التخليه .. التحليه.. التنميه
هي ثلاثية التربية الأولى التي يجب مراعاتها، ممثلة في (التخليه – التحليه - التنميه)، والمربي الفعَّال يدرك أن هناك فرقًا في العمل التربوي بين توضيح المفاهيم والتزويد بالمعارف والتربية عليها وتحويلها إلى ممارسات وسلوكيات عملية ميدانية.
فالمفاهيم والمعارف يمكن تحقيقها من خلال لقاء فكري أو محاضرة ثقافية أو درس علم، أما التربية والتزكية فتحتاج إلى سنوات طويلة وحركة واسعة للاعتياد عليها والتخلُّق بها وإلى جهد شاق ومتابعة مستمرة للسلوك، وهذا ما بذله الحبيب- صلى الله عليه وسلم- طوال الفترة المكية، ومارسه في المدينة بعد قيام الدولة، ليؤكد أن التربية والتزكية لا تتوقف أبدًا، سواءٌ قبل قيام الدولة أو بعدها، وأنها عمليةٌ مستمرةٌ من الميلاد إلى الممات.
على الخطى نمضي
مع بدايات القرن العشرين استلهم الإمام البنا خطى الحبيب- عليه الصلاة والسلام- وانتهج النهجَ التربوي في دعوته، واعتمد التزكية والتربية سبيلاً، فأنشأ نظامَ الجوالة والكتائب وأسَّس الأُسَر التعاونية، ووجَّه إخوانه الدعاة والمربِّين، محدِّدًا لهم طبيعة الطريق بقوله: "إن معركتنا معركة تربوية"، وحدَّد لهم ما يجب عليهم تجاه ذلك، فقال: "أيها الإخوان.. إنكم في دور تكوين فلا يلهينَّكم السراب الخادع عن حسن الاستعداد وكمال التأهب، اصرفوا تسعين جزءًا من المائة من وقتكم لهذا التكوين وانصرفوا فيه لأنفسكم، واجعلوا العشرة أجزاء الباقية لما هو لكم من الشئون؛ حتى يشتدَّ عودُكم، ويتم استعدادكم، وتكمل أهبتكم، وحينئذ يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين".
عبرة في قصة
"رأى طفل زجاجة عصير صغيرة وبداخلها ثمرة برتقال كبيرة، فسأل والده كيف دخلت هذه البرتقالة داخل هذه الزجاجة الصغيرة؟! فأخذه والده إلى حديقة المنزل وجاء بزجاجة فارغة وربطها بغصن شجرة برتقال حديثة الثمار، ثم أدخل في الزجاجة إحدى الثمار الصغيرة جدًّا وتركها ومرت الأيام فإذا بالبرتقالة تكبر وتكبر حتى استعصى خروجها من الزجاجة".
والدرس التربوي الذي يتجلى لنا من هذه القصة هو أن الإنسان من الصعب عليه أن يتخلص من عاداته السيئة التي تربَّى عليها من الصغر أو التي استمر عليها لفترة طويلة، ولذلك قالها شهيد القرآن "إن حمل الجبال وتجفيف البحار أهون من تربية الرجال".
ماذا نريد بالتربية؟!
هل فكرت أخي المربي في هذه التساؤلات: إذا كانت التربية هي السبيل فما هدف العملية التربوية؟ وماذا تريد أن تحقق في المُربَّى؟ وما الأهداف المرجوَّة التي تسعى إليها؟.. هي لا شك ثلاثية الأهداف التربوية (تخلية- تحلية- تنمية) وهي التي يسميها دعاة الإصلاح والتربية بأجنحة العمل التربوي، وهي الأعمال التربوية التي لا يصلح القلب إلا بها:
التخلية:
ونعني بها انتشال المرء من دائرة ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾، وتعني تطهير النفس من رذائل الأخلاق، كالحسد والرياء والكبر والعجب وحب الدنيا وغيرها من الرذائل، وتجنُّب العادات السيئة، وتربية المدعو على الإسلام الأصيل، بأن نزيل رواسب الجاهلية التي في قلبه، وأن نطهِّر قلبه من الصفات الذميمة والأخلاق السيئة، وأن ننظِّف نفسه من كافة أمراضها وعوائقها (قذارات النفس- ذنوبها- سيئاتها- ضعفها- غفلتها- حسدها- حقدها... إلخ)، فهي عملية تطهير وتنظيف، ودورنا هنا هو معرفة الخصال الذميمة التي يتصف بها، وطرق التخلص منها، ومراعاة التدرُّج في انتزاع هذه الأخلاق من النفس لصعوبة ذلك دفعةً واحدةً، وتسمى المرحلة هنا بمرحلة التصفية.
2- التحلية:
ونعني بها وضع المرء في دائرة ﴿أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ وتعني تحلية القلب وتزيينه بالقيم الإيمانية والأخلاق الفاضلة والسجايا والطباع الكريمة التي يفتقدها، كالعفة والشجاعة والحكمة، وتحلية النفس بفضائلها، ومظاهر ذلك (أن يحل حب الله محلَّ حب الشيطان- وحب الصالحين محلَّ حب المفسدين- أن تحل نية الخير محلَّ نية الشر- أن تتبدل النفس من سوء إلى خير- ومن جمود إلى حركة صالحة- ومن مسار منحرف إلى مسار مستقيم- ومن كل رذيلة إلى كل فضيلة)، فهي عملية تزين وتجميل، ودورنا هو معرفة الخصال الفاضلة التي تنقصه وطرق كسبها، وتسمى هذه المرحلة بمرحلة الاتصاف.
3- التنمية:
ونعني بها تنمية ما في النفس من صفات وقيم وأخلاقيات ومعارف وقدرات راسخة من قبل، وفي ذلك يقول الحبيب "إنما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق"، وكذلك تنمية ما تم اكتسابه من صفات وقيم من بعد، فإن التربية لا تتوقف، فبعد التخلية والتحلية لا بدَّ للمربي أن يجلِّي هذه الصفات الحميدة ومكارم الأخلاق، فيصقلها، ويعمل على تنميتها في نفس المُربَّى، والارتفاع بمستواه، وتحقيق النقلة له من مستوى الاستعداد للخير إلى أداء الخير الفعلي، ومن رغبة السموِّ لديه إلى فعلية السموِّ، وتسمى هذه المرحلة بمرحلة التجلية.لكل الصفات السلوكيه والقدرات والمواهب
وقفات لازمة
ولا بد أن نوقن هنا بأولوية التخلية قبل التحلية والتنمية، قال تعالى ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ (البقرة: من الآية 256) وهذا يدل على أهمية تطبيق مفهوم التخلية قبل التحلية، وقد مكث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عامًا بمكة ليخلي تلك القلوب مما علق بها من رواسب الجاهلية؛ حتى نجح في تكوين الجيل القرآني الفريد، فلا تحلية بلا تخلية، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "فإن امتلأ القلب بالباطل اعتقادًا ومحبةً لم يبقَ فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع"، ولهذا حرص الإمام البنا على هذا الأمر، فأكد لإخوانه على أهمية التخلية قائلاً: "وإن كان فيكم مريض القلب، معلول الغاية، مستور المطامع، مجروح الماضي.. فأخرجوه من بينكم فإنه حاجزٌ للرحمة حائل دون التوفيق".
ولا بد أن نوقن أيضًا بأن هذه الثلاث (تخلية- تحلية- تنمية)
عملية تربوية مستمرة إلى الممات، ولا تتوقف أبدًا؛ وذلك لأن النفس أمَّارة بالسوء ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ (يوسف: من الآية 53)؛ ولأن عداوة الشيطان مستمرة إلى قيام الساعة ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)﴾ (الحجر)؛ ولأن شياطين الإنس والجن متعددين ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ (الأنعام: من الآية 112)؛ ولأن الفتن تتفاوت على حسب الزمان والمكان والظروف، فهناك المال، الزوجة، الولد، والدنيا، والمناصب، وغيرها ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ﴾ (آل عمران: من الآية 14)... فقد يواجه المربَّى بعض الفتن في أول عمره، ويواجه البعض الآخر في آخر عمره، وهذا يجعلنا نجزم بأن عملية التخلية والتحلية عملية مستمرة إلى الممات لا تنقطع.
ولا بد أن نوقن بأن هذه الثلاث (تخلية- تحلية- تنمية)
تتفاوت في نسب الالتزام بها وتطبيقها على المربَّى من مرحلة تربوية إلى أخرى، ففي بداية الالتزام التربوي تكون عملية (التخلية) أعلى نسبةً من مثيلاتها (تخليه 50%- تحلية 25 %- تنمية 25%)، وتتم عملية التدرُّج رويدًا رويدًا؛ حتى تتحقق نتائج التخلية بشكل قوي في المربَّى، فتقلّ فيه الصفات الذميمة، فتصبح النسب في مراحل التربية التالية (تخلية 25%- تحلية 25%- 50% تنمية)، ثم تصبح عملية (التنمية) أعلى نسبةً في مراحل التربية المتقدمة (تخلية وتحلية 25%- تنمية 75%)، وذلك حينما يتقدم المربِّي بالمربَّى في مراحل الدعوة التربوية.
شمولية التربية
وإذا كان الهدف من العملية التربوية هو قيام المربي بعمليات ثلاث مع المربَّى (تخلية- تحلية- تنمية) فإن نجاح ذلك يتوقف على مراعاة المربِّي لمكونات النفس البشرية الثلاثة (العقل- الروح- الجسد)،
ولكل واحد من هذه الثلاثة حالةُ صحةٍ وحالةُ مرضٍ، فتأتي التخلية للتخلص من الحالة المرضية، وتأتي التحلية والتنمية للحالة الصحية، ولأجل ذلك كانت الأهداف التربوية ذات محاور ومجالات ثلاثة (المعرفية- الوجدانية- المهارية)؛ بحيث تخدم الأهداف المعرفية الجانب العقلي في الإنسان، وتخدم الأهداف الوجدانية الجانب الروحي، وتخدم الأهداف المهارية السلوكية الجانب الجسدي، وبالتالي تتكامل التربية ويتحقق الشمول التربوي في المتربي.
ولذلك رأينا سيدنا عمر بن الخطاب يمكث أكثر من 9 سنوات في حفظ سورة البقرة، ليس ضعفًا في حفظ لديه، ولكن لأنه كان لا يتجاوز العشر آيات إلى غيرهن حتى يعمل بهن، وفي مثال واضح على تحقق الأهداف الثلاثة جنبًا إلى جنب في العملية التربوية تأتينا وصية أم سفيان الثوري لولدها قائلةً:
1- يا بني احفظ العشر كلمات (المجال المعرفي).
2- وانظر إلى نفسك (المجال الوجداني).
3- هل زادت في خشيتك وحلمك ووقارك (المجال السلوكي).
4- فإن لم تفعل فاعلم أنها تضرُّك (معيار الإنجاز) وهو الهدف المطلوب تحقيقه.
ومن هنا لا بد أن يدرك المربي أن تحقيق ثلاثية الأهداف التربوية متداخل، وأنها متكاملة، بمعنى أنها تتمثَّل في فهم وإدراك واقتناع عقلي لدى المربَّى، والذي يثمر تفاعلاً قلبيًّا واختلاجًا في الوجدان، ثم يفيض أثرها على الجوارح بعمل لا يتوقف، وقد نبَّهَنا إلى ذلك الحبيب بقوله: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان"، وقد يحدث العكس، بأن يكون كل فعل بالجوارح له أثر يرتفع منه إلى القلب، ومن هنا فلا يمكن الفصل بين الأهداف الثلاثة لأنها متداخلة.
والمربي الفعَّال يدرك من ناحية أخرى أن قاعدة "ليس بالإمكان أفضل مما كان" لا مكان لها في العمل التربوي، فإن التخلُّق بهذه الثلاث (المعرفية- الوجدانية- المهارية) ليس مستحيلاً، بل يمكن أن يتحقَّق من خلال المحضن والمناخ والبيئة التربوية، فالأخلاق يمكن أن يُفطَر عليها الإنسان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة" وقوله لأشجّ عبد قيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".
كما يمكن أن تُكتسب بالتدريب والتربية والتعوُّد عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومن يتحرَّ الخيرَ يُعطَه، ومن يتقِ الشرَّ يوقه"، وهذا ما يجب أن يستشعره المربي أثناء قيامه بعملية التربية، وليدرك أن التدرج البطيء والتربية المتأنية والرفق بالمربَّى سيحقق فيه المستهدفات التربوية ويكسبه الأخلاق، وأن تكون عينه دائمًا على تحقيق الثلاثية (المعرفية والوجدانية والمهارية) جنبًا إلى جنب.
ولذلك وضع الإمام البنا الأركان الثلاثة الأولى (الفهم والإخلاص والعمل) لتعمل على تحقيق ثلاثية الأهداف التربوية.
وقبل أن نختم لنا معك كلمات نتوجه بها إليك أيها المربي، عساها أن تكون لك زادًا ونبراسًا على الطريق، وعونًا لك في تحقيق أهدافك التربوية:
* اجعل عملك التربوي مشروعًا قيِّمًا يستحق العَناء والجهد والمال الذي ستبذله من أجله، واجعله مشروعًا ذا معنى وقابلاً للإنجاز، ليكون لبنةً جديدةً في بناء صرح الإسلام.
* راقب خطوات سير مشروعك التربوي جيدًا، وتفقَّده كل حين، ولا تدَع الهفوات الصغيرة تفلت من رقابتك الشخصية في بداية رحلتك مع مشروعك التربوي الجديد، وتحرَّ الأمانة والإتقان فيه، واحترِم كرامة المربَّى وآدميته، ولا تتعامل معه كفرد في قطيع.
* أعطِ النموذج والقدوة والأسوة من نفسك فيما تدعو إليه وفيما تربِّي عليه الآخرين، ولا تنسَ أنك مستهدف من هذا العمل التربوي في المقام الأول، وتذكر قولة المؤسس: "إن العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا فجاهدوا أنفسكم".
* عندما يمنُّ الله عليك بنجاح تربوي، فلا تركن إلى نفسك، ولا يأخذك العُجب، بل تذكر فضل الله عليك واحمده، وتذكر مقولة الكيلاني رحمه الله: "كلما رأيت وجه مريد هُدي على يدي شبعت وارتويت".
* أولاً وأخيرًا اربط نيتك بالله تعالى، وجدِّدها على الدوام قبل العمل وأثناءه وبعده، وإذا عزمت فتوكل على الله.
وقبل أن نختم لنا معك كلمات نتوجه بها إليك أيها المربي، عساها أن تكون لك زادًا ونبراسًا على الطريق، وعونًا لك في تحقيق أهدافك التربوية:
هي ثلاثية التربية الأولى التي يجب مراعاتها، ممثلة في (التخليه – التحليه - التنميه)، والمربي الفعَّال يدرك أن هناك فرقًا في العمل التربوي بين توضيح المفاهيم والتزويد بالمعارف والتربية عليها وتحويلها إلى ممارسات وسلوكيات عملية ميدانية.
فالمفاهيم والمعارف يمكن تحقيقها من خلال لقاء فكري أو محاضرة ثقافية أو درس علم، أما التربية والتزكية فتحتاج إلى سنوات طويلة وحركة واسعة للاعتياد عليها والتخلُّق بها وإلى جهد شاق ومتابعة مستمرة للسلوك، وهذا ما بذله الحبيب- صلى الله عليه وسلم- طوال الفترة المكية، ومارسه في المدينة بعد قيام الدولة، ليؤكد أن التربية والتزكية لا تتوقف أبدًا، سواءٌ قبل قيام الدولة أو بعدها، وأنها عمليةٌ مستمرةٌ من الميلاد إلى الممات.
على الخطى نمضي
مع بدايات القرن العشرين استلهم الإمام البنا خطى الحبيب- عليه الصلاة والسلام- وانتهج النهجَ التربوي في دعوته، واعتمد التزكية والتربية سبيلاً، فأنشأ نظامَ الجوالة والكتائب وأسَّس الأُسَر التعاونية، ووجَّه إخوانه الدعاة والمربِّين، محدِّدًا لهم طبيعة الطريق بقوله: "إن معركتنا معركة تربوية"، وحدَّد لهم ما يجب عليهم تجاه ذلك، فقال: "أيها الإخوان.. إنكم في دور تكوين فلا يلهينَّكم السراب الخادع عن حسن الاستعداد وكمال التأهب، اصرفوا تسعين جزءًا من المائة من وقتكم لهذا التكوين وانصرفوا فيه لأنفسكم، واجعلوا العشرة أجزاء الباقية لما هو لكم من الشئون؛ حتى يشتدَّ عودُكم، ويتم استعدادكم، وتكمل أهبتكم، وحينئذ يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين".
عبرة في قصة
"رأى طفل زجاجة عصير صغيرة وبداخلها ثمرة برتقال كبيرة، فسأل والده كيف دخلت هذه البرتقالة داخل هذه الزجاجة الصغيرة؟! فأخذه والده إلى حديقة المنزل وجاء بزجاجة فارغة وربطها بغصن شجرة برتقال حديثة الثمار، ثم أدخل في الزجاجة إحدى الثمار الصغيرة جدًّا وتركها ومرت الأيام فإذا بالبرتقالة تكبر وتكبر حتى استعصى خروجها من الزجاجة".
والدرس التربوي الذي يتجلى لنا من هذه القصة هو أن الإنسان من الصعب عليه أن يتخلص من عاداته السيئة التي تربَّى عليها من الصغر أو التي استمر عليها لفترة طويلة، ولذلك قالها شهيد القرآن "إن حمل الجبال وتجفيف البحار أهون من تربية الرجال".
ماذا نريد بالتربية؟!
هل فكرت أخي المربي في هذه التساؤلات: إذا كانت التربية هي السبيل فما هدف العملية التربوية؟ وماذا تريد أن تحقق في المُربَّى؟ وما الأهداف المرجوَّة التي تسعى إليها؟.. هي لا شك ثلاثية الأهداف التربوية (تخلية- تحلية- تنمية) وهي التي يسميها دعاة الإصلاح والتربية بأجنحة العمل التربوي، وهي الأعمال التربوية التي لا يصلح القلب إلا بها:
التخلية:
ونعني بها انتشال المرء من دائرة ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾، وتعني تطهير النفس من رذائل الأخلاق، كالحسد والرياء والكبر والعجب وحب الدنيا وغيرها من الرذائل، وتجنُّب العادات السيئة، وتربية المدعو على الإسلام الأصيل، بأن نزيل رواسب الجاهلية التي في قلبه، وأن نطهِّر قلبه من الصفات الذميمة والأخلاق السيئة، وأن ننظِّف نفسه من كافة أمراضها وعوائقها (قذارات النفس- ذنوبها- سيئاتها- ضعفها- غفلتها- حسدها- حقدها... إلخ)، فهي عملية تطهير وتنظيف، ودورنا هنا هو معرفة الخصال الذميمة التي يتصف بها، وطرق التخلص منها، ومراعاة التدرُّج في انتزاع هذه الأخلاق من النفس لصعوبة ذلك دفعةً واحدةً، وتسمى المرحلة هنا بمرحلة التصفية.
2- التحلية:
ونعني بها وضع المرء في دائرة ﴿أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ وتعني تحلية القلب وتزيينه بالقيم الإيمانية والأخلاق الفاضلة والسجايا والطباع الكريمة التي يفتقدها، كالعفة والشجاعة والحكمة، وتحلية النفس بفضائلها، ومظاهر ذلك (أن يحل حب الله محلَّ حب الشيطان- وحب الصالحين محلَّ حب المفسدين- أن تحل نية الخير محلَّ نية الشر- أن تتبدل النفس من سوء إلى خير- ومن جمود إلى حركة صالحة- ومن مسار منحرف إلى مسار مستقيم- ومن كل رذيلة إلى كل فضيلة)، فهي عملية تزين وتجميل، ودورنا هو معرفة الخصال الفاضلة التي تنقصه وطرق كسبها، وتسمى هذه المرحلة بمرحلة الاتصاف.
3- التنمية:
ونعني بها تنمية ما في النفس من صفات وقيم وأخلاقيات ومعارف وقدرات راسخة من قبل، وفي ذلك يقول الحبيب "إنما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق"، وكذلك تنمية ما تم اكتسابه من صفات وقيم من بعد، فإن التربية لا تتوقف، فبعد التخلية والتحلية لا بدَّ للمربي أن يجلِّي هذه الصفات الحميدة ومكارم الأخلاق، فيصقلها، ويعمل على تنميتها في نفس المُربَّى، والارتفاع بمستواه، وتحقيق النقلة له من مستوى الاستعداد للخير إلى أداء الخير الفعلي، ومن رغبة السموِّ لديه إلى فعلية السموِّ، وتسمى هذه المرحلة بمرحلة التجلية.لكل الصفات السلوكيه والقدرات والمواهب
وقفات لازمة
ولا بد أن نوقن هنا بأولوية التخلية قبل التحلية والتنمية، قال تعالى ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ (البقرة: من الآية 256) وهذا يدل على أهمية تطبيق مفهوم التخلية قبل التحلية، وقد مكث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عامًا بمكة ليخلي تلك القلوب مما علق بها من رواسب الجاهلية؛ حتى نجح في تكوين الجيل القرآني الفريد، فلا تحلية بلا تخلية، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "فإن امتلأ القلب بالباطل اعتقادًا ومحبةً لم يبقَ فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع"، ولهذا حرص الإمام البنا على هذا الأمر، فأكد لإخوانه على أهمية التخلية قائلاً: "وإن كان فيكم مريض القلب، معلول الغاية، مستور المطامع، مجروح الماضي.. فأخرجوه من بينكم فإنه حاجزٌ للرحمة حائل دون التوفيق".
ولا بد أن نوقن أيضًا بأن هذه الثلاث (تخلية- تحلية- تنمية)
عملية تربوية مستمرة إلى الممات، ولا تتوقف أبدًا؛ وذلك لأن النفس أمَّارة بالسوء ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ (يوسف: من الآية 53)؛ ولأن عداوة الشيطان مستمرة إلى قيام الساعة ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)﴾ (الحجر)؛ ولأن شياطين الإنس والجن متعددين ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ (الأنعام: من الآية 112)؛ ولأن الفتن تتفاوت على حسب الزمان والمكان والظروف، فهناك المال، الزوجة، الولد، والدنيا، والمناصب، وغيرها ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ﴾ (آل عمران: من الآية 14)... فقد يواجه المربَّى بعض الفتن في أول عمره، ويواجه البعض الآخر في آخر عمره، وهذا يجعلنا نجزم بأن عملية التخلية والتحلية عملية مستمرة إلى الممات لا تنقطع.
ولا بد أن نوقن بأن هذه الثلاث (تخلية- تحلية- تنمية)
تتفاوت في نسب الالتزام بها وتطبيقها على المربَّى من مرحلة تربوية إلى أخرى، ففي بداية الالتزام التربوي تكون عملية (التخلية) أعلى نسبةً من مثيلاتها (تخليه 50%- تحلية 25 %- تنمية 25%)، وتتم عملية التدرُّج رويدًا رويدًا؛ حتى تتحقق نتائج التخلية بشكل قوي في المربَّى، فتقلّ فيه الصفات الذميمة، فتصبح النسب في مراحل التربية التالية (تخلية 25%- تحلية 25%- 50% تنمية)، ثم تصبح عملية (التنمية) أعلى نسبةً في مراحل التربية المتقدمة (تخلية وتحلية 25%- تنمية 75%)، وذلك حينما يتقدم المربِّي بالمربَّى في مراحل الدعوة التربوية.
شمولية التربية
وإذا كان الهدف من العملية التربوية هو قيام المربي بعمليات ثلاث مع المربَّى (تخلية- تحلية- تنمية) فإن نجاح ذلك يتوقف على مراعاة المربِّي لمكونات النفس البشرية الثلاثة (العقل- الروح- الجسد)،
ولكل واحد من هذه الثلاثة حالةُ صحةٍ وحالةُ مرضٍ، فتأتي التخلية للتخلص من الحالة المرضية، وتأتي التحلية والتنمية للحالة الصحية، ولأجل ذلك كانت الأهداف التربوية ذات محاور ومجالات ثلاثة (المعرفية- الوجدانية- المهارية)؛ بحيث تخدم الأهداف المعرفية الجانب العقلي في الإنسان، وتخدم الأهداف الوجدانية الجانب الروحي، وتخدم الأهداف المهارية السلوكية الجانب الجسدي، وبالتالي تتكامل التربية ويتحقق الشمول التربوي في المتربي.
ولذلك رأينا سيدنا عمر بن الخطاب يمكث أكثر من 9 سنوات في حفظ سورة البقرة، ليس ضعفًا في حفظ لديه، ولكن لأنه كان لا يتجاوز العشر آيات إلى غيرهن حتى يعمل بهن، وفي مثال واضح على تحقق الأهداف الثلاثة جنبًا إلى جنب في العملية التربوية تأتينا وصية أم سفيان الثوري لولدها قائلةً:
1- يا بني احفظ العشر كلمات (المجال المعرفي).
2- وانظر إلى نفسك (المجال الوجداني).
3- هل زادت في خشيتك وحلمك ووقارك (المجال السلوكي).
4- فإن لم تفعل فاعلم أنها تضرُّك (معيار الإنجاز) وهو الهدف المطلوب تحقيقه.
ومن هنا لا بد أن يدرك المربي أن تحقيق ثلاثية الأهداف التربوية متداخل، وأنها متكاملة، بمعنى أنها تتمثَّل في فهم وإدراك واقتناع عقلي لدى المربَّى، والذي يثمر تفاعلاً قلبيًّا واختلاجًا في الوجدان، ثم يفيض أثرها على الجوارح بعمل لا يتوقف، وقد نبَّهَنا إلى ذلك الحبيب بقوله: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان"، وقد يحدث العكس، بأن يكون كل فعل بالجوارح له أثر يرتفع منه إلى القلب، ومن هنا فلا يمكن الفصل بين الأهداف الثلاثة لأنها متداخلة.
والمربي الفعَّال يدرك من ناحية أخرى أن قاعدة "ليس بالإمكان أفضل مما كان" لا مكان لها في العمل التربوي، فإن التخلُّق بهذه الثلاث (المعرفية- الوجدانية- المهارية) ليس مستحيلاً، بل يمكن أن يتحقَّق من خلال المحضن والمناخ والبيئة التربوية، فالأخلاق يمكن أن يُفطَر عليها الإنسان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة" وقوله لأشجّ عبد قيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة".
كما يمكن أن تُكتسب بالتدريب والتربية والتعوُّد عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومن يتحرَّ الخيرَ يُعطَه، ومن يتقِ الشرَّ يوقه"، وهذا ما يجب أن يستشعره المربي أثناء قيامه بعملية التربية، وليدرك أن التدرج البطيء والتربية المتأنية والرفق بالمربَّى سيحقق فيه المستهدفات التربوية ويكسبه الأخلاق، وأن تكون عينه دائمًا على تحقيق الثلاثية (المعرفية والوجدانية والمهارية) جنبًا إلى جنب.
ولذلك وضع الإمام البنا الأركان الثلاثة الأولى (الفهم والإخلاص والعمل) لتعمل على تحقيق ثلاثية الأهداف التربوية.
وقبل أن نختم لنا معك كلمات نتوجه بها إليك أيها المربي، عساها أن تكون لك زادًا ونبراسًا على الطريق، وعونًا لك في تحقيق أهدافك التربوية:
* اجعل عملك التربوي مشروعًا قيِّمًا يستحق العَناء والجهد والمال الذي ستبذله من أجله، واجعله مشروعًا ذا معنى وقابلاً للإنجاز، ليكون لبنةً جديدةً في بناء صرح الإسلام.
* راقب خطوات سير مشروعك التربوي جيدًا، وتفقَّده كل حين، ولا تدَع الهفوات الصغيرة تفلت من رقابتك الشخصية في بداية رحلتك مع مشروعك التربوي الجديد، وتحرَّ الأمانة والإتقان فيه، واحترِم كرامة المربَّى وآدميته، ولا تتعامل معه كفرد في قطيع.
* أعطِ النموذج والقدوة والأسوة من نفسك فيما تدعو إليه وفيما تربِّي عليه الآخرين، ولا تنسَ أنك مستهدف من هذا العمل التربوي في المقام الأول، وتذكر قولة المؤسس: "إن العمل مع أنفسنا هو أول واجباتنا فجاهدوا أنفسكم".
* عندما يمنُّ الله عليك بنجاح تربوي، فلا تركن إلى نفسك، ولا يأخذك العُجب، بل تذكر فضل الله عليك واحمده، وتذكر مقولة الكيلاني رحمه الله: "كلما رأيت وجه مريد هُدي على يدي شبعت وارتويت".
* أولاً وأخيرًا اربط نيتك بالله تعالى، وجدِّدها على الدوام قبل العمل وأثناءه وبعده، وإذا عزمت فتوكل على الله.
وقبل أن نختم لنا معك كلمات نتوجه بها إليك أيها المربي، عساها أن تكون لك زادًا ونبراسًا على الطريق، وعونًا لك في تحقيق أهدافك التربوية: