث على عدم كراهة الزيادة على يومين في الوليمة.
ب: من الأثر:
عن ابن سيرين عن أبيه «أنه لما بنى بأهله أولم سبعة أيام، فدعا في ذلك أبي بن كعب فأجابه»( ) وفي رواية أخرى: «أن سيرين عرس بالمدينة فأولم، فدعا الناس سبعًا، وكان فيمن دعا أبي بن كعب فجاء وهو صائم فدعا لهم بالخير وانصرف»( ). وفي رواية ثالثة جاء فيها أن الوليمة ثمانية أيام، فعن ابن سيرين قال: «تزوج أبي فدعا الناس ثمانية أيام، فدعا أبي بن كعب فيمن دعا، فجاء يومئذ وهو صائم، وصلى، يقول: دعا بالبركة ثم خرج»( ).
فقد دلَّ الأثر بجميع رواياته وإن كانت رواية السبعة أصح - على جواز الزيادة على يومين.
المناقشة
بعد العرض السابق لأدلة الفريقين، نوقشت أدلة القائلين بكراهة الزيادة على يومين، فقيل لهم:
أحاديث التقيد باليومين مردودة ( ) بما يلي:
1- حديث: «الوليمة أول يوم حق....» حديث ضعيف من جميع طرقه، ففيه عبد الله بن عثمان الثقفي مجهول، وقال البخاري: زهير بن عثمان لا يصح إسناده، ولا نعرف له صحبة.
وأخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة وفيه أبو مالك النخعي وهو ممن اتفقوا على ضعفه.
2- حديث ابن مسعود: «طعام أول يوم حق....» فيه زياد بن عبد الله وهو كثير الغرائب والمناكير.
3- حديث ابن عباس: «طعام يوم في العرس سنة...... » رواه الطبراني بسند ضعيف وفيه محمد بن عبد الله العزرمي ضعيف. وبالجملة فالحديث لا ينهض ليكون حجة.
أجيب( ): إن هذه الأحاديث وإن كانت لا تخلو من مقال إلا أن كثرة طرقها وتعدد روايتها تجعلها صالحة للاحتجاج بها.
قالوا: على فرض التسليم بصحة الحديث فهو حديث مقيد، وحديث: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب» مطلق، والمطلق مقدم على المقيد، لا سيما وأن الإطلاق ثبت بأحاديث صحاح.
4- إن إطلاق كونه رياء وسمعة يشعر بأن ذلك صنع للمباهاة ونحن نتفق في ذلك معكم.
ولكن إذا كثر الناس فدعا في كل يوم فرقة لم يكن في ذلك مباهاة غالبًا. فالكراهة في الحديث إنما تكون إذا كان المدعو في الثالث هو المدعو في الأول.
الراجح
بعد العرض السابق لأدلة الفريقين ومناقشة ما احتاج منها إلى مناقشة يظهر لي أنه إذا أمكن الجمع بين الأدلة فهو أولى لأن أعمال الأدلة كلها خير من إبطالها أو إبطال بعضها، فأقول:
إن الدعوة وإجابتها تختص باليوم الأول؛ لأنه حق، والثاني سنة أو فضيلة لا سيما إذا كان المدعو في اليوم الأول غير المدعو في اليوم الثاني اعتبارًا بما يعرض للناس من ظروف فلا يتمكن البعض من الإجابة في اليوم الأول، أو يكون المكان ضيقًا لا يستوعب كل المدعوين، فإذا زادت على يوم فلا بأس ولكن إذا قصد بها الرياء والسمعة والمباهاة فتكون مكروهة( )، فإذا خلت من ذلك وكان الزوج من أهل الغنى واليسار، وقصد بالوليمة إشهار النكاح والتوسعة على الناس لا المباهاة فله أن يولم أكثر من يومين، بل ثبت عنه بسند حسن أنه أولم على صفية - رضي الله عنها- ثلاثة أيام، كما ثبت عن بعض السلف الزيادة على اليومين عند الأمن من المباهاة.
وعلى هذا فالوليمة تكون يومًا أو يومين كما قال الجمهور؛ لأن حديث اليوم واليومين وإن كان فيه مقال، فإنه برواياته يدل على أن له أصلاً، وما زاد على ذلك فيجوز بضوابط:
أولها: أن يكون الزوج من أهل السعة والغنى واليسار.
ثانيها: ألا يقصد بزيادتها عن يومين السمعة والمباهاة.
ثالثها: أن يكون المدعو أولاً غير المدعو ثانيًا.
فإذا اختل شرط من هذه الشروط كرهت. والله أعلم.
وقتها
ذكرت أن للنكاح وليمتين (إحداهما) عند العقد وتسمى: شندخ أو إملاك أو نقيعة، وقد أشرت إليها في أنواع الولائم وسيأتي بيان حكمها مع جملة من الولائم.
(والثانية) عند الزفاف والدخول بالمرأة وتسمى وليمة العرس.
وقد اختلف العلماء في وقتها على ثلاثة أقوال:
الأول: إنها مستحبة بعد الدخول وبهذا قال المالكية( ) في المشهور من المذهب وهو قول الإمام مالك فقد قال: أرى أن يولم بعد البناء، فإن فعلت قبل أجزأت؛ لأن غاية ما فيها أنها فعلت في غير وقتها المستحب.
القول الثاني: إنها تستحب بالدخول وبهذا قال المالكية( ) في قول آخر والماوردي( ) من الشافعية( ) وابن تَيْمِيَّةَ( ) من الحنابلة( ) والشيعة الإمامية( ).
القول الثالث: إن وقت استحبابها موسع من عقد النكاح إلى انتهاء أيام العرس وبهذا قال البغوي( ) من فقهاء الشافعية( ) والمرداوي( ) من فقهاء الحنابلة( ).
الأدلة
أولاً: أدلة القائلين باستحبابها بعد الدخول:
استدل المالكية في المشهور عنهم على استحباب الوليمة بعد الدخول بأدلة من السنة منها:
1- عن ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك - رضي الله عنه- أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، فكن أمهاتي يواظبنني على خدمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فخدمته عشر سنين، وتوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول من أنزل في مبتني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بزينب بنت جحش، أصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- بها عروسًا، فدعا القوم فأصابوا من الطعام...( ) الحديث.
فقد دلَّ( ) الحديث على أن الوليمة كانت بعد الدخول لقول أنس: (أصبح عروسًا بزينب).
3- ما رواه أنس - رضي الله عنه- في قصة زواج النبي - -صلى الله عليه وسلم-- بصفية بنت حيي - رضي الله عنها- وفيها: حتى إذا كان بالطريق جهزتها( ) له أم سليم فأهدتها( ) له من الليل، فأصبح النبي - -صلى الله عليه وسلم-- عروسًا، فقال: من كان عنده شيء فليجئ به، قال: وبسط نطعًا، قال: فجعل الرجل يجيء بالأقط وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن فحاسوا حيسًا ( ) فكانت وليمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-( ).
فقد دلَّ( ) الحديث على أن وليمة العرس كانت بعد الدخول.
ثانيًا: أدلة القائلين باستحبابها بالدخول:
استدل المالكية في القول الآخر ومن تبعهم على ما ذهبوا إليه بدليل من القياس( ) فقالوا: إن الوليمة لإشهار النكاح، وإشهاره قبل البناء أفضل كالإشهاد.
وأجابوا عن قول الإمام مالك إنها تكون بعد الدخول، فقالوا( ):
يحتمل أمرين:
الأول: أن يكون قاله لمن فاتته الوليمة قبل البناء.
الثاني: لعله اختاره؛ لأن فيه معنى الرضا بما اطلع عليه الزوج من حال الزوجة.
ثانيًا: أدلة القائلين بأن وقت استحبابها موسع:
استدل البغوي والمرداوي بأن وقت الوليمة موسع من وقت العقد إلى انتهاء أيام العرس بدليل من المعقول فقالا( ): إن كمال السرور يكون بعد الدخول، وقد صحت الأخبار في هذا، لكن قد جرت العادة فعل ذلك قبل الدخول بيسير، فقلنا: إن الوقت موسع جمعًا بين الدليل النقلي والعمل بالعرف.
الراجح
والذي يظهر لي أن القول الثالث القائل باتساع وقتها هو الراجح جمعًا بين القولين السابقين؛ لأن إعمال الأدلة كلها خير من إبطالها أو إبطال بعضها.
وعلى هذا فمن فعلها قبل الدخول فلا بأس؛ لأن القصد من الوليمة إشهاد النكاح، وإشهاره بإطعام الطعام عند الدخول أوقع، وهو ما عليه عمل الناس اليوم، وإن فعلها بعد الدخول فلا بأس لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأن وقتها قد يخضع للظروف والعادات كمن تتزوج بتوكيل وتسافر لزوجها فيدخل بها ثم يصبح، ويعد لها وليمة يدعو لها الأصدقاء والجيران، ولكن الأفضل أن تكون قبل الدخول اعتبارًا بالعرف ولأنها أوقع في النفس. والله أعلم.
حكمة مشروعية وليمة العرس
شرعت وليمة العرس لحكم( ) جليلة منها:
1- شكر الله تعالى على نعمة النكاح، وعلى ما أولاه للإنسان من انتظام تدبير المنزل، وعلى ما يصرفه إلى عبادة وينفعهم به.
2- التلطف بإشاعة النكاح، وأنه على شرف الدخول بالزوجة، إذ لابد من الإشاعة لئلا يبقى النكاح محلاً لوهم الواهم في النسب، وليتميز النكاح عن السفاح بادئ الرأي، ويتحقق اختصاص الرجل بالزوجة على أعين الناس.
يقول( ) الباجي( ) في هذا الصدد: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوليمة لما فيها من إشهار النكاح مع ما يقترن بها من مكارم الأخلاق.
وقال( ) مالك: استحب الإطعام في الوليمة وكثرة الشهود ليشتهر النكاح وتثبت معرفته.
3- البر بالمرأة وقومها، فإن صرف المال لها، وجمع الناس في أمرها يدل على كرامتها عليه، وكونها ذات بال عنده.
ومثل هذه الأمور لابد منها في إقامة التآلف والتواصل فيما بين أهل المنزل لا سيما في أول اجتماعهم.
4- إن تجدد النعم يورث الفرح والنشاط والسرور، ويحفز على صرف المال حيث إن الإنسان ملك ما لم يكن مالكًا له، وفي إتباع تلك الداعية تمرن على السخاء والبعد عن الشح والبخل إلى غير ذلك من الفوائد والمصالح.
ولما كان في وليمة العرس جملة صالحة من فوائد السياسة المدنية والمنزلية، وتهذيب النفس والإحسان، أبقاها النبي - صلى الله عليه وسلم- ورغب فيها، وحث عليها، وعمل هو بها، ولم يضبطها النبي -صلى الله عليه وسلم- بحد مثل المهر الذي يختلف باليسر والعسر ليتمكن كل إنسان من الإنفاق حسب قدره، للموسر قدره وللمقتر قدره.
حكم غيرها من الولائم
ذكرت فيما سبق أن للنكاح وليمتين تحدثت آنفًا عن وليمة العرس وما يتعلق بها وبقي عندي بيان حكم غيرها من الولائم والتي منها وليمة الإملاك أو الشندخ إتمامًا للفائدة.
وحكم هذه الولائم:
مستحب( ).
1- لما فيه من إطعام الطعام وجبر القلوب.
2- كما أن في فعلها إظهار نعم الله والشكر عليها، وإظهار لإحسانه.
3- اكتساب الأجر والمحبة.
وهي ليست بواجبة( )، ولأن الإيجاب بالشرع ولم يرد الشرع بإيجابه. وقيل: تجب( ) وهو قول مخرج عند الشافعية لقول( ) الشافعي بعد ذكرها: (ولا أرخص في تركها).
أما حكم إجابة الدعوة لهذه الولائم:
اختلف الفقهاء في حكم إجابة الدعوة لهذه الولائم عدا وليمة العرس على ثلاثة أقوال:
الأول: ليست بواجبة إلا أن أصحاب هذا القول منهم من حملها على السنية والاستحباب كالحنفية( ) والشافعية( ) وهو المذهب وبه قال الحنابلة( ) في رواية للأكثرية وهو قول العترة( ).
وحملها ابن رشد من المالكية( ) على الإباحة عدا العقيقة والمأدبة فإن الحكم فيها الندب وهو ما نص ( ) عليه الإمام أحمد واستثنى أيضًا العقيقة فإنها تسن.
الثاني: إجابة الدعوة واجبة وبهذا قال الشيخ أبو حامد( ) والمحاملي( ) من الشافعية( ) والحنابلة( ) في رواية أخرى والظاهرية( ).
الثالث: إجابة الدعوة وحضورها مكروه إلا العقيقة فمندوب وبهذا قال المالكية( ). وبالكراهة قال بعض( ) الحنابلة، وهو قول( ) للإمام أحمد في دعوة الختان.
الأدلة
أولاً: أدلة القائلين بعدم الوجوب:
استدل أصحاب هذا القول بما روي ( ) عن الحسن قال: (دعي عثمان بن أبي العاص إلى ختان فلم يجب، وقال: لم يكن يدعى له على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فقد دلَّ الأثر على عدم وجوب إجابة الدعوة في الختان فكذا في غيرها.
إلا أن الأذرعي( ) من فقهاء الشافعية( ) قال: الظاهر أن استحباب وليمة الختان محله في ختان الذكور دون الإناث، فإنه يخفي ويستحي من إظهاره ويحتمل استحبابه للنساء فيما بينهن خاصة.
ثانيًا: أدلة القائلين بالوجوب:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة والأثر:
أ- من السنة:
1- ما روي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه»( ).
2- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب»( ).
فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإجابة الدعوة مطلقًا عرسًا كان أو غيره.
ب: من الأثر:
عن نافع قال: (كان عبد الله بن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس، ويأتيها وهو صائم)( ).
فقد دلَّ الأثر على وجوب الإجابة مطلقًا.
ثالثًا: أدلة القائلين بالكراهة:
استدل المالكية ومن تبعهم من القائلين بكراهة وإجابة الدعوة إلى الولائم عدا العقيقة بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه كان يقول: «بئس الطعام طعام الوليمة، يدعى إليه الأغنياء ويترك المساكين، فمن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله»( ).
فإذا ( ) كانت كما وصفها أبو هريرة رضي الله عنه وهو لا يقوله إلا عن سماع من النبي -صلى الله عليه وسلم-: يمنعها المحتاج ويحضرها الغني كانت مكروهة.
أما حجة الإمام أحمد في كراهة إجابة دعوة الختان، فلعله الدليل الذي استدل به القائلون بعدم وجوب إجابة الدعوة إلى الولائم.
الراجح
والذي يظهر لي أن إجابة الدعوة واجبة في غير وليمة العرس بشروط سيأتي ذكرها في وليمة العرس، لعموم الأدلة الآمرة بالإجابة، والتي لم تفرق بين عرس وغيره، منها:
1- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله»( ).
2- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ائتوا الدعوة إذا دعيتم»( ).
3- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا دعيتم إلى كراع فأجيبوا»( ).
فهذه كلها أدلة واضحة الدلالة على إجابة الدعوة على قليل الطعام وكثيره من غير تفرقة بين عرس وغيره، وإلا اعتبر المخالف عاصيًا لله ورسله، ومن خص هذه الأدلة بوليمة العرس فعليه الدليل، لا سيما وأن الأدلة صرحت بوجوب الإجابة لعرس أو غيره، والزيادة يجب المصير إليها. والله أعلم.
الفصل الثاني
الدعوة لوليمة العرس
وفيه:
شروط الدعوة وآدابها.
حكم إجابة الدعوة.
الفصل الثاني
الدعوة لوليمة العرس
شروط الدعوة وآدابها
الدعوة لا بد لها من داعٍ ومدعو، ولكل منهما شروط وآداب ينبغي مراعاتها.
أولاً: ما يشترط في الداعي:
يشترط في الداعي للوليمة الشروط الآتية( ):
الأول: أن يكون بالغًا، يصح منه الإذن والتصرف في ماله. فإن كان غير بالغ لم تلزم إجابته، ولم يجز لبطلان إذنه ورد تصرفه.
الثاني: أن يكون عاقلاً لأن المجنون لفقده التمييز أسوأ حالاً من الصغير في فساد إذنه ورد تصرفه.
الثالث: أن يكون رشيدًا يجوز تصرفه في ماله، فإن كان محجورًا عليه لم تلزم إجابته، حتى وإن أذن له وليمة؛ لأن وليه مندوب لحفظ ماله لا إتلافه.
الرابع: أن يكون حرًّا؛ لأن العبد لا يجوز تصرفه فلم تلزم إجابته لفساد إذنه. فلو أذن له سيده صار كالحر في لزوم إجابته.
الخامس: أن يكون مسلمًا تلزم موالاته في الدين.
فإذا كان الدعي ذميًّا، ففي لزوم إجابته ثلاثة أقوال:
الأول: يجب إجابته، وبهذا قال الشافعية( ) في أحد الوجهين، والحنابلة( ) في رواية.
الثاني: لا تلزم إجابته، وبهذا قال المالكية( ) والشافعية( ) في وجه آخر، والحنابلة( ) في رواية ثانية، إلا أن الحنابلة في هذه الرواية قالوا: الذمي وإن لم تلزم إجابته بيد أنها تجوز.
الثالث: تكره إجابته، وبهذا قال الإمام أحمد( ) في رواية ثالثة.
الأدلة
أولاً: أدلة القائلين بالوجوب:
استدل القائلون بالوجوب بعموم الأدلة منها:
1- ما روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها»( ).
2- وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب»( ).
فقد دلَّ الحديثان( ) بعمومها على وجوب إجابة الداعي من غير تفرقة بين مسلم وذمي.
ثانيًا: أدلة القائلين بعدم وجوب إجابة دعوة الذمي:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة والمعقول:
أ- من السنة:
ما روي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسًا كان أو نحوه»( ).
فقد دلَّ( ) الحديث على أن الوليمة تراد للإكرام والموالاة وتأكيد المودة والإخاء، وذلك منتف في حق الذمي، فلم تجب على المسلم للذمي.
ب- من المعقول( ):
1- أن المقصود من الطعام التواصل به، واختلاف الدين يمنع منه.
2- أن طعام الذمي ربما كان مستخبثًا محرمًا؛ لأنه لا يؤمن من اختلاط طعامهم بالحرام والنجاسة، ونفس المسلم تعاف أكل طعامهم.
أما القائلون بعدم الوجوب ولكن يجوز فقد استدلوا:
بما روي عن أنس رضي الله عنه: أن يهوديًّا دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خبز شعير وإهالة( ) سنخة( ) فأجابه( ).
فلم يمنع اختلاف الدين من الإجابة للدعوة.
ثالثًا: أدلة القائلين بالكراهة:
استدل الإمام أحمد بن حنبل على كراهة إجابة دعوة الذمي بدليل من المعقول( ) وهو:
أن المطلوب هو إذلال أهل الكفر واحتقارهم، وذلك ينافي إجابته، ولهذا كانت إجابة دعوتهم مكروهة.
الرأي الراجح
والذي يظهر لي أن إجابة دعوة الذمي ليست بواجبة ولا مكروهة، ولكنها جائزة وذلك للأسباب الآتية:
1- أن الإسلام لم ينهنا عن الأكل من طعام الذين أوتوا الكتاب ولم ينهنا عن البر بهم، فقال تعالى: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ )( ).
فقد دلت الآية الكريمة على حل طعامهم ما لم يكن مشتملاً على محرم.
وقال تعالى أيضًا: ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ )( ).
أي: أن الله تعالى لم ينهنا عن البر بأهل الكتاب، ومن البر بهم مشاركتهم أتراحهم وأفراحهم الدنيوية لا الدينية( ) لا سيما إذا كان في ذلك تأليف لهم ومصلحة.
2- ثبت عن النبي( ) -صلى الله عليه وسلم- أنه أجاب دعوة اليهودي، وسئل الإمام أحمد: هل أجيب دعوة الذمي؟ قال: نعم.
3- في جواز إجابة دعوة الذمي دليل على يسر الشريعة الإسلامية وسماحتها ومظهر من مظاهر مراعاة الإسلام للمشاعر الإنسانية. والله أعلم.
السادس: التصريح بالدعاء:
يشترط في الداعي أن يصرح بالدعاء صراحةً أو ضمنًا.
صراحةً ) كقول صاحب الوليمة للمدعو: احضر وليمتنا، أو أحب أن تحضر، أو أسألك الحضور، أو تأتي عندنا وقت كذا، أو إن رأيت أن تجملني بالحضور.
وكما يحصل الدعاء بصريح القول يحصل أيضًا بالمكاتبة المراسلة بالجوابات أو البطاقات لأشخاص معينة لحضور الوليمة؛ لأن العرف بجميع ذلك جار.
يقول الشيخ( ) ابن العثيمين( ) في هذا المقام: إذا وجد مع البطاقة قرينة تؤيد التعيين، وأن الداعي يريد حضور شخص بعينه فلها حكم التعيين، وتلزم بالحضور، وإلا فمجرد البطاقة لا يدل على التعيين.
وأما ضمنًا( ): كقول رب الوليمة لرسول ثقة: ادع فلانًا، أو أهل العلم لحضورها وهم محصورون بموضع معروف، فإن هذا يعتبر دعاء لهم؛ لأن كل واحد معين ضمنًا.
الآداب التي ينبغي على الداعي مراعاتها:
1- ألا يظهر( ) قصد التودد لشخص لرغبة فيه، أو لرهبة منه، أو ليعاونه على باطل.
2- أن يعم بدعوته جميع عشيرته أو جيرانه أو أهل حرفته أغنيائهم وفقرائهم، فلا يخص( ) الأغنياء دون الفقراء؛ لأن اختصاص الأغنياء بالدعوة إلى الوليمة دون الفقراء مكروه( ) لما يأتي:
أ- ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله»( ). فالشر ( ) الكائن في الطعام إنما جاء من جهة صاحب الوليمة وكونه دعا إليها الأغنياء دون الفقراء.
ب- كما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله»( ).
أي ( ) أن الوليمة تكون شر الطعام إذا دعي لها الأغنياء وترك الفقراء؛ لأن ذلك من عادات الجاهلية.
قال( ) ابن بطال( ): إذا ميز الداعي بين الأغنياء والفقراء، فأطعم كلا على حدة لم يكن به بأس، وقد فعله ابن عمر، حيث دعا في وليمة الأغنياء والفقراء، فجاءت قريش ومعها المساكين، فقال لهم: (ها هنا فأجلسوا لا تفسدوا عليهم ثيابهم، فإنا سنطعمكم مما يأكلون)( ).
3- ألا يقصد( ) الداعي بالوليمة والدعوة إليها المباهاة والافتخار، لما روي عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل»( ).
والمتباريان: هما المتعارضان بفعليهما ليُرى أيهما يغلب صاحبه. وإنما كره ذلك لما فيه من المباهاة والرياء.
وقد دعي بعض العلماء فلم يجب، فقيل له: إن السلف كانوا يدعون فيجيبون، فقال: كانوا يدعون للمؤاخاة والمواساة، وأنتم اليوم تدعون للمباهاة.
مما روي أن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- دعيا إلى طعام فأجابا، فلما خرجا، قال عمر لعثمان: لقد شهدت طعامًا وددت أني لم أشهده، قال: وما ذاك؟ قال: (خشيت أن يكون جعل مباهاة)( ).
ثانيًا: شروط المدعو:
يشترط فيمن دعي إلى وليمة أن تتوافر فيه الشروط( ) الآتية:
الأول، والثاني: البلوغ والعقل، ليكون بالبلوغ والعقل ممن يتوجه عليه حكم الالتزام، ويتفرع على ما تقدم، حكم ذهاب النساء والصبيان إلى الوليمة هل يجوز أم لا؟
نعم يجوز ( ) ذهاب النساء والصبيان إلى الوليمة، وإنه مشروع بغير كراهة، لما روي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «أبصر النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءً وصبيانًا مقبلين من عرس، فقام ممتنًا( )، فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ»( ).
الثالث: الحرية؛ لأن العبد ممنوع من التصرف لحق سيده، فإن أذن له سيده لزمته الإجابة حينئذ، وإن كان مكاتبًا نظر إن كان في حضوره ضرر بكسبه لم تلزمه الإجابة، وإن لم يكن حضوره مضرًّا بكسبه لزمته الإجابة.
الرابع: أن يكون مسلمًا، فإن كان ذميًّا، لم تلزمه الإجابة وجهًا واحدًا؛ لأنه لا يلتزم أحكام شرعنا إلا عن تراضٍ.
الخامس: أن لا يكون له عذر( ) مانع من الحضور.
الآداب التي ينبغي على المدعو مراعاتها:
إذا حضر المدعو إلى مكان الوليمة فينبغي عليه مراعاة ما يأتي( ):
1- ألا يقصد بالإجابة نفس الأكل، بل ينوي الاقتداء بالسنة، وإكرام أخيه المؤمن، ولئلا يظن به التكبر.
2- أن ينوي بأكله التقوى على الطاعة لتنقلب العادة عبادة.
3- يندب لمن حضر الطعام إذا أكل أن يستعمل آداب الأكل المسنونة منها:
أ- غسل يديه قبل الأكل وبعده، لما روى أبو هاشم( ) عن زاذان( ) عن سلمان الفارسي قال: قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء قبله، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده»( ).
والمراد ( ) بالوضوء هنا غسل اليدين، فإن غسلهما قبل الطعام أهنأ وأمرأ، ولأن اليدين لا تخلوان عن التلوث في تعاطي الأعمال، فغسلهما أقرب إلى النظافة والنزاهة، ولأن الأكل يقصد به الاستعانة على العبادة فهو جدير بأن يجري مجري الطهارة من ال
د/ آمال يس عبد المعطي البنداري
أستاذ الفقه المقارن المساعد
كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالقاهرة
جامعة القاهرة
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأصلي وأسلم على خير خلق الله سيد الأنام، سيدنا محمد وعلى آله، وصحابته رضوان الله عليهم، وعلى التابعين من بعدهم إلى يوم الدين.
وبعد:
النكاح مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية لعمارة الكون وحفظ العرض وشرف النسب، ولهذا أولته الشريعة اهتمامًا بالغًا، وأمرت بإشهاره وإعلانه بشتى الوسائل تمييزًا له عن السفاح( ).
فأمرت بالإشهاد عليه، وإشهاره بجمع الناس لوليمته، وإعلانه بالضرب بالدف ليشيع أمره وينتشر.
ولم تجعل في مال الرجل للمرأة قبل الدخول عليها سوى أمرين:
المهر ووليمة العرس.
وهذا إن دلَّ، فإنه يدل على أن النكاح من أعظم العقود، التي يبني عليها استقرار المجتمع، واستقراره يكون بنشره وإعلانه بين الناس لنزول كل شبهة أو لبس، وحتى لا يكون هناك مجال للطعن في الأنساب أو التجاحد والإنكار.
والوليمة وإن كانت وسيلة من وسائل إعلان النكاح، ففيها أيضًا تكريم للمرأة وقومها، بعمل طعام يجمع الأهل والإخوان والأصدقاء والجيران، فيضفي ذلك شعورًا بالود والسرور في بداية الحياة الزوجية، كما أن فيها شكرًا لنعمة الله على النكاح الذي به تتحقق مصالح الدنيا والدين.
منهاج البحث:
1- حاولت خلال عرض البحث الخروج بالموضوع من الدائرة التقليدية من تقسيم البحث إلى أبواب وفصول، ثم تقسيم الفصول إلى مباحث، والمباحث إلى مطالب، واقتصرت أثناء العرض على فصول، وجعلت كل فصل مستقل بذاته تندرج تحته مجموعة من الموضوعات التي تشمله دون إخلال بكل فصل.
2- عرضت في كل مسألة ذكرتها في البحث أقوال الفقهاء، وأدلتهم، ومناقشتها مع بيان الراجح منها، معتمدة في ذلك على أمهات الكتب الفقهية الأصيلة.
3- لما كان موضوع الوليمة ثابتًا بسنة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- القولية والفعلية، فقد اعتمدت على أمهات الكتب في الحديث الشريف تخريجًا ودلالةً وتوضيحًا لبعض معانيه مشيرة إلى المصادر الأصلية، فإن عزَّ عليَّ الحصول على وجه الدلالة من مظان وجوده، أتصرف فيه بنفسي دون إشارة إلى مصدره.
4- ترجمت لبعض الأعلام الذين وردت أسماؤهم في البحث، والذين رأيت لترجمتهم فائدة في سير البحث أو استشهدت بأقوالهم في ثنايا الحديث.
5- بينت الألفاظ الغامضة التي وردت بالبحث مستعينة في ذلك بأمهات المصادر اللغوية.
6- تناولت بعض القضايا المعاصرة التي لها مساس بحياتنا اليومية كالموسيقى والغناء والرقص، والتصوير الفوتوغرافي مبينة المباح منها والمحرم.
أسباب اختيار الموضوع:
كان لاختيار موضوع البحث أسباب كثيرة منها:
1- معرفة الأحكام الشريعة المتعلقة بموضوع الوليمة جملةً وتفصيلاً.
2- كثير من الأسر تشترط أن تكون الوليمة في قاعة فاخرة تتكلف الألوف من الجنيهات بقصد المباهاة، مما يثقل كاهل الزوج في بداية حياته الزوجية، وتحول حياته لجحيم يطارده شبح الدَّين، فيظل فترة من حياته يسدد ما أنفقه في ليلة واحدة، فأحببت بيان موقف الشرع من قدر الوليمة والمدة المثلى لها.
3- ما رأيته من إسراف بعض الناس في الولائم من حيث تنوع الأطعمة، وكثرتها، ثم إلقاء الباقي في القمامة دون الإفادة منه، أو إعطائه للفقراء والمساكين.
4- اشتمال بعض الولائم على منكرات من جلب راقصات عاريات، أو غناء فاحش، أو شرب الخمر والمخدرات، فأحببت بيان ما حرمه الشرع وما أباحه ابتهاجًا بليلة العرس، وأوضحت أن الدين لا يمنع من اللهو البريء الذي لا يتنافى مع قيمه.
5- بيان موقف الشرع من حكم من يقصر دعوته على الأغنياء دون الفقراء بحجة أن هؤلاء دون المستوى أو لا يليق مجالستهم.
6- بعض المدعوين يحضر في صحبته من لم يدعه صاحب الوليمة أو يقوم بحمل الطعام إلى داره دون إذن من رب الوليمة، فأحببت بيان موقف الشرع فيما يصدر من بعض المدعوين ويتنافى مع الآداب الإسلامية.
لهذه الأسباب وغيرها كان اختياري لموضوع وليمة العرس.
خطة البحث:
اشتمل البحث على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة:
في المقدمة: بينت مقصد الشرع من النكاح والحرص على إشهاره بإقامة وليمة يتم من خلالها إشهار العرس جريًا على العرف وتكريمًا للزوجة وأهلها.
الفصل الأول: في حقيقة وليمة العرس وما يتعلق بها.
وفيه:
- تعريف وليمة العرس لغةً واصطلاحًا.
- أنواع الولائم.
- حكم وليمة العرس
- مشروعية الوليمة
- مقدار الوليمة
- مدتها
- وقتها
- حكمة مشروعية الوليمة
- حكم غيرها من الولائم
الفصل الثاني: الدعوة لوليمة العرس
وفيه:
- شروط الدعوة وآدابها
- حكم إجابة الدعوة
الفصل الثالث: الآكل من الوليمة
وفيه:
- حكم من كان مفطرًا
- حكم من كان صائمًا
- حكم من أكل بغير دعوة
- النثار وحكم التقاطه
الفصل الرابع: موجبات إجابة الدعوة ومسقطاتها
وفيه:
- شروط وجوب الإجابة إلى الوليمة (متى تجب)
- مسقطات الإجابة (الأعذار التي تبيح التخلف عن الحضور)
الخاتمة: وفيها أهم نتائج البحث
وبعد:
فهذا جهد المقل، وقد حاولت خلال عرض البحث استقصاء الموضوع من جميع أطرافه مستعينة في بعض مسائله بقضايا فقهية معاصرة رأيت أننا في حاجة إليها لنكون على بينة من أمرنا فيما نأتي وما نذر، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، ولكن عذري أني لم أقصر، فيما قصدت به وجه الله الكريم، ولكنها الطبيعة البشرية التي لا ترتقي للكمال، فالكمال لله وحده، والله من وراء القصد.
الفصل الأول
حقيقة وليمة العرس
وما يتعلق بها
وفيه:
• تعريف وليمة العرس لغةً واصطلاحًا
• أنواع الولائم
• حكم وليمة العرس
• مشروعية الوليمة
• مقدار الوليمة
• مدتها
• وقتها
• حكمة مشروعية الوليمة
• حكم غيرها من الولائم
الفصل الأول
حقيقة وليمة العرس وما يتعلق بها
تعريف وليمة العرس لغةً:
وليمة العرس مركبة من كلمتين أضيفت الأولى إلى الثانية وهما: (الأولى) وليمة (الثانية) العرس.
ولكل من الكلمتين في اللغة معنى.
أما الوليمة: فهي في اللغة( ) مشتقة من الوَلْم، وهو: القيد والجمع؛ لأن الزوجين يجتمعان.
وأولم فلان: إذا اجتمع خلقه وعقله، وأولم فلان أيضًا: عمل وليمة.
والوليمة: طعام العرس أو كل طعام صنع لدعوة وغيرها.
وعرفها( ) ابن منظور وغيره بأنها: كل طعام صنع لعرس وغيره.
وقيل( ) الوليمة: طعام العرس والإملاك( ).
وقيل( ) يسمى الطعام الذي يصنع عند العرس: وليمة، والذي يصنع عند الإملاك: نقيعة( ).
أما العرس( ) في اللغة فهو: الزفاف والتزويج، يقال: أعرس بالمرأة: إذا دخل بها.
وهذا يعني أن وليمة العرس هي الطعام الذي يعد عند الزفاف والدخول بالمرأة.
أما تعريفها في الاصطلاح:
الوليمة في اصطلاح الفقهاء لها تعريفات متعددة.
فعند الحنفية( )، الوليمة: طعام العرس، وقيل الوليمة: اسم لكل طعام.
وعند المالكية( )، الوليمة: طعام العرس خاصة.
وعند الشافعية( ): (الوليمة تقع على كل طعام يتخذ عند حادث سرور) إلا أن استعمالها في العرس أشهر.
وعرفها( ) الشربيني( ) بأنها تقع على كل طعام يتخذ لسرور حادث من عرس وإملاك وغيرهما.
وعند الحنابلة( ): هي اسم لدعوة العرس خاصة.
وقيل الوليمة: تقع على كل طعام لسرور حادث.
والأشهر( ) في الوليمة أنها إذا أطلقت انصرفت إلى وليمة العرس، أما في غير طعام العرس فلا تطلق إلا بقرينة فيقال وليمة الختان... إلخ.
العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:
العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي وطيدة الصلة، إذ إننا لا نكاد نفرق بينهما، فقد اتفقا على أن الوليمة بمعناها العام هي كل طعام أعد لحادث سرور وبمعناها الخاص هي طعام العرس خاصة.
الراجح من التعريفات الاصطلاحية:
والذي يظهر لي أن الوليمة عند إطلاقها اسم لكل طعام سواء أكان لسرور أو غيره، فتشمل وليمة العرس وتشمل غيرها حتى وإن كانت لحزن.
وعلى هذا فقول الحنفية: إن الوليمة اسم لكل طعام هو الراجح لا سيما وأن التعريفات الأخرى قد قصرت التعريف على الطعام المعد لحادث سرور فأخرجت الوضيمة - طعام المآتم الذي يصنعه الغير لأهل الميت - من جملة الولائم نظرًا لاعتبار السرور.
ولكن الظاهر( ) أنها منها، واعتبار السرور إنما هو في الغالب، لهذا كان قولهم أولى بالاعتبار. والله أعلم
ولما كان الأمر كذلك قيدت الحديث عن الوليمة بالعرس لتتميز عن غيرها من الولائم.
أنواع الولائم
الوليمة بصفة عامة هي إصلاح الطعام، واستدعاء الناس لأجله وهي أنواع( ):
1- وليمة العرس: وهي الوليمة على اجتماع الزوجين، وبعبارة أوضح: هي التي تصنع عند الزفاف والدخول بالزوجة.
2- وليمة الخُرْس: (طعام النفاس) وهي الوليمة على ولادة الولد. أما الطعام المعد للنفساء نفسها يسمى: خرسة.
3- وليمة الإعذار: وهي الوليمة على الختان.
4- وليمة الوكيرة ( ): وهي الوليمة على بناء الدار.
5- وليمة النقيعة( ): وهي وليمة القادم من السفر، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم من السفر، والتي تصنع له تسمى: التحفة.
6- العقيقة: الذبح لأجل الولد، وبعبارة أوضح: هي الطعام الذي يصنع في سابع يوم الولادة فرحًا بالمولود.
7- حِذاقة( ): وهو الطعام الذي يصنع عند ختم الصبي للقرآن، أو ختم قدر مقصود منه. ويحتمل أن تكون في حذقة لكل صنعة، أو تعلم العلوم.
8- الشُنْدَخ( ) أو الشُنْدُخ: وهو طعام الإملاك (التزويج)؛ لأنه يتقدم الدخول. وقيل: وليمة الإملاك يقال لها: نقيعة( ).
وبهذا يتبين لنا أن للنكاح وليمتين، وليمة عند العقد ويقال لها: شندخ أو نقيعة أو إملاك، ووليمة عند الدخول بالمرأة وتسمى وليمة العرس.
9- مأدُبة، مأدَبة: وهي الوليمة لغير سبب، وبعبارة أخرى: هي الطعام الذي يعمله الجيران والأصحاب لأجل المودة، فإن كانت لقوم مخصوصين فهي النَّقَرَى( )، وإن كانت عامة فهي الجَفَلَى( ) قال طرفة( ) بن العبد:
نَحنُ في المَشتاةِ نَدعو الجَفَلى
لا تَرى الآدِبَ فينا يَنتَقِر
10- وضيمة أو وضيحة( ): وهي طعام المآتم أو ما يتخذ عند المصيبة.
حكم وليمة العرس
اختلف الفقهاء في حكمها على ثلاثة أقوال:
(الأول): أنها مستحبة وليست بواجبة، وبهذا قال جمهور الفقهاء من الحنفية( ) والمالكية( ) في قول هو المذهب( )، والشافعية( ) في قول هو الأصح والأظهر، والحنابلة( ) في رواية هي المذهب، وإليه ذهب الشيعة الزيدية( ) والإمامية( ).
(الثاني): إنها واجبة وبهذا قال المالكية( ) في قول آخر، والشافعية( ) في قول آخر هو المنصوص( ) والحنابلة( ) في رواية ثانية، وهو قول الظاهرية( ).
(الثالث): الوليمة من فروض الكفايات، إذا أظهرت الواحد في عشيرته أو قبيلته ظهورًا منتشرًا سقط فرضها عمن سواه، وإلا أثموا بتركها أجمعين، وبهذا قال الشافعية( ) في قول ثالث.
وسأقتصر في عرض الأدلة على القولين الأوليين؛ لأن القول الثالث لم تظهر حجته، ولأنه لا تقوم وليمة مقام أخرى في الوجوب أو الاستحباب إذ القصد من الوليمة إشهار النكاح وإعلانه فلا يقوم الإشهار والإعلان في نكاح مقامه في الآخر إلا في حالات الزفاف الجماعي التي يقصد منها التغلب على مشاكل الغلاء والاقتصاد في التكاليف.
الأدلة
أولاً: أدلة القائلين بالاستحباب:
استدل جمهور الفقهاء القائلون بأن الوليمة سنة مؤكدة أو مندوبة بأدلة من السنة والمعقول.
أ-من السنة:
1- عن أبي حمزة، عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته، تعني النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ليس في المال حق سوى الزكاة»( ).
فقد دلَّ( ) الحديث بعمومه على أنه ليس في المال حق سوى الزكاة بطريق الأصالة؛ فخرج ما عداه والوليمة منها.
2- قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أولم ولو بشاة»( ).
فقوله( ) -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف (أولم) أمر، وأقل أحوال الأمر الاستحباب.
أ- من المعقول ( ):
1- إن وليمة العرس طعام لحادث سرور فلم تجب كسائر الولائم.
2- إن سبب هذه الوليمة عقد النكاح، هو غير واجب، ففرعه أولى بعدم الوجوب.
3- إن الوليمة لو وجبت لتقدرت كالزكاة والكفارات، ولكان لها بدل عند الإعسار، كما يعدل المكفر في إعساره من عتق الرقبة إلى الصيام، فدل عدم تقديرها وعدم بدلها على سقوط وجوبها.
4- إن الوليمة لو وجبت لكان مأخوذًا بفعلها حيًّا، ومأخوذة من تركته ميتًا كسائر الحقوق.
5- إن الوليمة طعام لا يختص بالمحتاجين، فأشبهت الأضحية في كونها مستحبة.
ثانيًا: أدلة القائلين بالوجوب:
استدل المالكية في القول الثاني ومن تبعهم من القائلين بالوجوب بأدلة من السنة والمعقول:
أ- من السنة:
1- «عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة( )، فقال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة على وزن نواة( ) من ذهب، قال: فبارك الله لك أولم ولو بشاة»( ).
فقد( ) أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالوليمة؛ فلو رخص في تركها، لما وقع الأمر باستدراكها بعد انقضاء الدخول.
2- قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أولم ولو بشاة»( ). فقد( ) أمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالوليمة، والأمر للوجوب.
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله»( ).
فقد دلَّ الحديث على وجوب إجابة الدعوة، ووجوب الإجابة دليل على وجوب الوليمة.
ب: من المعقول( ).
1- إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما نكح قط إلا أولم في ضيق أو سعة.
2- إن في الوليمة إعلانًا للنكاح تفرقة بينه وبين السفاح.
3- لما كانت إجابة الداعي إليها واجبة، دلَّ على أن فعل الوليمة واجب؛ لأن وجوب المسبب دليل على وجوب السبب.
المناقشة
بعد العرض السابق لأدلة الفريقين؛ نوقشت أدلة القائلين بالوجوب من قبل القائلين بالاستحباب فقالوا لهم:
1- استدلالكم بحديث عبد الرحمن بن عوف «أولم ولو بشاة».
لا حجة ( ) لكم فيه؛ لأن الأمر محمول على الاستحباب، ولكونه -صلى الله عليه وسلم- أمره بشاة وهي غير واجبة اتفاقًا.
أجيب عليهم: لم يرد ما يصرف الأمر من الوجوب للندب، ثم إن القصد من الوليمة فعلها لا بيان قدرها، فلا تلازم بين الوليمة وقدرها.
2- استدلالكم بحديث: «ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» لا حجة( ) لكم فيه أيضًا على وجوب الوليمة؛ لأن العصيان في ترك الإجابة لا في ترك الوليمة، ولا غرابة في وجوب الإجابة دون الوليمة، ألا ترون أن السلام لا يجب الابتداء به، ورده واجب.
أجيب عليهم( ): إن العصيان مخالفة الأمر، والمندوب مأمور به؛ لأن تركه عصيان، يترتب عليه ذم.
الرأي الراجح
والذي يظهر لي من خلال العرض السابق لأقوال الفقهاء؛ أن ما ذهب إليه القائلون بوجوب الوليمة أولى بالاعتبار وذلك للأسباب الآتية:
1- إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بها عبد الرحمن بن عوف وقال له: «أولم» والأمر للوجوب ما لم يوجد صارف يصرف إلى الندب، ولم أجد صارفًا يصرفه عن الوجوب.
2- إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أولم على زوجاته في السفر والحضر وفي السعة والضيق، فلو كانت محمولة على الاستحباب لتركها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في السفر أو الضيق تعليمًا لأمته، ولكنه لم يفعل فدل ذلك على وجوبها.
3- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ليس في المال حق سوى الزكاة» حديث ضعيف لا تقوم به الحجة، ومع هذا فقد ورد بنفس السند ما يعارضه وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن في أموالكم حقًّا سوى الزكاة»( ). وإذا كان في المال حق سوى الزكاة، كانت الوليمة منها.
4- إن السنة النبوية المطهرة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، وقد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالوليمة عند الدخول بالمرأة فلا يسعنا تركها؛ لأنها تتحقق بما قل وكثر.
5- إن الوليمة لو كانت مستحبة لسكت عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع بعض أزواجه، وما أمر بها عبد الرحمن بن عوف وقد دخل بزوجته، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل فدلَّ ذلك على الوجوب.
6- ولا يقول قائل: إن السنة ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها؛ لأن القائلين حتى بالاستحباب منهم من قال: إن الوليمة سنة( ) مؤكدة، والمؤكدة يثاب فاعلها ويعاتب تاركها، فتركها عند الحنفية قريب( ) من الحرام وليس بحرام. ويكفي في هذه المسألة مواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها في جميع أنكحته، ولنا فيه عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة لقوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ )( ). وقال تعالى: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا )( )، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالوليمة قولاً وفعلاً فوجب الاقتداء به.
7- كما روي أن عليًّا رضي الله عنه لما خطب فاطمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنه لابد للعروس من وليمة»( )، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «الوليمة حق»( )، فقد دلَّ الحديثان على أن الوليمة واجبة؛ لأن قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لابد»( ) فيه دلالة على الإلزام، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «حق» تأكيد للمعنى السابق؛ لأنها إذا كانت حقًّا وجب فعلها.
ولا يقول قائل: إن (حق) معناها( ) ليست بباطل؛ لأننا جميعًا نتفق على أن ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس بباطل، فلا داعي للعدول باللفظ عن ظاهره.
يقول( ) ابن عبد البر( ) في هذا المقام: ما أعلم خلافًا بين السلف من الصحابة والتابعين في القول بالوليمة، وإجابة من دعي إليه. كما قال( ) الإمام الشافعي بعد أن تحدث عن الولائم: ومن تركها لم يبن لي أنه عاصٍ كما يبين لي في وليمة العرس؛ لأني لا أعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك الوليمة على العرس، ولا أعلمه أولم على غيره.
لهذه الأسباب كان القول بوجوب صنع الوليمة أولى بالاعتبار. والله أعلم.
مشروعية وليمة العرس
لا خلاف( ) بين أهل العلم أن وليمة العرس مشروعة، وثابتة بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله.
فقد قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «أولم ولو بشاة»( )، وثبت ( ) عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أولم على نسائه.
فتكون الوليمة ثابتة بالسنة القولية والفعلية.
مقدار الوليمة
قال( ) القاضي عياض( ): أجمعوا على أنه لا حد لأكثرها ولا لأقلها، فما تيسر أجزأ.
والمستحب أنها على قدر حال الزوج، أقلها للمتمكن شاة، ولغيره ما قدر عليه، استدلالاً بما يأتي:
1- عن أنس رضي الله عنه قال: «ما أولم النبي -صلى الله عليه وسلم- على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة»( ) كما أنه -صلى الله عليه وسلم- أولم ( ) على ميمونة بنت الحارث لما تزوجها بمكة عام القضية، وطلب من أهل مكة أن يحضروا فامتنعوا بأكثر من وليمته على زينب.
2- كما قال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «أولم ولو بشاة»( ).
وبأي شيء من الأطعمة أولم به جاز:
1- لما روي عن صفية( ) بنت شيبة قالت: (أولم النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعض نسائه بمدين( ) من شعير)( ). فقد دلَّ( ) الحديث على أن الوليمة تحصل بأي شيء من الأطعمة ولو مدين من شعير.
2- كما أولم النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعض نسائه بتمر وسمن كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: «أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بين خيبر والمدينة ثلاثًا يبني عليه بصفية بنت حيي، فدعوت المسلمين إلى وليمته، فما كان فيها خبز ولا لحم، أمر بالأنطاع( ) فألقى فيها من التمر والأقط والسمن فكانت وليمته»( ).
فقد دلت الأحاديث بمجموعها على أن الوليمة تحصل بأي شيء من الأطعمة، حسب حال الزواج من اليسر أو العسر.
وقال بعض أهل( ) العلم: إن الوليمة من النفقة الراجعة إلى العرف، فتسن بما يقتضيه العرف للموسر قدره وللمقتر قدره، لكن بشرط أن لا تصل إلى حد الإسراف أو المباهاة، فإن وصلت إلى حد الإسراف أو المباهاة، صارت محرمة أو مكروهة، وأقلها شاة للغني، ولو كان غناه كبيرًا يجعل شاتين أو ثلاثًا حسب حاله والعرف، بشرط ألا يخرج إلى حد الإسراف، وألا يراد بها المباهاة فإن وصلت إلى حد الإسراف، فالإسراف محرم، أو إلى حد المباهاة فإنها مكروهة.
والظاهر مما تقدم: أن الوليمة يقدر قدرها حسب حال الزوج والعرف، ولا يشترط فيها لحم.
وقد رأينا تنوع ولائم النبي -صلى الله عليه وسلم- بين لحم، وشعير، وتمر، وهذا الاختلاف ليس مرجعه تفضيل بعض نسائه على بعض، وإنما سببه اختلاف حالتي العسر واليسر.
مدتها
اختلف السلف في تكرار الوليمة على قولين:
الأول: تجوز في يومين وتكره في اليوم الثالث، وبهذا قال الجمهور الفقهاء من الحنفية( ) والمالكية( ) في المختار عندهم والشافعية( ) والحنابلة( ) والزيدية( ) والإمامية( ).
الثاني: يجوز الزيادة على يومين، وبهذا قال المالكية( ) في رواية أخرى، وإليه مال الإمام البخاري( ). فيستحب لمن كان من أهل السعة أن يولم أسبوعًا.
وذهب البعض إلى جوازها ثمانية أيام حكاه الزرقاني( ) عن ابن سيرين.
الأدلة
أولاً:أدلة القائلين بالكراهة فيما زاد على يومين:
استدل جمهور الفقهاء بأدلة من السنة والأثر.
أ- من السنة:
1- عن زهير بن عثمان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، واليوم الثالث رياء وسمعة»( ).
فقد دلَّ( ) الحديث على مشروعية الوليمة في اليوم الأول وعدم كراهتها في اليوم الثاني؛ لأنها معروف، والمعروف ليس بمنكر ولا مكروه، وكراهتها في اليوم الثالث؛ لأن الشيء إذا كان للسمعة والرياء لم يكن حلالاً.
2- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة، ومَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ به»( ).
فقد دلَّ( ) الحديث على أن مَن أراد بعلمه الناس أسمعه الله الناس وكان ذلك ثوابه، وفي هذا دليل على أنه لا ثواب لمن قصد السمعة والمباهاة.
3- عن ابن عباس رفعه: «طعام يوم في العرس سنة، وطعام يومين فضل( )، وطعام ثلاثة أيام رياء وسمعة»( ). فقد دلَّ( ) الحديث على أن الرجل إذا أولم ثلاثًا فالإجابة في اليوم الثالث مكروهة لما فيها من الرياء والسمعة.
ب: من الأثر:
عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه دعي أول يوم فأجاب، ودعي اليوم الثاني فأجاب، ودعي اليوم الثالث فحصَّب( ) الرسول ولم يجبه وقال: (أهل سمعة ورياء)( ). فقد دلَّ( ) الأثر على أن الإجابة في اليوم الثالث مكروهة، إذا كان هناك رياء وسمعة ومباهاة، فيكون الرابع وما بعده كذلك.
ثانيًا: أدلة القائلين بجواز الزيادة على يومين:
استدل المالكية في رواية والبخاري على جوازها أسبوعًا لأهل السعة، بأدلة من السنة والأثر.
أ- من السنة:
1- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها»( ).
2- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب»( ) في رواية أخرى قال: «إذا دعي أحدكم إلى وليمة العرس فليجب»( ).
فقد دلت ( ) الروايات بإطلاقها على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يجعل للوليمة وقتًا معينًا، ولم يخص ثلاثة أيام ولا غيرها.
3- عن أنس رضي الله عنه قال: «تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- صفية وجعل عقتها صداقها، وجعل الوليمة ثلاثة أيام»( ). فقد دلَّ الحديث على عدم كراهة الزيادة على يومين في الوليمة.
ب: من الأثر:
عن ابن سيرين عن أبيه «أنه لما بنى بأهله أولم سبعة أيام، فدعا في ذلك أبي بن كعب فأجابه»( ) وفي رواية أخرى: «أن سيرين عرس بالمدينة فأولم، فدعا الناس سبعًا، وكان فيمن دعا أبي بن كعب فجاء وهو صائم فدعا لهم بالخير وانصرف»( ). وفي رواية ثالثة جاء فيها أن الوليمة ثمانية أيام، فعن ابن سيرين قال: «تزوج أبي فدعا الناس ثمانية أيام، فدعا أبي بن كعب فيمن دعا، فجاء يومئذ وهو صائم، وصلى، يقول: دعا بالبركة ثم خرج»( ).
فقد دلَّ الأثر بجميع رواياته وإن كانت رواية السبعة أصح - على جواز الزيادة على يومين.
المناقشة
بعد العرض السابق لأدلة الفريقين، نوقشت أدلة القائلين بكراهة الزيادة على يومين، فقيل لهم:
أحاديث التقيد باليومين مردودة ( ) بما يلي:
1- حديث: «الوليمة أول يوم حق....» حديث ضعيف من جميع طرقه، ففيه عبد الله بن عثمان الثقفي مجهول، وقال البخاري: زهير بن عثمان لا يصح إسناده، ولا نعرف له صحبة.
وأخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة وفيه أبو مالك النخعي وهو ممن اتفقوا على ضعفه.
2- حديث ابن مسعود: «طعام أول يوم حق....» فيه زياد بن عبد الله وهو كثير الغرائب والمناكير.
3- حديث ابن عباس: «طعام يوم في العرس سنة...... » رواه الطبراني بسند ضعيف وفيه محمد بن عبد الله العزرمي ضعيف. وبالجملة فالحديث لا ينهض ليكون حجة.
أجيب( ): إن هذه الأحاديث وإن كانت لا تخلو من مقال إلا أن كثرة طرقها وتعدد روايتها تجعلها صالحة للاحتجاج بها.
قالوا: على فرض التسليم بصحة الحديث فهو حديث مقيد، وحديث: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب» مطلق، والمطلق مقدم على المقيد، لا سيما وأن الإطلاق ثبت بأحاديث صحاح.
4- إن إطلاق كونه رياء وسمعة يشعر بأن ذلك صنع للمباهاة ونحن نتفق في ذلك معكم.
ولكن إذا كثر الناس فدعا في كل يوم فرقة لم يكن في ذلك مباهاة غالبًا. فالكراهة في الحديث إنما تكون إذا كان المدعو في الثالث هو المدعو في الأول.
الراجح
بعد العرض السابق لأدلة الفريقين ومناقشة ما احتاج منها إلى مناقشة يظهر لي أنه إذا أمكن الجمع بين الأدلة فهو أولى لأن أعمال الأدلة كلها خير من إبطالها أو إبطال بعضها، فأقول:
إن الدعوة وإجابتها تختص باليوم الأول؛ لأنه حق، والثاني سنة أو فضيلة لا سيما إذا كان المدعو في اليوم الأول غير المدعو في اليوم الثاني اعتبارًا بما يعرض للناس من ظروف فلا يتمكن البعض من الإجابة في اليوم الأول، أو يكون المكان ضيقًا لا يستوعب كل المدعوين، فإذا زادت على يوم فلا بأس ولكن إذا قصد بها الرياء والسمعة والمباهاة فتكون مكروهة( )، فإذا خلت من ذلك وكان الزوج من أهل الغنى واليسار، وقصد بالوليمة إشهار النكاح والتوسعة على الناس لا المباهاة فله أن يولم أكثر من يومين، بل ثبت عنه بسند حسن أنه أولم على صفية - رضي الله عنها- ثلاثة أيام، كما ثبت عن بعض السلف الزيادة على اليومين عند الأمن من المباهاة.
وعلى هذا فالوليمة تكون يومًا أو يومين كما قال الجمهور؛ لأن حديث اليوم واليومين وإن كان فيه مقال، فإنه برواياته يدل على أن له أصلاً، وما زاد على ذلك فيجوز بضوابط:
أولها: أن يكون الزوج من أهل السعة والغنى واليسار.
ثانيها: ألا يقصد بزيادتها عن يومين السمعة والمباهاة.
ثالثها: أن يكون المدعو أولاً غير المدعو ثانيًا.
فإذا اختل شرط من هذه الشروط كرهت. والله أعلم.
وقتها
ذكرت أن للنكاح وليمتين (إحداهما) عند العقد وتسمى: شندخ أو إملاك أو نقيعة، وقد أشرت إليها في أنواع الولائم وسيأتي بيان حكمها مع جملة من الولائم.
(والثانية) عند الزفاف والدخول بالمرأة وتسمى وليمة العرس.
وقد اختلف العلماء في وقتها على ثلاثة أقوال:
الأول: إنها مستحبة بعد الدخول وبهذا قال المالكية( ) في المشهور من المذهب وهو قول الإمام مالك فقد قال: أرى أن يولم بعد البناء، فإن فعلت قبل أجزأت؛ لأن غاية ما فيها أنها فعلت في غير وقتها المستحب.
القول الثاني: إنها تستحب بالدخول وبهذا قال المالكية( ) في قول آخر والماوردي( ) من الشافعية( ) وابن تَيْمِيَّةَ( ) من الحنابلة( ) والشيعة الإمامية( ).
القول الثالث: إن وقت استحبابها موسع من عقد النكاح إلى انتهاء أيام العرس وبهذا قال البغوي( ) من فقهاء الشافعية( ) والمرداوي( ) من فقهاء الحنابلة( ).
الأدلة
أولاً: أدلة القائلين باستحبابها بعد الدخول:
استدل المالكية في المشهور عنهم على استحباب الوليمة بعد الدخول بأدلة من السنة منها:
1- عن ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك - رضي الله عنه- أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، فكن أمهاتي يواظبنني على خدمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فخدمته عشر سنين، وتوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أول من أنزل في مبتني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بزينب بنت جحش، أصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- بها عروسًا، فدعا القوم فأصابوا من الطعام...( ) الحديث.
فقد دلَّ( ) الحديث على أن الوليمة كانت بعد الدخول لقول أنس: (أصبح عروسًا بزينب).
3- ما رواه أنس - رضي الله عنه- في قصة زواج النبي - -صلى الله عليه وسلم-- بصفية بنت حيي - رضي الله عنها- وفيها: حتى إذا كان بالطريق جهزتها( ) له أم سليم فأهدتها( ) له من الليل، فأصبح النبي - -صلى الله عليه وسلم-- عروسًا، فقال: من كان عنده شيء فليجئ به، قال: وبسط نطعًا، قال: فجعل الرجل يجيء بالأقط وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن فحاسوا حيسًا ( ) فكانت وليمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-( ).
فقد دلَّ( ) الحديث على أن وليمة العرس كانت بعد الدخول.
ثانيًا: أدلة القائلين باستحبابها بالدخول:
استدل المالكية في القول الآخر ومن تبعهم على ما ذهبوا إليه بدليل من القياس( ) فقالوا: إن الوليمة لإشهار النكاح، وإشهاره قبل البناء أفضل كالإشهاد.
وأجابوا عن قول الإمام مالك إنها تكون بعد الدخول، فقالوا( ):
يحتمل أمرين:
الأول: أن يكون قاله لمن فاتته الوليمة قبل البناء.
الثاني: لعله اختاره؛ لأن فيه معنى الرضا بما اطلع عليه الزوج من حال الزوجة.
ثانيًا: أدلة القائلين بأن وقت استحبابها موسع:
استدل البغوي والمرداوي بأن وقت الوليمة موسع من وقت العقد إلى انتهاء أيام العرس بدليل من المعقول فقالا( ): إن كمال السرور يكون بعد الدخول، وقد صحت الأخبار في هذا، لكن قد جرت العادة فعل ذلك قبل الدخول بيسير، فقلنا: إن الوقت موسع جمعًا بين الدليل النقلي والعمل بالعرف.
الراجح
والذي يظهر لي أن القول الثالث القائل باتساع وقتها هو الراجح جمعًا بين القولين السابقين؛ لأن إعمال الأدلة كلها خير من إبطالها أو إبطال بعضها.
وعلى هذا فمن فعلها قبل الدخول فلا بأس؛ لأن القصد من الوليمة إشهاد النكاح، وإشهاره بإطعام الطعام عند الدخول أوقع، وهو ما عليه عمل الناس اليوم، وإن فعلها بعد الدخول فلا بأس لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأن وقتها قد يخضع للظروف والعادات كمن تتزوج بتوكيل وتسافر لزوجها فيدخل بها ثم يصبح، ويعد لها وليمة يدعو لها الأصدقاء والجيران، ولكن الأفضل أن تكون قبل الدخول اعتبارًا بالعرف ولأنها أوقع في النفس. والله أعلم.
حكمة مشروعية وليمة العرس
شرعت وليمة العرس لحكم( ) جليلة منها:
1- شكر الله تعالى على نعمة النكاح، وعلى ما أولاه للإنسان من انتظام تدبير المنزل، وعلى ما يصرفه إلى عبادة وينفعهم به.
2- التلطف بإشاعة النكاح، وأنه على شرف الدخول بالزوجة، إذ لابد من الإشاعة لئلا يبقى النكاح محلاً لوهم الواهم في النسب، وليتميز النكاح عن السفاح بادئ الرأي، ويتحقق اختصاص الرجل بالزوجة على أعين الناس.
يقول( ) الباجي( ) في هذا الصدد: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوليمة لما فيها من إشهار النكاح مع ما يقترن بها من مكارم الأخلاق.
وقال( ) مالك: استحب الإطعام في الوليمة وكثرة الشهود ليشتهر النكاح وتثبت معرفته.
3- البر بالمرأة وقومها، فإن صرف المال لها، وجمع الناس في أمرها يدل على كرامتها عليه، وكونها ذات بال عنده.
ومثل هذه الأمور لابد منها في إقامة التآلف والتواصل فيما بين أهل المنزل لا سيما في أول اجتماعهم.
4- إن تجدد النعم يورث الفرح والنشاط والسرور، ويحفز على صرف المال حيث إن الإنسان ملك ما لم يكن مالكًا له، وفي إتباع تلك الداعية تمرن على السخاء والبعد عن الشح والبخل إلى غير ذلك من الفوائد والمصالح.
ولما كان في وليمة العرس جملة صالحة من فوائد السياسة المدنية والمنزلية، وتهذيب النفس والإحسان، أبقاها النبي - صلى الله عليه وسلم- ورغب فيها، وحث عليها، وعمل هو بها، ولم يضبطها النبي -صلى الله عليه وسلم- بحد مثل المهر الذي يختلف باليسر والعسر ليتمكن كل إنسان من الإنفاق حسب قدره، للموسر قدره وللمقتر قدره.
حكم غيرها من الولائم
ذكرت فيما سبق أن للنكاح وليمتين تحدثت آنفًا عن وليمة العرس وما يتعلق بها وبقي عندي بيان حكم غيرها من الولائم والتي منها وليمة الإملاك أو الشندخ إتمامًا للفائدة.
وحكم هذه الولائم:
مستحب( ).
1- لما فيه من إطعام الطعام وجبر القلوب.
2- كما أن في فعلها إظهار نعم الله والشكر عليها، وإظهار لإحسانه.
3- اكتساب الأجر والمحبة.
وهي ليست بواجبة( )، ولأن الإيجاب بالشرع ولم يرد الشرع بإيجابه. وقيل: تجب( ) وهو قول مخرج عند الشافعية لقول( ) الشافعي بعد ذكرها: (ولا أرخص في تركها).
أما حكم إجابة الدعوة لهذه الولائم:
اختلف الفقهاء في حكم إجابة الدعوة لهذه الولائم عدا وليمة العرس على ثلاثة أقوال:
الأول: ليست بواجبة إلا أن أصحاب هذا القول منهم من حملها على السنية والاستحباب كالحنفية( ) والشافعية( ) وهو المذهب وبه قال الحنابلة( ) في رواية للأكثرية وهو قول العترة( ).
وحملها ابن رشد من المالكية( ) على الإباحة عدا العقيقة والمأدبة فإن الحكم فيها الندب وهو ما نص ( ) عليه الإمام أحمد واستثنى أيضًا العقيقة فإنها تسن.
الثاني: إجابة الدعوة واجبة وبهذا قال الشيخ أبو حامد( ) والمحاملي( ) من الشافعية( ) والحنابلة( ) في رواية أخرى والظاهرية( ).
الثالث: إجابة الدعوة وحضورها مكروه إلا العقيقة فمندوب وبهذا قال المالكية( ). وبالكراهة قال بعض( ) الحنابلة، وهو قول( ) للإمام أحمد في دعوة الختان.
الأدلة
أولاً: أدلة القائلين بعدم الوجوب:
استدل أصحاب هذا القول بما روي ( ) عن الحسن قال: (دعي عثمان بن أبي العاص إلى ختان فلم يجب، وقال: لم يكن يدعى له على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فقد دلَّ الأثر على عدم وجوب إجابة الدعوة في الختان فكذا في غيرها.
إلا أن الأذرعي( ) من فقهاء الشافعية( ) قال: الظاهر أن استحباب وليمة الختان محله في ختان الذكور دون الإناث، فإنه يخفي ويستحي من إظهاره ويحتمل استحبابه للنساء فيما بينهن خاصة.
ثانيًا: أدلة القائلين بالوجوب:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة والأثر:
أ- من السنة:
1- ما روي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه»( ).
2- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من دعي إلى عرس أو نحوه فليجب»( ).
فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإجابة الدعوة مطلقًا عرسًا كان أو غيره.
ب: من الأثر:
عن نافع قال: (كان عبد الله بن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس، ويأتيها وهو صائم)( ).
فقد دلَّ الأثر على وجوب الإجابة مطلقًا.
ثالثًا: أدلة القائلين بالكراهة:
استدل المالكية ومن تبعهم من القائلين بكراهة وإجابة الدعوة إلى الولائم عدا العقيقة بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه كان يقول: «بئس الطعام طعام الوليمة، يدعى إليه الأغنياء ويترك المساكين، فمن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله»( ).
فإذا ( ) كانت كما وصفها أبو هريرة رضي الله عنه وهو لا يقوله إلا عن سماع من النبي -صلى الله عليه وسلم-: يمنعها المحتاج ويحضرها الغني كانت مكروهة.
أما حجة الإمام أحمد في كراهة إجابة دعوة الختان، فلعله الدليل الذي استدل به القائلون بعدم وجوب إجابة الدعوة إلى الولائم.
الراجح
والذي يظهر لي أن إجابة الدعوة واجبة في غير وليمة العرس بشروط سيأتي ذكرها في وليمة العرس، لعموم الأدلة الآمرة بالإجابة، والتي لم تفرق بين عرس وغيره، منها:
1- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله»( ).
2- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ائتوا الدعوة إذا دعيتم»( ).
3- قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا دعيتم إلى كراع فأجيبوا»( ).
فهذه كلها أدلة واضحة الدلالة على إجابة الدعوة على قليل الطعام وكثيره من غير تفرقة بين عرس وغيره، وإلا اعتبر المخالف عاصيًا لله ورسله، ومن خص هذه الأدلة بوليمة العرس فعليه الدليل، لا سيما وأن الأدلة صرحت بوجوب الإجابة لعرس أو غيره، والزيادة يجب المصير إليها. والله أعلم.
الفصل الثاني
الدعوة لوليمة العرس
وفيه:
شروط الدعوة وآدابها.
حكم إجابة الدعوة.
الفصل الثاني
الدعوة لوليمة العرس
شروط الدعوة وآدابها
الدعوة لا بد لها من داعٍ ومدعو، ولكل منهما شروط وآداب ينبغي مراعاتها.
أولاً: ما يشترط في الداعي:
يشترط في الداعي للوليمة الشروط الآتية( ):
الأول: أن يكون بالغًا، يصح منه الإذن والتصرف في ماله. فإن كان غير بالغ لم تلزم إجابته، ولم يجز لبطلان إذنه ورد تصرفه.
الثاني: أن يكون عاقلاً لأن المجنون لفقده التمييز أسوأ حالاً من الصغير في فساد إذنه ورد تصرفه.
الثالث: أن يكون رشيدًا يجوز تصرفه في ماله، فإن كان محجورًا عليه لم تلزم إجابته، حتى وإن أذن له وليمة؛ لأن وليه مندوب لحفظ ماله لا إتلافه.
الرابع: أن يكون حرًّا؛ لأن العبد لا يجوز تصرفه فلم تلزم إجابته لفساد إذنه. فلو أذن له سيده صار كالحر في لزوم إجابته.
الخامس: أن يكون مسلمًا تلزم موالاته في الدين.
فإذا كان الدعي ذميًّا، ففي لزوم إجابته ثلاثة أقوال:
الأول: يجب إجابته، وبهذا قال الشافعية( ) في أحد الوجهين، والحنابلة( ) في رواية.
الثاني: لا تلزم إجابته، وبهذا قال المالكية( ) والشافعية( ) في وجه آخر، والحنابلة( ) في رواية ثانية، إلا أن الحنابلة في هذه الرواية قالوا: الذمي وإن لم تلزم إجابته بيد أنها تجوز.
الثالث: تكره إجابته، وبهذا قال الإمام أحمد( ) في رواية ثالثة.
الأدلة
أولاً: أدلة القائلين بالوجوب:
استدل القائلون بالوجوب بعموم الأدلة منها:
1- ما روي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها»( ).
2- وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليجب»( ).
فقد دلَّ الحديثان( ) بعمومها على وجوب إجابة الداعي من غير تفرقة بين مسلم وذمي.
ثانيًا: أدلة القائلين بعدم وجوب إجابة دعوة الذمي:
استدل أصحاب هذا القول بأدلة من السنة والمعقول:
أ- من السنة:
ما روي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسًا كان أو نحوه»( ).
فقد دلَّ( ) الحديث على أن الوليمة تراد للإكرام والموالاة وتأكيد المودة والإخاء، وذلك منتف في حق الذمي، فلم تجب على المسلم للذمي.
ب- من المعقول( ):
1- أن المقصود من الطعام التواصل به، واختلاف الدين يمنع منه.
2- أن طعام الذمي ربما كان مستخبثًا محرمًا؛ لأنه لا يؤمن من اختلاط طعامهم بالحرام والنجاسة، ونفس المسلم تعاف أكل طعامهم.
أما القائلون بعدم الوجوب ولكن يجوز فقد استدلوا:
بما روي عن أنس رضي الله عنه: أن يهوديًّا دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خبز شعير وإهالة( ) سنخة( ) فأجابه( ).
فلم يمنع اختلاف الدين من الإجابة للدعوة.
ثالثًا: أدلة القائلين بالكراهة:
استدل الإمام أحمد بن حنبل على كراهة إجابة دعوة الذمي بدليل من المعقول( ) وهو:
أن المطلوب هو إذلال أهل الكفر واحتقارهم، وذلك ينافي إجابته، ولهذا كانت إجابة دعوتهم مكروهة.
الرأي الراجح
والذي يظهر لي أن إجابة دعوة الذمي ليست بواجبة ولا مكروهة، ولكنها جائزة وذلك للأسباب الآتية:
1- أن الإسلام لم ينهنا عن الأكل من طعام الذين أوتوا الكتاب ولم ينهنا عن البر بهم، فقال تعالى: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ )( ).
فقد دلت الآية الكريمة على حل طعامهم ما لم يكن مشتملاً على محرم.
وقال تعالى أيضًا: ( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ )( ).
أي: أن الله تعالى لم ينهنا عن البر بأهل الكتاب، ومن البر بهم مشاركتهم أتراحهم وأفراحهم الدنيوية لا الدينية( ) لا سيما إذا كان في ذلك تأليف لهم ومصلحة.
2- ثبت عن النبي( ) -صلى الله عليه وسلم- أنه أجاب دعوة اليهودي، وسئل الإمام أحمد: هل أجيب دعوة الذمي؟ قال: نعم.
3- في جواز إجابة دعوة الذمي دليل على يسر الشريعة الإسلامية وسماحتها ومظهر من مظاهر مراعاة الإسلام للمشاعر الإنسانية. والله أعلم.
السادس: التصريح بالدعاء:
يشترط في الداعي أن يصرح بالدعاء صراحةً أو ضمنًا.
صراحةً ) كقول صاحب الوليمة للمدعو: احضر وليمتنا، أو أحب أن تحضر، أو أسألك الحضور، أو تأتي عندنا وقت كذا، أو إن رأيت أن تجملني بالحضور.
وكما يحصل الدعاء بصريح القول يحصل أيضًا بالمكاتبة المراسلة بالجوابات أو البطاقات لأشخاص معينة لحضور الوليمة؛ لأن العرف بجميع ذلك جار.
يقول الشيخ( ) ابن العثيمين( ) في هذا المقام: إذا وجد مع البطاقة قرينة تؤيد التعيين، وأن الداعي يريد حضور شخص بعينه فلها حكم التعيين، وتلزم بالحضور، وإلا فمجرد البطاقة لا يدل على التعيين.
وأما ضمنًا( ): كقول رب الوليمة لرسول ثقة: ادع فلانًا، أو أهل العلم لحضورها وهم محصورون بموضع معروف، فإن هذا يعتبر دعاء لهم؛ لأن كل واحد معين ضمنًا.
الآداب التي ينبغي على الداعي مراعاتها:
1- ألا يظهر( ) قصد التودد لشخص لرغبة فيه، أو لرهبة منه، أو ليعاونه على باطل.
2- أن يعم بدعوته جميع عشيرته أو جيرانه أو أهل حرفته أغنيائهم وفقرائهم، فلا يخص( ) الأغنياء دون الفقراء؛ لأن اختصاص الأغنياء بالدعوة إلى الوليمة دون الفقراء مكروه( ) لما يأتي:
أ- ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله»( ). فالشر ( ) الكائن في الطعام إنما جاء من جهة صاحب الوليمة وكونه دعا إليها الأغنياء دون الفقراء.
ب- كما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله»( ).
أي ( ) أن الوليمة تكون شر الطعام إذا دعي لها الأغنياء وترك الفقراء؛ لأن ذلك من عادات الجاهلية.
قال( ) ابن بطال( ): إذا ميز الداعي بين الأغنياء والفقراء، فأطعم كلا على حدة لم يكن به بأس، وقد فعله ابن عمر، حيث دعا في وليمة الأغنياء والفقراء، فجاءت قريش ومعها المساكين، فقال لهم: (ها هنا فأجلسوا لا تفسدوا عليهم ثيابهم، فإنا سنطعمكم مما يأكلون)( ).
3- ألا يقصد( ) الداعي بالوليمة والدعوة إليها المباهاة والافتخار، لما روي عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل»( ).
والمتباريان: هما المتعارضان بفعليهما ليُرى أيهما يغلب صاحبه. وإنما كره ذلك لما فيه من المباهاة والرياء.
وقد دعي بعض العلماء فلم يجب، فقيل له: إن السلف كانوا يدعون فيجيبون، فقال: كانوا يدعون للمؤاخاة والمواساة، وأنتم اليوم تدعون للمباهاة.
مما روي أن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- دعيا إلى طعام فأجابا، فلما خرجا، قال عمر لعثمان: لقد شهدت طعامًا وددت أني لم أشهده، قال: وما ذاك؟ قال: (خشيت أن يكون جعل مباهاة)( ).
ثانيًا: شروط المدعو:
يشترط فيمن دعي إلى وليمة أن تتوافر فيه الشروط( ) الآتية:
الأول، والثاني: البلوغ والعقل، ليكون بالبلوغ والعقل ممن يتوجه عليه حكم الالتزام، ويتفرع على ما تقدم، حكم ذهاب النساء والصبيان إلى الوليمة هل يجوز أم لا؟
نعم يجوز ( ) ذهاب النساء والصبيان إلى الوليمة، وإنه مشروع بغير كراهة، لما روي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «أبصر النبي -صلى الله عليه وسلم- نساءً وصبيانًا مقبلين من عرس، فقام ممتنًا( )، فقال: اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ»( ).
الثالث: الحرية؛ لأن العبد ممنوع من التصرف لحق سيده، فإن أذن له سيده لزمته الإجابة حينئذ، وإن كان مكاتبًا نظر إن كان في حضوره ضرر بكسبه لم تلزمه الإجابة، وإن لم يكن حضوره مضرًّا بكسبه لزمته الإجابة.
الرابع: أن يكون مسلمًا، فإن كان ذميًّا، لم تلزمه الإجابة وجهًا واحدًا؛ لأنه لا يلتزم أحكام شرعنا إلا عن تراضٍ.
الخامس: أن لا يكون له عذر( ) مانع من الحضور.
الآداب التي ينبغي على المدعو مراعاتها:
إذا حضر المدعو إلى مكان الوليمة فينبغي عليه مراعاة ما يأتي( ):
1- ألا يقصد بالإجابة نفس الأكل، بل ينوي الاقتداء بالسنة، وإكرام أخيه المؤمن، ولئلا يظن به التكبر.
2- أن ينوي بأكله التقوى على الطاعة لتنقلب العادة عبادة.
3- يندب لمن حضر الطعام إذا أكل أن يستعمل آداب الأكل المسنونة منها:
أ- غسل يديه قبل الأكل وبعده، لما روى أبو هاشم( ) عن زاذان( ) عن سلمان الفارسي قال: قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء قبله، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده»( ).
والمراد ( ) بالوضوء هنا غسل اليدين، فإن غسلهما قبل الطعام أهنأ وأمرأ، ولأن اليدين لا تخلوان عن التلوث في تعاطي الأعمال، فغسلهما أقرب إلى النظافة والنزاهة، ولأن الأكل يقصد به الاستعانة على العبادة فهو جدير بأن يجري مجري الطهارة من ال