بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في كتابه الكريم ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الحكيم القائل : ( إن الله لم ينـزل داءً إلاّ أنـزل له شفاءً ) ، وعلى آله ومن تبع هداه إلى يوم الدين وبعد :
فإن العالم اليوم يسير بسرعة هائلة نحو الاكتشافات العلمية العظيمة في شتى مجالات الحياة بل تقفز قفزات كبيرة على مختلف الأصعدة ، وأصبح يعيش ثورات بيولوجية هائلة وثورات في عالم الالكترونيات والكومبيوترات ، والانترنيت ، والاتصالات ، فما تمّ إنجازه خلال العقود الأخيرة قد يعادل جميع الإنجازات العلمية التي تحققت في القرون السابقة .
وقد خطا العلم خَطوات كبيرة في عالم الخلايا والجينات حتى اكتشفت الخريطة الجينية للإنسان ما يقرب من سنتين ، وبذلك قد فتحت آفاق جديدة وانتصارات عظيمة على كثير مما تعانيه البشرية ، حيث يمكن عن طريقها التعرف على كثير من أمراض صاحب الخريطة وصفاته ، واكتشاف أمراض الجينات ، وعاهات الأجنة في وقت مبكر ، إضافة إلى تحسين الإنتاج وتكثيره في عالم النبات والحيوان ، والاستفادة منها لزراعة الأعضاء ونحوها .
والبحوث والمختبرات العليمة قد خَطت خُطوات متقدمة نحو العلاج الجيني عن طريق إصلاح هذه الجينات ، أو استئصال الجين المسبب للمرض وتغييره بجين سليم ، ومع هذا التقدم الكبير يقول العلماء : إنه لم يكتشف من أسرار DNA سوى 10% وصدق قوله تعالى : ( وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا ) .
وبما أن الشريعة الإسلامية خالدة ودائمة وشاملة فإنها استطاعت بنصوصها العامة ومبادئها الكلية وقواعدها وضوابطها أن تستجيب لكل المستجدات وتحل جميع المشاكل وتضع لها الضوابط التي تحقق المصالح وتدرأ المفاسد.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية النظر والبحث في أسرار النفس الإنسانية والكون كله ، فقال تعالى : ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فوربّ السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) . بل بيّن الله تعالى أنه يريهم آيات وأسراراً عن النفس ، والكون يوماً بعد يوم حتى يتبين لهم أن الله هو الحق المطلق ، وأن قرآنه صدق لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لأنه تنـزيل من عزيز حكيم حميد فقال تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) .
وحقاً إنه مع التقدم العلمي الرهيب وكل مجالات الكون والإنسان والحياة لم يظهر أي تناقض بين قول إلهي ثابت في الكتاب والسنة الصحيحة وبين قاعدة وحقيقية علمية ثابتة ، بل إن القرآن الكريم قد تطرق إلى مجموعة من الحقائق العلمية اكتشف بعضها العلم الحديث فوجدها في غاية من الدقة سواء كانت في مجال مراحل الأجنة وكيفية خلقها ، أو في مجالات كيفية خلق الكون ، وأصله وعناصره الأساسية ونحو ذلك ، وهذا دليل آخر على وجود الله تعالى وصدق رسالته .
وكما كانت آيات الله تعالى سبقت العلم الحديث في كشفها حقائق علمية وأسرار النفس ، فإن شريعته كذلك قادرة على التواصل مع هذه الحقائق ، وذلك لأن كل ذلك يعود إلى أمر الله تعالى الشامل للأمر التكويني ، والأمر القولي ، ولذلك لم تجد الأمة الإسلامية منذ نـزول هذه الشريعة مشكلة استعصت عن الحل والعلاج الناجح على الرغم من اختلاف الحضارات التي قابلها الإسلام ، وعلى الرغم من تقدم العلوم وظهور المشاكل المعاصرة ، وهذا دليل آخر على صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان ، وعلى شموليتها وقدرتها على البقاء والاستمرار ، ومواكبة العصر مهما تطور وتقدم .
ونحن في هذه الدراسة المتواضعة نلقي الأضواء على موضوع جديد جداً وهو ( العلاج الجيني ـ من منظور الفقه الإسلامي ) حيث نتطرق إلى التعريف بالعلاج الجيني ، وأنواعه ، والحكم الشرعي للعلاج الجيني وأنواعه ، والآثار السلبية الاجتماعية والأخلاقية وكيفية تفاديها ، والضوابط الشرعية للعلاج الجيني ، والله نسأل أن يكتب لنا التوفيق والسداد ويجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم إنه مولانا فنعم المولى ونعم النصير .
كتبه : أ . د . علي محي الدين القره داغي
الدوحة ـ غرة رجب الخير 1422هـ
تمهيد :
أراد الله تعالى للإنسان أن يكون خليفة في الأرض من دون الملائكة وغيرهم أجمعين ليعمر هذا الكون ، فقال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) ولما استفسر الملائكة عن أسباب هذا الاختيار مستغربين من اختيار هذا الصنف الذي يقع منهم الكفر والعصيان ، والقتل وسفك الدم، والفساد … أجاب الله تعالى بقوله : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) ثم علم آدم الأسماء كلها ، فتبيّن من ذلك أن أحد أسباب هذا الاختيار يعود إلى أن الله تعالى أعطى لهذا المخلوق عقلاً قادراً على التعلم والاكتشاف والاستنباط ، وبهذا ميّزه عن سائر المخلوقات ، ومن ذلك اليوم الذي نـزل فيه آدم على الأرض ظل يبحث عن معرفة نفسه ومحيطه ، وتطوير عقله ومعارفه وعلومه ، وأصبح يميط كل يوم لثاماً ويكتشف في كل ساعة أسراراً ، فاستطاع أن يفك أسرار الحروف ويفهم الكتاب المقروء ، كما بذل كل جهده لفك أسرار الكون الذي هو في حقيقته كتاب كامل عظيم معقد يحتوي من الأسرار مالا يعدُّ ولا يحصى ، بل حينما التفت نحو نفسه التي هي أقرب الأشياء إليه وجدها أيضاً تحتوي من الأسرار والغرائب التي يعجز اللسان عن التعبير عنها .
وظل الإنسان كادحاً مجاهداً باحثاً عن الحقائق الكونية والشرعية ، كاشفاً في كل يوم عن بعض الحقائق ، ساعد في ذلك الوحي الإلهي ولا سيما في صورته الأخيرة المتمثلة بالإسلام ، حيث وضعه على الطريق الصحيح ليس على نطاق أمور الدين ، بل حتى في نطاق اكتشاف أسرار النفس والكون ، لذلك سار المسلمون على المنهج التجريبي الذي قفز بالحضارة والعلوم قفزة هائلة ، ثم أصابهم الجمود ، فجاء دور الغربيين فبنوا على هذا المنهج التجريبي الكثير ، ودفعوا بالعلوم إلى مراحل متطورة نستطيع القول بأن ما حصل عليه الإنسان من العلوم والإبداعات في القرن الأخير يزيد على كل ما حصل عليه في تأريخه الطويل بل إن المعرفة الإنسانية في العقود الأخيرة تتضاعف كل خمس سنوات ، فمن عصر الثورة الصناعية إلى عصر ثورة المعلوماتية ، إلى عصر الكومبيوترات والانترنيت وثورة الاتصالات .
قراءة حروف الإنسان:
ومما أولى له العلم الحديث اهتمامه الكبير هو البحث عن قراءة الإنسان قراءة عميقة بحيث يقرأ كل جزئياته وجيناته كما يقرأ الكتاب بحروفه وحركاته وسكناته وأصواته ومخارج حروفه ، فتقدمت علوم التشريح واخترع المجهر الذي بيّن أن أنسجة الجسم كلها تتكون من خلايا ، وفي كل خلية نواة هي المسئولة عن حياة الخلية ووظيفتها ، وأن نواة كل خلية تشمل على الحصيلة الإرثية من حيث الخواص المشتركة بين البشر جميعاً ، أو بين السلالات المتقاربة ، ومن حيث الصفات المميزة لكل شخص لا يشترك معها فيها شخص آخر .
وهذه المادة الإرثية المعبأة في نواة الخلية تتكون من ستة وأربعين كرموسوماً ، ثلاثة وعشرون منها من الأب ، وثلاثة وعشرون من الأم ، كما عبر القرآن الكريم عن هذا الخلط بقوله تعالى : ( من نطفة أمشاج ) .
فالأسرار الوراثية كامنة فيما يعرف بالجينات ، التي هي جزء من الحامض النووي منـزوع الأوكسجين DNA الموجود في الكروموسوم ، فالجين يحوي كل المعلومات لتكوين سلسلة من الأحماض الأمينية ( الببتايد ) أو جزء من البروتين ، وبما أن الخمائر ( الأنزيمات ) نوع من البروتين ، فإن الجين هو المسؤول عن صنع هذا البروتين ، فمثلاً يتم صنع الأنسولين بواسطة جين معين موجود في سلسلة ( الدنا ) على الكروموسوم رقم (611) ، و( الدنا ) مكون من زوجين نايتروجينين هما : دنين وثايمين ، والجوانين والسايتوزين بواسطة قواعد هيدروجينية ، كما يتصل كل واحد منهما بأحد السكريات الخماسية الناقصة الأوكسجين كما يتصل بمجموعة فسفورية ، ويقدر مجموع ( الدنا ) في كل خلية بشرية على شكل شريط من كاسيت طوله 2800كم ، ويتكون الجين من سلسلة من هذه القواعد النـتروجينية بتوابعها ( السكر الخماسي ، والمركب الفسفوري ) تبلغ في المعدل ثلاثين ألف زوج قاعدي نـتروجيني ، فتصل مجموع القواعد النـتروجينية إلى ستة بلايين ، وأن السلاسل المكونة للحامض النووي منـزوع الأوكسجين (الدنا) مزدوجة ، وأن ما هو موجود في سلسلة واحدة يمثل ثلاثة بلايين من الأزواج القاعدية ، فالجينات تشكل ما يقرب من 70% من مجموع طول ( الدنا ) ولا تـزال وظائف البقية الباقية منه مجهولة .
وهذه السلاسل تكوّن الكروموسومات ( الصبغيات ) التي تصل في الإنسان إلى ثلاثة وعشرين زوجاً منها زوج واحد يختص بالذكورة والأنوثة ، وأما غيره فيختص ببقية وظائف البدن . وتـتراوح عدد الجينات الأساسية داخل خلية واحدة ما بين ستين وسبعين ألفاً وأن 20% منها تعمل وتقوم بالوظائف الحيوية المشابهة ، في حين تختلف 80% حسب الوظيفة والموقع والزمن .
مشروع الجينوم البشري :
يبذل العلماء جهود مكثفة لمعرفة الجينات البشرية ، واكتشاف مزيد من أسرارها يستعينون لتحقيق هذا الهدف العظيم بالمختبرات الحديثة المزودة بأحدث التقنيات ، وأضخم الكمبيوترات ، وهو مشروع رصدت له أمريكا خمسة مليارات من الدولارات ، وقد تحق كثير من النتائج العظيمة حتى الآن ، وآخر هذه النتائج هو كشف الخريطة الجينومية للإنسان .
ولا يمر يوم إلاّ ويتم فيه معرفة عدد هذه الجينات وموقعها على الخريطة الجينومية وحجمها وعدد القواعد النـتروجينية المكونة له ، والبروتينات التي يصنعها بأمر خالقه ، وعدد الأحماض الأمنية المكونة لهذا البروتين ، ووظائفه ، والأمراض التي تصيب الإنسان عند نقص ذلك البروتين .
وقد شاء الله تعالى أن يؤدي أي خلل يسير في تسلسل القواعد النـتروجينية في الجين المتحكم في البروتين إلى مرض خطير ، ولكن لا يظهر المرض إلاّ عندما يرث الشخص هذا الجين المعطوب من كلا الأبوين ، أما إذا كان لديه جين واحد مصاب والجين الآخر سليماً فإنه يعتبر حاملاً للمرض فقط ، ولا تظهر عليه أي أعراض مرضية ، ولكن عندما يتزوج هذا من امرأة حاصلة على هذا الجين تكون نسبة ظهور المرض في ذريتهما 25% أي واحد من أربعة ، وهنا يأتي دور الفحص الطبي .
ولكن هناك العديد من الأمراض الوراثية تنتقل عبر جين واحد منتقل من أحد الأبوين ، أو كليهما ، حيث حصرها بعض العلماء عام 1994م في (6678) مرضاً وراثياً ، غير أن (4458) مرضاً منها يصاب نصف الذرية ، و (1750) مرضاً يصاب ربع الذرية ، وأوصلها العلماء في عام 1998م إلى اكثر من ثمانية آلاف مرض وراثي .
لمعرفة الجينوم " ايجابيات وسلبيات " :
لا شك أن إدراك أسرار الجينات يحقق مصالح كبيرة للبشرية ، ولكنه مع ذلك إذا أطلق عنانها دون ضوابط ، منها أنه لو اشترطت جهات العمل الكشف الجيني لأدى ذلك إلى أن المصابين بالأمراض المحققة أو المحتملة لن يتم تعيينهم ، والأمر أشد في التأمين الصحي ، أو التأمين على الحياة ، ومنها كشف أسرار الإنسان ، وغير ذلك من السلبيات ، لذلك لا بدّ من وضع ضوابط دينية وأخلاقية في هذا المجال .
وصدرت توصية من الندوة الحادية عشرة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية التي عقدت في الكويت في 23 ـ 25/جمادى الآخرة 1419هـ الموافق 13 ـ 15/10/1998م نصت على : ( أن مشروع قراءة الجينوم البشري ـ وهو رسم خريطة الجينات الكاملة للإنسان ، وهو جزء من تعرف الإنسان على نفسه ، واستكناه سنة الله في خلقه وإعمال للآية الكريمة ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) ومثيلاتها الآيات الأخرى .
ولما كانت قراءة الجينوم وسيلة للتعرف على بعض الأمراض الوراثية أو القابلية لها ، فهي إضافة قيمة إلى العلوم الصحية والطبية في مسعاها لمنع الأمراض ، أو علاجها مما يدخل في باب الفروض الكفائية في المجتمع .
ويتوقع العلماء أن هذا المشروع يستهدف تحقيق الغايات التالية :
1. التعرف على أسباب الأمراض الوراثية .
2. التعرف على التركيب الوراثي لأي إنسان من حيث خريطته الجينية ومن حيث القابلية لحدوث أمراض معينة كضغط الدم والنوبات القلبية والسكر ونحوها .
3. العلاج الجيني للأمراض الوراثية .
4. إنتاج مواد بيولوجية وهرمونات يحتاجها الإنسان للنمو والعلاج .
العلاج الجيني :
هو إصلاح الخلل في الجينات ، أو تطويرها ، أو استئصال الجين المسبب للمرض واستبدال جين سليم به ، وذلك بإحدى الطريقتين التاليتين :
الطريقة الأُولى : عن طريق الخلية العادية ، وذلك بإدخال التعديلات المطلوبة وحقنها للمصاب ، فإدخال الجين إلى الكروموسوم في الخلية يجب أن يكون في موقع محدد ، لأن الإدخال العشوائي قد يترتب عليه أضرار كبيرة .
ومن المعلوم أن توصيل الجينات يمكن أن يتم بطرق كيميائية ، أو فيزيائية ، أو بالفيروسات ، أما الطريقة الكيميائية فيتم دمج عدة نسخ من DNA الحامل للجين السليم بمادة مثل فوسفات الكالسيوم ، ثم يفرغ ذلك في الخلية المستقبلية حيث تعمل المادة الكيميائية على تحطيم غشاء الخلية ، وتنقل بالتالي المادة الوراثية إلى الداخل .
وهناك طريقة أخرى لتوصيل الجينات عن طريق الحقن المجهري حيث يتم دخول المادة الوراثية إلى السيتوبلازم ، أو النواة .
وطريقة استخدام الفيروسات هي الأكثر قبولاً وتطبيقاً ، وذلك باستخدام الفيروسات كنواقل أو عربات شحن في النقل الجيني ، وهناك نوعان من الفيروسات ، أحدهما مادته الوراثية DNA والنوع الآخر RNA وعلى الرغم من أنهما مختلفان كيميائياً لكنهما يجمعهما أنهما من وحدات نيوكيلوتيده ، وأنهما يشملان شفرات منتظمة بالإضافة إلى تسلسل دقيق للقواعد النيتروجينية ، فقد أثبتت التجارب العملية أن الجين المسؤول عن تكوين بيتاجلوبين البشري يمكن إدخاله في خلايا عظام الفأر بواسطة الفيروسات التراجعية كنواقل ، وكانت النتيجة جيدة ، واستخدم البعض الفيروسات التراجعية لإدخال جين مسؤول عن عامل النمو البشري إلى أرومات ليفية ، وطبقت كذلك على أجنة التجارب بواسطة خلايا الكبد والعضلات .
وبعد التجارب المعملية خرجت التطبيقات منها إلى الإنسان مباشرة حيث كانت التجربة الأولى على الطفلتين ( سبنـتيا ) و ( أشانتي ) اللتين ولدتا وهما تعانيان من عيب وراثي وهو عدم إنتاج أنزيم أدينوزين ديمتاز يعمل نقصه على موت خلايا الدم التائية المسماة بالخلايا النائبة (T – Cells ) مما يؤدي إلى التأثير على جهاز المناعة وفي سبتمبر 1990 بدأت رحلة العلاج الجيني بحقن الطفلة (أشانتي ) بالخلايا المعالجة وراثياً ثم أخضعت الطفلة الثانية في يناير 1991 وكانت نتيجة علاجهما جيدة .
الطريقة الثانية : عن طريق إدخال تعديلات مطلوبة على الحيوان المنوي ، أو البويضة .
وقد أثيرت الشبهات حول الطريقتين ، حيث أثيرت على الأُولى شبهة أخلاقية وهي : هل البصمة الوراثية لهذا الشخص ستكون مطابقة لابنه ؟ كما أثيرت على الثانية شبهة تأثير إدخال التعديلات على الحيوان المنوي ، أو البويضة ؟ .
ولذلك لا بدّ من التأكيد على هذا الجانب الأخلاقي وهو أن العلاج في الحالتين لا بدَّ أن لا يؤدي بأية حالة من الأحوال إلى التأثير في البنية الجينية ، والسلالة الوراثية .
ومن جانب آخر فإن للاسترشاد الوراثي ، والهندسة الوراثية دوراً رائداً في منع المرض وتطبيق قاعدة : الوقاية خير من العلاج .
والعلاج الجيني لا يقتصر دوره على الإنسان بل له دوره الأكبر في عالم النبات والحيوان مثل تغيير وتعديل التركيب الوراثي للكائنات ، أو ما يعرف بهندسة المورثات في الكائنات من مثل التحور الجيني في النبات والاستزراع الجيني في الكائنات الدقيقة مثل البكتريا ، وهندسة الحيوانات وراثياً .
مستقبل العلاج الجيني :
تشير النتائج والأبحاث إلى أن مستقبلاً زاهراً ينتظر العلاج الجيني ، وأنه يستفاد منه لعلاج أمراض واسعة الانتشار تطال الملايين من مرضى العالم مثل السرطان ، والتهاب الكبد الفيروسي ، والايدز ، وفرط الكولوسترول العائلي ، وتصلب الشرايين ، والأمراض العصبية مثل داء باركتسون ومرض الزهايمر ، إضافة إلى معالجة الأجنة قبل ولادتها ، وتشخيص الأمراض الوراثية قبل الزواج .
منافع العلاج الجيني :
هناك فوائد كبيرة ، ومنافع كثيرة تتحقق من خلال العلاج الجيني يمكن أن نذكر أهمها :
1. الاكتشاف المبكر للأمراض الوراثية ، وحينئذٍ التمكن من منع وقوعها أصلاً بإذن الله ، أو الإسراع بعلاجها ، أو التخفيف عنها قبل استفحاله ، حيث بلغت الأمراض الوراثية المكتشفة أكثر من ستة آلاف مرض ، وبالتالي استفادة الملايين من العلاج الجيني .
2. تقليل دائرة المرض داخل المجتمع وذلك عن طريق الاسترشاد الجيني ، والاستشارة الوراثية .
3. إثراء المعرفة العلمية عن طريق التعرف على المكونات الوراثية ، ومعرفة التركيب الوراثي للإنسان بما فيه القابلية لحدوث أمراض معينة كضغط الدم والنوبات القلبية ، والسكر ونحوها .
4. الحد من اقتران حاملي الجينات المريضة ، وبالتالي الحد من الولادات المشوهة .
5. إنتاج مواد بيولوجية ، وهرمونات يحتاجها جسم الإنسان للنمو والعلاج .
سلبيات العلاج الجيني وأخطاره :
تترتب على العلاج الجيني بعض السلبيات في عدة نواحي اجتماعية ونفسية ، منها :
1. من خلال كشف بعض الأمراض الوراثية للفرد يترتب عليه آثار كبيرة على حياته الخاصة ، فيتعرض لعدم القبول في الوظائف ، أو التأمين بصورة عامة ، والامتناع عن الزواج منه رجلاً كان أو امرأة ، فقراءة جينومه تؤثر فعلاً على عمله الوظيفي ، وعلى زواجه ، وعلى كثير من أموره الخاصة به ، مما يترتب عليه إضرار به دون ذنب اقترفه ، بل قد لا يصبح مريضاً مع انه حامل الفيروس ، أو جين مريض ، فليس كل حامل للمرض مريض ، ولا كل مرض متوقع يتحتم وقوعه.
2. التأثير على ثقة الإنسان بنفسه ، والخوف والهلع من المستقبل المظلم مما يترتب عليه أمراض نفسية خطيرة قد تقضي عليه بسبب الهموم ، مع أن الإنسان مكرم لا يجوز إهدار كرامته ، وخصوصيته الشخصية وأسراره .
3. ان هناك عوامل أخرى بجانب الوراثة لها تأثير كبير على إحداث الأمراض الناتجة عن تفاعل البيئة ونمط الحياة ، إضافة إلى الطفرات الجينية التي تحدث في البويضة أو الحيوان المنوي ، أو فيهما بعد التلقيح .
4. وهناك مفاسد أخرى إذا تناول العلاج الجيني الصفات الخلقية ـ بفتح القاف ـ من الطول والقصر ، والبياض والسواد ، والشكل ، ونحو ذلك ، أو ما يسمى بتحسين السلالة البشرية ، مما يدخل في باب تغير خلق الله المحرم .
والعالم المتقدم اليوم ( وبالأخص أمريكا ) في تسابق خطير وتسارع إلى تسجيل الجديد في هذا المجال الخطير وبالأخص ما يتعلق بالإنسان فيوجد الآن أكثر من 250 معملاً ومختبراً متخصصاً في عالم الجينات فلا يُطلِع مختبر الآخر على نتائجه الجديدة ، ولذلك لا يستبعد في يوم من الأيام خروج شيء من تلك الكائنات المهندسة وراثياً ويحمل إمّا أمراضاً جديدة ، أو جراثيم بيولوجية مدمرة ، وخاصة ليست هناك ضمانات قانونية ولا أخلاقية لكثير من هذه المعامل ، ولذلك أنشئت هيئة الهندسة البيولوجية الجزيئية في فرنسا ، ولكنها غير كافية ، وهذه الأخطار تتعلق بما يأتي :
1. أخطار تتعلق بتطبيقات الهندسة الوراثية في النبات والحيوان والأحياء الدقيقة ، إضافة إلى أن بعض الحيوانات المحورة وراثياً تحمل جينة غريبة يمكن أن تعرض الصحة البشرية ، أو البيئة للخطر.
2. أخطار تتعلق بالمعالجة الجينية من النواحي الآتية :
أ ـ النقل الجيني في الخلايا الجرثومية التي ستولد خلايا جنسية لدى البالغين (حيوانات منوية وبويضات) وذلك لأن التلاعب الوراثي لهذه الخلايا يمكن أن يوجد نسلاً جديداً غامض الهوية ضائع النسب .
ب ـ الدمج الخلوي بين خلايا الأجنة في الأطوار المبكرة .
ج ـ احتمالية الضرر ، أو الوفاة بسبب الفيروسات التي تستخدم في النقل الجيني .
د ـ الفشل في تحديد موقع الجينة على الشريط الصبغي للمريض حيث قد يسبب مرضاً آخر ربما أشد ضرراً .
هـ ـ احتمال أن تُسـبب الجينة المزروعة نمواً سرطانياً .
و ـ استخدام المنظار الجيني في معالجة الأجنة قبل ولادتها قد يؤدي ذلك إلى مضاعفات خطيرة على حياة الأم والجنين .
ز ـ أخطار أخرى تخص الجينة المزروعة ، والكائنات الدقيقة المهندسة وراثياً .
ح ـ استخدام العلاج الجيني في صنع سلالات تستخدم في الحروب البيولوجية المدمرة .
الحكم الشرعي للعلاج الجيني :
ينظر إلى العلاج الجيني من خلال اعتبارين : اعتبار عام من حيث هو علاج للأمراض ، واعتبار خاص يتعلق بخصوصيته وماله من آثار وإجراءات .
أ ـ من حيث هو علاج للأمراض الوراثية فيطبق عليه من حيث المبدأ ، الحكم الشرعي التكليفي للعلاج .
فمن الناحية الفقهية قد اختلف الفقهاء في حكم العلاج على عدة أقوال ، والذي تشهد له الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة هو أن الأحكام التكليفية الخمسة ( الوجوب ، والندب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة ) ترد عليه .
فالعلاج واجب إذا ترتب على عدم العلاج هلاك النفس بشهادة الأطباء العدول ، لأن الحفاظ على النفس من الضروريات الخمس التي يجب الحفاظ عليها ، وكذلك يجب العلاج في حالة كون المرض معدياً مثل مرض السل ، والدفتريا ( الخناق ) والتيفود الكوليرا للنصوص الدالة على دفع الضرر وأنه ( لا ضرر ولا ضرار ) ، بل إن بعض الفقهاء ـ منهم جماعة من الشافعية،وبعض الحنابلة ـ يذهبون إلى أن العلاج واجب مطلقاً وقيده بعضهم بأن يظن نفعه ، بل ذهب الحنفية إلى وجوبه إن كان السبب المزيل للمرض مقطوعاً به وذلك كما أن شرب الماء واجب لدفع ضرر العطش ، وأكل الخبز لدفع ضرر الجوع ، وتركهما محرّم عند خوف الموت ، وهكذا الأمر بالنسبة للعلاج والتداوي . جاء في الفتاوى الهندية : ( اعلم بأن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش ، والخبز المزيل لضرر الجوع … أما المقطوع به فليس تركه من التوكل ، بل تركه حرام عند خوف الموت ) .
وقد استدل هؤلاء الفقهاء بالأحاديث الآمرة بالتداوي مثل حديث أسامة بن شريك قال : (أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير ، فسلمت ، ثم قعدت ، فجاء الأعراب من ههنا وههنا ، فقالوا : يا رسول الله أنتداوى ؟ فقال : تداووا فإن الله تعالى لم يضع داءً إلاّ وضع له دواء غير داء واحد الهرم ) ، ولحديث أبي الدرداء : ( قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله أنـزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ، ولا تتداووا بحرام ) ، فإذا كان العلاج واجباً فيكون تركه حراماً كما في حالة كون المرض معدياً ، أكون الشخص مهدداً بالموت أو بضرر كبير إذا لم يتم العلاج .
وأن التداوي مستحب إذا كان التداوي بما يمكن الاستشفاء به حسب الظن وليس اليقين ، وذلك اقتداءً بتداوي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله ، وفعله ، وفيما عدا ذلك فهو مباح مشروع وهذا رأي جمهور الفقهاء ، قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي : ( اعلم أن الذين تداووا من السلف لا ينحصرون ، ولكن قد ترك التداوي أيضاً جماعة من الأكابر ) ثم ذكر بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى ، ولو كان نقصاناً لتركه ، إذ لا يكون حال غيره في التوكل أكمل من حاله ) .
وقد ردّ الغزالي على من قال بأن التداوي يخالف التوكل بأن ذلك نوع من المغالطة ، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى وهو سيد المتوكلين ، وأمر به في أكثر من حديث ، ثم إن التداوي مثل استعمال الماء للعطشان ، والأكل لدفع الجوع فلا فرق بين هذه الدرجات ، فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، وأجرى بها سنـته ، ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ وعن الصحابة في قصة الطاعون ـ فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتاً عظيماً ووباءً ذريعاً فافترق الناس فرقتين ، فقال بعضهم لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة ، وقالت طائفة أخرى : بل ندخل ونتوكل على الله ولا نهرب من قدر الله تعالى ، ولا نفرّ من الموت كمن قال الله تعالى في حقهم : ( ألم ترَ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت … ) ، فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه ، فقال : نرجع ولا ندخل على الوباء ، فقال له المخالفون لرأيه : أنفرّ من قدر الله تعالى ؟ قال عمر : نعم ، نفرُّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى …. فلما أصبحوا جاء عبدالرحمن فسأله عمر عن ذلك ؟ فقال : عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا سمعتم به ـ أي بالطاعون ـ بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ) .
فالعلاج سبب من الأسباب يؤخذ به كما يؤخذ بالأسباب في كل الأمور الأخرى ، بل إن تركها إذا ترتب عليه ضرر يكون محرماً وقد أكد هذه المعاني ابن القيّم في الطب النبوي وبيّن بأن العلاج سبب مشروع ، وقدر من قدر الله تعالى ، وسنة من سننه .
ويكون التداوي مباحاً جائزاً تركه ، إذا كان العلاج لا يجدي نفعاً وأن الدواء لا ينفعه ، حيث ذكر الغزالي خمسة أسباب لترك التداوي منها أن تكون العلة مزمنة ، والدواء الذي يؤمر به موهوم النفع .
ب ـ النظر إلى العلاج الجيني من حيث ما له من خصوصية ، وما له من آثار وما يترتب عليه من مصالح أو مفاسد أو مخالفات للنصوص الشرعية .
فبهذا الاعتبار لا ينبغي أن نصدر حكماً عاماً لجميع أنواع العلاج الجيني وحالاته وذلك لأن الحكم الشرعي إنما يكون دقيقاً إذا كان متعلق الحكم معلوماً مبيناً واضحاً ، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره .
وإضافة إلى هذه الأدلة الخاصة بالعلاج والتداوي فهناك عدة قواعد عامة ، ومبادئ معتبرة تتحكم في العلاج بصورة عامة ، وفي العلاج الجيني بصورة خاصة وهي :
1ـ مقاصد الشريعة في رعاية المصالح الضرورية والحاجية ، والتحسينية ، والموازنة بين المصالح والمفاسد والقواعد المتفرقة منها مثل درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة وأنه يتحمل الضرر الأخف في سبيل درء الضرر الأكبر ، وأن الضرر يزال ، وأن الضرر لا يزال بمثله ، وأن الضرورات تبيح المحظورات ، وأن الضرورات تقدر بقدرها ، وأنه يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ، وأنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً ، وأنه يختار أهون الشريّن ، وأن الضرر يدفع بقدر الإمكان ، وأن الحاجة تنـزل منـزلة الضرورة ، وأن الاضطرار لا يبطل حق الغير ، وأن المشقة تجلب التيسير ، وأنه إذا ضاق الأمر اتسع ، وأنه لا ضرر ولا ضرار .
2ـ اعتبار الوسائل والذرائع ، فالوسيلة المحرمة محرمة ولو كانت الغاية شريفة ، فلا يجوز استعمال أية وسيلة محرمة في العلاج الجيني أو غيره إلاّ للضرورة التي تبيح المحظورات وقد جعل ابن القيم قاعدة سد الذرائع ربع الدين والفقه الإسلامي .
3ـ رعاية المألات والغايات والنتائج والآثار المترتبة على العلاج قال الشاطبي : ( النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب ، أو مفسدة تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها ، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية ، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي ، أو تزيد فلا يصح القول بعدم المشروعية ) ، وقاعدة المآلات هي الأصل العام الذي تنبني عليها مجموعة من القواعد الأساسية .
4ـ النظر إلى العلاج الجيني بصورة خاصة من خلال أنواعه ، وحالاته ، حتى يكون الحكم دقيقاً صحيحاً بقدر الإمكان ، وذلك لأن الحكم الصحيح على الشيء فرع من تصوره وفهمه فهماً دقيقاً ، ولذلك نفصل القول حسب الأنواع المتاحة لنا :
أ ـ حكم العلاج الجيني بالنوعين المذكورين إنما يجوز إذا لم يترتب عليه الأضرار والمفاسد التي ذكرناها سابقاً ، وقد صدر قرار من المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة تضمّن مجموعة من الأحكام والضوابط ، حيث نصّ على : ( أن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة التي بدأت 11رجب 1419هـ الموافق 31 اكتوبر 1998م قد نظر في موضوع استفادة المسلمين من علم الهندسة الوراثية التي تحتل اليوم مكانة مهمة في مجال العلوم ، وتثار حول استخدامها أسئلة كثيرة ، وقد تبين للمجلس أن محور علم الهندسة الوراثية هو التعرف على الجينات ( المورثات ) وعلى تركيبها ، والتحكم فيها من خلال حذف بعضها ـ لمرض أو لغيره ـ أو إضافتها أو دمجها بعضها مع بعض لتغيير الصفات الوراثية الخلقية .
وبعد النظر والتدارس والمناقشة فيما كتب حولها ، وفي بعض القرارات والتوصيات التي تمخضت عنها المؤتمرات والندوات العلمية . يقرر المجلس ما يلي :
أولاً : تأكيد القرار الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشأن الاستنساخ برقم 100/2/د/10 في الدورة العاشرة المنعقدة بجدة في الفترة من 23ـ28صفر 1418هـ .
ثانياً : الاستفادة من علم الهندسة الوراثية في الوقاية من المرض أو علاجه ، أو تخفيف ضرره بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر اكبر .
ثالثاً : لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في الأغراض الشريرة وفي كل ما يحرم شرعاً .
رابعاً : لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله للعبث بشخصية الإنسان ، ومسؤوليته الفردية ، أو للتدخل في بنية المورثات ( الجينات ) بدعوى تحسين السلالة البشرية .
خامساً : لا يجوز إجراء أي بحث ، أو القيام بأية معالجة ، أو تشخيص يتعلق بمورثات إنسان ما إلاّ بعد إجراء تقويم دقيق وسابق للأخطار والفوائد المحتملة المرتبطة بهذه الأنشطة ، وبعد الحصول على الموافقة المقبولة شرعاً مع الحفاظ على السرية الكاملة للنتائج ، ورعاية أحكام الشريعة الإسلامية الغراء القاضية باحترام حقوق الإنسان وكرامته .
سادساً : يجوز استخدام أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في حقل الزراعة وتربية الحيوان شريطة الأخذ بكل الاحتياطات لمنع حدوث أي ضرر ـ ولو على المدى البعيد ـ بالإنسان ، او الحيوان ، أو البيئة .
سابعاً : يدعو المجلس الشركات والمصانع المنتجة للمواد الغذائية والطبية وغيرهما من المواد المستفيدة من علم الهندسة الوراثية إلى البيان عن تركيب هذه المواد ليتم التعامل والاستعمال عن بينة حذراً مما يضرُّ أو يحرم شرعاً .
ثامناً : يوصي المجلس الأطباء وأصحاب المعامل والمختبرات بتقوى الله تعالى واستشعار رقابته والبعد عن الإضرار بالفرد والمجتمع والبيئة ) .
ب ـ حكم المسح الوراثي : يجوز شرعاً المسح الوراثي بشرط أن تكون الوسائل المستعملة فيه مباحة آمنة لا تضرُّ بالإنسان والبيئة ، وذلك لأن هذه الطريقة تهدف إلى تقليل الأمراض الوراثية ، وتساعد الأطباء على وضع البرامج الوقائية لحماية الإنسان وابتكار الأدوية ، كما تساعد على دفع الضرر قبل وقوعه .
ويجوز للدولة الإجبار على هذه الطريقة إذا انتشر الوباء في بلد معين ، أو اقتضته المصالح العامة ، ولكن يجب الحفاظ على نتائج المسح وعدم إظاهرها إلاّ بقدر ما تقتضيه الضرورة أو الحاجة الملحة حماية لأسرار الناس التي هي من مقاصد الشريعة .
ج ـ حكم تغيير الخلقة عن طريق العلاج الجيني :
تناول الفقهاء قديماً وحديثاً موضوع تغيير الخلقة ، أو تغيير خلق الله من خلال عمليات التجميل ، وإزالة العيب أو الخلل البدني المسبب لإيذاء مادي ومعنوي ، وقد صدر قرار من الندوة الثالثة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ينصُّّّ على أن :
( 1ـ الجراحات التي يكون الهدف منها علاج المرض الخلقي والحادث بعد الولادة لإعادة شكل أو وظيفة العضو السوية المعهودة له ، جائز شرعاً ويرى الأكثرية أنه يعتبر في حكم هذا العلاج إصلاح عيب أو دمامة تسبب للشخص أذى عضوياً أو نفسياً.
2 ـ لا تجوز الجراحات التي تخرج بالجسم أو العضو عن خلقته السوية ، أو يقصد بها التنكر فراراً من العدالة ، أو التدليس ، أو بمجرد اتباع الهوى .
3 ـ ما ظهر في بعض المجتمعات من جراحات تسمى عمليات تغيير الجنس استجابة للأهواء المنحرفة حرام قطعاً ، ويجوز إجراء عمليات لاستجلاء حقيقة الجنس في الجنس. ) .
ولكن هناك فرق بين ذلك التغيير الحاصل على بعض أجزاء البدن والتغيير عن طريق العلاج الجيني ، فالأول يتم عن طريق إجراء عمليات تجميلية واقعة على الأعضاء المصابة بالآفة أو القبح ، أما العلاج الجيني فيتم عن طريق التحكم في المصادر المتحكمة والأجهزة المتحكمة في الأعضاء ، والمسؤولة عنها شكلاً ولوناً وكيفاً وكمّاً حسب سنة الله ، وذلك بالتدخل في الجينات ، أو الاستئصال أو التبديل بين جزئياتها .
ولكن هذا الفرق غير مؤثر في عموم الحكم الخاص بتغيير الخلقة ، ومن هنا نقول :
أولاً ـ إن أي علاج جيني يستهدف علاج الجينات المريضة والمشوهة لإعادتها إلى شكل أو وظيفة العضو السوية المعهودة له جائز شرعاً ، وكذلك العلاج الجيني الذي يستهدف إصلاح عيب أو دمامة تسبب للشخص أذى عضوياً أو نفسياً .
ثانياً ـ لا يجوز العلاج الجيني الذي يستهدف خروج الجسم أو العضو عن خلقته السوية .
ثالثاً ـ لا يجوز تغيير الجنس ، أو اللون ، أو الشكل ، لأنها من آيات الله تعالى التي تقوم على الحكم والتوازن والموازنات والسنن الربانية .
ومسألة التغيير في خلق الله بيّن الله تعالى في القرآن الحكيم أنه من فعل الشيطان وأوليائه فقال الله تعالى : ( إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً وإن يدعون إلاّ شيطاناً مريداً ، لعنه الله وقال لأتخذنَّ من عبادك نصيباً مفروضاً ولأضلنهم ولأمنينهم فليبتكّن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) وقال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
ولكن المفسرين اختلفوا في تفسير التغيير والتبديل ، قال الإمام الرازي : ( وللمفسرين ههنا قولان: القول الأول : أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله وهو قول سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، والضحاك ، ومجاهد ، والسدي ، والنخعي ، وقتادة ، وفي تقرير هذا القول وجهان : الوجه الأول : أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به ، فمن كفر فقد غيّر فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وهذا معنى ( كل مولود يولد علىالفطر ة …….) . والوجه الثاني : أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراماً ، أو الحرام حلالاً .
القول الثاني : حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر ، وذكروا فيها وجوهاً مثل الوصل ، والوشم ، والاخصاء ، وقطع الآذان ، وفقء العيون ، والتخنث ، أو جعل الأنعام بحائر وسوابق ، مع أن الله خلقها لتوكل وتركب ، ثم قال الرازي : ( اعلم أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب ، وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره ) ، ولذلك قال الله تعالى في الآية اللاحقة مباشرة : ( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلاّ غروراً ) .
وقال ابن عطية : (( قال ابن عباس ، وإبراهيم ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغيرهم : أراد: يغيرون دين الله ، وذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله تعالى ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) أي لدين الله ، والتبديل يقع موقعه التغيير ، وإن كان التغيير أعم منه )) ثم ذكر أراءً أخرى منها أن التغيير في الشكل والهيئة مثل الإخصاء ، والوشم ، ومنها جعل المخلوقات آلهة تعبد مع أنها خلقت لينتفع بها .
وقال في الآية الثانية : ( الذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة ( فطرة الله ) أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدودة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ، ويستدل بها على ربه جلّ وعلا ، ويعرف شرائعه ، ويؤمن به ، فكأنه تعالى قال : أقم وجهك للدين الحنيف ، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر ، لكن تعرضهم العوارض ) .
وقد فسر الإمام البخاري قوله تعالى : ( لا تبديل لخلق الله ) بدين الله ، والفطرة بالإسلام ، ثم بيّن بأن هذا هو تفسير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك في صحيحه ، كتاب التفسير ، باب : ( لا تبديل لخلق الله ) : لدين الله .. ، والفطرة : الإسلام ، ثم روى بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلىالله عليه وسلم ـ قال : ( ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها جدعاء ثم يقول : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) .
والراجح أن تفسير الآية الثانية هو ما ذكره البخاري وغيره من أن المراد بخلق الله دين الله الذي فطر الناس عليها ، حيث فسره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ، والسياق يدل على ذلك .
وأن الراجح في تفسير الآية الأولى ( فليغيرنَّ خلق الله ) هو يشمل المعنيين أي التغيير في فطرة الدين ، والتغير في الشكل الطبيعي للإنسان والحيوان ، وأنه على ضوء المعنى الأخير يكون التغيير في الشكل الطبيعي ، وهو أيضاً يمثل الفطرة السليمة ، وقد وضع ابن عطية معياراً رائعاً للتغيير المباح ، والتغيير غير المشروع فقال : ( وملاك تفسير هذه الآية أن كل تغيير ضار فهو في الآية ، وكل تغيير نافع فهو مباح ) .
فعلى ضوء ذلك أن أيَّ تغيير أو تبديل في الجينات ، أو ما يترتب عليه من آثار إن كان في حدود العلاج أو منع المرض ، أو إصلاح الخلل ، أو العيب وعدم تغيير الشكل الفطري فهو جائز ، وإن كان فيه عبث بالجينات ، أو تغيير للهيئة ، أو الشكل واللون ، والطول والقصر فهو محرم .
وكل هذه الأحكام خاصة بالعلاج الجيني الجسدي الذي يكون في المستوى الأول حيث يتم معالجة أعراض المرض للفرد نفسه دون التعرض للأجيال التالية .
والمستوى الثاني للعلاج الجيني هو أن يتم العلاج في جينات داخل خلايا مشيجية ، ومن هنا يمكن أن ينتقل العلاج إلى الأبناء ، فهذا العلاج غير جائز شرعاً لما فيه من غموض وعدم معرفة بالنتائج التي تترتب عليه ، ولما يمكن أن يترتب عليه من عواقب وخيمة سواء كانت من النواحي الأخلاقية ، وإلى آلية يمكن أن تعرف بها آثارها الإيجابية أو العلمية ، ولكن إذا توصل العلم إلى منع الأضرار والآثار السلبية على الإنسان والأجيال اللاحقة فإنه لا يمنع منه شرعاً ، فالمنع يدور مع الضرر المحقق ، والجواز يدور حول المصلحة ودرء المفسدة. ومع ذلك فلا أرى مانعاً من إجراء التجارب على الحيوانات إذا كان هناك أمل في الوصول إلى تحقيق نتائج إيجابية ، لأن الكون كله مخلوق لخدمة الإنسان ومسخر له ولكن بالضوابط الدينية والأخلاقية وبما لا يترتب عليه ضرر أكبر بالإنسان والبيئة . هذا والله أعلم .
مدى اشتراط الإذن في العلاج الجيني :
تهتم الشريعة الإسلامية بإرادة الإنسان ورضاه في كل ما يخصه إلاّ ما استثنى من ذلك بدليل خاص ، ولذلك يعتبر الطبيب ملزماً بأخذ الإذن من المريض لأجل العلاج ، أو الجراحة ، أو الاختبار إذا كان عاقلاً ، وبإذن وليّ أمره إذا كان قاصراً ، أو مغمى عليه ، سواء كان الإذن مطلقاً أو مقيداً وأن يكون الإذن معبراً عنه بإحدى وسائل التعبير من النطق ، أو الكتابة ، أو الإشارة الواضحة ، وإلاّ فيكون الطبيب آثماً ، لأنه تصرف فيما يخص غيره دون رضاه ، إذ ليس له الحق في التصرف ببدنه إلاّ بإذنه ، فيكون ضامناً لو نتج عنه أي ضرر مهما بذل من جهد ، ومهما كانت نيته طيبة ، ومهما كان حاذقاً متخصصاً ، وهذا ما عليه فقهاء المذاهب الأربعة ، وخالفهم في ذلك ابن حزم الظاهري إذا كان الطبيب عارفاً بالطب حاذقاً .
والذي يظهر لنا رجحانه هو رأي جماهير الفقهاء ، لأنه يتفق مع كرامة الإنسان وحقوقه ، ويتلاءم مع مقاصد الشريعة ، ويدل على ذلك أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاقب كل من فعل اللَدود به ، لأنه لم يأذن به ، بل نهاه عنه حيث روى البخاري ومسلم بسندهما عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : ( لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني ، فقلنا : كراهية المريض للدواء ، فلما أفاق ، قال : ألم أنهكم أن تلدوني ؟ قلنا : كراهية المريض للدواء ، فقال : لا يبقى في البيت أحد إلاّ لُدّ وأنا أنظر ، إلاّ العباس فإنه لم يشهدكم ) فالحديث يدل على أنه لا يجوز مخالفة أمر المريض ـ كقاعدة عامة ـ وأن من يفعل شيئاً من ذلك دون موافقته يستحق العقاب والتعزير ، وذلك لأن إرادة الإنسان محترمة فلا يجوز إهدارها ، وهذا ما نصَّ عليه نظام مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان السعودي ، ولائحته في المادة (21) حيث نصت على أنه : ( يجب أن يتم أي عمل طبي لإنسان برضاه أو بموافقة من يمثله إذا لم يعتد بإرادة المريض... )
ولا يستثنى من هذا المبدأ العام ، والقاعدة العامة إلاّ بعض حالات تقتضيها الضرورات منها :
1. الحالات المرضية التي يتعدى ضررها إلى الآخرين كالأمراض المعدية السارية ، والأمراض الجنسية المعدية حيث لا تحتاج إلى موافقة المريض ، لأن آثار مرضه تتجاوز إلى المجتمع ، فحينئذٍ يحل الإذن الحكومي المتمثل في قرارات الجهة المتخصصة ( كوزارة الصحة ) محل إذنه ، حيث تحدد الجهة المختصة بترتيب مستشفيات أو أقسام خاصة بتلك الأمراض ، وتوجب التبليغ عنها ، ومداواتها ومتابعتها .
2. الحالات النفسية أو العصبية الخطيرة التي قد يضر صاحبها بنفسه أو بغيره .
3. حالات الطوارئ والحوادث التي تستدعي تدخلاً طبياً بصفة فورية لإنقاذ حياة المصاب ، أو إنقاذ عضو من أعضائه وتعذر الحصول على موافقة المريض أو من يمثله في الوقت المناسب ، حيث يجب في هذه الحالات إجراء العمل الطبي دون انتظار الحصول على موافقة المريض أو من يمثله وهذا جزء من نص المادة (21) من النظام السعودي الخاص بمزاولة مهنة الطب .
وقد اشترطت القوانين الغربية بأن يؤخذ رضا المريض بعد إخباره بآثار وأضرار العلاج الطبي ، ومدى نجاحه سواء كان بالتداوي ، أو العمل الجراحي ، وأن يقوم الطبيب بشرح ذلك ، وإلاّ فيتحمّل المسؤولية وقد نصت الفقرة (2) من المادة (21) على أنه : ( يتعين على الطبيب أن يقدم الشرح الكافي للمريض ، أو ولي أمره عن طبيعة العمل الطبي أو الجراحي الذي ينوي القيام به ) وقد اشترط مجمع الفقه الإسلامي في نقل الأعضاء اشتراط كون الباذل كامل الأهلية وبرضاه التام .
وإضافة إلى هذا الإذن من المريض لا بدّ من الإذن من وليّ أمر المسلمين المتمثل في الجهة الصحيحة المختصة بأن تأذن للطبيب مزاولة مهنة الطب ، وسماه ابن القيّم بإذن الشارع حيث ذكر بأن فعله لا بدّ أن يكون مأذوناً من جهة الشارع .
ضوابط العلاج الجيني :
1ـ الجواز الشرعي مرتبط بأخذ كل الاحتياطات العلمية والتقنية والفنية والمعملية والاحترازية لتفادي كل الأضرار التي يمكن أن تترتب على العلاج الجيني وضرورة تفادي ما يترتب على الحيوانات المحورة وراثياً من الجينات الغريبة ، فهذه الشريعة الإسلامية مبنية على تحقيق المصالح ودرء المفاسد ( فأينما تكن المصلحة الحقيقية فـثَمَّ شرع الله تعالى فهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، وخير كلها ، فأي شيء فيه الضرر والقسوة ، أو الظلم والجور ، أو المفسدة والمضرة فليس من هذه الشريعة .
2ـ أن تكون المنافع المتوخاة من العلاج محققة في حدود الظن الغالب ، أما إذا كانت آثاره الإيجابية مشكوكاً فيها ، أو بعبارة الفقهاء ( مصالح موهومة ) فلا يجوز إجراؤه على الإنسان .
3ـ أن تكون نتائج العلاج الجيني مأمونة لا يترتب عليه ضرر أكبر ، فلا يؤدي إلى هلاك أو ضرر بالبدن ، أو العقل ، أو النسل ، أو النسب .
4ـ أن يكون العلاج في حدود الأغراض الشريفة ، وأن يكون بعيداً عن العبث والفوضى وذلك بأن لا يكون لأجل إثبات قوة العلم فقط دون أن يترتب عليه منافع للبشرية .
5ـ أن لا يكون العلاج الجيني في مجال التأثير على السلالة البشرية وعلى فطرة الإنسان السليمة شكلاً وموضوعاً ، وبعبارة أخرى لا يؤدي إلى تغيير خلق الله ـ كما سبق ـ لأن الله تعالى خلق هذا الكون على موازين ومقادير وموازنات ثابتة فلا يجوز التلاعب بها فقال تعالى : ( وكل شيء عنده بمقدار ) وقال تعالى : ( وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ) وقال تعالى : ( إنّا كل شيء خلقناه بقدر ) .
6ـ أن يكون العلاج بالطيبات لا بالمحرمات إلاّ في حالات الضرورة التي تقدر بقدرها .
7ـ أن لا يؤدي العلاج إلى الإضرار بالبيئة ، وإلى تعذيب الحيوان ، لأن الله تعالى وصف المجرمين الظالمين بقوله تعالى : ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) .
8 ـ أن لا يتجاوز التعامل بالعلاج الجيني حدود الاعتدال فلا يصل إلى حدود التبذير والإسراف .
9ـ أن لا يجري أي علاج جيني على الإنسان إلاّ بعد التأكد
الحمد لله القائل في كتابه الكريم ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الحكيم القائل : ( إن الله لم ينـزل داءً إلاّ أنـزل له شفاءً ) ، وعلى آله ومن تبع هداه إلى يوم الدين وبعد :
فإن العالم اليوم يسير بسرعة هائلة نحو الاكتشافات العلمية العظيمة في شتى مجالات الحياة بل تقفز قفزات كبيرة على مختلف الأصعدة ، وأصبح يعيش ثورات بيولوجية هائلة وثورات في عالم الالكترونيات والكومبيوترات ، والانترنيت ، والاتصالات ، فما تمّ إنجازه خلال العقود الأخيرة قد يعادل جميع الإنجازات العلمية التي تحققت في القرون السابقة .
وقد خطا العلم خَطوات كبيرة في عالم الخلايا والجينات حتى اكتشفت الخريطة الجينية للإنسان ما يقرب من سنتين ، وبذلك قد فتحت آفاق جديدة وانتصارات عظيمة على كثير مما تعانيه البشرية ، حيث يمكن عن طريقها التعرف على كثير من أمراض صاحب الخريطة وصفاته ، واكتشاف أمراض الجينات ، وعاهات الأجنة في وقت مبكر ، إضافة إلى تحسين الإنتاج وتكثيره في عالم النبات والحيوان ، والاستفادة منها لزراعة الأعضاء ونحوها .
والبحوث والمختبرات العليمة قد خَطت خُطوات متقدمة نحو العلاج الجيني عن طريق إصلاح هذه الجينات ، أو استئصال الجين المسبب للمرض وتغييره بجين سليم ، ومع هذا التقدم الكبير يقول العلماء : إنه لم يكتشف من أسرار DNA سوى 10% وصدق قوله تعالى : ( وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا ) .
وبما أن الشريعة الإسلامية خالدة ودائمة وشاملة فإنها استطاعت بنصوصها العامة ومبادئها الكلية وقواعدها وضوابطها أن تستجيب لكل المستجدات وتحل جميع المشاكل وتضع لها الضوابط التي تحقق المصالح وتدرأ المفاسد.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية النظر والبحث في أسرار النفس الإنسانية والكون كله ، فقال تعالى : ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فوربّ السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) . بل بيّن الله تعالى أنه يريهم آيات وأسراراً عن النفس ، والكون يوماً بعد يوم حتى يتبين لهم أن الله هو الحق المطلق ، وأن قرآنه صدق لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لأنه تنـزيل من عزيز حكيم حميد فقال تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) .
وحقاً إنه مع التقدم العلمي الرهيب وكل مجالات الكون والإنسان والحياة لم يظهر أي تناقض بين قول إلهي ثابت في الكتاب والسنة الصحيحة وبين قاعدة وحقيقية علمية ثابتة ، بل إن القرآن الكريم قد تطرق إلى مجموعة من الحقائق العلمية اكتشف بعضها العلم الحديث فوجدها في غاية من الدقة سواء كانت في مجال مراحل الأجنة وكيفية خلقها ، أو في مجالات كيفية خلق الكون ، وأصله وعناصره الأساسية ونحو ذلك ، وهذا دليل آخر على وجود الله تعالى وصدق رسالته .
وكما كانت آيات الله تعالى سبقت العلم الحديث في كشفها حقائق علمية وأسرار النفس ، فإن شريعته كذلك قادرة على التواصل مع هذه الحقائق ، وذلك لأن كل ذلك يعود إلى أمر الله تعالى الشامل للأمر التكويني ، والأمر القولي ، ولذلك لم تجد الأمة الإسلامية منذ نـزول هذه الشريعة مشكلة استعصت عن الحل والعلاج الناجح على الرغم من اختلاف الحضارات التي قابلها الإسلام ، وعلى الرغم من تقدم العلوم وظهور المشاكل المعاصرة ، وهذا دليل آخر على صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان ، وعلى شموليتها وقدرتها على البقاء والاستمرار ، ومواكبة العصر مهما تطور وتقدم .
ونحن في هذه الدراسة المتواضعة نلقي الأضواء على موضوع جديد جداً وهو ( العلاج الجيني ـ من منظور الفقه الإسلامي ) حيث نتطرق إلى التعريف بالعلاج الجيني ، وأنواعه ، والحكم الشرعي للعلاج الجيني وأنواعه ، والآثار السلبية الاجتماعية والأخلاقية وكيفية تفاديها ، والضوابط الشرعية للعلاج الجيني ، والله نسأل أن يكتب لنا التوفيق والسداد ويجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم إنه مولانا فنعم المولى ونعم النصير .
كتبه : أ . د . علي محي الدين القره داغي
الدوحة ـ غرة رجب الخير 1422هـ
تمهيد :
أراد الله تعالى للإنسان أن يكون خليفة في الأرض من دون الملائكة وغيرهم أجمعين ليعمر هذا الكون ، فقال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) ولما استفسر الملائكة عن أسباب هذا الاختيار مستغربين من اختيار هذا الصنف الذي يقع منهم الكفر والعصيان ، والقتل وسفك الدم، والفساد … أجاب الله تعالى بقوله : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) ثم علم آدم الأسماء كلها ، فتبيّن من ذلك أن أحد أسباب هذا الاختيار يعود إلى أن الله تعالى أعطى لهذا المخلوق عقلاً قادراً على التعلم والاكتشاف والاستنباط ، وبهذا ميّزه عن سائر المخلوقات ، ومن ذلك اليوم الذي نـزل فيه آدم على الأرض ظل يبحث عن معرفة نفسه ومحيطه ، وتطوير عقله ومعارفه وعلومه ، وأصبح يميط كل يوم لثاماً ويكتشف في كل ساعة أسراراً ، فاستطاع أن يفك أسرار الحروف ويفهم الكتاب المقروء ، كما بذل كل جهده لفك أسرار الكون الذي هو في حقيقته كتاب كامل عظيم معقد يحتوي من الأسرار مالا يعدُّ ولا يحصى ، بل حينما التفت نحو نفسه التي هي أقرب الأشياء إليه وجدها أيضاً تحتوي من الأسرار والغرائب التي يعجز اللسان عن التعبير عنها .
وظل الإنسان كادحاً مجاهداً باحثاً عن الحقائق الكونية والشرعية ، كاشفاً في كل يوم عن بعض الحقائق ، ساعد في ذلك الوحي الإلهي ولا سيما في صورته الأخيرة المتمثلة بالإسلام ، حيث وضعه على الطريق الصحيح ليس على نطاق أمور الدين ، بل حتى في نطاق اكتشاف أسرار النفس والكون ، لذلك سار المسلمون على المنهج التجريبي الذي قفز بالحضارة والعلوم قفزة هائلة ، ثم أصابهم الجمود ، فجاء دور الغربيين فبنوا على هذا المنهج التجريبي الكثير ، ودفعوا بالعلوم إلى مراحل متطورة نستطيع القول بأن ما حصل عليه الإنسان من العلوم والإبداعات في القرن الأخير يزيد على كل ما حصل عليه في تأريخه الطويل بل إن المعرفة الإنسانية في العقود الأخيرة تتضاعف كل خمس سنوات ، فمن عصر الثورة الصناعية إلى عصر ثورة المعلوماتية ، إلى عصر الكومبيوترات والانترنيت وثورة الاتصالات .
قراءة حروف الإنسان:
ومما أولى له العلم الحديث اهتمامه الكبير هو البحث عن قراءة الإنسان قراءة عميقة بحيث يقرأ كل جزئياته وجيناته كما يقرأ الكتاب بحروفه وحركاته وسكناته وأصواته ومخارج حروفه ، فتقدمت علوم التشريح واخترع المجهر الذي بيّن أن أنسجة الجسم كلها تتكون من خلايا ، وفي كل خلية نواة هي المسئولة عن حياة الخلية ووظيفتها ، وأن نواة كل خلية تشمل على الحصيلة الإرثية من حيث الخواص المشتركة بين البشر جميعاً ، أو بين السلالات المتقاربة ، ومن حيث الصفات المميزة لكل شخص لا يشترك معها فيها شخص آخر .
وهذه المادة الإرثية المعبأة في نواة الخلية تتكون من ستة وأربعين كرموسوماً ، ثلاثة وعشرون منها من الأب ، وثلاثة وعشرون من الأم ، كما عبر القرآن الكريم عن هذا الخلط بقوله تعالى : ( من نطفة أمشاج ) .
فالأسرار الوراثية كامنة فيما يعرف بالجينات ، التي هي جزء من الحامض النووي منـزوع الأوكسجين DNA الموجود في الكروموسوم ، فالجين يحوي كل المعلومات لتكوين سلسلة من الأحماض الأمينية ( الببتايد ) أو جزء من البروتين ، وبما أن الخمائر ( الأنزيمات ) نوع من البروتين ، فإن الجين هو المسؤول عن صنع هذا البروتين ، فمثلاً يتم صنع الأنسولين بواسطة جين معين موجود في سلسلة ( الدنا ) على الكروموسوم رقم (611) ، و( الدنا ) مكون من زوجين نايتروجينين هما : دنين وثايمين ، والجوانين والسايتوزين بواسطة قواعد هيدروجينية ، كما يتصل كل واحد منهما بأحد السكريات الخماسية الناقصة الأوكسجين كما يتصل بمجموعة فسفورية ، ويقدر مجموع ( الدنا ) في كل خلية بشرية على شكل شريط من كاسيت طوله 2800كم ، ويتكون الجين من سلسلة من هذه القواعد النـتروجينية بتوابعها ( السكر الخماسي ، والمركب الفسفوري ) تبلغ في المعدل ثلاثين ألف زوج قاعدي نـتروجيني ، فتصل مجموع القواعد النـتروجينية إلى ستة بلايين ، وأن السلاسل المكونة للحامض النووي منـزوع الأوكسجين (الدنا) مزدوجة ، وأن ما هو موجود في سلسلة واحدة يمثل ثلاثة بلايين من الأزواج القاعدية ، فالجينات تشكل ما يقرب من 70% من مجموع طول ( الدنا ) ولا تـزال وظائف البقية الباقية منه مجهولة .
وهذه السلاسل تكوّن الكروموسومات ( الصبغيات ) التي تصل في الإنسان إلى ثلاثة وعشرين زوجاً منها زوج واحد يختص بالذكورة والأنوثة ، وأما غيره فيختص ببقية وظائف البدن . وتـتراوح عدد الجينات الأساسية داخل خلية واحدة ما بين ستين وسبعين ألفاً وأن 20% منها تعمل وتقوم بالوظائف الحيوية المشابهة ، في حين تختلف 80% حسب الوظيفة والموقع والزمن .
مشروع الجينوم البشري :
يبذل العلماء جهود مكثفة لمعرفة الجينات البشرية ، واكتشاف مزيد من أسرارها يستعينون لتحقيق هذا الهدف العظيم بالمختبرات الحديثة المزودة بأحدث التقنيات ، وأضخم الكمبيوترات ، وهو مشروع رصدت له أمريكا خمسة مليارات من الدولارات ، وقد تحق كثير من النتائج العظيمة حتى الآن ، وآخر هذه النتائج هو كشف الخريطة الجينومية للإنسان .
ولا يمر يوم إلاّ ويتم فيه معرفة عدد هذه الجينات وموقعها على الخريطة الجينومية وحجمها وعدد القواعد النـتروجينية المكونة له ، والبروتينات التي يصنعها بأمر خالقه ، وعدد الأحماض الأمنية المكونة لهذا البروتين ، ووظائفه ، والأمراض التي تصيب الإنسان عند نقص ذلك البروتين .
وقد شاء الله تعالى أن يؤدي أي خلل يسير في تسلسل القواعد النـتروجينية في الجين المتحكم في البروتين إلى مرض خطير ، ولكن لا يظهر المرض إلاّ عندما يرث الشخص هذا الجين المعطوب من كلا الأبوين ، أما إذا كان لديه جين واحد مصاب والجين الآخر سليماً فإنه يعتبر حاملاً للمرض فقط ، ولا تظهر عليه أي أعراض مرضية ، ولكن عندما يتزوج هذا من امرأة حاصلة على هذا الجين تكون نسبة ظهور المرض في ذريتهما 25% أي واحد من أربعة ، وهنا يأتي دور الفحص الطبي .
ولكن هناك العديد من الأمراض الوراثية تنتقل عبر جين واحد منتقل من أحد الأبوين ، أو كليهما ، حيث حصرها بعض العلماء عام 1994م في (6678) مرضاً وراثياً ، غير أن (4458) مرضاً منها يصاب نصف الذرية ، و (1750) مرضاً يصاب ربع الذرية ، وأوصلها العلماء في عام 1998م إلى اكثر من ثمانية آلاف مرض وراثي .
لمعرفة الجينوم " ايجابيات وسلبيات " :
لا شك أن إدراك أسرار الجينات يحقق مصالح كبيرة للبشرية ، ولكنه مع ذلك إذا أطلق عنانها دون ضوابط ، منها أنه لو اشترطت جهات العمل الكشف الجيني لأدى ذلك إلى أن المصابين بالأمراض المحققة أو المحتملة لن يتم تعيينهم ، والأمر أشد في التأمين الصحي ، أو التأمين على الحياة ، ومنها كشف أسرار الإنسان ، وغير ذلك من السلبيات ، لذلك لا بدّ من وضع ضوابط دينية وأخلاقية في هذا المجال .
وصدرت توصية من الندوة الحادية عشرة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية التي عقدت في الكويت في 23 ـ 25/جمادى الآخرة 1419هـ الموافق 13 ـ 15/10/1998م نصت على : ( أن مشروع قراءة الجينوم البشري ـ وهو رسم خريطة الجينات الكاملة للإنسان ، وهو جزء من تعرف الإنسان على نفسه ، واستكناه سنة الله في خلقه وإعمال للآية الكريمة ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) ومثيلاتها الآيات الأخرى .
ولما كانت قراءة الجينوم وسيلة للتعرف على بعض الأمراض الوراثية أو القابلية لها ، فهي إضافة قيمة إلى العلوم الصحية والطبية في مسعاها لمنع الأمراض ، أو علاجها مما يدخل في باب الفروض الكفائية في المجتمع .
ويتوقع العلماء أن هذا المشروع يستهدف تحقيق الغايات التالية :
1. التعرف على أسباب الأمراض الوراثية .
2. التعرف على التركيب الوراثي لأي إنسان من حيث خريطته الجينية ومن حيث القابلية لحدوث أمراض معينة كضغط الدم والنوبات القلبية والسكر ونحوها .
3. العلاج الجيني للأمراض الوراثية .
4. إنتاج مواد بيولوجية وهرمونات يحتاجها الإنسان للنمو والعلاج .
العلاج الجيني :
هو إصلاح الخلل في الجينات ، أو تطويرها ، أو استئصال الجين المسبب للمرض واستبدال جين سليم به ، وذلك بإحدى الطريقتين التاليتين :
الطريقة الأُولى : عن طريق الخلية العادية ، وذلك بإدخال التعديلات المطلوبة وحقنها للمصاب ، فإدخال الجين إلى الكروموسوم في الخلية يجب أن يكون في موقع محدد ، لأن الإدخال العشوائي قد يترتب عليه أضرار كبيرة .
ومن المعلوم أن توصيل الجينات يمكن أن يتم بطرق كيميائية ، أو فيزيائية ، أو بالفيروسات ، أما الطريقة الكيميائية فيتم دمج عدة نسخ من DNA الحامل للجين السليم بمادة مثل فوسفات الكالسيوم ، ثم يفرغ ذلك في الخلية المستقبلية حيث تعمل المادة الكيميائية على تحطيم غشاء الخلية ، وتنقل بالتالي المادة الوراثية إلى الداخل .
وهناك طريقة أخرى لتوصيل الجينات عن طريق الحقن المجهري حيث يتم دخول المادة الوراثية إلى السيتوبلازم ، أو النواة .
وطريقة استخدام الفيروسات هي الأكثر قبولاً وتطبيقاً ، وذلك باستخدام الفيروسات كنواقل أو عربات شحن في النقل الجيني ، وهناك نوعان من الفيروسات ، أحدهما مادته الوراثية DNA والنوع الآخر RNA وعلى الرغم من أنهما مختلفان كيميائياً لكنهما يجمعهما أنهما من وحدات نيوكيلوتيده ، وأنهما يشملان شفرات منتظمة بالإضافة إلى تسلسل دقيق للقواعد النيتروجينية ، فقد أثبتت التجارب العملية أن الجين المسؤول عن تكوين بيتاجلوبين البشري يمكن إدخاله في خلايا عظام الفأر بواسطة الفيروسات التراجعية كنواقل ، وكانت النتيجة جيدة ، واستخدم البعض الفيروسات التراجعية لإدخال جين مسؤول عن عامل النمو البشري إلى أرومات ليفية ، وطبقت كذلك على أجنة التجارب بواسطة خلايا الكبد والعضلات .
وبعد التجارب المعملية خرجت التطبيقات منها إلى الإنسان مباشرة حيث كانت التجربة الأولى على الطفلتين ( سبنـتيا ) و ( أشانتي ) اللتين ولدتا وهما تعانيان من عيب وراثي وهو عدم إنتاج أنزيم أدينوزين ديمتاز يعمل نقصه على موت خلايا الدم التائية المسماة بالخلايا النائبة (T – Cells ) مما يؤدي إلى التأثير على جهاز المناعة وفي سبتمبر 1990 بدأت رحلة العلاج الجيني بحقن الطفلة (أشانتي ) بالخلايا المعالجة وراثياً ثم أخضعت الطفلة الثانية في يناير 1991 وكانت نتيجة علاجهما جيدة .
الطريقة الثانية : عن طريق إدخال تعديلات مطلوبة على الحيوان المنوي ، أو البويضة .
وقد أثيرت الشبهات حول الطريقتين ، حيث أثيرت على الأُولى شبهة أخلاقية وهي : هل البصمة الوراثية لهذا الشخص ستكون مطابقة لابنه ؟ كما أثيرت على الثانية شبهة تأثير إدخال التعديلات على الحيوان المنوي ، أو البويضة ؟ .
ولذلك لا بدّ من التأكيد على هذا الجانب الأخلاقي وهو أن العلاج في الحالتين لا بدَّ أن لا يؤدي بأية حالة من الأحوال إلى التأثير في البنية الجينية ، والسلالة الوراثية .
ومن جانب آخر فإن للاسترشاد الوراثي ، والهندسة الوراثية دوراً رائداً في منع المرض وتطبيق قاعدة : الوقاية خير من العلاج .
والعلاج الجيني لا يقتصر دوره على الإنسان بل له دوره الأكبر في عالم النبات والحيوان مثل تغيير وتعديل التركيب الوراثي للكائنات ، أو ما يعرف بهندسة المورثات في الكائنات من مثل التحور الجيني في النبات والاستزراع الجيني في الكائنات الدقيقة مثل البكتريا ، وهندسة الحيوانات وراثياً .
مستقبل العلاج الجيني :
تشير النتائج والأبحاث إلى أن مستقبلاً زاهراً ينتظر العلاج الجيني ، وأنه يستفاد منه لعلاج أمراض واسعة الانتشار تطال الملايين من مرضى العالم مثل السرطان ، والتهاب الكبد الفيروسي ، والايدز ، وفرط الكولوسترول العائلي ، وتصلب الشرايين ، والأمراض العصبية مثل داء باركتسون ومرض الزهايمر ، إضافة إلى معالجة الأجنة قبل ولادتها ، وتشخيص الأمراض الوراثية قبل الزواج .
منافع العلاج الجيني :
هناك فوائد كبيرة ، ومنافع كثيرة تتحقق من خلال العلاج الجيني يمكن أن نذكر أهمها :
1. الاكتشاف المبكر للأمراض الوراثية ، وحينئذٍ التمكن من منع وقوعها أصلاً بإذن الله ، أو الإسراع بعلاجها ، أو التخفيف عنها قبل استفحاله ، حيث بلغت الأمراض الوراثية المكتشفة أكثر من ستة آلاف مرض ، وبالتالي استفادة الملايين من العلاج الجيني .
2. تقليل دائرة المرض داخل المجتمع وذلك عن طريق الاسترشاد الجيني ، والاستشارة الوراثية .
3. إثراء المعرفة العلمية عن طريق التعرف على المكونات الوراثية ، ومعرفة التركيب الوراثي للإنسان بما فيه القابلية لحدوث أمراض معينة كضغط الدم والنوبات القلبية ، والسكر ونحوها .
4. الحد من اقتران حاملي الجينات المريضة ، وبالتالي الحد من الولادات المشوهة .
5. إنتاج مواد بيولوجية ، وهرمونات يحتاجها جسم الإنسان للنمو والعلاج .
سلبيات العلاج الجيني وأخطاره :
تترتب على العلاج الجيني بعض السلبيات في عدة نواحي اجتماعية ونفسية ، منها :
1. من خلال كشف بعض الأمراض الوراثية للفرد يترتب عليه آثار كبيرة على حياته الخاصة ، فيتعرض لعدم القبول في الوظائف ، أو التأمين بصورة عامة ، والامتناع عن الزواج منه رجلاً كان أو امرأة ، فقراءة جينومه تؤثر فعلاً على عمله الوظيفي ، وعلى زواجه ، وعلى كثير من أموره الخاصة به ، مما يترتب عليه إضرار به دون ذنب اقترفه ، بل قد لا يصبح مريضاً مع انه حامل الفيروس ، أو جين مريض ، فليس كل حامل للمرض مريض ، ولا كل مرض متوقع يتحتم وقوعه.
2. التأثير على ثقة الإنسان بنفسه ، والخوف والهلع من المستقبل المظلم مما يترتب عليه أمراض نفسية خطيرة قد تقضي عليه بسبب الهموم ، مع أن الإنسان مكرم لا يجوز إهدار كرامته ، وخصوصيته الشخصية وأسراره .
3. ان هناك عوامل أخرى بجانب الوراثة لها تأثير كبير على إحداث الأمراض الناتجة عن تفاعل البيئة ونمط الحياة ، إضافة إلى الطفرات الجينية التي تحدث في البويضة أو الحيوان المنوي ، أو فيهما بعد التلقيح .
4. وهناك مفاسد أخرى إذا تناول العلاج الجيني الصفات الخلقية ـ بفتح القاف ـ من الطول والقصر ، والبياض والسواد ، والشكل ، ونحو ذلك ، أو ما يسمى بتحسين السلالة البشرية ، مما يدخل في باب تغير خلق الله المحرم .
والعالم المتقدم اليوم ( وبالأخص أمريكا ) في تسابق خطير وتسارع إلى تسجيل الجديد في هذا المجال الخطير وبالأخص ما يتعلق بالإنسان فيوجد الآن أكثر من 250 معملاً ومختبراً متخصصاً في عالم الجينات فلا يُطلِع مختبر الآخر على نتائجه الجديدة ، ولذلك لا يستبعد في يوم من الأيام خروج شيء من تلك الكائنات المهندسة وراثياً ويحمل إمّا أمراضاً جديدة ، أو جراثيم بيولوجية مدمرة ، وخاصة ليست هناك ضمانات قانونية ولا أخلاقية لكثير من هذه المعامل ، ولذلك أنشئت هيئة الهندسة البيولوجية الجزيئية في فرنسا ، ولكنها غير كافية ، وهذه الأخطار تتعلق بما يأتي :
1. أخطار تتعلق بتطبيقات الهندسة الوراثية في النبات والحيوان والأحياء الدقيقة ، إضافة إلى أن بعض الحيوانات المحورة وراثياً تحمل جينة غريبة يمكن أن تعرض الصحة البشرية ، أو البيئة للخطر.
2. أخطار تتعلق بالمعالجة الجينية من النواحي الآتية :
أ ـ النقل الجيني في الخلايا الجرثومية التي ستولد خلايا جنسية لدى البالغين (حيوانات منوية وبويضات) وذلك لأن التلاعب الوراثي لهذه الخلايا يمكن أن يوجد نسلاً جديداً غامض الهوية ضائع النسب .
ب ـ الدمج الخلوي بين خلايا الأجنة في الأطوار المبكرة .
ج ـ احتمالية الضرر ، أو الوفاة بسبب الفيروسات التي تستخدم في النقل الجيني .
د ـ الفشل في تحديد موقع الجينة على الشريط الصبغي للمريض حيث قد يسبب مرضاً آخر ربما أشد ضرراً .
هـ ـ احتمال أن تُسـبب الجينة المزروعة نمواً سرطانياً .
و ـ استخدام المنظار الجيني في معالجة الأجنة قبل ولادتها قد يؤدي ذلك إلى مضاعفات خطيرة على حياة الأم والجنين .
ز ـ أخطار أخرى تخص الجينة المزروعة ، والكائنات الدقيقة المهندسة وراثياً .
ح ـ استخدام العلاج الجيني في صنع سلالات تستخدم في الحروب البيولوجية المدمرة .
الحكم الشرعي للعلاج الجيني :
ينظر إلى العلاج الجيني من خلال اعتبارين : اعتبار عام من حيث هو علاج للأمراض ، واعتبار خاص يتعلق بخصوصيته وماله من آثار وإجراءات .
أ ـ من حيث هو علاج للأمراض الوراثية فيطبق عليه من حيث المبدأ ، الحكم الشرعي التكليفي للعلاج .
فمن الناحية الفقهية قد اختلف الفقهاء في حكم العلاج على عدة أقوال ، والذي تشهد له الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة هو أن الأحكام التكليفية الخمسة ( الوجوب ، والندب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة ) ترد عليه .
فالعلاج واجب إذا ترتب على عدم العلاج هلاك النفس بشهادة الأطباء العدول ، لأن الحفاظ على النفس من الضروريات الخمس التي يجب الحفاظ عليها ، وكذلك يجب العلاج في حالة كون المرض معدياً مثل مرض السل ، والدفتريا ( الخناق ) والتيفود الكوليرا للنصوص الدالة على دفع الضرر وأنه ( لا ضرر ولا ضرار ) ، بل إن بعض الفقهاء ـ منهم جماعة من الشافعية،وبعض الحنابلة ـ يذهبون إلى أن العلاج واجب مطلقاً وقيده بعضهم بأن يظن نفعه ، بل ذهب الحنفية إلى وجوبه إن كان السبب المزيل للمرض مقطوعاً به وذلك كما أن شرب الماء واجب لدفع ضرر العطش ، وأكل الخبز لدفع ضرر الجوع ، وتركهما محرّم عند خوف الموت ، وهكذا الأمر بالنسبة للعلاج والتداوي . جاء في الفتاوى الهندية : ( اعلم بأن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش ، والخبز المزيل لضرر الجوع … أما المقطوع به فليس تركه من التوكل ، بل تركه حرام عند خوف الموت ) .
وقد استدل هؤلاء الفقهاء بالأحاديث الآمرة بالتداوي مثل حديث أسامة بن شريك قال : (أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير ، فسلمت ، ثم قعدت ، فجاء الأعراب من ههنا وههنا ، فقالوا : يا رسول الله أنتداوى ؟ فقال : تداووا فإن الله تعالى لم يضع داءً إلاّ وضع له دواء غير داء واحد الهرم ) ، ولحديث أبي الدرداء : ( قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله أنـزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ، ولا تتداووا بحرام ) ، فإذا كان العلاج واجباً فيكون تركه حراماً كما في حالة كون المرض معدياً ، أكون الشخص مهدداً بالموت أو بضرر كبير إذا لم يتم العلاج .
وأن التداوي مستحب إذا كان التداوي بما يمكن الاستشفاء به حسب الظن وليس اليقين ، وذلك اقتداءً بتداوي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله ، وفعله ، وفيما عدا ذلك فهو مباح مشروع وهذا رأي جمهور الفقهاء ، قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي : ( اعلم أن الذين تداووا من السلف لا ينحصرون ، ولكن قد ترك التداوي أيضاً جماعة من الأكابر ) ثم ذكر بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى ، ولو كان نقصاناً لتركه ، إذ لا يكون حال غيره في التوكل أكمل من حاله ) .
وقد ردّ الغزالي على من قال بأن التداوي يخالف التوكل بأن ذلك نوع من المغالطة ، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى وهو سيد المتوكلين ، وأمر به في أكثر من حديث ، ثم إن التداوي مثل استعمال الماء للعطشان ، والأكل لدفع الجوع فلا فرق بين هذه الدرجات ، فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، وأجرى بها سنـته ، ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ وعن الصحابة في قصة الطاعون ـ فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتاً عظيماً ووباءً ذريعاً فافترق الناس فرقتين ، فقال بعضهم لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة ، وقالت طائفة أخرى : بل ندخل ونتوكل على الله ولا نهرب من قدر الله تعالى ، ولا نفرّ من الموت كمن قال الله تعالى في حقهم : ( ألم ترَ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت … ) ، فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه ، فقال : نرجع ولا ندخل على الوباء ، فقال له المخالفون لرأيه : أنفرّ من قدر الله تعالى ؟ قال عمر : نعم ، نفرُّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى …. فلما أصبحوا جاء عبدالرحمن فسأله عمر عن ذلك ؟ فقال : عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا سمعتم به ـ أي بالطاعون ـ بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه ) .
فالعلاج سبب من الأسباب يؤخذ به كما يؤخذ بالأسباب في كل الأمور الأخرى ، بل إن تركها إذا ترتب عليه ضرر يكون محرماً وقد أكد هذه المعاني ابن القيّم في الطب النبوي وبيّن بأن العلاج سبب مشروع ، وقدر من قدر الله تعالى ، وسنة من سننه .
ويكون التداوي مباحاً جائزاً تركه ، إذا كان العلاج لا يجدي نفعاً وأن الدواء لا ينفعه ، حيث ذكر الغزالي خمسة أسباب لترك التداوي منها أن تكون العلة مزمنة ، والدواء الذي يؤمر به موهوم النفع .
ب ـ النظر إلى العلاج الجيني من حيث ما له من خصوصية ، وما له من آثار وما يترتب عليه من مصالح أو مفاسد أو مخالفات للنصوص الشرعية .
فبهذا الاعتبار لا ينبغي أن نصدر حكماً عاماً لجميع أنواع العلاج الجيني وحالاته وذلك لأن الحكم الشرعي إنما يكون دقيقاً إذا كان متعلق الحكم معلوماً مبيناً واضحاً ، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره .
وإضافة إلى هذه الأدلة الخاصة بالعلاج والتداوي فهناك عدة قواعد عامة ، ومبادئ معتبرة تتحكم في العلاج بصورة عامة ، وفي العلاج الجيني بصورة خاصة وهي :
1ـ مقاصد الشريعة في رعاية المصالح الضرورية والحاجية ، والتحسينية ، والموازنة بين المصالح والمفاسد والقواعد المتفرقة منها مثل درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة وأنه يتحمل الضرر الأخف في سبيل درء الضرر الأكبر ، وأن الضرر يزال ، وأن الضرر لا يزال بمثله ، وأن الضرورات تبيح المحظورات ، وأن الضرورات تقدر بقدرها ، وأنه يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ، وأنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً ، وأنه يختار أهون الشريّن ، وأن الضرر يدفع بقدر الإمكان ، وأن الحاجة تنـزل منـزلة الضرورة ، وأن الاضطرار لا يبطل حق الغير ، وأن المشقة تجلب التيسير ، وأنه إذا ضاق الأمر اتسع ، وأنه لا ضرر ولا ضرار .
2ـ اعتبار الوسائل والذرائع ، فالوسيلة المحرمة محرمة ولو كانت الغاية شريفة ، فلا يجوز استعمال أية وسيلة محرمة في العلاج الجيني أو غيره إلاّ للضرورة التي تبيح المحظورات وقد جعل ابن القيم قاعدة سد الذرائع ربع الدين والفقه الإسلامي .
3ـ رعاية المألات والغايات والنتائج والآثار المترتبة على العلاج قال الشاطبي : ( النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب ، أو مفسدة تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها ، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية ، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي ، أو تزيد فلا يصح القول بعدم المشروعية ) ، وقاعدة المآلات هي الأصل العام الذي تنبني عليها مجموعة من القواعد الأساسية .
4ـ النظر إلى العلاج الجيني بصورة خاصة من خلال أنواعه ، وحالاته ، حتى يكون الحكم دقيقاً صحيحاً بقدر الإمكان ، وذلك لأن الحكم الصحيح على الشيء فرع من تصوره وفهمه فهماً دقيقاً ، ولذلك نفصل القول حسب الأنواع المتاحة لنا :
أ ـ حكم العلاج الجيني بالنوعين المذكورين إنما يجوز إذا لم يترتب عليه الأضرار والمفاسد التي ذكرناها سابقاً ، وقد صدر قرار من المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة تضمّن مجموعة من الأحكام والضوابط ، حيث نصّ على : ( أن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة التي بدأت 11رجب 1419هـ الموافق 31 اكتوبر 1998م قد نظر في موضوع استفادة المسلمين من علم الهندسة الوراثية التي تحتل اليوم مكانة مهمة في مجال العلوم ، وتثار حول استخدامها أسئلة كثيرة ، وقد تبين للمجلس أن محور علم الهندسة الوراثية هو التعرف على الجينات ( المورثات ) وعلى تركيبها ، والتحكم فيها من خلال حذف بعضها ـ لمرض أو لغيره ـ أو إضافتها أو دمجها بعضها مع بعض لتغيير الصفات الوراثية الخلقية .
وبعد النظر والتدارس والمناقشة فيما كتب حولها ، وفي بعض القرارات والتوصيات التي تمخضت عنها المؤتمرات والندوات العلمية . يقرر المجلس ما يلي :
أولاً : تأكيد القرار الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشأن الاستنساخ برقم 100/2/د/10 في الدورة العاشرة المنعقدة بجدة في الفترة من 23ـ28صفر 1418هـ .
ثانياً : الاستفادة من علم الهندسة الوراثية في الوقاية من المرض أو علاجه ، أو تخفيف ضرره بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر اكبر .
ثالثاً : لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في الأغراض الشريرة وفي كل ما يحرم شرعاً .
رابعاً : لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله للعبث بشخصية الإنسان ، ومسؤوليته الفردية ، أو للتدخل في بنية المورثات ( الجينات ) بدعوى تحسين السلالة البشرية .
خامساً : لا يجوز إجراء أي بحث ، أو القيام بأية معالجة ، أو تشخيص يتعلق بمورثات إنسان ما إلاّ بعد إجراء تقويم دقيق وسابق للأخطار والفوائد المحتملة المرتبطة بهذه الأنشطة ، وبعد الحصول على الموافقة المقبولة شرعاً مع الحفاظ على السرية الكاملة للنتائج ، ورعاية أحكام الشريعة الإسلامية الغراء القاضية باحترام حقوق الإنسان وكرامته .
سادساً : يجوز استخدام أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في حقل الزراعة وتربية الحيوان شريطة الأخذ بكل الاحتياطات لمنع حدوث أي ضرر ـ ولو على المدى البعيد ـ بالإنسان ، او الحيوان ، أو البيئة .
سابعاً : يدعو المجلس الشركات والمصانع المنتجة للمواد الغذائية والطبية وغيرهما من المواد المستفيدة من علم الهندسة الوراثية إلى البيان عن تركيب هذه المواد ليتم التعامل والاستعمال عن بينة حذراً مما يضرُّ أو يحرم شرعاً .
ثامناً : يوصي المجلس الأطباء وأصحاب المعامل والمختبرات بتقوى الله تعالى واستشعار رقابته والبعد عن الإضرار بالفرد والمجتمع والبيئة ) .
ب ـ حكم المسح الوراثي : يجوز شرعاً المسح الوراثي بشرط أن تكون الوسائل المستعملة فيه مباحة آمنة لا تضرُّ بالإنسان والبيئة ، وذلك لأن هذه الطريقة تهدف إلى تقليل الأمراض الوراثية ، وتساعد الأطباء على وضع البرامج الوقائية لحماية الإنسان وابتكار الأدوية ، كما تساعد على دفع الضرر قبل وقوعه .
ويجوز للدولة الإجبار على هذه الطريقة إذا انتشر الوباء في بلد معين ، أو اقتضته المصالح العامة ، ولكن يجب الحفاظ على نتائج المسح وعدم إظاهرها إلاّ بقدر ما تقتضيه الضرورة أو الحاجة الملحة حماية لأسرار الناس التي هي من مقاصد الشريعة .
ج ـ حكم تغيير الخلقة عن طريق العلاج الجيني :
تناول الفقهاء قديماً وحديثاً موضوع تغيير الخلقة ، أو تغيير خلق الله من خلال عمليات التجميل ، وإزالة العيب أو الخلل البدني المسبب لإيذاء مادي ومعنوي ، وقد صدر قرار من الندوة الثالثة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ينصُّّّ على أن :
( 1ـ الجراحات التي يكون الهدف منها علاج المرض الخلقي والحادث بعد الولادة لإعادة شكل أو وظيفة العضو السوية المعهودة له ، جائز شرعاً ويرى الأكثرية أنه يعتبر في حكم هذا العلاج إصلاح عيب أو دمامة تسبب للشخص أذى عضوياً أو نفسياً.
2 ـ لا تجوز الجراحات التي تخرج بالجسم أو العضو عن خلقته السوية ، أو يقصد بها التنكر فراراً من العدالة ، أو التدليس ، أو بمجرد اتباع الهوى .
3 ـ ما ظهر في بعض المجتمعات من جراحات تسمى عمليات تغيير الجنس استجابة للأهواء المنحرفة حرام قطعاً ، ويجوز إجراء عمليات لاستجلاء حقيقة الجنس في الجنس. ) .
ولكن هناك فرق بين ذلك التغيير الحاصل على بعض أجزاء البدن والتغيير عن طريق العلاج الجيني ، فالأول يتم عن طريق إجراء عمليات تجميلية واقعة على الأعضاء المصابة بالآفة أو القبح ، أما العلاج الجيني فيتم عن طريق التحكم في المصادر المتحكمة والأجهزة المتحكمة في الأعضاء ، والمسؤولة عنها شكلاً ولوناً وكيفاً وكمّاً حسب سنة الله ، وذلك بالتدخل في الجينات ، أو الاستئصال أو التبديل بين جزئياتها .
ولكن هذا الفرق غير مؤثر في عموم الحكم الخاص بتغيير الخلقة ، ومن هنا نقول :
أولاً ـ إن أي علاج جيني يستهدف علاج الجينات المريضة والمشوهة لإعادتها إلى شكل أو وظيفة العضو السوية المعهودة له جائز شرعاً ، وكذلك العلاج الجيني الذي يستهدف إصلاح عيب أو دمامة تسبب للشخص أذى عضوياً أو نفسياً .
ثانياً ـ لا يجوز العلاج الجيني الذي يستهدف خروج الجسم أو العضو عن خلقته السوية .
ثالثاً ـ لا يجوز تغيير الجنس ، أو اللون ، أو الشكل ، لأنها من آيات الله تعالى التي تقوم على الحكم والتوازن والموازنات والسنن الربانية .
ومسألة التغيير في خلق الله بيّن الله تعالى في القرآن الحكيم أنه من فعل الشيطان وأوليائه فقال الله تعالى : ( إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً وإن يدعون إلاّ شيطاناً مريداً ، لعنه الله وقال لأتخذنَّ من عبادك نصيباً مفروضاً ولأضلنهم ولأمنينهم فليبتكّن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) وقال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
ولكن المفسرين اختلفوا في تفسير التغيير والتبديل ، قال الإمام الرازي : ( وللمفسرين ههنا قولان: القول الأول : أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله وهو قول سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، والضحاك ، ومجاهد ، والسدي ، والنخعي ، وقتادة ، وفي تقرير هذا القول وجهان : الوجه الأول : أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به ، فمن كفر فقد غيّر فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وهذا معنى ( كل مولود يولد علىالفطر ة …….) . والوجه الثاني : أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراماً ، أو الحرام حلالاً .
القول الثاني : حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر ، وذكروا فيها وجوهاً مثل الوصل ، والوشم ، والاخصاء ، وقطع الآذان ، وفقء العيون ، والتخنث ، أو جعل الأنعام بحائر وسوابق ، مع أن الله خلقها لتوكل وتركب ، ثم قال الرازي : ( اعلم أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب ، وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره ) ، ولذلك قال الله تعالى في الآية اللاحقة مباشرة : ( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلاّ غروراً ) .
وقال ابن عطية : (( قال ابن عباس ، وإبراهيم ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغيرهم : أراد: يغيرون دين الله ، وذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله تعالى ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) أي لدين الله ، والتبديل يقع موقعه التغيير ، وإن كان التغيير أعم منه )) ثم ذكر أراءً أخرى منها أن التغيير في الشكل والهيئة مثل الإخصاء ، والوشم ، ومنها جعل المخلوقات آلهة تعبد مع أنها خلقت لينتفع بها .
وقال في الآية الثانية : ( الذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة ( فطرة الله ) أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدودة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ، ويستدل بها على ربه جلّ وعلا ، ويعرف شرائعه ، ويؤمن به ، فكأنه تعالى قال : أقم وجهك للدين الحنيف ، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر ، لكن تعرضهم العوارض ) .
وقد فسر الإمام البخاري قوله تعالى : ( لا تبديل لخلق الله ) بدين الله ، والفطرة بالإسلام ، ثم بيّن بأن هذا هو تفسير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك في صحيحه ، كتاب التفسير ، باب : ( لا تبديل لخلق الله ) : لدين الله .. ، والفطرة : الإسلام ، ثم روى بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلىالله عليه وسلم ـ قال : ( ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها جدعاء ثم يقول : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) .
والراجح أن تفسير الآية الثانية هو ما ذكره البخاري وغيره من أن المراد بخلق الله دين الله الذي فطر الناس عليها ، حيث فسره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ، والسياق يدل على ذلك .
وأن الراجح في تفسير الآية الأولى ( فليغيرنَّ خلق الله ) هو يشمل المعنيين أي التغيير في فطرة الدين ، والتغير في الشكل الطبيعي للإنسان والحيوان ، وأنه على ضوء المعنى الأخير يكون التغيير في الشكل الطبيعي ، وهو أيضاً يمثل الفطرة السليمة ، وقد وضع ابن عطية معياراً رائعاً للتغيير المباح ، والتغيير غير المشروع فقال : ( وملاك تفسير هذه الآية أن كل تغيير ضار فهو في الآية ، وكل تغيير نافع فهو مباح ) .
فعلى ضوء ذلك أن أيَّ تغيير أو تبديل في الجينات ، أو ما يترتب عليه من آثار إن كان في حدود العلاج أو منع المرض ، أو إصلاح الخلل ، أو العيب وعدم تغيير الشكل الفطري فهو جائز ، وإن كان فيه عبث بالجينات ، أو تغيير للهيئة ، أو الشكل واللون ، والطول والقصر فهو محرم .
وكل هذه الأحكام خاصة بالعلاج الجيني الجسدي الذي يكون في المستوى الأول حيث يتم معالجة أعراض المرض للفرد نفسه دون التعرض للأجيال التالية .
والمستوى الثاني للعلاج الجيني هو أن يتم العلاج في جينات داخل خلايا مشيجية ، ومن هنا يمكن أن ينتقل العلاج إلى الأبناء ، فهذا العلاج غير جائز شرعاً لما فيه من غموض وعدم معرفة بالنتائج التي تترتب عليه ، ولما يمكن أن يترتب عليه من عواقب وخيمة سواء كانت من النواحي الأخلاقية ، وإلى آلية يمكن أن تعرف بها آثارها الإيجابية أو العلمية ، ولكن إذا توصل العلم إلى منع الأضرار والآثار السلبية على الإنسان والأجيال اللاحقة فإنه لا يمنع منه شرعاً ، فالمنع يدور مع الضرر المحقق ، والجواز يدور حول المصلحة ودرء المفسدة. ومع ذلك فلا أرى مانعاً من إجراء التجارب على الحيوانات إذا كان هناك أمل في الوصول إلى تحقيق نتائج إيجابية ، لأن الكون كله مخلوق لخدمة الإنسان ومسخر له ولكن بالضوابط الدينية والأخلاقية وبما لا يترتب عليه ضرر أكبر بالإنسان والبيئة . هذا والله أعلم .
مدى اشتراط الإذن في العلاج الجيني :
تهتم الشريعة الإسلامية بإرادة الإنسان ورضاه في كل ما يخصه إلاّ ما استثنى من ذلك بدليل خاص ، ولذلك يعتبر الطبيب ملزماً بأخذ الإذن من المريض لأجل العلاج ، أو الجراحة ، أو الاختبار إذا كان عاقلاً ، وبإذن وليّ أمره إذا كان قاصراً ، أو مغمى عليه ، سواء كان الإذن مطلقاً أو مقيداً وأن يكون الإذن معبراً عنه بإحدى وسائل التعبير من النطق ، أو الكتابة ، أو الإشارة الواضحة ، وإلاّ فيكون الطبيب آثماً ، لأنه تصرف فيما يخص غيره دون رضاه ، إذ ليس له الحق في التصرف ببدنه إلاّ بإذنه ، فيكون ضامناً لو نتج عنه أي ضرر مهما بذل من جهد ، ومهما كانت نيته طيبة ، ومهما كان حاذقاً متخصصاً ، وهذا ما عليه فقهاء المذاهب الأربعة ، وخالفهم في ذلك ابن حزم الظاهري إذا كان الطبيب عارفاً بالطب حاذقاً .
والذي يظهر لنا رجحانه هو رأي جماهير الفقهاء ، لأنه يتفق مع كرامة الإنسان وحقوقه ، ويتلاءم مع مقاصد الشريعة ، ويدل على ذلك أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاقب كل من فعل اللَدود به ، لأنه لم يأذن به ، بل نهاه عنه حيث روى البخاري ومسلم بسندهما عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : ( لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني ، فقلنا : كراهية المريض للدواء ، فلما أفاق ، قال : ألم أنهكم أن تلدوني ؟ قلنا : كراهية المريض للدواء ، فقال : لا يبقى في البيت أحد إلاّ لُدّ وأنا أنظر ، إلاّ العباس فإنه لم يشهدكم ) فالحديث يدل على أنه لا يجوز مخالفة أمر المريض ـ كقاعدة عامة ـ وأن من يفعل شيئاً من ذلك دون موافقته يستحق العقاب والتعزير ، وذلك لأن إرادة الإنسان محترمة فلا يجوز إهدارها ، وهذا ما نصَّ عليه نظام مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان السعودي ، ولائحته في المادة (21) حيث نصت على أنه : ( يجب أن يتم أي عمل طبي لإنسان برضاه أو بموافقة من يمثله إذا لم يعتد بإرادة المريض... )
ولا يستثنى من هذا المبدأ العام ، والقاعدة العامة إلاّ بعض حالات تقتضيها الضرورات منها :
1. الحالات المرضية التي يتعدى ضررها إلى الآخرين كالأمراض المعدية السارية ، والأمراض الجنسية المعدية حيث لا تحتاج إلى موافقة المريض ، لأن آثار مرضه تتجاوز إلى المجتمع ، فحينئذٍ يحل الإذن الحكومي المتمثل في قرارات الجهة المتخصصة ( كوزارة الصحة ) محل إذنه ، حيث تحدد الجهة المختصة بترتيب مستشفيات أو أقسام خاصة بتلك الأمراض ، وتوجب التبليغ عنها ، ومداواتها ومتابعتها .
2. الحالات النفسية أو العصبية الخطيرة التي قد يضر صاحبها بنفسه أو بغيره .
3. حالات الطوارئ والحوادث التي تستدعي تدخلاً طبياً بصفة فورية لإنقاذ حياة المصاب ، أو إنقاذ عضو من أعضائه وتعذر الحصول على موافقة المريض أو من يمثله في الوقت المناسب ، حيث يجب في هذه الحالات إجراء العمل الطبي دون انتظار الحصول على موافقة المريض أو من يمثله وهذا جزء من نص المادة (21) من النظام السعودي الخاص بمزاولة مهنة الطب .
وقد اشترطت القوانين الغربية بأن يؤخذ رضا المريض بعد إخباره بآثار وأضرار العلاج الطبي ، ومدى نجاحه سواء كان بالتداوي ، أو العمل الجراحي ، وأن يقوم الطبيب بشرح ذلك ، وإلاّ فيتحمّل المسؤولية وقد نصت الفقرة (2) من المادة (21) على أنه : ( يتعين على الطبيب أن يقدم الشرح الكافي للمريض ، أو ولي أمره عن طبيعة العمل الطبي أو الجراحي الذي ينوي القيام به ) وقد اشترط مجمع الفقه الإسلامي في نقل الأعضاء اشتراط كون الباذل كامل الأهلية وبرضاه التام .
وإضافة إلى هذا الإذن من المريض لا بدّ من الإذن من وليّ أمر المسلمين المتمثل في الجهة الصحيحة المختصة بأن تأذن للطبيب مزاولة مهنة الطب ، وسماه ابن القيّم بإذن الشارع حيث ذكر بأن فعله لا بدّ أن يكون مأذوناً من جهة الشارع .
ضوابط العلاج الجيني :
1ـ الجواز الشرعي مرتبط بأخذ كل الاحتياطات العلمية والتقنية والفنية والمعملية والاحترازية لتفادي كل الأضرار التي يمكن أن تترتب على العلاج الجيني وضرورة تفادي ما يترتب على الحيوانات المحورة وراثياً من الجينات الغريبة ، فهذه الشريعة الإسلامية مبنية على تحقيق المصالح ودرء المفاسد ( فأينما تكن المصلحة الحقيقية فـثَمَّ شرع الله تعالى فهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، وخير كلها ، فأي شيء فيه الضرر والقسوة ، أو الظلم والجور ، أو المفسدة والمضرة فليس من هذه الشريعة .
2ـ أن تكون المنافع المتوخاة من العلاج محققة في حدود الظن الغالب ، أما إذا كانت آثاره الإيجابية مشكوكاً فيها ، أو بعبارة الفقهاء ( مصالح موهومة ) فلا يجوز إجراؤه على الإنسان .
3ـ أن تكون نتائج العلاج الجيني مأمونة لا يترتب عليه ضرر أكبر ، فلا يؤدي إلى هلاك أو ضرر بالبدن ، أو العقل ، أو النسل ، أو النسب .
4ـ أن يكون العلاج في حدود الأغراض الشريفة ، وأن يكون بعيداً عن العبث والفوضى وذلك بأن لا يكون لأجل إثبات قوة العلم فقط دون أن يترتب عليه منافع للبشرية .
5ـ أن لا يكون العلاج الجيني في مجال التأثير على السلالة البشرية وعلى فطرة الإنسان السليمة شكلاً وموضوعاً ، وبعبارة أخرى لا يؤدي إلى تغيير خلق الله ـ كما سبق ـ لأن الله تعالى خلق هذا الكون على موازين ومقادير وموازنات ثابتة فلا يجوز التلاعب بها فقال تعالى : ( وكل شيء عنده بمقدار ) وقال تعالى : ( وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ) وقال تعالى : ( إنّا كل شيء خلقناه بقدر ) .
6ـ أن يكون العلاج بالطيبات لا بالمحرمات إلاّ في حالات الضرورة التي تقدر بقدرها .
7ـ أن لا يؤدي العلاج إلى الإضرار بالبيئة ، وإلى تعذيب الحيوان ، لأن الله تعالى وصف المجرمين الظالمين بقوله تعالى : ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) .
8 ـ أن لا يتجاوز التعامل بالعلاج الجيني حدود الاعتدال فلا يصل إلى حدود التبذير والإسراف .
9ـ أن لا يجري أي علاج جيني على الإنسان إلاّ بعد التأكد