فاروق أبو سراج الذهب
كنت أشاهد لقاءً خاصاً مع الكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل» على قناة «الجزيرة» وهو يحلل الأحداث التونسية وانتفاضتها الذكية، التي تحالفت فيها ثلاث قوى مهمة هي: «الشباب، و«الفيس بوك», والجيش»، وقال بعد التعريف بتونس وموقعها في خارطة الفاعل السياسي الدولي على اعتبارها منطقة أمنية آمنة للحلف الأطلسي، ليصف الثورة قائلاً: «لقد جرت الحوادث بطريقة وبسرعة خاطفة لا تكاد الأنظار تلحق بها، ولا تكاد الأفكار تستجمع بالكامل لكي تلم بما تدل عليه وما تعنيه.. فالحدث جرى بطريقة مختلفة تماماً، جرى ليس بالطريقة التقليدية في الثورات في العالم العربي أو التي عرفناها حتى الآن، لم تخرج الدبابات ولم تخرج المدافع، وإنما خرجت كتل من الجماهير المتلاحقة، وهي جماهير من نوع مختلف، جماهير ليست غاضبة، لكنها ليست الجماهير الهائجة ليست الجماهير العصبية.. ليست الملامح المكفهرة بالشر وليست العيون التي يشع منها الشرر وليست الأسنان البارزة. ولكن الذي بدا أمام جميع الناس، أن شباباً وشابات في مظهر حديث خارجون للمطالبة بما لم يكن يتوقعه أحد.. نحن نتحدث عن بلد صغير، نسبة التعليم فيه أفضل من غيره في العالم العربي، نسبة النمو أسرع بكثير من بعضها في العالم العربي، ونسبة البطالة أقل من غيرها في العالم العربي.. ولكن الجماهير خرجت تطالب بشيء آخر إضافي، خرجت تطالب بمطالب العصر، وأولها مطلب الحرية ومطلب مقاومة الفساد ومطلب مقاومة التبعية».. وختم «هيكل» تحليله للثورة التونسية بالقول: إنها كانت ذكية جديدة، وهي عملية جراحية بالمنظار وليست بالسكين، حيث خربت المشروع الشرق أوسطي الغربي العالمي القائم على «فرض الاستقرار لمنع الثورة، وفرض السلام لمنع الحرب ولمنع القلاقل ولتسوية الصراع العربي «الإسرائيلي»، بدأت هذه المعادلة تختل، والنظم التي كانت مسلحة وجاهزة لكي تواجه هذا الأمر أصبحت تواجه قضية كبيرة جداً»، وقال في الختام: إن «الفاعل السياسي الدولي سيرد بقوة على ما فعلته الثورة التونسية، التي ضربت قاعدة التعامل الدولية في العمق، وسيكون الرد في لبنان» كما قال. وفعلاً أعلن سعد الحريري عن بداية يوم الغضب؛ احتجاجاً على تكليف نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة الجديدة، على اعتبار أن حسن نصرالله هو من عيّن الرئيس ميقاتي وليس ميشيل سليمان، وأضرمت النار في طرابلس وبيروت، وما تزال الأزمة قائمة. أردت أن أبدأ هذا المقال بالتذكير بهذه الأحداث، لاعتبارين اثنين: الأول: معرفة خطة الفاعل السياسي الدولي في محاصرة ما قد يتم إنجازه عبر الثورة التونسية في العالم العربي، على اعتبار أن المنطقة العربية تمثل مصلحة غربية إستراتيجية؛ سواء تعلق الأمر بـ«إسرائيل» ككيان غربي ناقض للوحدة بين العرب، أو رعاية للمصالح الغربية في المنطقة وحماية منابع النفط. الثاني: تقليص حجم التركيز الإعلامي على ما يحدث في تونس، على اعتبار الخوف الغربي والعربي من تعميم النموذج التونسي في المنطقة، وقد بدأ في مصر واليمن. إن استمرار الأنظمة العربية في سياسات الانغلاق والقمع والإقصاء والتباهي بتحقيق أرقام إيجابية في التنمية، وتجسيد مشاريع في البنى التحتية، والخديعة بوجود استقرار نسبي في المجتمع، وتسويق مفردة «نحن نختلف عن تونس»، وفي الوقت نفسه تسارع البرق في شراء السلم الاجتماعي من خلال اتخاذ إجراءات عاجلة للتهدئة الاجتماعية (وهي مثمنة)، في مقابل البحث عن مبررات جديدة لاستمرار حالات الطوارئ التي استنفدت أغراضها، وخلقت للأسف الشديد شللاً وجماعات حزبية ودينية وثقافية تنشط في السر؛ لأنها لما تحوز بعد رضا وزارات الداخلية في الاعتماد، والجميع يعلم مخرجات العمل السري والسلوك العنيف الذي يطبع مريديه، وقد عانت الأمة منه شرقاً وغرباًً. إن وحدة الشعور بالخطر من شأنها أن تجمع الناس - حكومات وشعوب - على رؤية جديدة في الإصلاح، كما الإحساس بالتقصير وعدم كفاية البرامج الاقتصادية والاجتماعية لتلبية احتياجات المواطنين، والاعتراف بضرورة مواصلة مشاريع الإصلاح ووجود اختلالات في التنفيذ، هي سمة إيجابية وليست إعلاناً عن الإخفاق والفشل في التسيير والبرمجة، بل هي مسار يجب أن تسير فيه الحكومات والأنظمة الموجودة أصلاً لخدمة المواطنين وتحقيق تطلعاتهم في الإصلاح والتنمية. ذلك أن العقدة السياسية والهوة المتنامية بين مختلف الأنظمة، والطبقة السياسية والاجتماعية، يمكن معالجتها من خلال الدعوة إلى نقاش وطني مسؤول، واستعداد كل الأطراف للدخول في مرحلة جديدة يحترم فيها الدستور، والقوانين الناظمة للحياة السياسية، ودراسة إمكانية تعديلها وتحيينها، بما يمكّن المجتمع من اختيار ممثليه من خلال انتخابات حرة ونزيهة، ذلك أن العزوف الشعبي عن المشاركة في الانتخابات مؤشر أساسي على استقالة مجتمعية من الفعل السياسي، وعطب مباشر للشرعية، والمعالجة السياسية لهذا الملف يعتبر أكثر من واجب وطني، في الوقت الذي نقرر فيه حقيقة ثابتة، وهي أن أي هروب إلى الأمام يعني مباشرة تعمد القراءة السلبية للتطلعات المعبر عنها في الشارع السياسي والاجتماعي.
كنت أشاهد لقاءً خاصاً مع الكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل» على قناة «الجزيرة» وهو يحلل الأحداث التونسية وانتفاضتها الذكية، التي تحالفت فيها ثلاث قوى مهمة هي: «الشباب، و«الفيس بوك», والجيش»، وقال بعد التعريف بتونس وموقعها في خارطة الفاعل السياسي الدولي على اعتبارها منطقة أمنية آمنة للحلف الأطلسي، ليصف الثورة قائلاً: «لقد جرت الحوادث بطريقة وبسرعة خاطفة لا تكاد الأنظار تلحق بها، ولا تكاد الأفكار تستجمع بالكامل لكي تلم بما تدل عليه وما تعنيه.. فالحدث جرى بطريقة مختلفة تماماً، جرى ليس بالطريقة التقليدية في الثورات في العالم العربي أو التي عرفناها حتى الآن، لم تخرج الدبابات ولم تخرج المدافع، وإنما خرجت كتل من الجماهير المتلاحقة، وهي جماهير من نوع مختلف، جماهير ليست غاضبة، لكنها ليست الجماهير الهائجة ليست الجماهير العصبية.. ليست الملامح المكفهرة بالشر وليست العيون التي يشع منها الشرر وليست الأسنان البارزة. ولكن الذي بدا أمام جميع الناس، أن شباباً وشابات في مظهر حديث خارجون للمطالبة بما لم يكن يتوقعه أحد.. نحن نتحدث عن بلد صغير، نسبة التعليم فيه أفضل من غيره في العالم العربي، نسبة النمو أسرع بكثير من بعضها في العالم العربي، ونسبة البطالة أقل من غيرها في العالم العربي.. ولكن الجماهير خرجت تطالب بشيء آخر إضافي، خرجت تطالب بمطالب العصر، وأولها مطلب الحرية ومطلب مقاومة الفساد ومطلب مقاومة التبعية».. وختم «هيكل» تحليله للثورة التونسية بالقول: إنها كانت ذكية جديدة، وهي عملية جراحية بالمنظار وليست بالسكين، حيث خربت المشروع الشرق أوسطي الغربي العالمي القائم على «فرض الاستقرار لمنع الثورة، وفرض السلام لمنع الحرب ولمنع القلاقل ولتسوية الصراع العربي «الإسرائيلي»، بدأت هذه المعادلة تختل، والنظم التي كانت مسلحة وجاهزة لكي تواجه هذا الأمر أصبحت تواجه قضية كبيرة جداً»، وقال في الختام: إن «الفاعل السياسي الدولي سيرد بقوة على ما فعلته الثورة التونسية، التي ضربت قاعدة التعامل الدولية في العمق، وسيكون الرد في لبنان» كما قال. وفعلاً أعلن سعد الحريري عن بداية يوم الغضب؛ احتجاجاً على تكليف نجيب ميقاتي لتشكيل الحكومة الجديدة، على اعتبار أن حسن نصرالله هو من عيّن الرئيس ميقاتي وليس ميشيل سليمان، وأضرمت النار في طرابلس وبيروت، وما تزال الأزمة قائمة. أردت أن أبدأ هذا المقال بالتذكير بهذه الأحداث، لاعتبارين اثنين: الأول: معرفة خطة الفاعل السياسي الدولي في محاصرة ما قد يتم إنجازه عبر الثورة التونسية في العالم العربي، على اعتبار أن المنطقة العربية تمثل مصلحة غربية إستراتيجية؛ سواء تعلق الأمر بـ«إسرائيل» ككيان غربي ناقض للوحدة بين العرب، أو رعاية للمصالح الغربية في المنطقة وحماية منابع النفط. الثاني: تقليص حجم التركيز الإعلامي على ما يحدث في تونس، على اعتبار الخوف الغربي والعربي من تعميم النموذج التونسي في المنطقة، وقد بدأ في مصر واليمن. إن استمرار الأنظمة العربية في سياسات الانغلاق والقمع والإقصاء والتباهي بتحقيق أرقام إيجابية في التنمية، وتجسيد مشاريع في البنى التحتية، والخديعة بوجود استقرار نسبي في المجتمع، وتسويق مفردة «نحن نختلف عن تونس»، وفي الوقت نفسه تسارع البرق في شراء السلم الاجتماعي من خلال اتخاذ إجراءات عاجلة للتهدئة الاجتماعية (وهي مثمنة)، في مقابل البحث عن مبررات جديدة لاستمرار حالات الطوارئ التي استنفدت أغراضها، وخلقت للأسف الشديد شللاً وجماعات حزبية ودينية وثقافية تنشط في السر؛ لأنها لما تحوز بعد رضا وزارات الداخلية في الاعتماد، والجميع يعلم مخرجات العمل السري والسلوك العنيف الذي يطبع مريديه، وقد عانت الأمة منه شرقاً وغرباًً. إن وحدة الشعور بالخطر من شأنها أن تجمع الناس - حكومات وشعوب - على رؤية جديدة في الإصلاح، كما الإحساس بالتقصير وعدم كفاية البرامج الاقتصادية والاجتماعية لتلبية احتياجات المواطنين، والاعتراف بضرورة مواصلة مشاريع الإصلاح ووجود اختلالات في التنفيذ، هي سمة إيجابية وليست إعلاناً عن الإخفاق والفشل في التسيير والبرمجة، بل هي مسار يجب أن تسير فيه الحكومات والأنظمة الموجودة أصلاً لخدمة المواطنين وتحقيق تطلعاتهم في الإصلاح والتنمية. ذلك أن العقدة السياسية والهوة المتنامية بين مختلف الأنظمة، والطبقة السياسية والاجتماعية، يمكن معالجتها من خلال الدعوة إلى نقاش وطني مسؤول، واستعداد كل الأطراف للدخول في مرحلة جديدة يحترم فيها الدستور، والقوانين الناظمة للحياة السياسية، ودراسة إمكانية تعديلها وتحيينها، بما يمكّن المجتمع من اختيار ممثليه من خلال انتخابات حرة ونزيهة، ذلك أن العزوف الشعبي عن المشاركة في الانتخابات مؤشر أساسي على استقالة مجتمعية من الفعل السياسي، وعطب مباشر للشرعية، والمعالجة السياسية لهذا الملف يعتبر أكثر من واجب وطني، في الوقت الذي نقرر فيه حقيقة ثابتة، وهي أن أي هروب إلى الأمام يعني مباشرة تعمد القراءة السلبية للتطلعات المعبر عنها في الشارع السياسي والاجتماعي.