الدكتور عبد الفتاح محمود إدريس
الحمد & رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين•• وبعد:
فإنه لابد لكل أمة مهما كانت درجتها في الحضارة والرقي، من قوانين ونظم تنظم حياتها، وتنسق علاقات أفرادها وجماعتها، وليعيش الجميع في سلام إذا ساروا على ضوء تلك النظم، ومن فضل ا& تعالى على هذه الأمة أن أكرمها بشريعة الإسلام، وهي الشريعة لتكون خاتمة الشرائع السماوية، ورضيها للناس كافة، لتكون دستور حياتهم وسبب صلاحهم، ونهج استقامتهم ، وطريق سعادتهم في الدنيا والآخرة، وما كان ا& ليختار هذه الشريعة للناس كافة، ويجعلها خاتمة لرسالاته، إلا لأنها تحمل في تعاليمها ونظمها ما يجعلها جديرة بهذه الغاية السامية، فقد واجهت كل مرافق الحياة، وبسطت سلطانها على كل شيء في هذا الوجود، ومما هو جدير ببيان سمو هذه الشريعة، وتنظيمها للعلاقات المختلفة، بيانها لأحكام السباق، سواء منها ما يتعلق بالسباق بين البشر في المجالات المختلفة، أو السباق بين الدواب في العدو، أو نحوه، هذه السباقات التي بات التنافس فيها شغل الكثيرين، والتي أنشئت لممارستها الأندية والساحات، ورصد لها المال الكثير للإنفاق على تنظيمها ، ومنح الجوائز لمن يحققون السَّبْق فيها، والتي كثر الاهتمام بها وبنتائجها في أيامنا هذه أكثر من ذي قبل، وقد اجتزأت من بين هذه الأحكام، ما يتعلق بالسباق بين الدواب، وجعلت البحث فيه في ستة مطالب على النحو التالي:
المطلب الأول: حقيقة الساباق وحكمه•
الفرع الأول : معنى السباق•
الفرع الثاني: الفرق بين السباق وبين الميسر والقمار•
الفرع الثالث: حكم السباق•
المطلب الثاني: السباق بين كل ذي حافر•
الفرع الأول: السباق بين الخيل•
الفرع الثاني: السباق بين البغال أو الحمير•
المطلب الثالث: السباق بين كل ذي خف•
الفرع الأول: السباق بين الإبل•
الفرع الثاني: السباق بين الفيلة•
المطلب الرابع: السباق بين الكباش والثيران والكلاب•
الفرع الأول: مناطحة الكباش والثيران وتحريش الكلاب•
الفرع الثاني: مصارعة الثيران•
المطلب الخامس: شروط السباق•
المطلب السادس: آداب السباق وما يحصل به السبق•
الفرع الأول: آداب السباق•
الفرع الثاني: ما يحصل به السبق•
المطلب الأول
حقيقة السباق وحكمه
أبين في هذا الصدد معنى السباق، والفرق بينهوبين الميسر من جهة وبين القمار من جهة أخرى، وحكم السباق•
الفرع الأول
معنى السباق
أولاً: معنى السباق في عرف أهل اللغة:
السباق: مصدر سابَق، يقال: سابقت بين الخيل وسبَّقتُ بينها إذا أرسلتها وعليها فرسانها لتنظر أيهات يسبق، وسِبقك: الذي يسابقك، ويقال: هم سِبقي، وأسباقي، والعرب تقول للذي يسبق من الخيل: سابق، وسبوق، وإذا يُسبق فهو مُسبَّق، ويقال: سابقته فسبقته، وله سابقة في الأمر: إذا سبق الناس إليه، واستبق القوم وتسابقوا: إذا تخاطروا، واستبق القوم إلى الأمر وتسابقوا: إذا بادروا إليه•
والسسبَق: بفتح الباء- والسُّبقة: هو الرهان الذي يوضع بين أهل السباق، وهو ما يجعل من المال رهناً على المسابقة، فمن سبق أخذه، وجمعه: أسباق، ويقال: سبَّق: إذا أخذ السبق،وسبَّق: رذا أعطى السَّبَق، وهذا من الأضاد•
ولاسبْق: بتسكين الباء - والسابقة: هي التقدم في الجري وفي كل شيء، تقول: له في كل أمر سِبقة، وسُبقه، وسابقعة، وسبْق، وهو مصدر سبَق، وجمعه: السوابق(1)•
ثانياً: معنى السباق في عرف الفقهاء:
1- عرفه الكاساني بقوله: >أن يسابق الرجل صاحبه في الخيل والإبل ونحو ذلك، فيقول: إن سبقتك فكذا، وإن سبقتني فكذا<(2)•
2- وعرفه البهوتي بأنه: >المجاراة بين حيوان ونحوه، كسفن ورماح ومجانق<(1)•
3- وعرفه ابن حزم فقال: >السبق هو أن يخرج الأمير أو غيره مالاً يجعله لمن سبق في أحد هذه الوجوه< (يقصد الإبل، والخيل، والبغال، والحمير، والأقدام، والرماح، والسيوف، والنبال)(2)•
ويلاحظ على هذه التعريفات مايلي:
أولاً : تعريف الكاساني:
1- إنه تعريف غير جامع لكل أفراد المعرف، فإن قوله:>أن يسابق الرجل صاحبه< يخرج من تعريف السباق ما ينبغي أن يشمله، ومن ذلك:
أ - مسابقة الرجل زوجته أو ذوات محارمه، فإنه جائز إذا لم يترتب عليه محرم، إذ روي عن عائشة رضي ا& عنها قالت: >كنت مع النبي صلى ا& عليه وسلم في سفر، فسابقته فسبَقْتُه على رِجْلي ، فلما حملت اللحم سابقته فسبَقَني ، فقال : هذه بتلك السُّبقَر<(3)•
ب - السباق الذي لا يكون بينرجل وصاحبه ، بل يكون بين فريقين أو حزبين، تتعدد الأفراد في كل منهما ، وهو جائز كذلك، إذ روي عن سلمة بن الأكوع قال: >مر رسول ا& صلى ا& عليه وسلم علىنفر من أسلم ينتضلون، فقال: أإرموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، أرموا وأنا مع بني فلان(لأحد الفريقين)، فأمسكوا أيديهم، قال: مالكم لا ترمون!، قالوا: كيف نرمي وأنت معهم!، قال: أرموا وأنا معكم كلكم<(4)•
جـ - إن هذا التعريف قاصر على ما كان فيه عرض من مجالات السباق، فيخرج من السباق ما كان السباق فيه على غير عرض، كالعَدْو الذي دل على جوازه حديث عائشة السابق•
2- إنه اعتد بشخصية المتسابق في سباق الخيل والإبل، فاعتبر السباق فيهما بين شخصين، وإن كان في الحقيقة بين الإبل أو الخيل التي تجري في السباق، وذلك لأن المقصود منه معرفة جوهر الدابتين، وسرعة عَدْوهما، لا حذق الراكب صاحب الفرس، حتى إنه ليترتب البطلان بموت المركوب قبل غاية السباق، ولا يترتب بموت الراكب•
3- إن في هذا التعريف دوراً، لأن بعض ألفاظ التعريف تتوقف على مرعفة المعرَّف، فإن قوله: >السباق: هو أن يسابق الرجل صاحبه<، توقفت معرفة المعرَّف على التعريف، وتوقفت بعض ألفاظ التعريف على المعرَّف، فلزم الدور فيه•
ثانياً: تعريف البهوتي:
1- عرف البهوتي السباق >بالمجاراة<، وهي من جاراه: إذا جرى معه، والتعريف بهذا المعنىغير جامع لأنواع السباق الأخرى، التي لا تتحقق فيها هذهالمجاراة، وذلك كالمصارعة، ورفع الأثقال، ومراماة الحجر، فإنه جائز عند الحنابلة ولا يشملها التعريف•
2- إن البهوتي بتعريفه السباق بالمجاراة، أغفل العقد أو الاتفاق الذي نتج عنه ذلك•
3- إنتعريف السباق بالمجاراة، تعريف للشيء ببعضه، فإن المجاراة ليست كل ما في السباق، وإنما قصد بها معرفة السباق،والتعريف لا يُبين عن هذا القصد، الذي هو الهدف من إجراء السباق، وعدم ذكر الغاية من السباق، يجعل التعريف غير مانع من دخول غير المعرف في التعريف، إذ يشمل تعريف السباق كل مجاراة بين ما ذكر وغيره، ولو لم يكن مقصوداً منها معرفة السباق•
4- إن بعض ما مثل به البهوتي في تعريفه، لا يصدق عليه تعريف السباق، فإن المجاراة أو الجري، إن صدق على السباق بين البشر أو الحيوانات أو السفن، فإنه لا يصدق في الرماح أو المجانق، التي يقذف بها إلى غرض معين، لأنه ليس ثمة ما يجري معها وقت القذف بها•
ثالثاً: تعريف ابن حزم:
1- إن تعريفه للسباق مانع من دخول ما يجوز السباق فيه بغير عوض، وذلك كالأنواع التي لم يذكرها•
2- إنه عرف السباق بإخراج العوض وجعله لمن سبق في المبارة، وإخراج المال إنما هو مرحلة تالية لمرحلة الاتفاق على السباق، الذي يعد الالتزام ببذل هذا العوض لمن يتفوق في السباق أثر من آثاره، فهو تعريف للشيء بأثر المترتب عليه•
3- إن قوله: >أن يخرج الأمير أو غيره مالاً<، يقصر العوض في السباق على ما كان معيناً، وقد ذهب جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم) إلى جواز أن يكون العوض معيناً، وديناً ثابتاً في الذمة، ومنفعة مباحة كذلك(1)•
التعريف المختار:
والذي أراه أقرب إلى التعبير عن معنى السباق في عرف الفقهاء هو أنه عبارة عن : >اتفاق على التباري في الرياضات المختلفة بين البشر، أو الدواب، لمعرفة مدى حذق المتبارين، وإجادتهم، وقدرتهم على التقدم فيما يتسابقون فيه<•
أ - أما إنه اتفاق: فأنه لا يجري بين المتبارين إلا بعد اتفاق الطرفين، أو الأطراف، أو من ينوب عنهم، على كيفية إجرائه، وكيفية السَّبْق فيه، وبيان العوض الذي يعطى للسابق، إن كان السباق على عوض•
ب - والتباري في الرياضات المختلفة: هو أن يفعل كل من المتبارين مثل فعل الآخر مما رُوِّض عليه، وهو قيد في التعريف يخرج كل ما عدا عقد السباق من أنواع العقود، ويدخل فيه كل اتفاق على إجراء السباق، سواء قصد منه تعذيب النفس وأتعابها، أو التلهي والعبث وشغل الوقت بها، أو الوقوف على مدى حذق المتبارين لما ارتاضوا عليه•
جـ - وبين البشر أو الدواب: قيد جيء به لبيان أن السباق إنما يكون بين متَّحِدِي الجنس، فلا يكون بين آدمي وحيوان، ومن ثم كانت مصارعة الثيران- التي تتم فيها مراوغة (الماتدور) للثور حتى يجهز عليه- غير مشروعةج، لأن فيها إيذاء للحيوان، الذي نهينا عن تعذيبه، فضلاً عما فيها من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وذلك محرم، وقد ذكر هذا القيد كذلك ليشمل التباري في الرياضات المختلفة بين البشر، سواء كان بين فريقين، أو شخصين، سواء كان هذا باستخدام آلة كالنبل أو الرمح أو البندقية، أو الزورق أو المظلة أو نحو ذلك، أو كان بدون استخدامها: كالمصارعة والعَدْو والوثب•
د - ومعرفة حذق المتبارين•••إلخ: هو الهدف والغاية من إجراء السباق، فإن كان الهدف منه أمراً غير ذلك: كأن كان لإتعابالنفس وتعذيبها، فهو محرم، لنهى الشارع عن قتل النفس أو الإلقاء بها إلى ما فيه هلاكها، أو كان للهو والعبث، فهو باطل، لما روى عقبة بن عامر أنرسول ا& صلى ا& عليه وسلم قال: >كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنه من الحق<(1)، أو كان للتعالي والسخرية من الآخرين، فذلك محرم كذلك، لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم(2)•
الفرع الثاني
الفرق بين السباق وبين الميسر والقمار
أولاً : معنى الميسر:
أ - الميسر: هو قمار العرب الأزلام، قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل علىماله وأهله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله، فنزل(1) قول ا& تعال: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون(2)•
فالميسر مصدر ، وقد اختلف في اشتقاقه: فثمة قائ: بأنه مشتق من اليسر أو اليسار، لأنه مِنْ أخذ مال الغير بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو اليسار، لأنه سبب يساره وغناه، ومن قائل: بأنه مشتق من التجزئة والاقتسام، إذ يقال: يسروا الشيئ واقتسموه، والياسر: هو الجازر، لأنه يجزئ اللحم ويقسمه، ومن قائل: بأنه مشتق من الواجب، من قولهم: يسر لي هذا الشيئ يسراً أو ميسراً: إذا وجب، والياسر: الواجببسبب القداح(3)•
ب - معنى الميسر في عرف الفقهاء:
بين القاسم بن محمد هذا المعن: فقال: >كل ما ألهى عن ذكر ا& وعن الصلاة فهو من الميسر<(4)•
وقال ابن الرفعة والسيرازي الشافعيان: >الميسر هو القمار<(5)•
وقال الإمام مالك: >الميسر ميسران، ميسر اللَّهو، وميسر القمار، فميسر اللهو: النرد ولاشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه<(6)•
ثانياً معنى القمار:
أ - معنى القمار في عرف أهل اللغة :
القمار: هو الرهان والغلبة، يقال: قامر الرجل مقامرة وقماراً: راهنه، وقامره فقمره: غلبه في لعب القمار، وتقامروا: لعبوا بالقمار(1)•
ب - معنى القمار في عرف الفقهاء:
عرفه الشيرازي فقال: القمار: >أن لا يخلو أحد من أن يغنم أو يغرم<(2)•
وعرفه الشوكاني فقال: >مالا يخلو أحد اللاعبين فيه من غنم أو غرم<(3)•
وقال ابن الرفعة: >هو أخذ مال مخصوص بغير مال بإذائه، ولا تقرب إلى ا& سبحانه وتعالى، ولا إلى الخلق<(4)•
ويلاحظ على تعريف الشوكانيأنهيقصر القمار على بعض أنواعه، وهو ذلك الذي يكون بين اللاعبين، فلا يشمل ما كان منه في العقود أو غيرها، فهو تعريف غير جامع لذلك، وأما تعريف ابن الرفعة فإه عمم في معنى القمار، بحيث صار شاملاً للمال الذي يؤخذ سرقة أو غصباً، لأنه لا يؤخذ مال بإذائه، ولا قربة فيه، وليس هذا من قبيل القمر في عرف أهل اللغة أو الفقه، ولذا كان تعريف الشيرازي له أقرب إلى بيان المعنى الشامل له عند الفقهاء، وذلك لشموله لكل أفراد المعرف، بهذا العموم الشامل لكل المجالات التي تتحقق فيها المقامرة•
ثالثاً: العلاقة بين الميسر والقمار:
الميسر و القمار على قول جمهور الفقهاء، فالعلاقة بينهما هي المساواة، فكل ميسر قمار، والعكس صحيح•
ويعمم القاسم بن محمد في مفهوم الميسر- كما سبق- بحيث يشمل كل ما يتلهى به المرء، ولو اشتمل على فائدة مشروعة، كتلك التي أرشد إليها رسول ا& صلى ا& عليه وسلم بقوله: >كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله فإنه من الحق<، إلا أن يكون ما يتضمنه الحديث من اللهو، مستثنى ضرورة بهذا الحديث من اللهو الباطل، وقد عمم في مفهوم الميسر، بحيث أصبح شاملاً- حسب قوله- لما ليس يه عوض، أو ما اشتمل على عوض، سواء أخرجه أحد الأطراف، أو أخرجه جميعهم (وهذا الأخير يسمى قماراً، لأنه لا يخلو أحد المخرجين له من أن يغنم أو يغرم)، ومن ثم اللعب فيه على مال، وينفرد الميسر في اللعب بغير المال، إذا كان بقصد اللهو أو العبث•
وتصدق هذه النسبة على تقسيم الإمام مالك للميسر، فهو يرى أن ميسر اللهو: هو النرد والشطرنج والملاهي كلها إذا لم تكن على عوض، وأما ميسر القمار: فهو الذي يكون على عوض يخرجه أطرافه جميعاً، وهذا هو معنى ما يتخاطر الناس عليه•
رابعاً: العلاقة بين السباق والميسر:
اخترت من تعريف السباق أنه >اتفاق على التباري في الرياضات المختلفة<•••إلخ• والسباق بهذا المعنى قد يكون من الميسر وقد لا يكون:
فيكون منه: إذا كان السباق فيما لا يفيد، أو كان بقصد اللهو والعبث: كالسباق في مهارشة الديكة، أو مناطحة الكباش، أو التحريش بين الكلاب، أو مصارعة الثيران، أو اللعب بالنرد أو الشطرنج أو ما ماثلها•
ولا يكون السباق من الميسر: إذا لم يجر على عوض، وكان المقصود منه تحصيل فائدة التدريب والإعداد للقيام بعمل مفيد، وخلا عن اللهو والعبث: كالمسابقة في العدو، والمصارعة، وزيادة الإنتاج، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم العلوم النافعة، فلا يعد الاشتغال بالسباق فيها من الميسر أو مما يلهي القلب عن ذكر ا& تعالى•
خامساً: العلاقة بين السباق والقمار:
اخترت من تعريف القمار في عرف الفقهاء، تعريف أبي إسحاق الشيرازي له، بأنه >لا يخلو أحد فيه من أن يغنم أو يغرم<•
وعلى هذا فإن السباق قد يكون منالقمار، وقد لا يكون:
فيكون منه: إذا أخرج أطراف السباق جميعاً العوض، ولم يدخلوا بينهم محللاً - لا يخرج شيئاً من أموال السباق - فلا يخلو طرف منهم حينئذ إما أن يغنم ما أخرجوه جميعاً إذا سَبَق، أو يغرم ما أخرجه إذ سُبِق، فيتحقق القمار•
وقد لا يكون السباق قماراً: إذا أخرج السَّبْق أحد الطرفين في السباق، أو أخرجه اثنان منهم إن كانوا ثلاثة، فإذا سَبق المخرج للسبْق، أحرز ما أخرجه، ولا شيئ له على صاحبه، وإن سَبق من لم يخرج السبْق أخذ السبْق ممن أخرجه،وكذا لا قمار فيه إذا أخرج الإمام السبق من ماله، أو بيت مال المسلمين، أو من خزانة الدولة، أو أخرجه أحد الرعية من ماله، تشجيعاً لما يتسابق فيه•
سادساً: حكم الميسر والقمار:
لا خلاف بين الفقهاء على حرمة القمار والميسر(1)، لتضافر الأدلة على ذلك، ولاتي منها قول ا& تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلك تفلحون(2)، وروى عبد ا& بن عمر رضي ا& عنهما أن رسول ا& صلى ا& عليه وسلم قال: >إن ا& حرم الخمر والميسر والكوبة والغعبيراء وكل مسكر<(3)، وروى أبو هريرة رضي ا& عنه أن النبي صلى ا& عليه وسلم قال: >من حلف فقال في حلفه: والات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق<(4)، فهذه النصوص صريحة في حرمة الميسر والقمار•
الفرع الثالث
حكم السباق
لاخلاف بين الفقهاء على مشروعية السباق في الجملة، وإن قيد الحنفية جوازه بما كان منه في ذي الحافر، والخف، والنصل، أو عدواً على الأقدام(1)•
ويرى جمهو الشافعية أن السباق سنة ومندوب إليه للرجال المسلمين، غير ذوي الأعذار، إذا كان بقصد التأهب للجهاد(2)•
وقال الرزكشي الشافعي: ينبغي أن تكون المسابقةعلى الإبل والخيل والرمي فرض كفاية(3)•
بينما يرى الباجوري الشافعي: أن السباق تعتريه الأحكامالتكليفية الخمسة، فهو سنة للرجال إذا قصد منه الإعداد للجهاد، وواجب إذا تعين طريقاً لقتال الكفار، ومحرم إذا قصد به محرم: كقطع الطريق،ومكروه إذا قصد به ارتكاب مكروه: كقتل الشخص قريبه الكافر، الذي لم يسب ا& ولا رسوله صلى ا& عليه وسلم، ومباح إذا قصد به غير الجهاد أو لم يقصد به شيء(4)•
وقد استدل الفقهاء على مشروعية السباق في الجملة بما يلي:
أولاً : الكتاب الكريم:
قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة(5)•
وجه الدلالة من الآية:
فسر رسول ا& صلى ا& عليه وسلم >القوة< التي أر ا& المسلمي بإعدادها لأعداء ا& وأعدائهم بأنها >الرمي<، وذلك فيما رواه عقبة بن عامر قال: سمعت رسول ا& صلى ا& عليه وسلم وهو على المنبر يقول: >وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة< ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوةالرمي، ألا إن القوة الرمي<(1)، والسباق في الرمي ونحوه هو من إعداد القوة المأمور به في الآية الكيريمة•
ثانيا: السنة النبوية المطهرة: أحاديث منها:
1- روي عن أنس بن مالك رضي ا& عنه قال: >كانت لرسول ا& صلى ا& عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تُسبَق،فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فلما رأى ما في وجوههم قال: إن حقاً علىا& أنه لا يرف شيئاً من الدنيا إلا وضعه<(2)•
2- روي عن سلمة بن الأكوع رضي ا& عنه قال: >أمر رسول ا& صلى ا& عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال: أرموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، أرموا وأنا مع بني فلان - لأحد الفريقين - فأمسكوا أيديهم، قال: مالكم لا ترمون!، فقالوا: وكيف نرمي وأنت معهم!، قال: أرموا وأنامعكم كلكم<•
3- روي عن عائشة رضي ا& عنها قالت: >كنت مع النبي صلى ا& عليه وسلم في سفر وأنا جارية، فقال لأصحابه: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعال أسابقك، فسابقته فسبقْته على رِجْلي، فلما كان بعد خرجت أيضاً معه في سفر، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: تعال أسابقك، ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم، فقلت: وكيف أسابقك يا رسول ا& وأنا على هذه الحال!، فقال: لتفعلن، فسابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة<•
4- روي عن عبد ا& بن عمر رضي ا& عنهما >أن النبي صلى ا& عليه وسلم سابق بين الخيل المضمَّرةمن الحفياء إلى ثنية الوداع، وبين التي لم تضمَّر من ثنيةالوداع إلى مسجد بن زريق<(1)•
وجه الدلالة من الأحاديث:
دل الحجديثان الأول والرابع على مشروعية السباق بين الإبل والخيل، ودل الحديث الثاني على مشروعيةالسباق في الرمي بالسهمام، ودل الحديث الثالث على مشروعية السباق في العدو على الأقدام، إذ شارك رسول ا& صلى ا& عليه وسلم في هذه السباقات، ونظمها، وهذا يدل على مشروعية السباق عامة •
ثالثاً الإجماع:
أجمع العلماء على جواز السباق جملة، وقد حكى ابن قدامةوغيره هذا الإجماع، وقال الشربيني الخطيب: إن المسابقةعلى الخيل والإبل والرماية بالسهام سنة بالإجماع للرجال المسلمين غير ذوي الأعذار، إذا كانت بقصد التأهب للجهاد(2)•
رابعاً المعقول:
1- إن الحاجة ماسة إلى السباق، لاختيار حسن التدريب على أساليب القتال، والاستعداد له(3)•
2- إن السباق مستثنى من ثلاث قواعد هي: القمار، والتعذيب الحيوان لغير مأكله، وحصول العوض والمعوض لشخص واحد، وقد استثنى من هذه القواعد الممنوعة لمصلحة الجهاد(4)•
3- إن استثناء المسابقة على كل ذي خف أوحافر أو نصل، أو المسابقة في العدو على الأقدام من اللعب المحرم، يحتمل أن يكون لمعنى لا يوجد في غيرها، وهوالرياضة والاستعداد لأسبابالجهاد في الجملة، فكانت لعباً صورة، ورياضة، وتعلم أسباب الجهاد، فيكون جائزاً إذا استجمع شرائط الجواز، ولئن كان لعباً، لكن اللعب إذا تعلقت به عاقبة حميدة، لا يكون حراماً(1)•
المطلب الثاني
السباق بين كل ذي حافر
ذو الحافر في اللغة: يطلق على الخيل البغال والحمير، ولذا فإني أبين في هذا المطلب حكم السباق بين كل نوع منها:
الفرع الأول
السباق بين الخيل
لا خلاف بين الفقهاء على جواز السباق بينالخيل، سواء كانهذا على عوض،أولم يكن(1)•
ومما ستدل به على جواز إجراء السباق بين الخيل على عوض أو غيره ما يلي:
أولاً: الكتاب الكريم:
قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو ا& وعدوكم•
وجه الدلالة من الآية:
أمر الحق سبحانه بإعداد الخيل للمرابطة بها في سبيله، وإرهاب العدو بها، وهذا لا يكون إلا بتعويدها عليه، والسباق يساعد على ذلك، فكانمشروعاً•
ثانياً: السنة النبوية المطهرة: أحاديث منها:
1- روى عبد ا& بن عمر رضي ا& عنهما >أن رسول ا& صلى ا& عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بن زريق<•
2- روى نافع عن عبد ا& بن عمر رضي ا& عنهما: >أن النبي صلى ا& عليه وسلم سبَّق بين الخيل وراهن<، وفي رواية أخرى >سبق بين الخيل وأعطى السابق<(2)•
3- روي عن ابن عمر رضي ا& عنهما >أن النبي صلى ا& عليه وسلم سبق بين الخيل، وفضل القرح في الغاية<(1)•
4- روي عن أنس رضي ا& عنه >أنه قيل له: أكنتم تراهنون على عهد رسول ا& صلى ا& عليه وسلم؟، أكان رسول ا& صلى ا& عليه وسلم يراهن؟، قال: نعم، وا& لقد راهن على فرس يقال له: سبحة، فسبق الناس فبهش لذلك وأعجبه<، وفي رواية>هش<(2)•
يقول البيهقي: >وهذا إن صح،فإنما أرد إذا سبق أحد الفارسين صاحبه، فيكون السبْق منه دون صاحبه<(3)•
5- روي عن أبي هريرة رضي ا& عنه أن رسول ا& صلى ا& عليه وسلم: >إن الملائكة لا تحضر من لهوكم إلا الرهان والنضال<(4)، قال الأزهري: الرهان في الخيل ولانضال في الرمي، وثمة رواية أخرى له بلفظ: >إن الملائكة لتفر عند الرهان وتلعن صاحبه، ما خلا الحافر والخفر والريش والنصل<(1)•
وجه الدلالة من الأحاديث:
دلت الأحاديث السابقة على جواز السباق على الخيل إلى أمد محدود، بعوض أو بغيره، وأن رسول ا& صلى ا& عليه وسلم وأصحابه رضوان ا& عليهم كانوا يشاركون في هذا السباق بخيلهم، وأن الملائكة تفر من كل ما يلهو به المسلم، وتلعن صاحبه، إلا لهوه بالسباق على الخيل وما ذكر معه في الحديث، فإنها تحضر ذلك ولا تلعن من يلهو به•
وقد روي عن النبي صلى ا& عليه وسلم أحاديث، يوهم ظاهرها أن الرهان على الخيل محرم، من هذه الأحاديث ما يلي:
1- روي عن ابن مسعود رضي ا& عنه مرفوعاً إلى النبي صلى ا& عليه وسلم أنه قال: >الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان، فأما فرس الرحمن: فالذي يرتبط به في سبيل ا&، فعلفه وروثه وبوله- وذكر ما شاء ا&- في ميزانه، وأما فرس الشيطان: فالذي يقامر أو يراهن عليه، وأما فرس الإنسان: فالذي يرتبطها يلتمس بطنها مخافة الفقر<(2)•
2- روي عن رجل من الأنصار أنه قال: قال رسول ا& صلى ا& عليه وسلم: >الخيل ثلاثة: فرس يربطه الرجل في سبيل ا&، فثمنه أجر، وركوبه أجر، وعاريته أجر، وعلفه أجر، وفرس يغالق فيه الرجل ويراهن، فثمنه وزر، وعلفه وزر، وركوبه وزر، وفرسه للبطنة، فعسى أن يكون سداداً من الفقر إن شاء ا&<(1)•
فالحديثان السابقان يوهم ظاهرهما عدم جواز الرهان على الخيل، وهما من هذا المنطلق يعارضان الأحاديث الدالة على جواز الرهان عليها•
إلا أنه يمكن التوفيق بين هذه وتلك: بأن ما دل من الأحاديث على عدم جواز الرهان على الخيل، محمول على ما اتخذ من الرهان صفة القمار، بأن أخرج كل من المتسابقين سبقاً من عنده، ولم يدخلا بينهما محللاً، فيكون الرهان- والحال هذه- قاراً محرماً، لأن شرط الرهان على الخيل- كما أبين بعد- أن يخرج السبق أحد المتسابقين، فإن أخرجوه جميعاً على أنه سَبَق أحدهم أخذ المخرج كله، وإن سُبِق غرم سبقه، كان قماراً، لأن كلاً منهما لا يخلو من أن يكون غانماً أو غارماً•
ولهذا يقول البيهقي في حديث ابن مسعود السابق: >وهذا إن ثبت، فإنما أراد به- وا& أعلم- أن يخرجا سبقين من عندهما ، ولم يدخلا بينهما محللاً، فيكون قماراً، فلا يجوز<(2)•
ويقول الشوكاني في قول ابن تيمية على الحديثين السابقين: >يحملان على المراهنة من الطرفين<، أي بأن يكون الجعل للسابق منهما من المسبوق من غير تعيين(3)•
وأما الأحاديث التي دلت على جواز السباق في الخيل، فإنها تحمل على ما تحققت شروط السباق فيه، وخلا من القمار•
ثالثاً: المعقول:
1- إن الخيل من آلات الحرب المأمور بتعلمها، وإحكامها والتفوق فيها، وفي المسابقة بها مع العوض مبالغة في الاجتهاد في تعلمها وإحكامها(1)•
2- إن الخيل مما يحتاج إليه في الجهاد، وكل ما هو من أسباب الجهاد فتعلمه مندوب إليه(2)، والسباق يتوسل به إلى ذلك، والوسائل تأخذ حكم غاياتها•
الرهان في نوادي سباق الخيل العصرية:
تنتشر نوادي سباق الخيل في كثير من بلاد العالم في الوقت الحاضر، ومن هذه السباقات >سباق الدربي<، وهو سباق للخيل مشهور بدأه سنة 0871م >إيريل أوف ديربي<، ويقام كل عام في مدينة >أيسوم دونز< بالقرب من لندن، وتشترك في هذا السباق الخيول من أعمار ثلاث سنين فقط(3)•
وينظم السباق بين الخيل في هذه النوادي على النحو التالي:
أ - يشترك في هذا السباق خيل الهواة، التي يعتقد أصحابها فوزها على غيرها من الخيل المشتركة في السباق، حيث يفوز صاحبها بجائزة مالية كبيرة•
ب - تُعِد إدارة النادي قائمة بأسماء الخيول التي تشترك في كل شوط من أشواط السباق، ويُعلَن عن أسمائها بمذياع، كما تكتب أسماء الخيول والأشواط على لوحة السباق، حتى يطلع عليها الجمهور•
جـ - في يوم السباق يحضر الهواة والمقامرون لميدان السباق، ويستعرضون الخيل التي ستشترك في أشواط السباق، والتي تكون في مكان يمكن مشاهدتها منه•
د - يقوم كل من أراد الحضور بالمراهنة على فرس معين أو أكثر بالمبلغ الذي يريده، من منطلق اعتقاده بأن ما راهن عليه منها سيكون هو الفائز في السباق، إذ للمراهن الحق في أن يراهن على أي عدد منها•
هـ - يجري السباق في الوقت المحدد له أمام الجمهور، فإن فاز الفرس المراهن عليه، فله جائزته التي تعطى لصاحبه، ولكل من راهن عليه جائزة نقدية يحدد مقدارها مجموع ما دفع من أموال الرهان في ذلك الشوط، حيث تجمع وتقسم، فيأخذ النادي جزءاً منها، ويوزع الباقي على المراهنين، فإن كان المراهن واحداً أخذ المال كله، وإن كانوا أكثر قسم بينهم بالتساوي•
و - يستمر السباق بإجراء الشوط الثاني والثالث وغيره، إلى أن يتم البرامج الذي أعلن عنه النادي •
ز - في نهاية البرامج يكون قد فاز من فاز وخسر من خسر، إلا أن النادي المنظم للسباق يكون هو الحائز لأكبر قدر من مال الرهان، حتى يغطي نفقاته، وأجور موظفيه والمشرفين على شئونه•
ح - إلى جانب ذلك فإن ثمة جوائز أخرى توزع في كلشوط، على راكب الفرس الفائز في السباق، لإجادته قيادة الفرس حتى وصل إلى هذه النتيجة الحسنة•
والمطلع على ما يتم في هذه النوادي من سباقات الخيل، لا يسعه إلا أن يقول بحرمة إجرائه والاشتراك فيه، لأنه قمار•
فإن هذا السباق يتم بين خيل يراهِن عليها من يحضرون إجراء السباق، والجائزة تعطى للفائز، وتخرج من أموال المراهنين على الخيل، وقد يراهن صاحب الفرس الفائز، وكذلك راكب الفرس(الجوكى)، مما يتضح معه أن العوض قد أخرجه كل الأطراف المشتركة في السباق، وهذا هو القمار المنهي عنه، لأنه لا يخلو طرف فيه من غرم أو غنم•
ولأن المراهن قد راهن بماله علي فرس معين، معتقداً أنه الذي سيفوز في ذلك الشوط، فإن فاز الفرس فاز المراهن بالجائزة التي تتقرر فيما بعد، وإلا خسر ما دفع، فالدافع إلىالرهان هو الكسب المادي، والمقامرة عليه، وما لأجل هذا شرع السباق•
وكيفية المراهنةفي سباق الخيل في مثل هذه النوادي يتبع مثلها في أكثر السباقات الأخرى التي تجرى بين الدواب، والحكم فيها هو نفس حكم المراهنة في سباق الخيل في نواديه•
الفرع الثاني
السباق بين البغال أو الحمير
أ - لا خلاف بين العملاء على جواز إجراء السباق بين البغال، وجواز إجرائه بين الحمير، إذا كان بغير عوض فيهما، وإن كان بعض فقهاء المالكية قيد جواز السباق بينها، بأن يكون بقصد الإعانة على الحرب(1)•
وقد جاز السباق فيها على غير عوض، باعتبارها من ذوات الحافر، وقد روي عن النبي صلى ا& عليه وسلم ما يفيد جوازه فيها، وذلك ما روي عن أبي هريرة رضي ا& عنه قال: قال رسول ا& صلى ا& عليه وسلم: >لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر<•
ب - وإنما الخالف بينهم في حكم إجراء السباق بيها في مقابلة عوض (سَبَق)، ولهم فيه مذهبان:
المذهب الأول:
يرى أصحابه جواز السباق على البغال أو الحمير في مقابلة عوض•
قال به عطاء، وإليه ذهب الحنفية، وهو الأظهر من مذهب الشافعية، وقول ابن حزم، والأصح عند الزيدية، وهو مذهب الإمامية(2)•
المذهب الثاني:
يرى من ذهب إليه عدم جواز السباق على البغال أو الحمير في مقابلة عوض•
قال به الزهري، وإليه ذهب المالكية، وهو قول للشافعي، ومذهب الحنابلة، ووجه في مذهب الزيدية(3)•
استدل أصحاب المذهب الأول على جواز السباق على البغال أو الحمير في مقابلة عوض بما يلي:
السنة النبوية المطهرة:
حديث أبي هريرة السابق•
وجه الاستدال به:
أفاد هذا الحديث جواز السباق على عوض في كل ذي حافر، والبغال والحمير من ذوات الحافر، وقد ضبطت لفظة >سَبَق< في الحديث بفتح الباء، ويقصد بها ما يجعل للسباق على سبْقه من جعل، ومن ثم فإن الحديث يدل بعمومه على جواز إجراء السباق على البغال أو الحمير في مقابلة جعل، ويؤيد هذا العموم، العدول عن ذكر الفرس والبعير إلى الحافر والخف، ولا فائدة فيه غير قصد التعميم•
اعترض على الاستدال بعمومه من وجهين:
الأول: إن هذا الخبر ليس بعام فيما تجوز المسابقة به، لأنه نكرة في إثبات، وإنما هو عام في نفي ما لا تجوز المسابقة به بعوض، لكونه نكرة في سياق النفي•
الثاني: لو سلم عمومه لكان محمولاً على ما عهدت المسابقة عليه، وورد الشرع بالحث على تعلمه، وهو الخيل والإبل والرمي بالسهام(1)•
استدل أصحاب المذهب الثاني على عدم جواز المسابقة على البغال أو الحمير بعوض بما يلي:
أولاً: السنة النبوية المطهرة:
حديث أبي هريرة السابق•
وجه الاستدال به:
إن المراد بالحافر في الحديث الخيل وحدها دون غيرها من ذوات الحافر، وقد نفي الحديث جواز السَّبَق في غير الحافر وما ذكر معه، فيحتمل أن يراد به نفي الجعل، أي لا يجوز الجعل إلا في هذه الثلاثة المذكورة فيه، ويحتمل أن يراد به نفي المسابقة على عوض، إذ يتعين حمل الخبر على أحد الاحتمالين، لانعقاد الإجماع على جواز المسابقة بغير عوض في هذه الثلاثة•
ثانياً: المعقول:
إن البغال والحمير لا تصلح للكر والفر في الحروب، ولا يقاتل عليها، ولا يسهم لها، فلا تجوز السابقة عليها بعوض(1)•
الرأي الراجح:
بعد استعراض ما استدل به للمذهبين، وما اعترض به على بعض الأدلة، فإني أرى رجحان ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول، من جواز السباق على البغال أو الحمير في مقابلة عوض يعطى للسباق منها، لما استدلوا به ولما يل:
1- إن البغال والحمير من ذوات الحافر، وقد شملها عموم الحديث، وما اعترض به على هذا العموم لا وجه له، فإن >سَبَق< في الحديث نكرة، وقعت في سياق النفي، فتفيد العموم والمقصود بالسبق في الحديث: الجعل الذي يعطى للفائز في السباق، وليس المراد به السباق، للإجماع على جواز المسابقة على ما ذكر في الحديث بغير عوض، فالحديث يفيد بعمومه نفي المسابقة على عوض في غير هذه الثلاثة، وذوات الحافر تصدق على البغال والحمير كما تصدق على الخيل، ولو أريد بها الخيل وحدها لعبر به في الحديث، فالحديث يفيد العموم في كل ذي حافر•
2- إن قول المعترض على دليل المذهب الأول: إنه لو سلم عموم الحديث، لكان محمولاً على ما عهدت المسابقة عليه، وورد الشرع بالحث على تعليمه، وهو الخيل والإبل والسهام، قول واه، فإن الشرع قد حث على تعلم السباحة، وهي مما يعهد في امثلها إجراء السباق، ومع هذا فلا يحمل عليها عموم الحديث السابق، ودليل الحث على تعلـم السـباحة مـاروي عـن عطـاء قال: >رأيت جابـر بن عبد ا& وجابر بن عمير الأنصاريين رضي ا& عنهما يرميان، فملَّ أحدهما فجلس، فقال لصاحبه: أجلسـت!، أما سمعـت رسـول ا& صلى ا& عليه وسلم يقول: كل شيء ليس من ذكـرا^ فهو سهو ولهو إلا أربع: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وتعلمه السباحة، وملاعبته أهله<(1) وروي عن بكر بن عبد ا& بن الربيع الأنصاري أن رسول ا& صلى ا& عليه وسلم قال: >علموا أبناءكم السباحة والرماية<(2)•
3- إن ا& سبحانه وتعالى قد بين النفع في ذوات الحافر جميعاً، فقال جل سأنه والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة(3)، ولم يفصل سبحانه في الانتفاع بها في الركوب بين ما إذا كان ذلك للجهاد أو غيره، وركوب هذه يقتضي إعداداً وتدريباً، فجازت المسابقة عليها بعوض، إذ لا فرق في هذا بين مركوب ومركوب•
4- إن ما استدل به أصحاب المذهب الثاني على عدم جواز السباق في البغال أو الحمير بعوض، لا يصلح مستنداً لهم، فإنهم استدلوا بالحديث، ووجهوه باحتمال إرادة أحد أمري، ومقتضى هذا أن يسقط استدلالهم به، لأن الدليل إذا دخله الإحتمال سقط به الاستدلال•
5- إن القول بأن البغال والحمير لا تصلح للكر والفر في الحروب، ولا يقاتل عليها، ولا يسهم لها، موضع نظر، فإن الإبل لا تصلح للكر والفر في الحروب لثقلها، ومثل هذا لا يقاتل عليه إلا نادراً، وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يسهم لها بشيء من المال المغنوم، إذ قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم، أن من غزا على بعير، فله سهم راج،ولم ينقل عن النبي صلى ا& عليه وسلم أنه أسهم لغير الخيل من البهائم، وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيراً، ولم تخل غزوة من غزواته من الإبل، فلم ينقل عنه أنه أسهم لها، ولو أسهم لها لنقل(4)، ومع أن الإبل بهذه المثابة إلا أنها مما يجوز السباق عليها بعوض باتفاق- كما أبين بعد- فلِمَ جاز فيها ذلك، ومُنّع في البغال والحمير•
6- إن البغال والحمير وإن كانت لا تصلح للكر والفر في الحروب- إن قلنا بأن جواز السباق لإعداد ما ينفع في الحرب- إلا أنها تنفع في نقل الذخيرة والأمتعة والعتاد الحربي في المناطق الوعرة، في الجبال والغابات التي لا تطرقها وسائل النقل الميكانيكية، كما تفيد في نقل المصابين إلى مراكز إسعافهم، إلى غير ذلك من وجوه النفع التي لا تخفى•
الحمد & رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين•• وبعد:
فإنه لابد لكل أمة مهما كانت درجتها في الحضارة والرقي، من قوانين ونظم تنظم حياتها، وتنسق علاقات أفرادها وجماعتها، وليعيش الجميع في سلام إذا ساروا على ضوء تلك النظم، ومن فضل ا& تعالى على هذه الأمة أن أكرمها بشريعة الإسلام، وهي الشريعة لتكون خاتمة الشرائع السماوية، ورضيها للناس كافة، لتكون دستور حياتهم وسبب صلاحهم، ونهج استقامتهم ، وطريق سعادتهم في الدنيا والآخرة، وما كان ا& ليختار هذه الشريعة للناس كافة، ويجعلها خاتمة لرسالاته، إلا لأنها تحمل في تعاليمها ونظمها ما يجعلها جديرة بهذه الغاية السامية، فقد واجهت كل مرافق الحياة، وبسطت سلطانها على كل شيء في هذا الوجود، ومما هو جدير ببيان سمو هذه الشريعة، وتنظيمها للعلاقات المختلفة، بيانها لأحكام السباق، سواء منها ما يتعلق بالسباق بين البشر في المجالات المختلفة، أو السباق بين الدواب في العدو، أو نحوه، هذه السباقات التي بات التنافس فيها شغل الكثيرين، والتي أنشئت لممارستها الأندية والساحات، ورصد لها المال الكثير للإنفاق على تنظيمها ، ومنح الجوائز لمن يحققون السَّبْق فيها، والتي كثر الاهتمام بها وبنتائجها في أيامنا هذه أكثر من ذي قبل، وقد اجتزأت من بين هذه الأحكام، ما يتعلق بالسباق بين الدواب، وجعلت البحث فيه في ستة مطالب على النحو التالي:
المطلب الأول: حقيقة الساباق وحكمه•
الفرع الأول : معنى السباق•
الفرع الثاني: الفرق بين السباق وبين الميسر والقمار•
الفرع الثالث: حكم السباق•
المطلب الثاني: السباق بين كل ذي حافر•
الفرع الأول: السباق بين الخيل•
الفرع الثاني: السباق بين البغال أو الحمير•
المطلب الثالث: السباق بين كل ذي خف•
الفرع الأول: السباق بين الإبل•
الفرع الثاني: السباق بين الفيلة•
المطلب الرابع: السباق بين الكباش والثيران والكلاب•
الفرع الأول: مناطحة الكباش والثيران وتحريش الكلاب•
الفرع الثاني: مصارعة الثيران•
المطلب الخامس: شروط السباق•
المطلب السادس: آداب السباق وما يحصل به السبق•
الفرع الأول: آداب السباق•
الفرع الثاني: ما يحصل به السبق•
المطلب الأول
حقيقة السباق وحكمه
أبين في هذا الصدد معنى السباق، والفرق بينهوبين الميسر من جهة وبين القمار من جهة أخرى، وحكم السباق•
الفرع الأول
معنى السباق
أولاً: معنى السباق في عرف أهل اللغة:
السباق: مصدر سابَق، يقال: سابقت بين الخيل وسبَّقتُ بينها إذا أرسلتها وعليها فرسانها لتنظر أيهات يسبق، وسِبقك: الذي يسابقك، ويقال: هم سِبقي، وأسباقي، والعرب تقول للذي يسبق من الخيل: سابق، وسبوق، وإذا يُسبق فهو مُسبَّق، ويقال: سابقته فسبقته، وله سابقة في الأمر: إذا سبق الناس إليه، واستبق القوم وتسابقوا: إذا تخاطروا، واستبق القوم إلى الأمر وتسابقوا: إذا بادروا إليه•
والسسبَق: بفتح الباء- والسُّبقة: هو الرهان الذي يوضع بين أهل السباق، وهو ما يجعل من المال رهناً على المسابقة، فمن سبق أخذه، وجمعه: أسباق، ويقال: سبَّق: إذا أخذ السبق،وسبَّق: رذا أعطى السَّبَق، وهذا من الأضاد•
ولاسبْق: بتسكين الباء - والسابقة: هي التقدم في الجري وفي كل شيء، تقول: له في كل أمر سِبقة، وسُبقه، وسابقعة، وسبْق، وهو مصدر سبَق، وجمعه: السوابق(1)•
ثانياً: معنى السباق في عرف الفقهاء:
1- عرفه الكاساني بقوله: >أن يسابق الرجل صاحبه في الخيل والإبل ونحو ذلك، فيقول: إن سبقتك فكذا، وإن سبقتني فكذا<(2)•
2- وعرفه البهوتي بأنه: >المجاراة بين حيوان ونحوه، كسفن ورماح ومجانق<(1)•
3- وعرفه ابن حزم فقال: >السبق هو أن يخرج الأمير أو غيره مالاً يجعله لمن سبق في أحد هذه الوجوه< (يقصد الإبل، والخيل، والبغال، والحمير، والأقدام، والرماح، والسيوف، والنبال)(2)•
ويلاحظ على هذه التعريفات مايلي:
أولاً : تعريف الكاساني:
1- إنه تعريف غير جامع لكل أفراد المعرف، فإن قوله:>أن يسابق الرجل صاحبه< يخرج من تعريف السباق ما ينبغي أن يشمله، ومن ذلك:
أ - مسابقة الرجل زوجته أو ذوات محارمه، فإنه جائز إذا لم يترتب عليه محرم، إذ روي عن عائشة رضي ا& عنها قالت: >كنت مع النبي صلى ا& عليه وسلم في سفر، فسابقته فسبَقْتُه على رِجْلي ، فلما حملت اللحم سابقته فسبَقَني ، فقال : هذه بتلك السُّبقَر<(3)•
ب - السباق الذي لا يكون بينرجل وصاحبه ، بل يكون بين فريقين أو حزبين، تتعدد الأفراد في كل منهما ، وهو جائز كذلك، إذ روي عن سلمة بن الأكوع قال: >مر رسول ا& صلى ا& عليه وسلم علىنفر من أسلم ينتضلون، فقال: أإرموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، أرموا وأنا مع بني فلان(لأحد الفريقين)، فأمسكوا أيديهم، قال: مالكم لا ترمون!، قالوا: كيف نرمي وأنت معهم!، قال: أرموا وأنا معكم كلكم<(4)•
جـ - إن هذا التعريف قاصر على ما كان فيه عرض من مجالات السباق، فيخرج من السباق ما كان السباق فيه على غير عرض، كالعَدْو الذي دل على جوازه حديث عائشة السابق•
2- إنه اعتد بشخصية المتسابق في سباق الخيل والإبل، فاعتبر السباق فيهما بين شخصين، وإن كان في الحقيقة بين الإبل أو الخيل التي تجري في السباق، وذلك لأن المقصود منه معرفة جوهر الدابتين، وسرعة عَدْوهما، لا حذق الراكب صاحب الفرس، حتى إنه ليترتب البطلان بموت المركوب قبل غاية السباق، ولا يترتب بموت الراكب•
3- إن في هذا التعريف دوراً، لأن بعض ألفاظ التعريف تتوقف على مرعفة المعرَّف، فإن قوله: >السباق: هو أن يسابق الرجل صاحبه<، توقفت معرفة المعرَّف على التعريف، وتوقفت بعض ألفاظ التعريف على المعرَّف، فلزم الدور فيه•
ثانياً: تعريف البهوتي:
1- عرف البهوتي السباق >بالمجاراة<، وهي من جاراه: إذا جرى معه، والتعريف بهذا المعنىغير جامع لأنواع السباق الأخرى، التي لا تتحقق فيها هذهالمجاراة، وذلك كالمصارعة، ورفع الأثقال، ومراماة الحجر، فإنه جائز عند الحنابلة ولا يشملها التعريف•
2- إن البهوتي بتعريفه السباق بالمجاراة، أغفل العقد أو الاتفاق الذي نتج عنه ذلك•
3- إنتعريف السباق بالمجاراة، تعريف للشيء ببعضه، فإن المجاراة ليست كل ما في السباق، وإنما قصد بها معرفة السباق،والتعريف لا يُبين عن هذا القصد، الذي هو الهدف من إجراء السباق، وعدم ذكر الغاية من السباق، يجعل التعريف غير مانع من دخول غير المعرف في التعريف، إذ يشمل تعريف السباق كل مجاراة بين ما ذكر وغيره، ولو لم يكن مقصوداً منها معرفة السباق•
4- إن بعض ما مثل به البهوتي في تعريفه، لا يصدق عليه تعريف السباق، فإن المجاراة أو الجري، إن صدق على السباق بين البشر أو الحيوانات أو السفن، فإنه لا يصدق في الرماح أو المجانق، التي يقذف بها إلى غرض معين، لأنه ليس ثمة ما يجري معها وقت القذف بها•
ثالثاً: تعريف ابن حزم:
1- إن تعريفه للسباق مانع من دخول ما يجوز السباق فيه بغير عوض، وذلك كالأنواع التي لم يذكرها•
2- إنه عرف السباق بإخراج العوض وجعله لمن سبق في المبارة، وإخراج المال إنما هو مرحلة تالية لمرحلة الاتفاق على السباق، الذي يعد الالتزام ببذل هذا العوض لمن يتفوق في السباق أثر من آثاره، فهو تعريف للشيء بأثر المترتب عليه•
3- إن قوله: >أن يخرج الأمير أو غيره مالاً<، يقصر العوض في السباق على ما كان معيناً، وقد ذهب جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم) إلى جواز أن يكون العوض معيناً، وديناً ثابتاً في الذمة، ومنفعة مباحة كذلك(1)•
التعريف المختار:
والذي أراه أقرب إلى التعبير عن معنى السباق في عرف الفقهاء هو أنه عبارة عن : >اتفاق على التباري في الرياضات المختلفة بين البشر، أو الدواب، لمعرفة مدى حذق المتبارين، وإجادتهم، وقدرتهم على التقدم فيما يتسابقون فيه<•
أ - أما إنه اتفاق: فأنه لا يجري بين المتبارين إلا بعد اتفاق الطرفين، أو الأطراف، أو من ينوب عنهم، على كيفية إجرائه، وكيفية السَّبْق فيه، وبيان العوض الذي يعطى للسابق، إن كان السباق على عوض•
ب - والتباري في الرياضات المختلفة: هو أن يفعل كل من المتبارين مثل فعل الآخر مما رُوِّض عليه، وهو قيد في التعريف يخرج كل ما عدا عقد السباق من أنواع العقود، ويدخل فيه كل اتفاق على إجراء السباق، سواء قصد منه تعذيب النفس وأتعابها، أو التلهي والعبث وشغل الوقت بها، أو الوقوف على مدى حذق المتبارين لما ارتاضوا عليه•
جـ - وبين البشر أو الدواب: قيد جيء به لبيان أن السباق إنما يكون بين متَّحِدِي الجنس، فلا يكون بين آدمي وحيوان، ومن ثم كانت مصارعة الثيران- التي تتم فيها مراوغة (الماتدور) للثور حتى يجهز عليه- غير مشروعةج، لأن فيها إيذاء للحيوان، الذي نهينا عن تعذيبه، فضلاً عما فيها من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وذلك محرم، وقد ذكر هذا القيد كذلك ليشمل التباري في الرياضات المختلفة بين البشر، سواء كان بين فريقين، أو شخصين، سواء كان هذا باستخدام آلة كالنبل أو الرمح أو البندقية، أو الزورق أو المظلة أو نحو ذلك، أو كان بدون استخدامها: كالمصارعة والعَدْو والوثب•
د - ومعرفة حذق المتبارين•••إلخ: هو الهدف والغاية من إجراء السباق، فإن كان الهدف منه أمراً غير ذلك: كأن كان لإتعابالنفس وتعذيبها، فهو محرم، لنهى الشارع عن قتل النفس أو الإلقاء بها إلى ما فيه هلاكها، أو كان للهو والعبث، فهو باطل، لما روى عقبة بن عامر أنرسول ا& صلى ا& عليه وسلم قال: >كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنه من الحق<(1)، أو كان للتعالي والسخرية من الآخرين، فذلك محرم كذلك، لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم(2)•
الفرع الثاني
الفرق بين السباق وبين الميسر والقمار
أولاً : معنى الميسر:
أ - الميسر: هو قمار العرب الأزلام، قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل علىماله وأهله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله، فنزل(1) قول ا& تعال: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون(2)•
فالميسر مصدر ، وقد اختلف في اشتقاقه: فثمة قائ: بأنه مشتق من اليسر أو اليسار، لأنه مِنْ أخذ مال الغير بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو اليسار، لأنه سبب يساره وغناه، ومن قائل: بأنه مشتق من التجزئة والاقتسام، إذ يقال: يسروا الشيئ واقتسموه، والياسر: هو الجازر، لأنه يجزئ اللحم ويقسمه، ومن قائل: بأنه مشتق من الواجب، من قولهم: يسر لي هذا الشيئ يسراً أو ميسراً: إذا وجب، والياسر: الواجببسبب القداح(3)•
ب - معنى الميسر في عرف الفقهاء:
بين القاسم بن محمد هذا المعن: فقال: >كل ما ألهى عن ذكر ا& وعن الصلاة فهو من الميسر<(4)•
وقال ابن الرفعة والسيرازي الشافعيان: >الميسر هو القمار<(5)•
وقال الإمام مالك: >الميسر ميسران، ميسر اللَّهو، وميسر القمار، فميسر اللهو: النرد ولاشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه<(6)•
ثانياً معنى القمار:
أ - معنى القمار في عرف أهل اللغة :
القمار: هو الرهان والغلبة، يقال: قامر الرجل مقامرة وقماراً: راهنه، وقامره فقمره: غلبه في لعب القمار، وتقامروا: لعبوا بالقمار(1)•
ب - معنى القمار في عرف الفقهاء:
عرفه الشيرازي فقال: القمار: >أن لا يخلو أحد من أن يغنم أو يغرم<(2)•
وعرفه الشوكاني فقال: >مالا يخلو أحد اللاعبين فيه من غنم أو غرم<(3)•
وقال ابن الرفعة: >هو أخذ مال مخصوص بغير مال بإذائه، ولا تقرب إلى ا& سبحانه وتعالى، ولا إلى الخلق<(4)•
ويلاحظ على تعريف الشوكانيأنهيقصر القمار على بعض أنواعه، وهو ذلك الذي يكون بين اللاعبين، فلا يشمل ما كان منه في العقود أو غيرها، فهو تعريف غير جامع لذلك، وأما تعريف ابن الرفعة فإه عمم في معنى القمار، بحيث صار شاملاً للمال الذي يؤخذ سرقة أو غصباً، لأنه لا يؤخذ مال بإذائه، ولا قربة فيه، وليس هذا من قبيل القمر في عرف أهل اللغة أو الفقه، ولذا كان تعريف الشيرازي له أقرب إلى بيان المعنى الشامل له عند الفقهاء، وذلك لشموله لكل أفراد المعرف، بهذا العموم الشامل لكل المجالات التي تتحقق فيها المقامرة•
ثالثاً: العلاقة بين الميسر والقمار:
الميسر و القمار على قول جمهور الفقهاء، فالعلاقة بينهما هي المساواة، فكل ميسر قمار، والعكس صحيح•
ويعمم القاسم بن محمد في مفهوم الميسر- كما سبق- بحيث يشمل كل ما يتلهى به المرء، ولو اشتمل على فائدة مشروعة، كتلك التي أرشد إليها رسول ا& صلى ا& عليه وسلم بقوله: >كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله فإنه من الحق<، إلا أن يكون ما يتضمنه الحديث من اللهو، مستثنى ضرورة بهذا الحديث من اللهو الباطل، وقد عمم في مفهوم الميسر، بحيث أصبح شاملاً- حسب قوله- لما ليس يه عوض، أو ما اشتمل على عوض، سواء أخرجه أحد الأطراف، أو أخرجه جميعهم (وهذا الأخير يسمى قماراً، لأنه لا يخلو أحد المخرجين له من أن يغنم أو يغرم)، ومن ثم اللعب فيه على مال، وينفرد الميسر في اللعب بغير المال، إذا كان بقصد اللهو أو العبث•
وتصدق هذه النسبة على تقسيم الإمام مالك للميسر، فهو يرى أن ميسر اللهو: هو النرد والشطرنج والملاهي كلها إذا لم تكن على عوض، وأما ميسر القمار: فهو الذي يكون على عوض يخرجه أطرافه جميعاً، وهذا هو معنى ما يتخاطر الناس عليه•
رابعاً: العلاقة بين السباق والميسر:
اخترت من تعريف السباق أنه >اتفاق على التباري في الرياضات المختلفة<•••إلخ• والسباق بهذا المعنى قد يكون من الميسر وقد لا يكون:
فيكون منه: إذا كان السباق فيما لا يفيد، أو كان بقصد اللهو والعبث: كالسباق في مهارشة الديكة، أو مناطحة الكباش، أو التحريش بين الكلاب، أو مصارعة الثيران، أو اللعب بالنرد أو الشطرنج أو ما ماثلها•
ولا يكون السباق من الميسر: إذا لم يجر على عوض، وكان المقصود منه تحصيل فائدة التدريب والإعداد للقيام بعمل مفيد، وخلا عن اللهو والعبث: كالمسابقة في العدو، والمصارعة، وزيادة الإنتاج، وحفظ القرآن الكريم، وتعلم العلوم النافعة، فلا يعد الاشتغال بالسباق فيها من الميسر أو مما يلهي القلب عن ذكر ا& تعالى•
خامساً: العلاقة بين السباق والقمار:
اخترت من تعريف القمار في عرف الفقهاء، تعريف أبي إسحاق الشيرازي له، بأنه >لا يخلو أحد فيه من أن يغنم أو يغرم<•
وعلى هذا فإن السباق قد يكون منالقمار، وقد لا يكون:
فيكون منه: إذا أخرج أطراف السباق جميعاً العوض، ولم يدخلوا بينهم محللاً - لا يخرج شيئاً من أموال السباق - فلا يخلو طرف منهم حينئذ إما أن يغنم ما أخرجوه جميعاً إذا سَبَق، أو يغرم ما أخرجه إذ سُبِق، فيتحقق القمار•
وقد لا يكون السباق قماراً: إذا أخرج السَّبْق أحد الطرفين في السباق، أو أخرجه اثنان منهم إن كانوا ثلاثة، فإذا سَبق المخرج للسبْق، أحرز ما أخرجه، ولا شيئ له على صاحبه، وإن سَبق من لم يخرج السبْق أخذ السبْق ممن أخرجه،وكذا لا قمار فيه إذا أخرج الإمام السبق من ماله، أو بيت مال المسلمين، أو من خزانة الدولة، أو أخرجه أحد الرعية من ماله، تشجيعاً لما يتسابق فيه•
سادساً: حكم الميسر والقمار:
لا خلاف بين الفقهاء على حرمة القمار والميسر(1)، لتضافر الأدلة على ذلك، ولاتي منها قول ا& تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلك تفلحون(2)، وروى عبد ا& بن عمر رضي ا& عنهما أن رسول ا& صلى ا& عليه وسلم قال: >إن ا& حرم الخمر والميسر والكوبة والغعبيراء وكل مسكر<(3)، وروى أبو هريرة رضي ا& عنه أن النبي صلى ا& عليه وسلم قال: >من حلف فقال في حلفه: والات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق<(4)، فهذه النصوص صريحة في حرمة الميسر والقمار•
الفرع الثالث
حكم السباق
لاخلاف بين الفقهاء على مشروعية السباق في الجملة، وإن قيد الحنفية جوازه بما كان منه في ذي الحافر، والخف، والنصل، أو عدواً على الأقدام(1)•
ويرى جمهو الشافعية أن السباق سنة ومندوب إليه للرجال المسلمين، غير ذوي الأعذار، إذا كان بقصد التأهب للجهاد(2)•
وقال الرزكشي الشافعي: ينبغي أن تكون المسابقةعلى الإبل والخيل والرمي فرض كفاية(3)•
بينما يرى الباجوري الشافعي: أن السباق تعتريه الأحكامالتكليفية الخمسة، فهو سنة للرجال إذا قصد منه الإعداد للجهاد، وواجب إذا تعين طريقاً لقتال الكفار، ومحرم إذا قصد به محرم: كقطع الطريق،ومكروه إذا قصد به ارتكاب مكروه: كقتل الشخص قريبه الكافر، الذي لم يسب ا& ولا رسوله صلى ا& عليه وسلم، ومباح إذا قصد به غير الجهاد أو لم يقصد به شيء(4)•
وقد استدل الفقهاء على مشروعية السباق في الجملة بما يلي:
أولاً : الكتاب الكريم:
قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة(5)•
وجه الدلالة من الآية:
فسر رسول ا& صلى ا& عليه وسلم >القوة< التي أر ا& المسلمي بإعدادها لأعداء ا& وأعدائهم بأنها >الرمي<، وذلك فيما رواه عقبة بن عامر قال: سمعت رسول ا& صلى ا& عليه وسلم وهو على المنبر يقول: >وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة< ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوةالرمي، ألا إن القوة الرمي<(1)، والسباق في الرمي ونحوه هو من إعداد القوة المأمور به في الآية الكيريمة•
ثانيا: السنة النبوية المطهرة: أحاديث منها:
1- روي عن أنس بن مالك رضي ا& عنه قال: >كانت لرسول ا& صلى ا& عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تُسبَق،فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فلما رأى ما في وجوههم قال: إن حقاً علىا& أنه لا يرف شيئاً من الدنيا إلا وضعه<(2)•
2- روي عن سلمة بن الأكوع رضي ا& عنه قال: >أمر رسول ا& صلى ا& عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال: أرموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، أرموا وأنا مع بني فلان - لأحد الفريقين - فأمسكوا أيديهم، قال: مالكم لا ترمون!، فقالوا: وكيف نرمي وأنت معهم!، قال: أرموا وأنامعكم كلكم<•
3- روي عن عائشة رضي ا& عنها قالت: >كنت مع النبي صلى ا& عليه وسلم في سفر وأنا جارية، فقال لأصحابه: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعال أسابقك، فسابقته فسبقْته على رِجْلي، فلما كان بعد خرجت أيضاً معه في سفر، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: تعال أسابقك، ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم، فقلت: وكيف أسابقك يا رسول ا& وأنا على هذه الحال!، فقال: لتفعلن، فسابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة<•
4- روي عن عبد ا& بن عمر رضي ا& عنهما >أن النبي صلى ا& عليه وسلم سابق بين الخيل المضمَّرةمن الحفياء إلى ثنية الوداع، وبين التي لم تضمَّر من ثنيةالوداع إلى مسجد بن زريق<(1)•
وجه الدلالة من الأحاديث:
دل الحجديثان الأول والرابع على مشروعية السباق بين الإبل والخيل، ودل الحديث الثاني على مشروعيةالسباق في الرمي بالسهمام، ودل الحديث الثالث على مشروعية السباق في العدو على الأقدام، إذ شارك رسول ا& صلى ا& عليه وسلم في هذه السباقات، ونظمها، وهذا يدل على مشروعية السباق عامة •
ثالثاً الإجماع:
أجمع العلماء على جواز السباق جملة، وقد حكى ابن قدامةوغيره هذا الإجماع، وقال الشربيني الخطيب: إن المسابقةعلى الخيل والإبل والرماية بالسهام سنة بالإجماع للرجال المسلمين غير ذوي الأعذار، إذا كانت بقصد التأهب للجهاد(2)•
رابعاً المعقول:
1- إن الحاجة ماسة إلى السباق، لاختيار حسن التدريب على أساليب القتال، والاستعداد له(3)•
2- إن السباق مستثنى من ثلاث قواعد هي: القمار، والتعذيب الحيوان لغير مأكله، وحصول العوض والمعوض لشخص واحد، وقد استثنى من هذه القواعد الممنوعة لمصلحة الجهاد(4)•
3- إن استثناء المسابقة على كل ذي خف أوحافر أو نصل، أو المسابقة في العدو على الأقدام من اللعب المحرم، يحتمل أن يكون لمعنى لا يوجد في غيرها، وهوالرياضة والاستعداد لأسبابالجهاد في الجملة، فكانت لعباً صورة، ورياضة، وتعلم أسباب الجهاد، فيكون جائزاً إذا استجمع شرائط الجواز، ولئن كان لعباً، لكن اللعب إذا تعلقت به عاقبة حميدة، لا يكون حراماً(1)•
المطلب الثاني
السباق بين كل ذي حافر
ذو الحافر في اللغة: يطلق على الخيل البغال والحمير، ولذا فإني أبين في هذا المطلب حكم السباق بين كل نوع منها:
الفرع الأول
السباق بين الخيل
لا خلاف بين الفقهاء على جواز السباق بينالخيل، سواء كانهذا على عوض،أولم يكن(1)•
ومما ستدل به على جواز إجراء السباق بين الخيل على عوض أو غيره ما يلي:
أولاً: الكتاب الكريم:
قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو ا& وعدوكم•
وجه الدلالة من الآية:
أمر الحق سبحانه بإعداد الخيل للمرابطة بها في سبيله، وإرهاب العدو بها، وهذا لا يكون إلا بتعويدها عليه، والسباق يساعد على ذلك، فكانمشروعاً•
ثانياً: السنة النبوية المطهرة: أحاديث منها:
1- روى عبد ا& بن عمر رضي ا& عنهما >أن رسول ا& صلى ا& عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بن زريق<•
2- روى نافع عن عبد ا& بن عمر رضي ا& عنهما: >أن النبي صلى ا& عليه وسلم سبَّق بين الخيل وراهن<، وفي رواية أخرى >سبق بين الخيل وأعطى السابق<(2)•
3- روي عن ابن عمر رضي ا& عنهما >أن النبي صلى ا& عليه وسلم سبق بين الخيل، وفضل القرح في الغاية<(1)•
4- روي عن أنس رضي ا& عنه >أنه قيل له: أكنتم تراهنون على عهد رسول ا& صلى ا& عليه وسلم؟، أكان رسول ا& صلى ا& عليه وسلم يراهن؟، قال: نعم، وا& لقد راهن على فرس يقال له: سبحة، فسبق الناس فبهش لذلك وأعجبه<، وفي رواية>هش<(2)•
يقول البيهقي: >وهذا إن صح،فإنما أرد إذا سبق أحد الفارسين صاحبه، فيكون السبْق منه دون صاحبه<(3)•
5- روي عن أبي هريرة رضي ا& عنه أن رسول ا& صلى ا& عليه وسلم: >إن الملائكة لا تحضر من لهوكم إلا الرهان والنضال<(4)، قال الأزهري: الرهان في الخيل ولانضال في الرمي، وثمة رواية أخرى له بلفظ: >إن الملائكة لتفر عند الرهان وتلعن صاحبه، ما خلا الحافر والخفر والريش والنصل<(1)•
وجه الدلالة من الأحاديث:
دلت الأحاديث السابقة على جواز السباق على الخيل إلى أمد محدود، بعوض أو بغيره، وأن رسول ا& صلى ا& عليه وسلم وأصحابه رضوان ا& عليهم كانوا يشاركون في هذا السباق بخيلهم، وأن الملائكة تفر من كل ما يلهو به المسلم، وتلعن صاحبه، إلا لهوه بالسباق على الخيل وما ذكر معه في الحديث، فإنها تحضر ذلك ولا تلعن من يلهو به•
وقد روي عن النبي صلى ا& عليه وسلم أحاديث، يوهم ظاهرها أن الرهان على الخيل محرم، من هذه الأحاديث ما يلي:
1- روي عن ابن مسعود رضي ا& عنه مرفوعاً إلى النبي صلى ا& عليه وسلم أنه قال: >الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان، فأما فرس الرحمن: فالذي يرتبط به في سبيل ا&، فعلفه وروثه وبوله- وذكر ما شاء ا&- في ميزانه، وأما فرس الشيطان: فالذي يقامر أو يراهن عليه، وأما فرس الإنسان: فالذي يرتبطها يلتمس بطنها مخافة الفقر<(2)•
2- روي عن رجل من الأنصار أنه قال: قال رسول ا& صلى ا& عليه وسلم: >الخيل ثلاثة: فرس يربطه الرجل في سبيل ا&، فثمنه أجر، وركوبه أجر، وعاريته أجر، وعلفه أجر، وفرس يغالق فيه الرجل ويراهن، فثمنه وزر، وعلفه وزر، وركوبه وزر، وفرسه للبطنة، فعسى أن يكون سداداً من الفقر إن شاء ا&<(1)•
فالحديثان السابقان يوهم ظاهرهما عدم جواز الرهان على الخيل، وهما من هذا المنطلق يعارضان الأحاديث الدالة على جواز الرهان عليها•
إلا أنه يمكن التوفيق بين هذه وتلك: بأن ما دل من الأحاديث على عدم جواز الرهان على الخيل، محمول على ما اتخذ من الرهان صفة القمار، بأن أخرج كل من المتسابقين سبقاً من عنده، ولم يدخلا بينهما محللاً، فيكون الرهان- والحال هذه- قاراً محرماً، لأن شرط الرهان على الخيل- كما أبين بعد- أن يخرج السبق أحد المتسابقين، فإن أخرجوه جميعاً على أنه سَبَق أحدهم أخذ المخرج كله، وإن سُبِق غرم سبقه، كان قماراً، لأن كلاً منهما لا يخلو من أن يكون غانماً أو غارماً•
ولهذا يقول البيهقي في حديث ابن مسعود السابق: >وهذا إن ثبت، فإنما أراد به- وا& أعلم- أن يخرجا سبقين من عندهما ، ولم يدخلا بينهما محللاً، فيكون قماراً، فلا يجوز<(2)•
ويقول الشوكاني في قول ابن تيمية على الحديثين السابقين: >يحملان على المراهنة من الطرفين<، أي بأن يكون الجعل للسابق منهما من المسبوق من غير تعيين(3)•
وأما الأحاديث التي دلت على جواز السباق في الخيل، فإنها تحمل على ما تحققت شروط السباق فيه، وخلا من القمار•
ثالثاً: المعقول:
1- إن الخيل من آلات الحرب المأمور بتعلمها، وإحكامها والتفوق فيها، وفي المسابقة بها مع العوض مبالغة في الاجتهاد في تعلمها وإحكامها(1)•
2- إن الخيل مما يحتاج إليه في الجهاد، وكل ما هو من أسباب الجهاد فتعلمه مندوب إليه(2)، والسباق يتوسل به إلى ذلك، والوسائل تأخذ حكم غاياتها•
الرهان في نوادي سباق الخيل العصرية:
تنتشر نوادي سباق الخيل في كثير من بلاد العالم في الوقت الحاضر، ومن هذه السباقات >سباق الدربي<، وهو سباق للخيل مشهور بدأه سنة 0871م >إيريل أوف ديربي<، ويقام كل عام في مدينة >أيسوم دونز< بالقرب من لندن، وتشترك في هذا السباق الخيول من أعمار ثلاث سنين فقط(3)•
وينظم السباق بين الخيل في هذه النوادي على النحو التالي:
أ - يشترك في هذا السباق خيل الهواة، التي يعتقد أصحابها فوزها على غيرها من الخيل المشتركة في السباق، حيث يفوز صاحبها بجائزة مالية كبيرة•
ب - تُعِد إدارة النادي قائمة بأسماء الخيول التي تشترك في كل شوط من أشواط السباق، ويُعلَن عن أسمائها بمذياع، كما تكتب أسماء الخيول والأشواط على لوحة السباق، حتى يطلع عليها الجمهور•
جـ - في يوم السباق يحضر الهواة والمقامرون لميدان السباق، ويستعرضون الخيل التي ستشترك في أشواط السباق، والتي تكون في مكان يمكن مشاهدتها منه•
د - يقوم كل من أراد الحضور بالمراهنة على فرس معين أو أكثر بالمبلغ الذي يريده، من منطلق اعتقاده بأن ما راهن عليه منها سيكون هو الفائز في السباق، إذ للمراهن الحق في أن يراهن على أي عدد منها•
هـ - يجري السباق في الوقت المحدد له أمام الجمهور، فإن فاز الفرس المراهن عليه، فله جائزته التي تعطى لصاحبه، ولكل من راهن عليه جائزة نقدية يحدد مقدارها مجموع ما دفع من أموال الرهان في ذلك الشوط، حيث تجمع وتقسم، فيأخذ النادي جزءاً منها، ويوزع الباقي على المراهنين، فإن كان المراهن واحداً أخذ المال كله، وإن كانوا أكثر قسم بينهم بالتساوي•
و - يستمر السباق بإجراء الشوط الثاني والثالث وغيره، إلى أن يتم البرامج الذي أعلن عنه النادي •
ز - في نهاية البرامج يكون قد فاز من فاز وخسر من خسر، إلا أن النادي المنظم للسباق يكون هو الحائز لأكبر قدر من مال الرهان، حتى يغطي نفقاته، وأجور موظفيه والمشرفين على شئونه•
ح - إلى جانب ذلك فإن ثمة جوائز أخرى توزع في كلشوط، على راكب الفرس الفائز في السباق، لإجادته قيادة الفرس حتى وصل إلى هذه النتيجة الحسنة•
والمطلع على ما يتم في هذه النوادي من سباقات الخيل، لا يسعه إلا أن يقول بحرمة إجرائه والاشتراك فيه، لأنه قمار•
فإن هذا السباق يتم بين خيل يراهِن عليها من يحضرون إجراء السباق، والجائزة تعطى للفائز، وتخرج من أموال المراهنين على الخيل، وقد يراهن صاحب الفرس الفائز، وكذلك راكب الفرس(الجوكى)، مما يتضح معه أن العوض قد أخرجه كل الأطراف المشتركة في السباق، وهذا هو القمار المنهي عنه، لأنه لا يخلو طرف فيه من غرم أو غنم•
ولأن المراهن قد راهن بماله علي فرس معين، معتقداً أنه الذي سيفوز في ذلك الشوط، فإن فاز الفرس فاز المراهن بالجائزة التي تتقرر فيما بعد، وإلا خسر ما دفع، فالدافع إلىالرهان هو الكسب المادي، والمقامرة عليه، وما لأجل هذا شرع السباق•
وكيفية المراهنةفي سباق الخيل في مثل هذه النوادي يتبع مثلها في أكثر السباقات الأخرى التي تجرى بين الدواب، والحكم فيها هو نفس حكم المراهنة في سباق الخيل في نواديه•
الفرع الثاني
السباق بين البغال أو الحمير
أ - لا خلاف بين العملاء على جواز إجراء السباق بين البغال، وجواز إجرائه بين الحمير، إذا كان بغير عوض فيهما، وإن كان بعض فقهاء المالكية قيد جواز السباق بينها، بأن يكون بقصد الإعانة على الحرب(1)•
وقد جاز السباق فيها على غير عوض، باعتبارها من ذوات الحافر، وقد روي عن النبي صلى ا& عليه وسلم ما يفيد جوازه فيها، وذلك ما روي عن أبي هريرة رضي ا& عنه قال: قال رسول ا& صلى ا& عليه وسلم: >لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر<•
ب - وإنما الخالف بينهم في حكم إجراء السباق بيها في مقابلة عوض (سَبَق)، ولهم فيه مذهبان:
المذهب الأول:
يرى أصحابه جواز السباق على البغال أو الحمير في مقابلة عوض•
قال به عطاء، وإليه ذهب الحنفية، وهو الأظهر من مذهب الشافعية، وقول ابن حزم، والأصح عند الزيدية، وهو مذهب الإمامية(2)•
المذهب الثاني:
يرى من ذهب إليه عدم جواز السباق على البغال أو الحمير في مقابلة عوض•
قال به الزهري، وإليه ذهب المالكية، وهو قول للشافعي، ومذهب الحنابلة، ووجه في مذهب الزيدية(3)•
استدل أصحاب المذهب الأول على جواز السباق على البغال أو الحمير في مقابلة عوض بما يلي:
السنة النبوية المطهرة:
حديث أبي هريرة السابق•
وجه الاستدال به:
أفاد هذا الحديث جواز السباق على عوض في كل ذي حافر، والبغال والحمير من ذوات الحافر، وقد ضبطت لفظة >سَبَق< في الحديث بفتح الباء، ويقصد بها ما يجعل للسباق على سبْقه من جعل، ومن ثم فإن الحديث يدل بعمومه على جواز إجراء السباق على البغال أو الحمير في مقابلة جعل، ويؤيد هذا العموم، العدول عن ذكر الفرس والبعير إلى الحافر والخف، ولا فائدة فيه غير قصد التعميم•
اعترض على الاستدال بعمومه من وجهين:
الأول: إن هذا الخبر ليس بعام فيما تجوز المسابقة به، لأنه نكرة في إثبات، وإنما هو عام في نفي ما لا تجوز المسابقة به بعوض، لكونه نكرة في سياق النفي•
الثاني: لو سلم عمومه لكان محمولاً على ما عهدت المسابقة عليه، وورد الشرع بالحث على تعلمه، وهو الخيل والإبل والرمي بالسهام(1)•
استدل أصحاب المذهب الثاني على عدم جواز المسابقة على البغال أو الحمير بعوض بما يلي:
أولاً: السنة النبوية المطهرة:
حديث أبي هريرة السابق•
وجه الاستدال به:
إن المراد بالحافر في الحديث الخيل وحدها دون غيرها من ذوات الحافر، وقد نفي الحديث جواز السَّبَق في غير الحافر وما ذكر معه، فيحتمل أن يراد به نفي الجعل، أي لا يجوز الجعل إلا في هذه الثلاثة المذكورة فيه، ويحتمل أن يراد به نفي المسابقة على عوض، إذ يتعين حمل الخبر على أحد الاحتمالين، لانعقاد الإجماع على جواز المسابقة بغير عوض في هذه الثلاثة•
ثانياً: المعقول:
إن البغال والحمير لا تصلح للكر والفر في الحروب، ولا يقاتل عليها، ولا يسهم لها، فلا تجوز السابقة عليها بعوض(1)•
الرأي الراجح:
بعد استعراض ما استدل به للمذهبين، وما اعترض به على بعض الأدلة، فإني أرى رجحان ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول، من جواز السباق على البغال أو الحمير في مقابلة عوض يعطى للسباق منها، لما استدلوا به ولما يل:
1- إن البغال والحمير من ذوات الحافر، وقد شملها عموم الحديث، وما اعترض به على هذا العموم لا وجه له، فإن >سَبَق< في الحديث نكرة، وقعت في سياق النفي، فتفيد العموم والمقصود بالسبق في الحديث: الجعل الذي يعطى للفائز في السباق، وليس المراد به السباق، للإجماع على جواز المسابقة على ما ذكر في الحديث بغير عوض، فالحديث يفيد بعمومه نفي المسابقة على عوض في غير هذه الثلاثة، وذوات الحافر تصدق على البغال والحمير كما تصدق على الخيل، ولو أريد بها الخيل وحدها لعبر به في الحديث، فالحديث يفيد العموم في كل ذي حافر•
2- إن قول المعترض على دليل المذهب الأول: إنه لو سلم عموم الحديث، لكان محمولاً على ما عهدت المسابقة عليه، وورد الشرع بالحث على تعليمه، وهو الخيل والإبل والسهام، قول واه، فإن الشرع قد حث على تعلم السباحة، وهي مما يعهد في امثلها إجراء السباق، ومع هذا فلا يحمل عليها عموم الحديث السابق، ودليل الحث على تعلـم السـباحة مـاروي عـن عطـاء قال: >رأيت جابـر بن عبد ا& وجابر بن عمير الأنصاريين رضي ا& عنهما يرميان، فملَّ أحدهما فجلس، فقال لصاحبه: أجلسـت!، أما سمعـت رسـول ا& صلى ا& عليه وسلم يقول: كل شيء ليس من ذكـرا^ فهو سهو ولهو إلا أربع: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وتعلمه السباحة، وملاعبته أهله<(1) وروي عن بكر بن عبد ا& بن الربيع الأنصاري أن رسول ا& صلى ا& عليه وسلم قال: >علموا أبناءكم السباحة والرماية<(2)•
3- إن ا& سبحانه وتعالى قد بين النفع في ذوات الحافر جميعاً، فقال جل سأنه والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة(3)، ولم يفصل سبحانه في الانتفاع بها في الركوب بين ما إذا كان ذلك للجهاد أو غيره، وركوب هذه يقتضي إعداداً وتدريباً، فجازت المسابقة عليها بعوض، إذ لا فرق في هذا بين مركوب ومركوب•
4- إن ما استدل به أصحاب المذهب الثاني على عدم جواز السباق في البغال أو الحمير بعوض، لا يصلح مستنداً لهم، فإنهم استدلوا بالحديث، ووجهوه باحتمال إرادة أحد أمري، ومقتضى هذا أن يسقط استدلالهم به، لأن الدليل إذا دخله الإحتمال سقط به الاستدلال•
5- إن القول بأن البغال والحمير لا تصلح للكر والفر في الحروب، ولا يقاتل عليها، ولا يسهم لها، موضع نظر، فإن الإبل لا تصلح للكر والفر في الحروب لثقلها، ومثل هذا لا يقاتل عليه إلا نادراً، وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يسهم لها بشيء من المال المغنوم، إذ قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم، أن من غزا على بعير، فله سهم راج،ولم ينقل عن النبي صلى ا& عليه وسلم أنه أسهم لغير الخيل من البهائم، وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيراً، ولم تخل غزوة من غزواته من الإبل، فلم ينقل عنه أنه أسهم لها، ولو أسهم لها لنقل(4)، ومع أن الإبل بهذه المثابة إلا أنها مما يجوز السباق عليها بعوض باتفاق- كما أبين بعد- فلِمَ جاز فيها ذلك، ومُنّع في البغال والحمير•
6- إن البغال والحمير وإن كانت لا تصلح للكر والفر في الحروب- إن قلنا بأن جواز السباق لإعداد ما ينفع في الحرب- إلا أنها تنفع في نقل الذخيرة والأمتعة والعتاد الحربي في المناطق الوعرة، في الجبال والغابات التي لا تطرقها وسائل النقل الميكانيكية، كما تفيد في نقل المصابين إلى مراكز إسعافهم، إلى غير ذلك من وجوه النفع التي لا تخفى•