مدى اعتبار التضخم عيباً في العملة
يبيح التعويض عنه
د • حمزة بن حسين الفعر
مقدمة :-
تُعد مشكلة انخفاض قيمة النقود والتي يعبّر عنها في الاقتصاد المعاصر بـ(التضخّم) من أعقد المشكلات التي تهز كيان الاقتصاد في الدول وعلى الأخص في البلدان الفقيرة ، أو في البلدان التي تسمى (النامية) لأن هذه النقود أداة تنمية ، ووسيط المبادلات والقيمة التي تقدر بها الأشياء، فإذا اختلت واهتزت ، اهتز تبعاً لها الاقتصاد •
وقد قدمت بحوث ودراسات وألفت مؤلفات في بيان التضخم وشرح أسبابه ، ومحاولة علاجه ، إلا أن هذه الدراسات والبحوث والمؤلفات لم تستطع الوصول إلى حل حاسم لهذه المشكلة ، لأن أسبابها متعددة متداخلة وبعضها من خارج الاقتصاد وبعضها من داخله ، كما أن للبيئة المحيطة أيضاً آثاراً ملموسة في التأثير إيجاباً أو سلباً في هذه المشكلة (1)•
ولما كان العالم الإسلامي مرتبطاً ببقية أجزاء العالم الأخرى بشكل أو بآخر ، فإنه لا يعيش بمعزل عن تلك المؤثرات العالمية ، فهي تؤثر فيه، وتسبب لاقتصاده زلازل عنيفة يمتد أثرها إلى عمقه الاجتماعي والسياسي وبنيته الاقتصادية •
وقد حرصت المجامع الفقهية في العالم الإسلامي وعلى الأخص -مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي- على بحث هذه القضية واستكتاب المختصين من فقهاء واقتصاديين في جوانبها المختلفة بغية الوصول إلى حل يتسق مع قواعد الشريعة لعلاج هذه المشكلة، وعقدت لذلك ندوات عديدة ، لم تتمخض بعد عن الوصول إلى الهدف المنشود ، مع ما بذله العلماء والباحثون فيها من جهود مشكورة ، ألقت الضوء على أهم جوانب المشكلة ومهدت الطريق لجهود أخرى علّها تصل إلى ما تتطلع إليه هذه المجامع •
وانطلاقاً من هذا فقد أحببت أن أقوم بالبحث -مستعيناً بالله- في أحد جوانب هذا الموضوع لبيان حكمه من الناحية الفقهية ، واخترت أن يكون العنوان :
(مدى اعتبار التضخم عيباً في العملة يبيح التعويض عنه) •
ü وقد قدمت لذلك بتمهيد تناولت فيه التعريف بالتضخم •
ü ثم ذكرت أقوال العلماء في اعتبار التضخم (الرخص) عيباً يستوجب التعويض وذكرت أدلتهم ، وناقشتها •
ü ثم ذكرت العيوب التي تطرأ على النقد بالمفهوم الفقهي وما يترتب على هذه العيوب عند الفقهاء •
ü ثم حاولت بحث وجود هذه العيوب في النقود المعاصرة وانتقلت من ذلك إلى تلمس عيوب أخرى طرأت على النقود المعاصرة مثل التضخم (الرخص) ومدى صحة اعتباره عيباً، وحاولت تأصيل الموضوع بالرجوع إلى دلالات اللغة ، ونصوص الشرع، وما قعده العلماء من القواعد والضوابط •
ü ثم ختمت بالبحث في مدى صحة اشتراط ضمان قيمة ما ترتب في الذمة في صلب العقد •
وأسأل الله جلت قدرته العصمة من الخطل والزلل ، والتوفيق للصواب بمَنِّه وكرمه • إنه ولي ذلك والقادر عليه •
تعريف التضخم :
1- التضخّم في اللغة ، تفعّل من الضّخامة • يقال: ضَخُمَ ضَخَامَةً وضِخَماً فهو ضَخْمٌ ، وضُخَامٌ •
والضّخم : الغليظ من كل شيء ومنه قول رؤبة :
ü ضَخْمٌ يحب الخلق الأضخمَا ü (1)
ولعله في الاصطلاح مأخوذ من هذا نظراً لكثرته التي تتدرج حتى تصير إلى حال غليظة •
2- التضخم في الاصطلاح :
لا يوجد تعريف واحد محدّد متفق عليه بين جميع الاقتصاديين للتضخم، وذلك ؛ لأنه ظاهرة معقدة تنتج من أسباب عديدة ، وربما لاحظ كل منهم جانباً معيناً من هذه الجوانب عند التعريف ، وإن كانت تعريفات التضخّم تتلاقى عند معنى كونه : ارتفاعاً مستمراً في المستوى العام للأسعار يقابله انخفاض مستمر في القيمة الشرائية للنقود (2)•
فهو على هذا ظاهرة من الظواهر التي تعرض للنقود فلا تبطلها وتمنع التعامل بها ، ولا تقلل الرغبة فيها ، ولكنها تخفض قيمتها وقوتها الشرائية•
ومن المعلوم أن النقود الورقية هي أثمان الناس في هذه الأزمنة ؛ لأنها وسيلة التبادل والإبراء ومقياس التقويم ، وهي مع ذلك تتمتّع بالقبول العام من الناس ، ويؤيدها ويقويها ضمان الدولة لها ، وانفرادها بسكّها والرقابة الصارمة عليها • والثمنيّة عند التحقيق والتمحيص أمر اصطلاحي ؛ إذا تعارف الناس عليه واستقر في شيء من الأشياء بحيث يلقى القبول العام منهم ، ويكافي في المبادلات والتقويم كان هذا الشيء الذي استقر العرف عليه حينئذ ثمناً بقطع النظر عن مادته هو ، ولهذا قال الإمام مالك رحمة الله عليه في كتاب الصرف من المدونة :
(ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكّة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نَظِرة) (1)•
وجاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه في مجموع الفتاوى قوله: (وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حدّ طبعي ولا شرعي ، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح ، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معياراً لما يتعاملون به ، والدراهم والدنانير لا تُقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها ، ولهذا كانت أثماناً •••) (2)•
وبناء عليه فإن الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس في هذه الأزمنة نقود ، لا شك فيها ، لأنها هي الوسيلة التي تحظى بالقبول العام منهم للتبادل وتقويم الأشياء ، وليست هناك نقود غيرها لهم ، وهذا الرأي هو ما انتهت إليه المجامع الفقهية وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية•
فقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: (أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما) (3)•
وجاء في قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية :
(أن الورق النقدي يعتبر نقداً قائماً بذاته كقيام النقدية في الذهب، والفضة ، وغيرهما من الأثمان •••) (4)•
وجاء قبل ذلك في قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة (5)•
والقول بعدم ثمنيتها تترتب عليه مفاسد كبيرة منها عدم وجوب الزكاة في عينها ، وعدم جريان الربا فيها ، وعدم جواز السَّلَمِ بها لدى من يقول باشتراط كون أحد العوضين نقداً من ذهب أو فضة أو معدن غيرهما • إلى آخر ما هنالك من المفاسد (1)•
وقد تطرق الخلل إلى الآراء التي لا تقول بثمنية الأوراق النقدية من جهة قصر الثمنية على الذهب والفضة ، ومن جهة تشبيهها بالفلوس المعروفة في الأزمنة الماضية والتي كانت تتخذ من غير الذهب والفضة من أنواع المعادن الأخرى - وتقوم إلى جانب العملات الذهبية والفضية باعتبارها عملات مساعدة •
وقد تقدمت الإشارة إلى أن الثمنية أمر عرفي اصطلاحي لا علاقة له بنوع ما اصطلح عليه ، ولا بمادته •
أما تشبيهها بالفلوس ، فأمر لا يصح لأن الفلوس كانت تقوم إلى جوار عملات الذهب والفضة وتقدر بها ، فالعملة المعتمدة آنذاك للثمنية إنما هي الدراهم والدنانير وغالباً ما كانت الفلوس تستعمل في محقرات الأمور وقد تكسد وتنقطع مع وجود الذهب والفضة نتيجة لعوامل عديدة •
بقي أن يقال: إن النقود قد تختلف من حيث مادتها المتخذة منها في حال كسادها ، أو بطلان ثمنيتها ، فالمتخذة من الورق النقدي وما في حكمه إذا بطلت ثمنيتها لم تبق لها قيمة في نفسها ، أما المتخذة من الذهب أو الفضة ، أو من الأحجار والمعادن الثمينة ونحو ذلك فإنها إذا بطلت ثمنيتها بقيت قيمتها الذاتية ، فيمكن بيعها والانتفاع بها حينئذ لاستعمالها في غرض آخر تصلح له •
ولكن هذا الفارق غير مؤثر في اعتبار الثمنية لأنها كما تقدم بالاصطلاح والتعارف •
اعتبار التضخم عيباً في العملة يستوجب التعويض :
المتتبع لكلام العلماء يجد قولين متقابلين في هذه المسألة :
1- الأول وهو المشهور عند أرباب المذاهب الأربعة : أن التضخم (الرخص) لا يعد عيباً يستوجب التعويض ، والمسألة مفروضة أساساً عندهم في البيع ، وألحق به بعضهم القرض والإجارة وغيرها من المعاملات -على ما سيظهر من كلامهم- وسأنقل عنهم من كلامهم جملاً واضحة تدل على هذا الرأي :
1- الحنفية : قال في المبسوط: (لو اشترى مائة فلس بدرهم فقبض الفلوس أو الدراهم ثم تفرقا جاز البيع ؛ لأنهما تفرقا عن عين بدين فإن كسدت الفلوس بعد ذلك ، فإنه ينظر ، إن كان الفلوس هو المقبوض فلا يبطل البيع ؛ لأن كساد الفلوس بمنزلة هلاكه ، وهلاك المعقود عليه بعد القبض لا يبطل البيع • ولو كان الفلوس غير مقبوض بطل البيع استحساناً؛ لأن كساد الفلوس بمنزلة هلاكه ، وهلاك المعقود عليه قبل القبض يبطل البيع •
والقياس أنه لا يبطل ؛ لأنه قادر على أداء ما وقع عليه العقد • وقال بعض مشايخنا : إنما يبطل العقد إذا اختار المشتري إبطاله وفسخه ، لأن كسادها بمنزلة عيب فيها والمعقود عليه إذا حدث فيه عيب قبل القبض يثبت للمشتري فيه الخيار ، والأول أظهر •
ولو نقد الدرهم وقبض من الفلوس نصفه خمسين ثم كسدت الفلوس، بطل البيع في نصفه ، وله أن يستردّ نصف درهم ، ولو اشترى فاكهة، أو شيئاً بعينه بفلوس ثم كسدت الفلوس قبل أن ينقدها، وقد قبض المبيع فسد البيع وعليه أن يرد المبيع إن كان قائماً ، وقيمته أو مثله إن كان هالكاً ••• وفي المسألتين جميعاً إذا لم تكسد الفلوس غير أن قيمتها غلت ، أو رخصت، فلا يبطل البيع ، وعليه أن ينقد مثل العدد الذي أوجبه العقد ، ولا ينظر إلى القيمة (1)•
وقال الكاساني: (•• ولو لم تكسد ، ولكنها رخصت قيمتها ، أو غلت، لا ينفسخ البيع بالإجماع ، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ، ولا يلتفت إلى القيمة ههنا ؛ لأن الرخص والغلاء لا يوجب بطلان الثمنية ، ألا ترى أن الدراهم قد ترخص ، وقد تغلو ، وهي على حالها أثمان) (2)•
2- المالكية : قال في المدونة : في رجل أقرض فلوساً ففسدت أو دراهم فطرحت ، قلت: أرأيت إن استقرضت فلوساً ففسدت الفلوس ، فما الذي أردّ على صاحبي ؟
قال: قال مالك : تردّ عليه مثل تلك الفلوس التي استقرضت منه ، وإن كانت قد فسدت •
قلت : فإن بعته سلعة بفلوس ففسدت الفلوس قبل أن أقبضها ؟ قال مالك: لك مثل فلوسك التي بعت بها السلعة الجائزة بين الناس يومئذ ، وإن كانت الفلوس قد فسدت فليس لك إلا ذلك • قال: وقال مالك في القرض والبيع في الفلوس إذا فسدت فليس له إلا الفلوس التي كانت ذلك اليوم وإن كانت فاسدة (3)•
وقال الدردير: (إن بطلت معاملة من دنانير ، أو دراهم ، أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض ، أو بيع ، وتغير التعامل بها بزيادة أو نقص (فالمثل) أي فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة ، (وإن عدمت) في بلد المعاملة ؛ وإن وجدت في غيرها (فالقيمة يوم الحكم) أي تعتبر يوم الحكم بأن يدفع له قيمتها عرضاً ، أو يقوم العرض بعين من المتجددة •••) (1)•
3- الشافعية : قال الإمام الشافعي: (ومن سلّف فلوساً ، أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي أسلف، أو باع بها) (2)•
وقال في المجموع: (إذا باع بنقد معين ، أو بنقد مطلق ، وحملناه على نقد البلد ، فأبطل السلطان المعاملة به قبل القبض ، قال أصحابنا: لا ينفسخ العقد ، ولا خيار للبائع ، وليس له إلا ذلك النقد المعقود عليه ، كما لو اشترى حنطة فرخصت قبل القبض ، أو أسلم فيها فرخصت قبل المحل ، فليس له غيرها ، هكذا قطع به الجمهور •••) (3)•
وقال الماوردي في الحاوي: (وإذا حصلت في ذمة رجل دراهم موصوفة وكانت نقداً يتعامل الناس به ، فحظر السلطان المعاملة بها ، وحرّمها عليهم، لم يستحق صاحب الدراهم غيرها ، ولم يجز أن يطالب بقيمتها •••) (4)•
4- الحنابلة : قال ابن قدامة في كتاب الكافي في باب القرض: (فإن أقرض فلوساً أو مكسرة فحرمها السلطان ، وتركت المعاملة بها ، فعليه قيمتها يوم أخذها ، نصّ عليه ؛ لأنه منع إنفاقها ، فأشبه تلف أجزائها، فإن لم تترك المعاملة بها لكن رخصت فليس له إلا مثلها لأنها لم تتلف ، إنما تغيّر سعرها ، فأشبهت الحنطة إذا رخصت) (5)•
وقال في المغني في كتاب القرض: (وأما رخص السعر فلا يمنع ردّها، سواء كان كثيراً مثل أن كانت عشرة بدانق ، فصارت عشرين بدانق، أو قليلاً ؛ لأنه لم يحدث فيها شيء ، إنما تغير السعر ، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت) (1)•
وقال في شرح منتهى الإرادات في باب القرض: (ويجب على مقترض ردّ مثل فلوس اقترضها ، ولم تحرم المعاملة بها ، غلت أو رخصت أو كسدت ، لأنها مثلية) (2)• وذكر مثل ذلك في كشاف القناع (3)•
وبتأمل ما ذكر عن أصحاب هذا الرأي نستطيع أن نستخلص حججهم التي استندوا إليها وهي كالتالي :
1- أن هذه الأثمان هي التي وقع عليها العقد وهي قائمة بأعيانها أو بأمثالها ، فليس له إلا ما وقع العقد عليه •
2- القياس على الدراهم والدنانير وعلى المكيلات والموزونات ، فإنه إذا وقع العقد عليها وغلت أو رخصت ، فإنه ليس له غيرها بالإجماع فكذلك بقية الأثمان إذا لم تبطل ولكنها غلت أو رخصت بجامع الثمنية في كل •
3- سد ذريعة الربا ؛ لأن الرجوع إلى القيمة يؤدي إلى الزيادة في أحد المثلين ، وهو ربا بالنظر إلى اتحاد الجنس •
4- أن ذلك يؤدي إلى الغرر بسبب جهالة قدر الثمن المؤدى عند الوفاء(4)•
مناقشة الرأي الأول وأدلته :
النقص الفاحش يلحق الضرر بأحد طرفي المعاملة ، والله سبحانه قد أمر بالعدل في ذلك قال تعالى: وأوفوا الكيل والميزان بالقسط(5)• وقال: وزنوا بالقسطاس المستقيم (6)، وقال: اعدلوا هو أقرب للتقوى(7)• وتحقيق ذلك شامل لكل أنواع المعاملات والأقوال • ومن المعلوم أن العدل في المعاملات المالية لا يقتصر على إقامة الكيل أو الوزن فحسب بل يتعدى ذلك إلى كل معاملة ، ومن لوازم ذلك أداء ما ثبت في الذمة على حاله من غير نقص يضر بصاحب الحق • وهذا هو الأقرب للعدالة والإنصاف ؛ لأن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما ، أما مع الاختلاف فلا تماثل •
2- رد ما ثبت في الذمة بقيمته في حال النقص الفاحش (التضخم) يتحقق فيه معنى التماثل المأمور به في قوله عليه السلام: (مثلاً بمثل)(1)؛ لأن المثلية هنا في القيمة الحقيقية لا في الصورة (2)•
3- القياس على الدراهم والدنانير وعلى المكيلات والموزونات فيما إذا انخفضت قيمتها قياس مع الفارق ؛ لأن هذه لها قيمة في أنفسها ، فإذا بطلت ثمنيتها أو نقصت أو بطلت فإنه لا يمكن الإفادة من عينها •
4- أما سدّ ذريعة الربا ؛ فإنه ممكن حتى في صورة اعتبار النقص الفاحش عيباً بأن تجعل القيمة من غير الجنس •
5- دفع الضرر أمر مقرر شرعاً ومن القواعد الشرعية المشهورة في ذلك (الضرر يزال)(3)، وفي الحكم بالقيمة في حال النقص الفاحش دفع للضرر(4)•
القول الثاني : وهو قول من يرى بأن نقصان قيمة النقود الفاحش أو غلاءها يوجب الرجوع إلى القيمة التي كانت عليها •
- وهذا الرأي منسوب إلى أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة وممن نسبه إليهما ابن عابدين في رسالته (تنبيه الرقود على مسائل النقود) نقلاً عن عدد من كتب الحنفية •
- ومنسوب إلى الرهوني من علماء المالكية •
- وهو قول ضعيف في مذهب الحنابلة • ونسبه الشيخ عبد الله أبابطين وغيره من متأخري علماء الحنابلة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية •
وهذا بيان ما ذكر في ذلك :
1- قال ابن عابدين في رسالته (تنبيه الرقود على مسائل النقود) نقلاً عن المنتقى : إذا غلت الفلوس قبل القبض ، أو رخصت قال أبو يوسف قولي، وقول أبي حنيفة في ذلك سواء ، وليس له غيرها ، ثم رجع أبو يوسف وقال عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ، ويوم وقع (القبض) وقوله يوم وقع البيع في صورة البيع ، وقوله يوم وقع القبض أي في صورة القرض كما نبه عليه في النهر •
ثم قال ابن عابدين بعد ذلك: وبه علم أن في الانقطاع قولين ، الأول: فساد البيع كما في صورة الكساد ، والثاني: أنه تجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع في المضمرات ، وكذا في الرخص والغلاء قولان أيضاً :
الأول : ليس له غيرها •
الثاني : له قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى (1)•
ونقل عن البزازية وعزاه إلى المنتقى قوله: (غلت الفلوس ، أو رخصت، فعند الإمام الأول ، والثاني أولاً ليس عليه غيرها ، وقال الثاني ثانياً: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع ، والقبض ، وعليه الفتوى • وهكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى) (1)•
2- وقال الرهوني في حاشيته تعليقاً على ما ذكره الشارح عن المالكية من ترتب المثل في الدراهم والدنانير التي قطع التعامل بها • قلت: وينبغي أن يقيّد ذلك بما إذا لم يكثر جداً حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه ؛ لوجود العلة التي علل بها المخالف (2)•
3- قال في المبدع : (وقيل: إن رخصت الفلوس فله القيمة) (3)•
4- قال في الدرر السنية : (إذا أقرضه ، أو غصبه طعاماً فنقصت قيمته ، فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصاً ، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل ؛ فإن المالين إنّما يتماثلان إذا استوت قيمتهما ، وأما مع اختلاف المالين فلا تماثل ••• وذكر أن النقص يوجب العيب ومعناه عيب النوع ؛ إذ ليس المراد عيب الشيء المعيَّن ؛ فإنه ليس هو المستحقّ ، وإنما المراد: عيب النوع ، والأنواع لا يعقل عيبها إلا في نقصان قيمتها ••• وأما رخص السعر فكلام الشيخ -يعني ابن تيمية- صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضاً ، وهو أقوى •
وقال في موضع آخر : وأما الشيخ تقي الدين فأوجب رد القيمة في القرض ، والثمن المعيّن ، وكذا سائر الديون فيما إذا كسدت مطلقاً ، وكذلك إذا نقصت القيمة فيما ذكروا في جميع المثليات) (4)•
أدلة القول الثاني : استدل من يقول بهذا القول بالأدلة العامة في الشريعة والتي توجب العدل ، وتنهى عن الظلم ، وبالقواعد الشرعية التي توجب الحفاظ على الحقوق وتمنع من الضرر والإضرار ، على ما سبق تفصيله في مناقشة أدلة أصحاب القول الأول •
مناقشة القول الثاني وأدلته :
1- الشريعة الإسلامية حرّمت الربا وسدّت المنافذ التي تؤدي إليه، ومن المعلوم أن النقود من الأموال الربوية وهي من المثليات فالقول بالرجوع فيها إلى القيمة في حال التضخم في حال الوفاء يلزم منه الزيادة في الجنس وهذا هو عين الربا •
2- أن العقد وقع على معيّن أو قابل للتعيين فلا يلزم من ثبت في ذمته غيره ، وليس لمن له الحق المطالبة بغيره ما دام أداؤه ممكناً •
3- ما نقل عن بعض العلماء من القول بالرجوع إلى القيمة في حال النقص الفاحش معارض بأن هذه أقوال ضعيفة خالفها ما هو أقوى منها عند أصحابها ، وجمهور أصحاب المذاهب على خلافها ، هذا على التسليم بصحة نسبتها إليهم كيف وهناك ما يدل على عدم صحة ذلك وإليك البيان:
أ- المنقول عن أبي يوسف رحمه الله من القول برد القيمة في القروض والبيوع المؤجلة في حال غلاء الفلوس ورخصها يخالف ما روته عنه الكتب المشهورة عند الحنفية ، والمعتمدة في تقرير المذهب كالمبسوط ، والهداية، وفتح القدير ، وبدائع الصنائع ، بل قد نقلت هذه الكتب إجماع الحنفية ومنهم الإمام وصاحباه على ردّ المثل •
والمذكور في كتب الحنفية المعتبرة مخالفة أبي يوسف لأبي حنيفة في مسألة كساد الفلوس في حالتي البيع والقرض حيث قال أبو يوسف بالقيمة • جاء في المبسوط قوله: (وإن استقرض عشرة أفلس ثم كسدت تلك الفلوس لم يكن عليه إلا مثلها في قول أبي حنيفة قياساً ، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: عليه قيمتها من الفضة استحساناً ؛ لأن الواجب عليه بالاستقراض مثل المقبوض ، والمقبوض فلوس هي ثمن وبعد الكساد يفوت وصف الثمنية بدليل مسألة البيع ، فيتحقق عجزه عن ردّ مثل ما التزم فيلزمه قيمته ••• بخلاف ما إذا غلت أو رخصت ؛ لأن صفة الثمنية لا تتغير بذلك ، ولكن تتغيّر بتغيّر رغائب الناس فيها) (1)•
وقال الكاساني في بدائع الصنائع: (ولو لم تكسد ولكنها رخصت قيمتها، أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع ، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً، ولا يلتفت إلى القيمة ههنا؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية ، ألا ترى أن الدراهم قد ترخص ، وقد تغلو وهي على حالها أثمان)(2)•
وقال في القرض: (ولو لم تكسد ولكنّها رخصت ، أو غلت فعليه ردّ مثل ما قبض بلا خلاف) أي: بين الإمام وبين صاحبيه • ومثل هذا في فتح القدير (3)•
ب- المنقول الثابت عن أبي يوسف أنه قال بالرجوع إلى القيمة في حال الكساد وبطلان الثمنية ، وهذا يلزم منه أنّه لا يقول بالقيمة في حال بقاء الثمنية ؛ لأن الغلاء والرخص لا تبطل بهما الثمنية بل هي باقية ، فكيف ينسب إليه ما يؤدي إلى معارضة قوله الصحيح الثابت عنه •
4- ما نسب إلى الرهوني فهم على غير وجهه الصحيح وليس هو ممن يقول بردّ القيمة في حال الغلاء والرخص ، على ما سيتضح من كلامه •
قال الرهوني: (ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب ، وصريح كلام آخرين منهم أن الخلاف السابق -أي في القول بالقيمة- محلّه إذا قطع التعامل بالسكّة القديمة ، وأمّا إذا تغيّرت بزيادة أو نقص فلا ، وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب) (4)•
وقد ضعّف الرهوني حجّة القائلين برد القيمة في حال قطع التعامل -وهو خلاف المشهور في المذهب المالكي- فقال: وقد يظهر بادئ الرأي أن مقابل المشهور أولى لما علّل به قائله من أن البائع إنّما بذل سلعته في مقابلة منتفع به لأخذ منتفع به ، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به ، وليس كذلك ؛ بل المشهور هو الذي يظهر وجهه ؛ لأن ذلك مصيبة نزلت به (1)•
- وقد ردَّ على من يقول بالقيمة في حال الانقطاع فقال: (وليس ضرر البائع هنا بأشدّ من ضرر من باع سلعة بعبد معين مثلاً ، فمات بيد صاحبه قبل أن يدفعه للبائع ، ونحو ذلك من المسائل الكثيرة ، مع أنهم راعوا حق البائع ، ولم يراعوا حق المشتري •••) (2)•
- وأما العبارة التي تعلّق بها من يدعي أن الرهوني يقول بالقيمة في حال الغلاء والرخص وهي قوله: (قلت: وينبغي أن يقيّد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جداً حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه ••) فهي لا تفيد ما ذكروه لأنه إنما ذكرها إلزاماً لمن يقول بالقيمة في حال الانقطاع من تعليل ينبغي على قوله أن ينسحب ذلك على حال الرخص الفاحش الذي يكون معه القابض للفلوس كالقابض لما لا كبير فائدة فيه • والدليل على ذلك أنه أبطل قول من قال بالقيمة بعد ذلك (3)•
5- ما نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية لا يثبت ؛ لأن كلامه منصب على ردّ القيمة في الفلوس ، والدراهم المكسّرة حال تحريم السلطان لها والفرق بين قوله وبين المذهب عند الحنابلة ، أن المذهب يقصر القول بالقيمة على القرض وقيمة المبيع أما هو فيقيس عليهما سائر الديون من بدل المتلف، والمغصوب ، والصداق ، والفداء ، والصلح عن القصاص ، والكتابة•
قال ناظم المفردات :
والنـص بالقـيمة في بطلانــها لا في ازدياد القدر ، أو نقصانها
بل إن غلت فالمثل فيها أحــرى كـدانـق عشريـن صار عشــرا
وشـيخ الإسلام فـتى تيميـــة قال : قياس القـرض عن جـليّـة
الطـرد في الديون والصــداق وعــوض الخلــع والإعتــــاق
والغصب والصلح عن القصاص ونحـو ذا طـراً بلا اختصــاص (1)
وقد اعتمد الشيخ أبابطين في نسبة القول برد القيمة في حال الغلاء والرخص إلى شيخ الإسلام ابن تيمية على كتاب شرح المحرّر مع أنه لا يوجد فيه نص على ذلك ، وإنما هو فهم فهمه من كلام الشيخ ، والمذكور في شرح المحرّر إنما هو القول برد القيمة في حال تحريم السلطان المعاملة بها (2)•
وبالنظر إلى ما تقدم من الأقوال وأدلتها ، ومناقشتها تتضح لنا الأمور التالية :
1- أن الفريق الأول الذي يرى أن الغلاء والرخص في النقود لا يعد عيباً ولا تُستحق به القيمة نظروا إلى أن الثمن المعقود عليه باق يمكن وفاؤه بمثله ، من غير زيادة ولا نقص ، كما أنهم لاحظوا سدّ ذريعة الربا في الجنس الواحد ، والمنع من الغرر •
أما الفريق الثاني : الذي قال بثبوت القيمة فقد نظروا إلى المعنى الحقيقي للثمن وأنه ليس هو الصورة وقالوا بأن القواعد العامة في الشريعة توجب العدل ، ورفع الضرر ، وعندما يحصل الرخص الفاحش فإن العدل لا يتحقق إلا بالقول بالقيمة التي وقع عليها العقد •
2- هذا الاختلاف اجتهادي ليس فيه نص قاطع يجب المصير إليه، ولهذا قال كل منهم بما ترجح لديه •
3- أن أقوال العلماء في المسائل الاجتهادية ليست كنصوص الشارع التي لا يجوز المحيد عنها ، وإنّما هي نتاج بحثهم واجتهادهم البشري، وعندما نبحث فيها ونتتبعها فإنما ذلك للاستئناس بها ، ولمعرفة الأدلة التي استندوا إليها ، وكيف استدلوا بها ، ومن ثم يمكن النظر في مدى انطباق ما قالوه على ما حدث من نوازل بعدهم •
4- إن المسائل التي تعلقت بها هذه الأقوال كانت في أحوال وأزمان تختلف كثيراً عما نحن عليه الآن في هذه الأزمنة ، وليس من السهل اليسير القول بتخريج أحكام هذه المسائل التي حدثت في زماننا على ما ذكره العلماء في الأزمنة الماضية ، وعلى هذا فالمسألة من النوازل الحادثة التي تحتاج إلى مزيد من البحث والتدقيق لتعرف أحكامها الشرعية •
عيوب النقد عند الفقهاء :
بعد هذا الذي قدمناه يمكن أن نجمل العيوب التي تطرأ على النقد بالمفهوم الفقهي لنرى مدى تأثيرها على العقود في الالتزامات الآجلة •
وقد ذكر الفقهاء أربعة عيوب على النحو التالي :
1- الكساد : وهو في اللغة من (كسد) قال ابن فارس: الكاف والسين والدال أصل صحيح يدل على الشيء الدّون لا يرغب فيه (1)• وهو أيضاً عدم النفاق ، يقال: كسد المتاع ، وكسدت السوق (2)•
وفي الاصطلاح : عند بعض الفقهاء عدم رواج النقود في جميع البلدان وعند بعضهم : عدم الرواج في بلد المتعاملين (3)•
2- الانقطاع : أصله في اللغة (قطع) قال ابن فارس : القاف والطاء والعين أصل صحيح واحد يدل على صرمٍ ، وإبانة شيء من شيء • يقال: قطعت الشيء أقطعه قطعاً • ومنه القطيعة للهجران (1)•
وفي اصطلاح الفقهاء : مأخوذ من هذا ، قال ابن عابدين : عدم وجود النقد في التعامل وإن كان يوجد عند الصيارفة أو في البيوت (2)• فكأنّ النقد بغيابه عن أيدي المتعاملين بان وانصرم عن جهة الوجود •
3- البطلان : مادته في اللغة (بطل) قال ابن فارس : الباء ، والطاء، واللام أصل واحد ، وهو ذهاب الشيء ، وقلة مكثه ، ولبثه (3)•
وقال الفيروزآبادي : بطل بُطلاً ، وبُطولاً ، وبُطلاناً بضمّهن ، ذهب ضياعاً وخُسراً (4)•
وفي اصطلاح الفقهاء : مأخوذ من هذا ؛ لأنه يعني تحريم السلطان التعامل بالنقد ، فكأنه بهذا ذهبت وضاعت فائدته •
وهذه العيوب الثلاثة قد يطلق بعضها على بعض في العرف (5)•
4- الغشّ : قال ابن فارس الغين ، والشين ، أصول تدلّ على ضعف في الشيء واستعجال فيه (6) ••• والغشّ عدم النصح (7)•
وهو في النقود مأخوذ من هذا المعنى ؛ لأنه يعني أن معدن النقود ليس كما يظنه المتعامل بها ؛ بل هو في الحقيقة مزيف يظهر منه الجودة ويختفي تحتها التزييف الذي يضعفها ويقلل من قيمتها • وهذا في الذهب، أو الفضة ، أو في النقود المتخذة من بعض المعادن أمر ظاهر ؛ لأنه يعني خلط بعض هذه المعادن بمعادن رديئة تقل قيمتها كثيراً عن قيمة الذهب أو الفضة أو غيرها من المعادن التي كانت تُسكّ منها النقود ، والتعامل بها على أنها خالصة مما يترتب عليه ربح دافعها ، وخسارة آخذها • ولكن هذا الأمر -وهو خلط مادة النقود بغيرها مما تقل قيمته عنها- غير متصور في النقود الورقية المعاصرة ، وإنما يتصور فيها الغش من ناحية تزييفها بجعلها على هيئة النقود الورقية التي تسكها الدولة ، وطرحها للتعامل بها بغية الإفادة منها في شراء سلع أو الوفاء بالتزامات معيّنة ، أو في استبدالها بعملة صحيحة ••• أو غير ذلك (1)•
وبالنظر إلى كتب الفقه نجد أن للعلماء في هذه الأمور الأربعة ثلاثة أقوال :
الأول : يرى أن هذه الأمور عيوب مؤثرة ولكن القائلين بها اختلفوا فيما يترتب على ذلك •
فذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن كساد النقود قبل القبض يترتب عليه فسخ العقد ، ويلزم المشتري ردّ المبيع إن كان قائماً وقيمته ، أو مثله إن كان هالكاً •
بينما ذهب صاحباه -أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله إلى أن عقد البيع لا يبطل والبائع مخيّر إن شاء فسخ البيع ، وإن شاء أخذ قيمة الفلوس •
وعند الشافعي في وجه ضعيف أن البائع مخيّر بين إمضاء العقد، بذلك النقد وبين فسخه •
وقال الزيلعي: (وصحّ البيع بالفلوس النافقة ، وإن لم يُعيّن ؛ لأنها أموال معلومة صارت ثمناً بالاصطلاح فجاز بها البيع ، ووجب في الذمة كالدراهم ، والدنانير وإن عينها لا تتعيّن ؛ لأنها صارت ثمناً بالاصطلاح••)•
ثم قال: (وإن كسدت أفلس القرض يجب ردّ مثلها ، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : يجب عليه ردّ قيمتها ؛ لأنه تعذّر ردّها كما قبضها ؛ لأن المقبوض ثمن ، والمردود ليس بثمن ، ففاتت المماثلة ، فتجب القيمة كما لو استقرض مثلياً فانقطع عن أيدي الناس ، لكن عند أبي يوسف تعتبر قيمته يوم القبض ، وعند محمد يوم الكساد •••) (1)•
قال ابن عابدين: (اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشّها ، أو بالفلوس ولم يسلمها للبائع ، ثم كسدت بطل البيع - والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد- ويجب على المشتري ردّ المبيع لو كان قائماً ومثله أو قيمته لو كان هالكاً ، وإن لم يكن مقبوضاً فلا حكم لهذا البيع أصلاً• وهذا عنده -أي: عند أبي حنيفة- وعندهما لا يبطل البيع ؛ لأن المتعذّر : التسليم بعد الكساد ، وذلك لا يوجب الفساد ؛ لاحتمال الزوال بالرواج ، لكن عند أبي يوسف: تجب قيمته يوم البيع ، وعند محمد يوم الكساد • وهو: آخر ما تعامل الناس بها) (2)•
وقال السيوطي: (••• ومنها ثمن ما بيع به في الذمّة ، قال في الروضة، وأصلها: لو باع بنقد معيّن ، أو مطلق ، وحملناه على نقد البلد ، فأبطل السلطان ذلك النقد لم يكن للبائع ، إلا ذلك النقد ، كما لو أسلم في حنطة فرخصت ، فليس له غيرها ، وفيه وجه شاذّ ضعيف أنّه مخيّر إن شاء أجاز النقد بذلك النقد ، وإن شاء فسخه كما لو تعيّب) (3)•
الثاني : يرى أن هذه الأمور ليست من العيوب المؤثرة وبالتالي فلا يترتب على وقوعها شيء ما دام أن المثل ممكن الأداء وهو القول المشهور عند المالكية ؛ والصحيح من المذهب عند الشافعية ، إلا أن المالكية يرون أن المثل إذا عدم في بلد المعاملة ترتبت القيمة •
قال الحطاب في شرح قول خليل: (وإن بطلت فلوس فالمثل ، أو عدمت فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم) يعني: أن من أقرض فلوساً ، أو باع بها سلعة ثم إنه بطل التعامل بتلك الفلوس ، وصار التعامل بغيرها، فإنه يجب له الفلوس ما دامت موجودة ، ولو رخصت ، أو غلت ، فإن عدمت بالكلية فلم توجد فله قيمة الفلوس من يوم يجتمع استحقاقها ، أي: وجوبها ، وحلولها ، وعدمها • أي: انقطاعها ، ويحصل ذلك بالأخير منهما، فإن كان الاستحقاق أولاً فليس له القيمة إلا يوم العدم ، وإن كان العدم أولاً فليس له إلا القيمة يوم الاستحقاق كأقصى الأجلين في العدة) •
ثم قال: (تنبيه: لا خصوصية في الفلوس ، بل الحكم كذلك في الدنانير، والدراهم ، كما أشار إليه في كتاب الصرف من المدونة ، وصرح به في التلقين ، والجلاب وغيرهما • قال في التلقين : ومن باع بنقد ، أو قرض ثم بطل التعامل به لم يكن له غيره إن وجد ، وإلا فقيمته إن فقد) (1)•
ومثل هذا في أقرب المسالك (2)•
وقال في المجموع مبيناً المذهب عند الشافعية: (إذا باع بنقد معين ، أو بنقد مطلق ، وحملناه على نقد البلد، فأبطل السلطان المعاملة به قبل القبض، قال أصحابنا: لا ينفسخ العقد ، ولا خيار للبائع ، وليس له إلا ذلك النقد المعقود عليه ، كما لو اشترى حنطة فرخصت قبل القبض ، أو أسلم فيها فرخصت قبل المحلّ فليس له غيرها • هكذا قطع به الجمهور •••) (3)•
الثالث : يرى أنه إذا كانت الفلوس أو الدراهم مكسرة وحرّمها السلطان وتركت المعاملة بها ترتّبت القيمة في حالتي القرض والبيع خاصة ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية طرد القول بالقيمة في حال تحريم السلطان في سائر الديون • وهو قول ابن عتاب ، وابن دحون من فقهاء المالكية •
قال ابن قدامة: (ولو كان القرض فلوساً ، أو مكسرة فحرّمها السلطان، وتركت المعاملة بها ، كان للمقرض قيمتها ، ولم يلزمه قبولها ، سواء أكانت قائمة في يده ، أو استهلكها ؛ لأنها تعيبت في ملكه •
وقال القاضي -أبو يعلى- هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزم أخذها) (1)•
وقال ناظم المفردات :
والنـص بالقـيمة في بطلانــها لا في ازدياد القدر ، أو نقصانها
بل إن غلت فالمثل فيها أحــرى كـدانـق عشريـن صار عشــرا
وشـيخ الإسلام فـتى تيميـــة قال : قياس القـرض عن جـليّـة
الطـرد في الديون والصــداق وعــوض الخلــع والإعتــــاق
والغصب والصلح عن القصاص ونحـو ذا طـراً بلا اختصــاص
وقال الشارح: (يعني أن النص في ردّ القيمة إنّما ورد عن الإمام أحمد فيما إذا أبطلها السلطان فمنع المعاملة بها ، لا فيما إذا زادت قيمتها ، أو نقصت مع بقاء التعامل بها ، وعدم تحريم السلطان لها ، فيرد مثلها، سواء غلت أو رخصت ، أو كسدت ••• لأنه لم يحدث فيها شيء إنّما تغيّر السعر ، فأشبه الحنطة إذا رخصت ، أو غلت) •
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح المحرر: (قياس ذلك -أي: القرض فيما إذا كان مكسرة ، أو فلوساً وحرّمها السطان ، وقلنا برد قيمتها جميع الديون ، من بدل المتلف ، والمغصوب ، والصداق ، والفداء، والصلح عن القصاص ، والكتابة ••) (1)•
وقال الونشريسي: (سئل ابن الحاج عمّن عليه دراهم فقطعت تلك السكة فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام ، ومحمد بن عتاب حيّ، ومن معه من الفقهاء فانقطعت سكّة ابن جهور: لدخول ابن عباد بسكة أخرى ، فأفتى الفقهاء بأنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة ، وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ، ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب ••• وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله تعالى يفتي بالقيمة يوم القرض ، إنّما أعطاه على العوض ، فله (العوض) (2)•
هذه هي العيوب التي ذكرت عند جمهور الفقهاء •
والمتأمل يجد أن العيوب الثلاثة : الكساد ، والانقطاع ، والبطلان ، غير متحققة في النقود الورقية المعاصرة ذلك أنه مهما حصل لها من انخفاض في قيمتها الشرائية فإن رغبات الناس فيها لا تنقطع ولا تقل ، لأنها هي وسيلة التبادل ومقياس التقويم الذي يتعاملون به • نعم يتصور في بعض الحالات النادرة كساد النقود أو بطلانها بسبب الحروب الأهليّة مما ينتج منه إسقاط العملة الدارجة بين الناس ، ولكن حتى في مثل هذه الأحوال درج العرف على أن الحكومات التي تخلف غيرها في التقلبات ، تسكّ عملة جديدة بديلة عن العملة السابقة وتعطي للناس مهلة لاستبدالها بما لديهم من عملة قديمة (3)•
أما العيب الرابع (الغش) فهو الذي يمكن اعتباره موجوداً في العملات الورقية في حال (تزييف العملة) فإذا دفع لمن له دين أو ثمن عملة مزيّفة، ثبت له الحق في عملة صحيحة : لأن الثمنيّة في الأوراق النقدية كما تقدم مسألة اعتبارية ، فإذا سقط الاعتبار فيها لتزييفها لم يبق لها نصيب في الثمنية فيتعلق الحق ببدلها من العملة الصحيحة المعتبرة •
ولكن هل هناك أمور أخرى يمكن عدّها عيوباً مؤثرة في النقد في العصر الحاضر ؟
لا شك أن صور التضخّم الجامح الذي ينتج منه التدهور الشديد - الرخص الفاحش في قيمة النقود ، والذي أصبح سمة بارزة في النقود الورقية في كثير من الأحيان في هذا الزمن أمر لم يكن للناس به عهد في الأزمنة القديمة، لابدّ من بحثه بحثاً دقيقاً حتى يتضح أمره ، وهل يعدّ عيباً مؤثراً في العملة بحيث يمكن إلحاقه بالعيوب الأخرى المؤثرة فيها أو لا ؟ •
ولهذا فسأحاول أن أناقش المسألة من جانب آخر ، وهو بحث مفهوم العيب ، ومدى انطباقه على التضخم (رخص النقود) •••
وبالرجوع إلى كتب اللغة نجد أن كلمة العيب تعني النقص • قال في الصحاح: العيب ، والعاب ، والعيبة بمعنى واحد ، تقول: عاب المتاع أي: صار ذا عيب ، وتقول ما فيه معابة ، ومعاب ، أي: عيب ، قال الشاعر:
أنا الرجل الذي قد عبتموه وما فيه لعياب معاباً (1)•
وقال في القاموس: (العيب ، والعاب ، الوصمة) (2)•
وقال الراغب: العيب ، والعاب : الأمر الذي يصير به الشيء عيبة ، أي: مقرّاً للنقص (3)•
وقد جاء معنى العيب بهذا في القرآن والسنة •
ففي القرآن قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ، قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً (1)•
ثم قال الخضر مفسّراً لموسى سبب صنيعه: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً (2)• فبيّن الخضر أن الخرق ، وهو انتقاص من السفينة عيب (3)•
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الدارمي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب الصدقة ، وذكر فيه قوله عليه السلام: (ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ، ولا ذات عوار ، ولا ذات عيب) (4)•
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله مرّ بالسوق ، داخلاً من بعض العالية ، والناس كنفَيْهِ، فمرّ بجَديٍ أَسَكَّ -صغير الأذنين- ميّت فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: (أيّكم يحبّ أن هذا له بدرهم ؟) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء ، وما نصنع به ؟ قال: (أتحبون أنَّه لكم ؟) قالوا: والله لو كان حيّاً كان عيباً فيه ؛ لأنه أَسَكُّ، فكيف وهو ميّت ؟ فقال: (فوالله ! للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) (5)•
فقد جعل الصحابة نقص الأذن في هذا الجدي عيباً •
وهو في الاصطلاح الفقهي قريب من هذا •
1- قال ابن رشد في كتابه بداية المجتهد: (العيوب التي لها تأثير في العقد هي عند الجميع: ما نقص عن الخلقة الطبيعية أو عن الخلق الشرعي نقصاناً له تأثير في ثمن المبيع ، وذلك يختلف بحسب اختلاف الأزمان، والعوائد ، والأشخاص) (1)•
2- وقال ابن قدامة في المغني: (فصل في معرفة العيوب: وهي النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار ؛ لأن المبيع إنما صار محلاً للعقد باعتبار صفة المالية ، فما يوجب نقصاً فيها يكون عيباً ، والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن ، وهم التجار •••) (2)•
3- وقال ابن الهمام في تعريفه: (كل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب) (3)•
4- وقال القونوي: (وهو نقص خلا عنه أصل الفطرة السليمة) (4)•
5- وقال ابن حجر الهيثمي في تحفة المحتاج بشرح المنهاج في بيان العيب: (وهو: وجود كل ما ينقص العين ، أو القيمة نقصاً يفوت به غرض صحيح) (5)•
ولو حاولنا تلمّس هذا المعنى الذي ذكروه للعيب في صورة التضخم (الرخص الفاحش) فإنا نقطع بوجوده ؛ إذ إنه نقص محقّق للمالية في عرف أهل الشأن وهم: التجار ، وأصحاب المصارف فهو عيب في عرفهم •
وهذا الأمر -رخص النقود- وإن لم يكن مؤثراً عند كثير من العلماء الأقدمين ؛ إلا أن تغيّر الأحوال في هذا الزمن وشيوع النقص -الرخص- وتأثيره البالغ في الالتزامات المالية مما يؤدي إلى ضرر محقق ، وينتج منه أكل الأموال بالباطل يجعل القول بأنه عيب مؤثر أمراً واضحاً لا غرابة فيه حتى ولو لم يكن مؤثراً فيما مضى من الأزمنة ، فقد كان الصناع في الصدر الأول لا يضمنون ما تلف بأيديهم من أموال الناس ؛ نظراً لأن أيديهم أيدي أمانة ، فلما فشا الكذب في الناس قضى الصحابة بتضمينهم ما تلف بأيديهم من أموال الناس حفاظاً علىها (1)•
ولم يرد في الشرع تحديد لمقدار العيب ، ولا حصر لكل أنواعه والقاعدة الفقهية تقضي بأن كل ما لم يرد له تحديد في الشرع يرجع في تحديده إلى العرف مثل حدّ الكفاية ، ومقدار النفقة ، والقلّة ، والكثرة (2)•
والفقهاء الذين لم يعتبروا (الرخص) عيباً فيما مضى كانوا يقصدون صوراً معينة في أزمنتهم تختلف كثيراً عمّا يوجد في هذا الزمن ، ولهذا لا ضير في تطبيق مفهوم العيب على صورة التضخم التي حدثت في زمننا هذا أخذاً من المفهوم المقرر لدى العلماء للعيب ، وحرصاً على مراعاة المقصد الشرعي في الحافظ على المال ، وحتى لا ينسدّ باب التعامل ولكن لا بدّ في هذا من مراعاة الضوابط الشرعية التالية :
1- أن يكون النقص الحاصل بالتضخم غير متوقع عند التعاقد أما لو كان متوقعاً ، وبخاصة في العقود المؤجلة التسليم ونحوها ، وزيد في الثمن تحسباً لتقلبات السعر حال التأجيل ، فإن التضخم حينئذ لا يكون عيباً ؛ لأن صاحب الثمن قد دخل على بيّنة فهو كمن رضي بالعيب حال العقد •
قال الكاساني: (ومنها جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض، فإن كان عالماً به عند أحدهما فلا خيار له ؛ لأن الإقدام على الشراء مع العلم بالعيب رضا به دلالة) (3)•
وقال في المجموع: (المشتري للعين المعيبة تارة يكون عالماً بعيبها وتارة لا يكون ••• إن كان عالماً فلا خلاف أنه لا يثبت له الخيار لرضاه بالعيب)(1)•
وقال ابن شاس: (المانع الثالث -أي من موانع الخيار- ظهور ما يدل على الرضا بالعيب من قول أو فعل ، أو سكوت) (2)•
وقال في كشاف القناع: (فمن اشترى معيباً لم يعلم حال العقد عيبه ثم علم بعيبه فله الخيار) (3)•
2- أن يكون التضخم (الرخص) فاحشاً ، ويعرف مقدار كونه فاحشاً بالرجوع إلى أهل الخبرة ، فإن لم يكن كذلك فإنه لا يعد عيباً ، ويدخل تحت قاعدة اغتفار ما يتغابن فيه الناس عادة (4)•
وقد حاول بعض الباحثين تقديره بالثلث ، أو بالنصف ، وألحقوه بالجائحة ؛ باعتبار أن هذا الأمر لا يمكن دفعه إن علم •
ومحل الجوائح وإن كان في الثمار والبقول في المبيعات ، إلا أن العلماء نظروا في معناها وألحقوا بها غيرها كما أن تقدير الفاحش بما بلغ حدّ الثلث أو النصف ونحو ذلك أمر لا يمكن التزامه في كل حال ؛ لاختلاف الأعراف ، والأزمنة وكثرة الثمن وقلّته ، فالأرجح إناطة ذلك برأي أهل الخبرة •
3- أن تُقدَّر القيمة في النقود بغير الجنس حتى تُسدّ ذريعة الربا فيما إذا تمّ التقدير الجنس ؛ لأن العدد سيزيد حينئذ فلا مناص من الرجوع إلى جنس آخر حسماً لذريعة الفساد •
مدى صحة اشتراط ضمان قيمة ما ترتب في الذمّة في صلب العقد :
إذا نظرنا إلى انخفاض قيمة النقود على أنه جائحة ، أو عيب فإنا قبل أن ننظر في ضمان قيمة هذه النقود لا بدّ أن نعرّج على تقسيمات العلماء للشروط في العقود ، فقد قسّموها تقسيمات عديدة ليس هنا مجال تفصيلها والمشهور من تقسيماتهم جعلها نوعين :
الأول : ينافي مقتضى العقد ، أو مقتضى الشرع ، ومن ثمّ فهو باطل في نفسه ، والعقد صحيح ، أو باطل في نفسه مبطل للعقد ، كشرط ما يؤدي إلى الغرر ، أو الجهالة ، أو الربا ، أو ما يبطل فائدة العقد المقصودة منه ، كمن باعه داراً وشرط عليه ألا يسكنها ، أو زوّجه امرأة ، وشرط عليه ألا يطأها (1)•
يقول الإمام ابن تيمية: (والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع ، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق ؛ فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ، ولا مقصوده ؛ فإن مقصوده الملك ، والعتق قد يكون مقصوداً للعقد ؛ فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيراً ، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد ، وإنّما ينافي كتاب الله ، وشرطه ، كما بيّنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (كتاب الله أحق وشرط الله أوثق) (2)•
فإذا كان الشرط منافياً لمقصود العقد كان العقد لغواً ، وإذا كان منافياً لمقصود الشارع كان مخالفاً لله ورسوله ••) (3)•
الثاني : لا ينافي العقد ، وهو على أقسام :
أ- قسم يقتضيه العقد ، مثل : اشتراط التسليم ، والتقابض في الحال، فهذا لا يؤثر وجوده في صحة العقد •
ب- قسم لا يقتضيه العقد ، ولكنه من مصلحته ، كاشتراط الرهن، والخيار ، أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع فهذا الشرط صحيح •
ج- قسم لا يقتضيه العقد ، ولا هو من مصلحته ، ولكنّه لا ينافي مقتضاه ، إذا تراضيا عليه مثل اشتراط منفعة للبائع ، كركوب الدابة المبيعة مدّة معينة ، أو مسافة معلومة ، أو سكنى الدار المبيعة مدة معلومة • فهو صحيح لعدم إخلاله بمقصود العقد ، وعدم معارضته للشرع (1)•
يقول الإمام ابن تيمية في هذا القسم: (العقود ، والشروط من باب الأفعال العاديّة ، والأصل فيها عدم التحريم ، فيستصحب عدم الحرمة فيها حتى يدل دليل على التحريم ••• وقوله تعالى: وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم (2)، عام في الأعيان ، والأفعال ، وإذا لم تكن حراماً لم تكن فاسدة••• وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة •••
ويقول: ولا تحرم عادة إلا بتحريم الله ، والعقود ••• من العادات يفعلها المسلم ، والكافر ، وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق ، والصدقة) (3)•
ويقول في موطن آخر: (الأصل في العقود رضا المتعاقدين ، وموجبها ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد لأن الله قال في كتابه العزيز: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم (4)، وقال: فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً (1)، فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدلّ على أن ذلك الوصف سبب للحكم •
وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق ، فكذلك سائر التبرعات قياساً عليه •••
وكذلك قوله: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، لم يشترط في التجارة إلا التراضي ، وذلك يقتضي أن هذا التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة ، أو طابت نفس المتبرع بتبرّع ثبت حلّه بدلالة القرآن ، إلا أن يتضمن ما حرّم الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك (2)•
وإذا عدنا إلى موضوعنا ، ونظرنا إلى مسألة اشتراط ضمان انخفاض قيمة النقود في العقد ، وحاولنا تطبيقها على الصور المتقدمة ، فإنّا نجد بظاهر النظر أن هذا الشرط قد يؤدي إلى الغرر ؛ لأن العاقد الذي ترتّب في ذمته حق لغيره لا يدري مقدار هذا الحق عند ال
يبيح التعويض عنه
د • حمزة بن حسين الفعر
مقدمة :-
تُعد مشكلة انخفاض قيمة النقود والتي يعبّر عنها في الاقتصاد المعاصر بـ(التضخّم) من أعقد المشكلات التي تهز كيان الاقتصاد في الدول وعلى الأخص في البلدان الفقيرة ، أو في البلدان التي تسمى (النامية) لأن هذه النقود أداة تنمية ، ووسيط المبادلات والقيمة التي تقدر بها الأشياء، فإذا اختلت واهتزت ، اهتز تبعاً لها الاقتصاد •
وقد قدمت بحوث ودراسات وألفت مؤلفات في بيان التضخم وشرح أسبابه ، ومحاولة علاجه ، إلا أن هذه الدراسات والبحوث والمؤلفات لم تستطع الوصول إلى حل حاسم لهذه المشكلة ، لأن أسبابها متعددة متداخلة وبعضها من خارج الاقتصاد وبعضها من داخله ، كما أن للبيئة المحيطة أيضاً آثاراً ملموسة في التأثير إيجاباً أو سلباً في هذه المشكلة (1)•
ولما كان العالم الإسلامي مرتبطاً ببقية أجزاء العالم الأخرى بشكل أو بآخر ، فإنه لا يعيش بمعزل عن تلك المؤثرات العالمية ، فهي تؤثر فيه، وتسبب لاقتصاده زلازل عنيفة يمتد أثرها إلى عمقه الاجتماعي والسياسي وبنيته الاقتصادية •
وقد حرصت المجامع الفقهية في العالم الإسلامي وعلى الأخص -مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي- على بحث هذه القضية واستكتاب المختصين من فقهاء واقتصاديين في جوانبها المختلفة بغية الوصول إلى حل يتسق مع قواعد الشريعة لعلاج هذه المشكلة، وعقدت لذلك ندوات عديدة ، لم تتمخض بعد عن الوصول إلى الهدف المنشود ، مع ما بذله العلماء والباحثون فيها من جهود مشكورة ، ألقت الضوء على أهم جوانب المشكلة ومهدت الطريق لجهود أخرى علّها تصل إلى ما تتطلع إليه هذه المجامع •
وانطلاقاً من هذا فقد أحببت أن أقوم بالبحث -مستعيناً بالله- في أحد جوانب هذا الموضوع لبيان حكمه من الناحية الفقهية ، واخترت أن يكون العنوان :
(مدى اعتبار التضخم عيباً في العملة يبيح التعويض عنه) •
ü وقد قدمت لذلك بتمهيد تناولت فيه التعريف بالتضخم •
ü ثم ذكرت أقوال العلماء في اعتبار التضخم (الرخص) عيباً يستوجب التعويض وذكرت أدلتهم ، وناقشتها •
ü ثم ذكرت العيوب التي تطرأ على النقد بالمفهوم الفقهي وما يترتب على هذه العيوب عند الفقهاء •
ü ثم حاولت بحث وجود هذه العيوب في النقود المعاصرة وانتقلت من ذلك إلى تلمس عيوب أخرى طرأت على النقود المعاصرة مثل التضخم (الرخص) ومدى صحة اعتباره عيباً، وحاولت تأصيل الموضوع بالرجوع إلى دلالات اللغة ، ونصوص الشرع، وما قعده العلماء من القواعد والضوابط •
ü ثم ختمت بالبحث في مدى صحة اشتراط ضمان قيمة ما ترتب في الذمة في صلب العقد •
وأسأل الله جلت قدرته العصمة من الخطل والزلل ، والتوفيق للصواب بمَنِّه وكرمه • إنه ولي ذلك والقادر عليه •
تعريف التضخم :
1- التضخّم في اللغة ، تفعّل من الضّخامة • يقال: ضَخُمَ ضَخَامَةً وضِخَماً فهو ضَخْمٌ ، وضُخَامٌ •
والضّخم : الغليظ من كل شيء ومنه قول رؤبة :
ü ضَخْمٌ يحب الخلق الأضخمَا ü (1)
ولعله في الاصطلاح مأخوذ من هذا نظراً لكثرته التي تتدرج حتى تصير إلى حال غليظة •
2- التضخم في الاصطلاح :
لا يوجد تعريف واحد محدّد متفق عليه بين جميع الاقتصاديين للتضخم، وذلك ؛ لأنه ظاهرة معقدة تنتج من أسباب عديدة ، وربما لاحظ كل منهم جانباً معيناً من هذه الجوانب عند التعريف ، وإن كانت تعريفات التضخّم تتلاقى عند معنى كونه : ارتفاعاً مستمراً في المستوى العام للأسعار يقابله انخفاض مستمر في القيمة الشرائية للنقود (2)•
فهو على هذا ظاهرة من الظواهر التي تعرض للنقود فلا تبطلها وتمنع التعامل بها ، ولا تقلل الرغبة فيها ، ولكنها تخفض قيمتها وقوتها الشرائية•
ومن المعلوم أن النقود الورقية هي أثمان الناس في هذه الأزمنة ؛ لأنها وسيلة التبادل والإبراء ومقياس التقويم ، وهي مع ذلك تتمتّع بالقبول العام من الناس ، ويؤيدها ويقويها ضمان الدولة لها ، وانفرادها بسكّها والرقابة الصارمة عليها • والثمنيّة عند التحقيق والتمحيص أمر اصطلاحي ؛ إذا تعارف الناس عليه واستقر في شيء من الأشياء بحيث يلقى القبول العام منهم ، ويكافي في المبادلات والتقويم كان هذا الشيء الذي استقر العرف عليه حينئذ ثمناً بقطع النظر عن مادته هو ، ولهذا قال الإمام مالك رحمة الله عليه في كتاب الصرف من المدونة :
(ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكّة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نَظِرة) (1)•
وجاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه في مجموع الفتاوى قوله: (وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حدّ طبعي ولا شرعي ، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح ، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معياراً لما يتعاملون به ، والدراهم والدنانير لا تُقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها ، ولهذا كانت أثماناً •••) (2)•
وبناء عليه فإن الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس في هذه الأزمنة نقود ، لا شك فيها ، لأنها هي الوسيلة التي تحظى بالقبول العام منهم للتبادل وتقويم الأشياء ، وليست هناك نقود غيرها لهم ، وهذا الرأي هو ما انتهت إليه المجامع الفقهية وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية•
فقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: (أنها نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها الأحكام المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما) (3)•
وجاء في قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية :
(أن الورق النقدي يعتبر نقداً قائماً بذاته كقيام النقدية في الذهب، والفضة ، وغيرهما من الأثمان •••) (4)•
وجاء قبل ذلك في قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة (5)•
والقول بعدم ثمنيتها تترتب عليه مفاسد كبيرة منها عدم وجوب الزكاة في عينها ، وعدم جريان الربا فيها ، وعدم جواز السَّلَمِ بها لدى من يقول باشتراط كون أحد العوضين نقداً من ذهب أو فضة أو معدن غيرهما • إلى آخر ما هنالك من المفاسد (1)•
وقد تطرق الخلل إلى الآراء التي لا تقول بثمنية الأوراق النقدية من جهة قصر الثمنية على الذهب والفضة ، ومن جهة تشبيهها بالفلوس المعروفة في الأزمنة الماضية والتي كانت تتخذ من غير الذهب والفضة من أنواع المعادن الأخرى - وتقوم إلى جانب العملات الذهبية والفضية باعتبارها عملات مساعدة •
وقد تقدمت الإشارة إلى أن الثمنية أمر عرفي اصطلاحي لا علاقة له بنوع ما اصطلح عليه ، ولا بمادته •
أما تشبيهها بالفلوس ، فأمر لا يصح لأن الفلوس كانت تقوم إلى جوار عملات الذهب والفضة وتقدر بها ، فالعملة المعتمدة آنذاك للثمنية إنما هي الدراهم والدنانير وغالباً ما كانت الفلوس تستعمل في محقرات الأمور وقد تكسد وتنقطع مع وجود الذهب والفضة نتيجة لعوامل عديدة •
بقي أن يقال: إن النقود قد تختلف من حيث مادتها المتخذة منها في حال كسادها ، أو بطلان ثمنيتها ، فالمتخذة من الورق النقدي وما في حكمه إذا بطلت ثمنيتها لم تبق لها قيمة في نفسها ، أما المتخذة من الذهب أو الفضة ، أو من الأحجار والمعادن الثمينة ونحو ذلك فإنها إذا بطلت ثمنيتها بقيت قيمتها الذاتية ، فيمكن بيعها والانتفاع بها حينئذ لاستعمالها في غرض آخر تصلح له •
ولكن هذا الفارق غير مؤثر في اعتبار الثمنية لأنها كما تقدم بالاصطلاح والتعارف •
اعتبار التضخم عيباً في العملة يستوجب التعويض :
المتتبع لكلام العلماء يجد قولين متقابلين في هذه المسألة :
1- الأول وهو المشهور عند أرباب المذاهب الأربعة : أن التضخم (الرخص) لا يعد عيباً يستوجب التعويض ، والمسألة مفروضة أساساً عندهم في البيع ، وألحق به بعضهم القرض والإجارة وغيرها من المعاملات -على ما سيظهر من كلامهم- وسأنقل عنهم من كلامهم جملاً واضحة تدل على هذا الرأي :
1- الحنفية : قال في المبسوط: (لو اشترى مائة فلس بدرهم فقبض الفلوس أو الدراهم ثم تفرقا جاز البيع ؛ لأنهما تفرقا عن عين بدين فإن كسدت الفلوس بعد ذلك ، فإنه ينظر ، إن كان الفلوس هو المقبوض فلا يبطل البيع ؛ لأن كساد الفلوس بمنزلة هلاكه ، وهلاك المعقود عليه بعد القبض لا يبطل البيع • ولو كان الفلوس غير مقبوض بطل البيع استحساناً؛ لأن كساد الفلوس بمنزلة هلاكه ، وهلاك المعقود عليه قبل القبض يبطل البيع •
والقياس أنه لا يبطل ؛ لأنه قادر على أداء ما وقع عليه العقد • وقال بعض مشايخنا : إنما يبطل العقد إذا اختار المشتري إبطاله وفسخه ، لأن كسادها بمنزلة عيب فيها والمعقود عليه إذا حدث فيه عيب قبل القبض يثبت للمشتري فيه الخيار ، والأول أظهر •
ولو نقد الدرهم وقبض من الفلوس نصفه خمسين ثم كسدت الفلوس، بطل البيع في نصفه ، وله أن يستردّ نصف درهم ، ولو اشترى فاكهة، أو شيئاً بعينه بفلوس ثم كسدت الفلوس قبل أن ينقدها، وقد قبض المبيع فسد البيع وعليه أن يرد المبيع إن كان قائماً ، وقيمته أو مثله إن كان هالكاً ••• وفي المسألتين جميعاً إذا لم تكسد الفلوس غير أن قيمتها غلت ، أو رخصت، فلا يبطل البيع ، وعليه أن ينقد مثل العدد الذي أوجبه العقد ، ولا ينظر إلى القيمة (1)•
وقال الكاساني: (•• ولو لم تكسد ، ولكنها رخصت قيمتها ، أو غلت، لا ينفسخ البيع بالإجماع ، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ، ولا يلتفت إلى القيمة ههنا ؛ لأن الرخص والغلاء لا يوجب بطلان الثمنية ، ألا ترى أن الدراهم قد ترخص ، وقد تغلو ، وهي على حالها أثمان) (2)•
2- المالكية : قال في المدونة : في رجل أقرض فلوساً ففسدت أو دراهم فطرحت ، قلت: أرأيت إن استقرضت فلوساً ففسدت الفلوس ، فما الذي أردّ على صاحبي ؟
قال: قال مالك : تردّ عليه مثل تلك الفلوس التي استقرضت منه ، وإن كانت قد فسدت •
قلت : فإن بعته سلعة بفلوس ففسدت الفلوس قبل أن أقبضها ؟ قال مالك: لك مثل فلوسك التي بعت بها السلعة الجائزة بين الناس يومئذ ، وإن كانت الفلوس قد فسدت فليس لك إلا ذلك • قال: وقال مالك في القرض والبيع في الفلوس إذا فسدت فليس له إلا الفلوس التي كانت ذلك اليوم وإن كانت فاسدة (3)•
وقال الدردير: (إن بطلت معاملة من دنانير ، أو دراهم ، أو فلوس ترتبت لشخص على غيره من قرض ، أو بيع ، وتغير التعامل بها بزيادة أو نقص (فالمثل) أي فالواجب قضاء المثل على من ترتبت في ذمته إن كانت موجودة في بلد المعاملة ، (وإن عدمت) في بلد المعاملة ؛ وإن وجدت في غيرها (فالقيمة يوم الحكم) أي تعتبر يوم الحكم بأن يدفع له قيمتها عرضاً ، أو يقوم العرض بعين من المتجددة •••) (1)•
3- الشافعية : قال الإمام الشافعي: (ومن سلّف فلوساً ، أو دراهم أو باع بها ثم أبطلها السلطان فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي أسلف، أو باع بها) (2)•
وقال في المجموع: (إذا باع بنقد معين ، أو بنقد مطلق ، وحملناه على نقد البلد ، فأبطل السلطان المعاملة به قبل القبض ، قال أصحابنا: لا ينفسخ العقد ، ولا خيار للبائع ، وليس له إلا ذلك النقد المعقود عليه ، كما لو اشترى حنطة فرخصت قبل القبض ، أو أسلم فيها فرخصت قبل المحل ، فليس له غيرها ، هكذا قطع به الجمهور •••) (3)•
وقال الماوردي في الحاوي: (وإذا حصلت في ذمة رجل دراهم موصوفة وكانت نقداً يتعامل الناس به ، فحظر السلطان المعاملة بها ، وحرّمها عليهم، لم يستحق صاحب الدراهم غيرها ، ولم يجز أن يطالب بقيمتها •••) (4)•
4- الحنابلة : قال ابن قدامة في كتاب الكافي في باب القرض: (فإن أقرض فلوساً أو مكسرة فحرمها السلطان ، وتركت المعاملة بها ، فعليه قيمتها يوم أخذها ، نصّ عليه ؛ لأنه منع إنفاقها ، فأشبه تلف أجزائها، فإن لم تترك المعاملة بها لكن رخصت فليس له إلا مثلها لأنها لم تتلف ، إنما تغيّر سعرها ، فأشبهت الحنطة إذا رخصت) (5)•
وقال في المغني في كتاب القرض: (وأما رخص السعر فلا يمنع ردّها، سواء كان كثيراً مثل أن كانت عشرة بدانق ، فصارت عشرين بدانق، أو قليلاً ؛ لأنه لم يحدث فيها شيء ، إنما تغير السعر ، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت) (1)•
وقال في شرح منتهى الإرادات في باب القرض: (ويجب على مقترض ردّ مثل فلوس اقترضها ، ولم تحرم المعاملة بها ، غلت أو رخصت أو كسدت ، لأنها مثلية) (2)• وذكر مثل ذلك في كشاف القناع (3)•
وبتأمل ما ذكر عن أصحاب هذا الرأي نستطيع أن نستخلص حججهم التي استندوا إليها وهي كالتالي :
1- أن هذه الأثمان هي التي وقع عليها العقد وهي قائمة بأعيانها أو بأمثالها ، فليس له إلا ما وقع العقد عليه •
2- القياس على الدراهم والدنانير وعلى المكيلات والموزونات ، فإنه إذا وقع العقد عليها وغلت أو رخصت ، فإنه ليس له غيرها بالإجماع فكذلك بقية الأثمان إذا لم تبطل ولكنها غلت أو رخصت بجامع الثمنية في كل •
3- سد ذريعة الربا ؛ لأن الرجوع إلى القيمة يؤدي إلى الزيادة في أحد المثلين ، وهو ربا بالنظر إلى اتحاد الجنس •
4- أن ذلك يؤدي إلى الغرر بسبب جهالة قدر الثمن المؤدى عند الوفاء(4)•
مناقشة الرأي الأول وأدلته :
النقص الفاحش يلحق الضرر بأحد طرفي المعاملة ، والله سبحانه قد أمر بالعدل في ذلك قال تعالى: وأوفوا الكيل والميزان بالقسط(5)• وقال: وزنوا بالقسطاس المستقيم (6)، وقال: اعدلوا هو أقرب للتقوى(7)• وتحقيق ذلك شامل لكل أنواع المعاملات والأقوال • ومن المعلوم أن العدل في المعاملات المالية لا يقتصر على إقامة الكيل أو الوزن فحسب بل يتعدى ذلك إلى كل معاملة ، ومن لوازم ذلك أداء ما ثبت في الذمة على حاله من غير نقص يضر بصاحب الحق • وهذا هو الأقرب للعدالة والإنصاف ؛ لأن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما ، أما مع الاختلاف فلا تماثل •
2- رد ما ثبت في الذمة بقيمته في حال النقص الفاحش (التضخم) يتحقق فيه معنى التماثل المأمور به في قوله عليه السلام: (مثلاً بمثل)(1)؛ لأن المثلية هنا في القيمة الحقيقية لا في الصورة (2)•
3- القياس على الدراهم والدنانير وعلى المكيلات والموزونات فيما إذا انخفضت قيمتها قياس مع الفارق ؛ لأن هذه لها قيمة في أنفسها ، فإذا بطلت ثمنيتها أو نقصت أو بطلت فإنه لا يمكن الإفادة من عينها •
4- أما سدّ ذريعة الربا ؛ فإنه ممكن حتى في صورة اعتبار النقص الفاحش عيباً بأن تجعل القيمة من غير الجنس •
5- دفع الضرر أمر مقرر شرعاً ومن القواعد الشرعية المشهورة في ذلك (الضرر يزال)(3)، وفي الحكم بالقيمة في حال النقص الفاحش دفع للضرر(4)•
القول الثاني : وهو قول من يرى بأن نقصان قيمة النقود الفاحش أو غلاءها يوجب الرجوع إلى القيمة التي كانت عليها •
- وهذا الرأي منسوب إلى أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة وممن نسبه إليهما ابن عابدين في رسالته (تنبيه الرقود على مسائل النقود) نقلاً عن عدد من كتب الحنفية •
- ومنسوب إلى الرهوني من علماء المالكية •
- وهو قول ضعيف في مذهب الحنابلة • ونسبه الشيخ عبد الله أبابطين وغيره من متأخري علماء الحنابلة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية •
وهذا بيان ما ذكر في ذلك :
1- قال ابن عابدين في رسالته (تنبيه الرقود على مسائل النقود) نقلاً عن المنتقى : إذا غلت الفلوس قبل القبض ، أو رخصت قال أبو يوسف قولي، وقول أبي حنيفة في ذلك سواء ، وليس له غيرها ، ثم رجع أبو يوسف وقال عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ، ويوم وقع (القبض) وقوله يوم وقع البيع في صورة البيع ، وقوله يوم وقع القبض أي في صورة القرض كما نبه عليه في النهر •
ثم قال ابن عابدين بعد ذلك: وبه علم أن في الانقطاع قولين ، الأول: فساد البيع كما في صورة الكساد ، والثاني: أنه تجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع في المضمرات ، وكذا في الرخص والغلاء قولان أيضاً :
الأول : ليس له غيرها •
الثاني : له قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى (1)•
ونقل عن البزازية وعزاه إلى المنتقى قوله: (غلت الفلوس ، أو رخصت، فعند الإمام الأول ، والثاني أولاً ليس عليه غيرها ، وقال الثاني ثانياً: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع ، والقبض ، وعليه الفتوى • وهكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى) (1)•
2- وقال الرهوني في حاشيته تعليقاً على ما ذكره الشارح عن المالكية من ترتب المثل في الدراهم والدنانير التي قطع التعامل بها • قلت: وينبغي أن يقيّد ذلك بما إذا لم يكثر جداً حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه ؛ لوجود العلة التي علل بها المخالف (2)•
3- قال في المبدع : (وقيل: إن رخصت الفلوس فله القيمة) (3)•
4- قال في الدرر السنية : (إذا أقرضه ، أو غصبه طعاماً فنقصت قيمته ، فهو نقص النوع فلا يجبر على أخذه ناقصاً ، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل ؛ فإن المالين إنّما يتماثلان إذا استوت قيمتهما ، وأما مع اختلاف المالين فلا تماثل ••• وذكر أن النقص يوجب العيب ومعناه عيب النوع ؛ إذ ليس المراد عيب الشيء المعيَّن ؛ فإنه ليس هو المستحقّ ، وإنما المراد: عيب النوع ، والأنواع لا يعقل عيبها إلا في نقصان قيمتها ••• وأما رخص السعر فكلام الشيخ -يعني ابن تيمية- صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضاً ، وهو أقوى •
وقال في موضع آخر : وأما الشيخ تقي الدين فأوجب رد القيمة في القرض ، والثمن المعيّن ، وكذا سائر الديون فيما إذا كسدت مطلقاً ، وكذلك إذا نقصت القيمة فيما ذكروا في جميع المثليات) (4)•
أدلة القول الثاني : استدل من يقول بهذا القول بالأدلة العامة في الشريعة والتي توجب العدل ، وتنهى عن الظلم ، وبالقواعد الشرعية التي توجب الحفاظ على الحقوق وتمنع من الضرر والإضرار ، على ما سبق تفصيله في مناقشة أدلة أصحاب القول الأول •
مناقشة القول الثاني وأدلته :
1- الشريعة الإسلامية حرّمت الربا وسدّت المنافذ التي تؤدي إليه، ومن المعلوم أن النقود من الأموال الربوية وهي من المثليات فالقول بالرجوع فيها إلى القيمة في حال التضخم في حال الوفاء يلزم منه الزيادة في الجنس وهذا هو عين الربا •
2- أن العقد وقع على معيّن أو قابل للتعيين فلا يلزم من ثبت في ذمته غيره ، وليس لمن له الحق المطالبة بغيره ما دام أداؤه ممكناً •
3- ما نقل عن بعض العلماء من القول بالرجوع إلى القيمة في حال النقص الفاحش معارض بأن هذه أقوال ضعيفة خالفها ما هو أقوى منها عند أصحابها ، وجمهور أصحاب المذاهب على خلافها ، هذا على التسليم بصحة نسبتها إليهم كيف وهناك ما يدل على عدم صحة ذلك وإليك البيان:
أ- المنقول عن أبي يوسف رحمه الله من القول برد القيمة في القروض والبيوع المؤجلة في حال غلاء الفلوس ورخصها يخالف ما روته عنه الكتب المشهورة عند الحنفية ، والمعتمدة في تقرير المذهب كالمبسوط ، والهداية، وفتح القدير ، وبدائع الصنائع ، بل قد نقلت هذه الكتب إجماع الحنفية ومنهم الإمام وصاحباه على ردّ المثل •
والمذكور في كتب الحنفية المعتبرة مخالفة أبي يوسف لأبي حنيفة في مسألة كساد الفلوس في حالتي البيع والقرض حيث قال أبو يوسف بالقيمة • جاء في المبسوط قوله: (وإن استقرض عشرة أفلس ثم كسدت تلك الفلوس لم يكن عليه إلا مثلها في قول أبي حنيفة قياساً ، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: عليه قيمتها من الفضة استحساناً ؛ لأن الواجب عليه بالاستقراض مثل المقبوض ، والمقبوض فلوس هي ثمن وبعد الكساد يفوت وصف الثمنية بدليل مسألة البيع ، فيتحقق عجزه عن ردّ مثل ما التزم فيلزمه قيمته ••• بخلاف ما إذا غلت أو رخصت ؛ لأن صفة الثمنية لا تتغير بذلك ، ولكن تتغيّر بتغيّر رغائب الناس فيها) (1)•
وقال الكاساني في بدائع الصنائع: (ولو لم تكسد ولكنها رخصت قيمتها، أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع ، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً، ولا يلتفت إلى القيمة ههنا؛ لأن الرخص أو الغلاء لا يوجب بطلان الثمنية ، ألا ترى أن الدراهم قد ترخص ، وقد تغلو وهي على حالها أثمان)(2)•
وقال في القرض: (ولو لم تكسد ولكنّها رخصت ، أو غلت فعليه ردّ مثل ما قبض بلا خلاف) أي: بين الإمام وبين صاحبيه • ومثل هذا في فتح القدير (3)•
ب- المنقول الثابت عن أبي يوسف أنه قال بالرجوع إلى القيمة في حال الكساد وبطلان الثمنية ، وهذا يلزم منه أنّه لا يقول بالقيمة في حال بقاء الثمنية ؛ لأن الغلاء والرخص لا تبطل بهما الثمنية بل هي باقية ، فكيف ينسب إليه ما يؤدي إلى معارضة قوله الصحيح الثابت عنه •
4- ما نسب إلى الرهوني فهم على غير وجهه الصحيح وليس هو ممن يقول بردّ القيمة في حال الغلاء والرخص ، على ما سيتضح من كلامه •
قال الرهوني: (ظاهر كلام غير واحد من أهل المذهب ، وصريح كلام آخرين منهم أن الخلاف السابق -أي في القول بالقيمة- محلّه إذا قطع التعامل بالسكّة القديمة ، وأمّا إذا تغيّرت بزيادة أو نقص فلا ، وممن صرح بذلك أبو سعيد بن لب) (4)•
وقد ضعّف الرهوني حجّة القائلين برد القيمة في حال قطع التعامل -وهو خلاف المشهور في المذهب المالكي- فقال: وقد يظهر بادئ الرأي أن مقابل المشهور أولى لما علّل به قائله من أن البائع إنّما بذل سلعته في مقابلة منتفع به لأخذ منتفع به ، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به ، وليس كذلك ؛ بل المشهور هو الذي يظهر وجهه ؛ لأن ذلك مصيبة نزلت به (1)•
- وقد ردَّ على من يقول بالقيمة في حال الانقطاع فقال: (وليس ضرر البائع هنا بأشدّ من ضرر من باع سلعة بعبد معين مثلاً ، فمات بيد صاحبه قبل أن يدفعه للبائع ، ونحو ذلك من المسائل الكثيرة ، مع أنهم راعوا حق البائع ، ولم يراعوا حق المشتري •••) (2)•
- وأما العبارة التي تعلّق بها من يدعي أن الرهوني يقول بالقيمة في حال الغلاء والرخص وهي قوله: (قلت: وينبغي أن يقيّد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جداً حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه ••) فهي لا تفيد ما ذكروه لأنه إنما ذكرها إلزاماً لمن يقول بالقيمة في حال الانقطاع من تعليل ينبغي على قوله أن ينسحب ذلك على حال الرخص الفاحش الذي يكون معه القابض للفلوس كالقابض لما لا كبير فائدة فيه • والدليل على ذلك أنه أبطل قول من قال بالقيمة بعد ذلك (3)•
5- ما نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية لا يثبت ؛ لأن كلامه منصب على ردّ القيمة في الفلوس ، والدراهم المكسّرة حال تحريم السلطان لها والفرق بين قوله وبين المذهب عند الحنابلة ، أن المذهب يقصر القول بالقيمة على القرض وقيمة المبيع أما هو فيقيس عليهما سائر الديون من بدل المتلف، والمغصوب ، والصداق ، والفداء ، والصلح عن القصاص ، والكتابة•
قال ناظم المفردات :
والنـص بالقـيمة في بطلانــها لا في ازدياد القدر ، أو نقصانها
بل إن غلت فالمثل فيها أحــرى كـدانـق عشريـن صار عشــرا
وشـيخ الإسلام فـتى تيميـــة قال : قياس القـرض عن جـليّـة
الطـرد في الديون والصــداق وعــوض الخلــع والإعتــــاق
والغصب والصلح عن القصاص ونحـو ذا طـراً بلا اختصــاص (1)
وقد اعتمد الشيخ أبابطين في نسبة القول برد القيمة في حال الغلاء والرخص إلى شيخ الإسلام ابن تيمية على كتاب شرح المحرّر مع أنه لا يوجد فيه نص على ذلك ، وإنما هو فهم فهمه من كلام الشيخ ، والمذكور في شرح المحرّر إنما هو القول برد القيمة في حال تحريم السلطان المعاملة بها (2)•
وبالنظر إلى ما تقدم من الأقوال وأدلتها ، ومناقشتها تتضح لنا الأمور التالية :
1- أن الفريق الأول الذي يرى أن الغلاء والرخص في النقود لا يعد عيباً ولا تُستحق به القيمة نظروا إلى أن الثمن المعقود عليه باق يمكن وفاؤه بمثله ، من غير زيادة ولا نقص ، كما أنهم لاحظوا سدّ ذريعة الربا في الجنس الواحد ، والمنع من الغرر •
أما الفريق الثاني : الذي قال بثبوت القيمة فقد نظروا إلى المعنى الحقيقي للثمن وأنه ليس هو الصورة وقالوا بأن القواعد العامة في الشريعة توجب العدل ، ورفع الضرر ، وعندما يحصل الرخص الفاحش فإن العدل لا يتحقق إلا بالقول بالقيمة التي وقع عليها العقد •
2- هذا الاختلاف اجتهادي ليس فيه نص قاطع يجب المصير إليه، ولهذا قال كل منهم بما ترجح لديه •
3- أن أقوال العلماء في المسائل الاجتهادية ليست كنصوص الشارع التي لا يجوز المحيد عنها ، وإنّما هي نتاج بحثهم واجتهادهم البشري، وعندما نبحث فيها ونتتبعها فإنما ذلك للاستئناس بها ، ولمعرفة الأدلة التي استندوا إليها ، وكيف استدلوا بها ، ومن ثم يمكن النظر في مدى انطباق ما قالوه على ما حدث من نوازل بعدهم •
4- إن المسائل التي تعلقت بها هذه الأقوال كانت في أحوال وأزمان تختلف كثيراً عما نحن عليه الآن في هذه الأزمنة ، وليس من السهل اليسير القول بتخريج أحكام هذه المسائل التي حدثت في زماننا على ما ذكره العلماء في الأزمنة الماضية ، وعلى هذا فالمسألة من النوازل الحادثة التي تحتاج إلى مزيد من البحث والتدقيق لتعرف أحكامها الشرعية •
عيوب النقد عند الفقهاء :
بعد هذا الذي قدمناه يمكن أن نجمل العيوب التي تطرأ على النقد بالمفهوم الفقهي لنرى مدى تأثيرها على العقود في الالتزامات الآجلة •
وقد ذكر الفقهاء أربعة عيوب على النحو التالي :
1- الكساد : وهو في اللغة من (كسد) قال ابن فارس: الكاف والسين والدال أصل صحيح يدل على الشيء الدّون لا يرغب فيه (1)• وهو أيضاً عدم النفاق ، يقال: كسد المتاع ، وكسدت السوق (2)•
وفي الاصطلاح : عند بعض الفقهاء عدم رواج النقود في جميع البلدان وعند بعضهم : عدم الرواج في بلد المتعاملين (3)•
2- الانقطاع : أصله في اللغة (قطع) قال ابن فارس : القاف والطاء والعين أصل صحيح واحد يدل على صرمٍ ، وإبانة شيء من شيء • يقال: قطعت الشيء أقطعه قطعاً • ومنه القطيعة للهجران (1)•
وفي اصطلاح الفقهاء : مأخوذ من هذا ، قال ابن عابدين : عدم وجود النقد في التعامل وإن كان يوجد عند الصيارفة أو في البيوت (2)• فكأنّ النقد بغيابه عن أيدي المتعاملين بان وانصرم عن جهة الوجود •
3- البطلان : مادته في اللغة (بطل) قال ابن فارس : الباء ، والطاء، واللام أصل واحد ، وهو ذهاب الشيء ، وقلة مكثه ، ولبثه (3)•
وقال الفيروزآبادي : بطل بُطلاً ، وبُطولاً ، وبُطلاناً بضمّهن ، ذهب ضياعاً وخُسراً (4)•
وفي اصطلاح الفقهاء : مأخوذ من هذا ؛ لأنه يعني تحريم السلطان التعامل بالنقد ، فكأنه بهذا ذهبت وضاعت فائدته •
وهذه العيوب الثلاثة قد يطلق بعضها على بعض في العرف (5)•
4- الغشّ : قال ابن فارس الغين ، والشين ، أصول تدلّ على ضعف في الشيء واستعجال فيه (6) ••• والغشّ عدم النصح (7)•
وهو في النقود مأخوذ من هذا المعنى ؛ لأنه يعني أن معدن النقود ليس كما يظنه المتعامل بها ؛ بل هو في الحقيقة مزيف يظهر منه الجودة ويختفي تحتها التزييف الذي يضعفها ويقلل من قيمتها • وهذا في الذهب، أو الفضة ، أو في النقود المتخذة من بعض المعادن أمر ظاهر ؛ لأنه يعني خلط بعض هذه المعادن بمعادن رديئة تقل قيمتها كثيراً عن قيمة الذهب أو الفضة أو غيرها من المعادن التي كانت تُسكّ منها النقود ، والتعامل بها على أنها خالصة مما يترتب عليه ربح دافعها ، وخسارة آخذها • ولكن هذا الأمر -وهو خلط مادة النقود بغيرها مما تقل قيمته عنها- غير متصور في النقود الورقية المعاصرة ، وإنما يتصور فيها الغش من ناحية تزييفها بجعلها على هيئة النقود الورقية التي تسكها الدولة ، وطرحها للتعامل بها بغية الإفادة منها في شراء سلع أو الوفاء بالتزامات معيّنة ، أو في استبدالها بعملة صحيحة ••• أو غير ذلك (1)•
وبالنظر إلى كتب الفقه نجد أن للعلماء في هذه الأمور الأربعة ثلاثة أقوال :
الأول : يرى أن هذه الأمور عيوب مؤثرة ولكن القائلين بها اختلفوا فيما يترتب على ذلك •
فذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن كساد النقود قبل القبض يترتب عليه فسخ العقد ، ويلزم المشتري ردّ المبيع إن كان قائماً وقيمته ، أو مثله إن كان هالكاً •
بينما ذهب صاحباه -أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله إلى أن عقد البيع لا يبطل والبائع مخيّر إن شاء فسخ البيع ، وإن شاء أخذ قيمة الفلوس •
وعند الشافعي في وجه ضعيف أن البائع مخيّر بين إمضاء العقد، بذلك النقد وبين فسخه •
وقال الزيلعي: (وصحّ البيع بالفلوس النافقة ، وإن لم يُعيّن ؛ لأنها أموال معلومة صارت ثمناً بالاصطلاح فجاز بها البيع ، ووجب في الذمة كالدراهم ، والدنانير وإن عينها لا تتعيّن ؛ لأنها صارت ثمناً بالاصطلاح••)•
ثم قال: (وإن كسدت أفلس القرض يجب ردّ مثلها ، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : يجب عليه ردّ قيمتها ؛ لأنه تعذّر ردّها كما قبضها ؛ لأن المقبوض ثمن ، والمردود ليس بثمن ، ففاتت المماثلة ، فتجب القيمة كما لو استقرض مثلياً فانقطع عن أيدي الناس ، لكن عند أبي يوسف تعتبر قيمته يوم القبض ، وعند محمد يوم الكساد •••) (1)•
قال ابن عابدين: (اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشّها ، أو بالفلوس ولم يسلمها للبائع ، ثم كسدت بطل البيع - والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد- ويجب على المشتري ردّ المبيع لو كان قائماً ومثله أو قيمته لو كان هالكاً ، وإن لم يكن مقبوضاً فلا حكم لهذا البيع أصلاً• وهذا عنده -أي: عند أبي حنيفة- وعندهما لا يبطل البيع ؛ لأن المتعذّر : التسليم بعد الكساد ، وذلك لا يوجب الفساد ؛ لاحتمال الزوال بالرواج ، لكن عند أبي يوسف: تجب قيمته يوم البيع ، وعند محمد يوم الكساد • وهو: آخر ما تعامل الناس بها) (2)•
وقال السيوطي: (••• ومنها ثمن ما بيع به في الذمّة ، قال في الروضة، وأصلها: لو باع بنقد معيّن ، أو مطلق ، وحملناه على نقد البلد ، فأبطل السلطان ذلك النقد لم يكن للبائع ، إلا ذلك النقد ، كما لو أسلم في حنطة فرخصت ، فليس له غيرها ، وفيه وجه شاذّ ضعيف أنّه مخيّر إن شاء أجاز النقد بذلك النقد ، وإن شاء فسخه كما لو تعيّب) (3)•
الثاني : يرى أن هذه الأمور ليست من العيوب المؤثرة وبالتالي فلا يترتب على وقوعها شيء ما دام أن المثل ممكن الأداء وهو القول المشهور عند المالكية ؛ والصحيح من المذهب عند الشافعية ، إلا أن المالكية يرون أن المثل إذا عدم في بلد المعاملة ترتبت القيمة •
قال الحطاب في شرح قول خليل: (وإن بطلت فلوس فالمثل ، أو عدمت فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم) يعني: أن من أقرض فلوساً ، أو باع بها سلعة ثم إنه بطل التعامل بتلك الفلوس ، وصار التعامل بغيرها، فإنه يجب له الفلوس ما دامت موجودة ، ولو رخصت ، أو غلت ، فإن عدمت بالكلية فلم توجد فله قيمة الفلوس من يوم يجتمع استحقاقها ، أي: وجوبها ، وحلولها ، وعدمها • أي: انقطاعها ، ويحصل ذلك بالأخير منهما، فإن كان الاستحقاق أولاً فليس له القيمة إلا يوم العدم ، وإن كان العدم أولاً فليس له إلا القيمة يوم الاستحقاق كأقصى الأجلين في العدة) •
ثم قال: (تنبيه: لا خصوصية في الفلوس ، بل الحكم كذلك في الدنانير، والدراهم ، كما أشار إليه في كتاب الصرف من المدونة ، وصرح به في التلقين ، والجلاب وغيرهما • قال في التلقين : ومن باع بنقد ، أو قرض ثم بطل التعامل به لم يكن له غيره إن وجد ، وإلا فقيمته إن فقد) (1)•
ومثل هذا في أقرب المسالك (2)•
وقال في المجموع مبيناً المذهب عند الشافعية: (إذا باع بنقد معين ، أو بنقد مطلق ، وحملناه على نقد البلد، فأبطل السلطان المعاملة به قبل القبض، قال أصحابنا: لا ينفسخ العقد ، ولا خيار للبائع ، وليس له إلا ذلك النقد المعقود عليه ، كما لو اشترى حنطة فرخصت قبل القبض ، أو أسلم فيها فرخصت قبل المحلّ فليس له غيرها • هكذا قطع به الجمهور •••) (3)•
الثالث : يرى أنه إذا كانت الفلوس أو الدراهم مكسرة وحرّمها السلطان وتركت المعاملة بها ترتّبت القيمة في حالتي القرض والبيع خاصة ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية طرد القول بالقيمة في حال تحريم السلطان في سائر الديون • وهو قول ابن عتاب ، وابن دحون من فقهاء المالكية •
قال ابن قدامة: (ولو كان القرض فلوساً ، أو مكسرة فحرّمها السلطان، وتركت المعاملة بها ، كان للمقرض قيمتها ، ولم يلزمه قبولها ، سواء أكانت قائمة في يده ، أو استهلكها ؛ لأنها تعيبت في ملكه •
وقال القاضي -أبو يعلى- هذا إذا اتفق الناس على تركها فأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزم أخذها) (1)•
وقال ناظم المفردات :
والنـص بالقـيمة في بطلانــها لا في ازدياد القدر ، أو نقصانها
بل إن غلت فالمثل فيها أحــرى كـدانـق عشريـن صار عشــرا
وشـيخ الإسلام فـتى تيميـــة قال : قياس القـرض عن جـليّـة
الطـرد في الديون والصــداق وعــوض الخلــع والإعتــــاق
والغصب والصلح عن القصاص ونحـو ذا طـراً بلا اختصــاص
وقال الشارح: (يعني أن النص في ردّ القيمة إنّما ورد عن الإمام أحمد فيما إذا أبطلها السلطان فمنع المعاملة بها ، لا فيما إذا زادت قيمتها ، أو نقصت مع بقاء التعامل بها ، وعدم تحريم السلطان لها ، فيرد مثلها، سواء غلت أو رخصت ، أو كسدت ••• لأنه لم يحدث فيها شيء إنّما تغيّر السعر ، فأشبه الحنطة إذا رخصت ، أو غلت) •
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح المحرر: (قياس ذلك -أي: القرض فيما إذا كان مكسرة ، أو فلوساً وحرّمها السطان ، وقلنا برد قيمتها جميع الديون ، من بدل المتلف ، والمغصوب ، والصداق ، والفداء، والصلح عن القصاص ، والكتابة ••) (1)•
وقال الونشريسي: (سئل ابن الحاج عمّن عليه دراهم فقطعت تلك السكة فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام ، ومحمد بن عتاب حيّ، ومن معه من الفقهاء فانقطعت سكّة ابن جهور: لدخول ابن عباد بسكة أخرى ، فأفتى الفقهاء بأنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة ، وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ، ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب ••• وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله تعالى يفتي بالقيمة يوم القرض ، إنّما أعطاه على العوض ، فله (العوض) (2)•
هذه هي العيوب التي ذكرت عند جمهور الفقهاء •
والمتأمل يجد أن العيوب الثلاثة : الكساد ، والانقطاع ، والبطلان ، غير متحققة في النقود الورقية المعاصرة ذلك أنه مهما حصل لها من انخفاض في قيمتها الشرائية فإن رغبات الناس فيها لا تنقطع ولا تقل ، لأنها هي وسيلة التبادل ومقياس التقويم الذي يتعاملون به • نعم يتصور في بعض الحالات النادرة كساد النقود أو بطلانها بسبب الحروب الأهليّة مما ينتج منه إسقاط العملة الدارجة بين الناس ، ولكن حتى في مثل هذه الأحوال درج العرف على أن الحكومات التي تخلف غيرها في التقلبات ، تسكّ عملة جديدة بديلة عن العملة السابقة وتعطي للناس مهلة لاستبدالها بما لديهم من عملة قديمة (3)•
أما العيب الرابع (الغش) فهو الذي يمكن اعتباره موجوداً في العملات الورقية في حال (تزييف العملة) فإذا دفع لمن له دين أو ثمن عملة مزيّفة، ثبت له الحق في عملة صحيحة : لأن الثمنيّة في الأوراق النقدية كما تقدم مسألة اعتبارية ، فإذا سقط الاعتبار فيها لتزييفها لم يبق لها نصيب في الثمنية فيتعلق الحق ببدلها من العملة الصحيحة المعتبرة •
ولكن هل هناك أمور أخرى يمكن عدّها عيوباً مؤثرة في النقد في العصر الحاضر ؟
لا شك أن صور التضخّم الجامح الذي ينتج منه التدهور الشديد - الرخص الفاحش في قيمة النقود ، والذي أصبح سمة بارزة في النقود الورقية في كثير من الأحيان في هذا الزمن أمر لم يكن للناس به عهد في الأزمنة القديمة، لابدّ من بحثه بحثاً دقيقاً حتى يتضح أمره ، وهل يعدّ عيباً مؤثراً في العملة بحيث يمكن إلحاقه بالعيوب الأخرى المؤثرة فيها أو لا ؟ •
ولهذا فسأحاول أن أناقش المسألة من جانب آخر ، وهو بحث مفهوم العيب ، ومدى انطباقه على التضخم (رخص النقود) •••
وبالرجوع إلى كتب اللغة نجد أن كلمة العيب تعني النقص • قال في الصحاح: العيب ، والعاب ، والعيبة بمعنى واحد ، تقول: عاب المتاع أي: صار ذا عيب ، وتقول ما فيه معابة ، ومعاب ، أي: عيب ، قال الشاعر:
أنا الرجل الذي قد عبتموه وما فيه لعياب معاباً (1)•
وقال في القاموس: (العيب ، والعاب ، الوصمة) (2)•
وقال الراغب: العيب ، والعاب : الأمر الذي يصير به الشيء عيبة ، أي: مقرّاً للنقص (3)•
وقد جاء معنى العيب بهذا في القرآن والسنة •
ففي القرآن قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ، قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً (1)•
ثم قال الخضر مفسّراً لموسى سبب صنيعه: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً (2)• فبيّن الخضر أن الخرق ، وهو انتقاص من السفينة عيب (3)•
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الدارمي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب الصدقة ، وذكر فيه قوله عليه السلام: (ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ، ولا ذات عوار ، ولا ذات عيب) (4)•
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله مرّ بالسوق ، داخلاً من بعض العالية ، والناس كنفَيْهِ، فمرّ بجَديٍ أَسَكَّ -صغير الأذنين- ميّت فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: (أيّكم يحبّ أن هذا له بدرهم ؟) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء ، وما نصنع به ؟ قال: (أتحبون أنَّه لكم ؟) قالوا: والله لو كان حيّاً كان عيباً فيه ؛ لأنه أَسَكُّ، فكيف وهو ميّت ؟ فقال: (فوالله ! للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) (5)•
فقد جعل الصحابة نقص الأذن في هذا الجدي عيباً •
وهو في الاصطلاح الفقهي قريب من هذا •
1- قال ابن رشد في كتابه بداية المجتهد: (العيوب التي لها تأثير في العقد هي عند الجميع: ما نقص عن الخلقة الطبيعية أو عن الخلق الشرعي نقصاناً له تأثير في ثمن المبيع ، وذلك يختلف بحسب اختلاف الأزمان، والعوائد ، والأشخاص) (1)•
2- وقال ابن قدامة في المغني: (فصل في معرفة العيوب: وهي النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار ؛ لأن المبيع إنما صار محلاً للعقد باعتبار صفة المالية ، فما يوجب نقصاً فيها يكون عيباً ، والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن ، وهم التجار •••) (2)•
3- وقال ابن الهمام في تعريفه: (كل ما أوجب نقصان الثمن في عادة التجار فهو عيب) (3)•
4- وقال القونوي: (وهو نقص خلا عنه أصل الفطرة السليمة) (4)•
5- وقال ابن حجر الهيثمي في تحفة المحتاج بشرح المنهاج في بيان العيب: (وهو: وجود كل ما ينقص العين ، أو القيمة نقصاً يفوت به غرض صحيح) (5)•
ولو حاولنا تلمّس هذا المعنى الذي ذكروه للعيب في صورة التضخم (الرخص الفاحش) فإنا نقطع بوجوده ؛ إذ إنه نقص محقّق للمالية في عرف أهل الشأن وهم: التجار ، وأصحاب المصارف فهو عيب في عرفهم •
وهذا الأمر -رخص النقود- وإن لم يكن مؤثراً عند كثير من العلماء الأقدمين ؛ إلا أن تغيّر الأحوال في هذا الزمن وشيوع النقص -الرخص- وتأثيره البالغ في الالتزامات المالية مما يؤدي إلى ضرر محقق ، وينتج منه أكل الأموال بالباطل يجعل القول بأنه عيب مؤثر أمراً واضحاً لا غرابة فيه حتى ولو لم يكن مؤثراً فيما مضى من الأزمنة ، فقد كان الصناع في الصدر الأول لا يضمنون ما تلف بأيديهم من أموال الناس ؛ نظراً لأن أيديهم أيدي أمانة ، فلما فشا الكذب في الناس قضى الصحابة بتضمينهم ما تلف بأيديهم من أموال الناس حفاظاً علىها (1)•
ولم يرد في الشرع تحديد لمقدار العيب ، ولا حصر لكل أنواعه والقاعدة الفقهية تقضي بأن كل ما لم يرد له تحديد في الشرع يرجع في تحديده إلى العرف مثل حدّ الكفاية ، ومقدار النفقة ، والقلّة ، والكثرة (2)•
والفقهاء الذين لم يعتبروا (الرخص) عيباً فيما مضى كانوا يقصدون صوراً معينة في أزمنتهم تختلف كثيراً عمّا يوجد في هذا الزمن ، ولهذا لا ضير في تطبيق مفهوم العيب على صورة التضخم التي حدثت في زمننا هذا أخذاً من المفهوم المقرر لدى العلماء للعيب ، وحرصاً على مراعاة المقصد الشرعي في الحافظ على المال ، وحتى لا ينسدّ باب التعامل ولكن لا بدّ في هذا من مراعاة الضوابط الشرعية التالية :
1- أن يكون النقص الحاصل بالتضخم غير متوقع عند التعاقد أما لو كان متوقعاً ، وبخاصة في العقود المؤجلة التسليم ونحوها ، وزيد في الثمن تحسباً لتقلبات السعر حال التأجيل ، فإن التضخم حينئذ لا يكون عيباً ؛ لأن صاحب الثمن قد دخل على بيّنة فهو كمن رضي بالعيب حال العقد •
قال الكاساني: (ومنها جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض، فإن كان عالماً به عند أحدهما فلا خيار له ؛ لأن الإقدام على الشراء مع العلم بالعيب رضا به دلالة) (3)•
وقال في المجموع: (المشتري للعين المعيبة تارة يكون عالماً بعيبها وتارة لا يكون ••• إن كان عالماً فلا خلاف أنه لا يثبت له الخيار لرضاه بالعيب)(1)•
وقال ابن شاس: (المانع الثالث -أي من موانع الخيار- ظهور ما يدل على الرضا بالعيب من قول أو فعل ، أو سكوت) (2)•
وقال في كشاف القناع: (فمن اشترى معيباً لم يعلم حال العقد عيبه ثم علم بعيبه فله الخيار) (3)•
2- أن يكون التضخم (الرخص) فاحشاً ، ويعرف مقدار كونه فاحشاً بالرجوع إلى أهل الخبرة ، فإن لم يكن كذلك فإنه لا يعد عيباً ، ويدخل تحت قاعدة اغتفار ما يتغابن فيه الناس عادة (4)•
وقد حاول بعض الباحثين تقديره بالثلث ، أو بالنصف ، وألحقوه بالجائحة ؛ باعتبار أن هذا الأمر لا يمكن دفعه إن علم •
ومحل الجوائح وإن كان في الثمار والبقول في المبيعات ، إلا أن العلماء نظروا في معناها وألحقوا بها غيرها كما أن تقدير الفاحش بما بلغ حدّ الثلث أو النصف ونحو ذلك أمر لا يمكن التزامه في كل حال ؛ لاختلاف الأعراف ، والأزمنة وكثرة الثمن وقلّته ، فالأرجح إناطة ذلك برأي أهل الخبرة •
3- أن تُقدَّر القيمة في النقود بغير الجنس حتى تُسدّ ذريعة الربا فيما إذا تمّ التقدير الجنس ؛ لأن العدد سيزيد حينئذ فلا مناص من الرجوع إلى جنس آخر حسماً لذريعة الفساد •
مدى صحة اشتراط ضمان قيمة ما ترتب في الذمّة في صلب العقد :
إذا نظرنا إلى انخفاض قيمة النقود على أنه جائحة ، أو عيب فإنا قبل أن ننظر في ضمان قيمة هذه النقود لا بدّ أن نعرّج على تقسيمات العلماء للشروط في العقود ، فقد قسّموها تقسيمات عديدة ليس هنا مجال تفصيلها والمشهور من تقسيماتهم جعلها نوعين :
الأول : ينافي مقتضى العقد ، أو مقتضى الشرع ، ومن ثمّ فهو باطل في نفسه ، والعقد صحيح ، أو باطل في نفسه مبطل للعقد ، كشرط ما يؤدي إلى الغرر ، أو الجهالة ، أو الربا ، أو ما يبطل فائدة العقد المقصودة منه ، كمن باعه داراً وشرط عليه ألا يسكنها ، أو زوّجه امرأة ، وشرط عليه ألا يطأها (1)•
يقول الإمام ابن تيمية: (والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها تنافي مقصود الشارع ، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق ؛ فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ، ولا مقصوده ؛ فإن مقصوده الملك ، والعتق قد يكون مقصوداً للعقد ؛ فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيراً ، فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد ، وإنّما ينافي كتاب الله ، وشرطه ، كما بيّنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (كتاب الله أحق وشرط الله أوثق) (2)•
فإذا كان الشرط منافياً لمقصود العقد كان العقد لغواً ، وإذا كان منافياً لمقصود الشارع كان مخالفاً لله ورسوله ••) (3)•
الثاني : لا ينافي العقد ، وهو على أقسام :
أ- قسم يقتضيه العقد ، مثل : اشتراط التسليم ، والتقابض في الحال، فهذا لا يؤثر وجوده في صحة العقد •
ب- قسم لا يقتضيه العقد ، ولكنه من مصلحته ، كاشتراط الرهن، والخيار ، أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع فهذا الشرط صحيح •
ج- قسم لا يقتضيه العقد ، ولا هو من مصلحته ، ولكنّه لا ينافي مقتضاه ، إذا تراضيا عليه مثل اشتراط منفعة للبائع ، كركوب الدابة المبيعة مدّة معينة ، أو مسافة معلومة ، أو سكنى الدار المبيعة مدة معلومة • فهو صحيح لعدم إخلاله بمقصود العقد ، وعدم معارضته للشرع (1)•
يقول الإمام ابن تيمية في هذا القسم: (العقود ، والشروط من باب الأفعال العاديّة ، والأصل فيها عدم التحريم ، فيستصحب عدم الحرمة فيها حتى يدل دليل على التحريم ••• وقوله تعالى: وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم (2)، عام في الأعيان ، والأفعال ، وإذا لم تكن حراماً لم تكن فاسدة••• وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة •••
ويقول: ولا تحرم عادة إلا بتحريم الله ، والعقود ••• من العادات يفعلها المسلم ، والكافر ، وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق ، والصدقة) (3)•
ويقول في موطن آخر: (الأصل في العقود رضا المتعاقدين ، وموجبها ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد لأن الله قال في كتابه العزيز: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم (4)، وقال: فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً (1)، فعلق جواز الأكل بطيب النفس تعليق الجزاء بشرطه، فدلّ على أن ذلك الوصف سبب للحكم •
وإذا كان طيب النفس هو المبيح لأكل الصداق ، فكذلك سائر التبرعات قياساً عليه •••
وكذلك قوله: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، لم يشترط في التجارة إلا التراضي ، وذلك يقتضي أن هذا التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة ، أو طابت نفس المتبرع بتبرّع ثبت حلّه بدلالة القرآن ، إلا أن يتضمن ما حرّم الله ورسوله كالتجارة في الخمر ونحو ذلك (2)•
وإذا عدنا إلى موضوعنا ، ونظرنا إلى مسألة اشتراط ضمان انخفاض قيمة النقود في العقد ، وحاولنا تطبيقها على الصور المتقدمة ، فإنّا نجد بظاهر النظر أن هذا الشرط قد يؤدي إلى الغرر ؛ لأن العاقد الذي ترتّب في ذمته حق لغيره لا يدري مقدار هذا الحق عند ال