مذكرات الطاهر الزبيري
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 1
مذكرات الطاهر الزبيري
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
تشرع جريدة “الشروق اليومي” حصريا في نشر مذكرات قائد أركان الجيش الوطني الشعبي الأسبق العقيد الطاهر زبيري الذي يكشف فيها أسرارا تنشر لأول مرة عن قضايا لازالت محل جدل إلى اليوم، كتفاصيل وخلفيات العملية العسكرية التي قادها ضد العقيد هواري بومدين في 14 ديسمبر 1967، والمعارضة المسلحة لحسين آيت أحمد في 1963، ومعطيات جديدة حول حرب الرمال مع المغرب في نفس العام، وحيثيات إعدام العقيد شعباني ومحاولاته لإنقاذ حياته، ومشاركة الجيش الجزائري في حرب جوان 1967 وحرب الاستنزاف ضد إسرائيل حتى 1973، وقضايا أخرى مثيرة للجدل.
مذكرات العقيد الطاهر زبيري التي انتظرها القراء في داخل الجزائر وخارجها طيلة سنوات ستكون حاضرة بقوة في الصالون الدولي للكتاب، ومن المنتظر أن تثير جدلا واسعا بالنظر إلى الحقائق والتفاصيل التي كشف عنها العقيد لأول مرة تتعلق بصناعة القرار داخل العلبة السوداء للنظام وفي المؤسسة العسكرية في الفترة ما بين 1962 و1967، خاصة وأنه كان الرجل الثالث في الدولة بعد بن بلة وبومدين، والثاني بعد تنحية بن بله.
وستصدر حلقات مسلسلة على صفحات جريدة الشروق لكتاب العقيد الطاهر زبيري الذي يحمل عنوان “نصف قرن من الكفاح: مذكرات قائد أركان جزائري” من تحرير الكاتب الصحفي مصطفى دالع، والذي ستشارك به مؤسسة الشروق للإعلام والنشر في معرض الجزائر الدولي المقرر افتتاحه غدا الأربعاء.
كتاب “نصف قرن من الكفاح: مذكرات قائد أركان جزائري” من الحجم المتوسط ويضم بين دفتيه 429 صفحة، مقسمة على 15 فصلا، ولا تتوقف أحداث هذا الكتاب عند فشل العملية العسكرية التي قادها العقيد زبيري ضد العقيد بومدين في ديسمبر 1967، بل تمتد إلى غاية 2011، أين يتحدث المؤلف على المطاردات التي قادها رجال بومدين للقبض عليه وكيف فر من العفرون إلى العاصمة، ثم إلى الأوراس، والمحاولة الفاشلة التي خطط لها أحد الضباط الموالين له لاغتيال بومدين دون علمه
كما يتناول الكتاب رحلة العذاب في المنفى /// ولقائه بالباجي قائد سبسي وزير الداخلية أنذاك (رئيس الحكومة حاليا)، ثم توجهه إلى سويسرا ورفض كل البلدان التي زارها منحه اللجوء السياسي على ترابها خوفا من سطوة بومدين، ومحاولة بعض الدول استعماله كورقة ضغط على بومدين.
دخول الجيش المغربي إلى الأراضي الجزائرية نوفمبر 62 أشعل حرب الرما
“المراركة حقرونا”..صرخة بن بلة التي ألهبت الجزائريين
2011.09.21
بداية من اليوم ستشرع الشروق اليومي في نشر جزء من مذكرات العقيد زبيري قائد أركان الجيش الجزائري الأسبق في شكل حلقات مسلسلة تتناول في كل حلقة قضية شائكة لم تأخذ نصيبها من التحليل، وفي الحلقة الأولى يقدم زبيري شهادته حول حرب الرمال ضد المغرب في الفترة ما بين (19 أكتوبر ـ 2 نوفمبر 1963)، على أن تتناول الحلقة الثانية قضية إعدام العقيد محمد شعباني نائب قائد الأركان وأصغر عقيد في الجيش الجزائري.
مذكرات العقيد الطاهر زبيري التي انتظرها القراء في داخل الجزائر وخارجها طيلة سنوات ستكون حاضرة بقوة في الصالون الدولي للكتاب، ومن المنتظر أن تثير جدلا واسعا بالنظر إلى الحقائق والتفاصيل التي كشف عنها العقيد لأول مرة تتعلق بصناعة القرار داخل العلبة السوداء للنظام وفي المؤسسة العسكرية في الفترة ما بين 1962 و1967، خاصة وأنه كان الرجل الثالث في الدولة بعد بن بلة وبومدين، والثاني بعد تنحية بن بله.
وستصدر حلقات مسلسلة على صفحات جريدة الشروق لكتاب العقيد الطاهر زبيري الذي يحمل عنوان “نصف قرن من الكفاح: مذكرات قائد أركان جزائري” من تحرير الكاتب الصحفي مصطفى دالع، والذي ستشارك به مؤسسة الشروق للإعلام والنشر في معرض الجزائر الدولي المقرر افتتاحه غدا الأربعاء.
كتاب “نصف قرن من الكفاح: مذكرات قائد أركان جزائري” من الحجم المتوسط ويضم بين دفتيه 429 صفحة، مقسمة على 15 فصلا، ولا تتوقف أحداث هذا الكتاب عند فشل العملية العسكرية التي قادها العقيد زبيري ضد العقيد بومدين في ديسمبر 1967، بل تمتد إلى غاية 2011، أين يتحدث المؤلف على المطاردات التي قادها رجال بومدين للقبض عليه وكيف فر من العفرون إلى العاصمة، ثم إلى الأوراس، والمحاولة الفاشلة التي خطط لها أحد الضباط الموالين له لاغتيال بومدين دون علمه
كما يتناول الكتاب رحلة العذاب في المنفى /// ولقائه بالباجي قائد سبسي وزير الداخلية أنذاك (رئيس الحكومة حاليا)، ثم توجهه إلى سويسرا ورفض كل البلدان التي زارها منحه اللجوء السياسي على ترابها خوفا من سطوة بومدين، ومحاولة بعض الدول استعماله كورقة ضغط على بومدين.
دخول الجيش المغربي إلى الأراضي الجزائرية نوفمبر 62 أشعل حرب الرما
“المراركة حقرونا”..صرخة بن بلة التي ألهبت الجزائريين
2011.09.21
بداية من اليوم ستشرع الشروق اليومي في نشر جزء من مذكرات العقيد زبيري قائد أركان الجيش الجزائري الأسبق في شكل حلقات مسلسلة تتناول في كل حلقة قضية شائكة لم تأخذ نصيبها من التحليل، وفي الحلقة الأولى يقدم زبيري شهادته حول حرب الرمال ضد المغرب في الفترة ما بين (19 أكتوبر ـ 2 نوفمبر 1963)، على أن تتناول الحلقة الثانية قضية إعدام العقيد محمد شعباني نائب قائد الأركان وأصغر عقيد في الجيش الجزائري.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 3
بومدين: كل حبة رمل حررناها ملك للجزائر
كانت للمغرب أطماع توسعية ليس على حساب الصحراء الغربية وفقط بل حتى في الأراضي الجزائرية وموريتانيا وشطر من السنيغال، وقام المغرب بعرض خريطة علينا ادعى بأنها تمثل الحدود التاريخية للمغرب قبل دخول الاستعمار الفرنسي والإسباني إلى أراضيه، وزعم أن القبائل التي تعيش في هذه المناطق بايعت ملوك المغرب وسلاطينه على السمع والطاعة.
ورفض المغرب الاعتراف بموريتانيا كدولة مستقلة في 1960 معتبرا إياها جزءا من التراب المغربي، وكان الجيش الإسباني الذي يحتل الصحراء الغربية حائلا بين المغرب وموريتانيا مما جنب البلدين حربا كان من الممكن أن تنشب بينهما، خاصة وأن الجزائر رفضت في 1963 أن تسمح باستخدام تيندوف كمعبر للجيش المغربي لاحتلال موريتانيا مقابل تسوية المسائل الحدودية مع المغرب، ولم يعترف المغرب بموريتانيا كدولة مستقلة إلا بعد نجاح الوساطة التي قام بها بومدين في 1966.
من جانبها ردت الجزائر على المزاعم المغربية بأن “كل الأراضي التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي وقام جيش التحرير الوطني بتحريرها هي أراض جزائرية”، وكان الوفد الجزائري المفاوض قد طلب خريطة الجزائر الكاملة أثناء المفاوضات مع السلطات الاستعمارية ويبدو أنه تحصل عليها حسبما ذكره لي المرحوم كريم بلقاسم وزير القوات المسلحة في الحكومة المؤقتة خلال الثورة.
وسعى الرئيس بن بله لحل هذا المشكل مع المغرب بالطرق السلمية وإيجاد صيغ للتفاهم مع هذا البلد الشقيق، لكن بومدين كان أكثر صرامة في هذه المسألة وقال بوضوح “كل حبة رمل حررناها من أيدي الاستعمار الفرنسي باسم الثورة الجزائرية فهي ملك للجزائر”، وسمعته في إحدى المرات يعلق على المزاعم المغربية في الجزائر وموريتانيا والصحراء الغربية والسنغال بالقول “يحسبون الشعوب قطعان غنم”، أما شريف بلقاسم فرد على هذه المزاعم قائلا “المغرب لم يواصل النضال من أجل استكمال تحرير الأراضي التي اقتطعتها فرنسا منه”.
وحتى عندما كانت الجزائر في خضم حرب التحرير أحرجنا الأشقاء المغاربة بمطالبهم في الأراضي الجزائرية، وقد رد عليهم فرحات عباس رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة “نحن الآن في حرب، وبعد الاستقلال سيكون هناك مجال للحديث في هذه المسألة والتفاوض بشأنها”، وبنى المغرب موقفه على هذا الكلام.
الشرارة التي أشعلت الحرب
بعد استقلال الجزائر أرسلنا الجيش إلى المناطق التي يدَّعي المغرب أن لديه حقوقا تاريخية فيها والمتمثلة في بشار وتيندوف وأقصى الجنوب الجزائري، وقام المغرب بعمليات لجس النبض للتعرف على ردة فعل الجزائر، فأرسل عدة أفراد مسلحين من جيشه إلى منطقة حاسي البيضاء الواقعة بتيندوف داخل التراب الجزائري بحجة جلب الماء من هذه المنطقة، فوجهنا لهم تحذيرا من دخول الأراضي الجزائرية لأي سبب كان.
وتكرر دخول الوحدات العسكرية المغربية إلى الصحراء الجزائرية رغم تحذير الجيش الجزائري لهم مرتين وثلاثة، مما جعل قيادة الناحية العسكرية الثالثة التي تضم بشار وتيندوف تمنع دخول الجنود المغاربة الذين حاولوا انتهاك حرمة التراب الوطني، ووقع هناك قتلى وجرحى، وحمّل كل طرف مسؤولية هذا الاشتباك للطرف الأخر.
ودخل الأشقاء في حرب دامية استمرت لقرابة أسبوعين (من 19 أكتوبر إلى 2 نوفمبر 1963) سميت بحرب الرمال لوقوع رحاها في الصحراء، وجرت عدة معارك بين الجيشين الجزائري والمغربي في حاسي البيضاء وعين تينفوشي وبوعرفة وبني ونيف وتنجدوب وغيرها من المناطق، واستولى الجيش المغربي على بعض الأراضي الجزائرية ولكن مقاتلينا أجبروهم على التراجع.
وتولى العقيد بومدين قيادة العمليات الحربية في مركز عسكري متقدم بتلمسان، ومن هناك كان يوجه التعليمات العسكرية إلى قواتنا المسلحة، واستعان بومدين بمحمد الصديق بن يحيى في ملف المغرب وكان يستشيره في القضايا القانونية.
ورغم شراسة المعارك إلا أن قيادة البلدين في الجزائر والمغرب لم تكونا متحمستين لهذه الحرب التي اندلعت دون أن يكون هناك سابق تخطيط لها من الطرفين، لذلك حرص البلدان على أن لا تسفك الكثير من الدماء في هذه الحرب.
كانت الجزائر حديثة العهد بالاستقلال، والجيش الوطني الشعبي لم يمر عليه سوى عام واحد من تحوله من جيش تحرير إلى جيش نظامي، كان جيشنا منقوصا من ناحية التسليح والتدريب على الحروب التقليدية خاصة في الصحراء المفتوحة والمنبسطة، على عكس حرب العصابات التي كنا نجيدها خاصة في الجبال والغابات والأحراش وحتى المدن بالاعتماد على الكر والفر وإنهاك العدو بهجمات مباغتة وكمائن محكمة.
بينما كان الجيش المغربي حينها أكثر تنظيما ودراية بالحروب التقليدية وذلك لأنهم استلموا وحدات عسكرية منظمة من فرنسا بقيادة إدريس بن عمار قائد أركان الجيش المغربي الذي كان ضابطا كبيرا في الجيش الفرنسي، ويعرف جيدا الجزائر والانقسامات التي كانت تعصف بقياداتها.
حقرونا
تعتبر منطقة بوعرفة جيبا جزائريا ممتد داخل الأراضي المغربية، وهي واقعة في شمال غربي بشار، وسهل موقعها المحاط بالأراضي المغربية من ثلاث جهات على جيش الملك محاصرة قواتنا المرابطة بها، وهاجموا قواتنا من الخلف وتمكنوا من أسر العديد من رجالنا، وكان واضحا عدم التكافؤ بين الجانبين خاصة بعد أن بدأ المغرب في استعمال سلاح الطيران.
أما الجزائر فلم تكن تملك قوات جوية بالمعنى الحقيقي باستثناء طائرات هيليكوبتر، وطائرات تدريب، وحتى سرب الطائرات الحربية الذي أرسلته إلينا مصر خلال الحرب لم نسمح باستخدامه ضد أشقائنا في المغرب تجنبا لزيادة ضراوة المعارك.
وفي خضم هذه الحرب غير المتكافئة مع المغرب، وخاصة وأن الجزائر كانت تواجه تمرد قوات العقيد شعباني في الصحراء وقوات محند أولحاج وحسين آيت أحمد بالقبائل، وجه أحمد بن بله صرخة مدوية قال فيها كلمة مؤثرة “حقرونا” كانت كافية لتحرك نخوة الجزائريين من أقصى البلاد إلى أقصاها وهب أفراد الشعب عن بكرة أبيهم للاستجابة لنداء الوطن والدفاع عن حرمة أراضيه.
كانت مكبرات الصوت المثبتة في ساحات كبرى المدن الجزائرية كعنابة وقسنطينة والعاصمة ووهران تبث الخطاب الحماسي لبن بلة إلى الأمة (لم يكن التلفزيون منتشرا حينها)، وألهبت هذه الكلمة المشاعر الوطنية لأبناء الشعب الذين التحق الكثير منهم بمقر وزارة الدفاع وبجبهات القتال وتم تزويدهم بالبنادق والرشاشات وحتى بالمدافع، وشكلت تسعة فيالق من المتطوعين، في حين بقي الآلاف منهم في الانتظار، لأننا كنا ننتقي العناصر المدربة على السلاح فقط ونرسلهم إلى نواحي تيندوف وعين تيمفوشي وسيدي بلعباس وتلمسان، وفيهم من وصل إلى الحدود المغربية.
حتى الأطفال ألهبتهم كلمة بن بله
ومن الطرائف التي حدثت خلال هذه الحرب أن طفلا صغيرا في عنابة لم يتجاوز تسع سنوات من عمره كان فوق شجرة يستمع إلى خطاب الرئيس أحمد بن بله عبر مكبرات الصوت وهو شبه عار، إذ أنه لم يكن يرتدي سوى قميص وبدون سروال، ويبدو أنه تأثر بشكل مبالغ فيه لخطاب بن بله وراح يصرخ بشجاعة الرجال:
ـ رانا (نحن) هنا يا سيد أحمد.. رانا هنا يا سيد أحمد.
وكلما نتذكر هذه الحادثة نضحك كثيرا، ولكنها تعكس قوة التأثير الذي تركه هذا الخطاب الذي كان مؤثرا للغاية جعل كل فئات الشعب تفزع من جديد لمقارعة الغزاة الجدد.
حتى النساء أردن أن يذهبن إلى جبهات القتال، فالإحساس بمرارة حقرة الأشقاء بعد ظلم الأعداء جعل الجزائريين يهبون هبة رجل واحد للدفاع مجددا عن أرضهم وكرامتهم ونشوة النصر على الجيش الفرنسي لازالت تراودهم.
أولحاج وشعباني يوقفان التمرد ويلتحقان بالجيش
تأثير صرخة بن بله كان لها صداها في جبال القبائل وفي صحراء بسكرة، فالعقيد محند أولحاج المتمرد في جبال القبائل نزل من الجبال وضم خمسة فيالق إلى الجيش الوطني الشعبي وقال كلمته الخالدة “الجزائر قبل كل شيء”، أما العقيد شعباني فهو الآخر أوقف عصيانه وأرسل ثلاثة فيالق من قواته لمواجهة الجيش المغربي.
وخلال حرب الرمال كنت حديث التعيين كقائد للأركان وتوليت إدارة الأمور بقيادة هيئة الأركان بالعاصمة بالتنسيق مع وزير الدفاع العقيد هواري بومدين الذي كان في جبهات القتال ولم يكن بوزارة الدفاع سواي لتنظيم عملية تجميع السلاح والرجال من المتطوعين وإرسالهم إلى جبهات القتال، وكان أحمد بن بله يزورني من حين لآخر في قيادة الأركان لمساعدتي في هذه المهمة.
إلا أن بومدين لم يكن متحمسا لقوافل المتطوعين التي كانت تصل من العاصمة ومن مختلف جهات الوطن إلى جبهات القتال، واعتبر أن النداء الذي وجهه بن بله إلى الشعب جلب الفوضى إلى القوات المسلحة التي هي في غنى عن هذه الأعداد الكبيرة من المتطوعين، على أساس أن الجيش بإمكانه تجنيد المتطوعين حسب احتياجاته ولكن ليس بهذه الأعداد الهائلة.
عبد الناصر وكاسترو يدعمان الجزائر عسكريا
وتجاوز صدى صرخة بن بله حدود الوطن ليصل إلى عدة عواصم عالمية كالقاهرة وهافانا اللتين أعلنتا وقوفهما إلى جانب الجزائر دبلوماسيا وعسكريا، حيث أرسلت كوبا قوات رمزية مشكلة من نحو 50 مقاتلا إلى الجزائر، كما أرسلت ثلاثة سفن محملة بالأسلحة إلى الجزائر ولكنها وصلت بعد انتهاء الحرب بأسبوع لذلك لم نستعمل هذه الأسلحة ضد المغرب، أما “مصر جمال عبد الناصر” فأرسلت إلينا كتيبة من الرجال وزودتنا بسرب مشكل من ست طائرات مقاتلة ولكننا لم نستعملها خلال الحرب.
وهددت مصر وكوبا المغرب بالتدخل العسكري في الحرب إذا واصل اعتداءاته على الجزائر، وبلغ الضغط الدولي على المغرب مداه، حيث طالبت الكثير من الدول الطرفين بتوقيف القتال، وتدخل العديد من الزعماء في العالم للضغط على الملك المغربي الحسن الثاني لوقف عدوانه على الجزائر على غرار “موديبو كايتا” رئيس مالي، وتيتو رئيس يوغسلافيا، ونيكروما رئيس غانا فضلا عن جمال عبد الناصر وفيدال كاسترو اللذين كان دعمهما للجزائر غير مشروط، كما أبدى الاتحاد السوفياتي تضامنه معنا.
وقف إطلاق النار
الملك الحسن الثاني كان أكثر حكمة من قادة جيشه عندما وافق على وقف القتال والرجوع إلى الخطوط الأولى قبل بداية الحرب، والبدء في المفاوضات بشأن ترسيم الحدود، حيث توجهت مع بن بله إلى مالي لمقابلة رئيسها موديبو كايتا الذي قام بوساطة لحل الأزمة بين الجزائر والمغرب.
وبعد وقف إطلاق النار تم تبادل الأسرى بين الجانبين، حيث أسرت الجزائر نحو خمسين أسيرا مغربيا بينما أسر المغرب قرابة أربعين من رجالنا، وفي نفس العام (1963) تأسست منظمة الوحدة الإفريقية التي أقرت مبدأ الحفاظ على الحدود الموروثة عن الاستعمار لتجنب اندلاع مزيد من الحروب بين الدول الإفريقية حديثة الاستقلال بسبب تغير الحدود بعد عقود بل قرون من الاحتلال الأوروبي لإفريقيا.
وكما يقول المثل “رب ضارة نافعة” فإن هذه الحرب زادت من سمعة الجزائر على الساحة الدولية وأظهرت قدرتها على حشد التضامن الدولي لصالحها، خاصة وأن زخم الثورة الجزائرية كان لازال مؤثرا في استقطاب تعاطف شعوب العالم مع الجزائر.
وزادت هذه الحرب في تلاحم الجزائريين فيما بينهم، وإحساسهم بكينونتهم الواحدة، وإدراكهم للأخطار الخارجية التي تهدد أمنهم ووحدة أرضهم إن بقوا منقسمين، وعجلت حرب الرمال بوقف تمرد العقيد محند أولحاج في منطقة القبائل والذي كان من الرجال الأوفياء لكريم بلقاسم، وحتى العقيد شعباني الذي كان مخاصما لبومدين تناسى خلافاته وانضم مع فيالقه إلى الجيش الوطني الشعبي.
كما سرّعت هذه الحرب عملية تحوير الجيش وتطويره من جيش مدرب على حرب العصابات إلى جيش تقليدي مزود بمختلف الأسلحة الحديثة خاصة سلاح الطيران الذي شرعنا في تكوينه وتدريب طيارينا بمساعدة دول صديقة كمصر والاتحاد السوفياتي.
ومن جهة أخرى اقتنع المغرب باستحالة اقتطاعه لأجزاء من الأراضي الجزائرية بالقوة المسلحة، رغم أن الجزائر في حرب الرمال كانت دولة في طور التشكل، وجيشها في مرحلة تحول من وحدات قتالية مدربة على حرب العصابات إلى جيش نظامي حديث، ورغم الانقسامات التي كانت حاصلة بين أبرز الزعامات والقيادات الغاضبة من حكم بن بله ومع ذلك تمكن الجيش الجزائري من التصدي للقوات المغربية بفضل التلاحم الشعبي الواسع مع القيادة والدعم الدولي الكبير سواء دبلوماسيا أو حتى عسكريا خاصة منالكتلة الاشتراكية، وبالأخص مصر جمال عبد الناصر، وكوبا فيدال كاسترو.
ورفض المغرب الاعتراف بموريتانيا كدولة مستقلة في 1960 معتبرا إياها جزءا من التراب المغربي، وكان الجيش الإسباني الذي يحتل الصحراء الغربية حائلا بين المغرب وموريتانيا مما جنب البلدين حربا كان من الممكن أن تنشب بينهما، خاصة وأن الجزائر رفضت في 1963 أن تسمح باستخدام تيندوف كمعبر للجيش المغربي لاحتلال موريتانيا مقابل تسوية المسائل الحدودية مع المغرب، ولم يعترف المغرب بموريتانيا كدولة مستقلة إلا بعد نجاح الوساطة التي قام بها بومدين في 1966.
من جانبها ردت الجزائر على المزاعم المغربية بأن “كل الأراضي التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي وقام جيش التحرير الوطني بتحريرها هي أراض جزائرية”، وكان الوفد الجزائري المفاوض قد طلب خريطة الجزائر الكاملة أثناء المفاوضات مع السلطات الاستعمارية ويبدو أنه تحصل عليها حسبما ذكره لي المرحوم كريم بلقاسم وزير القوات المسلحة في الحكومة المؤقتة خلال الثورة.
وسعى الرئيس بن بله لحل هذا المشكل مع المغرب بالطرق السلمية وإيجاد صيغ للتفاهم مع هذا البلد الشقيق، لكن بومدين كان أكثر صرامة في هذه المسألة وقال بوضوح “كل حبة رمل حررناها من أيدي الاستعمار الفرنسي باسم الثورة الجزائرية فهي ملك للجزائر”، وسمعته في إحدى المرات يعلق على المزاعم المغربية في الجزائر وموريتانيا والصحراء الغربية والسنغال بالقول “يحسبون الشعوب قطعان غنم”، أما شريف بلقاسم فرد على هذه المزاعم قائلا “المغرب لم يواصل النضال من أجل استكمال تحرير الأراضي التي اقتطعتها فرنسا منه”.
وحتى عندما كانت الجزائر في خضم حرب التحرير أحرجنا الأشقاء المغاربة بمطالبهم في الأراضي الجزائرية، وقد رد عليهم فرحات عباس رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة “نحن الآن في حرب، وبعد الاستقلال سيكون هناك مجال للحديث في هذه المسألة والتفاوض بشأنها”، وبنى المغرب موقفه على هذا الكلام.
الشرارة التي أشعلت الحرب
بعد استقلال الجزائر أرسلنا الجيش إلى المناطق التي يدَّعي المغرب أن لديه حقوقا تاريخية فيها والمتمثلة في بشار وتيندوف وأقصى الجنوب الجزائري، وقام المغرب بعمليات لجس النبض للتعرف على ردة فعل الجزائر، فأرسل عدة أفراد مسلحين من جيشه إلى منطقة حاسي البيضاء الواقعة بتيندوف داخل التراب الجزائري بحجة جلب الماء من هذه المنطقة، فوجهنا لهم تحذيرا من دخول الأراضي الجزائرية لأي سبب كان.
وتكرر دخول الوحدات العسكرية المغربية إلى الصحراء الجزائرية رغم تحذير الجيش الجزائري لهم مرتين وثلاثة، مما جعل قيادة الناحية العسكرية الثالثة التي تضم بشار وتيندوف تمنع دخول الجنود المغاربة الذين حاولوا انتهاك حرمة التراب الوطني، ووقع هناك قتلى وجرحى، وحمّل كل طرف مسؤولية هذا الاشتباك للطرف الأخر.
ودخل الأشقاء في حرب دامية استمرت لقرابة أسبوعين (من 19 أكتوبر إلى 2 نوفمبر 1963) سميت بحرب الرمال لوقوع رحاها في الصحراء، وجرت عدة معارك بين الجيشين الجزائري والمغربي في حاسي البيضاء وعين تينفوشي وبوعرفة وبني ونيف وتنجدوب وغيرها من المناطق، واستولى الجيش المغربي على بعض الأراضي الجزائرية ولكن مقاتلينا أجبروهم على التراجع.
وتولى العقيد بومدين قيادة العمليات الحربية في مركز عسكري متقدم بتلمسان، ومن هناك كان يوجه التعليمات العسكرية إلى قواتنا المسلحة، واستعان بومدين بمحمد الصديق بن يحيى في ملف المغرب وكان يستشيره في القضايا القانونية.
ورغم شراسة المعارك إلا أن قيادة البلدين في الجزائر والمغرب لم تكونا متحمستين لهذه الحرب التي اندلعت دون أن يكون هناك سابق تخطيط لها من الطرفين، لذلك حرص البلدان على أن لا تسفك الكثير من الدماء في هذه الحرب.
كانت الجزائر حديثة العهد بالاستقلال، والجيش الوطني الشعبي لم يمر عليه سوى عام واحد من تحوله من جيش تحرير إلى جيش نظامي، كان جيشنا منقوصا من ناحية التسليح والتدريب على الحروب التقليدية خاصة في الصحراء المفتوحة والمنبسطة، على عكس حرب العصابات التي كنا نجيدها خاصة في الجبال والغابات والأحراش وحتى المدن بالاعتماد على الكر والفر وإنهاك العدو بهجمات مباغتة وكمائن محكمة.
بينما كان الجيش المغربي حينها أكثر تنظيما ودراية بالحروب التقليدية وذلك لأنهم استلموا وحدات عسكرية منظمة من فرنسا بقيادة إدريس بن عمار قائد أركان الجيش المغربي الذي كان ضابطا كبيرا في الجيش الفرنسي، ويعرف جيدا الجزائر والانقسامات التي كانت تعصف بقياداتها.
حقرونا
تعتبر منطقة بوعرفة جيبا جزائريا ممتد داخل الأراضي المغربية، وهي واقعة في شمال غربي بشار، وسهل موقعها المحاط بالأراضي المغربية من ثلاث جهات على جيش الملك محاصرة قواتنا المرابطة بها، وهاجموا قواتنا من الخلف وتمكنوا من أسر العديد من رجالنا، وكان واضحا عدم التكافؤ بين الجانبين خاصة بعد أن بدأ المغرب في استعمال سلاح الطيران.
أما الجزائر فلم تكن تملك قوات جوية بالمعنى الحقيقي باستثناء طائرات هيليكوبتر، وطائرات تدريب، وحتى سرب الطائرات الحربية الذي أرسلته إلينا مصر خلال الحرب لم نسمح باستخدامه ضد أشقائنا في المغرب تجنبا لزيادة ضراوة المعارك.
وفي خضم هذه الحرب غير المتكافئة مع المغرب، وخاصة وأن الجزائر كانت تواجه تمرد قوات العقيد شعباني في الصحراء وقوات محند أولحاج وحسين آيت أحمد بالقبائل، وجه أحمد بن بله صرخة مدوية قال فيها كلمة مؤثرة “حقرونا” كانت كافية لتحرك نخوة الجزائريين من أقصى البلاد إلى أقصاها وهب أفراد الشعب عن بكرة أبيهم للاستجابة لنداء الوطن والدفاع عن حرمة أراضيه.
كانت مكبرات الصوت المثبتة في ساحات كبرى المدن الجزائرية كعنابة وقسنطينة والعاصمة ووهران تبث الخطاب الحماسي لبن بلة إلى الأمة (لم يكن التلفزيون منتشرا حينها)، وألهبت هذه الكلمة المشاعر الوطنية لأبناء الشعب الذين التحق الكثير منهم بمقر وزارة الدفاع وبجبهات القتال وتم تزويدهم بالبنادق والرشاشات وحتى بالمدافع، وشكلت تسعة فيالق من المتطوعين، في حين بقي الآلاف منهم في الانتظار، لأننا كنا ننتقي العناصر المدربة على السلاح فقط ونرسلهم إلى نواحي تيندوف وعين تيمفوشي وسيدي بلعباس وتلمسان، وفيهم من وصل إلى الحدود المغربية.
حتى الأطفال ألهبتهم كلمة بن بله
ومن الطرائف التي حدثت خلال هذه الحرب أن طفلا صغيرا في عنابة لم يتجاوز تسع سنوات من عمره كان فوق شجرة يستمع إلى خطاب الرئيس أحمد بن بله عبر مكبرات الصوت وهو شبه عار، إذ أنه لم يكن يرتدي سوى قميص وبدون سروال، ويبدو أنه تأثر بشكل مبالغ فيه لخطاب بن بله وراح يصرخ بشجاعة الرجال:
ـ رانا (نحن) هنا يا سيد أحمد.. رانا هنا يا سيد أحمد.
وكلما نتذكر هذه الحادثة نضحك كثيرا، ولكنها تعكس قوة التأثير الذي تركه هذا الخطاب الذي كان مؤثرا للغاية جعل كل فئات الشعب تفزع من جديد لمقارعة الغزاة الجدد.
حتى النساء أردن أن يذهبن إلى جبهات القتال، فالإحساس بمرارة حقرة الأشقاء بعد ظلم الأعداء جعل الجزائريين يهبون هبة رجل واحد للدفاع مجددا عن أرضهم وكرامتهم ونشوة النصر على الجيش الفرنسي لازالت تراودهم.
أولحاج وشعباني يوقفان التمرد ويلتحقان بالجيش
تأثير صرخة بن بله كان لها صداها في جبال القبائل وفي صحراء بسكرة، فالعقيد محند أولحاج المتمرد في جبال القبائل نزل من الجبال وضم خمسة فيالق إلى الجيش الوطني الشعبي وقال كلمته الخالدة “الجزائر قبل كل شيء”، أما العقيد شعباني فهو الآخر أوقف عصيانه وأرسل ثلاثة فيالق من قواته لمواجهة الجيش المغربي.
وخلال حرب الرمال كنت حديث التعيين كقائد للأركان وتوليت إدارة الأمور بقيادة هيئة الأركان بالعاصمة بالتنسيق مع وزير الدفاع العقيد هواري بومدين الذي كان في جبهات القتال ولم يكن بوزارة الدفاع سواي لتنظيم عملية تجميع السلاح والرجال من المتطوعين وإرسالهم إلى جبهات القتال، وكان أحمد بن بله يزورني من حين لآخر في قيادة الأركان لمساعدتي في هذه المهمة.
إلا أن بومدين لم يكن متحمسا لقوافل المتطوعين التي كانت تصل من العاصمة ومن مختلف جهات الوطن إلى جبهات القتال، واعتبر أن النداء الذي وجهه بن بله إلى الشعب جلب الفوضى إلى القوات المسلحة التي هي في غنى عن هذه الأعداد الكبيرة من المتطوعين، على أساس أن الجيش بإمكانه تجنيد المتطوعين حسب احتياجاته ولكن ليس بهذه الأعداد الهائلة.
عبد الناصر وكاسترو يدعمان الجزائر عسكريا
وتجاوز صدى صرخة بن بله حدود الوطن ليصل إلى عدة عواصم عالمية كالقاهرة وهافانا اللتين أعلنتا وقوفهما إلى جانب الجزائر دبلوماسيا وعسكريا، حيث أرسلت كوبا قوات رمزية مشكلة من نحو 50 مقاتلا إلى الجزائر، كما أرسلت ثلاثة سفن محملة بالأسلحة إلى الجزائر ولكنها وصلت بعد انتهاء الحرب بأسبوع لذلك لم نستعمل هذه الأسلحة ضد المغرب، أما “مصر جمال عبد الناصر” فأرسلت إلينا كتيبة من الرجال وزودتنا بسرب مشكل من ست طائرات مقاتلة ولكننا لم نستعملها خلال الحرب.
وهددت مصر وكوبا المغرب بالتدخل العسكري في الحرب إذا واصل اعتداءاته على الجزائر، وبلغ الضغط الدولي على المغرب مداه، حيث طالبت الكثير من الدول الطرفين بتوقيف القتال، وتدخل العديد من الزعماء في العالم للضغط على الملك المغربي الحسن الثاني لوقف عدوانه على الجزائر على غرار “موديبو كايتا” رئيس مالي، وتيتو رئيس يوغسلافيا، ونيكروما رئيس غانا فضلا عن جمال عبد الناصر وفيدال كاسترو اللذين كان دعمهما للجزائر غير مشروط، كما أبدى الاتحاد السوفياتي تضامنه معنا.
وقف إطلاق النار
الملك الحسن الثاني كان أكثر حكمة من قادة جيشه عندما وافق على وقف القتال والرجوع إلى الخطوط الأولى قبل بداية الحرب، والبدء في المفاوضات بشأن ترسيم الحدود، حيث توجهت مع بن بله إلى مالي لمقابلة رئيسها موديبو كايتا الذي قام بوساطة لحل الأزمة بين الجزائر والمغرب.
وبعد وقف إطلاق النار تم تبادل الأسرى بين الجانبين، حيث أسرت الجزائر نحو خمسين أسيرا مغربيا بينما أسر المغرب قرابة أربعين من رجالنا، وفي نفس العام (1963) تأسست منظمة الوحدة الإفريقية التي أقرت مبدأ الحفاظ على الحدود الموروثة عن الاستعمار لتجنب اندلاع مزيد من الحروب بين الدول الإفريقية حديثة الاستقلال بسبب تغير الحدود بعد عقود بل قرون من الاحتلال الأوروبي لإفريقيا.
وكما يقول المثل “رب ضارة نافعة” فإن هذه الحرب زادت من سمعة الجزائر على الساحة الدولية وأظهرت قدرتها على حشد التضامن الدولي لصالحها، خاصة وأن زخم الثورة الجزائرية كان لازال مؤثرا في استقطاب تعاطف شعوب العالم مع الجزائر.
وزادت هذه الحرب في تلاحم الجزائريين فيما بينهم، وإحساسهم بكينونتهم الواحدة، وإدراكهم للأخطار الخارجية التي تهدد أمنهم ووحدة أرضهم إن بقوا منقسمين، وعجلت حرب الرمال بوقف تمرد العقيد محند أولحاج في منطقة القبائل والذي كان من الرجال الأوفياء لكريم بلقاسم، وحتى العقيد شعباني الذي كان مخاصما لبومدين تناسى خلافاته وانضم مع فيالقه إلى الجيش الوطني الشعبي.
كما سرّعت هذه الحرب عملية تحوير الجيش وتطويره من جيش مدرب على حرب العصابات إلى جيش تقليدي مزود بمختلف الأسلحة الحديثة خاصة سلاح الطيران الذي شرعنا في تكوينه وتدريب طيارينا بمساعدة دول صديقة كمصر والاتحاد السوفياتي.
ومن جهة أخرى اقتنع المغرب باستحالة اقتطاعه لأجزاء من الأراضي الجزائرية بالقوة المسلحة، رغم أن الجزائر في حرب الرمال كانت دولة في طور التشكل، وجيشها في مرحلة تحول من وحدات قتالية مدربة على حرب العصابات إلى جيش نظامي حديث، ورغم الانقسامات التي كانت حاصلة بين أبرز الزعامات والقيادات الغاضبة من حكم بن بله ومع ذلك تمكن الجيش الجزائري من التصدي للقوات المغربية بفضل التلاحم الشعبي الواسع مع القيادة والدعم الدولي الكبير سواء دبلوماسيا أو حتى عسكريا خاصة منالكتلة الاشتراكية، وبالأخص مصر جمال عبد الناصر، وكوبا فيدال كاسترو.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 4
قضية إعدام العقيد شعباني
في الحلقة الأولى من سلسلة مذكرات العقيد الطاهر زبيري، قائد أركان الجيش الجزائري، (1963 / 1967)، تناول المؤلف حرب الرمال ضد المغرب، التي اندلعت في 1963 بعد عام واحد فقط من الاستقلال، أما اليوم، فسيتناول المؤلف قضية حساسة، لطالما ألح قراء الشروق بفتح ملفاتها، ويتعلق الأمر بقضية إعدام العقيد محمد شعباني، أصغر عقيد في الجيش الوطني الشعبي، في 3 سبتمبر 1964، وسيجد القارئ تفاصيل أكثر في كتاب العقيد زبيري “نصف قرن من الكفاح: مذكرات قائد أركان جزائري”.
شعباني يدعو لتصفية الضباط الفارين من الجيش الفرنسي
انعقد مؤتمر جبهة التحرير الوطني في 1964 في غياب محمد خيضر، الأمين العام للحزب الذي خرج مغاضبا إلى الخارج، واستغل شعباني هذا المؤتمر لتوجيه نقد لاذع ومبطن لبومدين، عندما هاجم تغلغل الضباط الفارين من الجيش الفرنسي داخل هياكل الجيش، وطالب بتنحية هؤلاء من المناصب الحساسة في المؤسسة العسكرية، على أن يقتصر دورهم على الجوانب التقنية فقط.
ووجد هذا الطرح قبولا واسعا لدى معظم المؤتمرين، لكن بومدين كان أكثر إقناعا من شعباني، واستطاع ترجيح الكفة لصالحه، وأوضح في كلمته أن “تصفية الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، والذين التحقوا بالثورة يعني أننا سنضطر إلى الاعتماد على الخبرات العسكرية الأجنبية في تأهيل الجيش، وهذا ما يجعل أسرارنا العسكرية مكشوفة للأجانب، لذلك، فالأولى بنا أن نستعين بهؤلاء الضباط، الذين لا ينكر أحد بأنهم جزائريون جادون في تأطير الجيش وتأهيله، خاصة وأنهم يخضعون للقانون الجزائري”.
جاءت هذه المواجهة الساخنة بين شعباني وبومدين، لتزيد الشرخ بين الرجلين، وتبرز للجميع حجم التباين بين نظرة كل طرف في بناء الدولة والجيش، ومع أن بومدين تمكن من كسب هذه الجولة لصالحه، إلا أن شعباني ومعه قطاع واسع من المجاهدين والمناضلين، ظلوا قلقين لما اعتبروه تغلغلا لأعوان الاستعمار من الحركى والمصاليين و”الزرق” وغيرهم في دواليب الدولة، ما جعلهم يرفعون شعار “التصفية”.
ورغم المناصب العليا التي أصبح يتبوأها شعباني عسكريا وسياسيا، إلا أنه لم يكن يلتحق بالعاصمة إلا لفترات قصيرة، ثم يعود إلى مركزه في الجنوب، ومرت شهور وشعباني على هذا الحال مما أثار حفيظة بومدين، ودفعه ليؤكد على بن بلة ضرورة التحاق شعباني بمكتبه في وزارة الدفاع وقال له “شعباني مهمته في العاصمة، ويجب أن يترك قيادة الناحية حتى نعين شخصا مكانه”.
احتار بن بله في كيفية التعامل مع شعباني، بسبب إصراره على عصيان الأوامر، فقرر إرسالي في وفد ضم كلا من الرائد علي منجلي وآيت الحسين إلى شعباني، الذي كان متمركزا في بسكرة، لإقناعه بالتخلي عن قيادة الناحية العسكرية الرابعة، لكنه رفض بشدة التنازل عن قيادة الناحية، بل وانتقد بومدين والضباط الفارين من الجيش الفرنسي، كما انتقد تعيين بن بله لشخص من غرداية، يدعى خبزي وزيرا في الحكومة دون مشاورته، بالرغم من أن هذا الأخير ينحدر من الولاية السادسة، التي يعتبر أنه مازال مسؤولا عنها ورفض فكرة حلها.
القطرة التي أفاضت الكأس
بعد نحو 15 يوما من هذا اللقاء، كرر بومدين على بن بله نفس الأمر، وشدد على ضرورة استقرار شعباني في العاصمة، لأداء مهامه كنائب لقائد الأركان، وعضو في المكتب السياسي للحزب، حتى يتم تعيين قائد آخر للناحية العسكرية الرابعة.
لم يكن بإمكان بن بله ترك شعباني يتمادى في عصيانه للأوامر، ومع ذلك حاول الحفاظ على شعرة معاوية في التعامل معه، فاتصل به هاتفيا متوددا إليه:
ـ تعالى بقربي لنتعاون.
فرد عليه شعباني بقسوة:
ـ أنت طمأنتني كثيرا في بعض الأمور، لكنك بقيت تتصرف تصرف السياسيين “المتعفنين”.
وصفُ شعباني له بـ”السياسي المتعفن” جعل بن بله يستشيط غيظا، واعتبر ذلك إهانة لشخصه، فأعطى الأوامر لبومدين فورا للإعداد عملية عسكرية لإلقاء القبض على شعباني وجميع الجنود الذين معه، وهو الأمر الذي كان ينتظره بومدين بفارغ الصبر، ولم يتأخر في تنفيذه، وكان ذلك في 7 جويلية 1964 .
بلهوشات يلقي القبض على شعباني
كنت حينها في قيادة الأركان، ولم تكن لدي الصلاحيات الكافية لوقف هذه العملية العسكرية أو حتى تأخيرها، فالجيش كان في يد بومدين، لذلك انتقلت في طائرة هيلكوبتر مع شخصين آخرين إلى باتنة، بحجة مراقبة الناحية العسكرية الخامسة (الشرق الجزائري) التي كنت مسؤولا عنها، ولكني في حقيقة الأمر توجهت من باتنة إلى آريس، ومنها إلى بسكرة، علـِّي أستطيع أن أصل إلى شعباني لإقناعه بالعدول عن عصيانه، قبل أن يصل إليه الجيش الذي كان معظم ضباطه من الفارين من الجيش الفرنسي، والذين يحملون حقدا شديدا عليه، وخشيت أن يقتلوه أو ينكلوا به إن وقع أسيرا بين أيديهم، لكني عندما وصلت إلى بسكرة، كان كل شيء قد انتهى وقضي الأمر، لكن لحسن الحظ.. شعباني لم يقتل.
حيث قاد الرائد عبد الله بلهوشات قوات عسكرية زحف بها باتجاه معقل العقيد شعباني ورجاله لمحاصرتهم في بسكرة، إلا أنه لم تقع مواجهات دامية بين الطرفين، إذ تخلى معظم رجال شعباني عن ولائهم له، وانظموا بكامل عتادهم إلى الجيش الوطني الشعبي، غير أن فرقة من الجنود بقيت إلى جانب شعباني للدفاع عنه، ولما تأكد شعباني بأنه غير قادر على مواجهة القوات الزاحفة من الشمال، فر من مدينة بسكرة وتحصن بأحد الجبال القريبة، لكن قوات الجيش لاحقته وجنوده إلى سفح الجبل، وحاصرته وألقت عليه القبض ومن معه أحياء، بعد أسبوع من المطاردة.
محاكمة شعباني
أطلق سراح معظم رجال شعباني، فيما اقتيد هو مع مرافقيه الحسين ساسي والعريف الجيلالي، المدعو سليم، إلى سجن وهران، وظلوا لمدة شهرين (من 7 جويلية إلى 2 سبتمبر 1964) في السجن للتحقيق معهم، وإعداد ملفات محاكمتهم، وتولى هذه المهمة الأخيرة ضابط فار من الجيش الفرنسي، يدعى محمد تواتي، كان حينها برتبة ملازم ثان في الدرك الوطني، وهو الذي أعد ملفات محاكمتي خلال الأزمة التي وقعت لي مع بومدين في 1967، ورقي إلى أن أصبح برتبة جنرال في الجيش، ثم عين مستشارا برئاسة الجمهورية، وكنت أعتقد أنه مادام شعباني في السجن، فلا خوف على حياته، إذ أنه لم يعد يشكل خطرا لا على بومدين ولا على بن بله.
طلب بن بلة من بومدين أن يقدم له أسماء الضباط الذين سيحاكمون شعباني في المحكمة العسكرية، فيما اختار هو وكيل جمهورية يدعى “محمود زرطال”، أما بومدين فاقترح عليه الشاذلي بن جديد، والرائد عبد الغني، وعبد الرحمان بن سالم، وأحمد دراية، وأحمد بن شريف، الذي رقي إلى عقيد حتى يكون في نفس الرتبة العسكرية مع المتهم، أما عبد الله بلهوشات، فرفض أن يكون ضمن هيئة المحكمة، ولم يحضر جلسات محاكمة شعباني، كما حضر جلسات المحكمة النقيب عبد الحميد لطرش.
ونصبت هيئة قضائية عسكرية لمحاكمته في وهران، برئاسة محمود زرطال، وعين أحمد دراية كوَكيل للجمهورية، ووجهت لشعباني تهمة التمرد، وأضافوا له تهمة الاتصال بمصالح الاستخبارات الفرنسية، وغيرها من التهم الملفقة.
ورد شعباني على التهم الموجهة إليه بالتأكيد على مواقفه السابقة الرافضة لهدم الولايات قبل وقتها، متهما بن بله بالنزوع إلى الحكم الفردي، وتمكين بومدين لمن أسماهم “بضباط فرنسا” داخل الجيش، واستدل بموقف خيضر الذي ذهب إلى الخارج، بسبب تصرف بن بله الذي اعتبره غير عقلاني.
واستمرت المحاكمة من الساعة الحادية عشر إلى غاية الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ورغم أن جماعة شعباني استفادت من البراءة، إلا أنهم وُضعوا تحت الإقامة الجبرية، غير أن الحكم الذي نطق به القاضي زرطال ضد العقيد محمد شعباني كان مؤلما وقاسيا.. “الإعدام”.
محاولتي إنقاذ شعباني من الموت
كنت في اليوم الذي نفذ فيه حكم الإعدام على شعباني قد عدت إلى مكتبي في وزارة الدفاع، بعد جولة قمت بها داخل الوطن، وجاءني بومدين إلى المكتب وقال لي “هل نخرج إن لم يكن لديك ما تفعله؟”، فلم أمانع، لأننا اعتدنا من حين إلى آخر الخروج، سواء في سيارتي أو في سيارته للتجول في المزارع والحقول المحيطة بالعاصمة.
سألنا عن سائقي أو سائقه فلم نجدهما، فتمشينا في الوزارة والتقينا بالأمين العام لوزارة الدفاع، عبد القادر شابو، ونائبه جلول الخطيب، فطلب بومدين من الخطيب أن يأتينا بكرسيين، ثم سألني بومدين:
ـ هل تعلم بمحكمة وهران أم لا؟
فاجأني بسؤاله هذا، فأجبت على سؤاله بسؤال آخر:
ـ ماذا حدث؟
ـ لقد حكموا على شعباني بالإعدام.
صدمني بومدين بهذا الخبر الذي جعلني أضطرب، ولكني تمالكت نفسي، وقلت له وكأني وجدت الحل لهذا الأمر الجلل:
ـ الذي يملك العفو هو بن بله.
فرد علي بومدين:
ـ شعباني في السجن، وقادة النواحي العسكرية يطلبون من بن بله أن يعفو عنه.
ـ إذن أذهب إلى بن بله وأطلب منه ألا ينفذ الحكم.
فزع بومدين من هذا الأمر، وقال لي حازما وكأنه يوجه لي أمرا:
ـ سي الطاهر.. أطلب منك ألا تذهب إلى بن بله، حتى لا يعتقد بأنني أنا من أرسلتك.
وأضاف:
ـ دعهم.. فهؤلاء كانوا في اتصال مع بعضهم البعض، اتركهم لبعضهم البعض.
وكان يقصد أن بن بله وشعباني كانا متحالفين ضده، والآن هم خصوم، وبالتالي فقد تمكن بومدين من ضرب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة، تخلص من ألد خصومه داخل الجيش، ومن جهة ثانية، سيتحمل بن بله لوحده مسؤولية إعدام شعباني، لأنه هو من أعطى الأوامر بإلقاء القبض عليه، وهو من يملك الحق في العفو أو في تنفيذ حكم الإعدام دون سواه.
حصرني بومدين في زاوية ضيقة، عندما طلب مني عدم الذهاب إلى بن بله للتشفع لشعباني، فلم أكن أحتمل أن يعدم شعباني هكذا ببساطة، رغم أنني كنت أرفض عصيانه للأوامر، بل ومتفهما لقضية إلقاء القبض عليه وسجنه، لكن.. أن يعدم رغم كل ما قدمه من أجل استقلال الجزائر، فهذا حكم قاس.. قاس جدا.
بن بله يرفض شفاعتي
بينما كنت محتارا في أمر شعباني، جاء السفير الجزائري، علي كافي، (والذي شغل منصب سفير في عدة بلدان من بينها سوريا ولبنان وتونس وليبيا) إلى وزارة الدفاع، ليرى بومدين، وعندما دخل المكلف بالتشريفات إلى بومدين، لإبلاغه برغبة علي كافي في مقابلته، خرجت من وزارة الدفاع، ووجدت سائقي فركبت السيارة، وطلبت منه أن يمضي بي إلى البيت.
وفي هذا الوقت، اتصل بن بله بوزارة الدفاع ليطلبني، إلا أنني كنت قد غادرت مكتبي، فاتصل بي في البيت، فوجد بأنني لم أصل بعد، فترك وصية لدى زوجتي، وقال لها “عندما يصل الطاهر قولي له أن يأتيني”، ولما وصلت إلى المنزل أخبرتني زوجتي بالأمر، فاستبشرت بالأمر خيرا، ووجدت أن الفرصة جاءتني لأكلم بن بله في قضية شعباني.
قصدت “فيلا جولي” وصعدت إلى مكتب بن بله في الطابق الخامس، ودخلت عليه فوجدته مستلقيا على أريكة بالقرب من الشرفة المطلة على البحر، فبادرته بالتحية:
ـ سي أحمد.. كيف حالك؟
لكنه بدل أن يرد على تحيتي أو يحدثني عن قضية شعباني، فاجأني بالقول:
ـ اتصلت بك لتهيئ نفسك لتذهب معي غدا إلى القاهرة.
وكان مقررا أن تشارك الجزائر في قمة لمجلس الدفاع العربي، الذي يضم رئيس الدولة ووزير الدفاع وقائد الأركان ووزير الخارجية ووزير المالية لكل دولة عربية مشاركة في المجلس، لكن بن بله أخبرني أن بومدين سيبقى هنا (باعتباره نائبا لرئيس الجمهورية)، أما عبد العزيز بوتفليقة وأحمد فرانسيس، فسيرافقاننا إلى هذا الاجتماع.
وانتهزت الفرصة لأسأله عن شعباني وقلت له:
ـ ماذا عن محكمة وهران.. كيف الأمر؟
فانتفض وقال:
ـ انتهى الأمر.. حكمت المحكمة ونفذ الحكم، ولابد أن نعطي المثال في الصرامة.. فالناس تنتقد غياب الطاعة والنظام.
لم أنتبه إلى أنه كان جادا عندما قال بأن حكم الإعدام قد “نفذ” في حق شعباني، بل كنت أعتبر بأنه مجرد كلام، فقلت له:
ـ يا سي أحمد.. شعباني هو الآن في السجن، ولم يبق له لا ناحية ولا ولاية، ولكن آيت أحمد مازال في الجبال.
وكان حينها آيت أحمد متمردا رفقة العقيد الصادق دهيلس، أحد قادة الولاية الرابعة (وسط الجزائر) في جبال القبائل، وأردت تشتيت انتباهه إلى قضية أخرى حتى لا يستعجل تنفيذ الحكم في حق شعباني، لكن بن بله رد علي:
ـ لكل أمر أوانه.
وبينما نحن في نقاش، إذ دخل علينا فتال والنقاش وعبد الرحمان شريف، فقالوا له:
ـ سي أحمد نحتاجك في أمر.
فنهض بن بله من أريكته لينزوي معهم في مكتب آخر، لكني بادرته بسؤال آخر:
ـ غدا متى يكون الملتقى؟ وأين؟
ـ على التاسعة بقصر الشعب.
غادرت فيلا جولي على أمل أن أجد فرصة أخرى غدا لأكلمه في قضية شعباني.
التقيت بن بله صباح الغد في قصر الشعب، لكن كان إلى جنبه سفير القاهرة في الجزائر السيد “خشبة” وآخرين، فلم أتمكن من الحديث إليه على انفراد، وحتى عندما ركبنا الطائرة، لم أجد فرصة للتكلم معه وهو محاط بمرافقيه، ولما نزلنا في مطار القاهرة، استقبل جمال عبد الناصر صديقه، واتجها لوحدهما في جهة، بينما أخذونا نحن إلى الفندق.
وفي صباح اليوم الموالي، وبينما كنت أطالع الصحف المصرية، صدمت لما قرأت عنوانا يتحدث عن “تنفيذ حكم الإعدام في حق شعباني”، ولم أصدق الأمر، لقد انتهى كل شيء، ولم يعد هناك أي أمل لإنقاذه من الموت المحتوم، وعلمت فيما بعد، أن حكم الإعدام نفذ فجر اليوم الموالي للمحاكمة، أي ساعات قليلة بعد النطق بالحكم، ونفذ النقيب عبد الحميد لطرش الحكم عليه رميا بالرصاص، وانطفأت شمعة أصغر عقيد في الجيش الوطني الشعبي إلى الأبد.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
الحلقة الثالثة
تناول العقيد زبيري في الحلقة الماضية خلفيات وتفاصيل إعدام العقيد محمد شعباني نائب قائد الأركان، وفي هذه الحلقة سيبدأ العقيد زبيري في رواية القصة الكاملة للانقلاب العسكري الذي اشترك فيه مع بومدين لتنحية الرئيس أحمد بن بلة أول رئيس للجزائر المستقلة، ويكشف عن الخلفيات الحقيقية وراء انحيازه لبومدين رغم أن بن بلة كان يرى فيه الحليف المناسب لإضعاف هيمنة بومدين على الجيش.
بن بلة يقضي على خصومه
تمكن بن بلة بدعم من بومدين من إزاحة أبرز خصومه السياسيين والعسكريين، بداية من الباءات الثلاث الأقوياء الذين قادوا الثورة إلى النصر، والذين كانوا يمثلون صقور الحكومة الجزائرية المؤقتة، ومع ذلك رفض بن بلة أن يكون ثلاثتهم ضمن المكتب السياسي الذي استلم السلطة من الهيئة التنفيذية المؤقتة بالروشي نوار.
كما اعتقل بن بلة بوضياف أحد الزعماء التاريخيين الذي كان ينافسه على الشرعية التاريخية وسمح له بالخروج إلى المغرب، وأنهى المعارضة المسلحة لحسين آيت أحمد في منطقة القبائل، وقبله أنهى معارضة الولاية الرابعة وسيطرتها على العاصمة في أزمة صائفة 1962 واستطاع إقناع محند أولحاج بإيقاف معارضته المسلحة في الولاية الثالثة، خاصة بعد أن قام المغرب بالاعتداء على أجزاء من الأراضي الجزائرية.
ولم يكتف بن بلة بإقصاء خصومه ومعارضيه من المعادلة السياسية، بل أدى تفرده بالحكم في الكثير من القضايا إلى وقوعه في صدام مع حلفائه السياسيين والعسكريين، على غرار ما حدث مع فرحات عباس الذي انتخب رئيسا للمجلس التأسيسي في 1962 متفوقا على بن بلة ـ الذي ترشح لنفس المنصب ـ بعدد الأصوات، مما جعل هذا الأخير ينفيه بعد ذلك إلى الصحراء، أما محمد خيضر الأمين العام للحزب فالتحق بالمعارضة في الخارج وكان إلى جانبه رابح بيطاط الذي انتقد تفرد بن بلة في اتخاذ القرارات الحاسمة، خاصة في عملية التحضير للمؤتمر الأول للحزب، كما ألقى بن بلة القبض على العقيد شعباني وأنهى تمرده بالجنوب.
وسعى بن بلة إلى تجميع مختلف السلطات بيده فهو إلى جانب كونه رئيسا للجمهورية يتولى رئاسة الحكومة واضطر وزير الداخلية أحمد مدغري للاستقالة بعدما نزع من يده صلاحية الأمن والولاة، كما تولى وزارة المالية ووزارة الإعلام والأمين العام للحزب، فضلا عن كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأصبح يجمع الصلاحيات من حوله ويقلص من نفوذ حلفائه في السلطة.
كان بن بلة منتشيا بالشعبية التي يتمتع بها في الداخل والخارج، وأصبح يتصرف كزعيم ثوري مثله مثل جمال عبد الناصر ونيكروما وكاسترو وسوكارنو وموديبو كايتا، بحيث تتركز جميع السلطات السياسية والعسكرية حوله متناسيا مبدأ القيادة الجماعية الذي سنه المفجرون الأوائل للثورة.
السعي لتقليص نفوذ بومدين على الجيش
ولم يكن بومدين ينظر بعين الرضا إلى سياسة بن بلة الانفرادية في اتخاذ القرارات وتجميع السلطات، خاصة وأن بن بلة لم يكن يستشيره في الكثير من القرارات السياسية بداية من اختياره لمندوبي المجلس التأسيسي في صائفة 1962 وصولا إلى تفرده في التحضير للمؤتمر الأول للحزب في 1964 .
وعندما قرر بن بلة تعيين شعباني قائدا للأركان باقتراح من خيضر شعر بومدين أن بن بلة يسعى لسحب البساط من تحت قدميه، وجاءت تصريحات خيضر “الجيش إلى الثكنات” لتزيد الطين بلة، خاصة وأن بن بلة ظلّ صامتا إزاء الانتقادات التي وجهها كبار الضباط بمن فيهم بومدين وشعباني لتصريحات خيضر مما أعطى الانطباع وكأن بن بلة يشاطره الرأي.
ومما زاد الشكوك في هذا الشأن انفراد بن بلة في تحضير المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني في 1964 دون إشراك بومدين وكبار الضباط في اختيار أعضاء اللجنة المركزية للحزب ومندوبي المؤتمر، ما دفع بومدين وقايد أحمد المدعو سي سليمان وعبد العزيز بوتفليقة وشريف بلقاسم وأحمد مدغري إلى تقديم استقالتهم الجماعية، ولم أكن معهم في هذا الأمر رفقة علي منجلي الذي استطاع بن بلة أن يسحبه من مدار بومدين ويقربه إلى صفه، ورفض بن بلة قبول استقالتهم قبيل انعقاد المؤتمر خشية أن تفجر هذه الاستقالات الخلافات بين المندوبين قد تصعب السيطرة على الوضع، وربما حاول بومدين قيادة انقلاب عسكري ضده، لذلك سعى لامتصاص غضب العسكريين بتعيين بومدين وشعباني وأنا وعلي منجلي في المكتب السياسي للحزب إلى جانب أعضاء سياسيين كأحمد محساس وبومعزة، وآيت الحسين مسؤول فدرالية فرنسا، وعبد العزيز بوتفليقة ومحمدي السعيد.
بن بلة يطلب مني الوقوف إلى جانبه للإطاحة ببومدين
بن بلة كان يعتقد بأنني إلى صفه في صراعه الخفي ضد بومدين على أساس أنه هو من وضع ثقته في شخصي وعيّنني قائدا للأركان، ولكنني كنت أعلم جيدا كيف تم تعييني، وبومدين حكى لي تفاصيل ما حدث ودوره في ذلك، كما أنني لم أقف إلى جانب بومدين عندما قدم رفقة ما عرف بـ”جماعة وجدة” استقالتهم الجماعية في مؤتمر الحزب، وهو ما عزز الاعتقاد لدى بن بلة أنني لست في صف بومدين لذلك أراد أن يتحالف معي مرحليا، ولكني لم أكن أثق به كل الثقة بعدما رأيت انفراده بالسلطة.
وقبيل انعقاد المؤتمر الآفروآسيوي في جوان 1965 قام بن بلة بجولة إلى كل من الأوراس وسكيكدة وعنابة بشرق البلاد، واصطحبني معه في هذه الجولة رفقة عدد من أعضاء المكتب السياسي، وفي المساء توجهنا إلى إقامة الدولة في تبسة التي كانت حينها دائرة إدارية، واجتمع إطارات الدولة الكبار حول مائدة طويلة لتناول العشاء، ولكن بن بلة بعد العشاء مباشرة حمل كرسيه وخرج إلى الفناء وجلس يفكر ثم نادى عليَّ: “أحضر كرسيا واجلس بجنبي”.
جلست بالقرب من بن بلة وأنا أصغي لما يريد أن يقوله بإمعان، فبادرني بقول فيه الكثير من التصميم:
ـ الجماعة هددوني في المؤتمر بتقديم استقالاتهم وأرادوا أن يفتحوا عليّ أزمة غداة المؤتمر، أما الآن فسأذهب وأطلب منهم تقديم استقالتهم.. وأروح إلى الإذاعة وأعلن الأمر.
أردت أن أهدئ من روعه وأقنعه بالتراجع عن قرار خطير مثل هذا والذي لن يجلب الخير للبلاد، فقلت له:
ـ لا داعي لمزيد من الأزمات، ضع لجنة مصغرة لحل الأزمة.
لكنه ردّ عليّ كمن حسم أمره ويريدني أن أسانده فيه فقال:
ـ كن إلى جنبي وخاطيك (ولا عليك).
ـ لا أريد أن تكون هناك أزمة.
عندما التقيت مع بومدين أخبرته أن “سي أحمد غضبان ويلوم عليكم”، وتجنبت إخباره بكامل الحقيقة حتى لا أزيد النار اشتعالا، لكن بومدين كان قد بلغه ما يخطط له بن بلة وأصبح هو الآخر يخطط لأمر جلل، فقد وصلته نتيجة الاستشارة لإطارات الدولة بشأن سياسة بن بلة الانفرادية.
بومدين: بن بلة سيزيحنا جميعا
عندما عدنا من جولتنا الخارجية إلى المعسكر الشرقي رويت لبومدين ما قاله لي بن بلة “الحمد لله عهد الموس ولى” وكيف رددت على كلمته الجارحة، فقال لي بومدين: “بن بلة سيزيحنا جميعا”، وبدا وكأن بومدين صار يتعمد جمع أخطاء بن بلة وترويجها في أوساط كبار الضباط، وأصبح أحمد مدغري وقايد أحمد يجتمعان عند بومدين وينتقدون سياسة بن بلة بأكثر جرأة، ورغم أن بوتفليقة كان يساند بومدين إلا أنه لم يكن يحضر هذه الاجتماعات.
من جهته شعر بن بلة أن الجيش أفلت من يده لصالح بومدين، وشكا ذلك لجمال عبد الناصر خلال زيارته للجزائر، معتبرا أن “بومدين يسيّر الجيش وكأنه ملك”، فرد عليه عبد الناصر مازحا “أنت لديك بومدين وأنا لدي عبد الحكيم عامر”، وكان هذا الأخير قائدا للجيش المصري برتبة مشير (ماريشال)، ووقعت بينه وبين عبد الناصر خلافات أدت إلى إقالة المشير عامر بعد تحميله مسؤولية هزيمة جوان 1967 ضد إسرائيل.
لم يبق أمام بن بلة من يناطحه على السلطة سوى حليفه بومدين وجماعة وجدة، لذلك سعى لاستقطابها لإضعاف بومدين لكنه لم يفلح في ذلك، فبوتفليقة ظل وفيا لبومدين وكذلك قايد أحمد ومدغري وشريف بلقاسم، لذلك سعى بن بلة لإقصاء الأطراف من أجل إضعاف المركز، وكان يجري كل هذا أمام ناظري بومدين الذي كان في أغلب الأحيان صامتا ويراقب الأمور بحذر، فكل طرف كان يعلم ما يدور بخلد الآخر من توجسات، وأصبح السؤال من يتغدى بالآخر أولا قبل أن يتعشى به؟ وهل سيظل بومدين صامتا إزاء محاولات بن بلة لإضعافه قبل التخلص منه؟
بن بلة ينتزع الخارجية من بوتفليقة
في الوقت الذي ذهب بومدين لوحده إلى القاهرة في ماي 1965 للإعداد لإنشاء المجلس العربي للدفاع المشترك طبقا لمقررات القمة العربية الأولى، استدعى بن بلة بوتفليقة بصفته وزيرا للخارجية وأبلغه قراره بإلغاء وزارة الخارجية وتحويله للعمل معه في الرئاسة وقال له “خلـِّي الوزارة وتعالى عندنا في الرئاسة”.
وجاء بوتفليقة إلى مكتبي في وزارة الدفاع محبطا وقلقا وأخبرني ماذا قال له بن بلة، فغضبت لهذا الأمر لأن بن بلة أصبح يعزل رجال بومدين الواحد تلو الآخر، فقلت لبوتفليقة: “بومدين ليس هنا ولم يترك لي النيابة، وأنت عضو في المكتب السياسي، لذلك إبقى في مكتبك وخلي بن بلة يأتي بالشرطة ليعزلك، وسأرسل تلغرافا لبومدين حتى يأتي للجزائر في الحال”، وبالفعل أرسلنا تلغرافا إلى بومدين حتى يعجل بالعودة إلى البلاد.
أصبح في حكم المؤكد أن بن بلة يريد أن “يزيحنا جميعا” كما قال بومدين، فحتى شريف بلقاسم وزير الإرشاد القومي قام بن بلة بتقليص صلاحياته وانتزاع قطاع الإعلام من وزارته وجعله من صلاحيات الرئيس، وقال لي بن بلة حينها إنه “سيعين عبد العزيز زرداني مديرا للإذاعة والتلفزيون”.
عند وصول بومدين إلى المطار قادما من القاهرة كنا جميعا في انتظاره، أي جميع الغاضبين على بن بلة: عبد العزيز بوتفليقة وأحمد مدغري وقايد أحمد وشريف بلقاسم وشابو وأنا، اجتمعنا لمناقشة الوضع، وكان قايد أحمد أكثر المنتقدين لبن بلة بينما ظل بومدين صامتا، والتحق بهذا الاجتماع كل من سعيد عبيد وعبد الرحمان بن سالم ومحمد الصالح يحياوي الذي كان غاضبا من بن بلة بعد أن قال له في أحد الاجتماعات وأمام الجميع “ماذا تفعل هنا؟”.
بومدين اقترح الاستقالة الجماعية
توجهت بعد هذا الاجتماع المستعجل إلى وزارة الدفاع في السيارة ولحق بي بومدين في سيارته وقال لي “بعد ساعة سيأتي الإخوة عندك لنتحدث عن الوضع”، وعلى الساعة الثامنة مساء جاءني إلى البيت كل من بومدين وبوتفليقة وقايد أحمد ومدغري وشريف بلقاسم.
وتركز النقاش على انتقاد سياسة بن بلة في شتى المجالات، حيث اتهم بوتفليقة بن بلة بالتبذير والإسراف في التحضير للمؤتمر الآفروآسياوي الذي كان مقررا عقده في الجزائر في 22 جوان 1965 حيث تم تشييد فندق الأوراسي ذي الخمس نجوم، وقصر المؤتمرات بنادي الصنوبر واللذان كلفا الدولة ميزانية معتبرة، وتساءل بوتفليقة باستهجان “إلى أين نحن ذاهبون؟”.
شريف بلقاسم بدوره لم يرحم بن بلة بانتقاداته اللاذعة، لكن قايد أحمد كان أكثرهم انتقادا، وعلق قائلا “قدمنا له الحكم على طبق من ذهب ويريد منا أن نستقيل”، كان كل من شريف بلقاسم وقايد أحمد ومدغري يرغبون في الإطاحة ببن بلة دون أن يصرحوا بذلك لأنهم كانوا ينتظرون ما يقوله بومدين لأنه هو مفتاح الانقلاب مادام الجيش في يده، في حين بقيت صامتا أستمع لهذه الانتقادات، وحينها أخذ بومدين الكلمة وقال:
ـ هذا السيد يحب الجزائر يلبسها سروال وحدو، هيا نخويو البلاد ونخليوه على روحو.
وكان بومدين يقصد أن بن بلة يريد أن يحكم الجزائر لوحده وعلى مقاسه، واقترح أن نقدم استقالة جماعية من مناصب المسؤولية في الجيش وفي المكتب السياسي وتركه يواجه مشاكل البلاد ومحنها بمفرده.
ثم استدار بومدين نحوي وسألني ليخرجني من صمتي وليجس نبضي ويعرف ما يدور في خلدي:
ـ سي الطاهر ماذا عندك؟
فقلت له “لماذا نخويو البلاد؟” وأضفت “نخويو البلاد معناه نقدم استقالاتنا، والاستقالة يعني لا موقف” واقترحت عليه أن نوّسع الاستشارة إلى الإطارات السياسية والعسكرية بشأن سياسة بن بلة.
فوافقني بومدين الرأي وقال:
ـ عندك حق.. بعد خمسة أيام نلتقي عندي في البيت ونتكلم في الموضوع.
وقررنا استشارة قادة النواحي العسكرية وأعضاء المكتب السياسي وقال بومدين إنه “سيستشير محساس وبومعزة (وزيران وعضوان في المكتب السياسي)”، واجتمعنا مجددا في بيت بومدين لتدارس نتيجة الاستشارة وكان حاضرا معنا هذه المرة الطيبي العربي مدير الأمن الوطني والذي كان هو الآخر متعاطفا معنا.
وإلى حد هذه اللحظة لم تكن فكرة الانقلاب على بن بلة مطروحة أصلا، كما أنني لم أكن أعتبر نفسي إلى صف بومدين ضد بن بلة، بل كنت على الحياد وأسعى إلى تقريب وجهات النظر بين الطرفين وتطييب خواطرهم تجاه بعضهم البعض، إلا أنني كنت دوما أميل للجيش، فما كان يهمني أكثر هو وحدة الجيش ووحدة البلاد بغض النظر عن الأشخاص.
بن بلة يخطط لإقالة بومدين خلال القمة الآفرو آسياوية
كثرت الاجتماعات في بيت بومدين الواقع بشارع سويداني بوجمعة وكان بيتا صغيرا، وذات مرة دخل علينا الطيبي العربي مدير الأمن الوطني والذي كان بيته ملاصقا لبيت بومدين ولا يفصل بينهما سوى حائط، وقد أشركناه في اجتماعاتنا، وكنا نخشى أن يدخل بن بلة إلى بيت بومدين فجأة فيجدنا عنده فيرتاب في الأمر، لذلك قمنا فيما بعد بفتح باب في الحائط الذي يفصل المنزلين حتى يمكننا الاختباء فيه في حالة وجود أي زيارة مفاجئة لبن بلة أو رجاله لبيت بومدين لسبب أو لآخر.
وبلغَت بومدين معلومات مؤكدة أن بن بلة ينوي إقالة جميع الضباط والسياسيين الذين قدموا استقالاتهم في المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني، وسيعلن عن ذلك في الإذاعة ليلة انعقاد المؤتمر الآفرو ـ آسياوي الذي سيحضره عدد كبير من زعماء ورؤساء إفريقيا وآسيا مما سيجعل بومدين وجماعته مكبلين من القيام بأي ردة فعل في ظل هذا الظرف.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 6
الحلقة الرابعة
الحلقة الرابعة
ليلة القبض على الرئيس بن بلة
2011.09.24
بقلم الطاهر زبيري
كان هادئا وهو يعيش آخر لحظات حكمه كأول رئيس للجزائر
بعد أن تناول العقيد زبيري في الحلقة السابقة محاولات الرئيس بن بلة تقليص نفوذ ما يعرف بجماعة وجدة وعلى رأسهم العقيد بومدين، ستتناول هذه الحلقة كيف قام بومدين والعقيد زبيري ومن معهما بتنحية بن بله من الحكم لحظة بلحظة، شدوا أنفاسكم وتابعوا…
قادة الجيش يجمعون على إنهاء الحكم الفردي
تحول انتقاد سياسة بن بله إلى إجماع بضرورة الإطاحة به والقضاء على سياسة الحكم الفردي التي يتبناها، وذلك بعد جس النبض الذي قام به بومدين وجماعة وجدة للإطارات السياسية والعسكرية للدولة، وقبل أيام معدودة من انعقاد المؤتمر الآفرو آسيوي دخل ستتنا زائد كل من سعيد عبيد ويحياوي والعقيد عباس (6 + 3) دار بومدين، وعبر الباب السري ولجنا دار الطيبي العربي في غرفة سرية خاصة بهذه الاجتماعات، ولم تكن عائلة العربي تقيم في هذا البيت بعد تعيينه سفيرا في دولة في أمريكا اللاتينية.
اتفقنا في هذا الاجتماع على أن تكون ليلة 19 جوان 1965 تاريخا لإنهاء الحكم الفردي لبن بله، أي قبل ثلاثة أيام من انعقاد المؤتمر الآفرو آسيوي وقبل وصول الزعماء والرؤساء إلى الجزائر، ولكن بقي السؤال كيف نطيح به؟ وأين؟
طُرحت فكرة إلقاء القبض على بن بله عندما يذهب لوهران لمشاهدة مباراة ودية في كرة القدم بين الفريق الوطني الجزائري ونظيره البرازيلي الذي كان يلعب في صفوفه النجم “بيلي”، ولكن اعتقاله في مطار وهران من شأنه أن يخلق لنا مشاكل، لأننا خشينا أن يهجم الشعب علينا ويحبط العملية، خاصة وأن بن بله كان يتمتع بشعبية كبيرة، ولم نتفق في تحليلنا على تبني هذه الخطة في وهران، ولكن لم يكن أمامنا الكثير من الوقت لذلك اتفقنا على اعتقاله مباشرة من مقر إقامته في فيلا جولي.
خلافي مع بومدين حول كيفية العودة إلى الشرعية
النقطة الحساسة الأخرى التي حرصت على إثارتها في حينها، “كيف ومتى نعود إلى الشرعية بعد نجاح التصحيح الثوري الذي يعد في أصله خروجا عن الشرعية من الناحية الدستورية” لذلك قلت لبومدين ومن معنا في الاجتماع:
ـ نغير الوضع ولكننا غدا ـ لا قدر الله ـ قد لا نتفق، فهل سنبقى دائما داخل الأزمات؟ يجب تحديد الوقت لإعادة الشرعية للبلاد.
فردّ علي قايد أحمد “نعيدها بعد عام أو عامين”، لكن بومدين كان قاطعا في هذه المسألة “لا عام ولا عامين… لا يجب أن نضع أنفسنا في قالب ضيّق، فإذا ساعدتنا الظروف سنعيد الشرعية في أقرب وقت سواء عبر مؤتمر جبهة التحرير أو عبر الانتخابات”.
لم أكن مطمئنا لإجابة بومدين الذي رفض وضع أيّ رزنامة لإعادة الشرعية للبلاد، بل ترك الأمور يلفها الغموض بشأن هذه النقطة الحساسة، لأن مشكل الشرعية منذ الاستقلال بل حتى خلال الثورة كان أحد الأسباب الرئيسية للخلافات بين زعماء وقادة الجزائر، مما قد يعيدنا إلى نفس الصراعات والأزمات وهذا ما جعلني أقرر نزع يدي من مشروع هذا الانقلاب الذي تسوده الضبابية فقلت لهم بخيبة أمل:
ـ إذا كنا سندخل في أزمات وخلافات فيبدو لي أن الأفضل لي أن أعود إلى بيتي، وأنتم الله يهنيكم.
وهنا تدخل قايد أحمد وحاول إقناعي بالعدول على قراري وترك المسائل الخلافية تحل حسب الظروف وقال لي مترجيا “لماذا تنسحب الآن وقد بدأنا مع بعضنا البعض”، كما تدخل بومدين لتطميني وتهدئة هواجسي، خاصة وأنني كنت متخوفا من أن يأتي ذلك اليوم الذي قد نجد أنفسنا مكرهين على مواجهة بعضنا البعض، مثلما حدث لبن بله مع أصدقائه خاصة خيضر وبيطاط.
كنا نميل إلى إعادة الشرعية للبلاد عن طريق مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني أكثر من ميلنا للانتخابات العامة، لأننا كنا نعتبر أن بن بله نظم المؤتمر الرابع لحزب جبهة التحرير بمفرده ودون استشارة أحد، لذلك كان لابد لنا من إلغائه وإعادة تنظيمه من جديد.
النقطة الأخرى التي أثارت الخلاف بيني وبين بومدين اقتراحه بضم أحمد دراية ومحمود قنز وشريف مساعدية لمجلس الثورة لكني رفضت ذلك بشكل مطلق لأنني لم أكن أثق في ولائهم، بل هددت بالانسحاب إن تم ضمهم إلى القيادة، ونزل بومدين عند طلبي ولم يكن يسعى لإغضابي، خاصة وأنه يعلم وزني في الجيش وقدرتي على إفشال مخططه في أي لحظة.
خطة التصحيح الثوري
لم يعد أمامنا الكثير من الوقت، فالمؤتمر الآفرو آسيوي قد اقترب تاريخ انعقاده، وإن لم نسرع فسيطيح بن بله برؤوس ما يسمى بجماعة وجدة من قيادة الجيش والحزب ولا أحد يدري من سيكون الضحية الأخرى بعدهم.
كانت خطتنا على بساطتها تحتاج إلى رجال ثقاة وأخذ كل الاحتياطات لتجنب أي مفاجآت غير متوقعة، خاصة وأن بن بله إلى جانب كونه رئيسا للجمهورية ويتمتع بشعبية كان رجلا ذكيا ومقاتلا يجيد استعمال السلاح، وله رجال مسلحون يخضعون لسلطته المباشرة، بل شرع منذ شهور في تشكيل “ميليشيات” وضع على رأسها محمود قنز ونائبه قنان وساعده في تشكيلها الرائد علي منجلي، وكانت هذه الميليشيات تقلق بال بومدين كثيرا بل أكثر من أي شيء آخر لأنه كان يعتبرها تنظيما موازيا للجيش، لذلك سعى إلى تحييدها باستعمال دهائه السياسي واستقطاب محمود قنز إلى صفه وهو أحد الرجال الذين كان يعول عليهم بن بله لمواجهة بومدين.
بن بله كان يقيم في فيلا جولي بالطابق الخامس وتحرسه وحدات من الأمن الوطني التي لم نكن نثق في ولائها للجيش، لذلك كانت خطتنا وباقتراح من سعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى تعتمد على استبدال حرس بن بله بالطلبة الضباط المتدربين بالأكاديمية العسكرية بشرشال ليتم تأهيلهم ليكونوا قادة فيالق وكان من بينهم المرحوم العقيد علي تونسي المدير السابق للأمن الوطني على حد ما رواه لي شخصيا في مكتبه.
لكن كان لابد من الحصول على اللباس الخاص بوحدات الأمن الوطني حتى يرتديها ضباط الأكاديمية، لذلك وقبل يوم واحد على التصحيح الثوري استدعى بومدين أحمد دراية مسؤول وحدات الأمن الوطني وسأله بشكل صارم “أنت مع الجيش أو ضده”، فرد دراية بحزم “أكيد أنا مع الجيش”، فأخبره بومدين بقرار الجيش تنحية بن بله، وطلب منه التعاون معنا في مسألة تبديل الحراسة وتزويدهم باللباس الخاص بالوحدات الأمنية التي يقودها.
أخذ أحمد دراية في نفس اليوم (18 جوان 1965) ضباط الأكاديمية العسكرية بشرشال معه وأعطاهم ألبسة خاصة بوحدات الأمن الوطني، استعدادا لتغيير الحراسة على التاسعة ليلا بحرس ليسوا حقيقيين ولكنهم من رجال الجيش وليسوا من الأمن الوطني، فمن طبيعة أفراد الجيش أن يتضامنوا مع مؤسسة الجيش.
من جهة أخرى عقد بومدين اجتماعا مع قادة النواحي العسكرية قبل أقل من 24 ساعة من تنفيذ العملية، سعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى (البليدة)، الشاذلي بن جديد قائد الناحية العسكرية الثانية (وهران)، صالح السوفي قائد الناحية العسكرية الثالثة (بشار)، أما أحمد عبد الغني قائد الناحية العسكرية الخامسة (قسنطينة) فكنا نخشى من ولائه لبن بله فأرسلناه في مهمة إلى الصين وكوريا الشمالية لمدة شهر ولم يعد إلا بعدما كنا قد أنهينا كل شيء في غيابه.
وفي هذا الاجتماع وضع بومدين قادة النواحي العسكرية أمام حقيقة الوضع، فلم يلق منهم سوى الاستجابة، ولم يبق في الجيش أي ضابط سامي يقف ضد التصحيح الثوري وحتى وإن كان هناك ضباط وجنود يتعاطفون مع بن بله إلا أنهم كانوا أفرادا ولم يكن بإمكانهم القيام بأي شيء بعد أن اتفق كبار ضباط الجيش على تنحية بن بله من الحكم.
شهر من التحضيرات للتصحيح الثوري قد شارفت على الانتهاء، كنا ستة رجال فقط بومدين وأنا وبوتفليقة وشريف بلقاسم وقايد أحمد ومدغري، ولكننا وسعنا المجموعة إلى سعيد عبيد والعقيد عباس ومحمد صالح يحياوي والبقية تركناهم في المراحل التالية، ولم يعد يفصلنا عن الموعد الحاسم سوى 24 ساعة.
كان يوم 18 جوان 1965 طويلا وليله يكاد لا يعرف له نهاية، القلق كان يراودنا جميعا رغم محاولتنا إخفاءه، بعد هذه الليلة سيعاد كتابة التاريخ لنا أو علينا، لأن المنتصر هو عادة من يكتب هذا التاريخ، إذا نجحنا فقد ننهي زمن الحكم الفردي ونحيي القيادة الجماعية المبنية على التشاور وتقبل اختلاف الرأي، إن فشلنا ـ لا قدر الله ـ سيزداد تجبر “الزعيم” وستملأ السجون وتنصب المحاكم العرفية للإطاحة بالرؤوس المعارضة للحكم الفردي، ولن يقدر أحد بعد ذلك على تنحية الزعيم من السلطة إلا الموت، سيصبح حينها بن بله رئيسا للجزائر مدى الحياة.
ليلة القبض على بن بله
في ليلة 18 إلى 19 جوان كان بن بله قد ارتدى ملابس نومه وتمدد في سريره، لا أدري ماذا كان يشعر لحظتها لكن الأكيد أنه لم يكن يعلم أن أمرا جللا سيحدث بعد ساعات سيغير مسار حياته ويقلبها رأسا على عقب، كانت لحظات حاسمة في تاريخ الجزائر عندما تقدم ضباط الأكاديمية العسكرية بشرشال بلباس وحدات الأمن لاستلام مهام الحراسة على الساعة التاسعة ليلا بشكل طبيعي دون أن يثير ذلك شكوك الحرس الخاص لبن بله الذين عادوا إلى وحداتهم وبيوتهم ليخلدوا إلى الراحة.
الطلبة الضباط لأكاديمية شرشال ورغم المهمة التي أنيطت بهم إلا أنهم لم يكونوا إلى تلك اللحظة يعلمون بأنهم مكلفون بإنهاء حكم “الزعيم”، ولا شك أن فضولهم كان يدعوهم إلى التساؤل عن سر ارتدائهم للباس الأمن بدل لباسهم العسكري وفي مقر الرئاسة بالذات وفي جنح الليل.
وعلى الواحدة فجرا من صبيحة 19 جوان 1965 وصلت إلى فيلا جولي مرفوقا بالرائد محمد صالح يحياوي والرائد سعيد عبيد والرائد عبد الرحمان بن سالم ومعنا نحو عشرة جنود مدججين بالسلاح، وصعدنا الدرج بثبات إلى الطابق الخامس أين كان الرئيس أحمد بن بله نائما في غرفته.
كنت حينها أركز في المهمة التي أوكلت لي، ولم أكن أشعر بأي قلق حيال خطورتها لثقتي أن الجيش بجميع ضباطه الكبار بمن فيهم الضباط الفارين من الجيش الفرنسي كانوا يقفون إلى جانبنا رغم أني لم أكن أتصور من قبل أن يأتي اليوم وألقي فيه القبض على الرئيس أحمد بن بله بكل ما يمثله من رمزية سياسية وتاريخية وما يتمتع به من شعبية في الداخل والخارج.
كان الصعود إلى الطابق الخامس عبر الدرج وفي تلك اللحظات التاريخية والحاسمة طويلا ولكنه كان أكثر أمانا من المصعد، الذي لا يمكنه أن يحمل 14 رجلا معا مما يعني أن فينا من سيتخلف عن الجماعة، وفي لحظة ضعف أو تردد أي واحد فينا قد يفسد كل شيء، لذلك اخترت أن نصعد في كوكبة واحدة إلى الأعلى حتى نتفادى أسوأ الاحتمالات.
لحظتها تساءلت كيف ستكون ردة فعل الرئيس بن بلة عندما نطرق عليه الباب، هل سيفتحه أم أنه سيحتمي خلفه؟ كيف سنتصرف في حالة استطاع الفرار واللجوء إلى إحدى السفارات القريبة؟ لم يكن أمامنا حينها أي مجال للتردد، كنت مصرا على إنهاء حكم بن بله واعتقاله ولو اضطرني الأمر إلى كسر باب غرفة نومه، بل وحصار الحي الدبلوماسي واقتحام السفارات التي يمكن أن يكون قد لجأ إليها ولو أدى ذلك إلى كسر كل الأعراف الدبلوماسية وتحمل عواقب ذلك، فمهمتنا لم تكن تحتمل سوى النجاح ولا شيء غير النجاح، وإلا ستصبح رؤوسنا ثمنا لأي تردد.
وصلنا الطابق الخامس ودقت ساعة الحسم، فتقدمت من غرفة نوم الرئيس وطرقت بابه بثقة، ودون أن يفتحه صاح بن بله:
ـ اشكون (من)؟
فقلت له بحزم:
ـ سي أحمد.. أنت لم تبق رئيسا للجمهورية، وقد تشكل مجلس الثورة، وأنت تمشي معنا الآن في أمان الله.
تقدم بن بله من الباب وفتحه قليلا بحيث يراني ويرى من معي، وكان يرتدي لباس النوم ثم خاطبني قائلا:
ـ لو جئت وحدك مع السعيد عبيد لأتيت معكما أينما أردتما، فلماذا كل هذه الخوذات والأقنعة؟
ـ هذا من أجل الأمن، وأنت في أمان الله.
ـ سأرتدي ملابسي وآتيكم.
بعد لحظات خرج بن بله مرتديا سترة ذات لون بني فاتح وسروالا من القطيفة، ودون أن نلمسه أو نقيد يديه أو أن يبدي أدنى مقاومة نزل معنا في المصعد إلى الطابق الأرضي رفقة عدد من الضباط، وكلفت السعيد عبيد وأحمد دراية بأن يأتيا بسيارة عسكرية من نوع “لاندروفر” لنقل بن بله إلى المكان المحدد في الخطة، فنزلا رفقة بقية الجنود عبر الدرج.
ولكن الغريب أننا ونحن محيطين ببن بله بأسلحتنا وخوذاتنا لم ألمح في عينيه لا القلق ولا الفزع بل كان متينا وهادئا وهو يعيش آخر لحظات حكمه كأول رئيس للجمهورية الجزائرية المستقلة.
تأخر السعيد عبيد ودراية فأمرت بإحضار كرسي لمن كان قبل لحظات رئيسا للجمهورية، فجلس بن بله على الكرسي وحينها لفت وجوده انتباه طلبة الأكاديمية العسكرية بشرشال الذين أخذوا يقتربون منه بدافع الفضول للتأكد من إن كان هذا الجالس على الكرسي هو نفسه أحمد بن بله الذي شغل اسمه سماء الجزائر من أقصاها إلى أدناها.
خشيت أن يتمكن بن بله من انتزاع السلاح من أحد الضباط في غفلة منهم وهم يقتربون منه غير مستوعبين ما يحدث فصحت عليهم “إذهبوا بعيدا.. إذهبوا بعيدا.. لو يمسك رشاشا سيقتلنا جميعا”.
كنت أدرك جيدا القدرات القتالية التي يتمتع بها بن بله خاصة وأنه كان أحد المقاتلين المميزين في الحرب العالمية الثانية كيف لا وهو أحد أبطال معركة كاسينو بإيطاليا مما دفع الرئيس الفرنسي ديغول إلى تكريمه على بطولاته خلال الحرب ضد النازية، كما كان رياضيا مشهورا في فريق مرسيليا لكرة القدم، وبنيته العضلية سمحت له بالهروب من سجن البليدة خلال الاحتلال الفرنسي، كما نجا من محاولتي اغتيال نفذتهما ضده عصابة “اليد الحمراء” الفرنسية الإرهابية في مصر وليبيا، لذلك كنت حذرا أشد الحذر من هذا الرجل الذي لم أكن أحمل تجاهه أدنى ضغينة شخصية ولكنه ذهب بعيدا في سعيه للانفراد بالسلطة، واعتبار نفسه المؤسس الثاني للدولة الجزائرية بعد الأمير عبد القادر.
وصلت سيارة الجيب العسكرية فأركبنا بن بله بداخلها بعد أن قيدنا يديه بالأغلال نظرا لخطورته رغم كل الاحترام الذي أكنه لهذه الشخصية التاريخية التي ساهمت في هندسة الثورة الجزائرية إلا أن احتياطات الأمن كانت تفرض علينا عدم التهاون معه.
ركبت مع بن بله والحرس معنا لكي أضمن نجاح المهمة بنفسي وخاصة لأتأكد أن حياة بن بله لن تتعرض لأي مكروه رغم أن فكرة قتله ـ وللتاريخ ـ لم تبدر عن أي واحد من مخططي الإطاحة به، وشخصيا كنت دائما مقتنعا بأن التصفية الجسدية ليست أبدا الأسلوب الأنسب الذي يجب أن تحل به الخلافات السياسية.
وتوجهنا إلى أحد القصور بحيدرة وهناك وضعناه تحت الإقامة الجبرية وتولى السعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى وأحمد دراية مسؤول وحدات الأمن الوطني مهمة حراسته مع عدد هام من الجنود.
توجهت مباشرة إلى وزارة الدفاع أين كان بومدين يعيش تحت ضغط قاتل وهو يروح ويجيء لا يدري ماذا سيكون مصيره بعد هذه العملية الخطيرة، ولكني ما إن قابلته حتى طمأنته بقولي “العملية تمت بنجاح”، فتنفس الصعداء لكن القلق لم يبارحه فلم يكن يعلم كيف سيكون رد الشعب وأصدقاء بن بله في الداخل والخارج عندما يعلمون بإطاحتنا بنظام حكمه.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 7
الحلقة الخامسة
مشاركة الجيش الجزائري في حرب 1967 ضد إسرائيل
رغم حداثة استقلال الجزائر وكثرة مشاكلها الداخلية إلا أنها لم تتنصل يوما عن واجباتها تجاه الأمة العربية وبالأخص القضية الفلسطينية، وفي هذه الحلقة يبرز العقيد الطاهر زبيري الدور الذي لعبه الجيش الوطني الشعبي في أول مشاركة له في الحروب العربية الإسرائيلية في 1967.
عرفات يطلب دعمنا لتفجير الثورة الفلسطينية
جاء إلى الجزائر في أواخر جانفي 1964 وفد من الفلسطينيين يمثلون النواة الأساسية لما أصبح يعرف فيما بعد حركة التحرير الفلسطينية “فتح” التي أعلنت عن ميلادها الرسمي في الأول من جانفي 1965، وكانوا يسعون لتفجير ثورة فلسطينية مستقلة عن القيادتين المصرية والأردنية اللتين كانتا تسيّران قطاع غزة والضفة الغربية، وضم هذا الوفد كلا من ياسر عرفات المدعو أبو عمار (أصبح أول رئيس للسلطة الفلسطينية في التسعينات) ومعه خليل الوزير المدعو أبو جهاد (اغتيل في تونس في الثمانينات) بالإضافة إلى أحمد وافي المدعو أبو خليل.
ومكث القادة الفلسطينيون ثلاثة أشهر بالجزائر سعيا للحصول على دعم سياسي وعسكري جزائري لتفجير ثورتهم ولكن دون أن يجدوا أي سبيل للوصول إلى القيادة الجزائرية، خاصة وأن أسماءهم لم تكن معروفة لنا، فاتصل أبو جهاد بالمحامي الجزائري محمد مهري الذي كان أحد نشطاء الثورة التحريرية في الشرق الأوسط وقال له متذمرا:
ـ ثلاثة أشهر وأنا بالجزائر ولم أتمكن من لقاء أي مسؤول جزائري.
وأضاف مستعجلا: نريد تفجير ثورتنا.
فسأله محمد مهري: هل أستطيع أن أرى برنامجكم.
فرد أبو جهاد بالإيجاب: أنت واحد منا.
فرتب لهم محمد مهري لقاء معي، حيث كانت تجمعني بمهري صداقة قديمة، واجتمعنا حول طاولة عشاء وسألتهم خلالها عن مطالبهم.
فقال لي ياسر عرفات: نريد منكم السلاح وتدريب رجالنا على استعماله، ودعمنا بالأموال.
وافترقنا دون أن أعدهم بشيء ولكني قابلت بومدين وتحدثت معه في الأمر، فقال لي:
ـ ساعدهم.. ولكن إيّاك أن يسمع بن بله فهو صديق عبد الناصر.
وأعطيت الأوامر للنقيب عبد الرحمان بن عطية الذي كان مسؤولا عن مخازن السلاح في ليبيا وتونس ومصر والأردن وسوريا والتي كنا نملكها من أيام الثورة التحريرية بأن يسلم السلاح للقادة الفلسطينيين الجدد.
وتم تزويد الفلسطينيين بالسلاح الجزائري الذي كان موجها للمجاهدين الجزائريين في الداخل ولكن بعد طرد الاستعمار الفرنسي أصبح إخواننا الفلسطينيون أولى به منا في حربهم التحريرية ضد الصهاينة.
وبعد ثلاثة أشهر من موافقتنا على تسليح وتدريب جماعة أبو عمار أرسلوا إلينا 57 متطوعا فلسطينيا فأدخلتهم إلى الأكاديمية العسكرية بشرشال أين تلقوا تدريبا عسكريا، وهؤلاء الشباب كانوا من بين الذين فجروا الثورة الفلسطينية بعد أشهر من ذلك.
وفي 1966 زارني مجددا محمد مهري في مكتبي بقيادة الأركان ليبلغني طلبا من ياسر عرفات بتزويدهم بالسلاح الموجود في أحد المخازن بسوريا والذي كان تابعا للثورة الجزائرية، فطلبت منه أن يرسل لي طلبا مكتوبا في هذا الشأن ثم أعطيت أوامري للضابط عبد الرحمان بن عطية بتسليم كامل سلاح هذا المستودع إلى الثوار الفلسطينيين.
لقائي مع عبد الناصر قبيل حرب 1967
في عام 1967 ازداد التوتر بين القاهرة وتل أبيب، وأصبحت إسرائيل تهدد بشن حرب ضد بلدان الطوق خاصة مصر وسوريا، وردت مصر بتهديدات مماثلة، مؤكدة بأنها ستدخل الحرب إذا هاجمت إسرائيل سوريا، ولم تكن العلاقات الجزائرية المصرية في أحسن أحوالها بعد تنحية بن بله في جوان 1965، لكنها لم تكن سيئة لأن المواقف الجزائرية الداعمة للعرب وللقضية الفلسطينية لم تتغير.
وكان عبد العزيز بوتفليقة قد التقى مع جمال عبد الناصر في غانا على هامش إحدى القمم الإفريقية التي عقدت في 1967 على ما أذكر ولكن قبل زيارتي لمصر فسلم عليه وطمأنه على أحوال بن بله وشرح له أسباب ما وقع وقال له “سنصحح الطريقة التي عقد بها مؤتمر الحزب ونعيد انتخاب اللجنة المركزية لأن بن بله لم يشاورنا في عملية تحضيره”.
ورغم أن عبد الناصر لم يكن يخفي غضبه على بومدين وجماعتنا بعد الإطاحة ببن بله إلا أنه رد بدبلوماسية على بوتفليقة وقال له “نتمنى النجاح للجزائر وأن لا تدخل في مشاكل وأزمات”، وكان من حين إلى آخر يلتفت إلى الرئيس الأوغندي ويتكلم معه بالانجليزية رغم أنه يعلم أن بوتفليقة لا يجيد هذه اللغة.
في ظل الأجواء المتوترة في الشرق الأوسط والتي كانت تتجمع حولها سحب الحرب الداكنة طلب مني بومدين بصفته قائدا لمجلس الثورة أن أقوم بزيارة لكل من سوريا ومصر للتأكد من حقيقة الأوضاع وقال لي “إذهب إلى سوريا ومصر وتأكد ما إذا كانت المنطقة متجهة إلى الحرب أم أن الأمر مجرد كلام، وبلغ عبد الناصر والأتاسي تحياتي”.
توجهت إلى القاهرة في ماي 1967 أي قبل شهر من اندلاع الحرب رفقة الأمين العام لهيئة الأركان شريف مهدي، والرائد عبد اللاوي والرائد الهاشمي هجرس واستقبلنا في مطار القاهرة مسؤول المخابرات المصرية وعدد من الضباط السامين بالإضافة إلى الأخضر الإبراهيمي سفير الجزائر في مصر.
وفي مساء نفس اليوم استقبلنا جمال عبد الناصر بنوع من الفتور فلم يستطع أن ينسى بأننا أطحنا بصديقه بن بله من الحكم، وفي هذا اللقاء أبلغت عبد الناصر تحيات بومدين وقلت له “بومدين قلق من الوضع في الشرق الأوسط نظرا لوجود تصعيد في اللهجة بين مصر وإسرائيل، وكأن الحرب على وشك الوقوع خاصة بعد أن طلبتم من ”يوثانت” (الأمين العام للأمم المتحدة) بسحب القوات الأممية الفاصلة بين الجيشين”.
فرد عليّ عبد الناصر “نريد أن تكون أيدينا متحررة في حالة إذا هاجمنا اليهود فسندافع عن أنفسنا وسنرد عليهم بقوة”، وقبل أن يضيف شيئا آخر عن الوضع المتأزم في المنطقة راح يسألني عن صديقه بن بله، فطمأنته بأنه في صحة جيدة، وأنه مؤمّن في مكان محترم وليس موضوعا في السجن، وأوضحت له أن ما قمنا به ليس سوى تصحيح للثورة لأن بن بله كانت له مواقف انفرادية رغم وجود مكتب سياسي، كما أبديت له استياءنا من المظاهرات التي قامت ضدنا في القاهرة وتضامنا مع بن بله، دون أن أحمله المسؤولية مباشرة بالوقوف وراءها.
وكنوع من تبرئة الذمة قال لي عبد الناصر “أنت تعلم أن شعبنا متعاطف مع بن بله وكل الشعب مهتم كثيرا بالجزائر وحرب الجزائر.. وبن بله أحد مسؤولي الثورة وعاش معنا مدة ولم نكن نتمنى أن يحدث التغيير وتندلع الأزمات في الجزائر فهذا صدم الشعب المصري الذي يعيش كله على ضفاف النيل لذلك قامت المظاهرة بذلك الشكل”.
غير أنني كنت مهتما بمعرفة استعدادات المصريين لمواجهة اليهود أكثر من اهتمامي بالتعرف على موقف عبد الناصر من الانقلاب على بن بله والذي مر عليه عامان، لذلك عدت إلى صلب الموضوع وسألت عبد الناصر:
ـ هل أنتم مستعدون للحرب؟ وهذا التهديد أين سيصل؟
ـ نحن مستعدون للدفاع عن أنفسنا وردعهم إذا هاجمونا، وستطّلع على استعدادتنا للحرب في الجولة التي سيرافقك فيها المشير عبد الحكيم عامر إلى بعض وحداتنا العسكرية.
ثم أضاف عبد الناصر مستدركا:
ـ لدينا نقص في الطائرات المقاتلة، فهل لديكم طائرات سوخوي؟
كنت أعلم أن عبد الناصر كانت لديه المعلومات الكافية عن صفقات السلاح التي عقدتها الجزائر مع الاتحاد السوفياتي، بل إن بعض الصفقات السرية التي عقدناها مع السوفيات كانت تصلنا عبر مصر حتى لا يؤثر ذلك على علاقات موسكو مع باريس التي كانت تربطهم معها علاقات طيبة رغم انتمائها للمعسكر الغربي.
وقد حصلنا على طائرات سوخوي التي كانت حينها من آخر طراز لدى السوفيات ولديها قدرات قتالية عالية سواء كمطاردة أو كمقنبلة، وكانت هذه أول دفعة تصل الجزائر من الطائرات السوفياتية إذا استثنينا الطائرات التي أرسلها لنا عبد الناصر في 1963 خلال حرب الرمال، وقد أجبت عبد الناصر على سؤاله بالقول:
ـ لقد اشترينا دفعة من طائرات سوخوي لكن لم تصلنا كلها.
ـ إذا كان طياروكم لم يستكملوا تدريباتهم بعد فلدينا طيارين جاهزين لقيادة هذه الطائرات.
ـ سأبلغ بومدين بالأمر.
ـ أتمنى أن تكون الجزائر مستقرة وأن تتمكنوا من بناء دولتكم، وتأكدوا بأن الاتصالات والعلاقات بين مصر والجزائر ستبقى مستمرة كما كانت عليه في السابق.
ثم طلب منا عبد الناصر التوجه إلى وزارة الدفاع لمقابلة المشير عبد الحكيم عامر وزير الدفاع، وكانت الصحافة المصرية حاضرة بمقر الرئاسة وسألوني عن طبيعة هذه الزيارة فأجبتهم بأنني “مبعوث رئيس مجلس الثورة هواري بومدين لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر في ظل التصعيد والتهديدات الإسرائيلية وقرعها لطبول الحرب” وسألوني إن كانت الجزائر ستساعد مصر فأكدت لهم “أن الجزائر ستقف بالطبع إلى جانب مصر التي ساعدتنا خلال حرب التحرير ونحن نعرف ضغوطات الغرب على مصر وسنساعدها بما نستطيع لأننا مازلنا دولة ناشئة وقد خرجنا حديثا من حرب التحرير، وجيشنا في طور البناء والتكوين”.
كان هذا أول حديث رسمي أجريه مع جمال عبد الناصر الذي أحببته منذ كنت شابا في حزب الشعب ومجاهدا وضابطا في جيش التحرير بصفته قائدا وزعيما ليس في مصر فقط بل في العالم العربي برمته، وإن كنت قد التقيته من قبل خلال زيارته للجزائر في 1963 حيث أرسل لي بعد عودته للقاهرة “وسام شرف” عندما كنت قائدا للناحية العسكرية الخامسة، كما قابلته خلال زيارة بن بله للقاهرة في 1964، أما بومدين فهو الآخر كان يكن احتراما كبيرا لعبد الناصر بالرغم من موقفه المتعاطف مع بن بله.
توجهنا إلى وزارة الدفاع المصرية أين وجدنا المشير عبد الحكيم عامر في استقبالنا رفقة عدد من الضباط السامين وتم استعراض أفواج مختلفة من الجيش المصري أمامنا، ومن خلال حديثي مع المشير عامر تأكدت أن المنطقة متوجهة نحو الحرب وهو ما أكده لي وزير الدفاع المصري بنفسه حينما قال لي ”نحن مستعدون للحرب فاليهود مستمرون في تحرشاتهم بنا لذلك نحن في طريقنا إلى الحرب”.
ولم يعد الأمر سوى مجرد وقت فقط، فأجواء الاستعداد للحرب كانت ترتسم على وجوه الضباط المصريين بالرغم من الابتسامات وروح الدعابة التي حاولوا إضفاءها على لقاءاتنا بهم.
مصر تطلب دعمنا بالطائرات الحربية
وطلب مني المشير عامر دعم الجيش المصري بالطائرات الحربية من نوع سوخوي التي لدينا، ثم سألني إن كانت لدينا غواصات، وكان الاتحاد السوفياتي قد زودنا حينها بثلاث غواصات حربية لكنها كانت في مرحلة التجريب ولم تدخل الخدمة بعد، وتفاجأت لدقة المعلومات المصرية حول نوعية الأسلحة التي يمتلكها الجيش الجزائري التي كانت في معظمها من الاتحاد السوفياتي، إلى درجة أنه حتى ولو وصلنا مسدس من موسكو إلا وكانوا على علم به، لذلك وضعونا أمام الأمر الواقع.
كانت الجزائر على أهبة الاستعداد لدخول أول حرب خارج حدودها الإقليمية ورغم أن الجيش الجزائري لم يكن في تمام جاهزيته القتالية بسبب حداثة الاستقلال الذي لم يمر عليه سوى خمس سنوات، كما أن قواتنا الجوية والبحرية كانت في مرحلة التشكل، وقوتنا كانت تكمن في طبيعة المقاتل الجزائري الذي صقلته حرب التحرير بكفاءة عالية، لذلك كنا مستعدين لتزويد مصر بعدد من فيالق المشاة والفيالق الميكانيكية، لكن المصريين كانوا بحاجة أكثر إلى طائرات سوخوي وإلى الغواصات فقواتهم البرية كانت قوية ومزودة بالدبابات والمدافع والصواريخ لكن نقطة ضعفهم كانت في سلاح الجو مما خلق عدم توازن بينهم وبين القوات الجوية الإسرائيلية.
لم يكن سلاح الجو الجزائري في عام 1967 يملك سوى سرب من طائرات سوخوي الحديثة لم يتجاوز عددها 5 طائرات مطاردة، أما طائرات ميغ فكنا نملك منها عددا أكبر، ربما نحو 15 طائرة من نوع ميغ ولكنها من الطراز القديم وكنا نستعملها لتدريب طيارينا، حيث أرسلنا بعضهم إلى الاتحاد السوفياتي للتدريب ثم عادوا رفقة مدربين سوفيات لاستكمال تدريباتهم في الجزائر.
أنهيت زيارتي إلى مصر وكان في وداعي المشير عبد الحكيم عامر الذي طلب مني تبليغ سلامه إلى بومدين وقال لي “لا تخافوا علينا فنحن مستعدون للحرب”، وتوجهت بالطائرة مباشرة إلى دمشق وكان في توديعي سفيرنا في القاهرة الأخضر الإبراهيمي.
جولة دمشقية بنكهة عسكرية
بعد فشل الوحدة مع مصر في النصف الأول من الستينات دخلت سوريا في سلسلة من الانقلابات العسكرية، ووضعها الداخلي لم يكن مستقرا وكانت تواجه على الصعيد الخارجي تهديدات الصهاينة بمهاجمتها حيث تم حشد قوات بالقرب من هضبة الجولان مما جعل عبد الناصر يهدد بدخول الحرب إذا ما هاجم اليهود سوريا.
وصلت إلى دمشق واستقبلني في القصر الرئاسي الرئيس الأتاسي ومجموعة من الضباط السامين على رأسهم وزير الدفاع حافظ الأسد الذي أصبح فيما بعد رئيسا للجمهورية، ومصطفى طلاس أصبح حاليا وزيرا للدفاع، والضابط السويدان.
سألت الرئيس الأتاسي عن الوضع على الجبهة السورية فقال لنا ”المصريون مستعدون للحرب، ونحن مستعدون أيضا، ويجب أن نتعاون وننسق جهودنا في الحرب”.
تناولنا العشاء في القصر الرئاسي، وبعدها جلسنا نتحدث في شؤون السياسة والحرب وأخبرنا الرئيس الأتاسي والضباط السامين الذين من حوله بأننا في مرحلة تنظيم الجيش وإعادة تأطيره، وكان هذا اللقاء فرصة لتوضيح الأمر بشأن أسباب تنحيتنا لبن بله الذي كان يحظى بشعبية كبيرة في بلدان الشرق الأوسط، لكن الإخوة السوريين لم يريدوا إحراجنا في هذا الأمر أو مضايقتنا بأي شكل من الأشكال في ما يتعلق بالشؤون الداخلية للجزائر.
وفي هذه الأثناء جذبني حافظ الأسد بلطف وهمس في أذني قائلا ”حبذا لو تذهب معنا في السيارة لمشاهدة دمشق”، ولم أجد مانعا في الأمر فأجبته: ”بكل سرور”.
ركبت سيارة مدنية إلى جانب حافظ الأسد الذي تولى قيادتها في حين جلس كل من مصطفى طلاس (وزير الدفاع السوري حاليا) وأحمد السويداني والرائد شهاب في الخلف، واستمتعنا في هذه الجولة بزيارة الشوارع والحارات الدمشقية الزاخرة بعبق الشرق الخالد، واستغل حافظ الأسد هذه الجولة ليحدثني في مسألة قال بأنها ”سرية” وسألني إن كان لدينا طائرات سوخوي وثلاث غواصات لدعمهم بها في حالة وقوع الحرب، فقلت له ”سأبلغ بومدين بهذا الطلب”.
على قمة الجولان
في صباح الغد أخذنا وفد عسكري سوري إلى أعلى مكان في هضبة الجولان ذات الموقع الاستراتيجي الهام والمطلة على بحيرة طبرية أين يتراءى من بعيد أفراد الجيش الإسرائيلي، ولكننا خلال تجوالنا للمواقع المتقدمة للجيش السوري المرابط على أعالي الهضبة لاحظنا نقص المدافع والصواريخ المضادة للطيران فلم أرمق سوى ثلاث مدافع مضادة للطيران، كما أن الخنادق على طول الجبهة مع العدو لم تكن كثيرة، مما يوحي بأن الجبهة السورية لم تكن على قدر كاف من الاستعداد للحرب، فضلا عن أن الطريق الرابط بين دمشق والجولان كان يشهد ازدحاما مروريا ملفتا للانتباه.
رئيس الوزراء السوري إبراهيم زعيل الذي رافقنا في هذه الجولة إلى جانب سفيرنا في دمشق عبد الكريم بن محمود، أكد لنا أن “كل الأماكن مهيأة للدفاع وصد أي هجوم لليهود”، وفهمنا بأن السوريين كانوا ينوون الهجوم على اليهود انطلاقا من الجولان.
من أعلى الهضبة كنا نشاهد حركة قليلة للجيش الإسرائيلي ولم تكن تظهر أي حشود عسكرية على الجبهة السورية، وكنا نعتقد أن القوات الإسرائيلية الرئيسية متجمعة في قواعد خلفية غير بعيدة عن الجبهة استعدادا للهجوم على سوريا، لم أكن مقتنعا بالاستعدادات السورية للحرب إلا إذا كانت لهم قوات خلفية لم نتمكن من الاطلاع عليها.
وخلال لقائي مع بومدين قدمت عرض حال عن زيارتي لكل من مصر وسوريا، وأشرت إلى أن المصريين لم يأخذوني إلى الجبهة للاطلاع على الأوضاع هناك، أما بالنسبة للسوريين فأخبرته أنني لاحظت اختناق حركة المرور على الطريق الرابط بين دمشق والجولان.
بعد هذا الاجتماع الثنائي مع بومدين تم استدعاء مجلس الثورة وتم عرض حال الوضع في الشرق الأوسط، وطلبات كل من مصر وسوريا لمساعدتهم بطائرات حربية وغواصات قتالية، واتفقنا خلال هذا الاجتماع على مساعدة إخواننا العرب في حربهم المتوقعة ضد اليهود.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
عاد الكولونيل الطاهر الزبيري في مذكراته الصادرة عن مؤسسة “الشروق” بتفاصيل تنشر للمرة الأولى حول عائلة لعروسي خليفة والد عبد المؤمن خليفة، ليكشف بدقة أصول العائلة والمهام الكبيرة والمناصب الهامة التي تقلدها الرقم الثاني في جهاز الاستخبارات الجزائري قبل الاستقلال.
وكشف الزبيري في مذكراته المثيرة للجدل، أن أصول عائلة خليفة لعروسي تعود إلى ولاية الوادي، مضيفا أنه ابن شقيق الشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة أحد أعضاء جمعية العلماء المسلمين، مضيفا أن عائلة خليفة عاشت لفترة من الزمن في مدينة عين البيضاء بأم البواقي أين ولد خليفة لعروسي في 28 أكتوبر سنة 1917 وكان من المحظوظين في ذلك الوقت، حيث وصل إلى مستوى تعليمي محترم وتخرج حاملا معه شهادة في الفلاحة، خاصة وأنه كان يجيد الفرنسية والعربية معا، ولذلك عينته الإدارة الاستعمارية رئيس دائرة بفرنسا وهناك تزوج بامرأة فرنسية وأنجب منها طفلين.
بعد اندلاع ثورة التحرير التحق لعروسي خليفة سنة 1955 بثورة التحرير بالولاية الخامسة التاريخية أين أصبح أكثر الشخصيات قربا من عبد الحفيظ بوصوف، ليؤسسا أول جهاز استخبارات جزائري خلال الثورة التحريرية بالمملكة المغربية مع مجموعة الشباب الجزائري ومنهم أبناء موظفين من أصل جزائري في المغرب.
وبعدها تم تعيين خليفة لعروسي أمينا عاما لوزارة التسليح والاتصالات(MALG) ومدير مدرسة الإطارات، حيث تمت الاستفادة من خبرته كأول جزائري يصبح رئيس دائرة بفرنسا.
سنة 1958 أصبح خليفة لعروسي رئيسا لديوان عبد الحفيظ بوصوف ومديرا لمدرسة إطارات وزارة التسليح والاتصالات، وفي سنة 1961 اتهم بوصوف زوجة خليفة لعروسي وهي فرنسية بتهمة الجوسسة لصالح فرنسا، وقام خليفة لعروسي بتطليقها سنة1961 وترك أيضا صديقه عبد الحفيظ بوصوف ليلتحق بمحمد بوخروبة (هواري بومدين) بوجدة، ليسانده خلال أزمة صائفة 1962 .
وقال الزبيري، إن خليفة لعروسي كان يتمتع بثقافة واسعة وانضباط تنظيم دقيق وكان “رمزا للإداري الذي يتلقى الأوامر ويبلغها”، وسنة 1965 وقف خليفة لعروسي مع بومدين في انقلابه العسكري على بن بلة، مضيفا أن لعروسي وقف معه في محاولة الانقلاب على بومدين في 14 ديسمبر 1967واعتقل واتهم بالمشاركة في الحركة، وحكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات ولكن أطلق سراحه بعد سنة واحدة قضاها في السجن.
بعد الاستقلال تم تعيين خليفة لعروسي نائبا في أول برلمان للجزائر المستقلة ثم وزيرا للتصنيع والطاقة، ثم سفيرا للجزائر بلندن، ثم مديرا عاما لشركة الخطوط الجوية الجزائرية في سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يتم تعيينه ممثلا للجزائر في مجلس الأمن والسلم المقرب من الكتلة الشرقية في فترة عرفت تصاعد الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وساعده منصبه ذلك في تأليف كتابين في هذا الشأن وقامت زوجته شخصيا بتصفيف الكتابين بالآلة الراقنة وكانت خير عون له عند نشرهما، وبعدها تفرغ للحياة العلمية ودرس الصيدلة بجامعة الجزائر ليفتح بعد تخرجه صيدليته الخاصة ومخبرا صغيرا للأدوية بمساعدة زوجته والتي كانت تشرف أحيانا على صندوق المال إلى غاية وفاته يوم 1 سبتمبر 1990 .
وكشف الزبيري، أن لعروسي خليفة قرر الزواج بعد الاستقلال مجددا، وطلب من الشيخ عبد الرحمان شيبان (رحمه الله) أن يخطب له بنتا، وكان بالفعل أن خطب له بنتا من عائلة “كباش” المعروفة بولاية بجاية، وتزوجها وهي التي أنجبت ثلاثة أبناء منهم، عبد المؤمن الذي أصبح أصغر رئيس لأكبر إمبراطورية اقتصادية ومالية في تاريخ الجزائر المستقلة والمطارد اليوم في بريطانيا.
وقال الزبيري، إن لعروسي كان صديقا مقربا منه وكان يتبادل معه الزيارات العائلية، مضيفا أن وضعه المالي كان محدودا عند وفاته، حيث واصل ابنه عبد المؤمن العمل بالصيدلية بعد وفاة والده، مضيفا أنه لم يتعرف عليه ولم يلتقه بعد وفاة والده، إلى أن أسس إمبراطورية ضخمة في ظروف غامضة سرعان ما انهارت سنة 2003 .
***************************************
بقلم الطاهر زبيري
الحلقة السادسة:
في الحلقة السابقة تحدث العقيد زبيري عن دوره في تأسيس حركة فتح الفلسطينية وتزويده بالسلاح وتدريب رجالها، كما تناول تفاصيل زيارته لكل من مصر وسوريا بأمر من بومدين لاستطلاع حقيقة الوضع ميدانيا وما إذا كانت هناك حرب توشك على الاندلاع في الشرق الأوسط، أم أن ما يحدث مجرد تهديدات للاستهلاك الإعلامي، وفي هذه الحلقة سيتناول زبيري تفاصيل حرب 1967 مع إسرائيل ودور الجيش الجزائري في هذه الحرب وما بعدها خلال نفس العام.
اندلاع حرب جوان 1967
في الوقت الذي كانت مصر تعتقد أن القوة الرئيسية لجيش العدو تحشد على الجبهة السورية، كان الجيش الإسرائيلي يحضر نفسه لتوجيه ضربة شاملة لدول الطوق، مستغلا تفوقه الجوي وعدم استكمال بناء القوات المسلحة المصرية بعد العدوان الثلاثي في 1956 الذي وإن انتهى بانتصار دبلوماسي للقاهرة، إلا أنه استنزف قواتها المسلحة، كما أن سوريا كانت تعاني حينها من عدم استقرار داخلي في نظام الحكم بسبب الانقلابات العسكرية المتتالية في ظرف قصير، مما جعل استعداداتها للحرب أقل من المطلوب.
وفي هذه الظروف وجهت الطائرات الإسرائيلية ضربة شاملة لمعظم المطارات العسكرية في مصر ودمرت معظم طائراتها الحربية وهي رابضة على الأرض في اليوم الأول لحرب الستة أيام، حيث قامت الطائرات الإسرائيلية بخدعة ماكرة فبدل أن تهاجم المطارات المصرية من الجهة الشرقية أين كانت الدفاعات المصرية بانتظارها هاجمتها من الخلف من الجهة الغربية.
أما على الجبهة السورية فتمكنت الطائرات الإسرائيلية ذات الصناعة الأمريكية والفرنسية من تحطيم معظم المقاتلات السورية في مواجهات جوية عنيفة، حيث كانت إسرائيل تملك أكثر الطائرات الأمريكية تطورا بالإضافة إلى 10 طائرات ميراج فرنسية الصنع كانت ضمن الترسانة المتطورة للقوات الجوية الإسرائيلية في الوقت الذي كانت المقاتلات السورية السوفياتية الصنع أقل تطورا وأقل عددا، مما سهل إسقاطها وسمح للطائرات الإسرائيلية بالسيطرة على سماء المعركة.
وأصبحت القوات البرية المصرية والسورية والأردنية بدون غطاء جوي يحميها مما سهل على المقاتلات الحربية الإسرائيلية قنص الدبابات والآليات وتدمير قواعد ومراكز تجمع الجيوش العربية، مما سهل على القوات البرية الإسرائيلية الزحف لاحتلال الضفة الغربية التي كانت تابعة للأردن وقطاع غزة الذي كان تابعا للإدارة المصرية واحتلال صحراء سيناء والسيطرة على هضبة الجولان السورية ذات الموقع الاستراتيجي.
الجيش الجزائري يدخل الحرب ضد الإسرائيليين
بمجرد وصول خبر الهجوم الجوي الإسرائيلي على الجيوش العربية بعد أن أبلغنا به ملحقنا العسكري في القاهرة صالح بوبنيدر حتى قرر مجلس الثورة إرسال قوات جزائرية على جناح السرعة إلى ميدان المعركة، فلم نكن نحتمل أن تفوتنا فرصة المشاركة في هذه الحرب، وكان بومدين وعبد العزيز بوتفليقة أكثرنا تحمّسا لدخول المعركة وكأنهما كانا عربا أكثر من العرب أنفسهم.
إذ وصلت في اليوم الثاني من الحرب نحو 11 طائرة جزائرية من نوع ميغ إلى أحد المطارات المصرية التي لم تكن قد استهدفت بعد، وكانت هذه الطائرات الحربية هي كل ما تملكه الجزائر من أسطولها الجوي، وهذا للتأكيد على أن الجزائر قررت الدخول بكل ما تملكه من سلاح في هذه الحرب لمؤازرة إخوانها العرب، كأقل شيء تقدمه لهم بعد دعمهم الشجاع للثورة الجزائرية.
وقاد هذه المقاتلات طيارون جزائريون لم يكونوا قد استكملوا بعد تدريباتهم على القتال الجوي لكنهم لم تكن تنقصهم لا الإرادة ولا الحمية للدفاع عن الكرامة العربية، وكانت مصر في أمس الحاجة إلى هذه الطائرات بعد أن دمرت قواتها الجوية وأصبحت سماؤها مكشوفة، وقد أراد أحد الطيارين الجزائريين الانطلاق بطائرته الميغ لدك المواقع الإسرائيلية لكن المصريين رفضوا السماح له بدخول هذه المغامرة خاصة وأن الطيران الإسرائيلي قد أحكم سيطرته على سماء الحرب.
وحشد بومدين القوات الجزائرية المتوجهة إلى الجبهة في ثكنة عسكرية بزرالدة غربي العاصمة وخطب فيهم خطابا ناريا ألهب في نفوسهم حمية الحرب قال فيه “…العدو يتحرش بالجيوش العربية، وقد جعلوا إسرائيل خنجرا في قلب الأمة العربية.. وأنتم مجاهدون في سبيل القضية العربية، ومصر هي التي تحملت عبء الحرب وساعدتنا خلال ثورة التحرير..”.
كانت الروح المعنوية لمقاتلينا جد عالية، فقد كانوا يحترقون شوقا لمقاتلة الصهاينة، وينتظرون اللحظة التي يصلون فيها إلى ميادين الوغى حتى يمزقوا أعداءهم شر تمزيق، فانتصارنا على الجيش الفرنسي في حرب التحرير رغم قوته وجبروته أعطانا ثقة قوية بالنفس وبقي أن نبرهن على قوتنا خارج حدود أرضنا.
وتحركت القوات الجزائرية في الشاحنات العسكرية وهتافات الشعب الجزائري وزغاريد تشد أزرهم، فكلما مروا على مدينة أو قرية إلا واحتشد الناس لتحيتهم والدعاء لهم بالنصر، لقد كان حلم قهر اليهود وتحرير فلسطين يراودنا بعد أن أنهينا تحرير الجزائر، واجتازت القوات الجزائرية الحدود التونسية وبلغت الحدود الليبية في المساء وتوقفت هناك لتأخذ قسطا من الراحة وتتناول العشاء قبل أن تستكمل طريقها إلى مصر.
كما أرسلنا باخرة محملة بالأسلحة والذخائر الحربية ومواد التموين الضرورية للحرب، نقلت على ظهرها 30 دبابة وثلاثة فيالق، لكن هذه القوات لم تصل إلا بعد أسبوعين إلى خطوط المواجهة، وكانت الحرب حينها قد وضعت أوزارها، فلم يتحمل عبد الناصر مواصلة القتال بعد أن دمرت معظم قواته الجوية، وهو ما جعل في حلق جيشنا غصة لا تطاق، بعد أن حرمنا من المشاركة في هذه الحرب بشكل جدي، ونحن في ذروة الاستعداد لقتال اليهود.
تعيين بوحارة على رأس قواتنا في مصر
خلال اندلاع حرب جوان 1967 بالشرق الأوسط وقرار مجلس الثورة دخول الجزائر الحرب إلى جانب إخواننا العرب ضد إسرائيل، خشيت أن يتولى أحد الضباط الفارين من الجيش الفرنسي قيادة وحدات الجيش الجزائري على الجبهة المصرية، لذلك فكرت في اختيار أحد الضباط الميدانيين من قدماء جيش التحرير بحيث يكون ندّا للضباط الفارين من الجيش الفرنسي من حيث الكفاءة والشجاعة لقيادة الجيش في المعارك، فلم أجد أحسن من عبد الرزاق بوحارة (عضو مجلس الأمة حاليا) الذي يمتلك شخصية قيادية قوية ولديه ثقافة لا بأس بها.
لكن مشكلة بوحارة أنه لم يكن يحظ بثقة بومدين بسبب مواقفه السياسية داخل الجيش وانتقاده علانية منح مناصب قيادية للضباط الفارين من الجيش الفرنسي، وهو ما دفع بومدين إلى محاولة إبعاده عن الجيش من خلال تعيينه عضوا في المكتب العسكري التابع للملحق العسكري بالسفارة الجزائرية بفرنسا.
ولصعوبة إقناع بومدين باستدعاء بوحارة من باريس وتعيينه على رأس الوحدات القتالية على الجبهة المصرية ـ خاصة وأن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي لم يكونوا يحبذونه ـ استنجدت بسعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى (البليدة) لمساعدتي في هذه المهمة، وعندما قابلت بومدين واقترحت عليه بوحارة سكت ولم يقل شيئا، وبدا متحفظا عليه ومع ذلك لم يعترض على الأمر.
وبعد مدة وقّع شابو قرارا بتعيينه قائدا للفيالق الأربعة التي أرسلت كدفعة أولى إلى جبهة القتال، كما أرسلت وزارة الدفاع أحد الضباط الفارين من الجيش الفرنسي ويدعى الرائد زرقيني ـ وهو أعلى رتبة من بوحارة ـ ليكون ضمن الوحدات القتالية في مصر، وبهذه الطريقة سعى بومدين للموازنة بين قدماء ضباط جيش التحرير والضباط الفارين من الجيش الفرنسي.
الجزائريون يقنعون عبد الناصر بمواصلة الحرب
انتهت الحرب بشكل خاطف في ستة أيام بعد تدخل الأمم المتحدة وكلا من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، وكانت نكسة شديدة للعرب، بعد أن تمكنت إسرائيل من مضاعفة مساحة الأراضي التي احتلتها عام 1948 عدة مرات، زادت من غرور الإسرائيليين واستعلائهم على العرب.
وفي ذروة الإحساس بمرارة الهزيمة ظهر بومدين وخطب خطابه الشهير الذي حاول من خلاله أن يشحذ من جديد همم العرب لمواصلة قتال اليهود وقال كلمته المؤثرة »إن كنّا قد خسرنا المعركة فإننا لم نخسر الحرب«.
كانت هذه الكلمة بمثابة شعاع أمل ينبعث وسط سحب اليأس الداكنة، وبدأت الجزائر تعمل على هذا الأساس واتصل بومدين بالهاتف بعبد الناصر ليرفع معنوياته ولا يدعه يستسلم لليأس، كما تحركت الجزائر عربيا لإعادة تنظيم الصفوف استعدادا للمعركة القادمة، ودون أن تقصد ذلك خرجت الجزائر من عزلتها المفروضة عليها عربيا بشكل غير رسمي بعد تنحية بن بله، وأصبحت أكثر حضورا في القضايا العربية المصيرية.
فبعد وقف القتال أرسل بومدين بوتفليقة مع العقيد عباس لمقابلة جمال عبد الناصر الذي كان متأثرا كثيرا لفقدان الجيش المصري لطائراته الحربية فقال لهما:
ـ الإسرائيليون يريدون عبور قناة السويس واحتلال القاهرة.
فرد عليه العقيد عباس وهو يتقد حماسة
ـ اتركهم يحتلون القاهرة.. لكنهم لن يستطيعوا الصمود.
بعد هذا اللقاء زار بوتفليقة والعقيد عباس فيالق الجيش الجزائري الأربعة على الجبهة والتي كان يقودها عبد الرزاق بوحارة ومعه مجموعة من الضباط السامين مثل زرقيني والهاشمي هجرس وعبد المجيد شريف وبوزادة، وكانت هذه القوات مقسمة إلى مشاة مدفعية وقوات الدفاع الجوي عن الإقليم، وتركزت على الجهة الغربية لقناة السويس بالقرب من مدينة بور سعيد، وكانت هذه الفيالق الأربعة تمثل أقل من ثمن القوات الجزائرية التي كانت حينها تضم 30 فيلقا، وكنا نحضر لإرسال مزيد من الفيالق إلى الجبهة المصرية.
وبعد شهر من انتهاء الحرب توجهت إلى مصر لشد أزر إخواننا هناك ورفع معنوياتهم، فقد كانت الضربة الإسرائيلية شديدة على نفسيتهم وقاسية على كبريائهم، واستقبلني اللواء محمد فوزي مدير الكلية الحربية بالقاهرة رفقة بعض الضباط السامين، ودعاني للجلوس معه في مكتبه بالكلية، ولم يكن يستطيع إخفاء الإحباط عن وجهه، وبعد أن تأسف لما وقع في هذه الحرب، اعتبر أن ما حدث كان “خدعة قاسية تلقيناها” .
ورافقنا محمد فوزي إلى مواقع جيشنا على الجبهة أين استقبلنا قائد الفيالق عبد الرزاق بوحارة، وصعدت إلى مكان مرتفع حتى أتمكن من استطلاع مواقع الجيش الإسرائيلي على الضفة الغربية لقناة السويس بواسطة منظار، فرأيت خنادق محفورة، وبيوت مبنية لضباطهم، والمؤونة كانت تصلهم.
الحزن كان يسود الأمة المصرية قيادة وجيشا وشعبا، فليس من السهل أن تخسر كامل طائراتك الحربية في أقل من أسبوع، فلا يمكن دخول الحرب ضد إسرائيل بدون غطاء جوي، وإحساسا بالمسؤولية قرر الزعيم جمال عبد الناصر التنحي عن الحكم وتعيين نائبه محيي الدين زكريا ـ الذي كان يشغل أيضا منصب وزير الداخلية ـ رئيسا للجمهورية خلفا له، فخرج الشعب المصري عن بكرة أبيه في مظاهرات عارمة بالقاهرة يعلن تجديد ثقته في زعيمه رغم النكسة.
وحتى بعد وقف إطلاق النار إلا أن مناوشات كانت تجري بين الطرفين على ضفتي القناة، كما كان الطيران الإسرائيلي يقصف من حين لآخر مواقعنا وقد استشهد خلال الشهر الأول بعد اندلاع حرب الاستنزاف نحو 17 جنديا جزائريا، ولكننا لم نخسر أي طائرة مقاتلة على ما أذكر.
زيارتي الثالثة والأخيرة إلى الشرق الأوسط
بعد شهر من وقف إطلاق النار بدأ العرب يمتصون صدمة الهزيمة ويستعيدون توازنهم، وشرعوا في حرب استنزاف للعدو الإسرائيلي، وفي نفس الوقت إعادة بناء قواتهم المسلحة خاصة القوات الجوية التي كانت السبب الجوهري في خسارتنا للحرب، وكانت كل من الجزائر والعراق بمثابة عمق استراتيجي لكل من مصر وسوريا وهو ما شجع دول المواجهة على الصمود في وجه الغطرسة الصهيونية.
1 ـ مصر:
قمت بجولة ثالثة وأخيرة إلى منطقة الشرق الأوسط بصفتي قائدا للأركان لأبلغ القادة العرب رسالة بومدين بضرورة الاستعداد للمعركة القادمة، وكانت مصر أول محطة لي في هذه الجولة حيث قابلت المشير عبد الحكيم عامر وزير الدفاع الذي كان يتأسف للخدعة الإسرائيلية التي أدت إلى خسارة مصر لطائراتها الحربية، وخلال لقائي بالرئيس جمال عبد الناصر قال لي:
ـ انتظرناهم من الشرق فأتونا من الغرب.
2 ـ العراق:
محطتي الثانية في هذه الجولة كانت بغداد أين التقيت بالرئيس العراقي عبد السلام عارف الذي أكد لي على ضرورة التهيئة للمعركة القادمة التي ستكون شرسة، ولكنه تحدث عن إعادة تنظيم الجيوش وقال “الذي علينا سنقدمه وسنعده”.
وبلغت عبد السلام عارف رسالة شفوية من بومدين حول ضرورة الاستعداد للحرب، ورد عليّ “بلغ سلامي لبومدين” وشكر الجزائريين الذين شاركوا في الحرب رغم أن المعركة لم تدم طويلا وقال “حتى نحن بعثنا أسلحة إلى سوريا لكننا لم نصل إلى المعركة”.
3 ـ سوريا:
محطتي الثالثة كانت سوريا أين التقيت بوزير الدفاع حافظ الأسد (أصبح رئيسا للجمهورية بعد انقلابه الناجح على الرئيس الأتاسي في 1970) وتحدثت معه حول ضرورة الاستعداد للمعركة القادمة، وأن الجزائر مستعدة لتقديم المساعدة بالإمكانيات المطلوبة عندما تقررون ذلك وسنكون حينها جاهزين لذلك، وطلب مني حينها بتزويد الجيش السوري بالغواصات.
وقادنا الحديث خلال هذا اللقاء إلى مناقشة القضية الفلسطينية وسبل دعم حركة التحرير الفلسطينية “فتح” والتي كانت سوريا تحتضن بعض خلاياها، وأخبرني حافظ الأسد أنهم لا يسمحون للمقاومين الفلسطينيين بالقيام بأي عمليات فدائية ضد إسرائيل إلا بعلمهم، وأكد لي أنهم يراقبون تحركات الثوار الفلسطينيين الذين يحاولون إخفاء نشاطاتهم عنهم، معتبرا أن الثوار ينشطون على أرضهم لذلك لابد أن يكونوا على علم بكل حركاتهم وعملياتهم العسكرية ضد إسرائيل حتى يكونوا مستعدين ويقظين لأي ردة فعل إسرائيلية على هذه العمليات الفدائية.
وفي الوقت الذي دخلنا في حرب استنزاف مع العدو الإسرائيلي ونجحنا في شحذ همم القادة العرب للاستعداد للمعركة القادمة ووعدنا كل من مصر وسوريا بتزويدهم بأقصى ما نملك من السلاح والرجال كان الشرخ بيني وبين بومدين يزداد اتساعا، بسبب تكراره لنفس الخطأ الذي من أجله قمنا بتنحية بن بله، ووصلت الأزمة بيني وبينه إلى ذروتها قبيل نهاية هذه السنة.
وكشف الزبيري في مذكراته المثيرة للجدل، أن أصول عائلة خليفة لعروسي تعود إلى ولاية الوادي، مضيفا أنه ابن شقيق الشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة أحد أعضاء جمعية العلماء المسلمين، مضيفا أن عائلة خليفة عاشت لفترة من الزمن في مدينة عين البيضاء بأم البواقي أين ولد خليفة لعروسي في 28 أكتوبر سنة 1917 وكان من المحظوظين في ذلك الوقت، حيث وصل إلى مستوى تعليمي محترم وتخرج حاملا معه شهادة في الفلاحة، خاصة وأنه كان يجيد الفرنسية والعربية معا، ولذلك عينته الإدارة الاستعمارية رئيس دائرة بفرنسا وهناك تزوج بامرأة فرنسية وأنجب منها طفلين.
بعد اندلاع ثورة التحرير التحق لعروسي خليفة سنة 1955 بثورة التحرير بالولاية الخامسة التاريخية أين أصبح أكثر الشخصيات قربا من عبد الحفيظ بوصوف، ليؤسسا أول جهاز استخبارات جزائري خلال الثورة التحريرية بالمملكة المغربية مع مجموعة الشباب الجزائري ومنهم أبناء موظفين من أصل جزائري في المغرب.
وبعدها تم تعيين خليفة لعروسي أمينا عاما لوزارة التسليح والاتصالات(MALG) ومدير مدرسة الإطارات، حيث تمت الاستفادة من خبرته كأول جزائري يصبح رئيس دائرة بفرنسا.
سنة 1958 أصبح خليفة لعروسي رئيسا لديوان عبد الحفيظ بوصوف ومديرا لمدرسة إطارات وزارة التسليح والاتصالات، وفي سنة 1961 اتهم بوصوف زوجة خليفة لعروسي وهي فرنسية بتهمة الجوسسة لصالح فرنسا، وقام خليفة لعروسي بتطليقها سنة1961 وترك أيضا صديقه عبد الحفيظ بوصوف ليلتحق بمحمد بوخروبة (هواري بومدين) بوجدة، ليسانده خلال أزمة صائفة 1962 .
وقال الزبيري، إن خليفة لعروسي كان يتمتع بثقافة واسعة وانضباط تنظيم دقيق وكان “رمزا للإداري الذي يتلقى الأوامر ويبلغها”، وسنة 1965 وقف خليفة لعروسي مع بومدين في انقلابه العسكري على بن بلة، مضيفا أن لعروسي وقف معه في محاولة الانقلاب على بومدين في 14 ديسمبر 1967واعتقل واتهم بالمشاركة في الحركة، وحكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات ولكن أطلق سراحه بعد سنة واحدة قضاها في السجن.
بعد الاستقلال تم تعيين خليفة لعروسي نائبا في أول برلمان للجزائر المستقلة ثم وزيرا للتصنيع والطاقة، ثم سفيرا للجزائر بلندن، ثم مديرا عاما لشركة الخطوط الجوية الجزائرية في سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يتم تعيينه ممثلا للجزائر في مجلس الأمن والسلم المقرب من الكتلة الشرقية في فترة عرفت تصاعد الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وساعده منصبه ذلك في تأليف كتابين في هذا الشأن وقامت زوجته شخصيا بتصفيف الكتابين بالآلة الراقنة وكانت خير عون له عند نشرهما، وبعدها تفرغ للحياة العلمية ودرس الصيدلة بجامعة الجزائر ليفتح بعد تخرجه صيدليته الخاصة ومخبرا صغيرا للأدوية بمساعدة زوجته والتي كانت تشرف أحيانا على صندوق المال إلى غاية وفاته يوم 1 سبتمبر 1990 .
وكشف الزبيري، أن لعروسي خليفة قرر الزواج بعد الاستقلال مجددا، وطلب من الشيخ عبد الرحمان شيبان (رحمه الله) أن يخطب له بنتا، وكان بالفعل أن خطب له بنتا من عائلة “كباش” المعروفة بولاية بجاية، وتزوجها وهي التي أنجبت ثلاثة أبناء منهم، عبد المؤمن الذي أصبح أصغر رئيس لأكبر إمبراطورية اقتصادية ومالية في تاريخ الجزائر المستقلة والمطارد اليوم في بريطانيا.
وقال الزبيري، إن لعروسي كان صديقا مقربا منه وكان يتبادل معه الزيارات العائلية، مضيفا أن وضعه المالي كان محدودا عند وفاته، حيث واصل ابنه عبد المؤمن العمل بالصيدلية بعد وفاة والده، مضيفا أنه لم يتعرف عليه ولم يلتقه بعد وفاة والده، إلى أن أسس إمبراطورية ضخمة في ظروف غامضة سرعان ما انهارت سنة 2003 .
***************************************
بقلم الطاهر زبيري
الحلقة السادسة:
في الحلقة السابقة تحدث العقيد زبيري عن دوره في تأسيس حركة فتح الفلسطينية وتزويده بالسلاح وتدريب رجالها، كما تناول تفاصيل زيارته لكل من مصر وسوريا بأمر من بومدين لاستطلاع حقيقة الوضع ميدانيا وما إذا كانت هناك حرب توشك على الاندلاع في الشرق الأوسط، أم أن ما يحدث مجرد تهديدات للاستهلاك الإعلامي، وفي هذه الحلقة سيتناول زبيري تفاصيل حرب 1967 مع إسرائيل ودور الجيش الجزائري في هذه الحرب وما بعدها خلال نفس العام.
اندلاع حرب جوان 1967
في الوقت الذي كانت مصر تعتقد أن القوة الرئيسية لجيش العدو تحشد على الجبهة السورية، كان الجيش الإسرائيلي يحضر نفسه لتوجيه ضربة شاملة لدول الطوق، مستغلا تفوقه الجوي وعدم استكمال بناء القوات المسلحة المصرية بعد العدوان الثلاثي في 1956 الذي وإن انتهى بانتصار دبلوماسي للقاهرة، إلا أنه استنزف قواتها المسلحة، كما أن سوريا كانت تعاني حينها من عدم استقرار داخلي في نظام الحكم بسبب الانقلابات العسكرية المتتالية في ظرف قصير، مما جعل استعداداتها للحرب أقل من المطلوب.
وفي هذه الظروف وجهت الطائرات الإسرائيلية ضربة شاملة لمعظم المطارات العسكرية في مصر ودمرت معظم طائراتها الحربية وهي رابضة على الأرض في اليوم الأول لحرب الستة أيام، حيث قامت الطائرات الإسرائيلية بخدعة ماكرة فبدل أن تهاجم المطارات المصرية من الجهة الشرقية أين كانت الدفاعات المصرية بانتظارها هاجمتها من الخلف من الجهة الغربية.
أما على الجبهة السورية فتمكنت الطائرات الإسرائيلية ذات الصناعة الأمريكية والفرنسية من تحطيم معظم المقاتلات السورية في مواجهات جوية عنيفة، حيث كانت إسرائيل تملك أكثر الطائرات الأمريكية تطورا بالإضافة إلى 10 طائرات ميراج فرنسية الصنع كانت ضمن الترسانة المتطورة للقوات الجوية الإسرائيلية في الوقت الذي كانت المقاتلات السورية السوفياتية الصنع أقل تطورا وأقل عددا، مما سهل إسقاطها وسمح للطائرات الإسرائيلية بالسيطرة على سماء المعركة.
وأصبحت القوات البرية المصرية والسورية والأردنية بدون غطاء جوي يحميها مما سهل على المقاتلات الحربية الإسرائيلية قنص الدبابات والآليات وتدمير قواعد ومراكز تجمع الجيوش العربية، مما سهل على القوات البرية الإسرائيلية الزحف لاحتلال الضفة الغربية التي كانت تابعة للأردن وقطاع غزة الذي كان تابعا للإدارة المصرية واحتلال صحراء سيناء والسيطرة على هضبة الجولان السورية ذات الموقع الاستراتيجي.
الجيش الجزائري يدخل الحرب ضد الإسرائيليين
بمجرد وصول خبر الهجوم الجوي الإسرائيلي على الجيوش العربية بعد أن أبلغنا به ملحقنا العسكري في القاهرة صالح بوبنيدر حتى قرر مجلس الثورة إرسال قوات جزائرية على جناح السرعة إلى ميدان المعركة، فلم نكن نحتمل أن تفوتنا فرصة المشاركة في هذه الحرب، وكان بومدين وعبد العزيز بوتفليقة أكثرنا تحمّسا لدخول المعركة وكأنهما كانا عربا أكثر من العرب أنفسهم.
إذ وصلت في اليوم الثاني من الحرب نحو 11 طائرة جزائرية من نوع ميغ إلى أحد المطارات المصرية التي لم تكن قد استهدفت بعد، وكانت هذه الطائرات الحربية هي كل ما تملكه الجزائر من أسطولها الجوي، وهذا للتأكيد على أن الجزائر قررت الدخول بكل ما تملكه من سلاح في هذه الحرب لمؤازرة إخوانها العرب، كأقل شيء تقدمه لهم بعد دعمهم الشجاع للثورة الجزائرية.
وقاد هذه المقاتلات طيارون جزائريون لم يكونوا قد استكملوا بعد تدريباتهم على القتال الجوي لكنهم لم تكن تنقصهم لا الإرادة ولا الحمية للدفاع عن الكرامة العربية، وكانت مصر في أمس الحاجة إلى هذه الطائرات بعد أن دمرت قواتها الجوية وأصبحت سماؤها مكشوفة، وقد أراد أحد الطيارين الجزائريين الانطلاق بطائرته الميغ لدك المواقع الإسرائيلية لكن المصريين رفضوا السماح له بدخول هذه المغامرة خاصة وأن الطيران الإسرائيلي قد أحكم سيطرته على سماء الحرب.
وحشد بومدين القوات الجزائرية المتوجهة إلى الجبهة في ثكنة عسكرية بزرالدة غربي العاصمة وخطب فيهم خطابا ناريا ألهب في نفوسهم حمية الحرب قال فيه “…العدو يتحرش بالجيوش العربية، وقد جعلوا إسرائيل خنجرا في قلب الأمة العربية.. وأنتم مجاهدون في سبيل القضية العربية، ومصر هي التي تحملت عبء الحرب وساعدتنا خلال ثورة التحرير..”.
كانت الروح المعنوية لمقاتلينا جد عالية، فقد كانوا يحترقون شوقا لمقاتلة الصهاينة، وينتظرون اللحظة التي يصلون فيها إلى ميادين الوغى حتى يمزقوا أعداءهم شر تمزيق، فانتصارنا على الجيش الفرنسي في حرب التحرير رغم قوته وجبروته أعطانا ثقة قوية بالنفس وبقي أن نبرهن على قوتنا خارج حدود أرضنا.
وتحركت القوات الجزائرية في الشاحنات العسكرية وهتافات الشعب الجزائري وزغاريد تشد أزرهم، فكلما مروا على مدينة أو قرية إلا واحتشد الناس لتحيتهم والدعاء لهم بالنصر، لقد كان حلم قهر اليهود وتحرير فلسطين يراودنا بعد أن أنهينا تحرير الجزائر، واجتازت القوات الجزائرية الحدود التونسية وبلغت الحدود الليبية في المساء وتوقفت هناك لتأخذ قسطا من الراحة وتتناول العشاء قبل أن تستكمل طريقها إلى مصر.
كما أرسلنا باخرة محملة بالأسلحة والذخائر الحربية ومواد التموين الضرورية للحرب، نقلت على ظهرها 30 دبابة وثلاثة فيالق، لكن هذه القوات لم تصل إلا بعد أسبوعين إلى خطوط المواجهة، وكانت الحرب حينها قد وضعت أوزارها، فلم يتحمل عبد الناصر مواصلة القتال بعد أن دمرت معظم قواته الجوية، وهو ما جعل في حلق جيشنا غصة لا تطاق، بعد أن حرمنا من المشاركة في هذه الحرب بشكل جدي، ونحن في ذروة الاستعداد لقتال اليهود.
تعيين بوحارة على رأس قواتنا في مصر
خلال اندلاع حرب جوان 1967 بالشرق الأوسط وقرار مجلس الثورة دخول الجزائر الحرب إلى جانب إخواننا العرب ضد إسرائيل، خشيت أن يتولى أحد الضباط الفارين من الجيش الفرنسي قيادة وحدات الجيش الجزائري على الجبهة المصرية، لذلك فكرت في اختيار أحد الضباط الميدانيين من قدماء جيش التحرير بحيث يكون ندّا للضباط الفارين من الجيش الفرنسي من حيث الكفاءة والشجاعة لقيادة الجيش في المعارك، فلم أجد أحسن من عبد الرزاق بوحارة (عضو مجلس الأمة حاليا) الذي يمتلك شخصية قيادية قوية ولديه ثقافة لا بأس بها.
لكن مشكلة بوحارة أنه لم يكن يحظ بثقة بومدين بسبب مواقفه السياسية داخل الجيش وانتقاده علانية منح مناصب قيادية للضباط الفارين من الجيش الفرنسي، وهو ما دفع بومدين إلى محاولة إبعاده عن الجيش من خلال تعيينه عضوا في المكتب العسكري التابع للملحق العسكري بالسفارة الجزائرية بفرنسا.
ولصعوبة إقناع بومدين باستدعاء بوحارة من باريس وتعيينه على رأس الوحدات القتالية على الجبهة المصرية ـ خاصة وأن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي لم يكونوا يحبذونه ـ استنجدت بسعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى (البليدة) لمساعدتي في هذه المهمة، وعندما قابلت بومدين واقترحت عليه بوحارة سكت ولم يقل شيئا، وبدا متحفظا عليه ومع ذلك لم يعترض على الأمر.
وبعد مدة وقّع شابو قرارا بتعيينه قائدا للفيالق الأربعة التي أرسلت كدفعة أولى إلى جبهة القتال، كما أرسلت وزارة الدفاع أحد الضباط الفارين من الجيش الفرنسي ويدعى الرائد زرقيني ـ وهو أعلى رتبة من بوحارة ـ ليكون ضمن الوحدات القتالية في مصر، وبهذه الطريقة سعى بومدين للموازنة بين قدماء ضباط جيش التحرير والضباط الفارين من الجيش الفرنسي.
الجزائريون يقنعون عبد الناصر بمواصلة الحرب
انتهت الحرب بشكل خاطف في ستة أيام بعد تدخل الأمم المتحدة وكلا من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، وكانت نكسة شديدة للعرب، بعد أن تمكنت إسرائيل من مضاعفة مساحة الأراضي التي احتلتها عام 1948 عدة مرات، زادت من غرور الإسرائيليين واستعلائهم على العرب.
وفي ذروة الإحساس بمرارة الهزيمة ظهر بومدين وخطب خطابه الشهير الذي حاول من خلاله أن يشحذ من جديد همم العرب لمواصلة قتال اليهود وقال كلمته المؤثرة »إن كنّا قد خسرنا المعركة فإننا لم نخسر الحرب«.
كانت هذه الكلمة بمثابة شعاع أمل ينبعث وسط سحب اليأس الداكنة، وبدأت الجزائر تعمل على هذا الأساس واتصل بومدين بالهاتف بعبد الناصر ليرفع معنوياته ولا يدعه يستسلم لليأس، كما تحركت الجزائر عربيا لإعادة تنظيم الصفوف استعدادا للمعركة القادمة، ودون أن تقصد ذلك خرجت الجزائر من عزلتها المفروضة عليها عربيا بشكل غير رسمي بعد تنحية بن بله، وأصبحت أكثر حضورا في القضايا العربية المصيرية.
فبعد وقف القتال أرسل بومدين بوتفليقة مع العقيد عباس لمقابلة جمال عبد الناصر الذي كان متأثرا كثيرا لفقدان الجيش المصري لطائراته الحربية فقال لهما:
ـ الإسرائيليون يريدون عبور قناة السويس واحتلال القاهرة.
فرد عليه العقيد عباس وهو يتقد حماسة
ـ اتركهم يحتلون القاهرة.. لكنهم لن يستطيعوا الصمود.
بعد هذا اللقاء زار بوتفليقة والعقيد عباس فيالق الجيش الجزائري الأربعة على الجبهة والتي كان يقودها عبد الرزاق بوحارة ومعه مجموعة من الضباط السامين مثل زرقيني والهاشمي هجرس وعبد المجيد شريف وبوزادة، وكانت هذه القوات مقسمة إلى مشاة مدفعية وقوات الدفاع الجوي عن الإقليم، وتركزت على الجهة الغربية لقناة السويس بالقرب من مدينة بور سعيد، وكانت هذه الفيالق الأربعة تمثل أقل من ثمن القوات الجزائرية التي كانت حينها تضم 30 فيلقا، وكنا نحضر لإرسال مزيد من الفيالق إلى الجبهة المصرية.
وبعد شهر من انتهاء الحرب توجهت إلى مصر لشد أزر إخواننا هناك ورفع معنوياتهم، فقد كانت الضربة الإسرائيلية شديدة على نفسيتهم وقاسية على كبريائهم، واستقبلني اللواء محمد فوزي مدير الكلية الحربية بالقاهرة رفقة بعض الضباط السامين، ودعاني للجلوس معه في مكتبه بالكلية، ولم يكن يستطيع إخفاء الإحباط عن وجهه، وبعد أن تأسف لما وقع في هذه الحرب، اعتبر أن ما حدث كان “خدعة قاسية تلقيناها” .
ورافقنا محمد فوزي إلى مواقع جيشنا على الجبهة أين استقبلنا قائد الفيالق عبد الرزاق بوحارة، وصعدت إلى مكان مرتفع حتى أتمكن من استطلاع مواقع الجيش الإسرائيلي على الضفة الغربية لقناة السويس بواسطة منظار، فرأيت خنادق محفورة، وبيوت مبنية لضباطهم، والمؤونة كانت تصلهم.
الحزن كان يسود الأمة المصرية قيادة وجيشا وشعبا، فليس من السهل أن تخسر كامل طائراتك الحربية في أقل من أسبوع، فلا يمكن دخول الحرب ضد إسرائيل بدون غطاء جوي، وإحساسا بالمسؤولية قرر الزعيم جمال عبد الناصر التنحي عن الحكم وتعيين نائبه محيي الدين زكريا ـ الذي كان يشغل أيضا منصب وزير الداخلية ـ رئيسا للجمهورية خلفا له، فخرج الشعب المصري عن بكرة أبيه في مظاهرات عارمة بالقاهرة يعلن تجديد ثقته في زعيمه رغم النكسة.
وحتى بعد وقف إطلاق النار إلا أن مناوشات كانت تجري بين الطرفين على ضفتي القناة، كما كان الطيران الإسرائيلي يقصف من حين لآخر مواقعنا وقد استشهد خلال الشهر الأول بعد اندلاع حرب الاستنزاف نحو 17 جنديا جزائريا، ولكننا لم نخسر أي طائرة مقاتلة على ما أذكر.
زيارتي الثالثة والأخيرة إلى الشرق الأوسط
بعد شهر من وقف إطلاق النار بدأ العرب يمتصون صدمة الهزيمة ويستعيدون توازنهم، وشرعوا في حرب استنزاف للعدو الإسرائيلي، وفي نفس الوقت إعادة بناء قواتهم المسلحة خاصة القوات الجوية التي كانت السبب الجوهري في خسارتنا للحرب، وكانت كل من الجزائر والعراق بمثابة عمق استراتيجي لكل من مصر وسوريا وهو ما شجع دول المواجهة على الصمود في وجه الغطرسة الصهيونية.
1 ـ مصر:
قمت بجولة ثالثة وأخيرة إلى منطقة الشرق الأوسط بصفتي قائدا للأركان لأبلغ القادة العرب رسالة بومدين بضرورة الاستعداد للمعركة القادمة، وكانت مصر أول محطة لي في هذه الجولة حيث قابلت المشير عبد الحكيم عامر وزير الدفاع الذي كان يتأسف للخدعة الإسرائيلية التي أدت إلى خسارة مصر لطائراتها الحربية، وخلال لقائي بالرئيس جمال عبد الناصر قال لي:
ـ انتظرناهم من الشرق فأتونا من الغرب.
2 ـ العراق:
محطتي الثانية في هذه الجولة كانت بغداد أين التقيت بالرئيس العراقي عبد السلام عارف الذي أكد لي على ضرورة التهيئة للمعركة القادمة التي ستكون شرسة، ولكنه تحدث عن إعادة تنظيم الجيوش وقال “الذي علينا سنقدمه وسنعده”.
وبلغت عبد السلام عارف رسالة شفوية من بومدين حول ضرورة الاستعداد للحرب، ورد عليّ “بلغ سلامي لبومدين” وشكر الجزائريين الذين شاركوا في الحرب رغم أن المعركة لم تدم طويلا وقال “حتى نحن بعثنا أسلحة إلى سوريا لكننا لم نصل إلى المعركة”.
3 ـ سوريا:
محطتي الثالثة كانت سوريا أين التقيت بوزير الدفاع حافظ الأسد (أصبح رئيسا للجمهورية بعد انقلابه الناجح على الرئيس الأتاسي في 1970) وتحدثت معه حول ضرورة الاستعداد للمعركة القادمة، وأن الجزائر مستعدة لتقديم المساعدة بالإمكانيات المطلوبة عندما تقررون ذلك وسنكون حينها جاهزين لذلك، وطلب مني حينها بتزويد الجيش السوري بالغواصات.
وقادنا الحديث خلال هذا اللقاء إلى مناقشة القضية الفلسطينية وسبل دعم حركة التحرير الفلسطينية “فتح” والتي كانت سوريا تحتضن بعض خلاياها، وأخبرني حافظ الأسد أنهم لا يسمحون للمقاومين الفلسطينيين بالقيام بأي عمليات فدائية ضد إسرائيل إلا بعلمهم، وأكد لي أنهم يراقبون تحركات الثوار الفلسطينيين الذين يحاولون إخفاء نشاطاتهم عنهم، معتبرا أن الثوار ينشطون على أرضهم لذلك لابد أن يكونوا على علم بكل حركاتهم وعملياتهم العسكرية ضد إسرائيل حتى يكونوا مستعدين ويقظين لأي ردة فعل إسرائيلية على هذه العمليات الفدائية.
وفي الوقت الذي دخلنا في حرب استنزاف مع العدو الإسرائيلي ونجحنا في شحذ همم القادة العرب للاستعداد للمعركة القادمة ووعدنا كل من مصر وسوريا بتزويدهم بأقصى ما نملك من السلاح والرجال كان الشرخ بيني وبين بومدين يزداد اتساعا، بسبب تكراره لنفس الخطأ الذي من أجله قمنا بتنحية بن بله، ووصلت الأزمة بيني وبينه إلى ذروتها قبيل نهاية هذه السنة.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 9
بومدين قال لي: هذا الشعب كي الديس إذا رخفتلو يجرّحك
مشاكل المجاهدين لن تنتهي إلا بنهايتهم
بعد عقود من الانتظار آن للقراء الجزائريين وغيرهم أن يتعرّفوا على الأسباب الظاهرة والخفية التي دفعت العقيد الطاهر زبيري للقيام بعملية عسكرية لتقليص صلاحيات بومدين حسب قوله أو الانقلاب عليه كما هو متداول بين العام والخاص، وستشرع الشروق بدءاً من اليوم في نشر حلقات متسلسلة حول العملية العسكرية التي قادها العقيد زبيري ضد العقيد بومدين في 14 ديسمبر 1967.
بومدين يحاول إحداث التوازن داخل الجيش
عرف ما اصطلح عليهم بـ”الضباط الفارين من الجيش الفرنسي” الذين التحقوا بجيش التحرير بمستواهم العسكري الجيد، سواء من حيث التدريب أو الانضباط، لذلك أوكلت لهم مهمة تدريب مجاهدي جيش التحرير في مدارس عسكرية على الحدود التونسية والمغربية، لكنهم لم يكونوا يتمتعون بشعبية وسط المجاهدين بل كان ينظر إليهم بعين الريبة.
وسعى جيش التحرير خلال الثورة إلى استقطاب الضباط والجنود الجزائريين في الجيش الفرنسي إلى صفوفه بهدف زعزعة كيان الجيش الفرنسي وإرباك صفوفه، والاستفادة من السلاح الذي يفر به هؤلاء والذي كان المجاهدون في أمس الحاجة إليه، والهدف الثالث هو الاستفادة من خبرة هؤلاء في استعمال السلاح والتدريب العسكري.
ولتشجيع هؤلاء الضباط على الالتحاق بالثورة، كنا نعدهم برفع رتبهم العسكرية بدرجة واحدة عما منحتهم إياه فرنسا من رتب، ولم تكن فرنسا في الغالب تمنح الجزائريين رتبا عسكرية عالية.
وخلال قيادتي لأركان الجيش الوطني الشعبي (1963 ـ 1967) كان مجموع “الضباط الفارين من الجيش الفرنسي” بجميع رتبهم نحو 200 ضابط وضابط صف، لكن أبرز هؤلاء الضباط كان الرائد عبد القادر شابو الأمين العام لوزارة الدفاع والذي كان بمثابة مستشار لبومدين وصلاحياته الإدارية كانت تفوق صلاحياتي كقائد أركان، وهو الذي كان يوقع مراسيم تعيين الضباط وتحويلهم وترقيتهم، وكقائد أركان كنت أحتاج إلى توقيع شابو عندما أطلب أي تجهيزات أو تموين للجيش.
والحقيقة أن شابو كان يحترمني ولم يحدث طيلة قيادتي لأركان الجيش الوطني الشعبي أن اصطدمت معه أو حدث بيننا أي خلاف جدي، لكني كنت أرفض من حيث المبدأ أن يتولى “الضباط الفارون من الجيش الفرنسي” مناصب قيادية حساسة في الجيش، وكنت أرى أن دورهم يجب أن يقتصر على التدريب فقط وهذا ما كان يوافقني فيه بومدين مع معظم القادة السياسيين والعسكريين في الحزب وخاصة العقيد شعباني والرائد علي منجلي عضو قيادة الأركان العامة لجيش التحرير الذي كان أول من انتقد اعتماد جيش التحرير على الضباط الفارين من الجيش الفرنسي خلال اجتماع مجلس الثورة في 1960.
وسعى بومدين إلى إحداث التوازن بين »الضباط الفارين من الجيش الفرنسي« وقدماء ضباط جيش التحرير في المناصب والمسؤوليات، لكن شيئا فشيئا أصبحت الكفة تميل لصالح الضباط الفارين من الجيش الفرنسي الذين أصبحوا يستعرضون عضلاتهم بفضل مستواهم المعرفي الذي يفوق مستوى معظم قدماء ضباط جيش التحرير من أبناء الشعب الذين لم يخضعوا لتكوين عسكري بالمعنى الأكاديمي لانشغالهم بالجهاد والكفاح المسلح ضد الاحتلال الفرنسي خلال الثورة.
ولحسن الحظ تم تأطير الجيش وتوزيع الضباط وقادة الجيش على الوحدات قبل أن يتولى الضباط الفارون من الجيش الفرنسي مناصب قيادية ويتمكن شابو من الوصول إلى منصب رئيس ديوان وزارة الدفاع ثم أمينا عاما لها وهذا المنصب لم يكن موجودا في السنوات الأولى للاستقلال.
أصبحت وزارة الدفاع محاطة بعدد من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي البارزين أمثال الرائد محمد زرقيني الذي كان يتمتع بمستوى عالي ويتقن العربية والفرنسية ومعه كل من هوفمان وبوتلة، بالإضافة إلى ضباط آخرين أمثال عبد المجيد علاهم ومحمد علاهم والضابط مصطفى الذي كان مكلفا بالتدريب العسكري في مدرسة ضباط الصف بالبليدة وقبلها كان مكلفا بالتدريب في مدرسة عسكرية بقرن الحلفاية على الحدود التونسية الجزائرية خلال الثورة، إلا أن قادة النواحي العسكرية كانوا كلهم من قدماء ضباط جيش التحرير.
وبعد مرور عامين على تنحيتنا لبن بله، لاحظت على بومدين ثغرات في التسيير، أخطرها ضمه لديوانه بعض “الضباط الفارين من الجيش الفرنسي”، بل أكثر من ذلك فقد ترك لهم مهمة تنظيم الجيش، أما قدماء ضباط جيش التحرير فصار يبعدهم شيئا فشيئا عن المناصب القيادية داخل الجيش، على أساس أنهم قليلي الانضباط والطاعة على عكس الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، مما جعل علاقتي ببومدين تشهد فتورا متزايدا.
2 ـ مشاكل المجاهدين لا تجد طريقها للحل
في أوائل عام 1967 طرحت على بومدين مشكل المجاهدين وأسر الشهداء وضرورة التكفل بهم، فقد كانت أوضاع الكثير منهم صعبة وظروف عيشهم بائسة، وكانت تصلني الكثير من الشكاوى في هذا الشأن، ورغم أن بومدين كان يلقي خطابات مؤثرة على الشعب إلا أنه لم يفصل في كثير من القضايا، وترك حاشيته هي التي تتصرف.
لذلك اقترحت على بومدين تأسيس مجلس خاص لحل مشاكل المجاهدين، ونعتبر الجزائر “غنيمة حرب”، ونعيد توزيع الثروة بعدالة على المجاهدين والمسبلين والمناضلين والمخلصين من هذا الوطن، ونضع قائمة تحدد أسماء كل هؤلاء بدقة ووفق مقاييس محددة، ومن هذه القائمة نختار الإطارات التي تسير البلاد.
وكان الدكتور النقاش وزير المجاهدين والشؤون الاجتماعية قد أشار في أحد تقاريره إلى أن عدد الأسرى في السجون الاستعمارية كان كبيرا ومن الصعب التفريق بين المجاهدين والمناضلين وأن معظمهم يطالبون بالالتحاق بالجيش لأنهم لا يجدون ما يسد رمقهم، نظرا لانتشار البطالة بسبب عدم وجود فرص عمل، لذلك اقترح أن يقوم كل قطاع إداري بتوظيف 10 بالمئة من المجاهدين، أما معطوبو حرب التحرير العاجزون عن العمل فتقدم لهم منحة ليتقوتوا منها، إلا أن توصيات النقاش لم تطبق في الميدان.
ولذلك وضعت أمام بومدين اقتراحا آخر يتمثل في خلق كتابة دولة للمجاهدين تابعة لوزارة الدفاع باعتبارها الأقرب للمجاهدين حتى نتمكن من حل مشاكلهم الاجتماعية بأكثر فاعلية وقوة إلزامية، لكن بومدين كان يجيب على اقتراحاتي بشكل عام ولم يكن يبدي استعدادا لحل مشاكل المجاهدين بشكل جدي إلى أن صارحني يوما قائلا:
ـ سي الطاهر خليهم، هذوا ما تخلاصش مشاكلهم حتى يخلاصو.
بمعنى دعك من المجاهدين، فهؤلاء لن تنتهي مشاكلهم حتى يموتوا جميعا.
هذه الكلمة التي قالها بومدين صدمتني وأصابتني في الصميم، بل أحبطت معنوياتي، لأني كنت أنظر إلى المجاهدين كعائلة واحدة، ولا ينبغي أن نتخلى عن فئة منا ونتركها تموت جوعا وذلا في الوقت الذي يستولي الوصوليون بشكل عشوائي على الفيلات ومزارع التسيير الذاتي التي تركها المعمرون.
لم أكن أحتمل أن أرى المجاهدين وعائلاتهم يتجمعون في الساحات وأمام الهيئات الرسمية للاحتجاج على وضعيتهم الاجتماعية الصعبة، واعتبرت أن بومدين يتحمل هو وحاشيته جزءاً من معاناة هؤلاء المجاهدين، خاصة وأن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي كانت لهم نية لتصفية الجيش من بعض الإطارات من المجاهدين، خصوصا أولئك الذين قد يشكلون خطرا على تمدد نفوذهم في الجيش، من خلال اختلاق صعوبات لهم لدفعهم للخروج من الجيش كعدم إدراج بعضهم في قوائم الإطارات المستفيدة من دورات التدريب في الخارج، وعدم ترقيتهم أو عدم تكليفهم بمهام معينة بعد عودتهم من دورات التكوين في الخارج مثلما حدث مع مصطفى بلوصيف، ومن جهة أخرى كان يتم تسريحهم إراديا من خلال دفع 2 مليون سنتيم كتعويضات لكل من يقبل بمغادرة الجيش إراديا، وقد سعيت لإقناع ومساعدة الكثير من الضباط من قدماء جيش التحرير على عدم مغادرة صفوف الجيش، بالرغم من العراقيل والمثبطات بل وحتى التحفيزات لدفعهم للخروج من السلك العسكري.
كما عملت على محاربة عقلية التفريق بين جيش الخارج (جيش الحدود) وجيش الداخل (جيوش الولايات إبان الثورة)، فتوحيد الجيش وعدم التفريق بين جنوده وضباطه كان من الأهداف الأساسية التي سعيت لتحقيقها خلال قيادتي لأركان الجيش الذي أعتبره القوة الوحيدة التي استطاعت بناء الدولة الجزائرية على أسس متينة.
ولكني بحكم أني كنت ضمن جيش الداخل كما كنت ضمن جيش الخارج، أدرك جيدا أن معاناة جيش الداخل خلال الثورة كانت أكثر صعوبة من التحديات التي واجهها جيش الحدود، فأغلب من كان يخرج إلى تونس أو إلى المغرب لا يرجع إلى الداخل، لأنه يجد نفسه بعيدا عن عضات الجوع ولسعات البرد، إلا أنه وبعد الاستقلال سيطر جيش الحدود ـ الذي يضم في صفوفه الضباط الفارين من الجيش الفرنسي ـ على معظم المناصب الحساسة في الجيش الوطني الشعبي بدعم من بومدين الذي كان يرى في جيش الحدود أكثر ولاء لشخصه من جيش الداخل المقسم على عدة ولايات وعدة ولاءات، ولهذا تم التخلص بطريقة أو بأخرى من مجاهدي الداخل الذين لا يظهرون قدرا كافيا من الطاعة والولاء.
3 ـ عدم الرجوع للشرعية والعودة للحكم الفردي
كنا نعيب على بن بله ميله للحكم الفردي على حساب مبدأ القيادة الجماعية، وتركيزه لعدة سلطات بيده، وعندما اتفقنا على الإطاحة به كان أخشى ما أخشاه أن نفترق بعد ذلك، لذلك أصررت على التأكيد على تحديد مدة زمنية للعودة بالبلاد إلى الشرعية، وكان رد قايد أحمد “عام أو عامين”، لكن بومدين رفض تحديد مدة زمنية لذلك “حتى لا نضيق الوقت على أنفسنا”، ورغم أنني هددت حينها بعدم الاشتراك معهم في التصحيح الثوري إذا لم يفصل في الأمر، إلا أن تطمينات قايد أحمد دفعتني للتراجع دون أن أتخلص من هواجسي.
وبعد مرور عامين على التصحيح الثوري، لم يقم بومدين بأي إجراء ينم عن رغبة في العودة إلى الشرعية، لا عبر الانتخابات العامة ولا حتى بإعادة مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني لعام 1964 الذي اتهم بن بله بتزويره والتزم بإعادة تصحيحه وهذا ما أبلغناه لقادة الدول التي زرناها وعلى رأسهم جمال عبد الناصر لكن بومدين تنصل عن وعوده.
كل ما قام به بومدين هو تنظيم انتخابات بلدية في فيفري 1967 حيث قمت بتنشيط الحملة الانتخابية في سطيف التي كانت تضم حينها كلا من بجاية وبرج بوعريريج والمسيلة، وكنا نحن من أشرف على تحضير القوائم الانتخابية والشعب يختار ممثليه من بين مرشحي الحزب في القائمة الواحدة.
اعتقدت أن الانتخابات البلدية ستكون خطوة أولى ستتلوها انتخابات ولائية وأخرى برلمانية، وكلمت بومدين حول هذا الأمر فرد علي بلهجة مغربية: “بالتي” أي رويدك، وأضاف “هذا الشعب كي ترخف عليه.. كالديس يجرحك”، أي أن الشعب الجزائري عندما تخفف قبضتك عليه فقد تنفلت الأمور ويجرحك مثل أوراق نبات الديس.
تأكدت حينها أن بومدين كان رافضا لفكرة إعطاء الحرية للمناضلين لاختيار ممثليهم في المجالس الولائية والمركزية، وكان يفضل أن يتحرك ببطء حتى تتضح الأمور قبل أن ينتقل إلى مرحلة أخرى.
كما أن مدغري وزير الداخلية لم يكن متحمسا للتنازل عن جزء من صلاحياته لصالح الهيئات المنتخبة سواء على مستوى البلديات أو الولايات، وشكل ذلك عائقا إضافيا أمام العودة إلى الشرعية.
وبدأت هواجسي السابقة تتأكد فنحن خلعنا “ديكتاتورا” لنضع “ديكتاتورا” مكانه والفرق بينهما أن بن بله لم يكن يسيطر على الجيش أما بومدين فأصبح يسيطر على كل مقاليد السلطة، فهو رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس الثورة ووزير الدفاع، بل إن مجلس الثورة الذي يمثل القيادة الجماعية التي تشكلت بعد التصحيح الثوري لم تعد اجتماعاته سوى شكلية وموجهة للاستهلاك الخارجي والدعائي، أما القرارات الحاسمة فتتخذ خارج المجلس.
شعرت حينها أن بومدين لا يختلف كثيرا عن بن بله في نزوعه نحو الحكم الفردي وتصفية خصومه وحلفائه المرحليين الواحد تلو الآخر، وقد يأتي دوري يوما ما، وقد شممت ذلك عندما عرض عليّ بومدين “ترقيتي” وزيرا للدفاع، وفهمت حينها أنه يحاول إبعادي عن قيادة الأركان لأنها في اتصال مباشر بالجيش، وإذا تمكن بومدين من تعيين قائد أركان مقرب منه فسأفقد سلطتي الحقيقية على الجيش وأصبح معلقا في الهواء، وشككت في أن هذا الاقتراح ليس من بنات أفكاره بل قد يكون قد أوحى له به أحد مستشاريه لذلك اعتذرت بدبلوماسية عن هذا العرض “الكريم”.
وازدادت شكوكي بعد أن تهرب بومدين من تحديد صلاحيات هيئة الأركان عندما فاتحته في الأمر، بل حاصرني بالضباط الفارين من الجيش الفرنسي الذين صاروا يتولون مناصب قيادية في الجيش والذين لم تكن لدي سلطة حقيقية عليهم في ظل ولائهم المطلق لبومدين، فرفضت أن أكون مجرد قائد شكلي للجيش.
4 ـ بومدين لم يعد يشاورني في تعيين كبار مسؤولي الدولة
قبل تنحيتنا لبن بله كان بومدين يستشيرني في الكثير من التعيينات لمناصب حساسة في الجيش، وكان يأخذ برأيي دون جدال، ولكن بعد التصحيح الثوري بدأ بومدين يتغير، وأصبح يعين الكثير من المسؤولين في الجيش والحكومة دون الرجوع إلي أو حتى مشاورتي.
وبلغ الأمر مداه عندما اقترحت على بومدين تعيين الخليفة لعروسي (والد المليادردير المسجون عبد المؤمن خليفة) وزيرا في الحكومة، خاصة وأنه وقف إلى جانبنا عند قيامنا بالتصحيح الثوري ضد بن بله كما أنه كان من الإطارات المثقفة خلال الثورة وعيّن وزيرا في أول حكومة للجزائر المستقلة، لكن بومدين كان يرد علي بالصمت، أما بلعيد عبد السلام (أصبح رئيسا للحكومة في التسعينات) فكان ينتقد خليفة لعروسي بشدة أمام بومدين لكونه كان موظفا لدى فرنسا قبل الثورة، فدافعت عن خليفة وقلت له “كلنا كنا موظفين عند فرنسا وحتى بن بله كان مساعدا أولا في الجيش الفرنسي”.
وألححت على بومدين لتعيين خليفة لعروسي في الحكومة وفي آخر مرة رد عليّ بغضب “كليتلي مخي على لعروسي.. نخليو جماعتنا لنبعد، إذا نعطيه كاتب دولة للنقل”، وكان يقصد أن نضم في البداية الإطارات الغاضبة علينا لاسترضائها في البداية لإحداث التوازن داخل دواليب الدولة وكمرحلة ثانية يتم مكافأة المساندين لنا.
توجهت رفقة الرائد السعيد عبيد إلى بيت خليفة لعروسي لأعرض عليه منصب كاتب دولة للنقل العام، وكانت هذه أول مرة أسمع فيها بمنصب كاتب دولة ولم أكن أعلم بالضبط حجمه أو أهميته، واجتمعت مع لعروسي، وعبد العزيز زرداني وزير العمل، والدكتور بن غزال وحوحو (أصبح وزيرا فيما بعد) وناقشنا الأمر لكن لعروسي خليفة امتعض من هذا العرض وقال:
ـ هم يعطيهم وزارات وأنا كاتب دولة.
وهذا الرد زادني أسفا لرفض بومدين طلبي بتعيين لعروسي في منصب وزير فقلت للحاضرين في ذلك اللقاء وأنا حانق على بومدين:
ـ نتوما تدفعوا “لا كاس” نديروها ونروحوا فيها كامل.
بمعنى “أنتم تدفعون بنا للصدام (مع بومدين)، سنذهب إليه (للصدام)، وسندفع الثمن كلنا”.
بعد عقود من الانتظار آن للقراء الجزائريين وغيرهم أن يتعرّفوا على الأسباب الظاهرة والخفية التي دفعت العقيد الطاهر زبيري للقيام بعملية عسكرية لتقليص صلاحيات بومدين حسب قوله أو الانقلاب عليه كما هو متداول بين العام والخاص، وستشرع الشروق بدءاً من اليوم في نشر حلقات متسلسلة حول العملية العسكرية التي قادها العقيد زبيري ضد العقيد بومدين في 14 ديسمبر 1967.
بومدين يحاول إحداث التوازن داخل الجيش
عرف ما اصطلح عليهم بـ”الضباط الفارين من الجيش الفرنسي” الذين التحقوا بجيش التحرير بمستواهم العسكري الجيد، سواء من حيث التدريب أو الانضباط، لذلك أوكلت لهم مهمة تدريب مجاهدي جيش التحرير في مدارس عسكرية على الحدود التونسية والمغربية، لكنهم لم يكونوا يتمتعون بشعبية وسط المجاهدين بل كان ينظر إليهم بعين الريبة.
وسعى جيش التحرير خلال الثورة إلى استقطاب الضباط والجنود الجزائريين في الجيش الفرنسي إلى صفوفه بهدف زعزعة كيان الجيش الفرنسي وإرباك صفوفه، والاستفادة من السلاح الذي يفر به هؤلاء والذي كان المجاهدون في أمس الحاجة إليه، والهدف الثالث هو الاستفادة من خبرة هؤلاء في استعمال السلاح والتدريب العسكري.
ولتشجيع هؤلاء الضباط على الالتحاق بالثورة، كنا نعدهم برفع رتبهم العسكرية بدرجة واحدة عما منحتهم إياه فرنسا من رتب، ولم تكن فرنسا في الغالب تمنح الجزائريين رتبا عسكرية عالية.
وخلال قيادتي لأركان الجيش الوطني الشعبي (1963 ـ 1967) كان مجموع “الضباط الفارين من الجيش الفرنسي” بجميع رتبهم نحو 200 ضابط وضابط صف، لكن أبرز هؤلاء الضباط كان الرائد عبد القادر شابو الأمين العام لوزارة الدفاع والذي كان بمثابة مستشار لبومدين وصلاحياته الإدارية كانت تفوق صلاحياتي كقائد أركان، وهو الذي كان يوقع مراسيم تعيين الضباط وتحويلهم وترقيتهم، وكقائد أركان كنت أحتاج إلى توقيع شابو عندما أطلب أي تجهيزات أو تموين للجيش.
والحقيقة أن شابو كان يحترمني ولم يحدث طيلة قيادتي لأركان الجيش الوطني الشعبي أن اصطدمت معه أو حدث بيننا أي خلاف جدي، لكني كنت أرفض من حيث المبدأ أن يتولى “الضباط الفارون من الجيش الفرنسي” مناصب قيادية حساسة في الجيش، وكنت أرى أن دورهم يجب أن يقتصر على التدريب فقط وهذا ما كان يوافقني فيه بومدين مع معظم القادة السياسيين والعسكريين في الحزب وخاصة العقيد شعباني والرائد علي منجلي عضو قيادة الأركان العامة لجيش التحرير الذي كان أول من انتقد اعتماد جيش التحرير على الضباط الفارين من الجيش الفرنسي خلال اجتماع مجلس الثورة في 1960.
وسعى بومدين إلى إحداث التوازن بين »الضباط الفارين من الجيش الفرنسي« وقدماء ضباط جيش التحرير في المناصب والمسؤوليات، لكن شيئا فشيئا أصبحت الكفة تميل لصالح الضباط الفارين من الجيش الفرنسي الذين أصبحوا يستعرضون عضلاتهم بفضل مستواهم المعرفي الذي يفوق مستوى معظم قدماء ضباط جيش التحرير من أبناء الشعب الذين لم يخضعوا لتكوين عسكري بالمعنى الأكاديمي لانشغالهم بالجهاد والكفاح المسلح ضد الاحتلال الفرنسي خلال الثورة.
ولحسن الحظ تم تأطير الجيش وتوزيع الضباط وقادة الجيش على الوحدات قبل أن يتولى الضباط الفارون من الجيش الفرنسي مناصب قيادية ويتمكن شابو من الوصول إلى منصب رئيس ديوان وزارة الدفاع ثم أمينا عاما لها وهذا المنصب لم يكن موجودا في السنوات الأولى للاستقلال.
أصبحت وزارة الدفاع محاطة بعدد من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي البارزين أمثال الرائد محمد زرقيني الذي كان يتمتع بمستوى عالي ويتقن العربية والفرنسية ومعه كل من هوفمان وبوتلة، بالإضافة إلى ضباط آخرين أمثال عبد المجيد علاهم ومحمد علاهم والضابط مصطفى الذي كان مكلفا بالتدريب العسكري في مدرسة ضباط الصف بالبليدة وقبلها كان مكلفا بالتدريب في مدرسة عسكرية بقرن الحلفاية على الحدود التونسية الجزائرية خلال الثورة، إلا أن قادة النواحي العسكرية كانوا كلهم من قدماء ضباط جيش التحرير.
وبعد مرور عامين على تنحيتنا لبن بله، لاحظت على بومدين ثغرات في التسيير، أخطرها ضمه لديوانه بعض “الضباط الفارين من الجيش الفرنسي”، بل أكثر من ذلك فقد ترك لهم مهمة تنظيم الجيش، أما قدماء ضباط جيش التحرير فصار يبعدهم شيئا فشيئا عن المناصب القيادية داخل الجيش، على أساس أنهم قليلي الانضباط والطاعة على عكس الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، مما جعل علاقتي ببومدين تشهد فتورا متزايدا.
2 ـ مشاكل المجاهدين لا تجد طريقها للحل
في أوائل عام 1967 طرحت على بومدين مشكل المجاهدين وأسر الشهداء وضرورة التكفل بهم، فقد كانت أوضاع الكثير منهم صعبة وظروف عيشهم بائسة، وكانت تصلني الكثير من الشكاوى في هذا الشأن، ورغم أن بومدين كان يلقي خطابات مؤثرة على الشعب إلا أنه لم يفصل في كثير من القضايا، وترك حاشيته هي التي تتصرف.
لذلك اقترحت على بومدين تأسيس مجلس خاص لحل مشاكل المجاهدين، ونعتبر الجزائر “غنيمة حرب”، ونعيد توزيع الثروة بعدالة على المجاهدين والمسبلين والمناضلين والمخلصين من هذا الوطن، ونضع قائمة تحدد أسماء كل هؤلاء بدقة ووفق مقاييس محددة، ومن هذه القائمة نختار الإطارات التي تسير البلاد.
وكان الدكتور النقاش وزير المجاهدين والشؤون الاجتماعية قد أشار في أحد تقاريره إلى أن عدد الأسرى في السجون الاستعمارية كان كبيرا ومن الصعب التفريق بين المجاهدين والمناضلين وأن معظمهم يطالبون بالالتحاق بالجيش لأنهم لا يجدون ما يسد رمقهم، نظرا لانتشار البطالة بسبب عدم وجود فرص عمل، لذلك اقترح أن يقوم كل قطاع إداري بتوظيف 10 بالمئة من المجاهدين، أما معطوبو حرب التحرير العاجزون عن العمل فتقدم لهم منحة ليتقوتوا منها، إلا أن توصيات النقاش لم تطبق في الميدان.
ولذلك وضعت أمام بومدين اقتراحا آخر يتمثل في خلق كتابة دولة للمجاهدين تابعة لوزارة الدفاع باعتبارها الأقرب للمجاهدين حتى نتمكن من حل مشاكلهم الاجتماعية بأكثر فاعلية وقوة إلزامية، لكن بومدين كان يجيب على اقتراحاتي بشكل عام ولم يكن يبدي استعدادا لحل مشاكل المجاهدين بشكل جدي إلى أن صارحني يوما قائلا:
ـ سي الطاهر خليهم، هذوا ما تخلاصش مشاكلهم حتى يخلاصو.
بمعنى دعك من المجاهدين، فهؤلاء لن تنتهي مشاكلهم حتى يموتوا جميعا.
هذه الكلمة التي قالها بومدين صدمتني وأصابتني في الصميم، بل أحبطت معنوياتي، لأني كنت أنظر إلى المجاهدين كعائلة واحدة، ولا ينبغي أن نتخلى عن فئة منا ونتركها تموت جوعا وذلا في الوقت الذي يستولي الوصوليون بشكل عشوائي على الفيلات ومزارع التسيير الذاتي التي تركها المعمرون.
لم أكن أحتمل أن أرى المجاهدين وعائلاتهم يتجمعون في الساحات وأمام الهيئات الرسمية للاحتجاج على وضعيتهم الاجتماعية الصعبة، واعتبرت أن بومدين يتحمل هو وحاشيته جزءاً من معاناة هؤلاء المجاهدين، خاصة وأن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي كانت لهم نية لتصفية الجيش من بعض الإطارات من المجاهدين، خصوصا أولئك الذين قد يشكلون خطرا على تمدد نفوذهم في الجيش، من خلال اختلاق صعوبات لهم لدفعهم للخروج من الجيش كعدم إدراج بعضهم في قوائم الإطارات المستفيدة من دورات التدريب في الخارج، وعدم ترقيتهم أو عدم تكليفهم بمهام معينة بعد عودتهم من دورات التكوين في الخارج مثلما حدث مع مصطفى بلوصيف، ومن جهة أخرى كان يتم تسريحهم إراديا من خلال دفع 2 مليون سنتيم كتعويضات لكل من يقبل بمغادرة الجيش إراديا، وقد سعيت لإقناع ومساعدة الكثير من الضباط من قدماء جيش التحرير على عدم مغادرة صفوف الجيش، بالرغم من العراقيل والمثبطات بل وحتى التحفيزات لدفعهم للخروج من السلك العسكري.
كما عملت على محاربة عقلية التفريق بين جيش الخارج (جيش الحدود) وجيش الداخل (جيوش الولايات إبان الثورة)، فتوحيد الجيش وعدم التفريق بين جنوده وضباطه كان من الأهداف الأساسية التي سعيت لتحقيقها خلال قيادتي لأركان الجيش الذي أعتبره القوة الوحيدة التي استطاعت بناء الدولة الجزائرية على أسس متينة.
ولكني بحكم أني كنت ضمن جيش الداخل كما كنت ضمن جيش الخارج، أدرك جيدا أن معاناة جيش الداخل خلال الثورة كانت أكثر صعوبة من التحديات التي واجهها جيش الحدود، فأغلب من كان يخرج إلى تونس أو إلى المغرب لا يرجع إلى الداخل، لأنه يجد نفسه بعيدا عن عضات الجوع ولسعات البرد، إلا أنه وبعد الاستقلال سيطر جيش الحدود ـ الذي يضم في صفوفه الضباط الفارين من الجيش الفرنسي ـ على معظم المناصب الحساسة في الجيش الوطني الشعبي بدعم من بومدين الذي كان يرى في جيش الحدود أكثر ولاء لشخصه من جيش الداخل المقسم على عدة ولايات وعدة ولاءات، ولهذا تم التخلص بطريقة أو بأخرى من مجاهدي الداخل الذين لا يظهرون قدرا كافيا من الطاعة والولاء.
3 ـ عدم الرجوع للشرعية والعودة للحكم الفردي
كنا نعيب على بن بله ميله للحكم الفردي على حساب مبدأ القيادة الجماعية، وتركيزه لعدة سلطات بيده، وعندما اتفقنا على الإطاحة به كان أخشى ما أخشاه أن نفترق بعد ذلك، لذلك أصررت على التأكيد على تحديد مدة زمنية للعودة بالبلاد إلى الشرعية، وكان رد قايد أحمد “عام أو عامين”، لكن بومدين رفض تحديد مدة زمنية لذلك “حتى لا نضيق الوقت على أنفسنا”، ورغم أنني هددت حينها بعدم الاشتراك معهم في التصحيح الثوري إذا لم يفصل في الأمر، إلا أن تطمينات قايد أحمد دفعتني للتراجع دون أن أتخلص من هواجسي.
وبعد مرور عامين على التصحيح الثوري، لم يقم بومدين بأي إجراء ينم عن رغبة في العودة إلى الشرعية، لا عبر الانتخابات العامة ولا حتى بإعادة مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني لعام 1964 الذي اتهم بن بله بتزويره والتزم بإعادة تصحيحه وهذا ما أبلغناه لقادة الدول التي زرناها وعلى رأسهم جمال عبد الناصر لكن بومدين تنصل عن وعوده.
كل ما قام به بومدين هو تنظيم انتخابات بلدية في فيفري 1967 حيث قمت بتنشيط الحملة الانتخابية في سطيف التي كانت تضم حينها كلا من بجاية وبرج بوعريريج والمسيلة، وكنا نحن من أشرف على تحضير القوائم الانتخابية والشعب يختار ممثليه من بين مرشحي الحزب في القائمة الواحدة.
اعتقدت أن الانتخابات البلدية ستكون خطوة أولى ستتلوها انتخابات ولائية وأخرى برلمانية، وكلمت بومدين حول هذا الأمر فرد علي بلهجة مغربية: “بالتي” أي رويدك، وأضاف “هذا الشعب كي ترخف عليه.. كالديس يجرحك”، أي أن الشعب الجزائري عندما تخفف قبضتك عليه فقد تنفلت الأمور ويجرحك مثل أوراق نبات الديس.
تأكدت حينها أن بومدين كان رافضا لفكرة إعطاء الحرية للمناضلين لاختيار ممثليهم في المجالس الولائية والمركزية، وكان يفضل أن يتحرك ببطء حتى تتضح الأمور قبل أن ينتقل إلى مرحلة أخرى.
كما أن مدغري وزير الداخلية لم يكن متحمسا للتنازل عن جزء من صلاحياته لصالح الهيئات المنتخبة سواء على مستوى البلديات أو الولايات، وشكل ذلك عائقا إضافيا أمام العودة إلى الشرعية.
وبدأت هواجسي السابقة تتأكد فنحن خلعنا “ديكتاتورا” لنضع “ديكتاتورا” مكانه والفرق بينهما أن بن بله لم يكن يسيطر على الجيش أما بومدين فأصبح يسيطر على كل مقاليد السلطة، فهو رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس الثورة ووزير الدفاع، بل إن مجلس الثورة الذي يمثل القيادة الجماعية التي تشكلت بعد التصحيح الثوري لم تعد اجتماعاته سوى شكلية وموجهة للاستهلاك الخارجي والدعائي، أما القرارات الحاسمة فتتخذ خارج المجلس.
شعرت حينها أن بومدين لا يختلف كثيرا عن بن بله في نزوعه نحو الحكم الفردي وتصفية خصومه وحلفائه المرحليين الواحد تلو الآخر، وقد يأتي دوري يوما ما، وقد شممت ذلك عندما عرض عليّ بومدين “ترقيتي” وزيرا للدفاع، وفهمت حينها أنه يحاول إبعادي عن قيادة الأركان لأنها في اتصال مباشر بالجيش، وإذا تمكن بومدين من تعيين قائد أركان مقرب منه فسأفقد سلطتي الحقيقية على الجيش وأصبح معلقا في الهواء، وشككت في أن هذا الاقتراح ليس من بنات أفكاره بل قد يكون قد أوحى له به أحد مستشاريه لذلك اعتذرت بدبلوماسية عن هذا العرض “الكريم”.
وازدادت شكوكي بعد أن تهرب بومدين من تحديد صلاحيات هيئة الأركان عندما فاتحته في الأمر، بل حاصرني بالضباط الفارين من الجيش الفرنسي الذين صاروا يتولون مناصب قيادية في الجيش والذين لم تكن لدي سلطة حقيقية عليهم في ظل ولائهم المطلق لبومدين، فرفضت أن أكون مجرد قائد شكلي للجيش.
4 ـ بومدين لم يعد يشاورني في تعيين كبار مسؤولي الدولة
قبل تنحيتنا لبن بله كان بومدين يستشيرني في الكثير من التعيينات لمناصب حساسة في الجيش، وكان يأخذ برأيي دون جدال، ولكن بعد التصحيح الثوري بدأ بومدين يتغير، وأصبح يعين الكثير من المسؤولين في الجيش والحكومة دون الرجوع إلي أو حتى مشاورتي.
وبلغ الأمر مداه عندما اقترحت على بومدين تعيين الخليفة لعروسي (والد المليادردير المسجون عبد المؤمن خليفة) وزيرا في الحكومة، خاصة وأنه وقف إلى جانبنا عند قيامنا بالتصحيح الثوري ضد بن بله كما أنه كان من الإطارات المثقفة خلال الثورة وعيّن وزيرا في أول حكومة للجزائر المستقلة، لكن بومدين كان يرد علي بالصمت، أما بلعيد عبد السلام (أصبح رئيسا للحكومة في التسعينات) فكان ينتقد خليفة لعروسي بشدة أمام بومدين لكونه كان موظفا لدى فرنسا قبل الثورة، فدافعت عن خليفة وقلت له “كلنا كنا موظفين عند فرنسا وحتى بن بله كان مساعدا أولا في الجيش الفرنسي”.
وألححت على بومدين لتعيين خليفة لعروسي في الحكومة وفي آخر مرة رد عليّ بغضب “كليتلي مخي على لعروسي.. نخليو جماعتنا لنبعد، إذا نعطيه كاتب دولة للنقل”، وكان يقصد أن نضم في البداية الإطارات الغاضبة علينا لاسترضائها في البداية لإحداث التوازن داخل دواليب الدولة وكمرحلة ثانية يتم مكافأة المساندين لنا.
توجهت رفقة الرائد السعيد عبيد إلى بيت خليفة لعروسي لأعرض عليه منصب كاتب دولة للنقل العام، وكانت هذه أول مرة أسمع فيها بمنصب كاتب دولة ولم أكن أعلم بالضبط حجمه أو أهميته، واجتمعت مع لعروسي، وعبد العزيز زرداني وزير العمل، والدكتور بن غزال وحوحو (أصبح وزيرا فيما بعد) وناقشنا الأمر لكن لعروسي خليفة امتعض من هذا العرض وقال:
ـ هم يعطيهم وزارات وأنا كاتب دولة.
وهذا الرد زادني أسفا لرفض بومدين طلبي بتعيين لعروسي في منصب وزير فقلت للحاضرين في ذلك اللقاء وأنا حانق على بومدين:
ـ نتوما تدفعوا “لا كاس” نديروها ونروحوا فيها كامل.
بمعنى “أنتم تدفعون بنا للصدام (مع بومدين)، سنذهب إليه (للصدام)، وسندفع الثمن كلنا”.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 10
الحلقة الثامنة من مذكرات العقيد الطاهر زبيري: علي منجلي أهان بومدين في اجتماع مجلس الثورة فقرر تهميش
بومدين: إذا كان علي منجلي في الجنة فأنا في النار
زبيري يتحدى جماعة وجدة ويرفض تهميش علي منجلي
في الحلقة السابقة روى لنا العقيد الطاهر زبيري الأسباب العامة التي جعلت علاقته بالعقيد هواري بومدين تصاب بالفتور، أما في حلقة اليوم فسيعرج العقيد زبيري على السبب الرئيسي الذي فجر الخلافات بينه وبين العقيد بومدين رئيس مجلس الثورة.
“جماعة وجدة” تتألب ضد منجلي
خلال أحد الاجتماعات لمجلس الثورة بمقر الرئاسة وكان مخصصا لمناقشة ميزانية 1967 طلب ڤايد أحمد وزير المالية محاسبة ميزانية وزارة الدفاع فانتفض الرائد عبد القادر شابو غاضبا:
ـ كيف تطلب منا حسابات ميزانية وزارة الدفاع، ونحن بشهادة محروق (مدير المالية وكان مسيحي الديانة) حساباتنا صحيحة.
لكن ڤايد أحمد كان مصرا على مراجعة ميزانية كل القطاعات بدقة بما فيها وزارة الدفاع وقال:
ـ إذا تبقت أموال لم تصرف من ميزانية الدفاع فستعاد إلى الخزينة ثم تصرف ميزانية جديدة للوزارة.
ووزع ڤايد أحمد على أعضاء مجلس الثورة مشروع ميزانية 1967، لكن علي منجلي عضو مجلس الثورة قال لوزير المالية ساخرا:
ـ نحتاج ثلاثة أشهر لقراءة كتابك هذا، أحضر لنا خبراءك حتى نطرح عليهم بعض الأسئلة ليجيبوننا عليها في الحال.
وفي مساء الغد جاء ڤايد أحمد إلى مجلس الثورة مرفوقا بثلاثة خبراء من بينهم مدير الميزانية، وشرع منجلي في طرح الأسئلة عليهم، وعندما أراد ڤايد أحمد أن يجيب على أسئلته قال له منجلي:
ـ لا تجبني أنت.. دع خبراءك هم من يجيبوني.
لكن ڤايد أحمد شدّد عليه قائلا:
ـ بل أجيبك أنا، وإن لم تـقـتـنع بكلامي سيجيبونك هم.
إلا أن منجلي ردّ عليه بحدة:
ـ لا أريدك أن تجيبني أنت نهائيا.
وتحوّل النقاش إلى جدال، والجدال إلى عراك.
فغضب بومدين من علي منجلي وقال له منتقدا:
ـ أنت دوما متهور وتخلق لنا فوضى في الاجتماعات.
واعتبر منجلي كلام بومدين انحيازا لصف ڤايد أحمد لأنه من جماعة وجدة رغم أن ثلاثتهم كانوا يمثلون هيئة الأركان العامة خلال الثورة، فرد على بومدين بنرفزة:
ـ أنت تقوم بترأس وتسيير الاجتماع فقط، فلا تنحاز لأحد.
انزعج بومدين لهذا الرد واعتبره إهانة لشخصه ولمنصبه كرئيس لمجلس الثورة، فرفع الجلسة وأضمر شرا لمنجلي.
لم يكن علي منجلي على وفاق مع بومدين ولا مع ڤايد أحمد منذ الاستقلال بسبب مواقفه الحادة، لكنني اقترحته ليكون معنا في مجلس الثورة، نظرا لسمعته كرائد في جيش التحرير وعضو في قيادة الأركان رغم أنني سبق واختلفت معه في 1962 بسبب “الضابط ابراهيم براهمية”، ولكنني لم أحقد عليه رغم لهجته القاسية معي، وقد أيد اقتراحي له كل من يحياوي والسعيد عبيد، وقبـِله بومدين على مضض.
وفي الغد جاءني بومدين إلى مكتبي في وزارة الدفاع وانتقد بشدة ما حدث بالأمس مع منجلي الذي قلل من احترامه أمام أعضاء مجلس الثورة، وقال لي وهو يستشيط غضبا من تصرف منجلي ويلومني لإصراري على ضمه إلى مجلس الثورة:
ـ فرضت عليّ منجلي وها هو فعل ما فعل.. ماذا تبقى من هيبة السلطة؟
وأضاف وهو في قمة غضبه بشكل لم أعهده عنه حتى في أحلك الظروف:
ـ قلت لكم علي منجلي لن أعمل معه، أعرفه عنيفا.. إذا اختار الجنة أنا أختار النار.
فقلت له مدافعا عن منجلي:
ـ هذا كان زميلا لك في هيئة الأركان، وقد أراد طرح أسئلة على الخبراء الماليين فلماذا أراد ڤايد أحمد أن يجيبه مكانهم.
وأضفت:
ـ ما دمنا لم نرجع الشرعية للبلاد فلنضع قانونا داخليا لمجلس الثورة حتى تكون اجتماعاته دورية ونشكل لجنة انضباط داخل مجلس الثورة لفرض الطاعة لمن لا يحترم النظام.
وقبل أن يغادر بومدين مكتبي أخبرني أن مجلس الثورة سيجتمع مساء اليوم ويريدني أن أحضر الاجتماع.
وفي المساء ذهبت لحضور مجلس الثورة في وزارة الدفاع، لكني تفاجأت لعدم حضور العقيد يوسف الخطيب والعقيد محند أولحاج والعقيد صالح بوبنيدر والعقيد محمدي السعيد فضلا عن الرائد علي منجلي الاجتماع، إذ لم يدع لحضور هذا الاجتماع سوى القيادات والضباط الذين شاركوا في التصحيح الثوري، وعلى رأسهم جماعة وجدة (بومدين، ڤايد أحمد، مدغري، بوتفليقة، شريف بلقاسم) بالإضافة إليّ وقادة النواحي العسكرية السعيد عبيد بلهوشات الشاذلي بن جديد ويحياوي، وأصبح ظاهرا أن مجلس الثورة صار مقسما إلى ثلاثة تكتلات رئيسية:
1 ـ جماعة وجدة: الكتلة الصلبة للنظام والملتفة حول بومدين والذين يمثلون قيادات الولاية الخامسة (الجهة الغربية).
2 ـ كبار الضباط: وكنت رفقة الرائدين السعيد عبيد ويحياوي أبرز المؤثرين في هذا التكتل الذي ساهم بشكل فاعل في الإطاحة ببن بلة بالإضافة إلى الرائد عبد الرحمان بن سالم والعقيد عباس.
3 ـ القادة التاريخيين للولايات: وكان لديهم دور مكمل في مجلس الثورة.
أما علي منجلي، فلم يكن ضمن أي تكتل، في حين انسحب كل من محساس وبومعزة من الحكومة وكانا يمثلان الشخصيتان السياسيتان الوحيدتان في مجلس الثورة نظرا لمكانتهما التاريخية إبان ثورة التحرير.
وخلال هذا الاجتماع تحدث مدغري وزير الداخلية بلغة متشددة لا تقبل الحلول الوسطى:
ـ إذا وضع علي منجلي قدمه في المجلس مستقبلا فاعتبروني خارجا منه.
لم أكن موافقا على الأسلوب الذي استعمله مدغري لمحاولة فرض رأيه علينا، فدعوت الحاضرين إلى حل المشكل بطريقة أخوية، ثم كررت مطلبي بضرورة وضع قانون داخلي يضمن عقد اجتماعات دورية ويخلق لجنة انضباط لضمان هيبة مجلس الثورة، وكنت ألمح إلى عدم انتظام اجتماعات المجلس وتقليص دوره كقيادة جماعية، وشعرت أن ما يعرف بجماعة وجدة التي تمثل قيادات الجهة الغربية قد أجمعت رأيها على “طرد” منجلي من مجلس الثورة وعدم استعدادها لمناقشة أي قضية أخرى، فقمت مخاطبا بومدين بشكل صارم حتى أضع مدغري في مقامه:
ـ سي بومدين.. إذا كان كلام سي حسين (مدغري) هو الفصل فاعتبروني أنا الآخر خارج المجلس.
وخرجت من الاجتماع مغاضبا، فلم أكن أريد أن تتخذ قرارات مثل هذه على حسب نزوات كل شخص، بل كنت أفضل أن يخضع الأمر لقوانين واضحة حتى لا يطغى أحد على الآخرين
وذهبت إلى مقهى صغير بوزارة الدفاع وجلست مع بعض الضباط، ولحق بي بومدين وقال لي محاولا استرضائي:
ـ مشكلة منجلي نتركها على جانب ولنتجاوزها.
لكني سكت عليه ولم أعلق على كلامه.
وساندني يحياوي في موقفي وشدّد على ضرورة بقاء منجلي عضوا في مجلس الثورة لكن بومدين لم يستدع المجلس للانعقاد مجددا.
بومدين “يجمد” نشاط مجلس الثورة
بعد فشل جماعة وجدة في كسب تضامن كبار الضباط لإقصاء علي منجلي من مجلس الثورة، لم يعد بومدين يستدعي مجلس الثورة للانعقاد حتى لا يلتقي علي منجلي بعد أن ساءت العلاقة بينهما بشكل كبير، غير أن الأمور لم تقتصر على تهميش قادة الولايات التاريخية، بل صارت دائرة التهميش والإقصاء تطال حتى كبار الضباط أمثال السعيد عبيد والعقيد عباس والرائد بن سالم والرائد يحياوي الذين شاركوا في التصحيح الثوري مما جعل دائرة التذمر داخل الجيش وحتى الحكومة تتوسع وتزداد حدة مع إصرار بومدين على اقـتصار عملية اتخاذ القرار على جماعة وجدة دون غيرها.
وما حز في نفسي كثيرا أن أسمع بالعديد من القرارات الهامة في الدولة عبر وسائل الإعلام كأي مواطن عادي، فالقضايا الخارجية صار بومدين يناقشها مع بوتفليقة بشكل ثنائي، والقضايا المالية يناقشها مع ڤايد أحمد، والمسائل الداخلية يستعرضها مع مدغري، أما المسائل العسكرية فيتجاوزني لمناقشتها مع الأمين العام لوزارة الدفاع الرائد عبد القادر شابو، وقضايا الحزب مع شريف بلقاسم وهكذا أفرغ مجلس الثورة من دوره كقيادة جماعية تملك سلطة التشريع والتنفيذ مع عدم التطرق لموضوع إعادة الشرعية للحكم عبر الانتخابات، فحتى المجالس البلدية تم تنصيبها في انتخابات شكلية في 5 فيفري 1967 .
رغم أني أصبحت “الرجل الثاني” في السلطة بعد الإطاحة ببن بلة، لكن وقوفي بشكل حازم في وجه الجماعة التي حاولت فرض قراراتها على مجلس الثورة، وتذكيري مرارا لبومدين بضرورة إعادة الشرعية للبلاد كما سبق أن اتفقنا عليه قبل تنفيذ التصحيح الثوري دفع بومدين للعمل على تهميشي مع كبار الضباط بكل الطرق، ولم أكن لأرضى أن تظل الأمور على هذا الشكل، لذلك سعيت لحل المشكل أخويا فنحن مهما كان نمثل عائلة واحدة.
كان الرائد السعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى والرائد يحياوي الذي رقي من نائب مدير الأكاديمية العسكرية لشرشال إلى قائد للناحية العسكرية الثالثة ببشار أكثر المتذمرين من سياسية بومدين الجديدة في التسيير العام للبلاد، وأخذ الرجلان يضغطان علي لاتخاذ مواقف أكثر تشددا مع بومدين، حتى أن السعيد عبيد قال لي في إحدى المناسبات “كنا نعوّل عليك، لأنك قائدنا، لكنك ملتصق بكرسي بومدين ولا تسمح لاجتماع مجلس الثورة بمناقشة المسائل الهامة للبلاد”.
تعليق اجتماعات مجلس الحكومة
وعلى مستوى الحكومة التي يترأسها بومدين كانت العديد من الأمور عالقة ومتأزمة وبدون حسم، وجاءني وزير العمل والشؤون الاجتماعية عبد العزيز زرداني وأخبرني أن “التعيينات التي يقوم بها لا تمر”، وتحدث معي عن مشاكله مع وزير الصناعة والبترول عبد السلام بلعيد الذي انتقده علانية ووصفه باليساري لأنه يدافع عن حقوق العمال، ووصلت الخلافات بينهما إلى مستوى بالغ دون أن يتدخل بومدين لحسم الأمر رغم تدخلنا في ذلك، كما أن العديد من الوزراء مثل عبد الله فاضل وخوجة طلبوا مقابلة خاصة لبومدين بصفته رئيس الدولة ورئيس الحكومة حتى يفصل في بعض القضايا الهامة لكنه لم يستقبلهم.
ضغط شديد كان يفرضه علي بعض الضباط السامين والوزراء من أجل أن أعمل على إقناع بومدين بإعادة النظر في طريقة تسيير الشؤون العامة للدولة، من خلال تنظيم اجتماعات دورية لمجلس الثورة وكذلك مجلس الحكومة حتى يتم مناقشة القضايا الهامة للبلاد والفصل فيها مع التأكيد على مبدأ القيادة الجماعية للبلاد التي سبق وأن اتفقنا عليها.
قابلت بومدين ونصحته بشكل أخوي أن يعقد اجتماعات مجلس الثورة ومجلس الحكومة بشكل دوري، واقترحت عليه أن تكون هناك ثلاثة اجتماعات كل شهر أو شهرين، بحيث يحضر مجلس الثورة اجتماعات مجلس الحكومة، ولكن بومدين لم يكن يرغب في عقد اجتماع مشترك لمجلسي الثورة والحكومة، بل عمل على تهميش اجتماعات مجلس الثورة التي لم تكن مضبوطة الانعقاد فمرة نلتقي بعد شهرين ثم نلتقي بعد أربعة أشهر، وهو ما جعلني أشدد على ضرورة وضع قانون داخلي يضبط هذه المسائل.
بومدين كان أكثر رده صمتا، بل كان يحتقر مثل هذه الاقتراحات ويعتبر بأنها ستخلق له مشاكل، لذلك سعى إلى بناء الدولة وفق طريقته الخاصة، لكن هذا أثار تحفظنا، لأننا تحملنا معه المسؤولية عندما أطحنا ببن بلة، فليس هو وحده الذي ينقاد له الشعب، فنحن أيضا لدينا أنصار في أوساط الشعب ويتبعنا مناضلون وضباط وجنود، فلم يكن من المقبول أن يقود بومدين الدولة وحده.
وقضية منجلي أثرت كثيرا على نفسية بومدين، ولم يكن على استعداد للتعامل معه بأي شكل من الأشكال، وعندما اشتد ضغطي عليه لعقد مجلس الثورة اقترح علي أن يكون اجتماعا مصغرا يضم جماعة وجدة وعددا قليلا من الضباط الأعضاء في المجلس، ملمحا إلى ضرورة إقصاء العقداء التاريخيين للثورة من قادة الولايات من اجتماعات مجلس الثورة، لكني رفضت بشكل مطلق هذا الاقتراح وقلت له:
ـ لا تفعل مثلما فعل بن بلة عندما كان يقسمنا إلى أعضاء من الدرجة الأولى وأعضاء من الدرجة الثانية.
وأضفت:
ـ هؤلاء ضباط.. لقد كانوا ضد بن بلة قبلنا، لذلك يجب أن نجمع الضباط كلهم.
فرد علي بومدين مبررا عدم استعداده لإشراك قادة الداخل:
ـ ولكن أسرار الدولة تخرج كلما وسعنا دائرة الاجتماع.
ـ أي أسرار؟ نحن ليس لدينا قنبلة نووية نخفيها، فمشاكل الشعب معروفة وليس لدينا ما نخفيه.
ورغم الضغوطات التي كنا نمارسها على بومدين من أجل عقد مجلس الثورة إلا أنه ظل متمسكا بموقفه ولم يأبه لاستياء كبار الضباط وأعضاء مجلس الثورة، خاصة الرائد سعيد عبيد الذي كان أكثرنا تذمرا بالإضافة إلى الرائدين بن سالم ويحياوي.
وفي إحدى المرات ذهبت رفقة السعيد عبيد ويحياوي وأحمد دراية لزيارة عبد العزيز زرداني في بيته في نادي الصنوبر غربي العاصمة، وخلال تجولنا بالقرب من الشاطئ أعلمنا زرداني بأنه ينوي الاستقالة من منصبه كوزير للعمل والحماية الاجتماعية لأن تعيينات المديرين والمفتشين التي يقوم بها لا تنفذ، فقلت له:
ـ أتحسبني ساكتا عن بومدين، فهيا بنا لنقابله ونطلب منه أن يعقد اجتماع مجلس الثورة لأن لدينا مشاكل لا بد من حلها والفصل فيها.
لكن يحياوي الذي كان حينها نائبا للعقيد العباس في أكاديمية شرشال ولم يكن قد رقي بعد إلى قائد ناحية قال لي:
ـ بل تذهب أنت والسعيد عبيد لمقابلته.
وكان السعيد عبيد ضابطا مثقفا وجريئا فوافق على المجيء معي لمقابلة بومدين، وخلال هذا اللقاء قلت لبومدين:
ـ نريد عقد اجتماع مجلس الثورة لأن لدينا ما نقول فيه.
ثم تحدث السعيد عبيد قائلا:
ـ أنا ذاهب في إجازة قصيرة وأود عندما أرجع من الإجازة تكونوا قد حضرتم الاجتماع.
ووافق بومدين على عقد الاجتماع على مضض، رغم أنه لم يكن يريد رؤية علي منجلي في هذا الاجتماع.
بقينا ننتظر انعقاد اجتماع مجلس الثورة حتى مللنا الانتظار، وعاد السعيد عبيد من إجازته دون أن يجد الاجتماع قد حضر، مما أثار سخط الضباط على بومدين لكنهم لم يكونوا يجرؤون على مواجهته، لأنه كان له فضل عليهم، فهو الذي رقاهم كأعضاء في مجلس الثورة، إلا أنه لم يكن لديه أي فضل عليّ بل على العكس من ذلك تماما فقد وقفت إلى جانبه وساعدته في أحلك الظروف التي مر بها، لكني بدأت أشعر بأن بومدين لم يعد يقدر حجم هذه التضحيات والمواقف.
زبيري يتحدى جماعة وجدة ويرفض تهميش علي منجلي
في الحلقة السابقة روى لنا العقيد الطاهر زبيري الأسباب العامة التي جعلت علاقته بالعقيد هواري بومدين تصاب بالفتور، أما في حلقة اليوم فسيعرج العقيد زبيري على السبب الرئيسي الذي فجر الخلافات بينه وبين العقيد بومدين رئيس مجلس الثورة.
“جماعة وجدة” تتألب ضد منجلي
خلال أحد الاجتماعات لمجلس الثورة بمقر الرئاسة وكان مخصصا لمناقشة ميزانية 1967 طلب ڤايد أحمد وزير المالية محاسبة ميزانية وزارة الدفاع فانتفض الرائد عبد القادر شابو غاضبا:
ـ كيف تطلب منا حسابات ميزانية وزارة الدفاع، ونحن بشهادة محروق (مدير المالية وكان مسيحي الديانة) حساباتنا صحيحة.
لكن ڤايد أحمد كان مصرا على مراجعة ميزانية كل القطاعات بدقة بما فيها وزارة الدفاع وقال:
ـ إذا تبقت أموال لم تصرف من ميزانية الدفاع فستعاد إلى الخزينة ثم تصرف ميزانية جديدة للوزارة.
ووزع ڤايد أحمد على أعضاء مجلس الثورة مشروع ميزانية 1967، لكن علي منجلي عضو مجلس الثورة قال لوزير المالية ساخرا:
ـ نحتاج ثلاثة أشهر لقراءة كتابك هذا، أحضر لنا خبراءك حتى نطرح عليهم بعض الأسئلة ليجيبوننا عليها في الحال.
وفي مساء الغد جاء ڤايد أحمد إلى مجلس الثورة مرفوقا بثلاثة خبراء من بينهم مدير الميزانية، وشرع منجلي في طرح الأسئلة عليهم، وعندما أراد ڤايد أحمد أن يجيب على أسئلته قال له منجلي:
ـ لا تجبني أنت.. دع خبراءك هم من يجيبوني.
لكن ڤايد أحمد شدّد عليه قائلا:
ـ بل أجيبك أنا، وإن لم تـقـتـنع بكلامي سيجيبونك هم.
إلا أن منجلي ردّ عليه بحدة:
ـ لا أريدك أن تجيبني أنت نهائيا.
وتحوّل النقاش إلى جدال، والجدال إلى عراك.
فغضب بومدين من علي منجلي وقال له منتقدا:
ـ أنت دوما متهور وتخلق لنا فوضى في الاجتماعات.
واعتبر منجلي كلام بومدين انحيازا لصف ڤايد أحمد لأنه من جماعة وجدة رغم أن ثلاثتهم كانوا يمثلون هيئة الأركان العامة خلال الثورة، فرد على بومدين بنرفزة:
ـ أنت تقوم بترأس وتسيير الاجتماع فقط، فلا تنحاز لأحد.
انزعج بومدين لهذا الرد واعتبره إهانة لشخصه ولمنصبه كرئيس لمجلس الثورة، فرفع الجلسة وأضمر شرا لمنجلي.
لم يكن علي منجلي على وفاق مع بومدين ولا مع ڤايد أحمد منذ الاستقلال بسبب مواقفه الحادة، لكنني اقترحته ليكون معنا في مجلس الثورة، نظرا لسمعته كرائد في جيش التحرير وعضو في قيادة الأركان رغم أنني سبق واختلفت معه في 1962 بسبب “الضابط ابراهيم براهمية”، ولكنني لم أحقد عليه رغم لهجته القاسية معي، وقد أيد اقتراحي له كل من يحياوي والسعيد عبيد، وقبـِله بومدين على مضض.
وفي الغد جاءني بومدين إلى مكتبي في وزارة الدفاع وانتقد بشدة ما حدث بالأمس مع منجلي الذي قلل من احترامه أمام أعضاء مجلس الثورة، وقال لي وهو يستشيط غضبا من تصرف منجلي ويلومني لإصراري على ضمه إلى مجلس الثورة:
ـ فرضت عليّ منجلي وها هو فعل ما فعل.. ماذا تبقى من هيبة السلطة؟
وأضاف وهو في قمة غضبه بشكل لم أعهده عنه حتى في أحلك الظروف:
ـ قلت لكم علي منجلي لن أعمل معه، أعرفه عنيفا.. إذا اختار الجنة أنا أختار النار.
فقلت له مدافعا عن منجلي:
ـ هذا كان زميلا لك في هيئة الأركان، وقد أراد طرح أسئلة على الخبراء الماليين فلماذا أراد ڤايد أحمد أن يجيبه مكانهم.
وأضفت:
ـ ما دمنا لم نرجع الشرعية للبلاد فلنضع قانونا داخليا لمجلس الثورة حتى تكون اجتماعاته دورية ونشكل لجنة انضباط داخل مجلس الثورة لفرض الطاعة لمن لا يحترم النظام.
وقبل أن يغادر بومدين مكتبي أخبرني أن مجلس الثورة سيجتمع مساء اليوم ويريدني أن أحضر الاجتماع.
وفي المساء ذهبت لحضور مجلس الثورة في وزارة الدفاع، لكني تفاجأت لعدم حضور العقيد يوسف الخطيب والعقيد محند أولحاج والعقيد صالح بوبنيدر والعقيد محمدي السعيد فضلا عن الرائد علي منجلي الاجتماع، إذ لم يدع لحضور هذا الاجتماع سوى القيادات والضباط الذين شاركوا في التصحيح الثوري، وعلى رأسهم جماعة وجدة (بومدين، ڤايد أحمد، مدغري، بوتفليقة، شريف بلقاسم) بالإضافة إليّ وقادة النواحي العسكرية السعيد عبيد بلهوشات الشاذلي بن جديد ويحياوي، وأصبح ظاهرا أن مجلس الثورة صار مقسما إلى ثلاثة تكتلات رئيسية:
1 ـ جماعة وجدة: الكتلة الصلبة للنظام والملتفة حول بومدين والذين يمثلون قيادات الولاية الخامسة (الجهة الغربية).
2 ـ كبار الضباط: وكنت رفقة الرائدين السعيد عبيد ويحياوي أبرز المؤثرين في هذا التكتل الذي ساهم بشكل فاعل في الإطاحة ببن بلة بالإضافة إلى الرائد عبد الرحمان بن سالم والعقيد عباس.
3 ـ القادة التاريخيين للولايات: وكان لديهم دور مكمل في مجلس الثورة.
أما علي منجلي، فلم يكن ضمن أي تكتل، في حين انسحب كل من محساس وبومعزة من الحكومة وكانا يمثلان الشخصيتان السياسيتان الوحيدتان في مجلس الثورة نظرا لمكانتهما التاريخية إبان ثورة التحرير.
وخلال هذا الاجتماع تحدث مدغري وزير الداخلية بلغة متشددة لا تقبل الحلول الوسطى:
ـ إذا وضع علي منجلي قدمه في المجلس مستقبلا فاعتبروني خارجا منه.
لم أكن موافقا على الأسلوب الذي استعمله مدغري لمحاولة فرض رأيه علينا، فدعوت الحاضرين إلى حل المشكل بطريقة أخوية، ثم كررت مطلبي بضرورة وضع قانون داخلي يضمن عقد اجتماعات دورية ويخلق لجنة انضباط لضمان هيبة مجلس الثورة، وكنت ألمح إلى عدم انتظام اجتماعات المجلس وتقليص دوره كقيادة جماعية، وشعرت أن ما يعرف بجماعة وجدة التي تمثل قيادات الجهة الغربية قد أجمعت رأيها على “طرد” منجلي من مجلس الثورة وعدم استعدادها لمناقشة أي قضية أخرى، فقمت مخاطبا بومدين بشكل صارم حتى أضع مدغري في مقامه:
ـ سي بومدين.. إذا كان كلام سي حسين (مدغري) هو الفصل فاعتبروني أنا الآخر خارج المجلس.
وخرجت من الاجتماع مغاضبا، فلم أكن أريد أن تتخذ قرارات مثل هذه على حسب نزوات كل شخص، بل كنت أفضل أن يخضع الأمر لقوانين واضحة حتى لا يطغى أحد على الآخرين
وذهبت إلى مقهى صغير بوزارة الدفاع وجلست مع بعض الضباط، ولحق بي بومدين وقال لي محاولا استرضائي:
ـ مشكلة منجلي نتركها على جانب ولنتجاوزها.
لكني سكت عليه ولم أعلق على كلامه.
وساندني يحياوي في موقفي وشدّد على ضرورة بقاء منجلي عضوا في مجلس الثورة لكن بومدين لم يستدع المجلس للانعقاد مجددا.
بومدين “يجمد” نشاط مجلس الثورة
بعد فشل جماعة وجدة في كسب تضامن كبار الضباط لإقصاء علي منجلي من مجلس الثورة، لم يعد بومدين يستدعي مجلس الثورة للانعقاد حتى لا يلتقي علي منجلي بعد أن ساءت العلاقة بينهما بشكل كبير، غير أن الأمور لم تقتصر على تهميش قادة الولايات التاريخية، بل صارت دائرة التهميش والإقصاء تطال حتى كبار الضباط أمثال السعيد عبيد والعقيد عباس والرائد بن سالم والرائد يحياوي الذين شاركوا في التصحيح الثوري مما جعل دائرة التذمر داخل الجيش وحتى الحكومة تتوسع وتزداد حدة مع إصرار بومدين على اقـتصار عملية اتخاذ القرار على جماعة وجدة دون غيرها.
وما حز في نفسي كثيرا أن أسمع بالعديد من القرارات الهامة في الدولة عبر وسائل الإعلام كأي مواطن عادي، فالقضايا الخارجية صار بومدين يناقشها مع بوتفليقة بشكل ثنائي، والقضايا المالية يناقشها مع ڤايد أحمد، والمسائل الداخلية يستعرضها مع مدغري، أما المسائل العسكرية فيتجاوزني لمناقشتها مع الأمين العام لوزارة الدفاع الرائد عبد القادر شابو، وقضايا الحزب مع شريف بلقاسم وهكذا أفرغ مجلس الثورة من دوره كقيادة جماعية تملك سلطة التشريع والتنفيذ مع عدم التطرق لموضوع إعادة الشرعية للحكم عبر الانتخابات، فحتى المجالس البلدية تم تنصيبها في انتخابات شكلية في 5 فيفري 1967 .
رغم أني أصبحت “الرجل الثاني” في السلطة بعد الإطاحة ببن بلة، لكن وقوفي بشكل حازم في وجه الجماعة التي حاولت فرض قراراتها على مجلس الثورة، وتذكيري مرارا لبومدين بضرورة إعادة الشرعية للبلاد كما سبق أن اتفقنا عليه قبل تنفيذ التصحيح الثوري دفع بومدين للعمل على تهميشي مع كبار الضباط بكل الطرق، ولم أكن لأرضى أن تظل الأمور على هذا الشكل، لذلك سعيت لحل المشكل أخويا فنحن مهما كان نمثل عائلة واحدة.
كان الرائد السعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى والرائد يحياوي الذي رقي من نائب مدير الأكاديمية العسكرية لشرشال إلى قائد للناحية العسكرية الثالثة ببشار أكثر المتذمرين من سياسية بومدين الجديدة في التسيير العام للبلاد، وأخذ الرجلان يضغطان علي لاتخاذ مواقف أكثر تشددا مع بومدين، حتى أن السعيد عبيد قال لي في إحدى المناسبات “كنا نعوّل عليك، لأنك قائدنا، لكنك ملتصق بكرسي بومدين ولا تسمح لاجتماع مجلس الثورة بمناقشة المسائل الهامة للبلاد”.
تعليق اجتماعات مجلس الحكومة
وعلى مستوى الحكومة التي يترأسها بومدين كانت العديد من الأمور عالقة ومتأزمة وبدون حسم، وجاءني وزير العمل والشؤون الاجتماعية عبد العزيز زرداني وأخبرني أن “التعيينات التي يقوم بها لا تمر”، وتحدث معي عن مشاكله مع وزير الصناعة والبترول عبد السلام بلعيد الذي انتقده علانية ووصفه باليساري لأنه يدافع عن حقوق العمال، ووصلت الخلافات بينهما إلى مستوى بالغ دون أن يتدخل بومدين لحسم الأمر رغم تدخلنا في ذلك، كما أن العديد من الوزراء مثل عبد الله فاضل وخوجة طلبوا مقابلة خاصة لبومدين بصفته رئيس الدولة ورئيس الحكومة حتى يفصل في بعض القضايا الهامة لكنه لم يستقبلهم.
ضغط شديد كان يفرضه علي بعض الضباط السامين والوزراء من أجل أن أعمل على إقناع بومدين بإعادة النظر في طريقة تسيير الشؤون العامة للدولة، من خلال تنظيم اجتماعات دورية لمجلس الثورة وكذلك مجلس الحكومة حتى يتم مناقشة القضايا الهامة للبلاد والفصل فيها مع التأكيد على مبدأ القيادة الجماعية للبلاد التي سبق وأن اتفقنا عليها.
قابلت بومدين ونصحته بشكل أخوي أن يعقد اجتماعات مجلس الثورة ومجلس الحكومة بشكل دوري، واقترحت عليه أن تكون هناك ثلاثة اجتماعات كل شهر أو شهرين، بحيث يحضر مجلس الثورة اجتماعات مجلس الحكومة، ولكن بومدين لم يكن يرغب في عقد اجتماع مشترك لمجلسي الثورة والحكومة، بل عمل على تهميش اجتماعات مجلس الثورة التي لم تكن مضبوطة الانعقاد فمرة نلتقي بعد شهرين ثم نلتقي بعد أربعة أشهر، وهو ما جعلني أشدد على ضرورة وضع قانون داخلي يضبط هذه المسائل.
بومدين كان أكثر رده صمتا، بل كان يحتقر مثل هذه الاقتراحات ويعتبر بأنها ستخلق له مشاكل، لذلك سعى إلى بناء الدولة وفق طريقته الخاصة، لكن هذا أثار تحفظنا، لأننا تحملنا معه المسؤولية عندما أطحنا ببن بلة، فليس هو وحده الذي ينقاد له الشعب، فنحن أيضا لدينا أنصار في أوساط الشعب ويتبعنا مناضلون وضباط وجنود، فلم يكن من المقبول أن يقود بومدين الدولة وحده.
وقضية منجلي أثرت كثيرا على نفسية بومدين، ولم يكن على استعداد للتعامل معه بأي شكل من الأشكال، وعندما اشتد ضغطي عليه لعقد مجلس الثورة اقترح علي أن يكون اجتماعا مصغرا يضم جماعة وجدة وعددا قليلا من الضباط الأعضاء في المجلس، ملمحا إلى ضرورة إقصاء العقداء التاريخيين للثورة من قادة الولايات من اجتماعات مجلس الثورة، لكني رفضت بشكل مطلق هذا الاقتراح وقلت له:
ـ لا تفعل مثلما فعل بن بلة عندما كان يقسمنا إلى أعضاء من الدرجة الأولى وأعضاء من الدرجة الثانية.
وأضفت:
ـ هؤلاء ضباط.. لقد كانوا ضد بن بلة قبلنا، لذلك يجب أن نجمع الضباط كلهم.
فرد علي بومدين مبررا عدم استعداده لإشراك قادة الداخل:
ـ ولكن أسرار الدولة تخرج كلما وسعنا دائرة الاجتماع.
ـ أي أسرار؟ نحن ليس لدينا قنبلة نووية نخفيها، فمشاكل الشعب معروفة وليس لدينا ما نخفيه.
ورغم الضغوطات التي كنا نمارسها على بومدين من أجل عقد مجلس الثورة إلا أنه ظل متمسكا بموقفه ولم يأبه لاستياء كبار الضباط وأعضاء مجلس الثورة، خاصة الرائد سعيد عبيد الذي كان أكثرنا تذمرا بالإضافة إلى الرائدين بن سالم ويحياوي.
وفي إحدى المرات ذهبت رفقة السعيد عبيد ويحياوي وأحمد دراية لزيارة عبد العزيز زرداني في بيته في نادي الصنوبر غربي العاصمة، وخلال تجولنا بالقرب من الشاطئ أعلمنا زرداني بأنه ينوي الاستقالة من منصبه كوزير للعمل والحماية الاجتماعية لأن تعيينات المديرين والمفتشين التي يقوم بها لا تنفذ، فقلت له:
ـ أتحسبني ساكتا عن بومدين، فهيا بنا لنقابله ونطلب منه أن يعقد اجتماع مجلس الثورة لأن لدينا مشاكل لا بد من حلها والفصل فيها.
لكن يحياوي الذي كان حينها نائبا للعقيد العباس في أكاديمية شرشال ولم يكن قد رقي بعد إلى قائد ناحية قال لي:
ـ بل تذهب أنت والسعيد عبيد لمقابلته.
وكان السعيد عبيد ضابطا مثقفا وجريئا فوافق على المجيء معي لمقابلة بومدين، وخلال هذا اللقاء قلت لبومدين:
ـ نريد عقد اجتماع مجلس الثورة لأن لدينا ما نقول فيه.
ثم تحدث السعيد عبيد قائلا:
ـ أنا ذاهب في إجازة قصيرة وأود عندما أرجع من الإجازة تكونوا قد حضرتم الاجتماع.
ووافق بومدين على عقد الاجتماع على مضض، رغم أنه لم يكن يريد رؤية علي منجلي في هذا الاجتماع.
بقينا ننتظر انعقاد اجتماع مجلس الثورة حتى مللنا الانتظار، وعاد السعيد عبيد من إجازته دون أن يجد الاجتماع قد حضر، مما أثار سخط الضباط على بومدين لكنهم لم يكونوا يجرؤون على مواجهته، لأنه كان له فضل عليهم، فهو الذي رقاهم كأعضاء في مجلس الثورة، إلا أنه لم يكن لديه أي فضل عليّ بل على العكس من ذلك تماما فقد وقفت إلى جانبه وساعدته في أحلك الظروف التي مر بها، لكني بدأت أشعر بأن بومدين لم يعد يقدر حجم هذه التضحيات والمواقف.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 11
لحلقة التاسعة: مقاطعتي الاستعراضات العسكرية فجرت الأزمة مع بومدين لم نقض على بن بله لنعيد “البنبلية”… يا بومدين
بوتفليقة يحاول إقناعي بعدم مقاطعة النشاطات الرسمية
أحد ضباطي كاد يقصف بومدين بقذيفة دبابة خلال استعراض عسكري
في الحلقتين السابقتين، أشار العقيد الطاهر زبيري إلى المشاكل التي كانت عالقة بينه وبين العقيد بومدين، وفي هذه الحلقة يحكي لنا العقيد زبيري كيف انتقل من مرحلة الضغط على بومدين إلى مرحلة تصعيد الضغط لإجبار بومدين على التنازل، وستكتشفون أمورا وتفاصيل لا يعلمها إلا الخاصة من الناس، تابعوا…
حل أزمة بتفجير أزمة
مرت نحو ستة أشهر عن آخر اجتماع لمجلس الثورة، وبومدين لا يلقي بالا لطلباتنا بضرورة عقده بشكل دوري، فقد تركت أزمته مع منجلي أثرا عميقا في نفسه، كما أنه كان يرى أن مجلس الثورة له دور شكلي لذلك ركز في عملية بناء الدولة على تنظيم الجيش، لكنه بذلك فتح المجال لانتقاد سياسته في إدارة حكم البلاد، خاصة وأنه أصبح أكثر ميلا لاتخاذ القرارات الحاسمة بشكل فردي، وبعد أن فشل في كسب تأييد كبار الضباط لتهميش قادة الداخل ومعهم منجلي والشخصيات السياسية أمثال محساس وبومعزة، صار يسعى لتهميشنا نحن بالاعتماد على جماعته التي تمثل النواة الصلبة للنظام الجديد.
ولم أداهن يوما بومدين في نزوعه إلى الحكم الفردي وقلتها له صراحة ذات يوم:
لم نقض على حكم بن بلة لنعيد البنبلية.
فالأساس الذي دفعنا للانقلاب على بن بله رغم كل ما يمثله من ثقل سياسي وتاريخي ورمزي هو نزعته الفردية في الحكم والارتجال في القرارات ومحاولة ضرب وحدة الجيش واحتكار العديد من المناصب والصلاحيات في يده، وها هو اليوم بومدين يعيدنا إلى نقطة الصفر ويكرر نفس أخطاء بن بله، وكأننا غيرنا الرجال دون أن نغير أساس النظام الفردي الذي من أجله قمنا بتنحية بن بله، وبذلك وضعنا بومدين بسبب هذا “الانحراف” أمام خيارات صعبة أحلاها أمر من الآخر، ورغم مساعينا الخالصة لحل هذه المشاكل بطريقة أخوية صادقة لكنه لم يكن يستمع إلى صوت الحكمة، فجرنا إلى ما كنا نتجنبه ونخشاه قبل إطاحتنا ببن بله.
الرائد سعيد عبيد الذي كان يقود أهم ناحية عسكرية في البلاد والتي تضم العاصمة وكان له دور جوهري في القضاء على بعض التمردات، كان أشدنا رغبة في تقليص صلاحيات بومدين، وقد اتفقت معه على دفع الأمور إلى التأزم لجعل بومدين يتنازل لصالح مبدأ القيادة الجماعية بدل النزوع إلى الحكم الفردي.
لذلك قررت مقاطعة الاحتفالات بالذكرى الثالثة عشر لاندلاع الثورة والتي كنا نحرص على تنظيمها في الأول من نوفمبر من كل عام حيث يقام استعراض عسكري بشارع جيش التحرير بوسط العاصمة، وتقام حفلات ونشطات متنوعة لتخليد هذه المناسبة التاريخية.
قمت باستقبال وفود عسكرية أجنبية من عدة بلدان كمصر وسوريا والاتحاد السوفياتي في المطار بشكل عادي أياما قبيل بداية الاحتفالات بعيد الثورة، لكني في يوم الاحتفال لم أذهب لحضور الاستعراض العسكري، وتأخر انطلاق الاحتفال ساعتين ونصف، فاتصل بي عبد المجيد علاهم مدير التشريفات بالرئاسة وقال لي:
ـ بومدين ينتظرك بقصر الشعب لتذهب معه إلى الاستعراض العسكري وأنت لم تأت بعد؟
ـ قل لبومدين إنني لن آتي حتى تنظم اجتماع مجلس الثورة وحينها سأتحدث فيه.
غيابي عن الاستعراض العسكري أثار جدلا ونقاشا وتساؤلات بين الضباط وإطارات الدولة، وحتى الوفود الأجنبية لاحظت بوادر أزمة في الجزائر تلوح في الأفق خاصة بعد أن تأخر انطلاق الاحتفال عدة ساعات في انتظار حضوري لكني لم آت.
وأخبرني أحد الضباط المقربين مني بعد انتهاء الاستعراض العسكري أنه عندما مر بدبابته بالقرب من المنصة الشرفية التي كان يجلس بها بومدين وحوله كبار الضباط والوفود الأجنبية كاد يطلق قذيفة دبابة باتجاهه لكنه تراجع في آخر لحظة، فحذرته من ارتكاب أي تصرف متهور دون تلقي الأوامر.
أثار رفضي حضور الاستعراض العسكري قلق بومدين، فأرسل السعيد عبيد إليّ وقال له:
ـ لم يأت في الاستعراض.. قل له يأتي في حفل الأميرالية.
وعندما جاءني السعيد عبيد وأخبرني بالأمر أبلغته رسالة شفوية إلى بومدين:
ـ ما دمت لم أحضر في الاستعراض فلن أحضر في الحفل.
وأضفت جازما:
ـ لن أحضر إلا في مجلس الثورة.
بوتفليقة مبعوث بومدين إليّ
تحقق أول هدف من الخطة التي رسمتها مع السعيد عبيد وهي فتح أزمة مباشرة مع بومدين ووضعه أمام الأمر الواقع، وجعله يسعى للتفاوض من أجل إيجاد مخرج لهذه الأزمة قبل أن تتطور إلى ما لا يحمد عقباه، فأرسل بومدين بوتفليقة إلي لمقابلتي، لكني بادرته بالسؤال:
ـ هل أنت مبعوث أم جئت في زيارة.
ـ بل أنا مبعوث.
وحاول بوتفليقة إقناعي بالعدول عن مقاطعة النشاطات الرسمية للدولة لكنني تمسكت بموقفي بضرورة عقد اجتماع لمجلس الثورة قبل أي شيء، وافترقنا على هذا الكلام.
محاولات الصلح
تشكلت لجنة الصلح من أقرب المقربين إليّ في الجيش وأكثرهم سخطا على سياسة بومدين التي أصبحت تميل إلى الحكم الفردي، وكانت تضم كلا من الرائد السعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى، والرائد محمد صالح يحياوي الذي أصبح قائدا للناحية العسكرية الثالثة (بشار)، والعقيد عباس نائب قائد الأركان وقائد الأكاديمية العسكرية بشرشال، والرائد عبد الرحمان بن سالم نائب قائد الأركان وقائد الحرس الجمهوري، أصبحت هذه اللجنة تجتمع مرة عندي ومرة عند بومدين لمحاولة تقريب وجهات النظر.
بومدين كان يخشاني كثيرا، كيف لا وهو يعلم أكثر من غيره جرأتي وعدم تراجعي عندما أتخذ القرارات الحاسمة، كما يدرك جيدا بأنني قدت عملية إلقاء القبض على بن بله بنجاح ويمكنني أن أكرر نفس التجربة بنفس النجاح، لذلك قرر إزاحتي عن قيادة الأركان وإبعادي عن الجيش بأي طريقة، وراح يساومني في ذلك، وقال للجنة الصلح في أحد الاجتماعات:
ـ ماذا يريد؟ مستعد لتعيينه رئيسا للوزراء.
لكني رفضت هذا العرض فلم أكن أرى نفسي أهلا لهذا المنصب السياسي الذي له رجاله، كما أن المناصب لم تكن تعنيني بقدر ما كان يهمني تقليص صلاحيات بومدين، وإعادة الشرعية للحكم، وتنفيذ مبدأ القيادة الجماعية، وأول خطوة نحو تنفيذ هذا الهدف هو عقد اجتماع لمجلس الثورة بكامل أعضائه لمناقشة مختلف القضايا التي تهم البلاد.
عندما لم يتمكن بومدين من إغرائي بمنصب سياسي اقترح علي إنشاء “مجلس للأمن” أكون على رأسه، فقد كان يناور من أجل تحييدي عن قيادة الأركان بكل الطرق والوسائل لأنه كان يعلم مدى حساسية هذا المنصب وثقله في الجيش كما الدولة، ولكني بقيت مصرا على موقفي رافضا التزحزح عنه قيد أنملة، فالأزمة التي كانت بيني وبين بومدين قضية “مبدأ وشرعية”، وليست صراعا من أجل السلطة والنفوذ.
مجلس الثورة يجتمع دون جميع أعضائه
توجه بوتفليقة بصفته وزيرا للخارجية إلى نيويورك لحضور اجتماع لجمعية الأمم المتحدة، وعند عودته اجتمع مجلس الثورة للاستماع إلى تقريره دون حضور قادة الداخل وبالأخص صالح بوبنيدر قائد الولاية الثانية ومحند أولحاج قائد الولاية الثالثة ويوسف الخطيب قائد الولاية الرابعة والعقيد محمدي السعيد أحد القادة العسكريين التاريخيين.
ورغم حساسية الأزمة التي تفجرت بيني وبين بومدين إلا أن مجلس الثورة لم يتناولها لا من قريب ولا من بعيد بعد أن أسقطت من جدول الأعمال، كما أني لم أحضر هذا الاجتماع لأن مجلس الثورة لم يجتمع بكامل أعضائه وكنت أنوي تقديم استقالتي كقائد للأركان لمجلس الثورة لا لبومدين حتى لا أمنحه هذا الشرف، إلا أن بومدين كان مصرا على اقـتصار اجتماع مجلس الثورة على جماعة وجدة وكبار الضباط مع تهميش بقية الأعضاء.
جماعة وجدة تتحرك لتطويق الأزمة
كثرت الزيارات إلى بيتي في فيلا زبوشة بالأبيار في أعالي العاصمة، وكان أغلبهم من ضباط الجيش ومن الشخصيات التاريخية أمثال عمار بن عودة عضو مجموعة 22 المفجرة للثورة والعقيد علي كافي قائد سابق للولاية الثانية، كما أن جماعة وجدة لم تقف مكتوفة الأيدي وسعت إلى تطويق الأزمة بعد أن خلقتُ جوا من الشلل والترقب في أعلى هرم السلطة.
وزارني في منزلي كل من بوتفليقة وزير الخارجية وشريف بلقاسم المسؤول عن الحزب وقايد أحمد وزير المالية وتحدثنا مليا عن المشاكل التي دفعتني إلى تفجير هذه الأزمة، وأكدت على ضرورة اجتماع مجلس الثورة بكامل أعضائه لمناقشة المشاكل الحقيقة للدولة خاصة فيما يتعلق بإعادة الشرعية للبلاد وتطبيق مبدأ القيادة الجماعية الذي سبق أن اتفقنا عليه كأساس في تسيير الدولة.
غير أن قايد أحمد اختصر الأزمة في ضرورة أن أتخلى عن قيادة الأركان، فقال لي:
ـ سي الطاهر استقل ولا تعرقل القيادة.
فقلت له بحزم:
ـ أنا لا أعرقل أحدا.
القوة في مواجهة القوة
طيلة شهر كامل والأزمة تراوح مكانها، وفي كل يوم كان يأتيني عدد من مسؤولي الدولة وضباط الجيش لزيارتي والحديث معي حول هذه الأزمة “المشتعلة” التي توشك أن تنفجر، وأصيب بومدين بالقلق الشديد من هذه الزيارات المكثفة إلى منزلي، وخشي أن يكون ثمة ما يطبخ وراء هذه اللقاءات، وأن هناك من يحرضني على الانقلاب عليه، ولم ينس أننا قبيل انقلابنا على بن بله كنا نجتمع طويلا في بيته وبيت الطيبي العربي، مما جعله يعلق على هذا الأمر غاضبا:
ـ ماذا.. جمهورية هنا وجمهورية هناك؟
وأرسل إليّ السعيد عبيد ليكشف لي عن قلقه من كثرة هذه الزيارات، فقلت له:
ـ لا يمكنني أن أرفض استقبال من جاءني زائرا، ولكن أنت لديك الشرطة فامنع الناس من زيارتي.
وعندما وصله ردي، قرر بومدين اعتقالي وقال لكبار الضباط:
ـ إذن ننقل زبيري لمكان لا يزوره فيه الناس.
واضطرب العقيد عباس لهذا القرار الذي من شأنه تأزيم الوضع أكثر فطلب من بومدين التريث أكثر وعدم التسرع في مثل هكذا قرارات، فقال له:
ـ لا تتخذوا أي قرار، دعوني أكلمه لعله يذهب للخارج للعلاج أو يعود إلى ناحيته ولا يبقى في العاصمة.
وبعد يومين أو ثلاثة جاءني العقيد عباس وقال لي:
ـ س الطاهر.. بومدين قرر إبعادك عن بيتك لأنه يعتبر أن المسؤولين الذين يزورونك يشوشون عليه.
فهمت بأن بومدين يريد حسم هذه الأزمة لصالحه بالقوة بدل التفاهم، وتذكرت مصير بن بله عندما دخل في صراع معه والمصير الذي كان سيلقاه علي منجلي لولا تدخلنا الحاسم إلى جانبه، فلجأت في المساء إلى ثكنة الليدو ببرج الكيفان شرقي العاصمة التي لا تبعد عن مقر الرئاسة سوى بأقل من عشر كيلومترات أين كان يتواجد بها فيلق مدرع بقيادة النقيب العياشي حواسنية كنا سنرسله إلى مصر للاشتراك في حرب الاستنزاف ضد الصهاينة.
بلغ بومدين خبر تحصني بثكنة الليدو واعتقد بأنني سأعطي الأوامر للفيلق المدرع بالزحف على مقر وزارة الدفاع ومقر الإذاعة والتلفزيون وقصر الرئاسة وإلقاء القبض عليه، فاضطرب واشتد قلقه خاصة أن بوتفليقة كان في مهمة بالخارج وقايد أحمد في تيارت ويحياوي في بشار، فغادر مقر الرئاسة واختبأ في مكان مجهول، وأخذ يصرخ على أركان دولته عبر الهاتف:
ـ الثورة في خطر.
واتصل بالضباط المقربين مني لمعالجة الأمر قبل أن يؤدي إلى وقوع صدام بين قوات الجيش، فجاءني وفد مشكل من العقيد عباس والرائد بن سالم والرائد السعيد عبيد إلى ثكنة الليدو على العاشرة ليلا للقائي وتهدئة الأمور، وسألني سعيد عبيد بشيء من العتاب:
ـ لماذا أتيت هنا.. بومدين جد قلق.
فأجبته بحزم:
ـ مادام يريد القبض عليّ فلا يرد القوة إلا القوة.
ورجع السعيد عبيد وبن سالم وكان معهما العقيد عباس وقابلوا بومدين وأخبروه بأنني لم ألجأ للتحصن بثكنة الليدو إلا بعدما قرر اعتقالي، لكن بومدين نفى بشدة صحة هذا الكلام وقال لهم:
ـ هذا غير صحيح.. طلبتم اجتماع مجلس الثورة.. سأنظم الاجتماع، وإذا أراد تعديل الحكومة، فسأعدلها، وإن خاف على أمنه فأنتم تضمنون أمنه.
هذه الإجابة أرضت كثيرا السعيد عبيد ويحياوي.. “أخيرا قرر بومدين التنازل والاستجابة لمطالب كبار الضباط وأغلبية أعضاء مجلس الثورة”، لكنهما لم يكونا يريدان تصعيد الأمور أكثر من ذلك، فالأهم بالنسبة لهما هو تعديل مجلس الثورة ليكون أكثر انسجاما.
وجاءني إلى ثكنة الليدو عدد من الضباط السامين أغلبهم قادة النواحي العسكرية وعلى رأسهم السعيد عبيد ويحياوي ليبلغوني خبر استجابة بومدين لجميع مطالبنا مع التأكيد بأنه لم يكن ينوي اعتقالي، لكني لم أكن أثق في كلامه، وأردت أن أضعه أمام الحقيقة وجها لوجه فقلت لهم:
ـ أطلبوا من بومدين أن يعاهدني أن لا يعاقب الشخص الذي جاءني بالمعلومات، وهو مستعد أن يتكلم.
فلما رجع الوفد إلى بومدين قال لهم:
ـ إذا خاف على أمنه فأنتم قادة النواحي العسكرية تضمنون حمايته.
لم أكن مرتاحا لتطميناته، فمعرفتي الجيدة له جعلتني أحذر من مناوراته، فبومدين كان يزيح عن طريقه كل من يتجاسر عليه، ولا يتردد في اللجوء إلى أي خيار من أجل إزالة أي عقبة تحول بينه وبين السلطة أو تنازعه عليها.
كنت أمام خيار صعب، فالثقة مجددا بوعود بومدين التي سبق أن أخلفها كان سيفقدني أهم ورقة ضغط في يدي، خاصة إذا أمر بومدين بإرسال الفيلق المدرع الذي يقوده الملازم العياشي حواسنية بعيدا عن العاصمة، لكن قادة النواحي العسكرية طمأنوني بأن أيا من توجساتي سيحدث، كما أني لم أكن أرغب في وقوع أي مواجهة عسكرية بين قوات الجيش، إلا أني في الوقت نفسه كنت أرفض أن أكون لقمة سائغة في فم بومدين، ورغم ذلك استجبت لهم بناء على ضماناتهم بعدما حذرتهم من مغبة الوقوع في الفخ الذي قد يبتلعنا جميعا، وقلت لهم:
ـ أبيت اليوم هنا وغدا على العاشرة صباحا أعود إلى بيتي.
لقاء حاد مع بومدين في بيتي
في اليوم الموالي وعلى الساعة الحادية عشر إلا ربعا فاجأني بومدين بزيارة إلى بيتي في الأبيار رفقة أربعة من حراسه المقربين، فأدخلته إلى منزلي، وعندما أراد حراسه الدخول منعتهم بلطف وقلت لهم:
ـ إبقوا في الخارج، هو عندي في أمان.
جلس بومدين على الأريكة وبادرني بالعتاب:
ـ يا صاحبي خلقت لنا أزمة هتلر… لقد ضخمتها.
لم أكن على استعداد لمجاملة بومدين فرددت عليه بشكل حاد وصريح:
ـ يا سي بومدين.. لم ندرس مع بعض، ولم نلعب مع بعض، نحن اجتمعنا على مبادئ ولكنك جعلت الناس يشتموننا.. وعدناهم بأن نقدم لهم أحسن ما قدم لهم بن بله، لكن الحالة تزداد تعفنا، والناس تصفنا بـ”كابرنات (جمع عريف) بومدين”، ونحن لما اتفقنا على تنحية بن بله قدمت شروطي لكم، لكنك تسير في طريق بن بله.
ثم أكدت له أن سبب تحصني بثكنة الليدو لم يكن اعتباطيا ولا محض شكوك، وقلت له:
ـ الشخص الذي نقل لي الأمر مستعد أن يتكلم شرط أن لا تعاقبه.. واجمع مجلس الثورة وأنا سآتي.
لكن بومدين لما لاحظ حدتي في الكلام معه، فضل تأجيل النقاش إلى فرصة أنسب، وقال وهو يهم بالانصراف:
ـ أنت غاضب جدا، سنترك الأمر إلى فرصة مقبلة ونتحدث.
إنها قضية مبادئ.. لا أشخاص
بعد هذه الزيارة “الشجاعة” من بومدين، ألح علي وفد الصلح أن أرد له الزيارة ولو من باب اللياقة لامتصاص فتيل الأزمة التي بدأت تهدأ دون أن تنتهي مسبباتها، فلم أجد مانعا في الأمر، وزرت بومدين في بيته بشارع “لاكولون” بحيدرة، ولم يكن هذا اللقاء فرصة لإعادة الوفاق بيننا بقدر ما أظهر حجم البون الذي يفصلنا، إذ أنني وبعد أن استعرضت عليه القضايا التي دفعت بالأوضاع إلى التأزم، خاصة بعد تراجعه عن العديد من النقاط التي اتفقنا عليها قبيل تنحية بن بله وعلى رأسها إعادة الشرعية للبلاد، والتزام مبدأ القيادة الجماعية، وكيف أن أوضاع البلاد تتجه من سيء إلى أسوأ، لكن بومدين قاطعني ورد علي بكل برودة:
ـ إني أراك ترسم أمامي لوحة سوداء للوضع وأنا لا أرى مثل هذا السواد.
ـ هذا هو الواقع.
واعتقد بومدين أنني أحاول من وراء انتقادي لطريقة تسييره لشؤون البلاد أن أفرض عليه أسماء بعينها لترقيتها في مناصب قيادية، فسألني بشكل مستفز:
ـ إذا كان لديك أسماء تريد أن تسند إليها مسؤوليات فهات.
أحسست بأن بومدين يهينني بهذا الكلام لأنه يختصر كل ما حدث في مجرد أسماء ومناصب، فأجبته كمن يريد أن يعيد الأمور إلى نصابها:
ـ القضية قضية مبادئ وليست قضية أشخاص.
وغادرت منزله وشعور بالأسف يراودني.
أحد ضباطي كاد يقصف بومدين بقذيفة دبابة خلال استعراض عسكري
في الحلقتين السابقتين، أشار العقيد الطاهر زبيري إلى المشاكل التي كانت عالقة بينه وبين العقيد بومدين، وفي هذه الحلقة يحكي لنا العقيد زبيري كيف انتقل من مرحلة الضغط على بومدين إلى مرحلة تصعيد الضغط لإجبار بومدين على التنازل، وستكتشفون أمورا وتفاصيل لا يعلمها إلا الخاصة من الناس، تابعوا…
حل أزمة بتفجير أزمة
مرت نحو ستة أشهر عن آخر اجتماع لمجلس الثورة، وبومدين لا يلقي بالا لطلباتنا بضرورة عقده بشكل دوري، فقد تركت أزمته مع منجلي أثرا عميقا في نفسه، كما أنه كان يرى أن مجلس الثورة له دور شكلي لذلك ركز في عملية بناء الدولة على تنظيم الجيش، لكنه بذلك فتح المجال لانتقاد سياسته في إدارة حكم البلاد، خاصة وأنه أصبح أكثر ميلا لاتخاذ القرارات الحاسمة بشكل فردي، وبعد أن فشل في كسب تأييد كبار الضباط لتهميش قادة الداخل ومعهم منجلي والشخصيات السياسية أمثال محساس وبومعزة، صار يسعى لتهميشنا نحن بالاعتماد على جماعته التي تمثل النواة الصلبة للنظام الجديد.
ولم أداهن يوما بومدين في نزوعه إلى الحكم الفردي وقلتها له صراحة ذات يوم:
لم نقض على حكم بن بلة لنعيد البنبلية.
فالأساس الذي دفعنا للانقلاب على بن بله رغم كل ما يمثله من ثقل سياسي وتاريخي ورمزي هو نزعته الفردية في الحكم والارتجال في القرارات ومحاولة ضرب وحدة الجيش واحتكار العديد من المناصب والصلاحيات في يده، وها هو اليوم بومدين يعيدنا إلى نقطة الصفر ويكرر نفس أخطاء بن بله، وكأننا غيرنا الرجال دون أن نغير أساس النظام الفردي الذي من أجله قمنا بتنحية بن بله، وبذلك وضعنا بومدين بسبب هذا “الانحراف” أمام خيارات صعبة أحلاها أمر من الآخر، ورغم مساعينا الخالصة لحل هذه المشاكل بطريقة أخوية صادقة لكنه لم يكن يستمع إلى صوت الحكمة، فجرنا إلى ما كنا نتجنبه ونخشاه قبل إطاحتنا ببن بله.
الرائد سعيد عبيد الذي كان يقود أهم ناحية عسكرية في البلاد والتي تضم العاصمة وكان له دور جوهري في القضاء على بعض التمردات، كان أشدنا رغبة في تقليص صلاحيات بومدين، وقد اتفقت معه على دفع الأمور إلى التأزم لجعل بومدين يتنازل لصالح مبدأ القيادة الجماعية بدل النزوع إلى الحكم الفردي.
لذلك قررت مقاطعة الاحتفالات بالذكرى الثالثة عشر لاندلاع الثورة والتي كنا نحرص على تنظيمها في الأول من نوفمبر من كل عام حيث يقام استعراض عسكري بشارع جيش التحرير بوسط العاصمة، وتقام حفلات ونشطات متنوعة لتخليد هذه المناسبة التاريخية.
قمت باستقبال وفود عسكرية أجنبية من عدة بلدان كمصر وسوريا والاتحاد السوفياتي في المطار بشكل عادي أياما قبيل بداية الاحتفالات بعيد الثورة، لكني في يوم الاحتفال لم أذهب لحضور الاستعراض العسكري، وتأخر انطلاق الاحتفال ساعتين ونصف، فاتصل بي عبد المجيد علاهم مدير التشريفات بالرئاسة وقال لي:
ـ بومدين ينتظرك بقصر الشعب لتذهب معه إلى الاستعراض العسكري وأنت لم تأت بعد؟
ـ قل لبومدين إنني لن آتي حتى تنظم اجتماع مجلس الثورة وحينها سأتحدث فيه.
غيابي عن الاستعراض العسكري أثار جدلا ونقاشا وتساؤلات بين الضباط وإطارات الدولة، وحتى الوفود الأجنبية لاحظت بوادر أزمة في الجزائر تلوح في الأفق خاصة بعد أن تأخر انطلاق الاحتفال عدة ساعات في انتظار حضوري لكني لم آت.
وأخبرني أحد الضباط المقربين مني بعد انتهاء الاستعراض العسكري أنه عندما مر بدبابته بالقرب من المنصة الشرفية التي كان يجلس بها بومدين وحوله كبار الضباط والوفود الأجنبية كاد يطلق قذيفة دبابة باتجاهه لكنه تراجع في آخر لحظة، فحذرته من ارتكاب أي تصرف متهور دون تلقي الأوامر.
أثار رفضي حضور الاستعراض العسكري قلق بومدين، فأرسل السعيد عبيد إليّ وقال له:
ـ لم يأت في الاستعراض.. قل له يأتي في حفل الأميرالية.
وعندما جاءني السعيد عبيد وأخبرني بالأمر أبلغته رسالة شفوية إلى بومدين:
ـ ما دمت لم أحضر في الاستعراض فلن أحضر في الحفل.
وأضفت جازما:
ـ لن أحضر إلا في مجلس الثورة.
بوتفليقة مبعوث بومدين إليّ
تحقق أول هدف من الخطة التي رسمتها مع السعيد عبيد وهي فتح أزمة مباشرة مع بومدين ووضعه أمام الأمر الواقع، وجعله يسعى للتفاوض من أجل إيجاد مخرج لهذه الأزمة قبل أن تتطور إلى ما لا يحمد عقباه، فأرسل بومدين بوتفليقة إلي لمقابلتي، لكني بادرته بالسؤال:
ـ هل أنت مبعوث أم جئت في زيارة.
ـ بل أنا مبعوث.
وحاول بوتفليقة إقناعي بالعدول عن مقاطعة النشاطات الرسمية للدولة لكنني تمسكت بموقفي بضرورة عقد اجتماع لمجلس الثورة قبل أي شيء، وافترقنا على هذا الكلام.
محاولات الصلح
تشكلت لجنة الصلح من أقرب المقربين إليّ في الجيش وأكثرهم سخطا على سياسة بومدين التي أصبحت تميل إلى الحكم الفردي، وكانت تضم كلا من الرائد السعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى، والرائد محمد صالح يحياوي الذي أصبح قائدا للناحية العسكرية الثالثة (بشار)، والعقيد عباس نائب قائد الأركان وقائد الأكاديمية العسكرية بشرشال، والرائد عبد الرحمان بن سالم نائب قائد الأركان وقائد الحرس الجمهوري، أصبحت هذه اللجنة تجتمع مرة عندي ومرة عند بومدين لمحاولة تقريب وجهات النظر.
بومدين كان يخشاني كثيرا، كيف لا وهو يعلم أكثر من غيره جرأتي وعدم تراجعي عندما أتخذ القرارات الحاسمة، كما يدرك جيدا بأنني قدت عملية إلقاء القبض على بن بله بنجاح ويمكنني أن أكرر نفس التجربة بنفس النجاح، لذلك قرر إزاحتي عن قيادة الأركان وإبعادي عن الجيش بأي طريقة، وراح يساومني في ذلك، وقال للجنة الصلح في أحد الاجتماعات:
ـ ماذا يريد؟ مستعد لتعيينه رئيسا للوزراء.
لكني رفضت هذا العرض فلم أكن أرى نفسي أهلا لهذا المنصب السياسي الذي له رجاله، كما أن المناصب لم تكن تعنيني بقدر ما كان يهمني تقليص صلاحيات بومدين، وإعادة الشرعية للحكم، وتنفيذ مبدأ القيادة الجماعية، وأول خطوة نحو تنفيذ هذا الهدف هو عقد اجتماع لمجلس الثورة بكامل أعضائه لمناقشة مختلف القضايا التي تهم البلاد.
عندما لم يتمكن بومدين من إغرائي بمنصب سياسي اقترح علي إنشاء “مجلس للأمن” أكون على رأسه، فقد كان يناور من أجل تحييدي عن قيادة الأركان بكل الطرق والوسائل لأنه كان يعلم مدى حساسية هذا المنصب وثقله في الجيش كما الدولة، ولكني بقيت مصرا على موقفي رافضا التزحزح عنه قيد أنملة، فالأزمة التي كانت بيني وبين بومدين قضية “مبدأ وشرعية”، وليست صراعا من أجل السلطة والنفوذ.
مجلس الثورة يجتمع دون جميع أعضائه
توجه بوتفليقة بصفته وزيرا للخارجية إلى نيويورك لحضور اجتماع لجمعية الأمم المتحدة، وعند عودته اجتمع مجلس الثورة للاستماع إلى تقريره دون حضور قادة الداخل وبالأخص صالح بوبنيدر قائد الولاية الثانية ومحند أولحاج قائد الولاية الثالثة ويوسف الخطيب قائد الولاية الرابعة والعقيد محمدي السعيد أحد القادة العسكريين التاريخيين.
ورغم حساسية الأزمة التي تفجرت بيني وبين بومدين إلا أن مجلس الثورة لم يتناولها لا من قريب ولا من بعيد بعد أن أسقطت من جدول الأعمال، كما أني لم أحضر هذا الاجتماع لأن مجلس الثورة لم يجتمع بكامل أعضائه وكنت أنوي تقديم استقالتي كقائد للأركان لمجلس الثورة لا لبومدين حتى لا أمنحه هذا الشرف، إلا أن بومدين كان مصرا على اقـتصار اجتماع مجلس الثورة على جماعة وجدة وكبار الضباط مع تهميش بقية الأعضاء.
جماعة وجدة تتحرك لتطويق الأزمة
كثرت الزيارات إلى بيتي في فيلا زبوشة بالأبيار في أعالي العاصمة، وكان أغلبهم من ضباط الجيش ومن الشخصيات التاريخية أمثال عمار بن عودة عضو مجموعة 22 المفجرة للثورة والعقيد علي كافي قائد سابق للولاية الثانية، كما أن جماعة وجدة لم تقف مكتوفة الأيدي وسعت إلى تطويق الأزمة بعد أن خلقتُ جوا من الشلل والترقب في أعلى هرم السلطة.
وزارني في منزلي كل من بوتفليقة وزير الخارجية وشريف بلقاسم المسؤول عن الحزب وقايد أحمد وزير المالية وتحدثنا مليا عن المشاكل التي دفعتني إلى تفجير هذه الأزمة، وأكدت على ضرورة اجتماع مجلس الثورة بكامل أعضائه لمناقشة المشاكل الحقيقة للدولة خاصة فيما يتعلق بإعادة الشرعية للبلاد وتطبيق مبدأ القيادة الجماعية الذي سبق أن اتفقنا عليه كأساس في تسيير الدولة.
غير أن قايد أحمد اختصر الأزمة في ضرورة أن أتخلى عن قيادة الأركان، فقال لي:
ـ سي الطاهر استقل ولا تعرقل القيادة.
فقلت له بحزم:
ـ أنا لا أعرقل أحدا.
القوة في مواجهة القوة
طيلة شهر كامل والأزمة تراوح مكانها، وفي كل يوم كان يأتيني عدد من مسؤولي الدولة وضباط الجيش لزيارتي والحديث معي حول هذه الأزمة “المشتعلة” التي توشك أن تنفجر، وأصيب بومدين بالقلق الشديد من هذه الزيارات المكثفة إلى منزلي، وخشي أن يكون ثمة ما يطبخ وراء هذه اللقاءات، وأن هناك من يحرضني على الانقلاب عليه، ولم ينس أننا قبيل انقلابنا على بن بله كنا نجتمع طويلا في بيته وبيت الطيبي العربي، مما جعله يعلق على هذا الأمر غاضبا:
ـ ماذا.. جمهورية هنا وجمهورية هناك؟
وأرسل إليّ السعيد عبيد ليكشف لي عن قلقه من كثرة هذه الزيارات، فقلت له:
ـ لا يمكنني أن أرفض استقبال من جاءني زائرا، ولكن أنت لديك الشرطة فامنع الناس من زيارتي.
وعندما وصله ردي، قرر بومدين اعتقالي وقال لكبار الضباط:
ـ إذن ننقل زبيري لمكان لا يزوره فيه الناس.
واضطرب العقيد عباس لهذا القرار الذي من شأنه تأزيم الوضع أكثر فطلب من بومدين التريث أكثر وعدم التسرع في مثل هكذا قرارات، فقال له:
ـ لا تتخذوا أي قرار، دعوني أكلمه لعله يذهب للخارج للعلاج أو يعود إلى ناحيته ولا يبقى في العاصمة.
وبعد يومين أو ثلاثة جاءني العقيد عباس وقال لي:
ـ س الطاهر.. بومدين قرر إبعادك عن بيتك لأنه يعتبر أن المسؤولين الذين يزورونك يشوشون عليه.
فهمت بأن بومدين يريد حسم هذه الأزمة لصالحه بالقوة بدل التفاهم، وتذكرت مصير بن بله عندما دخل في صراع معه والمصير الذي كان سيلقاه علي منجلي لولا تدخلنا الحاسم إلى جانبه، فلجأت في المساء إلى ثكنة الليدو ببرج الكيفان شرقي العاصمة التي لا تبعد عن مقر الرئاسة سوى بأقل من عشر كيلومترات أين كان يتواجد بها فيلق مدرع بقيادة النقيب العياشي حواسنية كنا سنرسله إلى مصر للاشتراك في حرب الاستنزاف ضد الصهاينة.
بلغ بومدين خبر تحصني بثكنة الليدو واعتقد بأنني سأعطي الأوامر للفيلق المدرع بالزحف على مقر وزارة الدفاع ومقر الإذاعة والتلفزيون وقصر الرئاسة وإلقاء القبض عليه، فاضطرب واشتد قلقه خاصة أن بوتفليقة كان في مهمة بالخارج وقايد أحمد في تيارت ويحياوي في بشار، فغادر مقر الرئاسة واختبأ في مكان مجهول، وأخذ يصرخ على أركان دولته عبر الهاتف:
ـ الثورة في خطر.
واتصل بالضباط المقربين مني لمعالجة الأمر قبل أن يؤدي إلى وقوع صدام بين قوات الجيش، فجاءني وفد مشكل من العقيد عباس والرائد بن سالم والرائد السعيد عبيد إلى ثكنة الليدو على العاشرة ليلا للقائي وتهدئة الأمور، وسألني سعيد عبيد بشيء من العتاب:
ـ لماذا أتيت هنا.. بومدين جد قلق.
فأجبته بحزم:
ـ مادام يريد القبض عليّ فلا يرد القوة إلا القوة.
ورجع السعيد عبيد وبن سالم وكان معهما العقيد عباس وقابلوا بومدين وأخبروه بأنني لم ألجأ للتحصن بثكنة الليدو إلا بعدما قرر اعتقالي، لكن بومدين نفى بشدة صحة هذا الكلام وقال لهم:
ـ هذا غير صحيح.. طلبتم اجتماع مجلس الثورة.. سأنظم الاجتماع، وإذا أراد تعديل الحكومة، فسأعدلها، وإن خاف على أمنه فأنتم تضمنون أمنه.
هذه الإجابة أرضت كثيرا السعيد عبيد ويحياوي.. “أخيرا قرر بومدين التنازل والاستجابة لمطالب كبار الضباط وأغلبية أعضاء مجلس الثورة”، لكنهما لم يكونا يريدان تصعيد الأمور أكثر من ذلك، فالأهم بالنسبة لهما هو تعديل مجلس الثورة ليكون أكثر انسجاما.
وجاءني إلى ثكنة الليدو عدد من الضباط السامين أغلبهم قادة النواحي العسكرية وعلى رأسهم السعيد عبيد ويحياوي ليبلغوني خبر استجابة بومدين لجميع مطالبنا مع التأكيد بأنه لم يكن ينوي اعتقالي، لكني لم أكن أثق في كلامه، وأردت أن أضعه أمام الحقيقة وجها لوجه فقلت لهم:
ـ أطلبوا من بومدين أن يعاهدني أن لا يعاقب الشخص الذي جاءني بالمعلومات، وهو مستعد أن يتكلم.
فلما رجع الوفد إلى بومدين قال لهم:
ـ إذا خاف على أمنه فأنتم قادة النواحي العسكرية تضمنون حمايته.
لم أكن مرتاحا لتطميناته، فمعرفتي الجيدة له جعلتني أحذر من مناوراته، فبومدين كان يزيح عن طريقه كل من يتجاسر عليه، ولا يتردد في اللجوء إلى أي خيار من أجل إزالة أي عقبة تحول بينه وبين السلطة أو تنازعه عليها.
كنت أمام خيار صعب، فالثقة مجددا بوعود بومدين التي سبق أن أخلفها كان سيفقدني أهم ورقة ضغط في يدي، خاصة إذا أمر بومدين بإرسال الفيلق المدرع الذي يقوده الملازم العياشي حواسنية بعيدا عن العاصمة، لكن قادة النواحي العسكرية طمأنوني بأن أيا من توجساتي سيحدث، كما أني لم أكن أرغب في وقوع أي مواجهة عسكرية بين قوات الجيش، إلا أني في الوقت نفسه كنت أرفض أن أكون لقمة سائغة في فم بومدين، ورغم ذلك استجبت لهم بناء على ضماناتهم بعدما حذرتهم من مغبة الوقوع في الفخ الذي قد يبتلعنا جميعا، وقلت لهم:
ـ أبيت اليوم هنا وغدا على العاشرة صباحا أعود إلى بيتي.
لقاء حاد مع بومدين في بيتي
في اليوم الموالي وعلى الساعة الحادية عشر إلا ربعا فاجأني بومدين بزيارة إلى بيتي في الأبيار رفقة أربعة من حراسه المقربين، فأدخلته إلى منزلي، وعندما أراد حراسه الدخول منعتهم بلطف وقلت لهم:
ـ إبقوا في الخارج، هو عندي في أمان.
جلس بومدين على الأريكة وبادرني بالعتاب:
ـ يا صاحبي خلقت لنا أزمة هتلر… لقد ضخمتها.
لم أكن على استعداد لمجاملة بومدين فرددت عليه بشكل حاد وصريح:
ـ يا سي بومدين.. لم ندرس مع بعض، ولم نلعب مع بعض، نحن اجتمعنا على مبادئ ولكنك جعلت الناس يشتموننا.. وعدناهم بأن نقدم لهم أحسن ما قدم لهم بن بله، لكن الحالة تزداد تعفنا، والناس تصفنا بـ”كابرنات (جمع عريف) بومدين”، ونحن لما اتفقنا على تنحية بن بله قدمت شروطي لكم، لكنك تسير في طريق بن بله.
ثم أكدت له أن سبب تحصني بثكنة الليدو لم يكن اعتباطيا ولا محض شكوك، وقلت له:
ـ الشخص الذي نقل لي الأمر مستعد أن يتكلم شرط أن لا تعاقبه.. واجمع مجلس الثورة وأنا سآتي.
لكن بومدين لما لاحظ حدتي في الكلام معه، فضل تأجيل النقاش إلى فرصة أنسب، وقال وهو يهم بالانصراف:
ـ أنت غاضب جدا، سنترك الأمر إلى فرصة مقبلة ونتحدث.
إنها قضية مبادئ.. لا أشخاص
بعد هذه الزيارة “الشجاعة” من بومدين، ألح علي وفد الصلح أن أرد له الزيارة ولو من باب اللياقة لامتصاص فتيل الأزمة التي بدأت تهدأ دون أن تنتهي مسبباتها، فلم أجد مانعا في الأمر، وزرت بومدين في بيته بشارع “لاكولون” بحيدرة، ولم يكن هذا اللقاء فرصة لإعادة الوفاق بيننا بقدر ما أظهر حجم البون الذي يفصلنا، إذ أنني وبعد أن استعرضت عليه القضايا التي دفعت بالأوضاع إلى التأزم، خاصة بعد تراجعه عن العديد من النقاط التي اتفقنا عليها قبيل تنحية بن بله وعلى رأسها إعادة الشرعية للبلاد، والتزام مبدأ القيادة الجماعية، وكيف أن أوضاع البلاد تتجه من سيء إلى أسوأ، لكن بومدين قاطعني ورد علي بكل برودة:
ـ إني أراك ترسم أمامي لوحة سوداء للوضع وأنا لا أرى مثل هذا السواد.
ـ هذا هو الواقع.
واعتقد بومدين أنني أحاول من وراء انتقادي لطريقة تسييره لشؤون البلاد أن أفرض عليه أسماء بعينها لترقيتها في مناصب قيادية، فسألني بشكل مستفز:
ـ إذا كان لديك أسماء تريد أن تسند إليها مسؤوليات فهات.
أحسست بأن بومدين يهينني بهذا الكلام لأنه يختصر كل ما حدث في مجرد أسماء ومناصب، فأجبته كمن يريد أن يعيد الأمور إلى نصابها:
ـ القضية قضية مبادئ وليست قضية أشخاص.
وغادرت منزله وشعور بالأسف يراودني.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
زبيري يخطط لتحرير بن بلة للضغط على بومدين
وصول الأزمة بين العقيد زبيري والعقيد بومدين إلى ذروتها جعل الدولة تغلي بسبب عدم مرور التيار بين أقوى رجلين في الجزائر، وفي هذه الحلقة يوضح العقيد زبيري كيف تحوّلت الأزمة من اختلاف في وجهات نظر إلى صدام عسكري مؤسف.
بومدين يقرر اغتيالي غدرا
طيلة 44 يوما والأمور في أخذ وجذب بيني وبين بومدين، دون أن نصل إلى اتفاق ينهي حالة الجمود في أعلى هرم السلطة، وطيلة هذه المدة لم أكن أنوي مطلقا القيام بأي عمل عسكري ضد بومدين، ويخطئ من يظن أنني كنت أخطط للانقلاب على بومدين، بل كنت أضغط بكل ما أوتيت من نفوذ داخل السلطة من أجل إعادة الشرعية للبلاد وتخليصها من الحكم الفردي دون إراقة للدماء، لكني مع ذلك لم أستبعد كل الاحتمالات، وكنت جاهزا لكل الخيارات التي قد تطرأ في أي لحظة من اللحظات، لأن الأمور إذا لم تتجه نحو الانفراج فإنها بالتأكيد تقترب من الانفجار.
جاءني السعيد عبيد يوم 12 ديسمبر إلى البيت وكنا حينها في شهر رمضان وأخبرني أنه سيتكلم مع بومدين وسيبلغني نتيجة اللقاء على أن آتي للإفطار معه، فقبلت دعوته وقلت له:
ـ بعد أذان المغرب بعشر دقائق سأكون عندك في البيت.
وفي بيت السعيد عبيد الذي لم يكن بعيدا عن منزلي جلسنا نتناول إفطارنا بعد أن انقضى 12 يوما من رمضان، وكان معنا كل من العقيد عباس والرائد بن سالم، كانت وجوه ثلاثتهم حزينة، عابسة، تقطر صمتا، لم يكونوا يستلذون طعام الإفطار، وكأن أمرا جللا عجزت أن تحمله الأفئدة أو أن تنطق به الألسن، قبل أن يكسر السعيد عبيد زجاج الصمت منتقدا عودة بومدين إلى التشدد في مواقفه قائلا:
ـ عملنا عدة خطوات لحل الأزمة لكنه (بومدين) لم يقم بأي خطوة.
ثم التفت إلى العقيد عباس داعيا إياه أن يكشف لي ما عجز هو عن قوله:
ـ أخبر سي الطاهر بالموقف الأخير لبومدين.
لكن العقيد عباس اعتذر كمن لا يريد تحمل المسؤولية وقال:
ـ الأحسن أن تخبره أنت.
فتشجع السعيد عبيد وتحدث بقدر ليس بالقليل من الحرج:
ـ بومدين قال لنا أخرجوه من ثكنة الليدو وسأدعو إلى انعقاد مجلس الثورة بكامل أعضائه وسأفعل كذا وكذا لكنه لم يفعل أي شيء مما وعد.
ثم أضاف ليكشف أمرا أخطر من الأول:
ـ بومدين يجهز كموندوس بإمكانه القضاء على أي واحد منا، ويقول بأن قادة النواحي العسكرية هم من يضمنون أمنك، ولكن ليس لدينا أي ضمان.
عقدت الصدمة لساني بعد أن اعترف قادة النواحي العسكرية بعجزهم عن ضمان حتى أمنهم الشخصي، ما بالك بضمان أمني أو الوقوف إلى جانبي في صراعي مع بومدين، فبعد أن كانوا طرفا أساسيا في الصراع توقف دورهم عند الوساطة والحياد، بل صاروا أخوف على حياتهم بعد أن جهز بومدين رجالا من الكموندوس للاغتيالات الخاصة، وكان بالتأكيد رأسي ورأس السعيد عبيد والعقيد عباس وبن سالم وربما يحياوي أولى هذه الرؤوس التي سيتم قطافها.
أحسست بالندم لأني وثقت في تطميناتهم رغم أنني لم أكن مرتاحا بالمرة لوعود بومدين وعاتبتهم يوم لا ينفع العتاب وذكرتهم بما سبق وأن حذرتهم منه:
ـ وصلنا أخيرا إلى هذا الكلام.. قلت لكم في الليدو لن ينفذ بومدين أي شيء من هذه الوعود.
ثم أمرتهم بأن يلتحق كل واحد منهم بمركزه، وقد كانت خيبة أملي الأكبر في الرائد السعيد عبيد الذي كانت وحداته المسلحة في الناحية العسكرية الأولى كافية لوحدها للسيطرة على العاصمة ومختلف المقرات الرسمية، لكنه كان مترددا ولم يستطع أن يحسم أمره بل قام قبل ذلك بإبعاد الفيلق المدرع الذي احتميت عنده في الليدو إلى ولاية الشلف بدون علمي، لذلك بيّتُ أمرا حتى أخلصه من تردده، وغادرت بسرعة بيت السعيد عبيد حتى أختفي عن أنظار عيون بومدين.
خطتي لردع بومدين
رغم وصول أزمتي مع بومدين إلى ذروتها، إلا أنه لم يدر في خلدي أن أقتلعه من قيادة الدولة، ولم أكن أرى نفسي أهلا لهذه المسؤولية الثقيلة، لكني كنت أسعى لتجريد بومدين من عدة مسؤوليات خاصة رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع مع الإبقاء له على منصب رئيس الدولة ولتحقيق هذا الهدف قررت:
1 ـ استدعاء جميع الفيالق الخاضعة لسلطتي المباشرة لاحتلال مركز قيادة الناحية العسكرية الأولى في البليدة لتخليص قائدها الرائد السعيد عبيد من تردده ووضعه أمام الأمر الواقع، خاصة أنني كنت أخشى أن يقوم بإبعاد الفيالق الموالية لي والخاضعة لسلطته المباشرة بعيدا عن العاصمة وعن مسرح العمليات مثلما فعل مع الفيلق المدرع بقيادة العياشي حواسنية من العاصمة إلى الأصنام (الشلف) دون علمي، لذلك أمرت فورا بتحرك الفيالق قبل أن يصدر السعيد عبيد أوامره، وبمجرد أن أبسط سيطرتي على قيادة الناحية العسكرية الأولى في البليدة حتى تصبح جميع فيالق الناحية تحت إمرتي، ومن هناك يمكننا تنظيم قواتنا قبل الزحف على العاصمة دون الحاجة إلى دعم بقية قادة النواحي العسكرية الأخرى الذين كانوا في معظمهم يقفون موقف الحياد في انتظار جلاء الصورة إلى من ستميل الكفة.
2 ـ السيطرة على مكان اعتقال الرئيس المخلوع أحمد بن بلة في قصر هولدن الواقع على الطريق بين الدويرة (العاصمة) والقليعة (تيبازة)، حيث كنا نغيّر مكان احتجازه من حين لآخر، حتى نضمن عدم قيام أي كموندوس بتحريره، ثم التلويح بإطلاق سراح بن بلة الذي كان يخشاه بومدين كثيرا بسبب شعبيته في الداخل والخارج ومكانته التاريخية خلال الثورة، وهذا بهدف الضغط على بومدين بالقبول بجملة من الشروط أبرزها التنازل عن جزء من صلاحياته لمجلس الثورة، وإعادة الشرعية للبلاد، رغم أن إطلاق سراح بن بلة كان سيشكل تهديدا شخصيا لي كذلك، فلن ينسى بن بلة أبدا أنني من قام بتوقيفه وإنهاء أيام حكمه.
3 ـ تشجيع الرائد محمد الصالح يحياوي قائد الناحية العسكرية الثالثة (بشار) والنقيب خالد نزار قائد لواء (مسؤول عن عدة فيالق وينحدر من نفس الجهة التي كنت مسؤولا عنها خلال الثورة) بالضغط على الشاذلي بن جديد قائد الناحية العسكرية الثانية (وهران) لدعمي في هذه الحركة.
4 ـ دعوة أعضاء مجلس الثورة خاصة الذين حاول بومدين إقصاءهم كالرائد علي منجلي والعقداء التاريخيين وكبار ضباط الجيش لعقد اجتماع استثنائي، للتشاور حول الخطوات الأخرى التي يجب اتخاذها، وكنت سأوجه الدعوة إلى بومدين أيضا لحضور اجتماع مجلس الثورة بصفته عضوا فيه رغم توقعي بأنه لن يأتي.
5 ـ تشجيع العمال للخروج في مظاهرات منددة بالحكم الفردي لبومدين، بالاستعانة بوزير العمل والحماية الاجتماعية عبد العزيز زرداني الذي أكد أنه سيطلب من الاتحاد العام للعمال الجزائريين التنديد بحكم بومدين والخروج في مظاهرات شعبية عارمة مما يعطي لحركتنا العسكرية بعدا شعبيا إلى جانب البعدين السياسي والتاريخي.
الأمر بتحرك الفيالق:
بعد أن أصبح في حكم المؤكد أن بومدين حسم قراره لصالح إنهاء الأزمة عبر التصفية الجسدية لخصومه، طلبت من موسى حواسنية (الذي كان الوحيد الذي يعرف مكان اختبائي) أن يستدعي على وجه السرعة الرائد عمار ملاح الذي كان يقيم حينها في فيلا بضواحي الأبيار، وجاءني عمار ملاح في تلك الليلة 12 ديسمبر 1967 إلى منزل يقع بالقرب من ثكنة الليدو في دار البيضاء شرقي العاصمة، حيث كان هناك الكثير من الضباط والجنود الذين أثق بهم متواجدون في هذه الثكنة، والذين تم تجميعهم قصد إرسالهم إلى الجبهة المصرية للمشاركة في حرب الاستنزاف ضد الصهاينة.
أمرت عمار ملاح بالاتصال بجميع الفيالق الوفية لنا وإعطائها الأوامر بالتحرك باتجاه البليدة بأقصى سرعة ممكنة، ورغم أن الأمر كان مفاجئا بالنسبة لعمار ملاح لأن قرارا من هذا الشكل يتطلب وقـتا لتحضير الفيالق واستدعاء جميع أفرادها والتزوّد بالوقود والذخيرة، إلا أن الوضع لم يكن يتطلب التأخير.
صبيحة يوم 13 نوفمبر أرسل الرائد عمار ملاح موسى حواسنية إلى الملازم معمر قارة في المدية لإعطائه الأوامر بالتحرك فورا نحو البليدة، فيما توجه هو إلى مليانة لإبلاغ الملازم عبد السلام مباركية قائد الفيلق الميكانيكي بالأمر بالتحرك، لكن هذا الأخير كان مترددا، واتصل هاتفيا ثلاث مرات بالملازم معمر قارة لاستشارته في الأمر، خاصة بعد أن اتصل به السعيد عبيد مسؤوله المباشر وأعطاه أمرا بعدم التحرك، وكذلك فعل مع معمر قارة، ولكنه لم يتصل بالعياشي حواسنية لعلمه بمدى ارتباطه بي.
وسأل مباركية قارة: هل نتحرك؟ لكن معمر قارة شجعه قائلا: نحن أعطينا كلمة للرجل ويجب أن نفي بها، وبالنسبة للملازم العياشي حواسنية فالأمر لم يكن يستحق النقاش.
شرع قادة ثلاثة فيالق بالناحية العسكرية الأولى في تحضير أنفسهم وجنودهم وآلياتهم للتحرك، وأنهوا جميع التحضيرات عصر ذلك اليوم وبدأوا في الزحف منتصف ليل 13 إلى 14 ديسمبر 1967 نحو قيادة الناحية العسكرية الأولى في البليدة من مليانة والشلف غربا والمدية من الجنوب الغربي على الشكل التالي:
1 ـ الفيلق الميكانيكي بقيادة الملازم عبد السلام مباركية:
كان متمركزا في مدينة مليانة بعين الدفلى غربي العاصمة، وهو أقرب الفيالق إلى البليدة (نحو 50 كيلومترا)، وكانت مهمته تأمين وتطهير جسر بوروبي الواقع بالقرب من العفرون من القوات المعادية لتسهيل مهمة عبور الفيلق المدرع، لكن تردد مباركية وتأخره في تحريك القوات أعطى الوقت الكافي لقوات بومدين للسيطرة على جسر بوروبي الاستراتيجي قبلنا، وذلك بداية من مساء يوم 13 ديسمبر.
2 ـ الفيلق المدرع بقيادة الملازم العياشي حواسنية:
لم ينتظر توفر شاحنات حاملة للدبابات والمدرعات للانطلاق نحو البليدة بل قاد الفيلق المدرع لأكثر من 150 كيلومتر في طرق ضيقة ومهترئة (على عكس ما هو عليه الحال الآن)، وهو ما دوّخ الخبراء العسكريين الروس واعتبروه عملية ثورية، لأن الدبابات تنقل إلى المناطق القريبة من المعارك في عربات كبيرة حاملة للدبابات، ولا تسير الدبابات المجنزرة بتلك السرعة مثل السيارات كما فعل بها العياشي حواسنية مما يعكس مدى حماسته وشجاعته.
3 ـ فيلق المشاة بقيادة الملازم معمر قارة:
ولم يكن يفصله عن البليدة سوى نحو 100 كيلومتر فقط عبر طريق الشفة الجبلي والمتعرج، ولكنه وجد صعوبة في توفير الشاحنات العسكرية لنقل رجاله إلى البليدة فلجأ إلى شاحنات مدنية، ونظرا لأن طريق الشفة كانت جبلية ووعرة وزلقة بسبب الصقيع والثلوج، فقد فضل معمر قارة عدم المغامرة بقطع هذا الطريق والتجأ إلى طريق التفافية أطول تمر عبر جسر بورومي في العفرون، ولكنها أسلم حسب قراءته لحظتها، رغم أن طريق الشفة كان سيجنبه المرور عبر جسر بورومي، ولكن الأقدار كانت تخبئ لنا شيئا آخر.
الشاذلي أمر قواته بالوقوف مع الطرف الغالب
لم يكن بالإمكان إخفاء أمر تحرك الفيالق باتجاه البليدة عن أعين بومدين، حيث قام الرائد سليمان لكحل من جماعة العقيد شعباني بالتوجه من الشلف إلى العاصمة لإبلاغ مسؤولين في وزارة الدفاع بتحرك فيلق العياشي حواسنية فور خروجه من الشلف، مما أعطى بومدين وجماعته وقتا كافيا لتحضير أنفسهم للمواجهة.
وانتشر خبر تحرك الفيالق الوفية لنا بين قادة النواحي العسكرية، وكان الرائد محمد الصالح يحياوي قائد الناحية العسكرية الثالثة (بشار) من بين القادة الذين وصلهم الخبر لكن لم يصدر منه أي موقف.
أما الرائد الشاذلي بن جديد قائد الناحية العسكرية الثانية (وهران) وحسبما رواه لي النقيب محمد الصغير هلايلي، فبعد سماعه لخبر تحرك الفيالق الوفية لنا أرسل هو الآخر فيلقين للمشاركة في المعركة وكلف هلايلي بأن يسبق الفيالق إلى العاصمة وذلك يوم 13 ديسمبر لاستطلاع الوضع، وقال الشاذلي للنقيب هلايلي “إذا وجدت الأمور تميل للطاهر فقفوا مع الطاهر، وإذا وجدتم الوضع لصالح بومدين فقفوا في صف بومدين”.
لكن النقيب هلايلي الذي كان متوجها من وهران إلى العاصمة اصطدم بحاجز للدرك في جسر بورومي، حيث وجد سيارته محاصرة وسط حشد كبير من السيارات والشاحنات بعد توقيف حركة السير ذهابا وإيابا، فترك سيارته وتوجه إلى العاصمة بطرقه الخاصة.
أما الرائد أحمد بن شريف قائد الدرك الوطني فوقف بجانب بومدين وحاول قطع الطريق على قواتنا الزاحفة قبل وصولها إلى هدفها، فعمد رجاله بمساندة وحدات عسكرية موالية لبومدين لوضع حاجز أمني على جسر “بوربي” الواقع على المدخل الشرقي لمدينة العفرون القريبة من البليدة، ومنعوا في تلك الليلة السيارات والشاحنات المدنية من الدخول أو الخروج بشكل أصبح الجسر مكدسا بالعربات المدنية بحيث يستحيل عبوره أو تجاوزه، وأكثر من ذلك قام رجال بومدين بتفخيخ الجسر بالمتفجرات.
قادة الولاية التاريخية الرابعة يلتحقون بي في الشبلي
توجهت يوم 13 ديسمبر إلى غابة الشبلي في ولاية البليدة أين يوجد كوخ لأحد أقارب سائقي بلقاسم بونوة الذي كان موضع ثقتي، واتخذت هذا الكوخ مركزا مؤقتا لقيادة العمليات العسكرية، بينما التحق الرائد عمار ملاح بفيلق العياشي حواسنية.
وفي فجر 14 ديسمبر التحق قادة الولاية الرابعة (وسط الجزائر) بمركز العمليات بالشبلي لتأكيد دعمهم لي ومساندتي في مواجهة بومدين، بالإضافة إلى العقيد الصالح بوبنيدر قائد الولاية الثانية ويزيد وشخصيات تاريخية أخرى كانت ناقمة على بومدين، كما كنت أنتظر أن تتحرك وحدات عسكرية كانت موالية لنا من منطقة الأوراس، وعدة مناطق أعلنوا دعمهم المسبق لي في أي عمل أنوي القيام به ضد بومدين.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 13
الحلقة الحادية عشرة
سد جسر بورومي وقصف الطيران لقواتنا حسم المعركة لصالح بومدين
لا نبالغ إن كانت هذه الحلقة تمثل أكثر الحلقات طلبا من القراء قبل صدورها، لأن العقيد الطاهر زبيري يحكي بالتفصيل كيف حدثت المواجهة المسلحة بين فيالقه وقوات بومدين، ويوضح أسباب عدم نجاح ما عرف “بمحاولة الانقلاب على بومدين” والتي يسميها زبيري “حركة 14 ديسمبر 1967”.
عبيد رفض قتالنا ”فانتحر” في ظروف غامضة
عندما شرعت فيالقنا التابعة للناحية العسكرية الأولى في التقدم نحو البليدة، اتصل بومدين بقائد الناحية العسكرية الأولى، السعيد عبيد، هاتفيا وقال له بصوت ساخط وزاجر:
ـ كيف تتحرك الفيالق متمردة علينا ولا تبعث فيالق لصدّها.
فرد السعيد عبيد مبرّرا موقفه:
ـ أعطيت الأمر للفيالق (المتمردة) للبقاء في أماكنها لكنها لا تنفذ أوامري، فكيف أبعث بالجيش ليقاتل بعضه بعضا.
وأضاف محاولا إقناع بومدين تجنيب الجيش الانقسام والاقتتال:
ـ حبذا لو نبحث عن حل آخر.
كاد بومدين يصاب بالجنون وهو يسمع عن ”حل آخر” وهو يري هيبته وسلطته ومستقبله السياسي والعسكري على المحك، فرد على السعيد عبيد بحدة:
ـ أنت مسؤول ناحية ”ولَّ ز.م.ر”.
وأقفل في وجهه الخط، ولم يطل الأمر حتى أرسل بومدين اثنين من أكفأ “الضباط الفارين من الجيش الفرنسي” لتولي قيادة الناحية العسكرية الأولى بدلا من السعيد عبيد للتصدي لقواتنا، وكان الأمر يتعلق بكل من الرائدين زرقيني وهوفمان.
وفي فجر يوم 15 ديسمبر 1967 سمعنا بانتحار الرائد السعيد عبيد، دون أن نتأكد من حقيقة ما حصل بالضبط، رغم أنني استغربت الأمر، فمن خلال معرفتي الدقيقة بشخصية السعيد عبيد وتشبثه بالحياة وبطموحه القوي لا يمكنني في الظروف العادية أن أخلص إلى أنه يمكن أن ينتحر.
المواجهة الحاسمة في العفرون:
جو بارد وأمطار غزيرة وسحب داكنة تنذر باقتراب المواجهة في ذلك الشتاء الرمضاني القاسي، عندما وصلت أولى فلول القوات الموالية لنا إلى جسر بورومي على الساعة الثانية من فجر يوم الخميس 14 ديسمبر 1967، وكان الفيلق الميكانيكي للملازم عبد السلام مباركية القادم من مدينة مليانة بعين الدفلى أول الواصلين تلاه الفيلق المدرع للنقيب العياشي حواسنية القادم من الشلف وكان فيلق المشاة بقيادة النقيب معمر قارة القادم من المدية آخر الواصلين بعد أن أخذ طريقا طويلة عبر مليانة ثم العفرون ولم يصل إلا بعد أن أشرقت الشمس في حدود الساعة السادسة والنصف صباحا.
كان فجرا حالك الظلام والسماء تمطر بغزارة ومياه الوادي تتدفق بقوة، والأرض من حول جسر بورومي كلها فلاحية حولتها الأمطار إلى كتلة كبيرة من الأوحال التي تغوص فيها أرجل الراجلين وتعلق فيها عجلات السيارات ويصعب السير فيها حتى على الآليات المجنزرة، لكن الآتي أعظم.
تجمعت الفيالق الثلاثة ما بين مدينة العفرون غربا وجسر بورومي شرقا وكانت تضم نحو 1500 مقاتل ونحو 30 دبابة وعربة مدرعة، وعندما أرادت قواتنا تجاوز الجسر فوجئت بتكدس السيارات والشاحنات المدنية على طوله كسدادة ميكانيكية بشكل يستحيل على قواتنا تجاوزه، خاصة وأن قوات الدرك والوحدات العسكرية الموالية لبومدين بقيادة كل من زرقيني وهوفمان كانت متربصة بنا على الطرف الآخر من الجسر، ولم يكن بالإمكان عبور وادي بورومي الهادر بمياه الأمطار ولا اختراق كتل الوحل التي شكلت عائقا طبيعيا آخر أمام تقدمنا.
كنا في وضعية حرجة لا نحسد عليها، ولم نكن نتوقع أن يلجأ بومدين إلى هذا التكتيك لمجابهتنا، وحينها طلب زرقيني مقابلة الرائد عمار ملاح فوافق هذا الأخير معتقدا أنه سيقابل الرائد السعيد عبيد لكنه عندما قابل أحد الضباط الفارين من الجيش الفرنسي رفض أي حديث معه وقال له كلاما قاسيا، ورد عليه الآخر بالمثل.
لم يكن يفصلنا عن مدينة البليدة سوى 10 كيلومترات فقط، وقوات بومدين لم تكن كبيرة حينها، إلا أن السيارات والشاحنات المكدسة على الجسر جعلتنا في حيرة من أمرنا بعدما فشلت كل المحاولات لتجاوز الجسر، ورغم حدوث اشتباكات مع الجيش النظامي الموالي لبومدين إلا أنها كانت مواجهات محدودة.
كتائب المشاة الموالية لنا كان بإمكانها بسهولة العبور إلى الطرف الآخر من الوادي والتقدم إلى البليدة لكن ذلك لم يكن ممكنا بدون مرافقة الدبابات والمدرعات لهم من أجل إسنادهم من الخلف، لذلك بقيت قوات المشاة قريبة من الفيلق المدرع على مسافة لا تتجاوز ربع ساعة مشيا على الأقدام.
أما قوات بومدين فكانت من الشباب الحديث التجنيد أو ما يسمون بالمارسيين الذين التحقوا بجيش التحرير بكثافة بعد إعلان وقف إطلاق النار مع الجيش الفرنسي في 19 مارس 1962 بالإضافة إلى قوات الدرك الوطني، بينما كان معظم رجالنا من المجاهدين الذين عركتهم حرب التحرير طيلة سنوات، مما دفعنا إلى ترك قوات احتياطية في مدينة العفرون ولم نشركها في هذه الاشتباكات لعدم الحاجة إليها، وعلى سبيل المثال ففيلق المشاة الذي كان يضم أربع كتائب من بينها كتيبة إسناد مدفعي لم تشترك في القتال سوى الكتيبة الأولى فقط، وبقيت ثلاث كتائب خارج دائرة المعركة.
طيارون روس يدخلون المعركة
بعد ساعات من الاشتباكات اتسعت رقعة المواجهات لتشمل كامل المنطقة الممتدة من موزاية غربا إلى غاية العفرون شرقا، واستعملت في هذه المواجهات الأسلحة الخفيفة والثقيلة وتبادل الطرفان النار والقصف بالقذائف، بشكل متوازن دون أن تتمكن قوات بومدين من السيطرة على الأماكن التي كنا متمركزين فيها رغم تدفق الدعم لها من مختلف الجهات.
وعلى الساعة العاشرة صباحا وبعد ساعات من المواجهات البرية تدخلت طائرات سوفياتية الصنع من نوع “ميغ15″ و”ميغ17″ يقودها طيارون روس كانوا مكلفين بتدريب الطيارين الجزائريين وقاموا بقصف قواتنا بشكل عشوائي إلى درجة أنهم أصابوا مدنيين وحتى القوات الموالية لبومدين تعرّضت للقصف عن طريق الخطإ، وأدى تدخل سلاح الطيران لترجيح الكفة لصالح القوات الموالية لبومدين، ومع ذلك استبسلت قواتنا في القتال، فقد كان رجالنا متعودين على التعامل مع الطيران المعادي خلال حرب التحرير حيث لم يصب أي جندي من المشاة، إلا أن الضرر الأكبر وقع على الفيلق المدرع، حيث دمرت 9 دبابات وقتل العديد من جنودنا في هذه المواجهات.
وفي المساء اشتد القتال وأصبح أكثر ضراوة، خاصة مع تدخل القوات المحمولة جوا، والتي كانت طائرات الهيلكوبتر تنقلها إلى ميدان المعركة، سمعنا أنها من القوات الخاصة في دلس حيث هاجمتنا من الجنوب الشرقي، وتلاحمت قواتهم معنا في الغابة الواقعة بين العفرون وموزاية والتي تتميز بطابعها الجبلي الوعر.
وبعد أن أسدل الليل ستاره توقفت المعارك وتراجعت قواتنا إلى ضواحي مدينة العفرون، فتوجهت ليلا إلى العفرون رفقة سائقي المخلص ومعنا لخضر بورقعة عبر طرق ملتفة لأطلع على وضعية رجالي بعد هذه المواجهة غير المتكافئة، فوجدت رجالي قد تضعضعت وتشتتت صفوفهم وانهارت معنوياتهم، واعتقل الكثير منهم وتم تطويق من تبقى منهم.
فقابلت الرائد عمار ملاح وقادة الفيالق لاستعراض الوضع، فقدم لي ملاح تقريرا شفويا عن سريان المعارك وسبب إخفاق قواتنا في الوصول إلى هدفها في البليدة، فأرجع ذلك إلى سد قوات بومدين لجسر بورومي بالسيارات وتدخل الطائرات الحربية التي قصفت قواتنا، بالإضافة إلى عدم وصول الذخيرة ونفاد الوقود والبنزين من الدبابات والمدرعات التي استهلكت مخزونها في طريقها من الشلف إلى العفرون، وكان مسؤول الوسائل والذخيرة ضابط يدعى بوجادة وهو صهر الرائد عبد القادر شابو الأمين العام لوزارة الدفاع لذلك منع عنا الذخيرة.
وقد تفقدت الفيلق المدرع الذي كان يمثل قوتنا الضاربة فوجدت أنه كان أكثر الفيالق تضررا من القصف المدفعي والجوي وأخبرني الملازم العياشي حواسنية، قائد الفيلق، أن 9 رجال من فيلقه قـتلوا خلال هذه المعركة.
كان الوضع الميداني صعبا وإن لم يكن كارثيا، وكان بإمكاننا مواصلة القتال لكن ذلك كان سيؤدي إلى مزيد من إزهاق أرواح الجنود والضباط في الجانبين، لذلك أمرت القوات أن تقترب من مدينة حمام ريغة التي يوجد بها مستودع للسلاح ثم التحصن بالجبال وانتظار الأوامر.
كنت أتوقع أن يصلني المدد في صبيحة الغد من قادة النواحي العسكرية وخاصة محمد صالح يحياوي والعقيد عباس وعبد الرحمان بن سالم وربما الشاذلي بن جديد وخالد نزار، وتوقعت كما كان مخططا أن تتفجر المظاهرات والاحتجاجات الشعبية المنددة بحكم بومدين في العاصمة وغيرها من المدن مما يعطينا فرصا أكثر للضغط على بومدين من أجل الجلوس إلينا للتفاوض بشأن القضايا المختلف بشأنها خاصة ما تعلق بتقليص صلاحياته.
الاستحواذ على مستودع للأسلحة والسيطرة على مدرسة عسكرية
ليلة 14 ديسمبر 1967 كانت صعبة للغاية، حيث جرت الأمور بعكس ما كنا نتوقع، خاصة بعد تدخل الطائرات الحربية التي يقودها الطيارون الروس، ونفاد الوقود من الدبابات والآليات العسكرية، ولحسن الحظ كانت هناك ثكنة عسكرية في منطقة حمام ريغة منذ العهد الاستعماري وبعد الاستقلال جعل منها الجيش الوطني الشعبي مستودعا للأسلحة والذخائر والوقود، فتحرك قطاع من قواتنا واستحوذ على مستودع السلاح دون مقاومة تذكر مما رفع معنويات جنودنا وأعاد الحياة لمحركات آلياتنا العسكرية.
خبر سار آخر كان في انتظارنا بعد أن بلغنا أن اثنين من ضباطنا في المدرسة العسكرية للدفاع الجوي بالرغاية شرقي العاصمة استطاعا السيطرة على المدرسة التي تحتوي على صواريخ مضادة للطائرات من نوع “أرض ـ جو” وصواريخ أخرى من نوع “أرض ـ أرض”.
وتمكن كل من صالح قمعون وعمارة نويوة وهما من ضباطنا الفاعلين من إقناع ضباط وجنود المدرسة العسكرية للدفاع المضاد للطيران “دي سي أ” بدعم حركتنا، رغم أن مسؤول المدرسة عبد النور بكا وهو من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي كان من المؤيدين لبومدين ولكن الأمور تجاوزته، واستطاع قمعون ونويوة توقيفه وسجنه والسيطرة على المدرسة العسكرية.
ورغم أن المدرسة العسكرية للدفاع الجوي كانت بعيدة نسبيا عن ساحة المعارك، إلا أن إعلان ضباطها انضمامهم إلى حركتنا كان له الأثر القوي على معنوياتنا، وكنا نتوقع أن يحفز ذلك عدة قطاعات من الجيش للانضمام إلينا.
كما تمكنت قواتنا من الاستحواذ على قافلة سلاح وذخيرة ووقود كانت متوجهة إلى معسكر الجيش النظامي لكنها أخطأت طريقها ووقعت في أيدي رجالنا فكانت بمثابة انتصار آخر لقواتنا.
ورغم هذه الانتصارات الصغيرة إلا أن إخفاقنا في الوصول إلى البليدة جعل أمل انتصارنا على بومدين مرتبطا بمدى تحرك قادة النواحي العسكرية والفعاليات الشعبية لدعم حركتنا، إلا أنه لا هذا ولا ذاك حصل، بل إن الوحدات العسكرية في الأوراس وبقية القادة العسكريين الذين وعدوني بالتحرك بقواتهم لدعمي تراجعوا عن موقفهم بعد واقعة العفرون.
أما الرائد الشاذلي بن جديد فدفع بفيلقين من قواته إلى ميدان المعركة من الجهة الغربية للعفرون، أي خلف قواتنا تماما، مما جعلنا محاصرين شرقا وغربا، وكذلك فعل الرائد عبد الله بلهوشات الذي كان على رأس الناحية العسكرية الخامسة (قسنطينة) حيث أرسل فيلقين من الرجال عبر الطائرات التي حطت في المطار العسكري لبوفاريك في اليوم الثاني من المواجهة لمؤازرة قوات بومدين.
ولم يكن بومدين في هذا العام يحظى بشعبية كبيرة بعد انقلابه على الرئيس أحمد بن بله، مما جعل قطاعات واسعة من أنصار الرئيس المخلوع ينقمون عليه، فضلا عن ازدياد عدد المعارضين لبومدين داخل صفوف الجيش بسبب ميله للحكم الفردي واستعانته كثيرا بالضباط الفارين من الجيش الفرنسي على حساب قدماء ضباط جيش التحرير، ناهيك عن المعارضين السياسيين التاريخيين أمثال حسين آيت أحمد، ومحمد بوضياف وأحمد محساس وكريم بلقاسم، لذلك كنت آمل أن يؤدي ذلك إلى انقلاب الوضع على بومدين في فجر اليوم الموالي.
انسحاب قواتنا
في ليلة 14 ديسمبر قرر الملازم معمر قارة سحب فيلق المشاة من ميدان المعركة، بعد أن تيقن من استحالة نجاح حركتنا في مثل تلك الظروف، خاصة أن الفيالق الثلاثة لم تتمكن من تحقيق أولى أهدافنا في السيطرة على قيادة الناحية العسكرية الأولى في البليدة، كما أن الرائد عمار ملاح والذي كان مكلفا بالقيادة الميدانية لعملياتنا العسكرية لم يقدم لقادة الفيالق خطة واضحة حول توزيع كتائبنا في ميدان المعركة وكيفية الدفاع أو الهجوم في تلك الوضعية، خاصة بعد تضرر الفيلق المدرع بشكل كبير إثر القصف الجوي الذي استهدفه بشكل أساسي باعتباره القوة الضاربة لقواتنا.
وتوجه الملازم معمر قارة بكتائبه الأربعة ـ التي لم يفقد منها أي فرد من رجاله ـ إلى ثكنة القليعة (تابعة حاليا لولاية تيبازة)، فيما اتخذ سبيله باتجاه الشرق علّه يتمكن من الخروج من الجزائر واللجوء إلى إحدى الدول العربية في المشرق.
وفي فجر يوم 15 ديسمبر كانت قواتنا أو ما تبقّى منها محاصرة بالكامل وإن لم تقع أي اشتباكات جديدة، كما بلغنا خبر انتحار (أو اغتيال) الرائد سعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى مما قضى على آخر أمل في إمكانية الضغط على بومدين من أجل التفاوض معنا، خاصة بعدما خذلنا قادة النواحي العسكرية الأخرى وكذا الاتحاد العام للعمال الجزائريين، ولم يمارس خصوم بومدين ـ على كثرتهم ـ أي ضغط شعبي وسياسي مؤثر على رئيس مجلس الثورة.
أما بالنسبة للخسائر البشرية خلال هذه المواجهة فقد ذكرت بعض المصادر أنها بلغت 30 قتيلا و130 جريحا، لكن ليس لدي أرقام دقيقة حول الرقم الحقيقي لضحايا هذه المواجهات، ولكني أذكر أن العياشي حواسنية قائد الفيلق المدرع أكد لي أننا لم نفقد خلال هذه المعركة سوى 9 رجال، غير أني لا أملك أرقاما عن عدد القتلى في صفوف القوات النظامية أو في صفوف المدنيين الذين قصفتهم الطائرات الحربية.
خاتمة القول
إن حركة 14 ديسمبر 1967 لم تكن يوما “محاولة انقلاب عسكري” كما يعتقد الكثيرون، لأننا ببساطة لم نكن نسعى للإطاحة ببومدين من السلطة، وإنما كان هدفنا الأساسي هو الضغط على بومدين لإعادة الشرعية للبلاد بعد تملصه من عهوده بمجرد نجاح التصحيح الثوري الذي قدته معه ضد بن بله في 19 جوان 1965، قبل أن أكتشف أن بومدين يحاول استنساخ نفس الحكم الفردي الذي ميز عهد بن بله، وهذا ما صدمنا لأننا قضينا على “ديكتاتور” فوجدنا أننا لم نقم سوى باستبداله “بدكتاتور” آخر، وهذا ما يتنافى مع مبدأ “القيادة الجماعية” الذي سنّه المفجّرون الأوائل للثورة (بن بولعيد وأصحابه).
لم تكن معركتنا الحقيقية ضد بومدين بقدر ما كانت ضد الضباط الفارين من الجيش الفرنسي الذين شكلوا نواة صلبة داخل الجيش وأصبح نفوذهم يزداد من سنة إلى أخرى على حساب قدماء جيش التحرير والضباط المتخرجين من المدارس العسكرية بالشرق بسبب اعتماد بومدين عليهم في حروبه ضد قادة الولايات التاريخية الرابعة (العقيد يوسف الخطيب) والثالثة )العقيد محند أولحاج) والثانية (العقيد صالح بوبنيدر) والسادسة (العقيد شعباني) وأخيرا الأولى (العقيد الطاهر زبيري)، ولم تبق سوى الولاية الخامسة لم تدخل في صراع مع بومدين لأنه كان أحد قادتها التاريخين.
بعد معركة العفرون هيمن العقيد هواري بومدين على زمام السلطة بشكل تام ولم يعد هناك من يشكل تهديدا حقيقيا على سلطته المطلقة، وأحاط نفسه بجماعة وجدة التي شكلت الدائرة الثانية للسلطة الجديدة وارتقى الضباط الفارون من الجيش الفرنسي إلى مناصب أكثر حساسية في الجيش بعد أن لعبوا الدور الأساسي في الحفاظ على سلطة بومدين المطلقة وأصبحوا يشكلون الدائرة الثالثة للسلطة مما جعلهم يتطلعون للعب أدوار سياسية من وراء ستار وهو الأمر الذي طالما حذر منه العقيد شعباني والكثير من القيادات السياسية والعسكرية في مؤتمر الحزب عام 1964 لكن بومدين أكد حينها أن دورهم سيقتصر فقط على جوانب فنية داخل الجيش، لكن بعد سنوات ليست طويلة سيطر الضباط الفارون من الجيش الفرنسي على العديد من قنوات صناعة القرار في البلاد خاصة بعد وفاة بومدين في ديسمبر 1978.
نفوذ قدماء جيش التحرير ودورهم في صناعة القرار بدأ في التقلص بعد فشل حركة 14 ديسمبر في تحقيق أهدافها، خاصة وأننا فقدنا منصبين حساسين جدا في الجيش وهما قيادة أركان الجيش الوطني الشعبي وقيادة الناحية العسكرية الأولى، ومع ذلك بقيت معظم قيادات النواحي العسكرية بيد قدماء جيش التحرير مثل يحياوي والشاذلي بالإضافة إلى نائبي قائد الأركان العقيد عباس (توفي بعد فترة قصيرة من انتحار السعيد عبيد) والرائد عبد الرحمان بن سالم
لا نبالغ إن كانت هذه الحلقة تمثل أكثر الحلقات طلبا من القراء قبل صدورها، لأن العقيد الطاهر زبيري يحكي بالتفصيل كيف حدثت المواجهة المسلحة بين فيالقه وقوات بومدين، ويوضح أسباب عدم نجاح ما عرف “بمحاولة الانقلاب على بومدين” والتي يسميها زبيري “حركة 14 ديسمبر 1967”.
عبيد رفض قتالنا ”فانتحر” في ظروف غامضة
عندما شرعت فيالقنا التابعة للناحية العسكرية الأولى في التقدم نحو البليدة، اتصل بومدين بقائد الناحية العسكرية الأولى، السعيد عبيد، هاتفيا وقال له بصوت ساخط وزاجر:
ـ كيف تتحرك الفيالق متمردة علينا ولا تبعث فيالق لصدّها.
فرد السعيد عبيد مبرّرا موقفه:
ـ أعطيت الأمر للفيالق (المتمردة) للبقاء في أماكنها لكنها لا تنفذ أوامري، فكيف أبعث بالجيش ليقاتل بعضه بعضا.
وأضاف محاولا إقناع بومدين تجنيب الجيش الانقسام والاقتتال:
ـ حبذا لو نبحث عن حل آخر.
كاد بومدين يصاب بالجنون وهو يسمع عن ”حل آخر” وهو يري هيبته وسلطته ومستقبله السياسي والعسكري على المحك، فرد على السعيد عبيد بحدة:
ـ أنت مسؤول ناحية ”ولَّ ز.م.ر”.
وأقفل في وجهه الخط، ولم يطل الأمر حتى أرسل بومدين اثنين من أكفأ “الضباط الفارين من الجيش الفرنسي” لتولي قيادة الناحية العسكرية الأولى بدلا من السعيد عبيد للتصدي لقواتنا، وكان الأمر يتعلق بكل من الرائدين زرقيني وهوفمان.
وفي فجر يوم 15 ديسمبر 1967 سمعنا بانتحار الرائد السعيد عبيد، دون أن نتأكد من حقيقة ما حصل بالضبط، رغم أنني استغربت الأمر، فمن خلال معرفتي الدقيقة بشخصية السعيد عبيد وتشبثه بالحياة وبطموحه القوي لا يمكنني في الظروف العادية أن أخلص إلى أنه يمكن أن ينتحر.
المواجهة الحاسمة في العفرون:
جو بارد وأمطار غزيرة وسحب داكنة تنذر باقتراب المواجهة في ذلك الشتاء الرمضاني القاسي، عندما وصلت أولى فلول القوات الموالية لنا إلى جسر بورومي على الساعة الثانية من فجر يوم الخميس 14 ديسمبر 1967، وكان الفيلق الميكانيكي للملازم عبد السلام مباركية القادم من مدينة مليانة بعين الدفلى أول الواصلين تلاه الفيلق المدرع للنقيب العياشي حواسنية القادم من الشلف وكان فيلق المشاة بقيادة النقيب معمر قارة القادم من المدية آخر الواصلين بعد أن أخذ طريقا طويلة عبر مليانة ثم العفرون ولم يصل إلا بعد أن أشرقت الشمس في حدود الساعة السادسة والنصف صباحا.
كان فجرا حالك الظلام والسماء تمطر بغزارة ومياه الوادي تتدفق بقوة، والأرض من حول جسر بورومي كلها فلاحية حولتها الأمطار إلى كتلة كبيرة من الأوحال التي تغوص فيها أرجل الراجلين وتعلق فيها عجلات السيارات ويصعب السير فيها حتى على الآليات المجنزرة، لكن الآتي أعظم.
تجمعت الفيالق الثلاثة ما بين مدينة العفرون غربا وجسر بورومي شرقا وكانت تضم نحو 1500 مقاتل ونحو 30 دبابة وعربة مدرعة، وعندما أرادت قواتنا تجاوز الجسر فوجئت بتكدس السيارات والشاحنات المدنية على طوله كسدادة ميكانيكية بشكل يستحيل على قواتنا تجاوزه، خاصة وأن قوات الدرك والوحدات العسكرية الموالية لبومدين بقيادة كل من زرقيني وهوفمان كانت متربصة بنا على الطرف الآخر من الجسر، ولم يكن بالإمكان عبور وادي بورومي الهادر بمياه الأمطار ولا اختراق كتل الوحل التي شكلت عائقا طبيعيا آخر أمام تقدمنا.
كنا في وضعية حرجة لا نحسد عليها، ولم نكن نتوقع أن يلجأ بومدين إلى هذا التكتيك لمجابهتنا، وحينها طلب زرقيني مقابلة الرائد عمار ملاح فوافق هذا الأخير معتقدا أنه سيقابل الرائد السعيد عبيد لكنه عندما قابل أحد الضباط الفارين من الجيش الفرنسي رفض أي حديث معه وقال له كلاما قاسيا، ورد عليه الآخر بالمثل.
لم يكن يفصلنا عن مدينة البليدة سوى 10 كيلومترات فقط، وقوات بومدين لم تكن كبيرة حينها، إلا أن السيارات والشاحنات المكدسة على الجسر جعلتنا في حيرة من أمرنا بعدما فشلت كل المحاولات لتجاوز الجسر، ورغم حدوث اشتباكات مع الجيش النظامي الموالي لبومدين إلا أنها كانت مواجهات محدودة.
كتائب المشاة الموالية لنا كان بإمكانها بسهولة العبور إلى الطرف الآخر من الوادي والتقدم إلى البليدة لكن ذلك لم يكن ممكنا بدون مرافقة الدبابات والمدرعات لهم من أجل إسنادهم من الخلف، لذلك بقيت قوات المشاة قريبة من الفيلق المدرع على مسافة لا تتجاوز ربع ساعة مشيا على الأقدام.
أما قوات بومدين فكانت من الشباب الحديث التجنيد أو ما يسمون بالمارسيين الذين التحقوا بجيش التحرير بكثافة بعد إعلان وقف إطلاق النار مع الجيش الفرنسي في 19 مارس 1962 بالإضافة إلى قوات الدرك الوطني، بينما كان معظم رجالنا من المجاهدين الذين عركتهم حرب التحرير طيلة سنوات، مما دفعنا إلى ترك قوات احتياطية في مدينة العفرون ولم نشركها في هذه الاشتباكات لعدم الحاجة إليها، وعلى سبيل المثال ففيلق المشاة الذي كان يضم أربع كتائب من بينها كتيبة إسناد مدفعي لم تشترك في القتال سوى الكتيبة الأولى فقط، وبقيت ثلاث كتائب خارج دائرة المعركة.
طيارون روس يدخلون المعركة
بعد ساعات من الاشتباكات اتسعت رقعة المواجهات لتشمل كامل المنطقة الممتدة من موزاية غربا إلى غاية العفرون شرقا، واستعملت في هذه المواجهات الأسلحة الخفيفة والثقيلة وتبادل الطرفان النار والقصف بالقذائف، بشكل متوازن دون أن تتمكن قوات بومدين من السيطرة على الأماكن التي كنا متمركزين فيها رغم تدفق الدعم لها من مختلف الجهات.
وعلى الساعة العاشرة صباحا وبعد ساعات من المواجهات البرية تدخلت طائرات سوفياتية الصنع من نوع “ميغ15″ و”ميغ17″ يقودها طيارون روس كانوا مكلفين بتدريب الطيارين الجزائريين وقاموا بقصف قواتنا بشكل عشوائي إلى درجة أنهم أصابوا مدنيين وحتى القوات الموالية لبومدين تعرّضت للقصف عن طريق الخطإ، وأدى تدخل سلاح الطيران لترجيح الكفة لصالح القوات الموالية لبومدين، ومع ذلك استبسلت قواتنا في القتال، فقد كان رجالنا متعودين على التعامل مع الطيران المعادي خلال حرب التحرير حيث لم يصب أي جندي من المشاة، إلا أن الضرر الأكبر وقع على الفيلق المدرع، حيث دمرت 9 دبابات وقتل العديد من جنودنا في هذه المواجهات.
وفي المساء اشتد القتال وأصبح أكثر ضراوة، خاصة مع تدخل القوات المحمولة جوا، والتي كانت طائرات الهيلكوبتر تنقلها إلى ميدان المعركة، سمعنا أنها من القوات الخاصة في دلس حيث هاجمتنا من الجنوب الشرقي، وتلاحمت قواتهم معنا في الغابة الواقعة بين العفرون وموزاية والتي تتميز بطابعها الجبلي الوعر.
وبعد أن أسدل الليل ستاره توقفت المعارك وتراجعت قواتنا إلى ضواحي مدينة العفرون، فتوجهت ليلا إلى العفرون رفقة سائقي المخلص ومعنا لخضر بورقعة عبر طرق ملتفة لأطلع على وضعية رجالي بعد هذه المواجهة غير المتكافئة، فوجدت رجالي قد تضعضعت وتشتتت صفوفهم وانهارت معنوياتهم، واعتقل الكثير منهم وتم تطويق من تبقى منهم.
فقابلت الرائد عمار ملاح وقادة الفيالق لاستعراض الوضع، فقدم لي ملاح تقريرا شفويا عن سريان المعارك وسبب إخفاق قواتنا في الوصول إلى هدفها في البليدة، فأرجع ذلك إلى سد قوات بومدين لجسر بورومي بالسيارات وتدخل الطائرات الحربية التي قصفت قواتنا، بالإضافة إلى عدم وصول الذخيرة ونفاد الوقود والبنزين من الدبابات والمدرعات التي استهلكت مخزونها في طريقها من الشلف إلى العفرون، وكان مسؤول الوسائل والذخيرة ضابط يدعى بوجادة وهو صهر الرائد عبد القادر شابو الأمين العام لوزارة الدفاع لذلك منع عنا الذخيرة.
وقد تفقدت الفيلق المدرع الذي كان يمثل قوتنا الضاربة فوجدت أنه كان أكثر الفيالق تضررا من القصف المدفعي والجوي وأخبرني الملازم العياشي حواسنية، قائد الفيلق، أن 9 رجال من فيلقه قـتلوا خلال هذه المعركة.
كان الوضع الميداني صعبا وإن لم يكن كارثيا، وكان بإمكاننا مواصلة القتال لكن ذلك كان سيؤدي إلى مزيد من إزهاق أرواح الجنود والضباط في الجانبين، لذلك أمرت القوات أن تقترب من مدينة حمام ريغة التي يوجد بها مستودع للسلاح ثم التحصن بالجبال وانتظار الأوامر.
كنت أتوقع أن يصلني المدد في صبيحة الغد من قادة النواحي العسكرية وخاصة محمد صالح يحياوي والعقيد عباس وعبد الرحمان بن سالم وربما الشاذلي بن جديد وخالد نزار، وتوقعت كما كان مخططا أن تتفجر المظاهرات والاحتجاجات الشعبية المنددة بحكم بومدين في العاصمة وغيرها من المدن مما يعطينا فرصا أكثر للضغط على بومدين من أجل الجلوس إلينا للتفاوض بشأن القضايا المختلف بشأنها خاصة ما تعلق بتقليص صلاحياته.
الاستحواذ على مستودع للأسلحة والسيطرة على مدرسة عسكرية
ليلة 14 ديسمبر 1967 كانت صعبة للغاية، حيث جرت الأمور بعكس ما كنا نتوقع، خاصة بعد تدخل الطائرات الحربية التي يقودها الطيارون الروس، ونفاد الوقود من الدبابات والآليات العسكرية، ولحسن الحظ كانت هناك ثكنة عسكرية في منطقة حمام ريغة منذ العهد الاستعماري وبعد الاستقلال جعل منها الجيش الوطني الشعبي مستودعا للأسلحة والذخائر والوقود، فتحرك قطاع من قواتنا واستحوذ على مستودع السلاح دون مقاومة تذكر مما رفع معنويات جنودنا وأعاد الحياة لمحركات آلياتنا العسكرية.
خبر سار آخر كان في انتظارنا بعد أن بلغنا أن اثنين من ضباطنا في المدرسة العسكرية للدفاع الجوي بالرغاية شرقي العاصمة استطاعا السيطرة على المدرسة التي تحتوي على صواريخ مضادة للطائرات من نوع “أرض ـ جو” وصواريخ أخرى من نوع “أرض ـ أرض”.
وتمكن كل من صالح قمعون وعمارة نويوة وهما من ضباطنا الفاعلين من إقناع ضباط وجنود المدرسة العسكرية للدفاع المضاد للطيران “دي سي أ” بدعم حركتنا، رغم أن مسؤول المدرسة عبد النور بكا وهو من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي كان من المؤيدين لبومدين ولكن الأمور تجاوزته، واستطاع قمعون ونويوة توقيفه وسجنه والسيطرة على المدرسة العسكرية.
ورغم أن المدرسة العسكرية للدفاع الجوي كانت بعيدة نسبيا عن ساحة المعارك، إلا أن إعلان ضباطها انضمامهم إلى حركتنا كان له الأثر القوي على معنوياتنا، وكنا نتوقع أن يحفز ذلك عدة قطاعات من الجيش للانضمام إلينا.
كما تمكنت قواتنا من الاستحواذ على قافلة سلاح وذخيرة ووقود كانت متوجهة إلى معسكر الجيش النظامي لكنها أخطأت طريقها ووقعت في أيدي رجالنا فكانت بمثابة انتصار آخر لقواتنا.
ورغم هذه الانتصارات الصغيرة إلا أن إخفاقنا في الوصول إلى البليدة جعل أمل انتصارنا على بومدين مرتبطا بمدى تحرك قادة النواحي العسكرية والفعاليات الشعبية لدعم حركتنا، إلا أنه لا هذا ولا ذاك حصل، بل إن الوحدات العسكرية في الأوراس وبقية القادة العسكريين الذين وعدوني بالتحرك بقواتهم لدعمي تراجعوا عن موقفهم بعد واقعة العفرون.
أما الرائد الشاذلي بن جديد فدفع بفيلقين من قواته إلى ميدان المعركة من الجهة الغربية للعفرون، أي خلف قواتنا تماما، مما جعلنا محاصرين شرقا وغربا، وكذلك فعل الرائد عبد الله بلهوشات الذي كان على رأس الناحية العسكرية الخامسة (قسنطينة) حيث أرسل فيلقين من الرجال عبر الطائرات التي حطت في المطار العسكري لبوفاريك في اليوم الثاني من المواجهة لمؤازرة قوات بومدين.
ولم يكن بومدين في هذا العام يحظى بشعبية كبيرة بعد انقلابه على الرئيس أحمد بن بله، مما جعل قطاعات واسعة من أنصار الرئيس المخلوع ينقمون عليه، فضلا عن ازدياد عدد المعارضين لبومدين داخل صفوف الجيش بسبب ميله للحكم الفردي واستعانته كثيرا بالضباط الفارين من الجيش الفرنسي على حساب قدماء ضباط جيش التحرير، ناهيك عن المعارضين السياسيين التاريخيين أمثال حسين آيت أحمد، ومحمد بوضياف وأحمد محساس وكريم بلقاسم، لذلك كنت آمل أن يؤدي ذلك إلى انقلاب الوضع على بومدين في فجر اليوم الموالي.
انسحاب قواتنا
في ليلة 14 ديسمبر قرر الملازم معمر قارة سحب فيلق المشاة من ميدان المعركة، بعد أن تيقن من استحالة نجاح حركتنا في مثل تلك الظروف، خاصة أن الفيالق الثلاثة لم تتمكن من تحقيق أولى أهدافنا في السيطرة على قيادة الناحية العسكرية الأولى في البليدة، كما أن الرائد عمار ملاح والذي كان مكلفا بالقيادة الميدانية لعملياتنا العسكرية لم يقدم لقادة الفيالق خطة واضحة حول توزيع كتائبنا في ميدان المعركة وكيفية الدفاع أو الهجوم في تلك الوضعية، خاصة بعد تضرر الفيلق المدرع بشكل كبير إثر القصف الجوي الذي استهدفه بشكل أساسي باعتباره القوة الضاربة لقواتنا.
وتوجه الملازم معمر قارة بكتائبه الأربعة ـ التي لم يفقد منها أي فرد من رجاله ـ إلى ثكنة القليعة (تابعة حاليا لولاية تيبازة)، فيما اتخذ سبيله باتجاه الشرق علّه يتمكن من الخروج من الجزائر واللجوء إلى إحدى الدول العربية في المشرق.
وفي فجر يوم 15 ديسمبر كانت قواتنا أو ما تبقّى منها محاصرة بالكامل وإن لم تقع أي اشتباكات جديدة، كما بلغنا خبر انتحار (أو اغتيال) الرائد سعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى مما قضى على آخر أمل في إمكانية الضغط على بومدين من أجل التفاوض معنا، خاصة بعدما خذلنا قادة النواحي العسكرية الأخرى وكذا الاتحاد العام للعمال الجزائريين، ولم يمارس خصوم بومدين ـ على كثرتهم ـ أي ضغط شعبي وسياسي مؤثر على رئيس مجلس الثورة.
أما بالنسبة للخسائر البشرية خلال هذه المواجهة فقد ذكرت بعض المصادر أنها بلغت 30 قتيلا و130 جريحا، لكن ليس لدي أرقام دقيقة حول الرقم الحقيقي لضحايا هذه المواجهات، ولكني أذكر أن العياشي حواسنية قائد الفيلق المدرع أكد لي أننا لم نفقد خلال هذه المعركة سوى 9 رجال، غير أني لا أملك أرقاما عن عدد القتلى في صفوف القوات النظامية أو في صفوف المدنيين الذين قصفتهم الطائرات الحربية.
خاتمة القول
إن حركة 14 ديسمبر 1967 لم تكن يوما “محاولة انقلاب عسكري” كما يعتقد الكثيرون، لأننا ببساطة لم نكن نسعى للإطاحة ببومدين من السلطة، وإنما كان هدفنا الأساسي هو الضغط على بومدين لإعادة الشرعية للبلاد بعد تملصه من عهوده بمجرد نجاح التصحيح الثوري الذي قدته معه ضد بن بله في 19 جوان 1965، قبل أن أكتشف أن بومدين يحاول استنساخ نفس الحكم الفردي الذي ميز عهد بن بله، وهذا ما صدمنا لأننا قضينا على “ديكتاتور” فوجدنا أننا لم نقم سوى باستبداله “بدكتاتور” آخر، وهذا ما يتنافى مع مبدأ “القيادة الجماعية” الذي سنّه المفجّرون الأوائل للثورة (بن بولعيد وأصحابه).
لم تكن معركتنا الحقيقية ضد بومدين بقدر ما كانت ضد الضباط الفارين من الجيش الفرنسي الذين شكلوا نواة صلبة داخل الجيش وأصبح نفوذهم يزداد من سنة إلى أخرى على حساب قدماء جيش التحرير والضباط المتخرجين من المدارس العسكرية بالشرق بسبب اعتماد بومدين عليهم في حروبه ضد قادة الولايات التاريخية الرابعة (العقيد يوسف الخطيب) والثالثة )العقيد محند أولحاج) والثانية (العقيد صالح بوبنيدر) والسادسة (العقيد شعباني) وأخيرا الأولى (العقيد الطاهر زبيري)، ولم تبق سوى الولاية الخامسة لم تدخل في صراع مع بومدين لأنه كان أحد قادتها التاريخين.
بعد معركة العفرون هيمن العقيد هواري بومدين على زمام السلطة بشكل تام ولم يعد هناك من يشكل تهديدا حقيقيا على سلطته المطلقة، وأحاط نفسه بجماعة وجدة التي شكلت الدائرة الثانية للسلطة الجديدة وارتقى الضباط الفارون من الجيش الفرنسي إلى مناصب أكثر حساسية في الجيش بعد أن لعبوا الدور الأساسي في الحفاظ على سلطة بومدين المطلقة وأصبحوا يشكلون الدائرة الثالثة للسلطة مما جعلهم يتطلعون للعب أدوار سياسية من وراء ستار وهو الأمر الذي طالما حذر منه العقيد شعباني والكثير من القيادات السياسية والعسكرية في مؤتمر الحزب عام 1964 لكن بومدين أكد حينها أن دورهم سيقتصر فقط على جوانب فنية داخل الجيش، لكن بعد سنوات ليست طويلة سيطر الضباط الفارون من الجيش الفرنسي على العديد من قنوات صناعة القرار في البلاد خاصة بعد وفاة بومدين في ديسمبر 1978.
نفوذ قدماء جيش التحرير ودورهم في صناعة القرار بدأ في التقلص بعد فشل حركة 14 ديسمبر في تحقيق أهدافها، خاصة وأننا فقدنا منصبين حساسين جدا في الجيش وهما قيادة أركان الجيش الوطني الشعبي وقيادة الناحية العسكرية الأولى، ومع ذلك بقيت معظم قيادات النواحي العسكرية بيد قدماء جيش التحرير مثل يحياوي والشاذلي بالإضافة إلى نائبي قائد الأركان العقيد عباس (توفي بعد فترة قصيرة من انتحار السعيد عبيد) والرائد عبد الرحمان بن سالم
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 14
الحلقة الثانية عشرة مطاردات بوليسية في جبال الأوراس والدرك كاد يقبض علي بورقعة ساعدني في الهروب من البليدة إلى العاصمة
الرائد لخضر بورقعة
بعد أن فشلت خطة الطاهر زبيري في الضغط عسكريا على بومدين للرضوخ لمبدأ “القيادة الجماعية” الذي سنه الآباء المفجرون للثورة، أصبح زبيري مطلوبا لدى جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية حيا أو ميتا، واليوم يحكي لنا عمي الطاهر المطاردات البوليسية له من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى قرية، ومن زنقة إلى زنقة، بشكل مثير ومشوق يصلح لكي يكون مشروع فيلم سنيمائي، تابعوا…
الخروج إلى البليدة
بعد واقعة العفرون، اجتمع قادة الولاية الرابعة وكان من بينهم العقيد يوسف الخطيب والرائد يوسف بولخروف والرائد لخضر بورقعة ومراد ثم جاؤوني إلى غابة الشبلي في البليدة، وقد أوعزت في نفسي خيفة منهم بأن يقوموا باعتقالي وتقديمي قربانا لبومدين لتبرئة ذمتهم بعد أن بلغتهم نتائج واقعة العفرون، خاصة أنه لم يكن يرافقني أي من الحرس باستثناء سائقي المخلص، لكن قادة الولاية الرابعة كانوا أكثر شهامة من غيرهم.
لم أضع في حسباني أن يتخلى عني كثير من الرجال الذين أقسموا بأغلظ الأيمان بأنهم سيكونون إلى صفي عندما يجد الجد وتفرز الصفوف، لكن بعد أول مواجهة راجع الكثيرون موقفهم وتحولت الخيانة إلى حكمة وحسن تدبر، فنكسوا رؤوسهم، واختبؤوا في جحورهم، وغيروا صفوفهم.
وفي هذه اللحظات العصيبة قال لي بورقعة:
ـ اذهب إلى الأوراس وحرك الأمور.
في ليلة المواجهة رافقني الرائد بورقعة في السيارة إلى العفرون وتدثرنا بجنح الظلام حتى لا يتعرف علينا رجال بومدين، وعاينت هناك ظروف المعركة واتصلت مباشرة برجالي وقد تأسفت لحالهم بعد أن لعبت الأوحال والقنطرة والطائرات دورا محوريا في هذه المواجهة، وبعد أن أمرت رجالي بالانسحاب إلى الجبال حفاظا على وحدة الجيش والجزائر وطلبت منهم وقف إطلاق النار وانتظار الأوامر، توجهت رفقة بورقعة إلى جبل حلوان، وفي الغد دخلنا إلى العاصمة عبر محاور لم أكن أعرفها لكن بورقعة باعتباره من المنطقة كان يدلنا على أفضل السبل لتفادي الحواجز الأمنية الكثيفة التي وضعها رجال بومدين لإلقاء القبض على كل من كانت له علاقة بحركتنا.
فكرت حينها في العودة إلى الأوراس، خاصة وأن لدي وحدات عسكرية في المنطقة تخضع لسلطتي، فقد كان بإمكاني تجميع فرقة ونصف من الرجال، وبمجرد تحركي أستطيع أن أجمع أكثر وأكثر، لكن بومدين سارع إلى عزل القادة والضباط الذين يشك في ولائهم لي مما صعب من مهمتي.
التسلل إلى الأوراس
بعد أن استطاع بومدين إنهاء الجولة الأولى لصالحه والقضاء على الموجة الرئيسية لقواتنا أطلق رجال الأمن والمخابرات لتعقب أثري قصد اعتقالي مع كبار قادة حركة 14 ديسمبر، فأصبح من الصعب علي أن أتجاوز كل تلك الحواجز الأمنية حتى أصل إلى جبال الأوراس التي تبعد عن العاصمة بنحو 500 كيلومتر شرقا.
لكني سمعت أن سائق قطار يدعى أحمد بوزيدي بن طيب العمراني استطاع أن ينقذ أحد رجالنا ويسمى عبد الحميد بن غزال ونقله إلى قسنطينة رغم الإجراءات الأمنية المشددة التي فرضها رجال بومدين علينا والتي مكنتهم من اعتقال الكثير من رجالنا والمتعاطفين معنا.
وأرسلت رجالا من الولاية الرابعة إلى أحمد بوزيدي فلم يجدوه وأخبرهم ابنه بأنه في سفر وقد يتأخر في العودة، لذلك فكرت في رجل آخر من الأوراس يعمل بالعاصمة ولديه شاحنات ومحلات تجارية لبيع قطع الغيار إذ كانت لديه شركة للتصدير والاستيراد، ويدعى هذا الشخص مقلاتي وكنا إبان الثورة نأكل وننام عنده ونعتبره من الأصدقاء الكبار للثورة، وعندما أرسلت في طلبه لم أجده ولكن جاءني ابنه، فقلت له:
ـ أنتم لديكم شاحنات.. وأرغب الآن في العودة إلى المنطقة (الأوراس).
ـ سأكلم أبي.
وعندما بلغه الأمر، قال الطاهر مقلاتي لابنه:
ـ خبئه في المخزن.. ودعنا نحترق بنار الأزمة كلنا.
وجئتهم ليلا واختبأت في المخزن، وأخبرني مقلاتي بأنهم سينجزون لي بيتا من الألواح الخشبية، لأنهم كانوا يتاجرون في الخشب أيضا، وبعد أن قضيت عندهم ليلة أو ليلتين وضعوا البيت الخشبي في وسط الشاحنة ورموا من حوله الألواح الخشبية بشكل لا يدعوا للريبة.
دخلت البيت الخشبي واختبأت فيه، وتولى سائق يدعى الطيب قيادة الشاحنة وكان أهل ثقة، وتوجهنا نحو الأوراس، وفي الطريق اعترضتنا ثلاث حواجز أمنية اثنين منها اجتزناها بسهولة لأن رجال الأمن كانوا يعرفون الطيب فلم يوقفوه، لكن الحاجز الثالث أجبرنا رجال الدرك على التوقف، وصعد دركي فوق ألواح الخشب وهو يحاول أن يكتشف شيئا بين ثناياها، وكادت أنفاسي تنقطع بعد أن رأيت أمري يكاد ينكشف، لكن الله ستر، فلم يرنِ الدركي واجتزنا هذا الحاجز الأخير بسلام، وواصلنا طريقنا إلى الأوراس وحماية الله ترعانا.
وصلنا مدينة باتنة ودخلنا إلى المخزن، وتمكنت حينها من الخروج من ذلك القفص الخشبي الذي يشبه السجن الضيق، وطلبت من السائق أن يذهب في طلب رجل صنديد من أصدقائي المقربين يسمى عبد الحميد قواسمية، فجاءني هذا الأخير في سيارة من نوع “سيتروايان”، وأخذني إلى عين مليلة في أم البواقي لدى أحد المواطنين البسطاء الذي قضيت ليلتي تلك في داره، وفي صباح الغد اتصلوا بمسؤولي المنطقة فجاءني رجل يدعى السعيد 86 واسمه الحقيقي “بنور” وكان يحمل معه بندقية طويلة الماسورة فأخذني إلى قرية “غليف” عند رجل فاضل يدعى “عمي السعيد بوخرشوفة”.
بومدين يعزل الضباط المتعاطفين معي في الأوراس
بقيت في قرية “قليف” أتابع الأوضاع أولا بأول، وأراقب الأمور ما إذا كانت حدثت مظاهرات أم لا، وما هو مصير الضباط والجنود الذين وقفوا إلى جنبي مثل عمار ملاح، العياشي حواسنية شريف مهدي، ووجدت أن أغلب جنودي سلموا أنفسهم، أما النقيب العياشي حواسنية والشريف مهدي الأمين العام في هيئة الأركان فتمت محاصرتهما وإلقاء القبض عليهما، في حين بقي الرائد عمار ملاح حرا مطاردا مثلي.
كنت بحاجة إلى أموال كثيرة ربما 5 ملايين دينار (نصف مليار سنتيم بقيمة ذلك الزمان) لكن ذلك كان بعيد المنال تماما، والأمور أصبحت أكثر صعوبة بعد عزل وإبعاد ضباطي الأوفياء في المنطقة العسكرية الخامسة من المسؤوليات العسكرية التي كانوا مناطين بها رغم أنهم كانوا أشبه بالخلايا النائمة التي لم تتحرك يوم 14 ديسمبر، وتم استبدال هؤلاء الضباط بآخرين غير متعاطفين معنا.
بقيت نحو شهرين في قرية غليف، اتصل بي خلالها بعض الضباط الذين كانوا تحت قيادتي خلال الثورة مثل مكي البرجي وعبد الحميد وأعلنوا استعدادهم للوقوف إلى جانبي في وجه بومدين ورجاله، ولم تسمح الحالة التي كنا فيها بمواصلة معارضتنا.
رجال بومدين يتعقبونني
لم ييأس ولم يكل رجال بومدين من مطاردتي ومحاولة إلقاء القبض علي بأي شكل من الأشكال، وبقائي حرا طليقي بين أهلي وعشيرتي في الأوراس كان يسبب الأرق لبومدين، لأنه كان يعلم ماذا يعني لو تمردت عليه الأوراس لذلك أرسل رجال الشرطة والدرك والجيش والأمن العسكري لتقفي أثري والبحث عني في كل مكان والقبض علي حيا أو ميتا.
ومن بين أبرز الضباط الذين كانوا يتعقبونني بإصرار وعناد عبد السلام بوشارب الذي ترقى في المناصب إلى أن وصل إلى رتبة جنرال، وكان خلال الثورة مجاهدا في جيش التحرير فألقى الجيش الفرنسي القبض عليه في 1961 وبعد الاستقلال جاءني يطلب مساعدتي للانضمام إلى الجيش الوطني الشعبي، فأرسلته إلى قاصدي مرباح للعمل معه في الأمن العسكري بل قمنا بترقيته إلى رتبة عسكرية أعلى، لكنه بعد أزمتي مع بومدين كان أشد الضباط تعقبي لي خاصة وأنه ابن المنطقة.
ولأنه كان مجاهدا في الأوراس ويعرف رجالها جيدا فقد اتجه مباشرة إلى الطاهر مقلاتي في محله بباتنة وقال له بشكل مباشر ومستفز:
ـ الطاهر زبيري موجود عندك؟
ونفى مقلاتي بطبيعة الحال علمه به ورد عليه متحديا:
ـ إذهب وفتش عنه.
وإلى جانب عبد السلام بوشارب كان النقيب عطايلية نائب قائد المنطقة العسكرية الخامسة (تقاعد برتبة جنرال) هو الآخر في أثري، وكان يقود كتيبة من الجنود مرفوقة بالكلاب البوليسية المدربة لتعقبي من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية ومن بيت إلى بيت، وسببت هذه المطاردات الكثير من الأذى والإحراج لمن عرفوني عن قرب أو كانت تربطهم بي أدنى علاقة سواء خلال الثورة أو بعد الاستقلال.
الأمن العسكري يحدد مكاني
خلال الأشهر الأولى من سنة 1968 كانت جميع اتصالاتي بالرائد عمار ملاح الذي كان من الضباط المطاردين القلائل الذين نجوا من الاعتقال تتم بالرسائل التي أبعث بها عبر رجال ثقاة، وفي إحدى هذه الرسائل أمرته بأن يلتحق بي في منطقة بنواحي “غليف” بالأوراس لكن الرسول الذي كلفته بإيصال هذه الرسالة أعطاها لشخص آخر من معارفه للقيام بهذه المهمة، غير أن هذا الأخير بدل أن يوصلها إلى الرائد عمار ملاح سلمها بكل برودة دم إلى الأمن العسكري.
أصبح الأمن العسكري يملك رأس الخيط الذي بإمكانه أن يوصله إلى مكان تمركز عمار ملاح في ضواحي العاصمة بل وتحديد مكاني أنا الآخر في الأوراس في ضواحي غليف، لذلك كثف الأمن العسكري عمليات البحث عني في المنطقة ولحسن حظي أنني كنت آخذ احتياطاتي بشكل جيد، حيث أغير أماكن تواجدي باستمرار.
الكثير من سكان الأوراس كانوا متعاطفين معي وآووني في بيوتهم، واقتسمت معهم رغيف عيالهم، وحفظوا سري في صدورهم، ولم يشوا بي إلى رجال بومدين رغم خوفهم من بطشهم وحاجتهم إلى مكافأة مالية تنتشلهم وأطفالهم من مستنقع الفقر والحرمان.
وتولى الصالح عبد اللاوي (كان ضابطا في الولاية الأولى خلال الثورة ونائبا لقائد المنطقة الثانية بجبل شيلية) مهمة اختيار المكان المناسب الذي أختفي فيه عن عيون بومدين، فلم أكن أتحرك إلا إلى المكان الصحيح وفي سرية تامة، لذلك وجد الأمن العسكري صعوبة كبيرة في تحديد مكان تواجدي بالدقة المطلوبة وفي الوقت المناسب.
الصالح عبد اللاوي كان يعرف المنطقة شبرا شبرا، دارا دارا، زنقة زنقة، كما يعرف أهلها فردا فردا، وهو الذي كان يزودني بالمؤونة والجرائد لأن الناس الذين كنت أختبئ عندهم جميعهم فقراء، ولم يكن لديهم ما يسد قوت عيالهم فأنى لهم بمؤونة قائد أركان “قلب له الزمان ظهر المجن”؟
الدرك يحاصر مخبأنا ويعتقل عبد اللاوي
أقمت لفترة مع صديقي محمد شبيلة الذي التحق بي في غليف عند شخص يدعى الماكودي سعيدي في دوار يدعى “بولفرايس” يقع بين ولايتي باتنة وخنشلة بعيدا عن الطريق الرئيسية، وكانت جميع تحركاتنا ليلا وكنت أحمل معي رشاشا آليا من نوع “كارابينا” بالإضافة إلى مسدس، ولكني ذات مرة تاقت نفسي للاستحمام خاصة وأني قضيت أسابيع في الغابات والجبال بدون استحمام نظرا لأن الناس كانوا يعانون من نقص المياه وكأن شمس الاستقلال لم تشرق بعد في سماء هؤلاء المساكين.. الأوفياء.
قررت الذهاب مع محمد شبيلة إلى حمام الصالحين بخنشلة للاستحمام في وضح النهار رغم كل ما يحمله هذا القرار من مغامرة غير محمودة العواقب، ولكننا احتطنا للأمر، فقد غيرت من مظهري بشكل يصعب التعرف علي، أصبح شاربي أكثر طولا، وكنت أضع لحافا على رأسي وأرتدي قندورة وملابس الفلاحين، حتى يحسب من يراني أنني واحد من أبناء الدوار ولو أنني كنت فعلا كذلك.
ولتأمين سلامتنا جاء صالح عبد اللاوي بسبع مجاهدين من المنطقة ومعهم أسلحتهم التي كانوا يمتلكونها منذ أيام الثورة، وظلوا يحرسوننا بيقظة، وسبحنا في مياه حمام الصالحين الساخنة طبيعيا وقضينا أوقاتا ممتعة افتقدناها منذ واقعة العفرون.
وعندما أردنا العودة جاءنا صالح عبد اللاوي بسيارة أجرة يقودها رجل يدعى “الحاج علي” وكان رجل ثقة، فأخذني رفقة محمد شبيلة والماكودي إلى بيت لا يبعد عن دار هذا الأخير في دوار بولفرايس سوى بنحو ثماني كيلومترات، وفي الغد التحق بنا صالح عبد اللاوي ومعه بعض المواد الغذائية لكنه لم يأت لنا بالجرائد، وكان حينها قد تم القبض على عمار ملاح وصهري موسى حواسنية لكن الجرائد لم تتكلم عن هذا الحدث لأن بومدين كان يريد أن يلقي بظلال من النسيان على حركة 14 ديسمبر 1967.
طلبت من الماكودي أن يرافق عبد اللاوي والحاج علي إلى مدينة قايس أين يقيم عبد اللاوي لشراء الجرائد، وعندما وصلوا إلى البلدة نزل عبد اللاوي ودخل إلى بيته، بينما بقي الماكودي رفقة السائق الحاج علي حيث ساروا قليلا قبل أن ينزل الماكودي وسط البلدة لشراء الجرائد، إلا أن الماكودي كان مرتابا في الحاج علي الذي كان محل ثقة صالح عبد اللاوي بدليل أنه نقلنا مرارا بسيارته دون أن يحدث لنا أي مكروه.
تتبع الماكودي الحاج علي إلى أن رآه يدخل مقرا للدرك الوطني، فتأكد من خيانته لنا، فرجع يجري بأقصى ما أوتي من قوة ليحذرنا قبل أن يصل رجال الدرك إلينا، كان رجلا صنديدا ووفيا قطع عشرة كيلومترات وهو يجري حتى يسبق سيارات الدرك، إلى أن وصل إلينا وهو يلهث من شدة التعب وقال لنا:
ـ هيا بنا علينا أن نخرج من هنا حالا.
وتحركنا بسرعة لاجئين إلى غابة البراجة في جبل كيمل والتي كانت مركزا لقيادة الولاية الأولى خلال الثورة، وعندما وصل رجال الدرك إلى المخبأ الذي كنا فيه حاصروه بسرعة ثم اقتحموه لكنهم لم يجدوا أحدا، فقد أفلت صيدهم الثمين، إلا أنهم مع ذلك نجحوا في القبض على صالح عبد اللاوي في بيته، الذي أخضع لتعذيب تقشعر منه الأبدان، حيث علق بالسيلان (الأسلاك الشائكة) وأطلقوا عليه الكلاب الشرسة لتنهش لحمه حتى يُقِر بكل ما يعرفه عني وعن الأماكن التي سبق وأن اختبأت فيها، ثم نقلوه إلى السجن.
عمي السعيد بوخرشوفة وأمنا عائشة
أخذنا الماكودي إلى شيخ فقير يدعى “عمي السعيد بوخرشوفة” وزوجته “أمنا عائشة” اللذان كانا يؤويان الثوار خلال حرب التحرير، وكان عمي بوخرشوفة لديه كوخين في غابة البراجة بأعالي جبال الأوراس، ومكثت عنده ثمانية أيام كاملة مع محمد شبيلة، وطيلة هذه المدة لم يأتي إلينا أي شخص لا صالح عبد اللاوي الذي لم نكن نعلم بأنه اعتقل ولا شخص آخر.
كانت ظروف حرجة للغاية، وزادت الثلوج والأمطار والبرد القارس الوضع قساوة ومأساوية، فلم تصلنا المؤن والغذاء، بل كنا نشارك شيخا فقيرا قوته وقوت زوجته العجوز ونقتسم معهما رغيفهما طيلة ثمانية أيام كاملة.
وجاءنا الماكودي أخيرا وأخذنا عند رجل آخر يدعى محمد العيد شقيق رجل طريف يدعى “حمنا القاهرة” والذي عندما سأله رجال الدرك: “هل جاءك زبيري” قال لهم بتغابي: “لم يشرفن بالمجيء”، ولما قالوا لشقيقه إن الطاهر زبيري: “خائن” صدم وهو الذي يعتبرني أحد أبطال الأوراس الذين حرروا الجزائر فقال مندهشا “… الطاهر زبيري يخون؟”، وأضاف “سمعت أن أمرا وقع في جبل فرعون” وكان يقصد مدينة العفرون.
أما أشجع الرجال الذين سمعت عنهم ولم أعرفهم خلال محنتي فكان شيخا طاعنا في السن (في الثمانين من العمر) عندما جاءه رجال الدرك والمخابرات ليسألوه إن كنت زرته أو اختبأت في بيته، تحداهم قائلا “لم يشرفن بالمجيء، ولو جاءني… فإما رحلتم أو قتلتكم جميعا”.
ازدادت مطاردات رجال الأمن العسكري والدرك والشرطة والجيش لنا شراسة وحدة، بل وضيقوا الخناق علينا كثيرا خاصة بعد أن تم اعتقال الماكودي وشقيقه والطاهر مقلاتي وأخوه أيضا، مما جعلنا في وضع صعب لا نحسد عليه.. كانت حملة مسعورة لاعتقال واستنطاق كل من ساهم في تهريبي إلى الأوراس أو آواني أو ساعدني بأي شكل من الأشكال، وحتى الضباط الذين يشتبهون في ولائهم لي أو تعاطفهم معي تم إبعادهم أو تحويلهم إلى مناطق بعيدة عن الأوراس.
قضينا ثلاثة أيام لدى حمنا القاهرة وشقيقه محمد العيد، ثم عدنا إلى غابة البراجة في جبل كيمل عند عمي السعيد بوخرشوفة الذي كان رجلا قانعا بما رزقه الله رغم فقره المدقع وعزلته في غابة البراجة، وبقينا هناك نصارع الجوع والمرض حتى أرجلنا تفسخت من كثرة المشي في الجبال والغابات فارين من مطاردات النقيب عطايلية ورجال الأمن العسكري وقوات الدرك التي ازدادت شراسة بعد أن تأكدوا أنني تمكنت من الوصول إلى الأوراس.
لم تعد رجلاي تتحملاني أكثر رغم أنني خلال الثورة كنت مثل الأسد الهصور أجوب أرجاء هذه الغابات والجبال دون أن أكلَّ أو أملَّ، لكن هل بعدما ذقت طعم العيش الرغيد في قيادة الأركان صعبت عليّ أيام المحن والإحن؟
كانت أمنا عائشة تبكي بالدموع الساخنة وهي ترثي لحالي، وتتألم لمرضي، في حين كان عمي السعيد بوخرشوفة يوصيني دوما بالحفاظ على الصلاة، فقد كان رجلا تقيا ورعا رغم فقره ولكني كنت أرد عليه مازحا “أنا لدي جبال من الحسنات لأني دافعت بروحي عن الإسلام وعروبة الجزائر”.
بعد أن فشلت خطة الطاهر زبيري في الضغط عسكريا على بومدين للرضوخ لمبدأ “القيادة الجماعية” الذي سنه الآباء المفجرون للثورة، أصبح زبيري مطلوبا لدى جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية حيا أو ميتا، واليوم يحكي لنا عمي الطاهر المطاردات البوليسية له من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى قرية، ومن زنقة إلى زنقة، بشكل مثير ومشوق يصلح لكي يكون مشروع فيلم سنيمائي، تابعوا…
الخروج إلى البليدة
بعد واقعة العفرون، اجتمع قادة الولاية الرابعة وكان من بينهم العقيد يوسف الخطيب والرائد يوسف بولخروف والرائد لخضر بورقعة ومراد ثم جاؤوني إلى غابة الشبلي في البليدة، وقد أوعزت في نفسي خيفة منهم بأن يقوموا باعتقالي وتقديمي قربانا لبومدين لتبرئة ذمتهم بعد أن بلغتهم نتائج واقعة العفرون، خاصة أنه لم يكن يرافقني أي من الحرس باستثناء سائقي المخلص، لكن قادة الولاية الرابعة كانوا أكثر شهامة من غيرهم.
لم أضع في حسباني أن يتخلى عني كثير من الرجال الذين أقسموا بأغلظ الأيمان بأنهم سيكونون إلى صفي عندما يجد الجد وتفرز الصفوف، لكن بعد أول مواجهة راجع الكثيرون موقفهم وتحولت الخيانة إلى حكمة وحسن تدبر، فنكسوا رؤوسهم، واختبؤوا في جحورهم، وغيروا صفوفهم.
وفي هذه اللحظات العصيبة قال لي بورقعة:
ـ اذهب إلى الأوراس وحرك الأمور.
في ليلة المواجهة رافقني الرائد بورقعة في السيارة إلى العفرون وتدثرنا بجنح الظلام حتى لا يتعرف علينا رجال بومدين، وعاينت هناك ظروف المعركة واتصلت مباشرة برجالي وقد تأسفت لحالهم بعد أن لعبت الأوحال والقنطرة والطائرات دورا محوريا في هذه المواجهة، وبعد أن أمرت رجالي بالانسحاب إلى الجبال حفاظا على وحدة الجيش والجزائر وطلبت منهم وقف إطلاق النار وانتظار الأوامر، توجهت رفقة بورقعة إلى جبل حلوان، وفي الغد دخلنا إلى العاصمة عبر محاور لم أكن أعرفها لكن بورقعة باعتباره من المنطقة كان يدلنا على أفضل السبل لتفادي الحواجز الأمنية الكثيفة التي وضعها رجال بومدين لإلقاء القبض على كل من كانت له علاقة بحركتنا.
فكرت حينها في العودة إلى الأوراس، خاصة وأن لدي وحدات عسكرية في المنطقة تخضع لسلطتي، فقد كان بإمكاني تجميع فرقة ونصف من الرجال، وبمجرد تحركي أستطيع أن أجمع أكثر وأكثر، لكن بومدين سارع إلى عزل القادة والضباط الذين يشك في ولائهم لي مما صعب من مهمتي.
التسلل إلى الأوراس
بعد أن استطاع بومدين إنهاء الجولة الأولى لصالحه والقضاء على الموجة الرئيسية لقواتنا أطلق رجال الأمن والمخابرات لتعقب أثري قصد اعتقالي مع كبار قادة حركة 14 ديسمبر، فأصبح من الصعب علي أن أتجاوز كل تلك الحواجز الأمنية حتى أصل إلى جبال الأوراس التي تبعد عن العاصمة بنحو 500 كيلومتر شرقا.
لكني سمعت أن سائق قطار يدعى أحمد بوزيدي بن طيب العمراني استطاع أن ينقذ أحد رجالنا ويسمى عبد الحميد بن غزال ونقله إلى قسنطينة رغم الإجراءات الأمنية المشددة التي فرضها رجال بومدين علينا والتي مكنتهم من اعتقال الكثير من رجالنا والمتعاطفين معنا.
وأرسلت رجالا من الولاية الرابعة إلى أحمد بوزيدي فلم يجدوه وأخبرهم ابنه بأنه في سفر وقد يتأخر في العودة، لذلك فكرت في رجل آخر من الأوراس يعمل بالعاصمة ولديه شاحنات ومحلات تجارية لبيع قطع الغيار إذ كانت لديه شركة للتصدير والاستيراد، ويدعى هذا الشخص مقلاتي وكنا إبان الثورة نأكل وننام عنده ونعتبره من الأصدقاء الكبار للثورة، وعندما أرسلت في طلبه لم أجده ولكن جاءني ابنه، فقلت له:
ـ أنتم لديكم شاحنات.. وأرغب الآن في العودة إلى المنطقة (الأوراس).
ـ سأكلم أبي.
وعندما بلغه الأمر، قال الطاهر مقلاتي لابنه:
ـ خبئه في المخزن.. ودعنا نحترق بنار الأزمة كلنا.
وجئتهم ليلا واختبأت في المخزن، وأخبرني مقلاتي بأنهم سينجزون لي بيتا من الألواح الخشبية، لأنهم كانوا يتاجرون في الخشب أيضا، وبعد أن قضيت عندهم ليلة أو ليلتين وضعوا البيت الخشبي في وسط الشاحنة ورموا من حوله الألواح الخشبية بشكل لا يدعوا للريبة.
دخلت البيت الخشبي واختبأت فيه، وتولى سائق يدعى الطيب قيادة الشاحنة وكان أهل ثقة، وتوجهنا نحو الأوراس، وفي الطريق اعترضتنا ثلاث حواجز أمنية اثنين منها اجتزناها بسهولة لأن رجال الأمن كانوا يعرفون الطيب فلم يوقفوه، لكن الحاجز الثالث أجبرنا رجال الدرك على التوقف، وصعد دركي فوق ألواح الخشب وهو يحاول أن يكتشف شيئا بين ثناياها، وكادت أنفاسي تنقطع بعد أن رأيت أمري يكاد ينكشف، لكن الله ستر، فلم يرنِ الدركي واجتزنا هذا الحاجز الأخير بسلام، وواصلنا طريقنا إلى الأوراس وحماية الله ترعانا.
وصلنا مدينة باتنة ودخلنا إلى المخزن، وتمكنت حينها من الخروج من ذلك القفص الخشبي الذي يشبه السجن الضيق، وطلبت من السائق أن يذهب في طلب رجل صنديد من أصدقائي المقربين يسمى عبد الحميد قواسمية، فجاءني هذا الأخير في سيارة من نوع “سيتروايان”، وأخذني إلى عين مليلة في أم البواقي لدى أحد المواطنين البسطاء الذي قضيت ليلتي تلك في داره، وفي صباح الغد اتصلوا بمسؤولي المنطقة فجاءني رجل يدعى السعيد 86 واسمه الحقيقي “بنور” وكان يحمل معه بندقية طويلة الماسورة فأخذني إلى قرية “غليف” عند رجل فاضل يدعى “عمي السعيد بوخرشوفة”.
بومدين يعزل الضباط المتعاطفين معي في الأوراس
بقيت في قرية “قليف” أتابع الأوضاع أولا بأول، وأراقب الأمور ما إذا كانت حدثت مظاهرات أم لا، وما هو مصير الضباط والجنود الذين وقفوا إلى جنبي مثل عمار ملاح، العياشي حواسنية شريف مهدي، ووجدت أن أغلب جنودي سلموا أنفسهم، أما النقيب العياشي حواسنية والشريف مهدي الأمين العام في هيئة الأركان فتمت محاصرتهما وإلقاء القبض عليهما، في حين بقي الرائد عمار ملاح حرا مطاردا مثلي.
كنت بحاجة إلى أموال كثيرة ربما 5 ملايين دينار (نصف مليار سنتيم بقيمة ذلك الزمان) لكن ذلك كان بعيد المنال تماما، والأمور أصبحت أكثر صعوبة بعد عزل وإبعاد ضباطي الأوفياء في المنطقة العسكرية الخامسة من المسؤوليات العسكرية التي كانوا مناطين بها رغم أنهم كانوا أشبه بالخلايا النائمة التي لم تتحرك يوم 14 ديسمبر، وتم استبدال هؤلاء الضباط بآخرين غير متعاطفين معنا.
بقيت نحو شهرين في قرية غليف، اتصل بي خلالها بعض الضباط الذين كانوا تحت قيادتي خلال الثورة مثل مكي البرجي وعبد الحميد وأعلنوا استعدادهم للوقوف إلى جانبي في وجه بومدين ورجاله، ولم تسمح الحالة التي كنا فيها بمواصلة معارضتنا.
رجال بومدين يتعقبونني
لم ييأس ولم يكل رجال بومدين من مطاردتي ومحاولة إلقاء القبض علي بأي شكل من الأشكال، وبقائي حرا طليقي بين أهلي وعشيرتي في الأوراس كان يسبب الأرق لبومدين، لأنه كان يعلم ماذا يعني لو تمردت عليه الأوراس لذلك أرسل رجال الشرطة والدرك والجيش والأمن العسكري لتقفي أثري والبحث عني في كل مكان والقبض علي حيا أو ميتا.
ومن بين أبرز الضباط الذين كانوا يتعقبونني بإصرار وعناد عبد السلام بوشارب الذي ترقى في المناصب إلى أن وصل إلى رتبة جنرال، وكان خلال الثورة مجاهدا في جيش التحرير فألقى الجيش الفرنسي القبض عليه في 1961 وبعد الاستقلال جاءني يطلب مساعدتي للانضمام إلى الجيش الوطني الشعبي، فأرسلته إلى قاصدي مرباح للعمل معه في الأمن العسكري بل قمنا بترقيته إلى رتبة عسكرية أعلى، لكنه بعد أزمتي مع بومدين كان أشد الضباط تعقبي لي خاصة وأنه ابن المنطقة.
ولأنه كان مجاهدا في الأوراس ويعرف رجالها جيدا فقد اتجه مباشرة إلى الطاهر مقلاتي في محله بباتنة وقال له بشكل مباشر ومستفز:
ـ الطاهر زبيري موجود عندك؟
ونفى مقلاتي بطبيعة الحال علمه به ورد عليه متحديا:
ـ إذهب وفتش عنه.
وإلى جانب عبد السلام بوشارب كان النقيب عطايلية نائب قائد المنطقة العسكرية الخامسة (تقاعد برتبة جنرال) هو الآخر في أثري، وكان يقود كتيبة من الجنود مرفوقة بالكلاب البوليسية المدربة لتعقبي من مدينة إلى مدينة ومن قرية إلى قرية ومن بيت إلى بيت، وسببت هذه المطاردات الكثير من الأذى والإحراج لمن عرفوني عن قرب أو كانت تربطهم بي أدنى علاقة سواء خلال الثورة أو بعد الاستقلال.
الأمن العسكري يحدد مكاني
خلال الأشهر الأولى من سنة 1968 كانت جميع اتصالاتي بالرائد عمار ملاح الذي كان من الضباط المطاردين القلائل الذين نجوا من الاعتقال تتم بالرسائل التي أبعث بها عبر رجال ثقاة، وفي إحدى هذه الرسائل أمرته بأن يلتحق بي في منطقة بنواحي “غليف” بالأوراس لكن الرسول الذي كلفته بإيصال هذه الرسالة أعطاها لشخص آخر من معارفه للقيام بهذه المهمة، غير أن هذا الأخير بدل أن يوصلها إلى الرائد عمار ملاح سلمها بكل برودة دم إلى الأمن العسكري.
أصبح الأمن العسكري يملك رأس الخيط الذي بإمكانه أن يوصله إلى مكان تمركز عمار ملاح في ضواحي العاصمة بل وتحديد مكاني أنا الآخر في الأوراس في ضواحي غليف، لذلك كثف الأمن العسكري عمليات البحث عني في المنطقة ولحسن حظي أنني كنت آخذ احتياطاتي بشكل جيد، حيث أغير أماكن تواجدي باستمرار.
الكثير من سكان الأوراس كانوا متعاطفين معي وآووني في بيوتهم، واقتسمت معهم رغيف عيالهم، وحفظوا سري في صدورهم، ولم يشوا بي إلى رجال بومدين رغم خوفهم من بطشهم وحاجتهم إلى مكافأة مالية تنتشلهم وأطفالهم من مستنقع الفقر والحرمان.
وتولى الصالح عبد اللاوي (كان ضابطا في الولاية الأولى خلال الثورة ونائبا لقائد المنطقة الثانية بجبل شيلية) مهمة اختيار المكان المناسب الذي أختفي فيه عن عيون بومدين، فلم أكن أتحرك إلا إلى المكان الصحيح وفي سرية تامة، لذلك وجد الأمن العسكري صعوبة كبيرة في تحديد مكان تواجدي بالدقة المطلوبة وفي الوقت المناسب.
الصالح عبد اللاوي كان يعرف المنطقة شبرا شبرا، دارا دارا، زنقة زنقة، كما يعرف أهلها فردا فردا، وهو الذي كان يزودني بالمؤونة والجرائد لأن الناس الذين كنت أختبئ عندهم جميعهم فقراء، ولم يكن لديهم ما يسد قوت عيالهم فأنى لهم بمؤونة قائد أركان “قلب له الزمان ظهر المجن”؟
الدرك يحاصر مخبأنا ويعتقل عبد اللاوي
أقمت لفترة مع صديقي محمد شبيلة الذي التحق بي في غليف عند شخص يدعى الماكودي سعيدي في دوار يدعى “بولفرايس” يقع بين ولايتي باتنة وخنشلة بعيدا عن الطريق الرئيسية، وكانت جميع تحركاتنا ليلا وكنت أحمل معي رشاشا آليا من نوع “كارابينا” بالإضافة إلى مسدس، ولكني ذات مرة تاقت نفسي للاستحمام خاصة وأني قضيت أسابيع في الغابات والجبال بدون استحمام نظرا لأن الناس كانوا يعانون من نقص المياه وكأن شمس الاستقلال لم تشرق بعد في سماء هؤلاء المساكين.. الأوفياء.
قررت الذهاب مع محمد شبيلة إلى حمام الصالحين بخنشلة للاستحمام في وضح النهار رغم كل ما يحمله هذا القرار من مغامرة غير محمودة العواقب، ولكننا احتطنا للأمر، فقد غيرت من مظهري بشكل يصعب التعرف علي، أصبح شاربي أكثر طولا، وكنت أضع لحافا على رأسي وأرتدي قندورة وملابس الفلاحين، حتى يحسب من يراني أنني واحد من أبناء الدوار ولو أنني كنت فعلا كذلك.
ولتأمين سلامتنا جاء صالح عبد اللاوي بسبع مجاهدين من المنطقة ومعهم أسلحتهم التي كانوا يمتلكونها منذ أيام الثورة، وظلوا يحرسوننا بيقظة، وسبحنا في مياه حمام الصالحين الساخنة طبيعيا وقضينا أوقاتا ممتعة افتقدناها منذ واقعة العفرون.
وعندما أردنا العودة جاءنا صالح عبد اللاوي بسيارة أجرة يقودها رجل يدعى “الحاج علي” وكان رجل ثقة، فأخذني رفقة محمد شبيلة والماكودي إلى بيت لا يبعد عن دار هذا الأخير في دوار بولفرايس سوى بنحو ثماني كيلومترات، وفي الغد التحق بنا صالح عبد اللاوي ومعه بعض المواد الغذائية لكنه لم يأت لنا بالجرائد، وكان حينها قد تم القبض على عمار ملاح وصهري موسى حواسنية لكن الجرائد لم تتكلم عن هذا الحدث لأن بومدين كان يريد أن يلقي بظلال من النسيان على حركة 14 ديسمبر 1967.
طلبت من الماكودي أن يرافق عبد اللاوي والحاج علي إلى مدينة قايس أين يقيم عبد اللاوي لشراء الجرائد، وعندما وصلوا إلى البلدة نزل عبد اللاوي ودخل إلى بيته، بينما بقي الماكودي رفقة السائق الحاج علي حيث ساروا قليلا قبل أن ينزل الماكودي وسط البلدة لشراء الجرائد، إلا أن الماكودي كان مرتابا في الحاج علي الذي كان محل ثقة صالح عبد اللاوي بدليل أنه نقلنا مرارا بسيارته دون أن يحدث لنا أي مكروه.
تتبع الماكودي الحاج علي إلى أن رآه يدخل مقرا للدرك الوطني، فتأكد من خيانته لنا، فرجع يجري بأقصى ما أوتي من قوة ليحذرنا قبل أن يصل رجال الدرك إلينا، كان رجلا صنديدا ووفيا قطع عشرة كيلومترات وهو يجري حتى يسبق سيارات الدرك، إلى أن وصل إلينا وهو يلهث من شدة التعب وقال لنا:
ـ هيا بنا علينا أن نخرج من هنا حالا.
وتحركنا بسرعة لاجئين إلى غابة البراجة في جبل كيمل والتي كانت مركزا لقيادة الولاية الأولى خلال الثورة، وعندما وصل رجال الدرك إلى المخبأ الذي كنا فيه حاصروه بسرعة ثم اقتحموه لكنهم لم يجدوا أحدا، فقد أفلت صيدهم الثمين، إلا أنهم مع ذلك نجحوا في القبض على صالح عبد اللاوي في بيته، الذي أخضع لتعذيب تقشعر منه الأبدان، حيث علق بالسيلان (الأسلاك الشائكة) وأطلقوا عليه الكلاب الشرسة لتنهش لحمه حتى يُقِر بكل ما يعرفه عني وعن الأماكن التي سبق وأن اختبأت فيها، ثم نقلوه إلى السجن.
عمي السعيد بوخرشوفة وأمنا عائشة
أخذنا الماكودي إلى شيخ فقير يدعى “عمي السعيد بوخرشوفة” وزوجته “أمنا عائشة” اللذان كانا يؤويان الثوار خلال حرب التحرير، وكان عمي بوخرشوفة لديه كوخين في غابة البراجة بأعالي جبال الأوراس، ومكثت عنده ثمانية أيام كاملة مع محمد شبيلة، وطيلة هذه المدة لم يأتي إلينا أي شخص لا صالح عبد اللاوي الذي لم نكن نعلم بأنه اعتقل ولا شخص آخر.
كانت ظروف حرجة للغاية، وزادت الثلوج والأمطار والبرد القارس الوضع قساوة ومأساوية، فلم تصلنا المؤن والغذاء، بل كنا نشارك شيخا فقيرا قوته وقوت زوجته العجوز ونقتسم معهما رغيفهما طيلة ثمانية أيام كاملة.
وجاءنا الماكودي أخيرا وأخذنا عند رجل آخر يدعى محمد العيد شقيق رجل طريف يدعى “حمنا القاهرة” والذي عندما سأله رجال الدرك: “هل جاءك زبيري” قال لهم بتغابي: “لم يشرفن بالمجيء”، ولما قالوا لشقيقه إن الطاهر زبيري: “خائن” صدم وهو الذي يعتبرني أحد أبطال الأوراس الذين حرروا الجزائر فقال مندهشا “… الطاهر زبيري يخون؟”، وأضاف “سمعت أن أمرا وقع في جبل فرعون” وكان يقصد مدينة العفرون.
أما أشجع الرجال الذين سمعت عنهم ولم أعرفهم خلال محنتي فكان شيخا طاعنا في السن (في الثمانين من العمر) عندما جاءه رجال الدرك والمخابرات ليسألوه إن كنت زرته أو اختبأت في بيته، تحداهم قائلا “لم يشرفن بالمجيء، ولو جاءني… فإما رحلتم أو قتلتكم جميعا”.
ازدادت مطاردات رجال الأمن العسكري والدرك والشرطة والجيش لنا شراسة وحدة، بل وضيقوا الخناق علينا كثيرا خاصة بعد أن تم اعتقال الماكودي وشقيقه والطاهر مقلاتي وأخوه أيضا، مما جعلنا في وضع صعب لا نحسد عليه.. كانت حملة مسعورة لاعتقال واستنطاق كل من ساهم في تهريبي إلى الأوراس أو آواني أو ساعدني بأي شكل من الأشكال، وحتى الضباط الذين يشتبهون في ولائهم لي أو تعاطفهم معي تم إبعادهم أو تحويلهم إلى مناطق بعيدة عن الأوراس.
قضينا ثلاثة أيام لدى حمنا القاهرة وشقيقه محمد العيد، ثم عدنا إلى غابة البراجة في جبل كيمل عند عمي السعيد بوخرشوفة الذي كان رجلا قانعا بما رزقه الله رغم فقره المدقع وعزلته في غابة البراجة، وبقينا هناك نصارع الجوع والمرض حتى أرجلنا تفسخت من كثرة المشي في الجبال والغابات فارين من مطاردات النقيب عطايلية ورجال الأمن العسكري وقوات الدرك التي ازدادت شراسة بعد أن تأكدوا أنني تمكنت من الوصول إلى الأوراس.
لم تعد رجلاي تتحملاني أكثر رغم أنني خلال الثورة كنت مثل الأسد الهصور أجوب أرجاء هذه الغابات والجبال دون أن أكلَّ أو أملَّ، لكن هل بعدما ذقت طعم العيش الرغيد في قيادة الأركان صعبت عليّ أيام المحن والإحن؟
كانت أمنا عائشة تبكي بالدموع الساخنة وهي ترثي لحالي، وتتألم لمرضي، في حين كان عمي السعيد بوخرشوفة يوصيني دوما بالحفاظ على الصلاة، فقد كان رجلا تقيا ورعا رغم فقره ولكني كنت أرد عليه مازحا “أنا لدي جبال من الحسنات لأني دافعت بروحي عن الإسلام وعروبة الجزائر”.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 15
قررت الابتعاد عن الجزائر لإنهاء رحلة الخوف في الأوراس قطعت حقولا من الألغام في الظلام وودعت الأرض الأخيرة
في الحلقة السابقة تحدث العقيد زبيري عن تحصّنه بجبال الأوراس التي كان آخر قادتها خلال الثورة، في محاولة لإعادة تجميع أنصاره بعد معركة العفرون لمناطحة بومدين مجددا ولكنه اليوم يكشف لنا كيف أنهى تمرّده في الأوراس وقرّر مغادرة الجزائر إلى المنفى الاضطراري.
إنهاء التمرد
في أواخر شهر ماي 1968 وجدت أن معظم رجالي الأوفياء تم إلقاء القبض عليهم، وفقدت الاتصال بمن تبقّى منهم خارج الاعتقال، ونظرت من حولي فوجدت أن الأوراس كلها لم تعد على استعداد للتمرد على سلطة بومدين، وكل من كان له علاقة بي من قريب أو من بعيد إلا وتم اعتقاله وتعذيبه والتنكيل به أو على الأقل وضعه قريبا من الأعين محاصرا برعب لا يدري متى يأتيه زوار الليل ليقتادوه إلى المكان الذي لن يرى النور بعده.
أردت أن أخفف من عذاب هؤلاء الناس الذين ساعدوني وألقي القبض عليهم وعذبوا أشد العذاب لوقوفهم إلى جنبي في أحلك الظروف، كان لابد أن أنهي رحلة الخوف التي سكنت الأوراس وعمّت الكثير من أرجاء البلاد وتأذى الكثير من الناس من التحقيقات الأمنية والمساءلات البوليسية والتعذيب، ولإبعاد كل هذه الهموم قررت أن أغادر الجزائر وأنهي التمرد العسكري وأطوي صفحته، خاصة وأن الأمور بدأت تبرد، ولم تعد الصحافة تكتب شيئا عنا، ومطاردات رجال الدرك والأمن العسكري خفت قليلا.
وبما أن ذكرى استقلال تونس قد اقتربت أخبرت محمد شبيلة أنني أنوي اللجوء إلى تونس، لكنه أكد لي بأنه لم يعد يقوى على المشي، فقد تقرّحت أرجلنا من طول المشي في الجبال والمنخفضات حتى أدمت، ولم نعد نقدر حتى على ارتداء الأحذية من كثرة الجراح والتقرحات وصرنا نمشي لمسافات قصيرة وكأننا نمشي فوق السكاكين الحادة والمسامير المدببة أو الزجاج المهشم، وسبّب لنا ذلك آلاما شديدة لا يحتملها الإنسان، حتى الحمى صارت ضيفتنا دون دعوة، ولكن لم يكن بأيدينا خيار، فالوقوع بين أيدي رجال قاصدي مرباح وعطايلية ليس أرحم من كل هذه الجراح والآلام.
أخبرت محمد شبيلة أنني سأقترب من مدينة الونزة التي تبعد عنا بنحو 10 كيلومترات وأرسل إلى شقيقي الحاج بلقاسم من يطلب منه أن يشتري له بغلا ويوصله إليه في الدوار الذي يختبئ فيه ليلحق بي بالقرب من الحدود التونسية، ولم أكن أدري حينها أن شقيقي الحاج بلقاسم قد استقال من رئاسة بلدية الونزة.
وقبل أن أغادر بيت عمي السعيد بوخرشوفة أعطيته 300 دينار هي كل ما تبقى لدي من أربعة آلاف دينار، وأخذت من بيت عمي السعيد بعض المؤن حتى أتقوت بها في الطريق.
فقراء ولكنهم رجال
ثقتي كبيرة كانت في أبناء المنطقة لأنهم كانوا يحبّونني ويتعاطفون معي لأني ابن الناحية، وقد تمكنت من ربط الاتصال مع عمي السعيد بنور وهو كبير الدوار، فقلت له “أعرف المنطقة بشكل عام ولكني أريدك أن ترسل إلى خلاف بوخرشوفة ليوصلني إلى مدينة عين البيضاء (ولاية أم البواقي)”، لأن هذه المدينة يقطنها عرش الحراكتة الذي أنتمي إليه، والذي بإمكانه أن يوفر لي بعض الحماية إلى غاية وصولي إلى الحدود.
فأرسل عمي السعيد إلى خلاف وطلب منه أن يرافقني إلى عين البيضاء، ولم يجد خلاّف سوى الاستجابة لكبير الدوار الذي كان مجاهدا محترما وكلمته مسموعة بين أبناء الدوار، وطلبت من خلاف أن يصحبني ويدلني على الطريق بين مدينتي عين البيضاء وأم البواقي، وسرنا ليلا وذئاب الخوف تلاحقنا، فرجال الدرك والشرطة والأمن العسكري لم تتعب من مطاردتنا رغم مرور ستة أشهر على حركة 14 ديسمبر 1967، فالكل يريد أن يلقي عليّ القبض حيّا أو ميّتا ليتقرب برأسي من بومدين حتى يرفع قدره ورتبته العسكرية.
وبصعوبة بالغة وصلنا إلى منطقة شمال مدينة عين البيضاء بعد أن تجاوزنا إحدى الغابات وتراءت لنا مدينة عين البيضاء من بعيد، وحينها خارت قواي ولم أقدر على مواصلة المسير، رغم أني كنت أرتدي حذاء رياضيا إلا أن قدماي المثخنتين بالجراح والتقرحات لم تسعفانِ للسير أكثر على أرض وكأنها مغروسة بالسكاكين، أو أنها أرض غير تلك الأرض التي كناّ نسير فيها إبان الثورة في الليالي الماطرة والأيام الرامضة (الحارة) وقوات العدو الفرنسي تطاردنا من كل الجهات برا وجوا.. كنا نسير عشرات الكيلومترات في القاعدة الشرقية وفي الأوراس لتفقد وحدات جيش التحرير في مختلف المناطق والنواحي ونادرا ما نستعمل السيارات في التنقل، وبعد الاستقلال لم نعد نمشي كثيرا ولا نتنقل إلا في السيارات والطائرات وكأننا صرنا بورجوازيين وأصبحت أرجلنا وأيدينا المخشوشنة أكثر طراوة، فلم تسعفنا عندما تقلبت الظروف.
الحفاظ على سرية تحركاتنا كان الرهان الأهم لتفادي الاعتقال، لذلك تركزت تحركاتنا ليلا في المناطق التي نحظى فيها بتعاطف الناس ولا نتصل إلا بمن نثق في سريتهم، وفي عين البيضاء كنت أعرف مجاهدا من طينة الرجال الأفذاذ يدعى “سعيد 86″ الذي كان بطلا مغوارا خلال حرب التحرير، كان يهاجم الدبابات الفرنسية دون أن يخشى الموت، وكنت على اتصال به هو و “مصطفى قاسمي” و”باكي البرجي” من مسكيانة عندما كنت مختبئا عند عمي السعيد بوخرشوفة.
المعزة المحدقة
في تلك الليلة جلست أسفل قنطرة صغيرة على الطريق الرابط بين عين البيضاء وسدراته (سوق اهراس)، وكنت مرهقا جدا وأردت أن أرتاح، فأخذتني سِنَةٌ من النعاس، فغفوت قليلا ولم أستيقظ إلا على صوت هدير إحدى السيارات التي عبرت القنطرة، ونظرت من حولي فإذا الصباح قد انبلج ولمحت شخصا يرعى قطيعا من الماشية غير بعيد عنّي، إلا أن معزة ابتعدت عن القطيع واقتربت مني ثم توقفت وأخذت تحدق بي باستغراب وكأنها لم ترَ من قبل “قائد أركان” نائما تحت قنطرة، وخشيت أن ينتبه الراعي إلى معزته “القاصية” فيأتي للبحث عنها ويكتشف أمري وقد يعرّض ذلك حياتي للخطر، فبادلت المعزة التحديق حتى انصرفت.
بقيت مختبئا تحت القنطرة إلى أن غربت الشمس، فنهضت لأواصل مسيري نحو الحدود التونسية، إلى أن بلغت أحد الأكواخ وكان هناك ثلاثة رجال جالسين حول نار موقدة بالحطب بالقرب من الكوخ، فناديت عليهم “يا سي محمد…”، فجاءني أحدهم، فأخبرته أني عابر سبيل، فسقوني وأطعموني رغم فقرهم المدقع الذي يظهر من خلال ملابسهم الرثة وكوخهم البسيط، إلا أنهم كانوا مشبعين بالكرم، ولأني كنت مرهقا سألتهم إن كان لديهم بغل أكتريه من عندهم، فأقسموا أنهم لا يملكونه، فتأسفت للأمر وواصلت طريقي وحرصت أن لا يعرفوا اتجاهي ولا مقصدي.
وصابرت نفسي على المسير، فكنت أمشي وأرتاح من حين لآخر حتى طلع النهار، وسرت على أحد المسالك الترابية حيث بدأ الناس يحصدون الشعير، ولمحت شخصا يسير من خلفي فأبطأت حتى اقترب مني، فسألته إن كان يمكنه أن يقدم لي رغيف خبز، فطلب مني أن أرافقه إلى أحد المنازل، وعندما دخلت عنده وجدت رجلا يدعى صالح المرواني أعرفه جيّدا لأن أحد أقاربه كان يسكن في قرية وادي الكبريت (بولاية سوق اهراس) التي ترعرعت فيها، وكان المرواني يزوره من حين لآخر، لكنه اليوم لم يتعرّف عليّ أو تظاهر بأنه لا يعرفني، كما أني لم أسعى لتذكيره، خاصة وأن الحمّى أرهقتني، فقدموا لي كسرة بالزبدة وجاؤوني بفنجان من القهوة التي كانت بقدرها في ذلك الوقت.
وأعطاني المرواني بغلا وأرسل معي شابا أبكما وأصما حتى يُرجع البغل معه بعد أن يوصلني إلى مقصدي، فركب من ورائي، وكنت أوجهه لأنه لم يكن يعلم إلى أين أنا ذاهب، فقد كنت أعرف هذه المنطقة جيدا لأنني اقتربت من قرية أم العظايم (بولاية سوق اهراس) التي ولدت فيها، ولم يكن يفصلني عنها سوى نحو 10 كيلومترات، ورغم أن هذا الشاب كان أبكما وأصما إلا أنه كان شديد الذكاء، فقد تمكن من التعرف على حقيقتي وكان يطلق إشارات توحي بذلك، رغم أني حرصت على تغيير شكلي بإطالة شاربي وارتداء القندورة ووضع اللحاف على رأسي حتى أصبحت أشبه أهل البادية.
لما بلغنا “وادي الهمازة” بالقرب من قرية أم العظايم وجدنا قطعانا من الماشية ترتوي من ماء الوادي قبل أن تعود إلى الزريبة لتحتمي من حرّ شمس الظهيرة، فنزلت من على ظهر البغل وقدمت للأبكم 20 دينارا ففرح بها أيّما فرح، ورجع عائدا إلى صاحبه، بينما قصدت الراعي الذي كان يسقي الماشية فسألته عن صاحبها فقال لي “إنها لصالح خلفاوي”، فوجئت لسماع هذا الإسم الذي لم يكن سوى أحد أقاربي، فقلت للراعي:
ـ قل له يأتيني… فأنا الطاهر.
فجاءني صالح خلفاوي خائفا يترقّب وقال لي:
ـ إن العسكر يتربّصون بك ليلا ليلقوا عليك القبض والكل يعرفونك جيّدا وعندما يكثر الكلام فإنه لابد أن يصل إلى آذان العسكر، لذلك أنصحك بأن تذهب عند ابن عمك محمد (ابن عمي شقيق) الذي لا يبعد من هنا سوى بكيلومترين اثنين أو ثلاثة.
كان صالح متزوجا من امرأتين وله أطفال كُثْرٌ وخشي أن يُخْرِج أحدهم سري، خاصة أن كلابه كانت تنبح كثيرا ليلا في الفترة الأخيرة، فاعتقد أن رجال بومدين يراقبون بيته، ويترصّدونه للإيقاع بي في كمين عنده.
ولما رأيت الخوف في عيون صالح تركته وغادرت المكان بعد أن دلّني إلى مكان ابن عمي محمد الذي كان الوحيد من عائلتنا الذي بقي في هذا الدوار يحرث الأرض بعد أن رحل جميع أفراد عائلة زبيري إلى القرى والمدن القريبة على غرار سدراتة وأم العظايم التي تحولت إلى بلدة بعد أن كانت مجرد دوار.
وصلت إلى بيت ابن عمي المتواضع والمعزول وحده ولاحظت أن لديه بعض الأغنام والماعز والأبقار، فكان وضعه المادي مقبولا إلى حد ما، وكنّا نادرا ما نلتقي رغم أنه جاءني مرة إلى قيادة الأركان وهو سعيد وفخور بي عندما كنت الرجل القوي في البلاد، وكنت أعطف عليه ومنحته بعض المال وأهديته سترة أنيقة أعجبته كثيرا.
لم أجد محمدا في البيت لكني وجدت شقيقه الذي كان أطرشا لا يسمع جيدا إلا أنه يتكلم فسألته عن محمد، فأخبرني أنه ليس في البيت، فطلبت منه أن يرسل في طلبه حالا، وجاءني محمد بسرعة، واستقبلني برحابة صدر رغم أن قضيتي صارت كارثة على آل زبيري وعلى العرش وعلى الأوراس وعلى كل من يعرفني في هذه البلاد بسبب المطاردات الشرسة لرجال بومدين لنا.
أكرمني ابن عمي وقدم لي غداءً من مرق البطاطا ثم جاءني بفنجان قهوة، وتبادلنا أطراف الحديث قبل أن أطلب منه أن يتدبر لي حصانا أو جدور (بغل)، لكنه لم يملك لا هذا ولا ذاك، إلا أنه أكد لي بأنه سيتدبر حصانا من عند صالح خلفاوي، وخرج قاصدا صالح بينما ارتحت في بيته قليلا، وجاءني بحصان خامل نوعا ما ولكنه يمشي على الأقل، وقبيل المغرب بقليل تحركت مع ابن عمي قاصدين بيوت الكواوشة الموجودة في الجنوب الشرقي لمدينة العوينات (ولاية تبسة).
حقول الموت
كنت راكبا الحصان وابن عمي يمشي ممسكا بلجامه ولم يكن يعرف أين تقع بالضبط بيوت الكواوشة ولكني كنت أعرفهم جيدا من أيام ثورة التحرير، حيث كان بيت الحاج عمار بغدوش مركزا لجيش التحرير الوطني بالمنطقة المعروفة بخط موريس المكهرب والمزروع بحقول من الألغام الموروثة عن العهد الاستعماري، حيث كانت مدينة العوينات شبه محاطة بالأسلاك الشائكة لتجتمع في خط رئيسي عندما تبتعد عن المدينة، وعلى بعد نحو 20 كيلومترا يوجد خط شال الأكثر شراسة والذي أوقع مئات الشهداء إبان حرب التحرير، بل إن المنطقة الحدودية مع تونس كانت مزروعة بملايين الألغام التي أوقعت الكثير من الضحايا حتى بعد الاستقلال وإلى يومنا هذا، فمجرد التفكير في عبور هذه المنطقة يعتبر مجازفة حقيقية خاصة عندما تتحرك ليلا دون معالم واضحة.
فضّلت السير على الطريق المعبّدة الرابط بين العوينات وتبسة بدل المغامرة في المشي وسط حقول الألغام، ولما بلغنا خط موريس الشائك وجدنا فجوة مررنا عبرها، إذ أنه بعد الاستقلال أخذ الناس الأسلاك الشائكة والأعمدة واستعملوها ولم يبق من الخط الشائك سوى الألغام، وقطعنا قنطرة كبيرة بنيت فوق وادي ملاق، ولحسن حظنا لم تمر أي سيارة من هذا الطريق ليلا، وتجاوزنا مدينة العوينات مبتعدين عن أطرافها، واتجهنا نحو “جبل القلب” القريب من مدينة العوينات.
كان الليل دامسا والرؤية شبه معدومة ولم نستطع تحديد موقعنا بالضبط، فذهبنا ورجعنا وصرنا ندور في دائرة شبه مفرغة في منطقة خطرة نصب فيها خط موريس المكهرب الذي لم يبق منه سوى الألغام التي لا يمكنك أن تراها ولو نهارا، وفي ظل هذا التيهان كنت أصغي السمع لعل نباح كلب يطرق باب أذني حتى يدلني على بيوت الكواوشة التي كنت متأكدا أنها غير بعيدة عنا.
سرنا قليلا باتجاه لا نعرفه إلى أن سترنا الله بنباح كلب أعاد لنا الأمل في تصحيح مسارنا، ومشينا باتجاه النباح إلى أن وصلنا أخيرا إلى بيوت الكواوشة، وكنت أعرف شخصين منهم جيدا وشقيقي بلقاسم، رحمه الله، يعرفهما أكثر، لأنه عمل معهما في منجم الحديد بالونزة، أحدهما يسمى “العيد” والثاني يسمى “محل العين السواق” ولقب بالسواق لأنه كان يرتاد الأسواق كثيرا ليشتري ويبيع.
عندما ناديت باسم “محل العين” كانت الشمس لم تسطع بعد أنوارها، والفجر ظل متشبثا بظلمة الليل، ومع ذلك خرج محل العين السواق من كوخه وصاح وكأنه يتعوذ من طارق الليل:
ـ شكون (من)؟
فقلت له:
ـ الطاهر زبيري.
فكانت مفاجأة بجلل لم يتوقعها محل العين السواق، رغم أنه سمع بأني تركت قيادة الأركان وصعدت الجبل، ورحّب بي أيّما ترحيب غير مبال بالمخاطر التي قد تواجهه بسبب استقباله لي، وكانت عيون الكواوشة تقطر فرحا وحبورا بوجودي بينهم، وأكرموني أشد الكرم وقدموا لي أعز ما يملكون من العسل والكسكس والزبدة، وأفطرت معهم بشكل جيد، أعاد الحيوية لجسدي المنهك ورفع معنوياتي المحبطة، وتحدثنا عن الوضع في البلاد وقضيتي مع بومدين، فقالوا لي والألم يعتصرهم:
ـ كنا نراك نوارة طالعة فإذا بهم حشوها..
وعمل حركة بيده أضحكتني، ثم أضاف بشيء من خيبة الأمل:
ـ أخذوها المعاليم.
وكانوا يقصدون في رأيهم البسيط والمتأثر بجغرافية المنطقة دوار القنانزة، الذين كانوا خصومهم في الأزمان القديمة.
وسألني الكواوشة عن المسلك الذي قطعته للوصول إليهم، فأخبرتهم عن المكان الذي قطعناه وكيف تُهنا ليلا قبل أن نهتدي إليهم من خلال نباح كلب، فضرب »محل العين« أخماسا على أسداس وقال لي بعد أن تخاطفته مشاعر القلق والارتياح:
ـ مساء أمس فقط قتلت الألغام حمارا وبقرة في نفس المكان الذي عبرت منه.
فحمدنا الله على النجاة والسلامة، وقبل أن أغادر أخبرت جماعة الكواوشة بأنني لن أبقى معهم وإنما أطلب منهم أن يبعثوا معي شخصا يوصلني عند عمار قدوش الذي كان بيته مركزا لجيش التحرير خلال الثورة بوادي بوسبعة شرقي جبل بوخضرة على الحدود التونسية.
وخشية أن يكتشف أحد الجيران أو عيون الأمن العسكري أمري، لجأ الكواوشة إلى حيلة لإخراجي من المكان دون أن يشعر بي أحد، فهيّأوا لنا بغلا وحمارين، ورافقني اثنان من أبنائهم في العشرينيات من عمرهما، وكانت بالقرب منّا غابة، فتحركنا وكأننا ذاهبون للاحتطاب منها.
سرت مع الشابين إلى جبل بوخضرة أين يقع منزل عمار بقدوش على الجانب الآخر من الجبل على بعد ستة كيلومترات، بينما عاد ابن عمي مع الحصان إلى الدوار، ولاحظ أحد الشابين طراوة يدي ونظافتهما، فطلب مني أن أخفيهما حتى لا يفتضح أمري، لأن أهل البادية معروفون باخشوشان أيديهم، أما الشاب الثاني فكلفته أن يأخذ رسالة إلى شقيقي الحاج بلقاسم في الونزة حتى يرسل إلى محمد شبيلة حصانا إلى دوار قنيف أين يقيم عمي السعيد بوخرشوفة ليلحق بي إلى تونس.
الأرض الأخيرة
كان الوقت عصرا عندما وصلنا أخيرا إلى بيت عمار بقدوش قبل دخول الأرض التونسية، وناديت عليه فخرج إليّ، وكان يعرفني جيّدا فطمأنته قائلا:
ـ لست هنا لأبقى معك ولكني سأغادر هذا المكان قبيل المغرب، وألغام خط شال بالقرب منكم ولكني أعرف جيدا أنكم تجتازون بقطعانكم حقول الألغام إلى الطرف الآخر من الأراضي الجزائرية القريبة من الحدود حتى ترعى أغنامكم في هذه المراعي، وأرغب في أن تساعدوني على اجتياز حقول الألغام بأمان.
فطمأنني عمار قائلا:
ـ سأرسل معك ابني حتى يساعدك على اجتياز حقول الألغام من خلال ثغرات معلومة من خط شال.
وبعد صلاة العصر جاؤوني بالعشاء، وأرسل بقدوش إلى ابن أخيه الذي يدعى أحمد حتى يكون مرافقي إلى ما وراء حقول الألغام، وقبيل المغرب انطلقت مع أحمد باتجاه خط شال واجتزته بسلام فيما عاد أحمد إلى بيته، واصلت الطريق منفردا إلى داخل الأراضي التونسية، بعيدا عن بومدين وقاصدي مرباح وعطايلية ورجال الأمن العسكري والدرك والشرطة، وبعيدا عن كل من يمكن أن تشترى ذمته ليقوم بالوشاية بي حتى يقبض علي. لكن، رغم ذلك فخوفي من المجهول بقي يطاردني حتى على الأراضي التونسية، لأنني وببساطة لم أخطط لذلك وكان هدفي هو الوصول إلى القيادة الجماعية وتطبيق ما تم الاتفاق عليه قبل التصحيح الثوري بالعودة إلى الشرعية وبناء الدولة التي حلم بها الآباء المفجرون للثورة (بن بولعيد وأصحابه).
إنهاء التمرد
في أواخر شهر ماي 1968 وجدت أن معظم رجالي الأوفياء تم إلقاء القبض عليهم، وفقدت الاتصال بمن تبقّى منهم خارج الاعتقال، ونظرت من حولي فوجدت أن الأوراس كلها لم تعد على استعداد للتمرد على سلطة بومدين، وكل من كان له علاقة بي من قريب أو من بعيد إلا وتم اعتقاله وتعذيبه والتنكيل به أو على الأقل وضعه قريبا من الأعين محاصرا برعب لا يدري متى يأتيه زوار الليل ليقتادوه إلى المكان الذي لن يرى النور بعده.
أردت أن أخفف من عذاب هؤلاء الناس الذين ساعدوني وألقي القبض عليهم وعذبوا أشد العذاب لوقوفهم إلى جنبي في أحلك الظروف، كان لابد أن أنهي رحلة الخوف التي سكنت الأوراس وعمّت الكثير من أرجاء البلاد وتأذى الكثير من الناس من التحقيقات الأمنية والمساءلات البوليسية والتعذيب، ولإبعاد كل هذه الهموم قررت أن أغادر الجزائر وأنهي التمرد العسكري وأطوي صفحته، خاصة وأن الأمور بدأت تبرد، ولم تعد الصحافة تكتب شيئا عنا، ومطاردات رجال الدرك والأمن العسكري خفت قليلا.
وبما أن ذكرى استقلال تونس قد اقتربت أخبرت محمد شبيلة أنني أنوي اللجوء إلى تونس، لكنه أكد لي بأنه لم يعد يقوى على المشي، فقد تقرّحت أرجلنا من طول المشي في الجبال والمنخفضات حتى أدمت، ولم نعد نقدر حتى على ارتداء الأحذية من كثرة الجراح والتقرحات وصرنا نمشي لمسافات قصيرة وكأننا نمشي فوق السكاكين الحادة والمسامير المدببة أو الزجاج المهشم، وسبّب لنا ذلك آلاما شديدة لا يحتملها الإنسان، حتى الحمى صارت ضيفتنا دون دعوة، ولكن لم يكن بأيدينا خيار، فالوقوع بين أيدي رجال قاصدي مرباح وعطايلية ليس أرحم من كل هذه الجراح والآلام.
أخبرت محمد شبيلة أنني سأقترب من مدينة الونزة التي تبعد عنا بنحو 10 كيلومترات وأرسل إلى شقيقي الحاج بلقاسم من يطلب منه أن يشتري له بغلا ويوصله إليه في الدوار الذي يختبئ فيه ليلحق بي بالقرب من الحدود التونسية، ولم أكن أدري حينها أن شقيقي الحاج بلقاسم قد استقال من رئاسة بلدية الونزة.
وقبل أن أغادر بيت عمي السعيد بوخرشوفة أعطيته 300 دينار هي كل ما تبقى لدي من أربعة آلاف دينار، وأخذت من بيت عمي السعيد بعض المؤن حتى أتقوت بها في الطريق.
فقراء ولكنهم رجال
ثقتي كبيرة كانت في أبناء المنطقة لأنهم كانوا يحبّونني ويتعاطفون معي لأني ابن الناحية، وقد تمكنت من ربط الاتصال مع عمي السعيد بنور وهو كبير الدوار، فقلت له “أعرف المنطقة بشكل عام ولكني أريدك أن ترسل إلى خلاف بوخرشوفة ليوصلني إلى مدينة عين البيضاء (ولاية أم البواقي)”، لأن هذه المدينة يقطنها عرش الحراكتة الذي أنتمي إليه، والذي بإمكانه أن يوفر لي بعض الحماية إلى غاية وصولي إلى الحدود.
فأرسل عمي السعيد إلى خلاف وطلب منه أن يرافقني إلى عين البيضاء، ولم يجد خلاّف سوى الاستجابة لكبير الدوار الذي كان مجاهدا محترما وكلمته مسموعة بين أبناء الدوار، وطلبت من خلاف أن يصحبني ويدلني على الطريق بين مدينتي عين البيضاء وأم البواقي، وسرنا ليلا وذئاب الخوف تلاحقنا، فرجال الدرك والشرطة والأمن العسكري لم تتعب من مطاردتنا رغم مرور ستة أشهر على حركة 14 ديسمبر 1967، فالكل يريد أن يلقي عليّ القبض حيّا أو ميّتا ليتقرب برأسي من بومدين حتى يرفع قدره ورتبته العسكرية.
وبصعوبة بالغة وصلنا إلى منطقة شمال مدينة عين البيضاء بعد أن تجاوزنا إحدى الغابات وتراءت لنا مدينة عين البيضاء من بعيد، وحينها خارت قواي ولم أقدر على مواصلة المسير، رغم أني كنت أرتدي حذاء رياضيا إلا أن قدماي المثخنتين بالجراح والتقرحات لم تسعفانِ للسير أكثر على أرض وكأنها مغروسة بالسكاكين، أو أنها أرض غير تلك الأرض التي كناّ نسير فيها إبان الثورة في الليالي الماطرة والأيام الرامضة (الحارة) وقوات العدو الفرنسي تطاردنا من كل الجهات برا وجوا.. كنا نسير عشرات الكيلومترات في القاعدة الشرقية وفي الأوراس لتفقد وحدات جيش التحرير في مختلف المناطق والنواحي ونادرا ما نستعمل السيارات في التنقل، وبعد الاستقلال لم نعد نمشي كثيرا ولا نتنقل إلا في السيارات والطائرات وكأننا صرنا بورجوازيين وأصبحت أرجلنا وأيدينا المخشوشنة أكثر طراوة، فلم تسعفنا عندما تقلبت الظروف.
الحفاظ على سرية تحركاتنا كان الرهان الأهم لتفادي الاعتقال، لذلك تركزت تحركاتنا ليلا في المناطق التي نحظى فيها بتعاطف الناس ولا نتصل إلا بمن نثق في سريتهم، وفي عين البيضاء كنت أعرف مجاهدا من طينة الرجال الأفذاذ يدعى “سعيد 86″ الذي كان بطلا مغوارا خلال حرب التحرير، كان يهاجم الدبابات الفرنسية دون أن يخشى الموت، وكنت على اتصال به هو و “مصطفى قاسمي” و”باكي البرجي” من مسكيانة عندما كنت مختبئا عند عمي السعيد بوخرشوفة.
المعزة المحدقة
في تلك الليلة جلست أسفل قنطرة صغيرة على الطريق الرابط بين عين البيضاء وسدراته (سوق اهراس)، وكنت مرهقا جدا وأردت أن أرتاح، فأخذتني سِنَةٌ من النعاس، فغفوت قليلا ولم أستيقظ إلا على صوت هدير إحدى السيارات التي عبرت القنطرة، ونظرت من حولي فإذا الصباح قد انبلج ولمحت شخصا يرعى قطيعا من الماشية غير بعيد عنّي، إلا أن معزة ابتعدت عن القطيع واقتربت مني ثم توقفت وأخذت تحدق بي باستغراب وكأنها لم ترَ من قبل “قائد أركان” نائما تحت قنطرة، وخشيت أن ينتبه الراعي إلى معزته “القاصية” فيأتي للبحث عنها ويكتشف أمري وقد يعرّض ذلك حياتي للخطر، فبادلت المعزة التحديق حتى انصرفت.
بقيت مختبئا تحت القنطرة إلى أن غربت الشمس، فنهضت لأواصل مسيري نحو الحدود التونسية، إلى أن بلغت أحد الأكواخ وكان هناك ثلاثة رجال جالسين حول نار موقدة بالحطب بالقرب من الكوخ، فناديت عليهم “يا سي محمد…”، فجاءني أحدهم، فأخبرته أني عابر سبيل، فسقوني وأطعموني رغم فقرهم المدقع الذي يظهر من خلال ملابسهم الرثة وكوخهم البسيط، إلا أنهم كانوا مشبعين بالكرم، ولأني كنت مرهقا سألتهم إن كان لديهم بغل أكتريه من عندهم، فأقسموا أنهم لا يملكونه، فتأسفت للأمر وواصلت طريقي وحرصت أن لا يعرفوا اتجاهي ولا مقصدي.
وصابرت نفسي على المسير، فكنت أمشي وأرتاح من حين لآخر حتى طلع النهار، وسرت على أحد المسالك الترابية حيث بدأ الناس يحصدون الشعير، ولمحت شخصا يسير من خلفي فأبطأت حتى اقترب مني، فسألته إن كان يمكنه أن يقدم لي رغيف خبز، فطلب مني أن أرافقه إلى أحد المنازل، وعندما دخلت عنده وجدت رجلا يدعى صالح المرواني أعرفه جيّدا لأن أحد أقاربه كان يسكن في قرية وادي الكبريت (بولاية سوق اهراس) التي ترعرعت فيها، وكان المرواني يزوره من حين لآخر، لكنه اليوم لم يتعرّف عليّ أو تظاهر بأنه لا يعرفني، كما أني لم أسعى لتذكيره، خاصة وأن الحمّى أرهقتني، فقدموا لي كسرة بالزبدة وجاؤوني بفنجان من القهوة التي كانت بقدرها في ذلك الوقت.
وأعطاني المرواني بغلا وأرسل معي شابا أبكما وأصما حتى يُرجع البغل معه بعد أن يوصلني إلى مقصدي، فركب من ورائي، وكنت أوجهه لأنه لم يكن يعلم إلى أين أنا ذاهب، فقد كنت أعرف هذه المنطقة جيدا لأنني اقتربت من قرية أم العظايم (بولاية سوق اهراس) التي ولدت فيها، ولم يكن يفصلني عنها سوى نحو 10 كيلومترات، ورغم أن هذا الشاب كان أبكما وأصما إلا أنه كان شديد الذكاء، فقد تمكن من التعرف على حقيقتي وكان يطلق إشارات توحي بذلك، رغم أني حرصت على تغيير شكلي بإطالة شاربي وارتداء القندورة ووضع اللحاف على رأسي حتى أصبحت أشبه أهل البادية.
لما بلغنا “وادي الهمازة” بالقرب من قرية أم العظايم وجدنا قطعانا من الماشية ترتوي من ماء الوادي قبل أن تعود إلى الزريبة لتحتمي من حرّ شمس الظهيرة، فنزلت من على ظهر البغل وقدمت للأبكم 20 دينارا ففرح بها أيّما فرح، ورجع عائدا إلى صاحبه، بينما قصدت الراعي الذي كان يسقي الماشية فسألته عن صاحبها فقال لي “إنها لصالح خلفاوي”، فوجئت لسماع هذا الإسم الذي لم يكن سوى أحد أقاربي، فقلت للراعي:
ـ قل له يأتيني… فأنا الطاهر.
فجاءني صالح خلفاوي خائفا يترقّب وقال لي:
ـ إن العسكر يتربّصون بك ليلا ليلقوا عليك القبض والكل يعرفونك جيّدا وعندما يكثر الكلام فإنه لابد أن يصل إلى آذان العسكر، لذلك أنصحك بأن تذهب عند ابن عمك محمد (ابن عمي شقيق) الذي لا يبعد من هنا سوى بكيلومترين اثنين أو ثلاثة.
كان صالح متزوجا من امرأتين وله أطفال كُثْرٌ وخشي أن يُخْرِج أحدهم سري، خاصة أن كلابه كانت تنبح كثيرا ليلا في الفترة الأخيرة، فاعتقد أن رجال بومدين يراقبون بيته، ويترصّدونه للإيقاع بي في كمين عنده.
ولما رأيت الخوف في عيون صالح تركته وغادرت المكان بعد أن دلّني إلى مكان ابن عمي محمد الذي كان الوحيد من عائلتنا الذي بقي في هذا الدوار يحرث الأرض بعد أن رحل جميع أفراد عائلة زبيري إلى القرى والمدن القريبة على غرار سدراتة وأم العظايم التي تحولت إلى بلدة بعد أن كانت مجرد دوار.
وصلت إلى بيت ابن عمي المتواضع والمعزول وحده ولاحظت أن لديه بعض الأغنام والماعز والأبقار، فكان وضعه المادي مقبولا إلى حد ما، وكنّا نادرا ما نلتقي رغم أنه جاءني مرة إلى قيادة الأركان وهو سعيد وفخور بي عندما كنت الرجل القوي في البلاد، وكنت أعطف عليه ومنحته بعض المال وأهديته سترة أنيقة أعجبته كثيرا.
لم أجد محمدا في البيت لكني وجدت شقيقه الذي كان أطرشا لا يسمع جيدا إلا أنه يتكلم فسألته عن محمد، فأخبرني أنه ليس في البيت، فطلبت منه أن يرسل في طلبه حالا، وجاءني محمد بسرعة، واستقبلني برحابة صدر رغم أن قضيتي صارت كارثة على آل زبيري وعلى العرش وعلى الأوراس وعلى كل من يعرفني في هذه البلاد بسبب المطاردات الشرسة لرجال بومدين لنا.
أكرمني ابن عمي وقدم لي غداءً من مرق البطاطا ثم جاءني بفنجان قهوة، وتبادلنا أطراف الحديث قبل أن أطلب منه أن يتدبر لي حصانا أو جدور (بغل)، لكنه لم يملك لا هذا ولا ذاك، إلا أنه أكد لي بأنه سيتدبر حصانا من عند صالح خلفاوي، وخرج قاصدا صالح بينما ارتحت في بيته قليلا، وجاءني بحصان خامل نوعا ما ولكنه يمشي على الأقل، وقبيل المغرب بقليل تحركت مع ابن عمي قاصدين بيوت الكواوشة الموجودة في الجنوب الشرقي لمدينة العوينات (ولاية تبسة).
حقول الموت
كنت راكبا الحصان وابن عمي يمشي ممسكا بلجامه ولم يكن يعرف أين تقع بالضبط بيوت الكواوشة ولكني كنت أعرفهم جيدا من أيام ثورة التحرير، حيث كان بيت الحاج عمار بغدوش مركزا لجيش التحرير الوطني بالمنطقة المعروفة بخط موريس المكهرب والمزروع بحقول من الألغام الموروثة عن العهد الاستعماري، حيث كانت مدينة العوينات شبه محاطة بالأسلاك الشائكة لتجتمع في خط رئيسي عندما تبتعد عن المدينة، وعلى بعد نحو 20 كيلومترا يوجد خط شال الأكثر شراسة والذي أوقع مئات الشهداء إبان حرب التحرير، بل إن المنطقة الحدودية مع تونس كانت مزروعة بملايين الألغام التي أوقعت الكثير من الضحايا حتى بعد الاستقلال وإلى يومنا هذا، فمجرد التفكير في عبور هذه المنطقة يعتبر مجازفة حقيقية خاصة عندما تتحرك ليلا دون معالم واضحة.
فضّلت السير على الطريق المعبّدة الرابط بين العوينات وتبسة بدل المغامرة في المشي وسط حقول الألغام، ولما بلغنا خط موريس الشائك وجدنا فجوة مررنا عبرها، إذ أنه بعد الاستقلال أخذ الناس الأسلاك الشائكة والأعمدة واستعملوها ولم يبق من الخط الشائك سوى الألغام، وقطعنا قنطرة كبيرة بنيت فوق وادي ملاق، ولحسن حظنا لم تمر أي سيارة من هذا الطريق ليلا، وتجاوزنا مدينة العوينات مبتعدين عن أطرافها، واتجهنا نحو “جبل القلب” القريب من مدينة العوينات.
كان الليل دامسا والرؤية شبه معدومة ولم نستطع تحديد موقعنا بالضبط، فذهبنا ورجعنا وصرنا ندور في دائرة شبه مفرغة في منطقة خطرة نصب فيها خط موريس المكهرب الذي لم يبق منه سوى الألغام التي لا يمكنك أن تراها ولو نهارا، وفي ظل هذا التيهان كنت أصغي السمع لعل نباح كلب يطرق باب أذني حتى يدلني على بيوت الكواوشة التي كنت متأكدا أنها غير بعيدة عنا.
سرنا قليلا باتجاه لا نعرفه إلى أن سترنا الله بنباح كلب أعاد لنا الأمل في تصحيح مسارنا، ومشينا باتجاه النباح إلى أن وصلنا أخيرا إلى بيوت الكواوشة، وكنت أعرف شخصين منهم جيدا وشقيقي بلقاسم، رحمه الله، يعرفهما أكثر، لأنه عمل معهما في منجم الحديد بالونزة، أحدهما يسمى “العيد” والثاني يسمى “محل العين السواق” ولقب بالسواق لأنه كان يرتاد الأسواق كثيرا ليشتري ويبيع.
عندما ناديت باسم “محل العين” كانت الشمس لم تسطع بعد أنوارها، والفجر ظل متشبثا بظلمة الليل، ومع ذلك خرج محل العين السواق من كوخه وصاح وكأنه يتعوذ من طارق الليل:
ـ شكون (من)؟
فقلت له:
ـ الطاهر زبيري.
فكانت مفاجأة بجلل لم يتوقعها محل العين السواق، رغم أنه سمع بأني تركت قيادة الأركان وصعدت الجبل، ورحّب بي أيّما ترحيب غير مبال بالمخاطر التي قد تواجهه بسبب استقباله لي، وكانت عيون الكواوشة تقطر فرحا وحبورا بوجودي بينهم، وأكرموني أشد الكرم وقدموا لي أعز ما يملكون من العسل والكسكس والزبدة، وأفطرت معهم بشكل جيد، أعاد الحيوية لجسدي المنهك ورفع معنوياتي المحبطة، وتحدثنا عن الوضع في البلاد وقضيتي مع بومدين، فقالوا لي والألم يعتصرهم:
ـ كنا نراك نوارة طالعة فإذا بهم حشوها..
وعمل حركة بيده أضحكتني، ثم أضاف بشيء من خيبة الأمل:
ـ أخذوها المعاليم.
وكانوا يقصدون في رأيهم البسيط والمتأثر بجغرافية المنطقة دوار القنانزة، الذين كانوا خصومهم في الأزمان القديمة.
وسألني الكواوشة عن المسلك الذي قطعته للوصول إليهم، فأخبرتهم عن المكان الذي قطعناه وكيف تُهنا ليلا قبل أن نهتدي إليهم من خلال نباح كلب، فضرب »محل العين« أخماسا على أسداس وقال لي بعد أن تخاطفته مشاعر القلق والارتياح:
ـ مساء أمس فقط قتلت الألغام حمارا وبقرة في نفس المكان الذي عبرت منه.
فحمدنا الله على النجاة والسلامة، وقبل أن أغادر أخبرت جماعة الكواوشة بأنني لن أبقى معهم وإنما أطلب منهم أن يبعثوا معي شخصا يوصلني عند عمار قدوش الذي كان بيته مركزا لجيش التحرير خلال الثورة بوادي بوسبعة شرقي جبل بوخضرة على الحدود التونسية.
وخشية أن يكتشف أحد الجيران أو عيون الأمن العسكري أمري، لجأ الكواوشة إلى حيلة لإخراجي من المكان دون أن يشعر بي أحد، فهيّأوا لنا بغلا وحمارين، ورافقني اثنان من أبنائهم في العشرينيات من عمرهما، وكانت بالقرب منّا غابة، فتحركنا وكأننا ذاهبون للاحتطاب منها.
سرت مع الشابين إلى جبل بوخضرة أين يقع منزل عمار بقدوش على الجانب الآخر من الجبل على بعد ستة كيلومترات، بينما عاد ابن عمي مع الحصان إلى الدوار، ولاحظ أحد الشابين طراوة يدي ونظافتهما، فطلب مني أن أخفيهما حتى لا يفتضح أمري، لأن أهل البادية معروفون باخشوشان أيديهم، أما الشاب الثاني فكلفته أن يأخذ رسالة إلى شقيقي الحاج بلقاسم في الونزة حتى يرسل إلى محمد شبيلة حصانا إلى دوار قنيف أين يقيم عمي السعيد بوخرشوفة ليلحق بي إلى تونس.
الأرض الأخيرة
كان الوقت عصرا عندما وصلنا أخيرا إلى بيت عمار بقدوش قبل دخول الأرض التونسية، وناديت عليه فخرج إليّ، وكان يعرفني جيّدا فطمأنته قائلا:
ـ لست هنا لأبقى معك ولكني سأغادر هذا المكان قبيل المغرب، وألغام خط شال بالقرب منكم ولكني أعرف جيدا أنكم تجتازون بقطعانكم حقول الألغام إلى الطرف الآخر من الأراضي الجزائرية القريبة من الحدود حتى ترعى أغنامكم في هذه المراعي، وأرغب في أن تساعدوني على اجتياز حقول الألغام بأمان.
فطمأنني عمار قائلا:
ـ سأرسل معك ابني حتى يساعدك على اجتياز حقول الألغام من خلال ثغرات معلومة من خط شال.
وبعد صلاة العصر جاؤوني بالعشاء، وأرسل بقدوش إلى ابن أخيه الذي يدعى أحمد حتى يكون مرافقي إلى ما وراء حقول الألغام، وقبيل المغرب انطلقت مع أحمد باتجاه خط شال واجتزته بسلام فيما عاد أحمد إلى بيته، واصلت الطريق منفردا إلى داخل الأراضي التونسية، بعيدا عن بومدين وقاصدي مرباح وعطايلية ورجال الأمن العسكري والدرك والشرطة، وبعيدا عن كل من يمكن أن تشترى ذمته ليقوم بالوشاية بي حتى يقبض علي. لكن، رغم ذلك فخوفي من المجهول بقي يطاردني حتى على الأراضي التونسية، لأنني وببساطة لم أخطط لذلك وكان هدفي هو الوصول إلى القيادة الجماعية وتطبيق ما تم الاتفاق عليه قبل التصحيح الثوري بالعودة إلى الشرعية وبناء الدولة التي حلم بها الآباء المفجرون للثورة (بن بولعيد وأصحابه).
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
بعد نجاته من حقول الألغام ومن مطاردات رجال الدرك والشرطة والأمن العسكري، تمكن العقيد الطاهر زبيري من دخول الأراضي التونسية، وسيروي لنا العقيد في هذه الحلقة تفاصيل لقائه بوزير الداخلية التونسي الباجي قايد السبسي (وزير الحكومة الحالي)، ثم سفّره إلى سويسرا بجواز سفر مزوّر.
إلى اللقاء يا جزائر
عندما وطئت قدماي التراب التونسي رميت جسدي المثقل بالهموم والأوجاع على حقل من الزرع وخلدت إلى نوم عميق إلى أن طلع الصباح، فاستيقظت وحملت بندقيتي ولكني انتبهت إلى أن الحرس الوطني التونسي لو ألقى عليّ القبض مسلحا فسأقع في مشكلة أخرى، لذلك رميت سلاحي بعيدا وسط الزرع وقلت في نفسي مودعا الأرض التي أحبّ:
إلى اللقاء يا جزائر.
وجدت أنه ليس من الحكمة أن أذهب مباشرة إلى المسؤولين التونسيين لطلب اللجوء السياسي، خاصة وأنني أعلم بوجود لاجئين سياسيين تونسيين في الجزائر، أمثال شوشان وطوبال وعباس وغيرهم، وخشيت أن يعتبرني نظام بورقيبة مشروع صفقة لتبادل المعارضين السياسيين مع نظام بومدين، لذلك كنت أفضل التريث.
وقصدت بلدة “قلعة لسنان” التونسية أين يقيم تاجر جزائري يدعى “الطاهر دبز” عم “لخضر دبز” الذي كان في اتصال معي عندما كنت عند عمي السعيد بوخرشوفة، إذ أنني لم أكن أحمل مالا كافيا لأخذ سيارة أجرة تقلني مباشرة إلى مدينة “بن قردان” على الحدود التونسية الليبية، حتى أتمكن من دخول الأراضي الليبية لأتفادى أي نية لمقايضتي بالمعارضين التونسيين في الجزائر، واعتقدت أن الطاهر دبز الذي يملك متجرا في هذه القرية بإمكانه أن يساعدني على استئجار سيارة.
لم أكن أعرف بالضبط أين يقيم الطاهر دبز، لذلك سألت عنه تجار القرية واحدا واحدا إلى أن وجدت شخصا يعرفه، ولكنه نقل لي خبرا خيّب أملي، فقد أكد لي أن الطاهر باع أملاكه في تونس وعاد إلى الجزائر، صعقت للخبر ووجدت أنه لم يعد لي خيار سوى الاتصال بالسلطات التونسية، لكن قبل ذلك كان لا بد عليّ أن أتخلص من زيّ الفلاحين التنكري الذي يصعب على الآخرين التعرف عليّ، فذهبت إلى الحلاق بعدما تبقى لدي بعض الدنانير التي تكفي لحلق رأسي وذقني، وقبل أن أغادر محل الحلاق نزعت الشاش والقشابية وتركتهما عنده وقلت له:
ـ سآتي بعد قليل لأخذهما.
توجهت مباشرة إلى المعتمد التونسي (رئيس دائرة) في قلعة لسنان التابعة لولاية الكاف البعيدة عني، وقدمت نفسي لحارس الدائرة:
ـ أنا العقيد الطاهر زبيري.. أريد أن أقابل المعتمد.
وبسرعة ذهب الحرس لإبلاغ المعتمد بهذا النبأ غير المتوقع، ولم يتأخر المعتمد حتى جاءني، واستقبلني باحترام، وأوضحت له بشكل واضح ومختصر، أنني “جئت لأطلب اللجوء السياسي من الحكومة التونسية”، فأبلغ المعتمد والي الكاف الذي طلب منه أن يأتوا بي إليه حالا.
وجاء الحرس الوطني التونسي بسياراتهم وأخذوني معهم إلى مدينة الكاف لمقابلة الوالي الذي أخبر بدوره وزير الداخلية “باجي قايد السبسي” بالأمر، ولم أعد إلى الحلاق لأخذ قشابيتي ولحافي (الشاش)، بل واصلت طريقي إلى مدينة الكاف، ومنها إلى العاصمة تونس بعد أن أمر وزير الداخلية التونسي بإحضاري إليه لمقابلتي.
في طريقنا إلى العاصمة تونس طلبت من الحرس الوطني أن يتوقف بي في أقرب مدينة قبل الدخول إلى العاصمة، لأني كنت أرغب في شراء ملابس مناسبة لمقابلة وزير الداخلية، خاصة وأن الملابس التي أرتديها كانت رثة، فتوقفنا في مدينة “مزاز الباب” التي تبعد بنحو 30 كيلومترا عن مدينة الكاف، واشتريت بذلة جديدة ولو أنها رخيصة الثمن وقميصا وحذاء، وعندما أردت أن أدفع ثمنها أصرّ الحرس الوطني التونسي على أن يدفعوا ثمنها من مالهم الخاص كرماً منهم.
أكملنا الطريق إلى وزارة الداخلية ولما وصلنا وجدت المدير العام للأمن الوطني التونسي ويسمى “الطاهر بلخوجة” في استقبالي، ثم قابلت وزير الداخلية باجي قايد السبسي (عيّن رئيسا للحكومة التونسية المؤقتة في فيفري 2011) وتبادلنا أطراف الحديث عن قضيتي مع بومدين وكيف قذفت بي الأقدار إلى تونس، وكنت حريصا في كلامي على أن أتفادى أيّ كلام عن الدكتاتورية حتى لا يحمل كلامي على أن فيه إشارة إلى الرئيس بورقيبة الذي كان زعيما تونسيا له سطوته في البلاد، وقلت له:
ـ أطحنا بالرئيس بن بله من أجل مبادئ معينة لكن بومدين وقع في نفس أخطاء بن بله فلم نتفق معه…
فسألني باجي قايد السبسي:
ـ هل مازال هناك أفراد من جماعتك في الجبال ولم يدخلوا الأراضي التونسية؟
ـ مازال هناك نحو أربعين نفرا في الجبال، من الممكن أن يأتوا إلى هنا وربما يغادرون إلى مكان آخر، ومنهم واحد اسمه محمد شبيلة أرجو أن تسمحوا له باللحاق بي إلى هنا… وأنا جئت لأطلب اللجوء السياسي من الحكومة التونسية ولن أمارس أي نشاط سياسي على التراب التونسي.
ـ هل تريد أن نبلغ الرأي العام بأنك موجود على التراب التونسي
ـ هذا الأمر يعود لتقديركم.
ـ سأذهب لأبلغ المجاهد الأكبر (يقصد بورقيبة)، ثم أعود لك بالجواب.
هيّأت لي الحكومة التونسية منزلا في مزرعة خارج العاصمة تونس، وأصدرت بيانا أكدت فيه أن “العقيد الطاهر زبيري موجود على التراب التونسي وتعهّد بأن لا يقوم بأيّ نشاط سياسي فوق كامل تراب الجمهورية التونسية”، وكانت الإذاعة التونسية أول من أذاع الخبر ثم تلاها التلفزيون التونسي، ونشرته في الغد الصحف التونسية.
بومدين يحتج على بورقيبة
عبد المالك بن حبيلس، سفير الجزائر بتونس، كان أحد أصدقائي، لكن منصبه الدبلوماسي كان يلزمه بتنفيذ أوامر وزارة الخارجية التي طلبت منه تبليغ الرئيس التونسي احتجاج السلطات الجزائرية الرسمي على قبولهم لجوئي السياسي لديهم، وفعلا بعد يوم واحد من إذاعة البيان على الإذاعة التونسية، توجه عبد المالك بن حبيلس إلى قصر الرئاسة وقابل الرئيس لحبيب بورقيبة وأبلغه احتجاجا شديد اللهجة للحكومة الجزائرية بعد قبول تونس لجوئي السياسي عندهم، معتبرة ذلك لا يساعد على حسن الجوار ولا على توطيد العلاقات بين البلدين الشقيقين والجارين.
ردّ الرئيس التونسي لحبيب بورقيبة كان غاية في البساطة والواقعية وفيه شيء من الطرافة السياسية حيث قال:
ـ مسؤولو الثورة الجزائرية كلهم مرّوا من تونس ولو لم يأتِ الطاهر زبيري لجاء بومدين.
وكان يقصد أنه لو نجحت في تنحية بومدين لكان على استعداد لقبول لجوئه السياسي في تونس مثلما يفعل الآن معي.
شبيلة يلتحق بي
بعد يومين أو ثلاثة التحق بي محمد شبيلة، وساعده السعيد 86 في الوصول إلى تونس وتجاوز به كل العقبات، حيث أخذه في سيارة وأوصله إلى الحدود، وتولّى الحرس الوطني التونسي إيصاله إلى مكان إقامتي بضواحي تونس.
وأقمنا لقرابة شهر في ذلك المنزل في ضواحي العاصمة، ووضعت السلطات التونسية حولنا حراسة مشددة خشية أن يرسل بومدين كومندوسا لاغتيالنا، ولم نكن نتصل بأي شخص في تلك الفترة.
وقد أعطانا وزير الداخلية باجي قايد السبسي 5 ملايين دينار تونسي لتغطية مصاريفنا اليومية، حيث كانوا يخرجوننا أحيانا للتنزّه، وكنا نذهب معهم إلى المطاعم للغداء أو العشاء، كما أخذونا إلى فندق في الشارع الرئيسي للعاصمة التونسية، حيث كنت أقيم رفقة شبيلة في غرفة واحدة وفي الغرفة الثانية يقيم ثلاثة أفراد من الشرطة المكلفين بحماية أمننا الشخصي.
سويسرا.. السفر نحو المجهول
ورغم أننا تخلّصنا شيئا فشيئا من الإرهاق والتعب والمرض، إلا أننا كنا ننظر بأن قضيتنا لم تنته، مادام هناك عدد من رجالنا وإخواننا في السجون مهددين في أي لحظة بالإعدام، لكني في تونس كنت شبه مقيد خاصة وأنني التزمت بعدم القيام بأي نشاط سياسي على التراب التونسي.
قررت مغادرة تونس إلى فضاء آخر، وطلبت من السلطات التونسية السماح لي بالسفر إلى مدينة جنيف السويسرية، فلم تعترض، وسافرت بجواز سفر مزوّر كنت قد طلبت من رئيس دائرة تبسة ويدعى عبد الجليل في تلك الأيام الصعبة إعداده لي لاستعماله في وقت الحاجة، وكان اسمي المستعار هو “الطاهر بن علي”، ورغم أني كنت أحمل جواز سفر دبلوماسي لكني لم أستعمله.
وبدل أن أسافر إلى مدينة جنيف غيّرت وجهتي إلى مدينة زيوريخ السويسرية، لما علمت أن الطائرة التي ستقلني إلى جنيف ستواصل بعد ذلك طريقها إلى مطار زيوريخ في شمال سويسرا، فقد كنت أخشى أن تكون المخابرات الجزائرية في انتظارنا في جنيف وتكتشف أيضا رئيس الدائرة الذي أصدر لنا جواز السفر المزوّر، فذهبت إلى قائد الطائرة وقلت له إننا اشترينا تذكرة إلى جنيف ولكننا نريد الذهاب إلى زيوريخ، فقال لنا: لا بأس، فقط عندما نصل إلى جنيف فلا تنزلوا لأننا سنكمل طريقنا إلى زيوريخ.
وفور مغادرتي أراضيها عبر الطائرة أصدرت السلطات التونسية بيانا أعلنت فيه “مغادرة الطاهر زبيري أرضي الجمهورية التونسية في اتجاه مجهول قد يكون سويسرا”.
نزلنا في مطار زيوريخ وأحسسنا لحظتها بأننا أحرار، فسويسرا كانت دوما في نظرنا أرض الحرية، وبعد استكمال بقية الإجراءات في المطار ركبنا سيارة أجرة أخذتنا إلى فندق صغير في المدينة تغذينا فيه وارتحنا به أياما وليالي، وكنا عادة ما نغير مكان إقامتنا من فندق إلى آخر، وعادة ما نختار الفنادق الصغيرة في القرى الجبلية البعيدة عن المدن الكبرى أين يكثر السياح الذي يهوون ممارسة رياضة التزلج على الثلج، ورغم أن الأمن السويسري كان في طلبنا بعد أن دلّهم علينا البيان الذي أصدرته السلطات التونسية، إلا أنهم لم يعثروا علينا لأننا كنا ننزل في الفنادق السويسرية بهوية مستعارة.
لقاء آيت أحمد بلوزان
كان لنا صديق عزيز يسمى عبد المجيد بن غزال وكان إلى جانبنا في حركة 14 ديسمبر 1967، ولكنه تمكن من الهرب من العاصمة إلى قسنطينة عبر القطار ومنها إلى تونس فسويسرا، واستقر هناك بسهولة لأنه كان متزوجا بامرأة سويسرية وأنجب أطفالا منها، إذ سبق له أن درس وعمل بها، لذلك كان يعرف جيدا هذا البلد الأوروبي ولم يمكث طويلا حتى وجد عملا بها كطبيب.
وكنا نسعى للاتصال به لمساعدتنا في الحصول على اللجوء السياسي، خاصة وأننا كنا نعتقد أن مساحة الحريات في سويسرا أكبر من أي بلد آخر، وأننا لن نواجه مشاكل في هذا الشأن، فذهبنا إلى مستشفى “إيغل” بمدينة “مونترو” السويسرية أين يعمل عبد المجيد بن غزال، والتقينا به هناك وبعد أن تبادلنا التحية خرجنا من المستشفى وجلسنا بأحد المقاهي القريبة.
أخبرني الدكتور بن غزال أن حسين آيت أحمد يريد مقابلتي، وذكرني بأنه سبق وأن أرسل إليّ بمبعوث له إلى تونس ويدعى عبد الحفيظ ياحا، أحد مناضلي جبهة القوى الاشتراكية، ولم أمانع على لقائه، فقد كان آيت أحمد يحظى باللجوء السياسي في سويسرا بعد هروبه من السجن لأن قضيته مدنية وليست معقدة وحساسة كما هو الأمر بالنسبة لي.
رتب الدكتور عبد المجيد بن غزال لقائي بآيت أحمد بأحد المطاعم في مدينة لوزان أين التقينا وتحدثنا مليا عن الوضع الداخلي للجزائر، وكان آيت أحمد جد مستاء من سياسة بومدين التي وصفها بالديكتاتورية وأنه أصبح متحكما في الجيش وبزمام السلطة أكثر من أي وقت مضى.
وسألت آيت أحمد، كيف يمكنني أن أسوّي وضعيتي في سويسرا، فشجعني على الاتصال بالسلطات السويسرية وطلب اللجوء السياسي وقال لي:
ـ يجب أن تبلغهم فلست أي شخص كان.
ـ إذن أخبرهم أنت، لأني أغير اسمي حتى لا تطلع المخابرات الجزائرية على هويتي الحقيقية.
وأخبر آيت أحمد السلطات الأمنية في سويسرا بوجودي على أراضيها ورغبتي في الحصول على اللجوء السياسي، فجاءت الشرطة السويسرية تفتش عني فلم تجدني، لأني كنت أتنقل كثيرا وأحاول أن لا أترك أي أثر يمكن المخابرات الجزائرية من الوصول إلي.
المخابرات الجزائرية تتمكن من الوصول إليّ
وكانت المخابرات الجزائرية تتعقّبني فعلا في الخارج، وأرسلوا إلى سويسرا من يراقب تحرّكاتي، فقد كان رجال المخابرات من الضباط الصغار يرون أن بومدين لم يسيطر فقط على الحكم، بل هو الثورة وهو الجزائر وهو التاريخ وكل شيء، وكان حينها رشيد آيت مصباح مسؤولا للمخابرات الجزائرية في سويسرا، وكان بشكل أو بآخر مشرفا على تعقبي.
وحتى يتمكنوا من الوصول إليّ بسهولة قاموا بغرس ضابط في المخابرات يدعى حمودي بوزيدي كان يعمل معنا في الجيش تحت مسؤولية رئيس الأمن العسكري قاصدي مرباح، وجاءني مرة إلى قيادة الأركان من أجل تحويله إلى الجمارك، وتدخلت شخصيا من أجل تلبية رغبته وكان له ما أراد، وبعد وقوع أزمتي مع بومدين، كان إلى جانبي ضمن فيلق النقيب قارة وألقي عليه القبض وعندما مرض نقل إلى المستشفى لكنه تمكن من الفرار، واتصل بالدكتور عبد المجيد بن غزال لأنه كان متأكدا بأنه على علاقة وطيدة بي، وهو الخيط الذي يمكن للمخابرات الجزائرية أن يوصلها إليّ في سويسرا بعد أن أرسلوه في البداية إلى ليبيا.
واستطاع حمودي بوزيدي أن يقنع عبد المجيد بن غزال بأنه من أشد المخلصين لي، وطلب منه أن يرتب له لقاء معي، واتصل بي الدكتور عبد المجيد وحدثني عن حمودي ورغم أني لم أكن أثق في روايته، إذ ليس من السهل الهروب من المستشفى في حالة مثل حالته، ومع ذلك وافقت على لقائه في مقهى بلوزان وأخبرني أمورا خطيرة تكشف علاقته المتينة بالمخابرات الجزائرية:
ـ الجيش منقسم، وبومدين يريد أن يتصالح معك، وقد أرسل الرائد أحمد عبد الغني (قائد ناحية عسكرية) للاتصال بك وهو الآن في فرنسا وعلى اتصال مع آيت مصباح بسويسرا وهذا الأخير يرغب في رؤيتك.
لم أكن أثق في رجال المخابرات وأعرف جيّدا أساليبهم في المناورة، لذلك رفضت أي اتصال مباشر بآيت مصباح الذي لجأ إلى هذه الحيلة لجس النبض والتعرف على ما يدور في رأسي، وفيما أفكر، وماذا أنوي أن أفعل، أما الرائد عبد الغني فلم تكن تربطني به علاقة متينة رغم أنه كان يحترمني، ومع ذلك لم أكن مطمئنا للقائه، فقلت لحمودي:
ـ أمر بسيط، إذا كان بومدين يرغب فعلا في التصالح معي فليبعث بالرائدين يحياوي وبن سالم لأتحدث معهما، فأنا لا أثق إلا في هذين الرجلين، ولا مانع لدي إذا أراد أن يرسل معهما الرائد زرقيني إن أراد ذلك.
وحتى أتأكد من نواياهم قلت لحمودي:
ـ سيذهب محمد شبيلة ليرى آيت مصباح.
ولما أرادنا أن نفترق، طلب مني حمودي أن يرافقنا فقلت له بشكل حازم:
ـ لا، نحن اثنين ونواجه صعوبات في التكفل بأنفسنا.
كنت أريد أن أبعده عنا، لأنني شككت في أمره، وتأكدت بعدها أنه ليس سوى ضابط يتلقى أوامره من المخابرات الجزائرية، حيث وصلتني معلومات مؤكدة من مصادر أثق فيها تشدد على ضرورة أخذي كامل الحذر من حمودي لأنه مبعوث الأمن العسكري.
التقى شبيلة مع آيت مصباح وتبادلا النقاش، ولما عاد أكد لي أن آيت مصباح ليس جادا في فتح قناة اتصال معنا بقدر ما يسعى لأخذ معلومات حول مطالبنا والأشخاص الذين نحن في اتصال معهم، وعلاقتنا بالمعارضة وماذا نفعل وماذا نخطط، وكل ما كان يهمه هو إرسال تقرير مفصل عن تحركاتنا لقاصدي مرباح، لكن محمد شبيلة كان من الذكاء والثقافة بحيث لا يخشى جانبه، فقد كان أكثر من صديق…
إلى اللقاء يا جزائر
عندما وطئت قدماي التراب التونسي رميت جسدي المثقل بالهموم والأوجاع على حقل من الزرع وخلدت إلى نوم عميق إلى أن طلع الصباح، فاستيقظت وحملت بندقيتي ولكني انتبهت إلى أن الحرس الوطني التونسي لو ألقى عليّ القبض مسلحا فسأقع في مشكلة أخرى، لذلك رميت سلاحي بعيدا وسط الزرع وقلت في نفسي مودعا الأرض التي أحبّ:
إلى اللقاء يا جزائر.
وجدت أنه ليس من الحكمة أن أذهب مباشرة إلى المسؤولين التونسيين لطلب اللجوء السياسي، خاصة وأنني أعلم بوجود لاجئين سياسيين تونسيين في الجزائر، أمثال شوشان وطوبال وعباس وغيرهم، وخشيت أن يعتبرني نظام بورقيبة مشروع صفقة لتبادل المعارضين السياسيين مع نظام بومدين، لذلك كنت أفضل التريث.
وقصدت بلدة “قلعة لسنان” التونسية أين يقيم تاجر جزائري يدعى “الطاهر دبز” عم “لخضر دبز” الذي كان في اتصال معي عندما كنت عند عمي السعيد بوخرشوفة، إذ أنني لم أكن أحمل مالا كافيا لأخذ سيارة أجرة تقلني مباشرة إلى مدينة “بن قردان” على الحدود التونسية الليبية، حتى أتمكن من دخول الأراضي الليبية لأتفادى أي نية لمقايضتي بالمعارضين التونسيين في الجزائر، واعتقدت أن الطاهر دبز الذي يملك متجرا في هذه القرية بإمكانه أن يساعدني على استئجار سيارة.
لم أكن أعرف بالضبط أين يقيم الطاهر دبز، لذلك سألت عنه تجار القرية واحدا واحدا إلى أن وجدت شخصا يعرفه، ولكنه نقل لي خبرا خيّب أملي، فقد أكد لي أن الطاهر باع أملاكه في تونس وعاد إلى الجزائر، صعقت للخبر ووجدت أنه لم يعد لي خيار سوى الاتصال بالسلطات التونسية، لكن قبل ذلك كان لا بد عليّ أن أتخلص من زيّ الفلاحين التنكري الذي يصعب على الآخرين التعرف عليّ، فذهبت إلى الحلاق بعدما تبقى لدي بعض الدنانير التي تكفي لحلق رأسي وذقني، وقبل أن أغادر محل الحلاق نزعت الشاش والقشابية وتركتهما عنده وقلت له:
ـ سآتي بعد قليل لأخذهما.
توجهت مباشرة إلى المعتمد التونسي (رئيس دائرة) في قلعة لسنان التابعة لولاية الكاف البعيدة عني، وقدمت نفسي لحارس الدائرة:
ـ أنا العقيد الطاهر زبيري.. أريد أن أقابل المعتمد.
وبسرعة ذهب الحرس لإبلاغ المعتمد بهذا النبأ غير المتوقع، ولم يتأخر المعتمد حتى جاءني، واستقبلني باحترام، وأوضحت له بشكل واضح ومختصر، أنني “جئت لأطلب اللجوء السياسي من الحكومة التونسية”، فأبلغ المعتمد والي الكاف الذي طلب منه أن يأتوا بي إليه حالا.
وجاء الحرس الوطني التونسي بسياراتهم وأخذوني معهم إلى مدينة الكاف لمقابلة الوالي الذي أخبر بدوره وزير الداخلية “باجي قايد السبسي” بالأمر، ولم أعد إلى الحلاق لأخذ قشابيتي ولحافي (الشاش)، بل واصلت طريقي إلى مدينة الكاف، ومنها إلى العاصمة تونس بعد أن أمر وزير الداخلية التونسي بإحضاري إليه لمقابلتي.
في طريقنا إلى العاصمة تونس طلبت من الحرس الوطني أن يتوقف بي في أقرب مدينة قبل الدخول إلى العاصمة، لأني كنت أرغب في شراء ملابس مناسبة لمقابلة وزير الداخلية، خاصة وأن الملابس التي أرتديها كانت رثة، فتوقفنا في مدينة “مزاز الباب” التي تبعد بنحو 30 كيلومترا عن مدينة الكاف، واشتريت بذلة جديدة ولو أنها رخيصة الثمن وقميصا وحذاء، وعندما أردت أن أدفع ثمنها أصرّ الحرس الوطني التونسي على أن يدفعوا ثمنها من مالهم الخاص كرماً منهم.
أكملنا الطريق إلى وزارة الداخلية ولما وصلنا وجدت المدير العام للأمن الوطني التونسي ويسمى “الطاهر بلخوجة” في استقبالي، ثم قابلت وزير الداخلية باجي قايد السبسي (عيّن رئيسا للحكومة التونسية المؤقتة في فيفري 2011) وتبادلنا أطراف الحديث عن قضيتي مع بومدين وكيف قذفت بي الأقدار إلى تونس، وكنت حريصا في كلامي على أن أتفادى أيّ كلام عن الدكتاتورية حتى لا يحمل كلامي على أن فيه إشارة إلى الرئيس بورقيبة الذي كان زعيما تونسيا له سطوته في البلاد، وقلت له:
ـ أطحنا بالرئيس بن بله من أجل مبادئ معينة لكن بومدين وقع في نفس أخطاء بن بله فلم نتفق معه…
فسألني باجي قايد السبسي:
ـ هل مازال هناك أفراد من جماعتك في الجبال ولم يدخلوا الأراضي التونسية؟
ـ مازال هناك نحو أربعين نفرا في الجبال، من الممكن أن يأتوا إلى هنا وربما يغادرون إلى مكان آخر، ومنهم واحد اسمه محمد شبيلة أرجو أن تسمحوا له باللحاق بي إلى هنا… وأنا جئت لأطلب اللجوء السياسي من الحكومة التونسية ولن أمارس أي نشاط سياسي على التراب التونسي.
ـ هل تريد أن نبلغ الرأي العام بأنك موجود على التراب التونسي
ـ هذا الأمر يعود لتقديركم.
ـ سأذهب لأبلغ المجاهد الأكبر (يقصد بورقيبة)، ثم أعود لك بالجواب.
هيّأت لي الحكومة التونسية منزلا في مزرعة خارج العاصمة تونس، وأصدرت بيانا أكدت فيه أن “العقيد الطاهر زبيري موجود على التراب التونسي وتعهّد بأن لا يقوم بأيّ نشاط سياسي فوق كامل تراب الجمهورية التونسية”، وكانت الإذاعة التونسية أول من أذاع الخبر ثم تلاها التلفزيون التونسي، ونشرته في الغد الصحف التونسية.
بومدين يحتج على بورقيبة
عبد المالك بن حبيلس، سفير الجزائر بتونس، كان أحد أصدقائي، لكن منصبه الدبلوماسي كان يلزمه بتنفيذ أوامر وزارة الخارجية التي طلبت منه تبليغ الرئيس التونسي احتجاج السلطات الجزائرية الرسمي على قبولهم لجوئي السياسي لديهم، وفعلا بعد يوم واحد من إذاعة البيان على الإذاعة التونسية، توجه عبد المالك بن حبيلس إلى قصر الرئاسة وقابل الرئيس لحبيب بورقيبة وأبلغه احتجاجا شديد اللهجة للحكومة الجزائرية بعد قبول تونس لجوئي السياسي عندهم، معتبرة ذلك لا يساعد على حسن الجوار ولا على توطيد العلاقات بين البلدين الشقيقين والجارين.
ردّ الرئيس التونسي لحبيب بورقيبة كان غاية في البساطة والواقعية وفيه شيء من الطرافة السياسية حيث قال:
ـ مسؤولو الثورة الجزائرية كلهم مرّوا من تونس ولو لم يأتِ الطاهر زبيري لجاء بومدين.
وكان يقصد أنه لو نجحت في تنحية بومدين لكان على استعداد لقبول لجوئه السياسي في تونس مثلما يفعل الآن معي.
شبيلة يلتحق بي
بعد يومين أو ثلاثة التحق بي محمد شبيلة، وساعده السعيد 86 في الوصول إلى تونس وتجاوز به كل العقبات، حيث أخذه في سيارة وأوصله إلى الحدود، وتولّى الحرس الوطني التونسي إيصاله إلى مكان إقامتي بضواحي تونس.
وأقمنا لقرابة شهر في ذلك المنزل في ضواحي العاصمة، ووضعت السلطات التونسية حولنا حراسة مشددة خشية أن يرسل بومدين كومندوسا لاغتيالنا، ولم نكن نتصل بأي شخص في تلك الفترة.
وقد أعطانا وزير الداخلية باجي قايد السبسي 5 ملايين دينار تونسي لتغطية مصاريفنا اليومية، حيث كانوا يخرجوننا أحيانا للتنزّه، وكنا نذهب معهم إلى المطاعم للغداء أو العشاء، كما أخذونا إلى فندق في الشارع الرئيسي للعاصمة التونسية، حيث كنت أقيم رفقة شبيلة في غرفة واحدة وفي الغرفة الثانية يقيم ثلاثة أفراد من الشرطة المكلفين بحماية أمننا الشخصي.
سويسرا.. السفر نحو المجهول
ورغم أننا تخلّصنا شيئا فشيئا من الإرهاق والتعب والمرض، إلا أننا كنا ننظر بأن قضيتنا لم تنته، مادام هناك عدد من رجالنا وإخواننا في السجون مهددين في أي لحظة بالإعدام، لكني في تونس كنت شبه مقيد خاصة وأنني التزمت بعدم القيام بأي نشاط سياسي على التراب التونسي.
قررت مغادرة تونس إلى فضاء آخر، وطلبت من السلطات التونسية السماح لي بالسفر إلى مدينة جنيف السويسرية، فلم تعترض، وسافرت بجواز سفر مزوّر كنت قد طلبت من رئيس دائرة تبسة ويدعى عبد الجليل في تلك الأيام الصعبة إعداده لي لاستعماله في وقت الحاجة، وكان اسمي المستعار هو “الطاهر بن علي”، ورغم أني كنت أحمل جواز سفر دبلوماسي لكني لم أستعمله.
وبدل أن أسافر إلى مدينة جنيف غيّرت وجهتي إلى مدينة زيوريخ السويسرية، لما علمت أن الطائرة التي ستقلني إلى جنيف ستواصل بعد ذلك طريقها إلى مطار زيوريخ في شمال سويسرا، فقد كنت أخشى أن تكون المخابرات الجزائرية في انتظارنا في جنيف وتكتشف أيضا رئيس الدائرة الذي أصدر لنا جواز السفر المزوّر، فذهبت إلى قائد الطائرة وقلت له إننا اشترينا تذكرة إلى جنيف ولكننا نريد الذهاب إلى زيوريخ، فقال لنا: لا بأس، فقط عندما نصل إلى جنيف فلا تنزلوا لأننا سنكمل طريقنا إلى زيوريخ.
وفور مغادرتي أراضيها عبر الطائرة أصدرت السلطات التونسية بيانا أعلنت فيه “مغادرة الطاهر زبيري أرضي الجمهورية التونسية في اتجاه مجهول قد يكون سويسرا”.
نزلنا في مطار زيوريخ وأحسسنا لحظتها بأننا أحرار، فسويسرا كانت دوما في نظرنا أرض الحرية، وبعد استكمال بقية الإجراءات في المطار ركبنا سيارة أجرة أخذتنا إلى فندق صغير في المدينة تغذينا فيه وارتحنا به أياما وليالي، وكنا عادة ما نغير مكان إقامتنا من فندق إلى آخر، وعادة ما نختار الفنادق الصغيرة في القرى الجبلية البعيدة عن المدن الكبرى أين يكثر السياح الذي يهوون ممارسة رياضة التزلج على الثلج، ورغم أن الأمن السويسري كان في طلبنا بعد أن دلّهم علينا البيان الذي أصدرته السلطات التونسية، إلا أنهم لم يعثروا علينا لأننا كنا ننزل في الفنادق السويسرية بهوية مستعارة.
لقاء آيت أحمد بلوزان
كان لنا صديق عزيز يسمى عبد المجيد بن غزال وكان إلى جانبنا في حركة 14 ديسمبر 1967، ولكنه تمكن من الهرب من العاصمة إلى قسنطينة عبر القطار ومنها إلى تونس فسويسرا، واستقر هناك بسهولة لأنه كان متزوجا بامرأة سويسرية وأنجب أطفالا منها، إذ سبق له أن درس وعمل بها، لذلك كان يعرف جيدا هذا البلد الأوروبي ولم يمكث طويلا حتى وجد عملا بها كطبيب.
وكنا نسعى للاتصال به لمساعدتنا في الحصول على اللجوء السياسي، خاصة وأننا كنا نعتقد أن مساحة الحريات في سويسرا أكبر من أي بلد آخر، وأننا لن نواجه مشاكل في هذا الشأن، فذهبنا إلى مستشفى “إيغل” بمدينة “مونترو” السويسرية أين يعمل عبد المجيد بن غزال، والتقينا به هناك وبعد أن تبادلنا التحية خرجنا من المستشفى وجلسنا بأحد المقاهي القريبة.
أخبرني الدكتور بن غزال أن حسين آيت أحمد يريد مقابلتي، وذكرني بأنه سبق وأن أرسل إليّ بمبعوث له إلى تونس ويدعى عبد الحفيظ ياحا، أحد مناضلي جبهة القوى الاشتراكية، ولم أمانع على لقائه، فقد كان آيت أحمد يحظى باللجوء السياسي في سويسرا بعد هروبه من السجن لأن قضيته مدنية وليست معقدة وحساسة كما هو الأمر بالنسبة لي.
رتب الدكتور عبد المجيد بن غزال لقائي بآيت أحمد بأحد المطاعم في مدينة لوزان أين التقينا وتحدثنا مليا عن الوضع الداخلي للجزائر، وكان آيت أحمد جد مستاء من سياسة بومدين التي وصفها بالديكتاتورية وأنه أصبح متحكما في الجيش وبزمام السلطة أكثر من أي وقت مضى.
وسألت آيت أحمد، كيف يمكنني أن أسوّي وضعيتي في سويسرا، فشجعني على الاتصال بالسلطات السويسرية وطلب اللجوء السياسي وقال لي:
ـ يجب أن تبلغهم فلست أي شخص كان.
ـ إذن أخبرهم أنت، لأني أغير اسمي حتى لا تطلع المخابرات الجزائرية على هويتي الحقيقية.
وأخبر آيت أحمد السلطات الأمنية في سويسرا بوجودي على أراضيها ورغبتي في الحصول على اللجوء السياسي، فجاءت الشرطة السويسرية تفتش عني فلم تجدني، لأني كنت أتنقل كثيرا وأحاول أن لا أترك أي أثر يمكن المخابرات الجزائرية من الوصول إلي.
المخابرات الجزائرية تتمكن من الوصول إليّ
وكانت المخابرات الجزائرية تتعقّبني فعلا في الخارج، وأرسلوا إلى سويسرا من يراقب تحرّكاتي، فقد كان رجال المخابرات من الضباط الصغار يرون أن بومدين لم يسيطر فقط على الحكم، بل هو الثورة وهو الجزائر وهو التاريخ وكل شيء، وكان حينها رشيد آيت مصباح مسؤولا للمخابرات الجزائرية في سويسرا، وكان بشكل أو بآخر مشرفا على تعقبي.
وحتى يتمكنوا من الوصول إليّ بسهولة قاموا بغرس ضابط في المخابرات يدعى حمودي بوزيدي كان يعمل معنا في الجيش تحت مسؤولية رئيس الأمن العسكري قاصدي مرباح، وجاءني مرة إلى قيادة الأركان من أجل تحويله إلى الجمارك، وتدخلت شخصيا من أجل تلبية رغبته وكان له ما أراد، وبعد وقوع أزمتي مع بومدين، كان إلى جانبي ضمن فيلق النقيب قارة وألقي عليه القبض وعندما مرض نقل إلى المستشفى لكنه تمكن من الفرار، واتصل بالدكتور عبد المجيد بن غزال لأنه كان متأكدا بأنه على علاقة وطيدة بي، وهو الخيط الذي يمكن للمخابرات الجزائرية أن يوصلها إليّ في سويسرا بعد أن أرسلوه في البداية إلى ليبيا.
واستطاع حمودي بوزيدي أن يقنع عبد المجيد بن غزال بأنه من أشد المخلصين لي، وطلب منه أن يرتب له لقاء معي، واتصل بي الدكتور عبد المجيد وحدثني عن حمودي ورغم أني لم أكن أثق في روايته، إذ ليس من السهل الهروب من المستشفى في حالة مثل حالته، ومع ذلك وافقت على لقائه في مقهى بلوزان وأخبرني أمورا خطيرة تكشف علاقته المتينة بالمخابرات الجزائرية:
ـ الجيش منقسم، وبومدين يريد أن يتصالح معك، وقد أرسل الرائد أحمد عبد الغني (قائد ناحية عسكرية) للاتصال بك وهو الآن في فرنسا وعلى اتصال مع آيت مصباح بسويسرا وهذا الأخير يرغب في رؤيتك.
لم أكن أثق في رجال المخابرات وأعرف جيّدا أساليبهم في المناورة، لذلك رفضت أي اتصال مباشر بآيت مصباح الذي لجأ إلى هذه الحيلة لجس النبض والتعرف على ما يدور في رأسي، وفيما أفكر، وماذا أنوي أن أفعل، أما الرائد عبد الغني فلم تكن تربطني به علاقة متينة رغم أنه كان يحترمني، ومع ذلك لم أكن مطمئنا للقائه، فقلت لحمودي:
ـ أمر بسيط، إذا كان بومدين يرغب فعلا في التصالح معي فليبعث بالرائدين يحياوي وبن سالم لأتحدث معهما، فأنا لا أثق إلا في هذين الرجلين، ولا مانع لدي إذا أراد أن يرسل معهما الرائد زرقيني إن أراد ذلك.
وحتى أتأكد من نواياهم قلت لحمودي:
ـ سيذهب محمد شبيلة ليرى آيت مصباح.
ولما أرادنا أن نفترق، طلب مني حمودي أن يرافقنا فقلت له بشكل حازم:
ـ لا، نحن اثنين ونواجه صعوبات في التكفل بأنفسنا.
كنت أريد أن أبعده عنا، لأنني شككت في أمره، وتأكدت بعدها أنه ليس سوى ضابط يتلقى أوامره من المخابرات الجزائرية، حيث وصلتني معلومات مؤكدة من مصادر أثق فيها تشدد على ضرورة أخذي كامل الحذر من حمودي لأنه مبعوث الأمن العسكري.
التقى شبيلة مع آيت مصباح وتبادلا النقاش، ولما عاد أكد لي أن آيت مصباح ليس جادا في فتح قناة اتصال معنا بقدر ما يسعى لأخذ معلومات حول مطالبنا والأشخاص الذين نحن في اتصال معهم، وعلاقتنا بالمعارضة وماذا نفعل وماذا نخطط، وكل ما كان يهمه هو إرسال تقرير مفصل عن تحركاتنا لقاصدي مرباح، لكن محمد شبيلة كان من الذكاء والثقافة بحيث لا يخشى جانبه، فقد كان أكثر من صديق…
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
الرائد لخضر بورقعة القيادي في الولاية الرابعة التاريخية
كنا مع أي تمرد ضد الهواري الذي نجح بدهائه في ترسيخ شعور “الولد المدلل” لدى الزبيري
قال الرائد لخضر بورقعة، القيادي في الولاية الرابعة التاريخية، إن تعيين العقيد الطاهر الزبيري، رئيسا لأركان الجيش الوطني الشعبي في 1963، جاء في إطار اتفاق تم بين الرئيس الأسبق أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد، الذي كان يقود تمردا مسلحا بمنطقة القبائل، أثناء هجوم الجيش المغربي على بشار، فيما عرف بـ “حرب الرمال”، وليس من طرف هواري بومدين مثلما هو شائع.
وأوضح بورقعة أن هجوم الجيش المغربي على الحدود الجنوبية الغربية للبلاد في خريف 1963، شكل فرصة حقيقية لتجاوز المشاكل التي كانت تعاني منها البلاد، غير أن بومدين كان لها بالمرصاد بالوقوف في طريق قرارات تمت مع بن بلة، وقال: “في الثالث من أكتوبر 1963، كان حسين آيت أحمد يقود تمردا في منطقة القبائل. كنت واحدا من رجاله، ولما سمعنا بهجوم الجيش المغربي على التراب الوطني، قررنا لقاء الرئيس بن بلة دون ترتيبات مسبقة”.
وتابع القيادي بالولاية الرابعة التاريخية، في لقاء مع الشروق: “كنت برفقة حسين آيت أحمد والدكتور هرموش سعيد أرزقي، طبيب الولاية الرابعة. اتصلنا بأحمد فتال وكان يومها المدير العام للأمن الوطني، ليرافقنا إلى “فيلا جولي” (مقر إقامة بن بلة). وصلنا في حدود العاشرة ليلا، استقبلنا بروتوكول الرئاسة. ولما دخلنا الفيلا، خاطب بن بلة آيت أحمد قائلا: لم أكن أتوقع يوما أن يرفع حسين السلاح في وجهي، فرد آيت أحمد: لم أكن أتوقع يوما أن يقوم بن بلة برمي محمد بوضياف في السجن”.
انتقل الطرفان، يقول المتحدث إلى الجدية وعيا بالمخاطر التي تحيق بالبلاد في تلك الآونة، وقد طبعت الجلسة نوعا من البرودة بسبب أرواح الضحايا الذين سقطوا في حرب الداخل بين الإخوة الفرقاء، ثم لم يلبث أن توجه آيت أحمد بسؤال لأحمد بن بلة قائلا: “من البادئ؟” في إشارة إلى عدوان المغرب على التراب الوطني.
آيت أحمد وبورقعة في “فيلا جولي”
لم يرد بن بلة مباشرة على السؤال، بل تعداه إلى الواقع على الأرض، وقال: “المغاربة أخذوا حاسي بيضاء وهم يحاصرون بشار الآن”. عندها رفع آيت أحمد ثلاثة مطالب عاجلة، أولها إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين (مثل فرحات عباس، محمد بوضياف..)، وثانيها تكوين لجنة لتحضير مؤتمر يكون جامعا وشاملا في 1964، وثالثا: تكوين قيادة للجيش الوطني الشعبي تضم عضوا من كل ولاية من الولايات التاريخية الست، مع بقاء بومدين وزيرا للدفاع.
وفي غياب بومدين، تم الاتفاق على تعيين العقيد الطاهر الزبيري، قائدا للأركان، وهو الذي كان قائدا للولاية الأولى التاريخية، باعتباره مجاهدا من الرعيل الأول كان مرافقا لمصطفى بن بولعيد، والطاهر بودربالة ممثلا عن الولاية الثانية، وحسن محيوز عن الولاية الثالثة، ومحمد شعباني عن الولاية السادسة، والكولونيل عباس عن الخامسة، وقد اقترحت يقول بورقعة، لأمثل الولاية الرابعة، غير أنني رفضت، فاستبدلت بالرائد محمد بوسماحة.
وبحسب المتحدث، فإن بومدين الذي كان يومها وزيرا للدفاع وقد كان غائبا عن اللقاء بسبب الحرب مع الجارة المغرب، لم يوافق سوى على تعيين الطاهر الزبيري على رأس قيادة الأركان.. وهو ما عطل إنهاء أزمة منطقة القبائل، وفي هذا الصدد يقول بورقعة: “بعد انتهاء الاجتماع غادر الجميع إلى بيت آيت أحمد بالأبيار، وقد وجدنا محمد خيدر هناك، وعلمت بأن زوجتي آيت أحمد وخيدر شقيقتان”. وتابع المتحدث: “كلفني آيت أحمد بنقل الجنود الذين كانوا في جبال القبائل إلى البليدة كي يتوجهوا نحو الحدود..ولما وصلوا رفض بومدين اندماجهم في الجيش وعزلهم في مكان معين دون مؤونة، ومع ذلك هاجموا الجيش المغربي وتوغلوا في ترابه لأكثر من 50 كيلومترا”.
إعدام آيت أحمد وذكرى شعباني
انتظر الجميع ترسيم الاتفاق ببثه في التلفزيون والإذاعة، لكن الأمر طال ولم يظهر له أثر في الإعلام الرسمي، ففهم الجميع الرسالة، وفي الليلة الموالية غادر آيت أحمد العاصمة متوجها إلى معقله في بلاد القبائل إلى أن تم القبض عليه.
ويعتقد صاحب كتاب “شاهد على اغتيال الثورة” أن بومدين وقف ضد اتفاق بن بلة وآيت أحمد، لإطالة أمد أزمة القبائل، لأهداف محسوبة بدقة، وهي تحميل الرئيس بن بلة وزر تلك الأزمة، وبحسب بورقعة فإن بومدين كان يضغط على بن بلة بعد القبض على آيت أحمد، من أجل أن يحكم بالإعدام على قائد تمرد منطقة القبائل، وهو ما حصل، وقد فهم الجميع عندها أن الرئيس هو المسؤول وليس وزير دفاعه، كما حصل تماما في قضية شعباني، وفي ذلك أوراق رابحة يمكن لبومدين استغلالها لاحقا..
وقد حاول بورقعة رفقة الصادق دهيليس والأستاذ بلحسين، التوسط لدى بن بلة لتفادي تكرار كارثة العقيد شعباني، غير أن بن بلة رفض استقبال الثلاثة، الذين حاولوا الكرة مع محمود زرطال، الذي كان مدعيا عاما في قضية محاكمة شعباني، وربما كانت نجاة زعيم جبهة القوى الاشتراكية من الإعدام، أحد الأسباب التي كانت وراء انقلاب بومدين على بن بلة في جوان 1965 .
دهاء بومدين وبساطة الزبيري
يرجع الرائد بورقعة فشل انقلاب الطاهر الزبيري، لجملة من العوامل، أولاها أن قائد الانقلاب لم يفكر بما فيه الكفاية في المحيطين به، وفي خصمه بدرجة أولى، ويقول: “ما من قائد نجح في مهمته إذا لم يكن دارسا فذا لرفاقه ولعدوه قبل أن تبدأ المعركة. يجب أن يكسب المعركة في قلوب رجاله قبل أن يخوضها، وإلا يجب ألا يغامر. كان هذا هو الخطأ الذي سقط فيه العقيد الزبيري وهو يباشر الانقلاب على بومدين في ديسمبر1967، إنه لم يدرس أفكار رجاله وطموحاتهم، لقد كانت أغلبية من شجع الزبيري ممن حركتهم المصالح الشخصية، فكانت النتيجة كما عرفها الجميع”.
وبالنسبة لـ “مهرب” الزبيري من البليدة إلى العاصمة، فإن الثقة المفرطة أعمت قائد الانقلاب، وجعلته يثق كثيرا ببومدين، إلى درجة أنه كان يعتقد أنه “الولد المدلل” لدى بومدين، الذي نجح بدهائه في ترسيخ هذا الاعتقاد لدى من كان يخطط للإطاحة به.
..مع كل من يثور ضد بومدين
ويعترف بورقعة بأن جوا من عدم الثقة كانت تطبع محاولات الزبيري لتجنيد الموالين للانقلاب، ومع ذلك لم يتأخر بورقعة في مساندة الانقلابيين، ويقول: “قررنا في ذلك الوقت مساندة أي حركة أو تمرد ضد بومدين، بغض النظر عن من يقومون به، بشرط ألا يكون خارجيا، لأن بومدين استعمل السلاح الذي حرر البلاد في إرساء حكمه، فضلا عن انفراده بالسلطة، وتحطيمه للمؤسسة التي هزمت العدو ممثلا في جيش التحرير، وتفتيته للوحدة التي جمعت الجزائريين.
ومن هذا المنطلق، يرفض بورقعة اعتبار بومدين بطلا فريدا من نوعه في الجزائر، ويقول: “ما يشاع عن بومدين كلام إنشائي. الدولة بنيت بجهود جميع الجزائريين. بومدين لم يبن مؤسسات وإنما جعل من شخصه مؤسسة قائمة بذاتها. لقد حارب الديمقراطية وكانت حرية التعبير جريمة، وهذه هي الركائز التي تبنى عليها الدول الحديثة”.
وتابع: “كل المشاريع التي أطلقها بومدين فشلت، أرسى الثورة الزراعية وكان يستورد الثوم من إسبانيا، أرسى الثورة الصناعية وكان يستورد مفك البراغي من الخارج، تحدث عن الثورة الصناعية وعجز عن حل المشاكل بين الشعانبة وبني ميزاب.. بومدين أعطى الأولوية للمظاهر، ولكن أهمل الأرض والإنسان، وهما عماد أي ثروة”.
كنا مع أي تمرد ضد الهواري الذي نجح بدهائه في ترسيخ شعور “الولد المدلل” لدى الزبيري
قال الرائد لخضر بورقعة، القيادي في الولاية الرابعة التاريخية، إن تعيين العقيد الطاهر الزبيري، رئيسا لأركان الجيش الوطني الشعبي في 1963، جاء في إطار اتفاق تم بين الرئيس الأسبق أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد، الذي كان يقود تمردا مسلحا بمنطقة القبائل، أثناء هجوم الجيش المغربي على بشار، فيما عرف بـ “حرب الرمال”، وليس من طرف هواري بومدين مثلما هو شائع.
وأوضح بورقعة أن هجوم الجيش المغربي على الحدود الجنوبية الغربية للبلاد في خريف 1963، شكل فرصة حقيقية لتجاوز المشاكل التي كانت تعاني منها البلاد، غير أن بومدين كان لها بالمرصاد بالوقوف في طريق قرارات تمت مع بن بلة، وقال: “في الثالث من أكتوبر 1963، كان حسين آيت أحمد يقود تمردا في منطقة القبائل. كنت واحدا من رجاله، ولما سمعنا بهجوم الجيش المغربي على التراب الوطني، قررنا لقاء الرئيس بن بلة دون ترتيبات مسبقة”.
وتابع القيادي بالولاية الرابعة التاريخية، في لقاء مع الشروق: “كنت برفقة حسين آيت أحمد والدكتور هرموش سعيد أرزقي، طبيب الولاية الرابعة. اتصلنا بأحمد فتال وكان يومها المدير العام للأمن الوطني، ليرافقنا إلى “فيلا جولي” (مقر إقامة بن بلة). وصلنا في حدود العاشرة ليلا، استقبلنا بروتوكول الرئاسة. ولما دخلنا الفيلا، خاطب بن بلة آيت أحمد قائلا: لم أكن أتوقع يوما أن يرفع حسين السلاح في وجهي، فرد آيت أحمد: لم أكن أتوقع يوما أن يقوم بن بلة برمي محمد بوضياف في السجن”.
انتقل الطرفان، يقول المتحدث إلى الجدية وعيا بالمخاطر التي تحيق بالبلاد في تلك الآونة، وقد طبعت الجلسة نوعا من البرودة بسبب أرواح الضحايا الذين سقطوا في حرب الداخل بين الإخوة الفرقاء، ثم لم يلبث أن توجه آيت أحمد بسؤال لأحمد بن بلة قائلا: “من البادئ؟” في إشارة إلى عدوان المغرب على التراب الوطني.
آيت أحمد وبورقعة في “فيلا جولي”
لم يرد بن بلة مباشرة على السؤال، بل تعداه إلى الواقع على الأرض، وقال: “المغاربة أخذوا حاسي بيضاء وهم يحاصرون بشار الآن”. عندها رفع آيت أحمد ثلاثة مطالب عاجلة، أولها إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين (مثل فرحات عباس، محمد بوضياف..)، وثانيها تكوين لجنة لتحضير مؤتمر يكون جامعا وشاملا في 1964، وثالثا: تكوين قيادة للجيش الوطني الشعبي تضم عضوا من كل ولاية من الولايات التاريخية الست، مع بقاء بومدين وزيرا للدفاع.
وفي غياب بومدين، تم الاتفاق على تعيين العقيد الطاهر الزبيري، قائدا للأركان، وهو الذي كان قائدا للولاية الأولى التاريخية، باعتباره مجاهدا من الرعيل الأول كان مرافقا لمصطفى بن بولعيد، والطاهر بودربالة ممثلا عن الولاية الثانية، وحسن محيوز عن الولاية الثالثة، ومحمد شعباني عن الولاية السادسة، والكولونيل عباس عن الخامسة، وقد اقترحت يقول بورقعة، لأمثل الولاية الرابعة، غير أنني رفضت، فاستبدلت بالرائد محمد بوسماحة.
وبحسب المتحدث، فإن بومدين الذي كان يومها وزيرا للدفاع وقد كان غائبا عن اللقاء بسبب الحرب مع الجارة المغرب، لم يوافق سوى على تعيين الطاهر الزبيري على رأس قيادة الأركان.. وهو ما عطل إنهاء أزمة منطقة القبائل، وفي هذا الصدد يقول بورقعة: “بعد انتهاء الاجتماع غادر الجميع إلى بيت آيت أحمد بالأبيار، وقد وجدنا محمد خيدر هناك، وعلمت بأن زوجتي آيت أحمد وخيدر شقيقتان”. وتابع المتحدث: “كلفني آيت أحمد بنقل الجنود الذين كانوا في جبال القبائل إلى البليدة كي يتوجهوا نحو الحدود..ولما وصلوا رفض بومدين اندماجهم في الجيش وعزلهم في مكان معين دون مؤونة، ومع ذلك هاجموا الجيش المغربي وتوغلوا في ترابه لأكثر من 50 كيلومترا”.
إعدام آيت أحمد وذكرى شعباني
انتظر الجميع ترسيم الاتفاق ببثه في التلفزيون والإذاعة، لكن الأمر طال ولم يظهر له أثر في الإعلام الرسمي، ففهم الجميع الرسالة، وفي الليلة الموالية غادر آيت أحمد العاصمة متوجها إلى معقله في بلاد القبائل إلى أن تم القبض عليه.
ويعتقد صاحب كتاب “شاهد على اغتيال الثورة” أن بومدين وقف ضد اتفاق بن بلة وآيت أحمد، لإطالة أمد أزمة القبائل، لأهداف محسوبة بدقة، وهي تحميل الرئيس بن بلة وزر تلك الأزمة، وبحسب بورقعة فإن بومدين كان يضغط على بن بلة بعد القبض على آيت أحمد، من أجل أن يحكم بالإعدام على قائد تمرد منطقة القبائل، وهو ما حصل، وقد فهم الجميع عندها أن الرئيس هو المسؤول وليس وزير دفاعه، كما حصل تماما في قضية شعباني، وفي ذلك أوراق رابحة يمكن لبومدين استغلالها لاحقا..
وقد حاول بورقعة رفقة الصادق دهيليس والأستاذ بلحسين، التوسط لدى بن بلة لتفادي تكرار كارثة العقيد شعباني، غير أن بن بلة رفض استقبال الثلاثة، الذين حاولوا الكرة مع محمود زرطال، الذي كان مدعيا عاما في قضية محاكمة شعباني، وربما كانت نجاة زعيم جبهة القوى الاشتراكية من الإعدام، أحد الأسباب التي كانت وراء انقلاب بومدين على بن بلة في جوان 1965 .
دهاء بومدين وبساطة الزبيري
يرجع الرائد بورقعة فشل انقلاب الطاهر الزبيري، لجملة من العوامل، أولاها أن قائد الانقلاب لم يفكر بما فيه الكفاية في المحيطين به، وفي خصمه بدرجة أولى، ويقول: “ما من قائد نجح في مهمته إذا لم يكن دارسا فذا لرفاقه ولعدوه قبل أن تبدأ المعركة. يجب أن يكسب المعركة في قلوب رجاله قبل أن يخوضها، وإلا يجب ألا يغامر. كان هذا هو الخطأ الذي سقط فيه العقيد الزبيري وهو يباشر الانقلاب على بومدين في ديسمبر1967، إنه لم يدرس أفكار رجاله وطموحاتهم، لقد كانت أغلبية من شجع الزبيري ممن حركتهم المصالح الشخصية، فكانت النتيجة كما عرفها الجميع”.
وبالنسبة لـ “مهرب” الزبيري من البليدة إلى العاصمة، فإن الثقة المفرطة أعمت قائد الانقلاب، وجعلته يثق كثيرا ببومدين، إلى درجة أنه كان يعتقد أنه “الولد المدلل” لدى بومدين، الذي نجح بدهائه في ترسيخ هذا الاعتقاد لدى من كان يخطط للإطاحة به.
..مع كل من يثور ضد بومدين
ويعترف بورقعة بأن جوا من عدم الثقة كانت تطبع محاولات الزبيري لتجنيد الموالين للانقلاب، ومع ذلك لم يتأخر بورقعة في مساندة الانقلابيين، ويقول: “قررنا في ذلك الوقت مساندة أي حركة أو تمرد ضد بومدين، بغض النظر عن من يقومون به، بشرط ألا يكون خارجيا، لأن بومدين استعمل السلاح الذي حرر البلاد في إرساء حكمه، فضلا عن انفراده بالسلطة، وتحطيمه للمؤسسة التي هزمت العدو ممثلا في جيش التحرير، وتفتيته للوحدة التي جمعت الجزائريين.
ومن هذا المنطلق، يرفض بورقعة اعتبار بومدين بطلا فريدا من نوعه في الجزائر، ويقول: “ما يشاع عن بومدين كلام إنشائي. الدولة بنيت بجهود جميع الجزائريين. بومدين لم يبن مؤسسات وإنما جعل من شخصه مؤسسة قائمة بذاتها. لقد حارب الديمقراطية وكانت حرية التعبير جريمة، وهذه هي الركائز التي تبنى عليها الدول الحديثة”.
وتابع: “كل المشاريع التي أطلقها بومدين فشلت، أرسى الثورة الزراعية وكان يستورد الثوم من إسبانيا، أرسى الثورة الصناعية وكان يستورد مفك البراغي من الخارج، تحدث عن الثورة الصناعية وعجز عن حل المشاكل بين الشعانبة وبني ميزاب.. بومدين أعطى الأولوية للمظاهر، ولكن أهمل الأرض والإنسان، وهما عماد أي ثروة”.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 18
الحلقة: 15 صحفية إنجليزية آوتني يوم طردني العالم
في الحلقة السابقة تحدث الطاهر زبيري عن لجوئه في تونس ثم سفره سرا إلى سويسرا، معتقدا أنها بلد الحرية، أين التقى بحسين آيت أحمد الذي صار صديقه بعد أن كان خصمه السياسي عندما كان زبيري قائدا للأركان وآيت أحمد متمردا في جبال القبائل، أما اليوم فسيروي لنا زبيري رحلة العذاب بحثا عن أي دولة تقبل بلجوئه السياسي.
إبعادي من سويسرا
واصلت الشرطة السويسرية بحثها الحثيث عني لإخراجي من سويسرا بأمر من أعلى السلطات الأمنية وعلى رأسهم مدير الأمن الفدرالي ونائبه، وبعد فترة من البحث تمكنوا من الوصول إليّ في فندق صغير بضواحي العاصمة لوزان، وأخذوني معهم واستجوبوني حول تحركاتي داخل التراب السويسري وعلاقتي بالمعارضة الجزائرية.
وقبل انتهاء الاستجواب أخبروني أنه ممنوع عليّ البقاء في سويسرا، فالشرطة الفدرالية السويسرية كانت تنظر إليّ على أني ضابط شاب أراد الانقلاب على رئيسه ومحاولة اغتياله، حيث حمّلوني مسؤولية محاولة اغتيال بومدين، وهي العملية التي أشرف على التخطيط لها الرائد عمار ملاح، لذلك كانوا غير متحمسين لبقائي في سويسرا.
كنت حينها مصاب بحمى شديدة وارتفعت درجة حرارتي لتصل إلى41 درجة، فقلت لهم إني مريض وبحاجة إلى العلاج هنا، فقال لي مدير الأمن الفدرالي السويسري:
ـ عندما ترغب في العلاج في سويسرا أرسل لنا أينما كنت لنبعث لك رخصة لتدخل إلى التراب السويسري شريطة أن لا تدوم مدة العلاج 15 يوما، كما بإمكانك أن تقاضي الحكومة السويسرية على قرار إبعادك، وبعد 24 ساعة من الآن إن لم تغادر التراب السويسري فسنضعك على الحدود التي نختارها نحن.
ـ كيف يحدث هذا، فأنا لاجئ سياسي هنا ولا أحمل معي الملايير حتى أتنقل من بلد إلى آخر، كما أني لا أقوم بأي نشاط سياسي على التراب السويسري.
ـ نحن لدينا مشاكل مع الحكومة الجزائرية، التي تحتجز طائرة عسكرية سويسرية كانت محملة بالأسلحة إلى مقاطعة “بيافرا” (كانت تسعى للانفصال عن نيجيريا، وأرسلت سويسرا طائرة محملة بالأسلحة إلى المتمردين البيافريين قبل أن تنزل الطائرة اضطراريا في الصحراء الجزائرية في مدينة عين أمناس، فألقى الجزائريون القبض على طاقم الطائرة بعد أن وجدوا أنها محملة بالأسلحة المتوجهة إلى بيافرا)، كما أن المشكل الثاني يتمثل في أن الإذاعة الجزائرية تبث على نفس الموجة التي تبث منها الإذاعة السويسرية، ونحن معها في نزاع قضائي في محكمة لاهاي، وهناك نزاع تجاري بيننا متعلق بالخمور، ونحن نسعى لحل هذه المشاكل مع الجزائر ولا نريد أن ندخل في مشكل آخر بسببك.
وكانت سويسرا التي تدعي الحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول غارقة إلى أخمص قدميها في النزاع الداخلي بنيجيريا من خلال دعمها للانفصاليين البيافريين بالسلاح، في الوقت الذي اتخذت الجزائر موقفا مساندا لوحدة نيجيريا، كما تمكنت الجزائر من اعتقال موييس تشومبي زعيم مقاطعة “كتنغا” المتمرد على حكومة الكونغو برازفيل عندما كان قادما من أوروبا في اتجاه المغرب مرورا بالأجواء الجزائرية، فأجبرت السلطات الجزائرية الطائرة التي كانت تقله على النزول وألقت عليه القبض، خاصة وأنه كان متهما بقتل باتريس لومومبا أحد زعماء التحرير الأفارقة البارزين ورئيس الكونغو.
لم يكن بيدي أي خيار فغادرت رفقة محمد شبيلة التراب السويسري إلى مدينة ميلانو الإيطالية التي بقيت فيها 15 يوما، وكنا نتنقل بالسيارة إلى عدة مدن أوروبية، وعندما أمرض أرسل طلبا للسلطات السويسرية للسماح لي بالعلاج على أراضيها، فكانوا يرسلون لي رخصة الدخول في ظرف قياسي لا يتجاوز أربعة أيام، ولحسن حظي لم تعط السلطات السويسرية تعليمات على مستوى الحدود لمنعنا من الدخول، فكنا ندخل ونخرج بحرية، حيث أقمت في مدينة شتوتغرت الألمانية القريبة من الحدود السويسرية على أمل أن تحل مشكلتي قريبا، ولكني بقيت 12 سنة في المنفى دون أن أتمكن من الحصول على اللجوء السياسي.
الصحفية الانجليزية “مارغاريت”
حاول حسين آيت أحمد مساعدتي في الحصول على اللجوء السياسي بسويسرا بالاستعانة بإحدى الصحافيات الانجليزيات التي لها علاقة بالاستخبارات البريطانية، حيث كان والدها ضابطا ساميا في الجيش الانجليزي برتبة عقيد، وكانت هذه الصحفية التي تدعى “مارغريت بوب” والمولودة في 1918 (كانت تكبرني بـ11 سنة) معروفة بدعمها لحركات التحرر ونضال الشعوب المستعمرة الراغبة في الاستقلال من الاستعمارين الانجليزي أو الفرنسي، وأجرت عدة لقاءات صحفية مع زعماء ثوريين في كل من الهند الصينية والمغرب وتونس، وفي هذه الأخيرة استطاعت أن تسرق ختم رئيس الحكومة التونسية الموالي لفرنسا من مكتبه وأن تسلمه لبورڤيبة الذي كان يقود حينها المعارضة التونسية المطالبة بالاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، كما ساعدت الشيوعيين في الصين بقيادة “ماوتسي تونغ” و”شوين لاي” الذي أصبح رئيس وزراء الصين الشعبية.
وسبق لهذه الصحفية أن قدمت خدمات جليلة لمخابرات الثورة الجزائرية في عهد عبد الحفيظ بوصوف الذي استعان بها في عدة مناسبات على غرار إرسالها إلى الصحراء الجزائرية في 1960 للتأكد إن كان متطرفو منظمة اليد الحمراء الإرهابية ينوون فعلا تفجير آبار النفط الجزائرية لإفشال مفاوضات إيفيان التي انطلقت، وذهبت مارغاريت إلى الصحراء وقابلت متطرفي الكولون واليد الحمراء وتأكدت من نواياهم الكيدية لتفجير آبار النفط، وجاءت بتقرير مفصل إلى بوصوف، وكتبت مقالات ساخنة في هذا الشأن لإحراج منظمة “اليد الحمراء” الإرهابية وإجهاض مخططاتها قبل الوصول إلى مرحلة التنفيذ، كما سرب لها الثوار معلومات حساسة قصد إيصالها إلى الرأي العام الأوروبي والعالمي وفضح المناورات الفرنسية وجرائم منظمة الجيش السري الإرهابية التي اغتالت عدة شخصيات ثورية وأحرقت عدة مرافق عمومية على غرار مكتبة الجامعة المركزية، وفجرت قنبلة بميناء الجزائر راح ضحيتها 50 عاملا جزائريا من الدواكرة، وكانت مارغاريت تنشر كل هذه الجرائم في الصحافة العالمية مبرزة همجية الاستعمار وساهمت بشكل أو بآخر في حشد تعاطف الرأي العام الدولي مع الثورة الجزائرية.
وبعد الاستقلال أقامت هذه الصحفية في الجزائر بشكل شبه دائم، ولكنها عندما أجرت حوارا مع آيت أحمد لما كان في جبال القبائل قرر أحمد بن بلة طردها نهائيا من الجزائر، فاستقرت في كندا وواصلت عملها في الصحافة إلى جانب تأليفها للكتب.
وافقت مارغاريت على استعمال علاقاتها الواسعة بالسلطات السويسرية لحثها على قبول لجوئي السياسي لديهم، وعرضت على آيت أحمد أن آتي لأقيم في بيتها في لوزان بينما يقيم محمد شبيلة عند صديقها، فقد كنت أرغب في دراسة الفرنسية بسويسرا، غير أن مساعيها لدى السلطات السويسرية باءت كلها بالفشل فوضعيتي كانت جد معقدة والمسؤولون السويسريون لم يكونوا على استعداد لتأزيم علاقاتهم مع الجزائر التي كانت تتمتع بسمعة دولية كبيرة بفضل الزخم الذي تركته الثورة الجزائرية، وأقمت في بيت هذه الصحفية لسنوات.
كانت مارغريت جامعة متنقلة بحق، فهي كاتبة صحفية وأستاذة في اللغة الانجليزية بإحدى الجامعات السويسرية وتتقن عدة لغات كالعربية والفرنسية والإيطالية إلى جانب الانجليزية، وزارت عدة بلدان والتقت عدة شخصيات عالمية مما أكسبها ثقافة واسعة، واستفدت كثيرا من تجاربها ومن مهنتها كصحفية وكأستاذة جامعية، وكعميلة سرية للمخابرات البريطانية أيضا فقد كنت أعلم بحقيقة هذا الأمر حتى وإن لم تخبرني به، فقد كانت المخابرات البريطانية ترسلها من حين إلى آخر إلى نقاط ساخنة من العالم للتحري والقيام بمهام محددة مثلما كان عليه الحال في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990).
ودامت علاقتي بمارغاريت حتى بعد عودتي من المنفى إلى الجزائر، حيث زارتني في بيتي بالجزائر سنة 1982، وتعرفت على زوجتي وبناتي، فقد كانت مارغاريت أكثر من أخت كبرى رغم اختلافنا في الدين والعرق واللغة.
أصبحت كالمشرد في هذا العالم فرغم شساعته لم أجد دولة تقبل بي كلاجئ سياسي لديها، فأزمتي مع بومدين كان لها صدا دوليا واسعا عاد عليّ بالضرر، وكأن بومدين صار ماردا يخشى العالم من سطوته، وبقيت هائما لسنوات في أوروبا متنقلا رفقة محمد شبيلة في السيارة باسم مستعار، ولم أكن أمكث في كل بلد سوى لمدة لا تتجاوز العشرين يوما حتى لا يكتشف أمري، في حين لم يكن شبيلة مضطرا لتغيير اسمه لأنه لم يكن معروفا ولا مطاردا مثلي، فقد كان شابا حذقا ومثقفا ويجيد اللغة الفرنسية والذي تعرفت عليه منذ 1956 .
من تونس إلى سويسرا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا وحتى المغرب الذي كان في خصومة مع الجزائر قضيت 12 سنة هائما بلا أرض أستقر بها.. وطوال هذه الفترة عرفت الكثير من الجزائريين المنفيين طوعا أو كرها ولكني لم أعرف منفيا عانى مثلما عانيته، فأينما حللت لم أجد مكانا يحتضنني، الكل يشهر في وجهي بطاقة المنع من الإقامة على أرضه.
فكرت في كل الدول التي يمكنها أن تقبلني كلاجئ سياسي لديها بما فيها البرتغال التي كانت تحت حكم سلازار الذي يعتبره الأوروبيون ديكتاتورا وطاغية، ورغبت في اللجوء إلى أي بلد عربي لأني كنت بحاجة إلى تهريب عائلتي من الجزائر عبر تونس، خاصة وأنهم كانوا يقيمون في مدينة الونزة التي لا تبعد عن الحدود التونسية إلا بـ15 كيلومترا.. كنت طريدا بلا وطن ولا أهل ولا بيت ولا نقود، سلوتي في هذه الحياة كان صديقي محمد شبيلة الوحيد الذي آنس وحشتي.
لقائي بكريم بلقاسم ومحاولة لجوئي إلى المغرب
قابلت كريم بلقاسم في سويسرا ثم في فرنسا في 1969، وتبادلنا النقاش حول الوضع في الجزائر، وحالة النظام الذي يقوده بومدين، وعبر كريم بلقاسم الذي كان خلال الثورة نائبا لرئيس الحكومة المؤقتة ووزيرا للقوات المسلحة عن معارضته الشديدة لنظام بومدين، والذي كان سببا مباشرا في إزاحته عن السلطة، رغم أنه كان أحد الرجال الأقوياء في ثورة التحرير منذ تفجيرها إلى غاية الاستقلال.
ورغب كريم بلقاسم على غرار آيت أحمد في إقناعي بضرورة الانخراط معه في حزبه المعارض الذي أسسه في المنفى، ولكني لم أكن متحمسا لذلك، كما أراد أن يعرف ما إذا كان مازال لدي قوة ونفوذ داخل الجيش يمكن الاستعانة بهما في حالة القيام بأي عمل ضد نظام بومدين.
وقبل أن نفترق أخبرني كريم أنه سيذهب إلى المغرب وعندما سيعود سنلتقي مجددا في سويسرا، لكني اغتنمت الفرصة وطلبت منه أن يجس نبض السلطات المغربية إن كانوا يقبلون بلجوئي السياسي عندهم، خاصة وأنني كنت على علم مسبق بالخلافات الموجودة بين نظام الملك الحسن الثاني ونظام بومدين.
فقال لي كريم: سأقيم أسبوعا في المغرب وعندها سأعود لك بردهم.
ولكن بعدما عاد كريم بلقاسم من الرباط أخبرني أن السلطات المغربية لا ترغب في أن أذهب إليهم في الوقت الحاضر، رغم أنه أخبرهم بأن حركة 14 ديسمبر التي قمت بها ضد بومدين كانت بإيعاز منه وأن حزبه المعارض كان يتبناها، بل وأنه هو من شجعني شخصيا إلى التمرد.
لكن عدم ترحيب المغرب على أرضه لم يمنعنِ من زيارته رفقة محمد شبيلة في خريف 1969، فتوجهنا من إسبانيا إلى المغرب عبر الباخرة وأقمنا لدى أقارب زوجته في دار البيضاء لمدة أربعة أيام، كما أقمنا ثلاثة أيام في مدينة طنجة، والتقينا هناك بالعديد من الجزائريين الذين قدموا لنا يد المساعدة.
ثم عدت إلى أوروبا بعد أن أعيانا مطاردة الأمن المغربي لنا ورفضهم إقامتنا عندهم، وحتى في فرنسا وجدنا نفس الرفض، فلا يمكن أن تنسى فرنسا بسهولة ما فعلنا بها في حرب التحرير، كما أن قضيتي مع بومدين جد حساسة، بالإضافة إلى أن المخابرات الجزائرية كانت تنشط بفرنسا ومع ذلك زرت خلال هذه الفترة فرنسا مرارا دون أن تلقي السلطات الفرنسية القبض عليّ رغم محاولتها توقيفي، حيث اتصل البوليس الفرنسي بأحمد محساس الذي خرج هو الآخر للمعارضة، وسألوه عني، لكنه لم يخبرهم بأي شيء، فقد كان محساس أحد الرجال الذين ساعدوني ماديا خلال هذه الفترة العصيبة من حياتي، وكذلك فعل أحد أعضاء ودادية الجزائر بفرنسا.
وخلال تواجدي على التراب الفرنسي التقيت مجددا بكريم بلقاسم، كما قابلت حسين آيت أحمد الذي أخبرني بأنه سيسافر إلى المغرب لزيارة عائلته التي كانت تقيم هناك باستثناء أبنائه الثلاثة الذين كانوا يدرسون في سويسرا، فقلت له:
ـ أرغب أنا أيضا في الذهاب إلى المغرب ولكنهم رفضوني.
وامتعض آيت أحمد عندما علم أن كريم بلقاسم توسط لي لدى السلطات المغربية حتى يقبلوا بي كلاجئ سياسي على ترابهم، وشعر وكأنني انضممت للحزب الذي أسسه كريم بلقاسم، ومع ذلك فقد عرض علينا أن يستضيفنا في بيته بالمغرب وقال:
ـ أنا ذاهب إلى العائلة وإذا أردتما الذهاب معي فأنتما وسط العائلة.
ورغم أن أبناء آيت أحمد الثلاثة درسوا كلهم بسويسرا إلا أن أمه وأخوه وأخواته البنات كانوا مقيمين جميعا في المغرب، بل إن إحدى أخواته متزوجة بمحامي مغربي يدعى عبد الهادي بركة.
وبحثت عن معارفي في المغرب فتذكرت محمد محجوب أحرضان وزير الدفاع الذي استقبلته في الجزائر يوم 5 جويلية 1966 رفقة وفد عسكري مغربي رفيع المستوى مشكل من جنرال وعقيدين، زاروا الجزائر يوم استرجعنا جثمان الأمير عبد القادر الذي كان مدفونا في سوريا، وحضر أحرضان مراسيم إخرج جثمان الأمير من المطار.
قررت الذهاب مع آيت أحمد إلى المغرب وتجريب حظي مرة أخرى فلم يكن لي ما أخسر، فالتقينا مجددا في مدينة جنيف واتفقنا على موعد السفر إلى مدينة طنجة، وفي اليوم المحدد قابلت آيت أحمد وكان هذه المرة مرفوقا بزوجته وابنيه يوغرطة وصالح وابنته الصغرى بشرى التي لم تكن تتجاوز حينها 12 سنة
تكفل آيت أحمد بجميع مصاريف السفر، وحجز لنا مقاعد في الطائرة عبر الهاتف، وعندما دخلنا نفق مطار جنيف المؤدي إلى الطائرة تفاجأت عندما لمحت رجل مخابرات جزائري يدعى حسناوي يعمل بالخطوط الجوية الجزائرية وكان مجاهدا بالقاعدة الشرقية، ومن المؤكد أنه تعرف علي، ولكن الأمور سارت بسلام ووصلنا إلى مطار طنجة بدون مشاكل، ووجدنا في استقبالنا أفراد من عائلة آيت أحمد الذين أخذونا في السيارات إلى البيت.
أقمنا في بيت شقيق آيت أحمد والذي يسمى “محمد أمقران” الذي تكفل بنا بشكل تام، ولم يكن ينقصنا عنده شيء، وبعد أيام اتصل آيت أحمد بمحجوب أحرضان الذي لم يعد وزيرا للدفاع بل وزيرا للفلاحة وجاء لزيارتي في بيت آيت أحمد رفقة الجنرال أوفقير وزير الداخلية ونائبه محمد بلعالم كاتب الدولة للداخلية.
جلسنا وتبادلنا الآراء حول الوضع في الجزائر، وسألوني عن ملابسات واقعة 14 ديسمبر 1967 وعن وضعية الجيش الجزائري بعد هذه الواقعة فقلت لهم: بومدين أصبح يسيطر على السلطة، وكان أحرضان وأوفقير يعرفان أنه كان لي دور أساسي في الإطاحة ببن بلة الذي لم يكونا يحملان له محبة كبيرة لأنه احتضن المعارضة المغربية في الجزائر ومنح رموزها حق اللجوء السياسي وعلى رأسهم مهدي بن بركة الذي أقام في الجزائر، لكن المغرب من جهته هو الآخر احتضن معارضين جزائريين بارزين وعلى رأسهم محمد بوضياف وآيت أحمد وكريم بلقاسم ولبجاوي (متوفي).
إبعادي من سويسرا
واصلت الشرطة السويسرية بحثها الحثيث عني لإخراجي من سويسرا بأمر من أعلى السلطات الأمنية وعلى رأسهم مدير الأمن الفدرالي ونائبه، وبعد فترة من البحث تمكنوا من الوصول إليّ في فندق صغير بضواحي العاصمة لوزان، وأخذوني معهم واستجوبوني حول تحركاتي داخل التراب السويسري وعلاقتي بالمعارضة الجزائرية.
وقبل انتهاء الاستجواب أخبروني أنه ممنوع عليّ البقاء في سويسرا، فالشرطة الفدرالية السويسرية كانت تنظر إليّ على أني ضابط شاب أراد الانقلاب على رئيسه ومحاولة اغتياله، حيث حمّلوني مسؤولية محاولة اغتيال بومدين، وهي العملية التي أشرف على التخطيط لها الرائد عمار ملاح، لذلك كانوا غير متحمسين لبقائي في سويسرا.
كنت حينها مصاب بحمى شديدة وارتفعت درجة حرارتي لتصل إلى41 درجة، فقلت لهم إني مريض وبحاجة إلى العلاج هنا، فقال لي مدير الأمن الفدرالي السويسري:
ـ عندما ترغب في العلاج في سويسرا أرسل لنا أينما كنت لنبعث لك رخصة لتدخل إلى التراب السويسري شريطة أن لا تدوم مدة العلاج 15 يوما، كما بإمكانك أن تقاضي الحكومة السويسرية على قرار إبعادك، وبعد 24 ساعة من الآن إن لم تغادر التراب السويسري فسنضعك على الحدود التي نختارها نحن.
ـ كيف يحدث هذا، فأنا لاجئ سياسي هنا ولا أحمل معي الملايير حتى أتنقل من بلد إلى آخر، كما أني لا أقوم بأي نشاط سياسي على التراب السويسري.
ـ نحن لدينا مشاكل مع الحكومة الجزائرية، التي تحتجز طائرة عسكرية سويسرية كانت محملة بالأسلحة إلى مقاطعة “بيافرا” (كانت تسعى للانفصال عن نيجيريا، وأرسلت سويسرا طائرة محملة بالأسلحة إلى المتمردين البيافريين قبل أن تنزل الطائرة اضطراريا في الصحراء الجزائرية في مدينة عين أمناس، فألقى الجزائريون القبض على طاقم الطائرة بعد أن وجدوا أنها محملة بالأسلحة المتوجهة إلى بيافرا)، كما أن المشكل الثاني يتمثل في أن الإذاعة الجزائرية تبث على نفس الموجة التي تبث منها الإذاعة السويسرية، ونحن معها في نزاع قضائي في محكمة لاهاي، وهناك نزاع تجاري بيننا متعلق بالخمور، ونحن نسعى لحل هذه المشاكل مع الجزائر ولا نريد أن ندخل في مشكل آخر بسببك.
وكانت سويسرا التي تدعي الحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول غارقة إلى أخمص قدميها في النزاع الداخلي بنيجيريا من خلال دعمها للانفصاليين البيافريين بالسلاح، في الوقت الذي اتخذت الجزائر موقفا مساندا لوحدة نيجيريا، كما تمكنت الجزائر من اعتقال موييس تشومبي زعيم مقاطعة “كتنغا” المتمرد على حكومة الكونغو برازفيل عندما كان قادما من أوروبا في اتجاه المغرب مرورا بالأجواء الجزائرية، فأجبرت السلطات الجزائرية الطائرة التي كانت تقله على النزول وألقت عليه القبض، خاصة وأنه كان متهما بقتل باتريس لومومبا أحد زعماء التحرير الأفارقة البارزين ورئيس الكونغو.
لم يكن بيدي أي خيار فغادرت رفقة محمد شبيلة التراب السويسري إلى مدينة ميلانو الإيطالية التي بقيت فيها 15 يوما، وكنا نتنقل بالسيارة إلى عدة مدن أوروبية، وعندما أمرض أرسل طلبا للسلطات السويسرية للسماح لي بالعلاج على أراضيها، فكانوا يرسلون لي رخصة الدخول في ظرف قياسي لا يتجاوز أربعة أيام، ولحسن حظي لم تعط السلطات السويسرية تعليمات على مستوى الحدود لمنعنا من الدخول، فكنا ندخل ونخرج بحرية، حيث أقمت في مدينة شتوتغرت الألمانية القريبة من الحدود السويسرية على أمل أن تحل مشكلتي قريبا، ولكني بقيت 12 سنة في المنفى دون أن أتمكن من الحصول على اللجوء السياسي.
الصحفية الانجليزية “مارغاريت”
حاول حسين آيت أحمد مساعدتي في الحصول على اللجوء السياسي بسويسرا بالاستعانة بإحدى الصحافيات الانجليزيات التي لها علاقة بالاستخبارات البريطانية، حيث كان والدها ضابطا ساميا في الجيش الانجليزي برتبة عقيد، وكانت هذه الصحفية التي تدعى “مارغريت بوب” والمولودة في 1918 (كانت تكبرني بـ11 سنة) معروفة بدعمها لحركات التحرر ونضال الشعوب المستعمرة الراغبة في الاستقلال من الاستعمارين الانجليزي أو الفرنسي، وأجرت عدة لقاءات صحفية مع زعماء ثوريين في كل من الهند الصينية والمغرب وتونس، وفي هذه الأخيرة استطاعت أن تسرق ختم رئيس الحكومة التونسية الموالي لفرنسا من مكتبه وأن تسلمه لبورڤيبة الذي كان يقود حينها المعارضة التونسية المطالبة بالاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، كما ساعدت الشيوعيين في الصين بقيادة “ماوتسي تونغ” و”شوين لاي” الذي أصبح رئيس وزراء الصين الشعبية.
وسبق لهذه الصحفية أن قدمت خدمات جليلة لمخابرات الثورة الجزائرية في عهد عبد الحفيظ بوصوف الذي استعان بها في عدة مناسبات على غرار إرسالها إلى الصحراء الجزائرية في 1960 للتأكد إن كان متطرفو منظمة اليد الحمراء الإرهابية ينوون فعلا تفجير آبار النفط الجزائرية لإفشال مفاوضات إيفيان التي انطلقت، وذهبت مارغاريت إلى الصحراء وقابلت متطرفي الكولون واليد الحمراء وتأكدت من نواياهم الكيدية لتفجير آبار النفط، وجاءت بتقرير مفصل إلى بوصوف، وكتبت مقالات ساخنة في هذا الشأن لإحراج منظمة “اليد الحمراء” الإرهابية وإجهاض مخططاتها قبل الوصول إلى مرحلة التنفيذ، كما سرب لها الثوار معلومات حساسة قصد إيصالها إلى الرأي العام الأوروبي والعالمي وفضح المناورات الفرنسية وجرائم منظمة الجيش السري الإرهابية التي اغتالت عدة شخصيات ثورية وأحرقت عدة مرافق عمومية على غرار مكتبة الجامعة المركزية، وفجرت قنبلة بميناء الجزائر راح ضحيتها 50 عاملا جزائريا من الدواكرة، وكانت مارغاريت تنشر كل هذه الجرائم في الصحافة العالمية مبرزة همجية الاستعمار وساهمت بشكل أو بآخر في حشد تعاطف الرأي العام الدولي مع الثورة الجزائرية.
وبعد الاستقلال أقامت هذه الصحفية في الجزائر بشكل شبه دائم، ولكنها عندما أجرت حوارا مع آيت أحمد لما كان في جبال القبائل قرر أحمد بن بلة طردها نهائيا من الجزائر، فاستقرت في كندا وواصلت عملها في الصحافة إلى جانب تأليفها للكتب.
وافقت مارغاريت على استعمال علاقاتها الواسعة بالسلطات السويسرية لحثها على قبول لجوئي السياسي لديهم، وعرضت على آيت أحمد أن آتي لأقيم في بيتها في لوزان بينما يقيم محمد شبيلة عند صديقها، فقد كنت أرغب في دراسة الفرنسية بسويسرا، غير أن مساعيها لدى السلطات السويسرية باءت كلها بالفشل فوضعيتي كانت جد معقدة والمسؤولون السويسريون لم يكونوا على استعداد لتأزيم علاقاتهم مع الجزائر التي كانت تتمتع بسمعة دولية كبيرة بفضل الزخم الذي تركته الثورة الجزائرية، وأقمت في بيت هذه الصحفية لسنوات.
كانت مارغريت جامعة متنقلة بحق، فهي كاتبة صحفية وأستاذة في اللغة الانجليزية بإحدى الجامعات السويسرية وتتقن عدة لغات كالعربية والفرنسية والإيطالية إلى جانب الانجليزية، وزارت عدة بلدان والتقت عدة شخصيات عالمية مما أكسبها ثقافة واسعة، واستفدت كثيرا من تجاربها ومن مهنتها كصحفية وكأستاذة جامعية، وكعميلة سرية للمخابرات البريطانية أيضا فقد كنت أعلم بحقيقة هذا الأمر حتى وإن لم تخبرني به، فقد كانت المخابرات البريطانية ترسلها من حين إلى آخر إلى نقاط ساخنة من العالم للتحري والقيام بمهام محددة مثلما كان عليه الحال في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990).
ودامت علاقتي بمارغاريت حتى بعد عودتي من المنفى إلى الجزائر، حيث زارتني في بيتي بالجزائر سنة 1982، وتعرفت على زوجتي وبناتي، فقد كانت مارغاريت أكثر من أخت كبرى رغم اختلافنا في الدين والعرق واللغة.
أصبحت كالمشرد في هذا العالم فرغم شساعته لم أجد دولة تقبل بي كلاجئ سياسي لديها، فأزمتي مع بومدين كان لها صدا دوليا واسعا عاد عليّ بالضرر، وكأن بومدين صار ماردا يخشى العالم من سطوته، وبقيت هائما لسنوات في أوروبا متنقلا رفقة محمد شبيلة في السيارة باسم مستعار، ولم أكن أمكث في كل بلد سوى لمدة لا تتجاوز العشرين يوما حتى لا يكتشف أمري، في حين لم يكن شبيلة مضطرا لتغيير اسمه لأنه لم يكن معروفا ولا مطاردا مثلي، فقد كان شابا حذقا ومثقفا ويجيد اللغة الفرنسية والذي تعرفت عليه منذ 1956 .
من تونس إلى سويسرا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا وحتى المغرب الذي كان في خصومة مع الجزائر قضيت 12 سنة هائما بلا أرض أستقر بها.. وطوال هذه الفترة عرفت الكثير من الجزائريين المنفيين طوعا أو كرها ولكني لم أعرف منفيا عانى مثلما عانيته، فأينما حللت لم أجد مكانا يحتضنني، الكل يشهر في وجهي بطاقة المنع من الإقامة على أرضه.
فكرت في كل الدول التي يمكنها أن تقبلني كلاجئ سياسي لديها بما فيها البرتغال التي كانت تحت حكم سلازار الذي يعتبره الأوروبيون ديكتاتورا وطاغية، ورغبت في اللجوء إلى أي بلد عربي لأني كنت بحاجة إلى تهريب عائلتي من الجزائر عبر تونس، خاصة وأنهم كانوا يقيمون في مدينة الونزة التي لا تبعد عن الحدود التونسية إلا بـ15 كيلومترا.. كنت طريدا بلا وطن ولا أهل ولا بيت ولا نقود، سلوتي في هذه الحياة كان صديقي محمد شبيلة الوحيد الذي آنس وحشتي.
لقائي بكريم بلقاسم ومحاولة لجوئي إلى المغرب
قابلت كريم بلقاسم في سويسرا ثم في فرنسا في 1969، وتبادلنا النقاش حول الوضع في الجزائر، وحالة النظام الذي يقوده بومدين، وعبر كريم بلقاسم الذي كان خلال الثورة نائبا لرئيس الحكومة المؤقتة ووزيرا للقوات المسلحة عن معارضته الشديدة لنظام بومدين، والذي كان سببا مباشرا في إزاحته عن السلطة، رغم أنه كان أحد الرجال الأقوياء في ثورة التحرير منذ تفجيرها إلى غاية الاستقلال.
ورغب كريم بلقاسم على غرار آيت أحمد في إقناعي بضرورة الانخراط معه في حزبه المعارض الذي أسسه في المنفى، ولكني لم أكن متحمسا لذلك، كما أراد أن يعرف ما إذا كان مازال لدي قوة ونفوذ داخل الجيش يمكن الاستعانة بهما في حالة القيام بأي عمل ضد نظام بومدين.
وقبل أن نفترق أخبرني كريم أنه سيذهب إلى المغرب وعندما سيعود سنلتقي مجددا في سويسرا، لكني اغتنمت الفرصة وطلبت منه أن يجس نبض السلطات المغربية إن كانوا يقبلون بلجوئي السياسي عندهم، خاصة وأنني كنت على علم مسبق بالخلافات الموجودة بين نظام الملك الحسن الثاني ونظام بومدين.
فقال لي كريم: سأقيم أسبوعا في المغرب وعندها سأعود لك بردهم.
ولكن بعدما عاد كريم بلقاسم من الرباط أخبرني أن السلطات المغربية لا ترغب في أن أذهب إليهم في الوقت الحاضر، رغم أنه أخبرهم بأن حركة 14 ديسمبر التي قمت بها ضد بومدين كانت بإيعاز منه وأن حزبه المعارض كان يتبناها، بل وأنه هو من شجعني شخصيا إلى التمرد.
لكن عدم ترحيب المغرب على أرضه لم يمنعنِ من زيارته رفقة محمد شبيلة في خريف 1969، فتوجهنا من إسبانيا إلى المغرب عبر الباخرة وأقمنا لدى أقارب زوجته في دار البيضاء لمدة أربعة أيام، كما أقمنا ثلاثة أيام في مدينة طنجة، والتقينا هناك بالعديد من الجزائريين الذين قدموا لنا يد المساعدة.
ثم عدت إلى أوروبا بعد أن أعيانا مطاردة الأمن المغربي لنا ورفضهم إقامتنا عندهم، وحتى في فرنسا وجدنا نفس الرفض، فلا يمكن أن تنسى فرنسا بسهولة ما فعلنا بها في حرب التحرير، كما أن قضيتي مع بومدين جد حساسة، بالإضافة إلى أن المخابرات الجزائرية كانت تنشط بفرنسا ومع ذلك زرت خلال هذه الفترة فرنسا مرارا دون أن تلقي السلطات الفرنسية القبض عليّ رغم محاولتها توقيفي، حيث اتصل البوليس الفرنسي بأحمد محساس الذي خرج هو الآخر للمعارضة، وسألوه عني، لكنه لم يخبرهم بأي شيء، فقد كان محساس أحد الرجال الذين ساعدوني ماديا خلال هذه الفترة العصيبة من حياتي، وكذلك فعل أحد أعضاء ودادية الجزائر بفرنسا.
وخلال تواجدي على التراب الفرنسي التقيت مجددا بكريم بلقاسم، كما قابلت حسين آيت أحمد الذي أخبرني بأنه سيسافر إلى المغرب لزيارة عائلته التي كانت تقيم هناك باستثناء أبنائه الثلاثة الذين كانوا يدرسون في سويسرا، فقلت له:
ـ أرغب أنا أيضا في الذهاب إلى المغرب ولكنهم رفضوني.
وامتعض آيت أحمد عندما علم أن كريم بلقاسم توسط لي لدى السلطات المغربية حتى يقبلوا بي كلاجئ سياسي على ترابهم، وشعر وكأنني انضممت للحزب الذي أسسه كريم بلقاسم، ومع ذلك فقد عرض علينا أن يستضيفنا في بيته بالمغرب وقال:
ـ أنا ذاهب إلى العائلة وإذا أردتما الذهاب معي فأنتما وسط العائلة.
ورغم أن أبناء آيت أحمد الثلاثة درسوا كلهم بسويسرا إلا أن أمه وأخوه وأخواته البنات كانوا مقيمين جميعا في المغرب، بل إن إحدى أخواته متزوجة بمحامي مغربي يدعى عبد الهادي بركة.
وبحثت عن معارفي في المغرب فتذكرت محمد محجوب أحرضان وزير الدفاع الذي استقبلته في الجزائر يوم 5 جويلية 1966 رفقة وفد عسكري مغربي رفيع المستوى مشكل من جنرال وعقيدين، زاروا الجزائر يوم استرجعنا جثمان الأمير عبد القادر الذي كان مدفونا في سوريا، وحضر أحرضان مراسيم إخرج جثمان الأمير من المطار.
قررت الذهاب مع آيت أحمد إلى المغرب وتجريب حظي مرة أخرى فلم يكن لي ما أخسر، فالتقينا مجددا في مدينة جنيف واتفقنا على موعد السفر إلى مدينة طنجة، وفي اليوم المحدد قابلت آيت أحمد وكان هذه المرة مرفوقا بزوجته وابنيه يوغرطة وصالح وابنته الصغرى بشرى التي لم تكن تتجاوز حينها 12 سنة
تكفل آيت أحمد بجميع مصاريف السفر، وحجز لنا مقاعد في الطائرة عبر الهاتف، وعندما دخلنا نفق مطار جنيف المؤدي إلى الطائرة تفاجأت عندما لمحت رجل مخابرات جزائري يدعى حسناوي يعمل بالخطوط الجوية الجزائرية وكان مجاهدا بالقاعدة الشرقية، ومن المؤكد أنه تعرف علي، ولكن الأمور سارت بسلام ووصلنا إلى مطار طنجة بدون مشاكل، ووجدنا في استقبالنا أفراد من عائلة آيت أحمد الذين أخذونا في السيارات إلى البيت.
أقمنا في بيت شقيق آيت أحمد والذي يسمى “محمد أمقران” الذي تكفل بنا بشكل تام، ولم يكن ينقصنا عنده شيء، وبعد أيام اتصل آيت أحمد بمحجوب أحرضان الذي لم يعد وزيرا للدفاع بل وزيرا للفلاحة وجاء لزيارتي في بيت آيت أحمد رفقة الجنرال أوفقير وزير الداخلية ونائبه محمد بلعالم كاتب الدولة للداخلية.
جلسنا وتبادلنا الآراء حول الوضع في الجزائر، وسألوني عن ملابسات واقعة 14 ديسمبر 1967 وعن وضعية الجيش الجزائري بعد هذه الواقعة فقلت لهم: بومدين أصبح يسيطر على السلطة، وكان أحرضان وأوفقير يعرفان أنه كان لي دور أساسي في الإطاحة ببن بلة الذي لم يكونا يحملان له محبة كبيرة لأنه احتضن المعارضة المغربية في الجزائر ومنح رموزها حق اللجوء السياسي وعلى رأسهم مهدي بن بركة الذي أقام في الجزائر، لكن المغرب من جهته هو الآخر احتضن معارضين جزائريين بارزين وعلى رأسهم محمد بوضياف وآيت أحمد وكريم بلقاسم ولبجاوي (متوفي).
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 19
وفاة بومدين… صعود الشادلي و مؤامرات القذافي
الرئيس الأسبق شادلي بن جديد
ا
في الحلقة الأخيرة وليست الآخرة ستكتفي الشروق بالتوقف عند تفاصيل عودة العقيد الطاهر زبيري من منفاه الاضطراري إلى أرض الوطن، مع الإشارة إلى أن عدة فصول والكثير من التفاصيل التي لم تنشرها الشروق موجودة في كتاب “نصف قرن من الكفاح: مذكرات قائد أركان جزائري”، الذي سيكون متواجدا بالمكتبات في مختلف أنحاء الوطن مع نهاية هذا الأسبوع بإذن الله.
ملحمة محاكمة ضباط حركة 14 ديسمبر
بعد أيام قضيناها في المغرب توجهنا إلى إسبانيا مع آيت أحمد وافترقنا هناك، حيث مكثنا ثلاثة أيام، وفي تلك الفترة (1969) عادت قضية الضباط المشاركين في حركة 14 ديسمبر 1967 إلى واجهة الأحداث بإعلان بداية محاكمتهم، وكان الإعدام الحكم المتوقع في مثل هذه الحالات، ولم يكن بإمكاني أن أبقى مكتوف الأيدي إزاء هذا الخطر المحدق بأخلص رجالي، ولم يكن من الصدفة أيضا أن تتزامن بداية محاكمتهم مع انطلاق المهرجان الثقافي الإفريقي الذي سعى بومدين من خلاله إلى التغطية على هذه المحاكمة.
اتصلت بأشهر المحامين في المغرب على غرار بوستة الذي كان وزيرا سابقا للعدل، واتصلت بعلال الفاسي رئيس حزب الاستقلال المغربي، والمحامي معطي بوعبيد، وآخر يسمى “تبر”، وتحدثت مع نائب رئيس اتحاد المحامين العرب وهو مغربي ويسمى يوسفي (أصبح فيما بعد رئيسا للحكومة) ووافق لحضور المحاكمة كملاحظ، ولكن السلطات الجزائرية منعته، كما منعت جميع المحامين المغربيين من دخول الجزائر للمرافعة لصالح ضباط حركة 14 ديسمبر باستثناء واحد منهم ويدعى “برادة” والذي شغل أيضا منصب مدير جريدة العلم المغربية والذي تمكن من دخول الجزائر وقابل الضباط المسجونين لكن عندما اكتشفوا أمره منعوه من المرافعة لصالح موكليه، ورغم أن محمد شبيلة رجع إلى المغرب لتشجيع المحامين المغربيين على حضور المحاكمة، إلا أنهم اعتذروا عن المرافعة لصالحهم في ظل هذه الظروف.
وتنقلت إلى لوزان وإلى تونس ووكلت محامين آخرين للدفاع عن ضباط حركة 14 ديسمبر، كما قام أقارب الضباط المعتقلين بتوكيل محامين جزائريين كان من بينهم علي هارون الذي وصل في 1992 إلى منصب عضو في المجلس الأعلى للدولة.
بومدين: لن أضحي بالعباد في العيد الذي يضحى فيه بالكباش
وعندما صدر حكم الإعدام في حق أبرز ضباط الحركة من قادة الفيالق، لم أيأس وسعيت بمساعدة الصحفية مارغريت إلى الضغط على بومدين بكل الوسائل من أجل عدم تنفيذ أحكام الإعدام، رغم أنه حكم عليّ أنا الآخر بالإعدام غيابيا، وهي المرة الثانية في حياتي التي يصدر في حقي حكم بالإعدام بعد ذلك الذي نطقت به محكمة استعمارية في 1955 ولكني تمكنت من الفرار حينها من السجن رفقة البطل مصطفى بن بولعيد و9 مجاهدين آخرين.
قامت مارغريت بكتابة هذه الرسالة، وتبنيت عملية محاولة اغتيال بومدين، رغم أنني لم أكن على علم بها أصلا، ولكني تحمّلت المسؤولية لأفعل أيّ شيء من شأنه إبعاد حبل المشنقة عن رقاب قادة الفيالق، وأكدت بأن هؤلاء الضباط ليسوا مسؤولين عن هذه الحركة التي قدتها، لأنهم لم يقوموا سوى بتنفيذ الأوامر التي أعطيت لهم، ولو لم يستجيبوا لذلك فهذا يعني أنهم ضباط ليسوا في المستوى لأنهم غير ملتزمين بواجب الطاعة لمن هم أعلى درجة منهم في سلم القيادة.
صورنا عشرات النسخ من هذه الرسالة، وجمعناهم في كيس وضعناه في السيارة، ولأنني كنت ممنوعا من ممارسة أي نشاط سياسي في سويسرا فقد اقترحت على مارغريت الذهاب إلى النمسا بالسيارة لإرسال هذه الرسائل عبر البريد، كنت مصابا حينها بالتهاب الحنجرة واشتد عليّ المرض ومع ذلك سقت السيارة من سويسرا إلى النمسا، وكانت مارغريت ترسل كمية من الرسائل في كل محطة وترجع إلى السيارة إلى أن وصلنا إلى مدينة “سان سبيري”، 15 كيلومتر داخل الحدود النمساوية، حينها أنهكني المرض ولم يبق في جسدي قوة تستجيب لروحي المتقدة، فقلت لمارغاريت: لا يمكنني أن أواصل أكثر.
أخذتني مارغريت إلى فندق قريب وأجرت لنا غرفة، وجاءتني بالطبيب، واعتنت بي طيلة أربعة أيام أكثر من والدتي، فقد كانت تحترمني لأنني أمازيغي من أصول شاوية، وكانت تحب الأمازيغ وسبق لها أن اتصلت بآيت أحمد عندما كان متحصنا بجبال القبائل.
أرسلنا هذه الرسالة من لوزان إلى جمال عبد الناصر وإلى العديد من الزعماء ووزراء الدفاع وقادة الأركان في الوطن العربي وفي مختلف دول العالم كالاتحاد السوفياتي، لعل فيهم من يضغط على بومدين لتجميد تنفيذ حكم الإعدام، كما أجريت حوارا مع صحفي فرنسي يعمل في جريدة “لوفيغارو” كان صديقا لمحمد شبيلة حيث أقمنا في بيته لمدة أسبوع.
واستجاب بومدين لهذا الضغط ولم ينفذ حكم الإعدام في حق ضباط حركة 14 ديسمبر، وسمعت أنه بعد سنوات من صدور هذا الحكم جاءه وزير الداخلية في عيد الأضحى وطلب منه أن يرخص له بتنفيذ الحكم الصادر بحقهم، لكن بومدين أبى ذلك وقال له مستهجنا “إذا كان الناس يضحون بالكباش فلن أضحي بالعباد يوم العيد”.
الأسد، والأتاسي وبوتفليقة
عندما انقلب وزير الدفاع السوري حافظ الأسد في 1970 على نظام الرئيس الأتاسي لجأ هذا الأخير رفقة وزير خارجيته إبراهيم ماخوس ومعهما خوري إلى الجزائر، فقد كانوا أصدقاء لوزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي كان له دور في منحهم اللجوء السياسي بالجزائر، خاصة وأنهم شاركوا في ثورة التحرير الجزائرية كأطباء وعالجوا الكثير من المجاهدين الجرحى على الحدود الجزائرية التونسية.
غير أن النظام الجديد بقيادة حافظ الأسد لم يكن ينظر بعين الرضا لقبول الجزائر إيواء خصومه السياسيين لديها، لذلك حاول الاتصال بي عن طريق عقيد في المخابرات السورية يدعى غازي كنعان (وزير الداخلية الأسبق الذي يقال إنه مات منتحرا بسبب ورود اسمه في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري)، لأنه كان يعتقد بأنني أحضر أمرا ما ضد نظام بومدين، وربما كانوا حينها على استعداد لمناقشة تقديم دعم في هذا الخصوص للانتقام من بومدين الذي احتضن المعارضة السورية في الجزائر.
سمع غازي كنعان بأنني موجود في طنجة بالمغرب فطار إليها لعله يلقاني بها وكان ذلك في 1970، وسأل عني هناك ولكنه لم يجدن، ولكن آيت أحمد أخبرني عن طريق وسيط بأن هذا الضابط أرسله قائد أركان الجيش السوري المدعو أحمد سويداني لمقابلتي في الرباط ولكنه لم يجدن.
لقائي بالرئيس حافظ الأسد
في 1970 زرت لبنان في رحلة البحث عن موطئ قدم أستطيع أن أستقر فيه مع عائلتي، وفي مطعم صغير ببيروت جلست أتناول غدائي وكانت تقابلني في مائدة أخرى سيدة فرنسية، وبالصدفة جاءت وكلمتني وتعرفت عليّ وقدمت نفسها على أنها صحفية فرنسية، وتبادلنا أطراف الحديث ثم مشينا في الخارج قليلا، واكتشفت بأنها شقيقة سفير فرنسا في الهند، وأخبرتها عن رغبتي في السفر إلى سوريا، فقالت لي: أعرف العقيد غازي كنعان ويمكنني أن آخذك إليه لمساعدتك.
تبيّن لي لحظتها بأن هذه الصحفية تعمل أيضا في مجال الجوسسة، حيث كانت تعرف جيدا أين يمكن أن تجد العقيد غازي كنعان أحد ضباط المخابرات السورية البارزين والذي كان له مكتب في بيروت.
أخذتني هذه الصحفية الفرنسية إلى مكتب العقيد كنعان الذي قال لي: “سآخذك إلى دمشق.. الرئيس الأسد يريد رؤيتك”، ثم سألني إن كان لي أي تنظيم مسلح داخل الجزائر، فقلت له نافيا: “تركت كل شيء في الجزائر”.
أقمت في فيلا بدمشق 20 يوما في انتظار مقابلة الرئيس الأسد، ووضعوا امرأة عجوزا في خدمتي، حيث كانت تقوم بشؤون المنزل وتحضر لي الطعام والشاي، كما كان العقيد كنعان يزورني يوميا ويأخذني في زيارة لمناطق سياحية بالعاصمة، إلى أن تم تحديد موعد مقابلتي للرئيس الأسد.
لم أكن أعرف في سوريا سوى الرئيس حافظ الأسد الذي التقيته في 1967 عندما كنت قائدا للأركان وكان هو وزيرا للدفاع، وخلال لقائي به مجددا كنت أرغب في أن أطلب منه سكنا لأقيم فيه مع عائلتي، ولكن حديثنا اقتصر حول ملابسات أزمتي مع بومدين وكذلك حول انقلابه على الرئيس الأتاسي، حيث زج بالسجن صالح الجديد وزعيم، ولكن الأسد كان جد متضايق من منح الجزائر للدكتور حداد وماخوس اللجوء السياسي، وسألني الأسد عن ماخوس، فقلت له: أعلم بأنه في الجزائر لكن ليس لدي تفاصيل عنه.
جرى لقائي بالرئيس حافظ الأسد في سرية تامة وسادته برودة قاتلة، فقد كان النظام الجديد في سوريا متخوفا من تأزيم العلاقة مع بومدين رغم استيائه لاستقبال خصومه اللدودين، وشعرت وكأن السوريين كانوا يخشون من أن تصل أخبار هذا اللقاء إلى سفير الجزائر بدمشق والذي من غرائب الصدف أنه كان أحد أصدقائي وكنت من اقترحه لهذا المنصب عندما كنت قائدا للأركان.
منحني السوريون نحو ألفي ليرة سورية، وعدت إلى بيروت أين التقيت بالصحفية الفرنسية مجددا، والتي تعاطفت معي وقررت مساعدتي كي أتمكن من إحضار أسرتي للإقامة في دمشق، حيث تنقلت مرارا بين بيروت ودمشق، ولكن رغم البرودة التي كانت تميز العلاقات بين نظامي بومدين والأسد إلا أن هذا الأخير لم يجرؤ على الدخول في أزمة ديبلوماسية مع الجزائر التي كانت تتمتع برصيد تاريخي كبير وهيبة بين الأمم بفضل الزخم الذي تركته ثورة الجزائر، ولحد الآن لم أفهم لماذا لم يساعدني حافظ الأسد هل تقديرا واحتراما للجزائر أم خوفا من بومدين، رغم أن إبراهيم ماخوس يتهم نظام الأسد بمحاولة اغتياله خمس مرات في الجزائر لكن هذه المحاولات باءت بالفشل بفضل الحماية الأمنية التي كانت توفرها له الجزائر.
القذافي أراد تحرير بن بله لكنه لم يجرؤ على تحدي بومدين
في الفاتح سبتمبر 1969 وصل العقيد معمر القذافي إلى السلطة في ليبيا بعد أن أطاح بالنظام الملكي السنوسي، وكان هذا الرجل يكنّ احتراما شديدا لأحمد بن بله، واتصل مبعوثو العقيد القذافي بأحمد محساس في باريس وسألوه عني، إذ أنهم كانوا يعتقدون بأنني بعد أزمتي مع بومدين ندمت لمساعدتي إياه في الإطاحة بأحمد بن بله فرغبوا في الاتصال بي لحاجة في أنفسهم.
والتقيت مجددا بمحساس في باريس (سنة 1972) وأخبرني أن السلطات الليبية تسأل عني، فقلت له: قضيتي الآن أين أضع بناتي.
ولم يطل بي المقام حتى عدت إلى بيروت ومنها توجهت إلى طرابلس واستأجرت غرفة في أحد الفنادق، ثم توجهت مباشرة إلى وزارة الداخلية الليبية، وقلت لهم: سمعت بأنكم تفتشون عني، وأعطيتهم عنوان الفندق الذي سأقيم فيه، وأبديت لهم رغبتي في مقابلة وزير الداخلية وقائد الثورة العقيد معمر القذافي.
جاءني وكيل وزارة الداخلية الليبية إلى الفندق وحاول أن يعرف وزني السياسي والعسكري في الجزائر وطبيعة علاقتي ببن بله وعن أزمتي مع بومدين، وقبل أن نفترق طرحت عليه رغبتي في الإقامة في ليبيا مع أسرتي، فقال لي: سنرى قائد ثورة الفاتح سبتمبر.. أعطنا رقم هاتفك حتى يمكننا أن نتصل بك لنبعث لك إعانة.
لم أكن من ذلك الصنف الذي يكذب أو يخادع للوصول إلى مآربه، وهذا ما جعل نظام ثورة الفاتح يرفض إقامتي في طرابلس لأنه لم ير أنني أمثل له ورقة ضغط يمكنه أن يلعب بها ضد نظام بومدين، كما أنني لم أكن صديقا لبن بله ولم أندم لتحالفي مع بومدين للإطاحة به لأن ذلك كانت له مسبباته التي شرحتها في هذا الكتاب، ويبدو أن العقيد القذافي كان يرغب في إيجاد طريقة ما لتحرير أحمد بن بله وإعادته إلى السلطة ولو بتشجيع العسكريين الجزائريين بالانقلاب على بومدين.
قبل أن أغادر ليبيا شدد علي مسؤولوها على ضرورة أن لا يسمع النظام الجزائري بأنهم استقبلوني في بلدهم، فطلبت منهم حينها أن يأتوني بتذاكر سفر إلى باريس فجاؤوا بها إلي دون إبطاء، وبدل أن يأخذوني إلى مطار طرابلس توجهوا بي في سيارة مرسيدس إلى مطار بنغازي البعيد عن العاصمة بأزيد من ألف كيلومتر وفي جو حار وليلا وفي شهر رمضان، خوفا من أن يكتشف رجال المخابرات الجزائريون المنتشرون في طرابلس تواجدي في ليبيا مما كان قد يسبب أزمة ما بين العقيد بومدين والعقيد القذافي هو في غنًى عنها.
لم نصل إلى مطار بنغازي إلا بعد بزوغ الفجر وفي حالة إجهاد شديدة بسبب طول الطريق، مما جعلني أشعر بالاستياء وأقسم بعدم العودة إلى هذا البلد، حتى أن سفيرا ليبيًا في الجزائر سألني بعد سنوات طويلة من عودتي من المنفى عن سبب عدم زيارتي لهم، فقلت له بشكل صريح “أنا لا أحب السلطات الليبية والسويسرية”.
وفاة بومدين وصعود الشاذلي بن جديد
بعد وفاة بومدين في ديسمبر 1978، بانت لي تباشير الأمل في إمكانية العودة إلى الجزائر، فأرسلت أسرتي إلى أرض الوطن، وبقيت في باريس أنتظر إلى من ستؤول إليه مقاليد الأمور في البلاد، خاصة وأني سمعت كلاما حول إمكانية اختيار العقيد محمد الصالح يحياوي خلفا لبومدين بما أنه كان على رأس حزب جبهة التحرير الوطني، فلم أرد أن أضايقه بالدخول إلى الجزائر.
لكن ظهر اسم آخر منافس ليحياوي على رئاسة الجمهورية هو عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية آنذاك المعروف بذكائه وحنكته، وكان بومدين يرسله للمهمات الصعبة.
وفي خضم هذا التنافس على الرئاسة ظهر اسم لم يخطر على بال إنه “العقيد الشاذلي بن جديد” الذي بدأ نضاله الثوري كضابط صغير في المنطقة الأولى (القالة) بالقاعدة الشرقية، معروف بكونه إنسان هادئ ومحبوب بين المجاهدين ولم يكن يتميز بالصرامة ولم تظهر عليه تطلعات للقيادة، وعندما تولى بومدين قيادة الأركان العامة في الثورة رقاه إلى رتبة أعلى في القيادة الشمالية للحدود الشرقية، وبعد الاستقلال وبالضبط في 1965 قام بومدين بترقية الشاذلي بن جديد مرة أخرى إلى رتبة رائد وكلفه بقيادة الناحية العسكرية الثانية (وهران).
العودة إلى أرض الوطن
شرع الشاذلي بن جديد في التحضير للمؤتمر الرابع للحزب، وفي نفس الوقت اجتمعت مع أبرز المعارضين في الخارج واقترحت عليهم أن ننشر الرسالة التي حررها محساس في 1976 في الصحافة والتي دعونا فيها إلى إعادة تنظيم مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني الذي نظمه بومدين في نفس السنة، كما اقترحت على محساس وأحمد قايد العودة إلى الجزائر للمشاركة في مؤتمر الحزب الذي قرر الشاذلي بن جديد عقده.
وبعد انعقاد مؤتمر الحزب الذي انتخب الشاذلي بن جديد أمينا عاما له، أرسلت رسالة إلى الشاذلي عبر الرائد أوسليمان الذي كان تحت قيادتي في الفيلق الثالث بالقاعدة الشرقية، ورسالة أخرى عبر العقيد عبد الله بلهوشات الذي كان مقربا من الرئيس الجديد، أكدت على أنني سأدخل الجزائر في الفاتح نوفمبر 1979 وإن أرادوا اعتقالي فليفعلوا وكتبت له فيها “أنت تعرف قضيتي جيدا وقد تركتك تنظم المؤتمر وتصبح رئيسا للدولة ولكني في أول نوفمبر سأدخل إلى الجزائر”.
وبعد شهر من وفاة بومدين اُطلق سراح جماعتي خاصة المحكوم عليهم بالإعدام بعفو رئاسي من الشاذلي بن جديد الذي بعث لي الهادي لخذيري ـ الذي أصبح فيما بعد وزيرا للداخلية ـ لمحاولة ثنيي عن دخول الجزائر في هذا الظرف، كما أرسل لي مصطفى بلوصيف الذي عينه أمينا عاما لوزارة الدفاع وصهري العياشي حواسنية لإقناعي بعدم دخول الجزائر في الفاتح نوفمبر (عيد الثورة) لأن الشاذلي يحاول تهدئة الوضع.
وفي ديسمبر 1979 أصدر الشاذلي بن جديد عفوا رئاسيا عني وعن بن بله وأصبح يحق لي أن أدخل الجزائر بعد 13 سنة قضيتها ضائعا في المنفى وحكم غيابي بالإعدام يلاحقني، وعندما سمع مقلاتي وجماعته باعتزامي دخول الجزائر أواخر عام 1980 وجهوا دعوات للناس لاستقبالي في المطار، لكن الهادي لخذيري وزير الداخلية والعقيد بلهوشات رفضوا هذا الأمر وأرادوا أن يتم دخولي إلى الجزائر في هدوء وذلك بإيعاز من الشاذلي.
ووضعت قدمي على أرضية مطار الجزائر الدولي في نوفمبر 1980 وكان في استقبالي كل من الهادي لخذيري وقنيفذ وعبد الحميد سعايدي وعبد المجيد بوزيد، ثم زارني في البيت الذي أجرته أسرتي بعد طردها من مقر إقامتي منذ 1970 بعد خروجي إلى المنفى عدد كبير من الأصدقاء والرفاق والمسؤولين وإطارات في الدولة الذين هنأوني بالعودة سالما إلى أرض الوطن بعد نحو 13 سنة في المنفى الاضطراري.
ا
في الحلقة الأخيرة وليست الآخرة ستكتفي الشروق بالتوقف عند تفاصيل عودة العقيد الطاهر زبيري من منفاه الاضطراري إلى أرض الوطن، مع الإشارة إلى أن عدة فصول والكثير من التفاصيل التي لم تنشرها الشروق موجودة في كتاب “نصف قرن من الكفاح: مذكرات قائد أركان جزائري”، الذي سيكون متواجدا بالمكتبات في مختلف أنحاء الوطن مع نهاية هذا الأسبوع بإذن الله.
ملحمة محاكمة ضباط حركة 14 ديسمبر
بعد أيام قضيناها في المغرب توجهنا إلى إسبانيا مع آيت أحمد وافترقنا هناك، حيث مكثنا ثلاثة أيام، وفي تلك الفترة (1969) عادت قضية الضباط المشاركين في حركة 14 ديسمبر 1967 إلى واجهة الأحداث بإعلان بداية محاكمتهم، وكان الإعدام الحكم المتوقع في مثل هذه الحالات، ولم يكن بإمكاني أن أبقى مكتوف الأيدي إزاء هذا الخطر المحدق بأخلص رجالي، ولم يكن من الصدفة أيضا أن تتزامن بداية محاكمتهم مع انطلاق المهرجان الثقافي الإفريقي الذي سعى بومدين من خلاله إلى التغطية على هذه المحاكمة.
اتصلت بأشهر المحامين في المغرب على غرار بوستة الذي كان وزيرا سابقا للعدل، واتصلت بعلال الفاسي رئيس حزب الاستقلال المغربي، والمحامي معطي بوعبيد، وآخر يسمى “تبر”، وتحدثت مع نائب رئيس اتحاد المحامين العرب وهو مغربي ويسمى يوسفي (أصبح فيما بعد رئيسا للحكومة) ووافق لحضور المحاكمة كملاحظ، ولكن السلطات الجزائرية منعته، كما منعت جميع المحامين المغربيين من دخول الجزائر للمرافعة لصالح ضباط حركة 14 ديسمبر باستثناء واحد منهم ويدعى “برادة” والذي شغل أيضا منصب مدير جريدة العلم المغربية والذي تمكن من دخول الجزائر وقابل الضباط المسجونين لكن عندما اكتشفوا أمره منعوه من المرافعة لصالح موكليه، ورغم أن محمد شبيلة رجع إلى المغرب لتشجيع المحامين المغربيين على حضور المحاكمة، إلا أنهم اعتذروا عن المرافعة لصالحهم في ظل هذه الظروف.
وتنقلت إلى لوزان وإلى تونس ووكلت محامين آخرين للدفاع عن ضباط حركة 14 ديسمبر، كما قام أقارب الضباط المعتقلين بتوكيل محامين جزائريين كان من بينهم علي هارون الذي وصل في 1992 إلى منصب عضو في المجلس الأعلى للدولة.
بومدين: لن أضحي بالعباد في العيد الذي يضحى فيه بالكباش
وعندما صدر حكم الإعدام في حق أبرز ضباط الحركة من قادة الفيالق، لم أيأس وسعيت بمساعدة الصحفية مارغريت إلى الضغط على بومدين بكل الوسائل من أجل عدم تنفيذ أحكام الإعدام، رغم أنه حكم عليّ أنا الآخر بالإعدام غيابيا، وهي المرة الثانية في حياتي التي يصدر في حقي حكم بالإعدام بعد ذلك الذي نطقت به محكمة استعمارية في 1955 ولكني تمكنت من الفرار حينها من السجن رفقة البطل مصطفى بن بولعيد و9 مجاهدين آخرين.
قامت مارغريت بكتابة هذه الرسالة، وتبنيت عملية محاولة اغتيال بومدين، رغم أنني لم أكن على علم بها أصلا، ولكني تحمّلت المسؤولية لأفعل أيّ شيء من شأنه إبعاد حبل المشنقة عن رقاب قادة الفيالق، وأكدت بأن هؤلاء الضباط ليسوا مسؤولين عن هذه الحركة التي قدتها، لأنهم لم يقوموا سوى بتنفيذ الأوامر التي أعطيت لهم، ولو لم يستجيبوا لذلك فهذا يعني أنهم ضباط ليسوا في المستوى لأنهم غير ملتزمين بواجب الطاعة لمن هم أعلى درجة منهم في سلم القيادة.
صورنا عشرات النسخ من هذه الرسالة، وجمعناهم في كيس وضعناه في السيارة، ولأنني كنت ممنوعا من ممارسة أي نشاط سياسي في سويسرا فقد اقترحت على مارغريت الذهاب إلى النمسا بالسيارة لإرسال هذه الرسائل عبر البريد، كنت مصابا حينها بالتهاب الحنجرة واشتد عليّ المرض ومع ذلك سقت السيارة من سويسرا إلى النمسا، وكانت مارغريت ترسل كمية من الرسائل في كل محطة وترجع إلى السيارة إلى أن وصلنا إلى مدينة “سان سبيري”، 15 كيلومتر داخل الحدود النمساوية، حينها أنهكني المرض ولم يبق في جسدي قوة تستجيب لروحي المتقدة، فقلت لمارغاريت: لا يمكنني أن أواصل أكثر.
أخذتني مارغريت إلى فندق قريب وأجرت لنا غرفة، وجاءتني بالطبيب، واعتنت بي طيلة أربعة أيام أكثر من والدتي، فقد كانت تحترمني لأنني أمازيغي من أصول شاوية، وكانت تحب الأمازيغ وسبق لها أن اتصلت بآيت أحمد عندما كان متحصنا بجبال القبائل.
أرسلنا هذه الرسالة من لوزان إلى جمال عبد الناصر وإلى العديد من الزعماء ووزراء الدفاع وقادة الأركان في الوطن العربي وفي مختلف دول العالم كالاتحاد السوفياتي، لعل فيهم من يضغط على بومدين لتجميد تنفيذ حكم الإعدام، كما أجريت حوارا مع صحفي فرنسي يعمل في جريدة “لوفيغارو” كان صديقا لمحمد شبيلة حيث أقمنا في بيته لمدة أسبوع.
واستجاب بومدين لهذا الضغط ولم ينفذ حكم الإعدام في حق ضباط حركة 14 ديسمبر، وسمعت أنه بعد سنوات من صدور هذا الحكم جاءه وزير الداخلية في عيد الأضحى وطلب منه أن يرخص له بتنفيذ الحكم الصادر بحقهم، لكن بومدين أبى ذلك وقال له مستهجنا “إذا كان الناس يضحون بالكباش فلن أضحي بالعباد يوم العيد”.
الأسد، والأتاسي وبوتفليقة
عندما انقلب وزير الدفاع السوري حافظ الأسد في 1970 على نظام الرئيس الأتاسي لجأ هذا الأخير رفقة وزير خارجيته إبراهيم ماخوس ومعهما خوري إلى الجزائر، فقد كانوا أصدقاء لوزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي كان له دور في منحهم اللجوء السياسي بالجزائر، خاصة وأنهم شاركوا في ثورة التحرير الجزائرية كأطباء وعالجوا الكثير من المجاهدين الجرحى على الحدود الجزائرية التونسية.
غير أن النظام الجديد بقيادة حافظ الأسد لم يكن ينظر بعين الرضا لقبول الجزائر إيواء خصومه السياسيين لديها، لذلك حاول الاتصال بي عن طريق عقيد في المخابرات السورية يدعى غازي كنعان (وزير الداخلية الأسبق الذي يقال إنه مات منتحرا بسبب ورود اسمه في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري)، لأنه كان يعتقد بأنني أحضر أمرا ما ضد نظام بومدين، وربما كانوا حينها على استعداد لمناقشة تقديم دعم في هذا الخصوص للانتقام من بومدين الذي احتضن المعارضة السورية في الجزائر.
سمع غازي كنعان بأنني موجود في طنجة بالمغرب فطار إليها لعله يلقاني بها وكان ذلك في 1970، وسأل عني هناك ولكنه لم يجدن، ولكن آيت أحمد أخبرني عن طريق وسيط بأن هذا الضابط أرسله قائد أركان الجيش السوري المدعو أحمد سويداني لمقابلتي في الرباط ولكنه لم يجدن.
لقائي بالرئيس حافظ الأسد
في 1970 زرت لبنان في رحلة البحث عن موطئ قدم أستطيع أن أستقر فيه مع عائلتي، وفي مطعم صغير ببيروت جلست أتناول غدائي وكانت تقابلني في مائدة أخرى سيدة فرنسية، وبالصدفة جاءت وكلمتني وتعرفت عليّ وقدمت نفسها على أنها صحفية فرنسية، وتبادلنا أطراف الحديث ثم مشينا في الخارج قليلا، واكتشفت بأنها شقيقة سفير فرنسا في الهند، وأخبرتها عن رغبتي في السفر إلى سوريا، فقالت لي: أعرف العقيد غازي كنعان ويمكنني أن آخذك إليه لمساعدتك.
تبيّن لي لحظتها بأن هذه الصحفية تعمل أيضا في مجال الجوسسة، حيث كانت تعرف جيدا أين يمكن أن تجد العقيد غازي كنعان أحد ضباط المخابرات السورية البارزين والذي كان له مكتب في بيروت.
أخذتني هذه الصحفية الفرنسية إلى مكتب العقيد كنعان الذي قال لي: “سآخذك إلى دمشق.. الرئيس الأسد يريد رؤيتك”، ثم سألني إن كان لي أي تنظيم مسلح داخل الجزائر، فقلت له نافيا: “تركت كل شيء في الجزائر”.
أقمت في فيلا بدمشق 20 يوما في انتظار مقابلة الرئيس الأسد، ووضعوا امرأة عجوزا في خدمتي، حيث كانت تقوم بشؤون المنزل وتحضر لي الطعام والشاي، كما كان العقيد كنعان يزورني يوميا ويأخذني في زيارة لمناطق سياحية بالعاصمة، إلى أن تم تحديد موعد مقابلتي للرئيس الأسد.
لم أكن أعرف في سوريا سوى الرئيس حافظ الأسد الذي التقيته في 1967 عندما كنت قائدا للأركان وكان هو وزيرا للدفاع، وخلال لقائي به مجددا كنت أرغب في أن أطلب منه سكنا لأقيم فيه مع عائلتي، ولكن حديثنا اقتصر حول ملابسات أزمتي مع بومدين وكذلك حول انقلابه على الرئيس الأتاسي، حيث زج بالسجن صالح الجديد وزعيم، ولكن الأسد كان جد متضايق من منح الجزائر للدكتور حداد وماخوس اللجوء السياسي، وسألني الأسد عن ماخوس، فقلت له: أعلم بأنه في الجزائر لكن ليس لدي تفاصيل عنه.
جرى لقائي بالرئيس حافظ الأسد في سرية تامة وسادته برودة قاتلة، فقد كان النظام الجديد في سوريا متخوفا من تأزيم العلاقة مع بومدين رغم استيائه لاستقبال خصومه اللدودين، وشعرت وكأن السوريين كانوا يخشون من أن تصل أخبار هذا اللقاء إلى سفير الجزائر بدمشق والذي من غرائب الصدف أنه كان أحد أصدقائي وكنت من اقترحه لهذا المنصب عندما كنت قائدا للأركان.
منحني السوريون نحو ألفي ليرة سورية، وعدت إلى بيروت أين التقيت بالصحفية الفرنسية مجددا، والتي تعاطفت معي وقررت مساعدتي كي أتمكن من إحضار أسرتي للإقامة في دمشق، حيث تنقلت مرارا بين بيروت ودمشق، ولكن رغم البرودة التي كانت تميز العلاقات بين نظامي بومدين والأسد إلا أن هذا الأخير لم يجرؤ على الدخول في أزمة ديبلوماسية مع الجزائر التي كانت تتمتع برصيد تاريخي كبير وهيبة بين الأمم بفضل الزخم الذي تركته ثورة الجزائر، ولحد الآن لم أفهم لماذا لم يساعدني حافظ الأسد هل تقديرا واحتراما للجزائر أم خوفا من بومدين، رغم أن إبراهيم ماخوس يتهم نظام الأسد بمحاولة اغتياله خمس مرات في الجزائر لكن هذه المحاولات باءت بالفشل بفضل الحماية الأمنية التي كانت توفرها له الجزائر.
القذافي أراد تحرير بن بله لكنه لم يجرؤ على تحدي بومدين
في الفاتح سبتمبر 1969 وصل العقيد معمر القذافي إلى السلطة في ليبيا بعد أن أطاح بالنظام الملكي السنوسي، وكان هذا الرجل يكنّ احتراما شديدا لأحمد بن بله، واتصل مبعوثو العقيد القذافي بأحمد محساس في باريس وسألوه عني، إذ أنهم كانوا يعتقدون بأنني بعد أزمتي مع بومدين ندمت لمساعدتي إياه في الإطاحة بأحمد بن بله فرغبوا في الاتصال بي لحاجة في أنفسهم.
والتقيت مجددا بمحساس في باريس (سنة 1972) وأخبرني أن السلطات الليبية تسأل عني، فقلت له: قضيتي الآن أين أضع بناتي.
ولم يطل بي المقام حتى عدت إلى بيروت ومنها توجهت إلى طرابلس واستأجرت غرفة في أحد الفنادق، ثم توجهت مباشرة إلى وزارة الداخلية الليبية، وقلت لهم: سمعت بأنكم تفتشون عني، وأعطيتهم عنوان الفندق الذي سأقيم فيه، وأبديت لهم رغبتي في مقابلة وزير الداخلية وقائد الثورة العقيد معمر القذافي.
جاءني وكيل وزارة الداخلية الليبية إلى الفندق وحاول أن يعرف وزني السياسي والعسكري في الجزائر وطبيعة علاقتي ببن بله وعن أزمتي مع بومدين، وقبل أن نفترق طرحت عليه رغبتي في الإقامة في ليبيا مع أسرتي، فقال لي: سنرى قائد ثورة الفاتح سبتمبر.. أعطنا رقم هاتفك حتى يمكننا أن نتصل بك لنبعث لك إعانة.
لم أكن من ذلك الصنف الذي يكذب أو يخادع للوصول إلى مآربه، وهذا ما جعل نظام ثورة الفاتح يرفض إقامتي في طرابلس لأنه لم ير أنني أمثل له ورقة ضغط يمكنه أن يلعب بها ضد نظام بومدين، كما أنني لم أكن صديقا لبن بله ولم أندم لتحالفي مع بومدين للإطاحة به لأن ذلك كانت له مسبباته التي شرحتها في هذا الكتاب، ويبدو أن العقيد القذافي كان يرغب في إيجاد طريقة ما لتحرير أحمد بن بله وإعادته إلى السلطة ولو بتشجيع العسكريين الجزائريين بالانقلاب على بومدين.
قبل أن أغادر ليبيا شدد علي مسؤولوها على ضرورة أن لا يسمع النظام الجزائري بأنهم استقبلوني في بلدهم، فطلبت منهم حينها أن يأتوني بتذاكر سفر إلى باريس فجاؤوا بها إلي دون إبطاء، وبدل أن يأخذوني إلى مطار طرابلس توجهوا بي في سيارة مرسيدس إلى مطار بنغازي البعيد عن العاصمة بأزيد من ألف كيلومتر وفي جو حار وليلا وفي شهر رمضان، خوفا من أن يكتشف رجال المخابرات الجزائريون المنتشرون في طرابلس تواجدي في ليبيا مما كان قد يسبب أزمة ما بين العقيد بومدين والعقيد القذافي هو في غنًى عنها.
لم نصل إلى مطار بنغازي إلا بعد بزوغ الفجر وفي حالة إجهاد شديدة بسبب طول الطريق، مما جعلني أشعر بالاستياء وأقسم بعدم العودة إلى هذا البلد، حتى أن سفيرا ليبيًا في الجزائر سألني بعد سنوات طويلة من عودتي من المنفى عن سبب عدم زيارتي لهم، فقلت له بشكل صريح “أنا لا أحب السلطات الليبية والسويسرية”.
وفاة بومدين وصعود الشاذلي بن جديد
بعد وفاة بومدين في ديسمبر 1978، بانت لي تباشير الأمل في إمكانية العودة إلى الجزائر، فأرسلت أسرتي إلى أرض الوطن، وبقيت في باريس أنتظر إلى من ستؤول إليه مقاليد الأمور في البلاد، خاصة وأني سمعت كلاما حول إمكانية اختيار العقيد محمد الصالح يحياوي خلفا لبومدين بما أنه كان على رأس حزب جبهة التحرير الوطني، فلم أرد أن أضايقه بالدخول إلى الجزائر.
لكن ظهر اسم آخر منافس ليحياوي على رئاسة الجمهورية هو عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية آنذاك المعروف بذكائه وحنكته، وكان بومدين يرسله للمهمات الصعبة.
وفي خضم هذا التنافس على الرئاسة ظهر اسم لم يخطر على بال إنه “العقيد الشاذلي بن جديد” الذي بدأ نضاله الثوري كضابط صغير في المنطقة الأولى (القالة) بالقاعدة الشرقية، معروف بكونه إنسان هادئ ومحبوب بين المجاهدين ولم يكن يتميز بالصرامة ولم تظهر عليه تطلعات للقيادة، وعندما تولى بومدين قيادة الأركان العامة في الثورة رقاه إلى رتبة أعلى في القيادة الشمالية للحدود الشرقية، وبعد الاستقلال وبالضبط في 1965 قام بومدين بترقية الشاذلي بن جديد مرة أخرى إلى رتبة رائد وكلفه بقيادة الناحية العسكرية الثانية (وهران).
العودة إلى أرض الوطن
شرع الشاذلي بن جديد في التحضير للمؤتمر الرابع للحزب، وفي نفس الوقت اجتمعت مع أبرز المعارضين في الخارج واقترحت عليهم أن ننشر الرسالة التي حررها محساس في 1976 في الصحافة والتي دعونا فيها إلى إعادة تنظيم مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني الذي نظمه بومدين في نفس السنة، كما اقترحت على محساس وأحمد قايد العودة إلى الجزائر للمشاركة في مؤتمر الحزب الذي قرر الشاذلي بن جديد عقده.
وبعد انعقاد مؤتمر الحزب الذي انتخب الشاذلي بن جديد أمينا عاما له، أرسلت رسالة إلى الشاذلي عبر الرائد أوسليمان الذي كان تحت قيادتي في الفيلق الثالث بالقاعدة الشرقية، ورسالة أخرى عبر العقيد عبد الله بلهوشات الذي كان مقربا من الرئيس الجديد، أكدت على أنني سأدخل الجزائر في الفاتح نوفمبر 1979 وإن أرادوا اعتقالي فليفعلوا وكتبت له فيها “أنت تعرف قضيتي جيدا وقد تركتك تنظم المؤتمر وتصبح رئيسا للدولة ولكني في أول نوفمبر سأدخل إلى الجزائر”.
وبعد شهر من وفاة بومدين اُطلق سراح جماعتي خاصة المحكوم عليهم بالإعدام بعفو رئاسي من الشاذلي بن جديد الذي بعث لي الهادي لخذيري ـ الذي أصبح فيما بعد وزيرا للداخلية ـ لمحاولة ثنيي عن دخول الجزائر في هذا الظرف، كما أرسل لي مصطفى بلوصيف الذي عينه أمينا عاما لوزارة الدفاع وصهري العياشي حواسنية لإقناعي بعدم دخول الجزائر في الفاتح نوفمبر (عيد الثورة) لأن الشاذلي يحاول تهدئة الوضع.
وفي ديسمبر 1979 أصدر الشاذلي بن جديد عفوا رئاسيا عني وعن بن بله وأصبح يحق لي أن أدخل الجزائر بعد 13 سنة قضيتها ضائعا في المنفى وحكم غيابي بالإعدام يلاحقني، وعندما سمع مقلاتي وجماعته باعتزامي دخول الجزائر أواخر عام 1980 وجهوا دعوات للناس لاستقبالي في المطار، لكن الهادي لخذيري وزير الداخلية والعقيد بلهوشات رفضوا هذا الأمر وأرادوا أن يتم دخولي إلى الجزائر في هدوء وذلك بإيعاز من الشاذلي.
ووضعت قدمي على أرضية مطار الجزائر الدولي في نوفمبر 1980 وكان في استقبالي كل من الهادي لخذيري وقنيفذ وعبد الحميد سعايدي وعبد المجيد بوزيد، ثم زارني في البيت الذي أجرته أسرتي بعد طردها من مقر إقامتي منذ 1970 بعد خروجي إلى المنفى عدد كبير من الأصدقاء والرفاق والمسؤولين وإطارات في الدولة الذين هنأوني بالعودة سالما إلى أرض الوطن بعد نحو 13 سنة في المنفى الاضطراري.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
اخترت الانضباط على التمرد.واستقلت في 88 بسبب خلاف مع زروال
بعد ورود اسمه في مذكرات العقيد الطاهر الزبيري، في عدة قضايا، منها موقفه من الانقلاب على الراحل هواري بومدين في 1967، وخلافه مع الرئيس الأسبق، الجنرال اليمين زروال، الذي انتهى باستقالة الأخير من قيادة القوات البرية، اتصلنا بالجنرال المتقاعد ووزير الدفاع الأسبق، خالد نزار، لإثراء النقاش حول جملة من النقاط، فكانت هذه التوضيحات.
يقول خالد نزار، معلقا على ما جاء في كتاب الطاهر الزبيري بشأن عدم وقوفه إلى جانب قائد الانقلاب ضد الرئيس الراحل هواري بومدين: “كان موقفي واضحا منذ البداية، وهو الوقوف مع النظام ممثلا في شخص الرئيس هواري بومدين..ربما كان ينتظر مني تحريك القوات التي كانت تحت إمرتي في عين الصفرة بحكم حجمها، وهي مكونة من لواء واحد، لكني تعاملت مع القضية وفق أبجديات العسكري المنضبط”.
صهر الزبيري يحل بـ “مشرية”
غير أن التزام نزار بعدم الانجرار وراء قادة الانقلاب، لم يمنع أحد أقرب المقربين منه وهو نائبه، المدعو أوسليمان محمد، من العمل سرا لصالح الطاهر الزبيري، ويقول إنه اكتشف هذا الأمر، من خلال الجنرال المتقاعد، أحمد جنوحات، الذي أخبره بأن أوسليمان، موجود بالعاصمة، وهو الذي أرسله نزار إلى وهران في مهمة. وأن خالد نزار لم يتم الاتصال به مباشرة من قبل رجال الطاهر الزبيري، ويضيف: “استغربت للأمر، وبعد التحريات التي قمت بها توصلت إلى أن نائبي التقى العقيد الطاهر الزبيري بالعاصمة، لكن من دون أن أعرف ما دار بينهما.. غير أنه سرعان ما عرفت الحقيقة بعد أن حل صهر الطاهر الزبيري، المدعو حسناوي العياشي، بمشرية، قصد زعزعة استقرار اللواء. ولما اتصل بضباط اللواء، وتبين له عدم تحقيق هدفه، قال لهم: إذا تطلب الأمر “نكتّف” (يعني نقيّد) خالد نزار”، غير أن أوسليمان رد عليه أن خالد نزار ما “يتكتف” نظرا لتحكّمه في رجاله.
بعدما تعقدت الأزمة على مستوى القيادات العليا، اتصل الرئيس الشاذلي قائد الناحية الثانية آنذاك، بخالد نزار ليخبره بقيام حالة الطوارئ لأن قوات كثيرة تحركت نحو العاصمة انطلاقا من الشريعة والأصنام متجهة نحو البليدة.
وبحسب نزار فإن الخلافات بين بومدين والطاهر الزبيري، ظهرت للعيان في الاحتفال بمناسبة أول نوفمبر العام 1967، ويقول إنه لاحظ غياب الزبيري عن الحفل السنوي الذي عادة ما تنظمه وزارة الدفاع الوطني، وقد ناب عنه الكولونيل عباس، وقد أخبره محمد لكحل عياط، مسؤول المخابرات في الثمانينيات، بوجود مشاكل بين الرئيس وقائد أركانه.
حميمية مع العماري ومتقلبة مع زروال
ويعتبر الجنرال المتقاعد اليمين زروال من رفاق المسيرة العسكرية لخالد نزار، ويؤكد ذلك السنين الطوال التي قضاها الرجلان جنبا إلى جنب في العمل داخل المؤسسة العسكرية، والتي امتدت لما يقارب عقدين من الزمن، بحيث كان زروال قائد لواء معه في تندوف (1976 / 1977)، إلى جانب الجنرال المتقاعد محمد العماري، الذي كان نائبا لزروال يومها.
لكن قرب الرجلين من بعضهما لم يمنع من وقوع حادثة فيما بعد كانت سببا في انسحاب أحدهما، وبينما اعتقد الكثير من إطارات المؤسسة العسكرية، أن زروال حسم مسألة الخلاف الذي نشب بينه وبين نزار، في 1988 بخصوص إعادة هيكلة الجيش وعصرنته، لصالحه، دارت الدائرة عليه، بعد أن حرر نزار استقالته وأودعها لدى الأمين العام لوزارة الدفاع يومها، العقيد مصطفى شلوفي.
يقول عضو المجلس الأعلى للدولة سابقا: “في 1988، قدمت مقترحات للشاذلي بشأن إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وعصرنتها، وهي في عمومها محاولة لمركزة قيادة الجيش وإعادة تنظيم وتشكيل وحداته، وقبلها الرئيس، رغم اعتراض البعض. بقيت طيلة ستة أشهر أشرح المشروع محاولا إقناع المعارضين الذين هم قبل كل شيء زملائي، لكنني كنت مصمما على المشروع ولو كلفني الاستقالة. بعدها عُينت رئيسا للأركان، وعين اليمين زروال ليحل مكاني في قيادة القوات البرية”.
كنت أنا وزروال في ثكنة واحدة بعين النعجة على بعد أمتار من مقر القوات البرية، يقول نزار، وطلبت منه أن يستمر في مشروع إعادة هيكلة الجيش، الذي نال موافقة رئيس الجمهورية، ويتابع: “علمت بأن زروال كان ينوي طرح مشروعه لتحديث الجيش، فأرسلت إليه محمد العماري (قائد أركان لاحقا)، ليذكره بما اتفقنا عليه، ولم أمانع في أن يدخل تعديلات تحمل بصماته، لكن من دون أن يدمر كل بنيته طيلة عام كامل”.
صراع واستقالة
بدا الرئيس السابق اليامين زروال مصمما على أن يفرض وجهة نظره في العمل، وإمعانا في ذلك، يقول نزار: “طلب زروال مقابلتي بعد أن أكمل خطة عمله وقدم لي الملف.. أطلعت عليه وقلت له: لم نتفق على هذا.. تمسك كل طرف بموقفه، وبقي الاحتكام إلى الرئيس. وجهت تقريرا للشاذلي وأرسلت نسخة منه إلى زروال، لكن المدة طالت ولم أتلق ردا من الرئيس، ولما اتصلت به قال لي إني استقبلت زروال، قبل أن يشرع في التبرير..ففهمت أنه اختار صف زروال بتأثير من أشخاص”- رفض الإفصاح عن هويتهم رغم إصرارنا على ذكرهم- .
ولأول مرة يكشف وزير الدفاع السابق أنه قدم استقالته في 1988، بسبب خلافه مع زروال، يقول: “أودعت الاستقالة لدى وزارة الدفاع، انتظرت مدة ولم يرد علي الشاذلي. وذات يوم ناداني رئيس الديوان بالرئاسة، الجنرال العربي بلخير، وقال لي إن الرئيس الشاذلي طلب مني عرض مشروعي لإعادة هيكلة الجيش مرة أخرى وأمام كل الضباط المعنيين.. تساءلت مع نفسي عن أي مشروع يتحدث، اعتقدت أنه كان يقصد مشروعا يوفق بين ما اقترحته وما اقترحه زروال، لكنني أصررت على تقديم مشروعي الأصلي.. وبعد الاجتماع تكلم الرئيس قائلا: “يا إخواني اتفقنا على المشروع الأول فليطبق” وبعد أن رفعت الجلسة التف بعض الضباط في الساحة حول زروال وفهمت حينها أنه استقال”.
وبحسب المتحدث فإن زروال لما علم باستقالته (نزار) تأثر كثيرا، ووعده باحترام مشروعه لتحديث الجيش في حال عدوله عن الاستقالة، وهي الحادثة التي كانت سببا في عودة اليمين زروال إلى المؤسسة العسكرية من بابها الواسع وزيرا للدفاع، ثم رئيسا للدولة، إثر رفض بوتفليقة تولي المنصب في ندوة الوفاق الوطني العام 1994 .
نهاية مأسوية للعلاقة مع زروال
وتبقى الحادثة التي أثرت كثيرا في نزار، هي الطريقة التي أعفي بها من مهامه كجنرال في الجيش، يقول المتحدث: “لما عينت زروال وزيرا للدفاع ورئيسا للدولة، هيأت له المحيط لاختيار الفريق الذي يختاره للعمل معه، عبرت عن رغبتي في الخلود للراحة، غير أنه رفض ذلك وطلب مني البقاء في المؤسسة العسكرية ولو من دون مهام، على الأقل من باب توفير الحماية الأمنية، خاصة وأنني تعرضت لمحاولة اغتيال، فنزلت عند رغبته”، وتابع: “بقيت طيلة عام جنرالا من دون مهام، وذات مرة جاءني دركي دراج (موتار)، برسالة، ففوجئت بأنها طلب إعفاء، موقع من محمد العماري، بصفته قائد أركان، من مهامي في المؤسسة العسكرية. لم أستغرب، لكن الطريقة لم تعجبني. فمزقتها.. كان على زروال أن يناديني ونجلس على فنجان قهوة، وينتهي الأمرفي ودّ.. ومنذ ذلك اليوم لم ألتق زروال إلى يومنا هذا، باستثناء مكالمة منه لما توفي شقيقي.
قصة نائب الرئيس
وفي سياق آخر، نفى نزار أن يكون قد اشترط توليه منصب نائب الرئيس في حال قبول بوتفليقة عرض توليه الرئاسة في 1994، وقال: “التقيت بوتفليقة في “دار العافية” بحيدرة مرتين.. لمست تساؤلات من بوتفليقة حول الكثير من الأمور، وطلب مهلة 15 يوما للتفكير، ولما التقينا مرة أخرى، طمأنته وقلت له سأكون معك نائبا في البداية، من باب تسهيل الأمور عليه، وكان معنا مسؤول المخابرات الجنرال محمد مدين، المدعو توفيق، فطلب مهلة أخرى للتفكير لمدة يومين، وبعدها جاءني الجنرال توفيق وقال لي، إنه يريد أن يكون رئيسا من دون نائب.. فقلت الحمد لله إنه “هناني”.
بعد ورود اسمه في مذكرات العقيد الطاهر الزبيري، في عدة قضايا، منها موقفه من الانقلاب على الراحل هواري بومدين في 1967، وخلافه مع الرئيس الأسبق، الجنرال اليمين زروال، الذي انتهى باستقالة الأخير من قيادة القوات البرية، اتصلنا بالجنرال المتقاعد ووزير الدفاع الأسبق، خالد نزار، لإثراء النقاش حول جملة من النقاط، فكانت هذه التوضيحات.
يقول خالد نزار، معلقا على ما جاء في كتاب الطاهر الزبيري بشأن عدم وقوفه إلى جانب قائد الانقلاب ضد الرئيس الراحل هواري بومدين: “كان موقفي واضحا منذ البداية، وهو الوقوف مع النظام ممثلا في شخص الرئيس هواري بومدين..ربما كان ينتظر مني تحريك القوات التي كانت تحت إمرتي في عين الصفرة بحكم حجمها، وهي مكونة من لواء واحد، لكني تعاملت مع القضية وفق أبجديات العسكري المنضبط”.
صهر الزبيري يحل بـ “مشرية”
غير أن التزام نزار بعدم الانجرار وراء قادة الانقلاب، لم يمنع أحد أقرب المقربين منه وهو نائبه، المدعو أوسليمان محمد، من العمل سرا لصالح الطاهر الزبيري، ويقول إنه اكتشف هذا الأمر، من خلال الجنرال المتقاعد، أحمد جنوحات، الذي أخبره بأن أوسليمان، موجود بالعاصمة، وهو الذي أرسله نزار إلى وهران في مهمة. وأن خالد نزار لم يتم الاتصال به مباشرة من قبل رجال الطاهر الزبيري، ويضيف: “استغربت للأمر، وبعد التحريات التي قمت بها توصلت إلى أن نائبي التقى العقيد الطاهر الزبيري بالعاصمة، لكن من دون أن أعرف ما دار بينهما.. غير أنه سرعان ما عرفت الحقيقة بعد أن حل صهر الطاهر الزبيري، المدعو حسناوي العياشي، بمشرية، قصد زعزعة استقرار اللواء. ولما اتصل بضباط اللواء، وتبين له عدم تحقيق هدفه، قال لهم: إذا تطلب الأمر “نكتّف” (يعني نقيّد) خالد نزار”، غير أن أوسليمان رد عليه أن خالد نزار ما “يتكتف” نظرا لتحكّمه في رجاله.
بعدما تعقدت الأزمة على مستوى القيادات العليا، اتصل الرئيس الشاذلي قائد الناحية الثانية آنذاك، بخالد نزار ليخبره بقيام حالة الطوارئ لأن قوات كثيرة تحركت نحو العاصمة انطلاقا من الشريعة والأصنام متجهة نحو البليدة.
وبحسب نزار فإن الخلافات بين بومدين والطاهر الزبيري، ظهرت للعيان في الاحتفال بمناسبة أول نوفمبر العام 1967، ويقول إنه لاحظ غياب الزبيري عن الحفل السنوي الذي عادة ما تنظمه وزارة الدفاع الوطني، وقد ناب عنه الكولونيل عباس، وقد أخبره محمد لكحل عياط، مسؤول المخابرات في الثمانينيات، بوجود مشاكل بين الرئيس وقائد أركانه.
حميمية مع العماري ومتقلبة مع زروال
ويعتبر الجنرال المتقاعد اليمين زروال من رفاق المسيرة العسكرية لخالد نزار، ويؤكد ذلك السنين الطوال التي قضاها الرجلان جنبا إلى جنب في العمل داخل المؤسسة العسكرية، والتي امتدت لما يقارب عقدين من الزمن، بحيث كان زروال قائد لواء معه في تندوف (1976 / 1977)، إلى جانب الجنرال المتقاعد محمد العماري، الذي كان نائبا لزروال يومها.
لكن قرب الرجلين من بعضهما لم يمنع من وقوع حادثة فيما بعد كانت سببا في انسحاب أحدهما، وبينما اعتقد الكثير من إطارات المؤسسة العسكرية، أن زروال حسم مسألة الخلاف الذي نشب بينه وبين نزار، في 1988 بخصوص إعادة هيكلة الجيش وعصرنته، لصالحه، دارت الدائرة عليه، بعد أن حرر نزار استقالته وأودعها لدى الأمين العام لوزارة الدفاع يومها، العقيد مصطفى شلوفي.
يقول عضو المجلس الأعلى للدولة سابقا: “في 1988، قدمت مقترحات للشاذلي بشأن إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وعصرنتها، وهي في عمومها محاولة لمركزة قيادة الجيش وإعادة تنظيم وتشكيل وحداته، وقبلها الرئيس، رغم اعتراض البعض. بقيت طيلة ستة أشهر أشرح المشروع محاولا إقناع المعارضين الذين هم قبل كل شيء زملائي، لكنني كنت مصمما على المشروع ولو كلفني الاستقالة. بعدها عُينت رئيسا للأركان، وعين اليمين زروال ليحل مكاني في قيادة القوات البرية”.
كنت أنا وزروال في ثكنة واحدة بعين النعجة على بعد أمتار من مقر القوات البرية، يقول نزار، وطلبت منه أن يستمر في مشروع إعادة هيكلة الجيش، الذي نال موافقة رئيس الجمهورية، ويتابع: “علمت بأن زروال كان ينوي طرح مشروعه لتحديث الجيش، فأرسلت إليه محمد العماري (قائد أركان لاحقا)، ليذكره بما اتفقنا عليه، ولم أمانع في أن يدخل تعديلات تحمل بصماته، لكن من دون أن يدمر كل بنيته طيلة عام كامل”.
صراع واستقالة
بدا الرئيس السابق اليامين زروال مصمما على أن يفرض وجهة نظره في العمل، وإمعانا في ذلك، يقول نزار: “طلب زروال مقابلتي بعد أن أكمل خطة عمله وقدم لي الملف.. أطلعت عليه وقلت له: لم نتفق على هذا.. تمسك كل طرف بموقفه، وبقي الاحتكام إلى الرئيس. وجهت تقريرا للشاذلي وأرسلت نسخة منه إلى زروال، لكن المدة طالت ولم أتلق ردا من الرئيس، ولما اتصلت به قال لي إني استقبلت زروال، قبل أن يشرع في التبرير..ففهمت أنه اختار صف زروال بتأثير من أشخاص”- رفض الإفصاح عن هويتهم رغم إصرارنا على ذكرهم- .
ولأول مرة يكشف وزير الدفاع السابق أنه قدم استقالته في 1988، بسبب خلافه مع زروال، يقول: “أودعت الاستقالة لدى وزارة الدفاع، انتظرت مدة ولم يرد علي الشاذلي. وذات يوم ناداني رئيس الديوان بالرئاسة، الجنرال العربي بلخير، وقال لي إن الرئيس الشاذلي طلب مني عرض مشروعي لإعادة هيكلة الجيش مرة أخرى وأمام كل الضباط المعنيين.. تساءلت مع نفسي عن أي مشروع يتحدث، اعتقدت أنه كان يقصد مشروعا يوفق بين ما اقترحته وما اقترحه زروال، لكنني أصررت على تقديم مشروعي الأصلي.. وبعد الاجتماع تكلم الرئيس قائلا: “يا إخواني اتفقنا على المشروع الأول فليطبق” وبعد أن رفعت الجلسة التف بعض الضباط في الساحة حول زروال وفهمت حينها أنه استقال”.
وبحسب المتحدث فإن زروال لما علم باستقالته (نزار) تأثر كثيرا، ووعده باحترام مشروعه لتحديث الجيش في حال عدوله عن الاستقالة، وهي الحادثة التي كانت سببا في عودة اليمين زروال إلى المؤسسة العسكرية من بابها الواسع وزيرا للدفاع، ثم رئيسا للدولة، إثر رفض بوتفليقة تولي المنصب في ندوة الوفاق الوطني العام 1994 .
نهاية مأسوية للعلاقة مع زروال
وتبقى الحادثة التي أثرت كثيرا في نزار، هي الطريقة التي أعفي بها من مهامه كجنرال في الجيش، يقول المتحدث: “لما عينت زروال وزيرا للدفاع ورئيسا للدولة، هيأت له المحيط لاختيار الفريق الذي يختاره للعمل معه، عبرت عن رغبتي في الخلود للراحة، غير أنه رفض ذلك وطلب مني البقاء في المؤسسة العسكرية ولو من دون مهام، على الأقل من باب توفير الحماية الأمنية، خاصة وأنني تعرضت لمحاولة اغتيال، فنزلت عند رغبته”، وتابع: “بقيت طيلة عام جنرالا من دون مهام، وذات مرة جاءني دركي دراج (موتار)، برسالة، ففوجئت بأنها طلب إعفاء، موقع من محمد العماري، بصفته قائد أركان، من مهامي في المؤسسة العسكرية. لم أستغرب، لكن الطريقة لم تعجبني. فمزقتها.. كان على زروال أن يناديني ونجلس على فنجان قهوة، وينتهي الأمرفي ودّ.. ومنذ ذلك اليوم لم ألتق زروال إلى يومنا هذا، باستثناء مكالمة منه لما توفي شقيقي.
قصة نائب الرئيس
وفي سياق آخر، نفى نزار أن يكون قد اشترط توليه منصب نائب الرئيس في حال قبول بوتفليقة عرض توليه الرئاسة في 1994، وقال: “التقيت بوتفليقة في “دار العافية” بحيدرة مرتين.. لمست تساؤلات من بوتفليقة حول الكثير من الأمور، وطلب مهلة 15 يوما للتفكير، ولما التقينا مرة أخرى، طمأنته وقلت له سأكون معك نائبا في البداية، من باب تسهيل الأمور عليه، وكان معنا مسؤول المخابرات الجنرال محمد مدين، المدعو توفيق، فطلب مهلة أخرى للتفكير لمدة يومين، وبعدها جاءني الجنرال توفيق وقال لي، إنه يريد أن يكون رئيسا من دون نائب.. فقلت الحمد لله إنه “هناني”.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 21
الرائد لخضر بورقعة يثري شهادات طاهر الزبيري ويكشف بومدين كان يدبر الانقلابات للهروب من الأزمات
الرائد لخضر بورقعة يثري شهادات طاهر الزبيري ويكشف
بومدين كان يدبر الانقلابات للهروب من الأزمات
كنا مع أي تمرد ضد الهواري الذي نجح بدهائه في ترسيخ شعور "الولد المدلل" لدى الزبيري قال الرائد لخضر بورقعة، القيادي في الولاية الرابعة التاريخية، إن تعيين العقيد الطاهر الزبيري، رئيسا لأركان الجيش الوطني الشعبي في 1963، جاء في إطار اتفاق تم بين الرئيس الأسبق أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد، الذي كان يقود تمردا مسلحا بمنطقة القبائل، أثناء هجوم الجيش المغربي على بشار، فيما عرف بـ "حرب الرمال"، وليس من طرف هواري بومدين مثلما هو شائع.
وأوضح بورقعة أن هجوم الجيش المغربي على الحدود الجنوبية الغربية للبلاد في خريف 1963، شكل فرصة حقيقية لتجاوز المشاكل التي كانت تعاني منها البلاد، غير أن بومدين كان لها بالمرصاد بالوقوف في طريق قرارات تمت مع بن بلة، وقال: "في الثالث من أكتوبر 1963، كان حسين آيت أحمد يقود تمردا في منطقة القبائل. كنت واحدا من رجاله، ولما سمعنا بهجوم الجيش المغربي على التراب الوطني، قررنا لقاء الرئيس بن بلة دون ترتيبات مسبقة".
وتابع القيادي بالولاية الرابعة التاريخية، في لقاء مع الشروق: "كنت برفقة حسين آيت أحمد والدكتور هرموش سعيد أرزقي، طبيب الولاية الرابعة. اتصلنا بأحمد فتال وكان يومها المدير العام للأمن الوطني، ليرافقنا إلى "فيلا جولي" (مقر إقامة بن بلة). وصلنا في حدود العاشرة ليلا، استقبلنا بروتوكول الرئاسة. ولما دخلنا الفيلا، خاطب بن بلة آيت أحمد قائلا: لم أكن أتوقع يوما أن يرفع حسين السلاح في وجهي، فرد آيت أحمد: لم أكن أتوقع يوما أن يقوم بن بلة برمي محمد بوضياف في السجن".
انتقل الطرفان، يقول المتحدث إلى الجدية وعيا بالمخاطر التي تحيق بالبلاد في تلك الآونة، وقد طبعت الجلسة نوعا من البرودة بسبب أرواح الضحايا الذين سقطوا في حرب الداخل بين الإخوة الفرقاء، ثم لم يلبث أن توجه آيت أحمد بسؤال لأحمد بن بلة قائلا: "من البادئ؟" في إشارة إلى عدوان المغرب على التراب الوطني.
آيت أحمد وبورقعة في "فيلا جولي"
لم يرد بن بلة مباشرة على السؤال، بل تعداه إلى الواقع على الأرض، وقال: "المغاربة أخذوا حاسي بيضاء وهم يحاصرون بشار الآن". عندها رفع آيت أحمد ثلاثة مطالب عاجلة، أولها إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين (مثل فرحات عباس، محمد بوضياف..)، وثانيها تكوين لجنة لتحضير مؤتمر يكون جامعا وشاملا في 1964، وثالثا: تكوين قيادة للجيش الوطني الشعبي تضم عضوا من كل ولاية من الولايات التاريخية الست، مع بقاء بومدين وزيرا للدفاع.
وفي غياب بومدين، تم الاتفاق على تعيين العقيد الطاهر الزبيري، قائدا للأركان، وهو الذي كان قائدا للولاية الأولى التاريخية، باعتباره مجاهدا من الرعيل الأول كان مرافقا لمصطفى بن بولعيد، والطاهر بودربالة ممثلا عن الولاية الثانية، وحسن محيوز عن الولاية الثالثة، ومحمد شعباني عن الولاية السادسة، والكولونيل عباس عن الخامسة، وقد اقترحت يقول بورقعة، لأمثل الولاية الرابعة، غير أنني رفضت، فاستبدلت بالرائد محمد بوسماحة.
وبحسب المتحدث، فإن بومدين الذي كان يومها وزيرا للدفاع وقد كان غائبا عن اللقاء بسبب الحرب مع الجارة المغرب، لم يوافق سوى على تعيين الطاهر الزبيري على رأس قيادة الأركان.. وهو ما عطل إنهاء أزمة منطقة القبائل، وفي هذا الصدد يقول بورقعة: "بعد انتهاء الاجتماع غادر الجميع إلى بيت آيت أحمد بالأبيار، وقد وجدنا محمد خيدر هناك، وعلمت بأن زوجتي آيت أحمد وخيدر شقيقتان". وتابع المتحدث: "كلفني آيت أحمد بنقل الجنود الذين كانوا في جبال القبائل إلى البليدة كي يتوجهوا نحو الحدود..ولما وصلوا رفض بومدين اندماجهم في الجيش وعزلهم في مكان معين دون مؤونة، ومع ذلك هاجموا الجيش المغربي وتوغلوا في ترابه لأكثر من 50 كيلومترا".
إعدام آيت أحمد وذكرى شعباني
انتظر الجميع ترسيم الاتفاق ببثه في التلفزيون والإذاعة، لكن الأمر طال ولم يظهر له أثر في الإعلام الرسمي، ففهم الجميع الرسالة، وفي الليلة الموالية غادر آيت أحمد العاصمة متوجها إلى معقله في بلاد القبائل إلى أن تم القبض عليه.
ويعتقد صاحب كتاب "شاهد على اغتيال الثورة" أن بومدين وقف ضد اتفاق بن بلة وآيت أحمد، لإطالة أمد أزمة القبائل، لأهداف محسوبة بدقة، وهي تحميل الرئيس بن بلة وزر تلك الأزمة، وبحسب بورقعة فإن بومدين كان يضغط على بن بلة بعد القبض على آيت أحمد، من أجل أن يحكم بالإعدام على قائد تمرد منطقة القبائل، وهو ما حصل، وقد فهم الجميع عندها أن الرئيس هو المسؤول وليس وزير دفاعه، كما حصل تماما في قضية شعباني، وفي ذلك أوراق رابحة يمكن لبومدين استغلالها لاحقا..
وقد حاول بورقعة رفقة الصادق دهيليس والأستاذ بلحسين، التوسط لدى بن بلة لتفادي تكرار كارثة العقيد شعباني، غير أن بن بلة رفض استقبال الثلاثة، الذين حاولوا الكرة مع محمود زرطال، الذي كان مدعيا عاما في قضية محاكمة شعباني، وربما كانت نجاة زعيم جبهة القوى الاشتراكية من الإعدام، أحد الأسباب التي كانت وراء انقلاب بومدين على بن بلة في جوان 1965 .
دهاء بومدين وبساطة الزبيري
يرجع الرائد بورقعة فشل انقلاب الطاهر الزبيري، لجملة من العوامل، أولاها أن قائد الانقلاب لم يفكر بما فيه الكفاية في المحيطين به، وفي خصمه بدرجة أولى، ويقول: "ما من قائد نجح في مهمته إذا لم يكن دارسا فذا لرفاقه ولعدوه قبل أن تبدأ المعركة. يجب أن يكسب المعركة في قلوب رجاله قبل أن يخوضها، وإلا يجب ألا يغامر. كان هذا هو الخطأ الذي سقط فيه العقيد الزبيري وهو يباشر الانقلاب على بومدين في ديسمبر1967، إنه لم يدرس أفكار رجاله وطموحاتهم، لقد كانت أغلبية من شجع الزبيري ممن حركتهم المصالح الشخصية، فكانت النتيجة كما عرفها الجميع".
وبالنسبة لـ "مهرب" الزبيري من البليدة إلى العاصمة، فإن الثقة المفرطة أعمت قائد الانقلاب، وجعلته يثق كثيرا ببومدين، إلى درجة أنه كان يعتقد أنه "الولد المدلل" لدى بومدين، الذي نجح بدهائه في ترسيخ هذا الاعتقاد لدى من كان يخطط للإطاحة به.
..مع كل من يثور ضد بومدين
ويعترف بورقعة بأن جوا من عدم الثقة كانت تطبع محاولات الزبيري لتجنيد الموالين للانقلاب، ومع ذلك لم يتأخر بورقعة في مساندة الانقلابيين، ويقول: "قررنا في ذلك الوقت مساندة أي حركة أو تمرد ضد بومدين، بغض النظر عن من يقومون به، بشرط ألا يكون خارجيا، لأن بومدين استعمل السلاح الذي حرر البلاد في إرساء حكمه، فضلا عن انفراده بالسلطة، وتحطيمه للمؤسسة التي هزمت العدو ممثلا في جيش التحرير، وتفتيته للوحدة التي جمعت الجزائريين.
ومن هذا المنطلق، يرفض بورقعة اعتبار بومدين بطلا فريدا من نوعه في الجزائر، ويقول: "ما يشاع عن بومدين كلام إنشائي. الدولة بنيت بجهود جميع الجزائريين. بومدين لم يبن مؤسسات وإنما جعل من شخصه مؤسسة قائمة بذاتها. لقد حارب الديمقراطية وكانت حرية التعبير جريمة، وهذه هي الركائز التي تبنى عليها الدول الحديثة".
وتابع: "كل المشاريع التي أطلقها بومدين فشلت، أرسى الثورة الزراعية وكان يستورد الثوم من إسبانيا، أرسى الثورة الصناعية وكان يستورد مفك البراغي من الخارج، تحدث عن الثورة الصناعية وعجز عن حل المشاكل بين الشعانبة وبني ميزاب.. بومدين أعطى الأولوية للمظاهر، ولكن أهمل الأرض والإنسان، وهما عماد أي ثروة".
بومدين كان يدبر الانقلابات للهروب من الأزمات
كنا مع أي تمرد ضد الهواري الذي نجح بدهائه في ترسيخ شعور "الولد المدلل" لدى الزبيري قال الرائد لخضر بورقعة، القيادي في الولاية الرابعة التاريخية، إن تعيين العقيد الطاهر الزبيري، رئيسا لأركان الجيش الوطني الشعبي في 1963، جاء في إطار اتفاق تم بين الرئيس الأسبق أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد، الذي كان يقود تمردا مسلحا بمنطقة القبائل، أثناء هجوم الجيش المغربي على بشار، فيما عرف بـ "حرب الرمال"، وليس من طرف هواري بومدين مثلما هو شائع.
وأوضح بورقعة أن هجوم الجيش المغربي على الحدود الجنوبية الغربية للبلاد في خريف 1963، شكل فرصة حقيقية لتجاوز المشاكل التي كانت تعاني منها البلاد، غير أن بومدين كان لها بالمرصاد بالوقوف في طريق قرارات تمت مع بن بلة، وقال: "في الثالث من أكتوبر 1963، كان حسين آيت أحمد يقود تمردا في منطقة القبائل. كنت واحدا من رجاله، ولما سمعنا بهجوم الجيش المغربي على التراب الوطني، قررنا لقاء الرئيس بن بلة دون ترتيبات مسبقة".
وتابع القيادي بالولاية الرابعة التاريخية، في لقاء مع الشروق: "كنت برفقة حسين آيت أحمد والدكتور هرموش سعيد أرزقي، طبيب الولاية الرابعة. اتصلنا بأحمد فتال وكان يومها المدير العام للأمن الوطني، ليرافقنا إلى "فيلا جولي" (مقر إقامة بن بلة). وصلنا في حدود العاشرة ليلا، استقبلنا بروتوكول الرئاسة. ولما دخلنا الفيلا، خاطب بن بلة آيت أحمد قائلا: لم أكن أتوقع يوما أن يرفع حسين السلاح في وجهي، فرد آيت أحمد: لم أكن أتوقع يوما أن يقوم بن بلة برمي محمد بوضياف في السجن".
انتقل الطرفان، يقول المتحدث إلى الجدية وعيا بالمخاطر التي تحيق بالبلاد في تلك الآونة، وقد طبعت الجلسة نوعا من البرودة بسبب أرواح الضحايا الذين سقطوا في حرب الداخل بين الإخوة الفرقاء، ثم لم يلبث أن توجه آيت أحمد بسؤال لأحمد بن بلة قائلا: "من البادئ؟" في إشارة إلى عدوان المغرب على التراب الوطني.
آيت أحمد وبورقعة في "فيلا جولي"
لم يرد بن بلة مباشرة على السؤال، بل تعداه إلى الواقع على الأرض، وقال: "المغاربة أخذوا حاسي بيضاء وهم يحاصرون بشار الآن". عندها رفع آيت أحمد ثلاثة مطالب عاجلة، أولها إطلاق سراح كافة السجناء السياسيين (مثل فرحات عباس، محمد بوضياف..)، وثانيها تكوين لجنة لتحضير مؤتمر يكون جامعا وشاملا في 1964، وثالثا: تكوين قيادة للجيش الوطني الشعبي تضم عضوا من كل ولاية من الولايات التاريخية الست، مع بقاء بومدين وزيرا للدفاع.
وفي غياب بومدين، تم الاتفاق على تعيين العقيد الطاهر الزبيري، قائدا للأركان، وهو الذي كان قائدا للولاية الأولى التاريخية، باعتباره مجاهدا من الرعيل الأول كان مرافقا لمصطفى بن بولعيد، والطاهر بودربالة ممثلا عن الولاية الثانية، وحسن محيوز عن الولاية الثالثة، ومحمد شعباني عن الولاية السادسة، والكولونيل عباس عن الخامسة، وقد اقترحت يقول بورقعة، لأمثل الولاية الرابعة، غير أنني رفضت، فاستبدلت بالرائد محمد بوسماحة.
وبحسب المتحدث، فإن بومدين الذي كان يومها وزيرا للدفاع وقد كان غائبا عن اللقاء بسبب الحرب مع الجارة المغرب، لم يوافق سوى على تعيين الطاهر الزبيري على رأس قيادة الأركان.. وهو ما عطل إنهاء أزمة منطقة القبائل، وفي هذا الصدد يقول بورقعة: "بعد انتهاء الاجتماع غادر الجميع إلى بيت آيت أحمد بالأبيار، وقد وجدنا محمد خيدر هناك، وعلمت بأن زوجتي آيت أحمد وخيدر شقيقتان". وتابع المتحدث: "كلفني آيت أحمد بنقل الجنود الذين كانوا في جبال القبائل إلى البليدة كي يتوجهوا نحو الحدود..ولما وصلوا رفض بومدين اندماجهم في الجيش وعزلهم في مكان معين دون مؤونة، ومع ذلك هاجموا الجيش المغربي وتوغلوا في ترابه لأكثر من 50 كيلومترا".
إعدام آيت أحمد وذكرى شعباني
انتظر الجميع ترسيم الاتفاق ببثه في التلفزيون والإذاعة، لكن الأمر طال ولم يظهر له أثر في الإعلام الرسمي، ففهم الجميع الرسالة، وفي الليلة الموالية غادر آيت أحمد العاصمة متوجها إلى معقله في بلاد القبائل إلى أن تم القبض عليه.
ويعتقد صاحب كتاب "شاهد على اغتيال الثورة" أن بومدين وقف ضد اتفاق بن بلة وآيت أحمد، لإطالة أمد أزمة القبائل، لأهداف محسوبة بدقة، وهي تحميل الرئيس بن بلة وزر تلك الأزمة، وبحسب بورقعة فإن بومدين كان يضغط على بن بلة بعد القبض على آيت أحمد، من أجل أن يحكم بالإعدام على قائد تمرد منطقة القبائل، وهو ما حصل، وقد فهم الجميع عندها أن الرئيس هو المسؤول وليس وزير دفاعه، كما حصل تماما في قضية شعباني، وفي ذلك أوراق رابحة يمكن لبومدين استغلالها لاحقا..
وقد حاول بورقعة رفقة الصادق دهيليس والأستاذ بلحسين، التوسط لدى بن بلة لتفادي تكرار كارثة العقيد شعباني، غير أن بن بلة رفض استقبال الثلاثة، الذين حاولوا الكرة مع محمود زرطال، الذي كان مدعيا عاما في قضية محاكمة شعباني، وربما كانت نجاة زعيم جبهة القوى الاشتراكية من الإعدام، أحد الأسباب التي كانت وراء انقلاب بومدين على بن بلة في جوان 1965 .
دهاء بومدين وبساطة الزبيري
يرجع الرائد بورقعة فشل انقلاب الطاهر الزبيري، لجملة من العوامل، أولاها أن قائد الانقلاب لم يفكر بما فيه الكفاية في المحيطين به، وفي خصمه بدرجة أولى، ويقول: "ما من قائد نجح في مهمته إذا لم يكن دارسا فذا لرفاقه ولعدوه قبل أن تبدأ المعركة. يجب أن يكسب المعركة في قلوب رجاله قبل أن يخوضها، وإلا يجب ألا يغامر. كان هذا هو الخطأ الذي سقط فيه العقيد الزبيري وهو يباشر الانقلاب على بومدين في ديسمبر1967، إنه لم يدرس أفكار رجاله وطموحاتهم، لقد كانت أغلبية من شجع الزبيري ممن حركتهم المصالح الشخصية، فكانت النتيجة كما عرفها الجميع".
وبالنسبة لـ "مهرب" الزبيري من البليدة إلى العاصمة، فإن الثقة المفرطة أعمت قائد الانقلاب، وجعلته يثق كثيرا ببومدين، إلى درجة أنه كان يعتقد أنه "الولد المدلل" لدى بومدين، الذي نجح بدهائه في ترسيخ هذا الاعتقاد لدى من كان يخطط للإطاحة به.
..مع كل من يثور ضد بومدين
ويعترف بورقعة بأن جوا من عدم الثقة كانت تطبع محاولات الزبيري لتجنيد الموالين للانقلاب، ومع ذلك لم يتأخر بورقعة في مساندة الانقلابيين، ويقول: "قررنا في ذلك الوقت مساندة أي حركة أو تمرد ضد بومدين، بغض النظر عن من يقومون به، بشرط ألا يكون خارجيا، لأن بومدين استعمل السلاح الذي حرر البلاد في إرساء حكمه، فضلا عن انفراده بالسلطة، وتحطيمه للمؤسسة التي هزمت العدو ممثلا في جيش التحرير، وتفتيته للوحدة التي جمعت الجزائريين.
ومن هذا المنطلق، يرفض بورقعة اعتبار بومدين بطلا فريدا من نوعه في الجزائر، ويقول: "ما يشاع عن بومدين كلام إنشائي. الدولة بنيت بجهود جميع الجزائريين. بومدين لم يبن مؤسسات وإنما جعل من شخصه مؤسسة قائمة بذاتها. لقد حارب الديمقراطية وكانت حرية التعبير جريمة، وهذه هي الركائز التي تبنى عليها الدول الحديثة".
وتابع: "كل المشاريع التي أطلقها بومدين فشلت، أرسى الثورة الزراعية وكان يستورد الثوم من إسبانيا، أرسى الثورة الصناعية وكان يستورد مفك البراغي من الخارج، تحدث عن الثورة الصناعية وعجز عن حل المشاكل بين الشعانبة وبني ميزاب.. بومدين أعطى الأولوية للمظاهر، ولكن أهمل الأرض والإنسان، وهما عماد أي ثروة".
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 22
رد على مذكرات العقيد الطاهر الزبيري
الرائد هلايلي محمد الصغير: لست انتهازيا يا الزبيري.. وقد ظلمت الشاذلي في مذكراتك
ورد "الشروق" رد من المجاهد هلايلي محمد الصغير على مذكرات الطاهر الزبيري فيها الكثير من المعلومات عن تلك الحقبة التاريخية، خاصة مع ورود اسم هلايلي في المذكرات، ولذلك نورد الرد كاملا مثلما وصلنا.
جميل أن نعيش أحداث فترة ثورتنا المظفرة، وأحداث المرحلة الأولي لإرساء دعائم الدولة الحديثة وذلك من خلال مذكرات المجاهدين الأبطال التي ستمكن الطلاب والمؤرخين من الإطلاع على الحقائق كما هي من أفواه وأقلام صانعيها، لقد أفادنا العقيد الطاهر زبيري بنشر كتابين له، الأول تحت عنوان مذكرات "آخر قادة الأوراس التاريخيين"، وهو كتاب يزخر بالمعلومات القيمة، وكان لي شرف قراءتها والتعقيب على بعضها في مذكراتي الشخصية التي هي الآن تحت الطبع، وستظهر قريبا إن شاء الله، وذلك قناعة مني ـ بأن التاريخ أمانةـ ، والكتاب الثاني بعنوان (نصف قرن من الكفاح)، وقد تابعنا فصوله من خلال الحلقات الست عشرة التي نشرتها جريدة "الشروق"، وما أدهشني هو أن العقيد قد أقحم اسمي في موقف انتهازي لا ينسجم مطلقا مع أخلاقي وثقافتي وتكويني الذي اكتسبته من معايشتي للقائد الفذ مصطفى بن بولعيد ونائبيه عاجل عجول وعباس لغرور، وهو موقف غريب.
ورد في الحلقة العشرة من جريدة الشروق بتاريخ 2 اكتوبر 2011 تحت عنوان (الشاذلي أمر قواته بالوقوف مع الطرف الغالب) وتحت هذا العنوان، أكد العقيد حرفيا ما يلي (أما الرائد الشاذلي قائد الناحية الثانية وحسب ما رواه لي "النقيب هلايلي محمد الصغير"، فبعد سماعه لخبر تحرك الفيالق الوفية لنا، أرسل هو الآخر فيلقين للمشاركة في المعركة، وكلف هلايلي بأن يسبق لفيالق إلى العاصمة، وذلك يوم 13 ديسمبر 1967 لاستطلاع الوضع، وقال الشاذلي للنقيب هلايلي إذا وجدت الأمور تميل للطاهر فقفوا مع الطاهر، وإذا وجدتم الوضع لصالح بومدين فقفوا في صف بومدين، وانطلق النقيب هلايلي للعاصمة، ولكنه توقف في حاجز للدرك ببرومي، فترك سيارته هناك ودخل العاصمة) في هذا النص الواضح، أسند لي العقيد الزبيري ذلك الدور المخزي الذي أتبرأ منه، كما نسب لي أيضا تلك الرواية التي يقول أني رويتها له على موقف قائد الناحية الشاذلي بن جديد، والحقيقة أن الشاذلي بن جديد أبدا لم يطلب مني المشاركة بأية مهمة لها علاقة بانقلاب ليلة 14 ديسمبر 1967 حسب تعبير منفذه عمار ملاح، وبالتالي لم يوصني بذلك الموقف الانتهازي، لأن موقف الشاذلي بن جديد كان واضحا منذ اللحظة الأولى للانقلاب وهو الوقوف مع الرئيس بومدين، ولم يتأخر في إرسال الجيش لمحاصرة الجماعة التي تحركت مع الزبيري، وهو ما ينفي عليه اللجوء لذلك الموقف الانتهازي الذي حملني العقيد وزر تنفيذ فصوله بالرغم من أنه يعرف جيدا مواقفي من خلال عملي معه خلال الثورة لما كنت قائدا للمنطقة الثانية بالأوراس، وبالعكس من ذلك فقد كنت متهما بالتعاطف مع العقيد الزبيري، واسمي كان موزعا على مصالح الأمن للقبض علي في تلك الليلة مع بعض الضباط المنتمين للولاية الأولى التاريخية خاصة، وكان ذلك الانقلاب الفاشل فرصة سانحة لبعض الأطراف على مستوى وزارة الدفاع لتصفية الضباط المجاهدين من الجيش الوطني الشعبي كما هو معروف.
لقد كنت خالي الذهن تماما من انقلاب 14 ديسمبر 1967 إلى أن فوجئت بمرسول قائد الناحية الشاذلي بن جديد يطرق باب منزلي في ساعة متأخرة من تلك الليلة ليستعجل حضوري بين يدي قائد الناحية الذي كان قد تلقى تعليمات بالقبض علي كما ذكرت بتهمة التعاطف مع منفذي الانقلاب، ولما دخلت على الرائد الشاذلي في مكتبه سألني إن كانت لي اتصالات بالعقيد الزبيري، فأكدت له أنني قد زرته في منزله خلال شهر نوفمبر 1967، أي قبل 15 يوما مضت، وذلك بحكم علاقتي القديمة معه، وقد شرح لي أسباب الخلاف بينه وبين الرئيس بومدين، ولما خرجت من مكتبه لاحظت "حمودي بوزيدي" الملازم له، وهو يسترق السمع من وراء باب المكتب وكأنه مدسوس عليه، وشاهدت أيضا أمام منزل العقيد دراجات الشرطة مركونة تحت الأشجار، وهذا يعني أن رقم سيارتي وسيارات الزوار مسجلة لديهم. وفي الأخير لما تأكد قائد الناحية الرائد الشاذلي بن جديد من براءتي، نصحني بعدم مغادرة مدينه وهران دون أن يشعرني بقرار القبض علي، وبعد أيام قليلة أوقفني رجال الدرك في حاجز أمني على أطراف وهران وحولوني لمركز "بوفاطيس"، لكن قائد الناحية الشاذلي أمر النقيب "شلوفي" بإطلاق سراحي في الحين.
والحقيقة التي أؤكدها للتاريخ هي: أن قائد الناحية الشاذلي لم يكلفني بأية مهمة لها علاقة بتحرك العقيد الزبيري وجماعته ليلة 14 ديسمبر 1967 لا من قريب ولا من بعيد، كما أنني أنفي نفيا قاطعا تلك الرواية التي قال العقيد أنني حدثته بها حول موقف الشاذلي بن جديد، وأجزم بأن موقف الشاذلي كان صريحا مع بومدين وبالتالي لم يكن مضطرا لانتظار المنتصر لينضم إليه، وكان له كل الفضل في حمايتي من السجن رغم إصدار الأمر بالقبض.
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
حركتنا كانت انقلابا عسكريا وبومدين هدّدني إن لم أخلف شعباني في منصبه
شدد الرائد عمار ملاح، نائب قائد الأركان في 1967، على أن حركة 14 ديسمبر 1967 التي قادها العقيد الطاهر زبيري ضد العقيد هواري بومدين كانت انقلابا عسكريا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وأن الهدف من هذه العملية التي كان قائدها الميداني تحت إشراف العقيد زبيري، كانت تهدف بكل وضوح إلى تنحية العقيد هواري بومدين من السلطة دون تفاوض
ورفض الرائد عمار ملاح ما جاء في مذكرات العقيد زبيري بأن حركة 14 ديسمبر كانت تهدف لإجبار بومدين على التنازل عن جزء من صلاحياته لمجلس الثورة، مؤكدا أن ما كان متداولا بين قادة حركة 14 ديسمبر وعلى رأسهم العقيد زبيري هو "تنحية بومدين"، وقال مستهجنا، "بومدين يستحيل أن يقبل أن يأتي إلى زبيري للتفاوض معه حول السلطة"
بومدين هدّدني إن لم أتولّ مكان شعباني
وبالنسبة لقضية العقيد محمد شعباني، قائد الولاية السادسة التاريخية (الصحراء) والذي عيّن نائبا لقائد الأركان دون أن يلتحق بمنصبه الجديد، ذكر عمار ملاح أنه في أفريل 1964 عيّنه بومدين قائدا للناحية العسكرية الرابعة (ورقلة) التي كان شعباني ممسكا بزمامها، كما عيّن الشاذلي بن جديد مكانه (ملاح) في قيادة الناحية العسكرية الخامسة (قسنطينة).
وأشار الرائد عمار ملاح أن العقيد بومدين استدعاه إلى مكتبه بعدما لم يلتحق بقيادة الناحية العسكرية الرابعة وسأله باستنكار، "عيّنت في ورقلة لماذا لم تمشي؟"، فرد عليه الرائد ملاح "حلّوا مشكل شعباني"، ملمّحا إلى أنه لا يريد أن يصطدم مع العقيد محمد شعباني، فقال له بومدين متوعدا: "أعطيتك أمرا... يطبّق".
وأضاف ملاح، أنه ذهب رفقة الرائد عبد الرحمان بن سالم (نائب قائد الأركان ورئيس الحرس الجمهوري) إلى العقيد شعباني وطلبا منه الصعود إلى العاصمة (الالتحاق بمنصبه في قيادة الأركان) لكن شعباني رفض، فأسرّ له ملاح منفردا "سيهجمون عليك".
وتساءل عمار ملاح عن السبب الذي جعل العقيد زبيري لا يذكر في مذكراته اللقاء الذي جمعه بالعقيد شعباني في بلدة القنطرة (بسكرة بالقرب من باتنة) بحضوره شخصيا، بالإضافة إلى إبراهيم زروال، واجتمعوا واقفين وحاول العقيد الطاهر زبيري إقناع العقيد شعباني للصعود إلى العاصمة ولكن بدون جدوى.
وشدد الرائد ملاح على أن مخطط العملية العسكرية ضد العقيد شعباني انطلقت من محورين، الأول من بوسعادة والجلفة بقيادة الرائد سعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى والرائد أحمد عبد الغني، أما المحور الثاني قسنطينة باتنة بسكرة بقيادة الرائد الشاذلي بن جديد ومحمد عطايلية، ودخلت هذه القوة مقر قيادة شعباني في بسكرة وخطب عطايلية أمام أعيان بسكرة وقال ما قال.
العقيد زبيري رفض تلقي الأوامر من الرائد شابو
على صعيد آخر أوضح الرائد عمار ملاح، الذي يعد حاليا عضوا في مجلس الأمة عن الثلث الرئاسي، أن العقيد الطاهر زبيري لم تكن له صلاحيات واضحة منذ تعيينه قائدا للأركان في 1963، وأضاف أن "كافة القادة العسكريين كانوا يتلقون الأوامر من الرائد عبد القادر شابو الأمين العام لوزارة الدفاع بأمر من بومدين".
وبرر ملاح سبب تهميش بومدين للعقيد زبيري "لأنه لن ينسى أن العقيد زبيري عيّنه بن بله قائدا للأركان عندما كان بومدين في روسيا"، وأضاف ملاح: "قلنا للزبيري: مادام عيّنك بن بله إذهب إلى العاصمة، وكان حينها في باتنة فرد علينا: عينوني حتى ندخل في بعضنا البعض".
وأضاف أنه في اجتماع لقادة الجيش في أفريل 1967 تساءل العقيد زبيري مستهجنا "كيف يتلقى عقيد أوامره من رائد"، وكان يقصد الرائد عبد القادر شابو الذي كانت صلاحياته تفوق صلاحيات قائد الأركان، رغم أنه أعلى منه رتبة. وبحسب عمار ملاح، فإن قادة النواحي العسكرية اتفقوا على ضرورة تحديد صلاحيات قائد الأركان، باستثناء العقيد أحمد بن شريف، الذي قال إنه "لم يحن بعد تحديد صلاحيات قيادة الأركان".
في هذا الخصوص، أكد عمار ملاح أن العقيد الطاهر زبيري لم يمارس صلاحياته كقائد أركان فعلي إلى غاية أزمة 1967، مستدركا أنه عندما عاد من دورة تكوينية من الاتحاد السوفياتي عيّن نائبا لقائد الأركان مكلف بالتنظيم. أما الرائد محمد زرقيني فعيّن نائبا لقائد الأركان مكلف بالعمليات وفي هذه المرحلة بدأت صلاحيات قيادة الأركان تتوضح أكثر.
بومدين كان يحمي ضباط فرنسا
وأشار ملاح إلى أن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي كانوا أحد الأسباب التي أدت إلى الانقلاب العسكري على بومدين لأنه كان يوفر لهم الحماية. وأضاف، "أن بومدين في أحد لقاءاته بمجموعة من الضباط، كان من بينهم عبد المجيد شريف (كان قائدا للناحية العسكرية الأولى برتبة جنرال) والنقيب محمد علاق والملازم الأول اليمين زروال والمتحدث وآخرون، أثار أمامه عبد المجيد شريف ما كان يُعرف بيننا بضباط فرنسا، فردّ عليه بومدين "لو أسمع واحدا يتكلم عن ضباط فرنسا سأرمي حجرة في فمه".
وعن السر وراء عداء قدماء ضباط جيش التحرير والضباط المتخرجين من الأكاديميات العسكرية في المشرق العربي للضباط الفارين من الجيش الفرنسي، قال عمار ملاح "هناك من الضباط الفارين في الجيش الفرنسي من ارتكبوا جرائم في حق الشعب الجزائري إبان حرب التحرير ولم يلحقوا بالثورة إلا في السنوات الأخيرة قبل الاستقلال"، وأشار إلى أن "مدير المخابرات قاصدي مرباح كان يعرفهم بالاسم منهم الرائد بورجل وبوشنافة".
ونفى ملاح ما قاله العقيد زبيري عن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي بأنهم كانوا أكثر كفاءة من قدماء ضباط جيش التحرير، وقال "الضباط الفارين من الجيش الفرنسي لم يتخرّجوا من معاهد عسكرية فرنسية بل جلهم ذوي رتب بسيطة".
وأعطى ملاح مثالا عن الدورة التدريبية في الاتحاد السوفياتي التي كان على رأسها ملاح ونائبه آيت مسعودان (قائد القوات الجوية) رفقة 34 ضابطا ساميا أغلبهم من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي مثل بوزادة وسليم سعدي وخليل وعبد المجيد علاهم وعبد الحميد لطرش وشقيق عبد القادر شابو وأنه عندما قدم لهم في روسيا تمرين حول كتيبة الدفاع، سأل ملاح عبد المجيد علاهم حول هذه المسألة فنفى معرفته بالحل، ونقل ملاح هذا الكلام لبومدين وأضاف "الضباط الفارين من الجيش الفرنسي لم يكونوا أحسن منّا مستوى".
ثلاثة فيالق تحركت والفيلق الرابع استجاب لأوامر سعيد عبيد
وبالنسبة لمعركة العفرون قال الرائد عمار ملاح إن العقيد بومدين استدعاه بصفته نائبا لقائد الأركان رفقة الرائد محمد زرقيني نائب قائد الأركان في أواخر نوفمبر 1967 وقال لهم "ابتداء من اليوم كل الأوامر تصدر من عندي وتحسّبوا للتشويش الذي يقوم به كمال الورتي (نقيب في قيادة الأركان) وشريف مهدي (الكاتب العام لهيئة الأركان)"، فردّ عليه زرقيني "حضرة العقيد لا يوجد"، ولكن بومدين كان واثقا مما يقول، وكان محقا لأن الورتي وشريف مهدي كانا من أنصار زبيري وكانا يتحركان في هذا السياق، وفهمت من كلام بومدين أن العقيد زبيري لم يعد قائدا للأركان، خاصة عندما قال: "ابتداء من اليوم...".
وفي تلك الفترة أكد الرائد عمار ملاح أن العقيد زبيري قال لهم "نحيو بومدين"، مشددا على أن زبيري حينها لم يتحدث أبدا عن التفاوض مع بومدين، وأن تنحية بومدين بالقوة هو الكلام المتداول بين الضباط الموالين للعقيد زبيري، وقال "بومدين كان ديكتاتورا حقيقيا لكن مشكلتنا كانت مع ضباط فرنسا وبومدين هو من كان يحميهم ويسيرهم وفي مؤتمر الحزب في 1964 قال لنا: إذا خيّرت بين المتعاونين الأجانب وضباط فرنسا سأختار ضباط فرنسا".
اتصل العقيد زبيري بالرائد عمار ملاح (يوم 12 ديمسبر 1967) وأمره بتحريك الفيالق إلى قيادة الناحية العسكرية الأولى في البليدة، لكن ملاح، بحسب قوله، طلب منه مزيدا من الوقت، لأن تحريك الفيالق يتطلب تحضيرات تستغرق وقتا، وكانت هناك أربعة فيالق معنية بهذا التحرك واحد مشاة في المدية والثاني ميكانيكي بمليانة (عين الدفلى) واثنان في الشلف أحدهما مدرع والثاني مشاة.
ذهب عمار ملاح لتبليغ الأوامر إلى العياشي حواسنية قائد الفيلق المدرع في الشلف وإلى قائد فيلق المشاة أيضا، فاستجاب العياشي حواسنية وأراد إخبار سليمان لكحل فرفض ملاح وقال له "هذا خان شعباني فكيف لا يخوننا"، لكن العياشي كان يثق فيه وأخبر لكحل على 10:30 فأسرع لكحل إلى بومدين وأخبره بخطة تحرك الفيالق.
أمر سعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى الفيالق الأربعة بعدم التحرك، فاستجاب فيلق المشاة بالشلف لهذا الأمر، ورفض التحرك فانتقل ملاح إلى مليانة فوجد عبد السلام مباركية قائد الفيلق الميكانيكي مترددا بعدما جاءه أمر سعيد عبيد بعدم التحرك، فقال له ملاح لماذا لا تتحرك، فقد كانت مليانة قريبة من البليدة؟، فقال له جاءتني أوامر من سعيد عبيد بعدم التحرك، فلن أتحرك. لكن عندما تحدث ملاح إلى جنود الفيلق استجابوا له، كما أن مباركية عندما علم أن فيلق المدية بقيادة معمر قارة تحرك هو الآخر قرر المضي معنا إلى البليدة.
وعبر عمار ملاح عن عدم معرفته الأسباب التي جعلت سعيد عبيد لا يقف معهم في عملية الانقلاب على بومدين، ملمحا إلى أن تفاصيل هذه المسألة يعرفها العقيد زبيري ويحياوي وبن سالم والعقيد عباس وسعيد عبيد، على أساس أن هؤلاء الضباط الخمسة هم الذين كانوا معنيين بأيّ عملية ضد العقيد بومدين ولكن تفاصيل حدثت بينهم قال ملاح إنه يجهلها.
معركة العفرون
ويروي الرائد عمار ملاح مجريات معركة العفرون كما عاشها وقال "الفيلق المدرع بقيادة العياشي حواسنية كان أول الواصلين إلى العفرون، رغم أنه كان أبعد فيلق عن العاصمة والدبابات تحمل على شاحنات إلى ميدان المعركة ولا تجري في الطريق، وعندما وجدنا جسر بورومي مغلقا سرنا على السكة الحديدية وقتلنا 4 جنود موالين لبومدين وبدأت الاشتباكات".
وأشار ملاح إلى أن قوات بومدين لم تكن كثيفة في البداية ولكن بدأ يصلهم المدد من عدة جهات، وأضاف "من الصباح إلى المساء ونحن نقصف بالدبابات والمدافع والطائرات ثم وصلت قوات المظليين وتم إنزالها جوا على جبل عفرون، كما وصلت قوات الشاذلي بن جديد من الغرب (الناحية العسكرية الثانية وهران) وتم تطويقنا".
في تلك الليلة جاء العقيد زبيري لتفقد قواته وقدم له ملاح تقريرا حول المعركة وقال له "إبقَ معنا لأن الدعوة فشلت"، فرد عليه العقيد زبيري "تراجعوا إلى حمام ريغة وسأنظر ماذا فعل العقيد عباس والرائد يحياوي".
وأوضح عمار ملاح، أنه طلب من القوات التي بقيت معهم بعد انسحاب فيلق المدية التحصّن بالجبال وعدم تدمير الدبابات والمدرعات التي بين أيديهم.
القدر أفشل محاولة اغتيال بومدين
اعترف الرائد عمار ملاح أنه من كان وراء التخطيط وتنفيذ محاولة اغتيال العقيد هواري بومدين رئيس مجلس الثورة والتي نجا منها بأعجوبة. وكشف أن رئيس الحرس الجمهوري والشرطة، أحمد دراية، ومحافظ الشرطة، كمال حمودي، كانا مؤيدين لفكرة تنحية بومدين دون أن يكون هذا الأخير على علم بذلك.
وعندما دخل عمار ملاح إلى العاصمة بعد معركة العفرون، اتفق مع ضابط من عين ياغوت بباتنة يدعى زروال (ليس اليمين زروال) بتدبير عملية لاغتيال بومدين، وكان مع زروال جماعة من الأوراس من بينهم بورزان من عين البيضاء (أم البواقي) من الحرس الجمهوري.
وحتى إذا وقع الاشتباك مع الحرس الجمهوري قام زروال بقلب الرصاص داخل رشاشاتهم باستثناء رصاصتين ركبتا بشكل صحيح، وبدل أن يأخذ بورزان الرشاش السليم أخذ أحد الرشاشات مقلوبة الرصاص، وعندما حان وقت التنفيذ أطلق بورزان رصاصتين على بومدين الأولى أصابت شاربه والثانية أصابت سائقه "الطيب" في الكتف وبعدها تعطل الرشاش ولم يتمكن من إفراغ ذخيرته على السيارة التي كانت تقل بومدين. أما الرجل الثاني المكلف بالعملية، فقد اشتبك مع الحرس الجمهوري وقتل في الحين.
كنت أخشى أن يقتلني دراية في السجن ليدفن سرّه
استطاعت قوات بومدين أن تكتشف مخبأ عمار ملاح وتعتقله، لكن عمار ملاح يؤكد أن الأمن العسكري بحث معه ولم يعذبه، لكنه تعرّض لتعذيب شديد على يد أحمد دراية قائد الحرس الجمهوري والشرطة، وقال "كنت واثقا أن بومدين لن يقتلني (رغم علمه بتورطه في محاولة اغتياله) ولكني كنت أخشى أن يقتلني دراية في إحدى الزنزانات حتى لا تنكشف حقيقة علاقته بحركة 14 ديسمبر 1967 لبومدين".
وتحدث ملاح عن التعذيب الشديد الذي تعرّض له في السجن والظروف اللاّإنسانية التي عاشها، وقال بتأثر "طلبت من القاضي العسكري محمد تواتي أن يسمح بإعطائي ملعقة حتى لا آكل مثل الحيوان فرفض، خوفا من أن أستعملها في محاولة الهرب من السجن، فقلت له إذن أعطوني ملعقة من البلاستيك لكنهم رفضوا، فاتخذت من "قابصة شمة" ملعقة للأكل".
الرائد عمار ملاح نائب قائد الأركان السابق
كان مجاهدا في الولاية الأولى الأوراس بالمنطقة الثانية في جبل شيلية تحت قيادة محمد الصالح يحياوي، ورُقي إلى رتبة رائد في جيش التحرير وعضو قيادة الولاية الأولى الأوراس تحت قيادة العقيد الطاهر زبيري.
بعد الاستقلال أصبح قائدا للناحية العسكرية الخامسة (قسنطينة) بعد أن رقي العقيد زبيري قائدا للأركان، ثم عيّن قائدا للناحية العسكرية الرابعة (ورقلة) خلال عملية القبض على العقيد محمد شعباني في 1964.
كان على رأس دفعة متكونة من 34 ضابطا ساميا ذهبوا إلى الاتحاد السوفياتي لتلقي دورة تكوينية، ولما عاد إلى أرض الوطن عيّن نائبا لقائد الأركان مكلفا بالتنظيم.
كان من المفروض أن يقود الدفعة الثانية من القوات الجزائرية المتجهة إلى الجبهة المصرية للمشاركة في حرب الاستنزاف ضد اليهود، لكن اندلاع أزمة زبيري مع بومدين جعلته ينحاز إلى صف زبيري، وبعد فشل عملية الانقلاب على بومدين دبّر عملية فاشلة لاغتياله.
ألقي عليه القبض في 1968 وحكم عليه بالإعدام، وبعد وفاة بومدين وصعود الشاذلي إلى الحكم في 1980 أصدر قرارا بالعفو عنه بعد نحو 12 سنة قضاها في السجن. عيّنه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عضوا في مجلس الأمة عن الثلث الرئاسي.
تجدر الإشارة، إلى أن عمار ملاح من المجاهدين القلائل الذين لهم عدة إصدارات وكتب عن الثورة وما بعد الثورة أبرزها كتاب "حركة 14 ديسمبر 1967
شدد الرائد عمار ملاح، نائب قائد الأركان في 1967، على أن حركة 14 ديسمبر 1967 التي قادها العقيد الطاهر زبيري ضد العقيد هواري بومدين كانت انقلابا عسكريا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وأن الهدف من هذه العملية التي كان قائدها الميداني تحت إشراف العقيد زبيري، كانت تهدف بكل وضوح إلى تنحية العقيد هواري بومدين من السلطة دون تفاوض
ورفض الرائد عمار ملاح ما جاء في مذكرات العقيد زبيري بأن حركة 14 ديسمبر كانت تهدف لإجبار بومدين على التنازل عن جزء من صلاحياته لمجلس الثورة، مؤكدا أن ما كان متداولا بين قادة حركة 14 ديسمبر وعلى رأسهم العقيد زبيري هو "تنحية بومدين"، وقال مستهجنا، "بومدين يستحيل أن يقبل أن يأتي إلى زبيري للتفاوض معه حول السلطة"
بومدين هدّدني إن لم أتولّ مكان شعباني
وبالنسبة لقضية العقيد محمد شعباني، قائد الولاية السادسة التاريخية (الصحراء) والذي عيّن نائبا لقائد الأركان دون أن يلتحق بمنصبه الجديد، ذكر عمار ملاح أنه في أفريل 1964 عيّنه بومدين قائدا للناحية العسكرية الرابعة (ورقلة) التي كان شعباني ممسكا بزمامها، كما عيّن الشاذلي بن جديد مكانه (ملاح) في قيادة الناحية العسكرية الخامسة (قسنطينة).
وأشار الرائد عمار ملاح أن العقيد بومدين استدعاه إلى مكتبه بعدما لم يلتحق بقيادة الناحية العسكرية الرابعة وسأله باستنكار، "عيّنت في ورقلة لماذا لم تمشي؟"، فرد عليه الرائد ملاح "حلّوا مشكل شعباني"، ملمّحا إلى أنه لا يريد أن يصطدم مع العقيد محمد شعباني، فقال له بومدين متوعدا: "أعطيتك أمرا... يطبّق".
وأضاف ملاح، أنه ذهب رفقة الرائد عبد الرحمان بن سالم (نائب قائد الأركان ورئيس الحرس الجمهوري) إلى العقيد شعباني وطلبا منه الصعود إلى العاصمة (الالتحاق بمنصبه في قيادة الأركان) لكن شعباني رفض، فأسرّ له ملاح منفردا "سيهجمون عليك".
وتساءل عمار ملاح عن السبب الذي جعل العقيد زبيري لا يذكر في مذكراته اللقاء الذي جمعه بالعقيد شعباني في بلدة القنطرة (بسكرة بالقرب من باتنة) بحضوره شخصيا، بالإضافة إلى إبراهيم زروال، واجتمعوا واقفين وحاول العقيد الطاهر زبيري إقناع العقيد شعباني للصعود إلى العاصمة ولكن بدون جدوى.
وشدد الرائد ملاح على أن مخطط العملية العسكرية ضد العقيد شعباني انطلقت من محورين، الأول من بوسعادة والجلفة بقيادة الرائد سعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى والرائد أحمد عبد الغني، أما المحور الثاني قسنطينة باتنة بسكرة بقيادة الرائد الشاذلي بن جديد ومحمد عطايلية، ودخلت هذه القوة مقر قيادة شعباني في بسكرة وخطب عطايلية أمام أعيان بسكرة وقال ما قال.
العقيد زبيري رفض تلقي الأوامر من الرائد شابو
على صعيد آخر أوضح الرائد عمار ملاح، الذي يعد حاليا عضوا في مجلس الأمة عن الثلث الرئاسي، أن العقيد الطاهر زبيري لم تكن له صلاحيات واضحة منذ تعيينه قائدا للأركان في 1963، وأضاف أن "كافة القادة العسكريين كانوا يتلقون الأوامر من الرائد عبد القادر شابو الأمين العام لوزارة الدفاع بأمر من بومدين".
وبرر ملاح سبب تهميش بومدين للعقيد زبيري "لأنه لن ينسى أن العقيد زبيري عيّنه بن بله قائدا للأركان عندما كان بومدين في روسيا"، وأضاف ملاح: "قلنا للزبيري: مادام عيّنك بن بله إذهب إلى العاصمة، وكان حينها في باتنة فرد علينا: عينوني حتى ندخل في بعضنا البعض".
وأضاف أنه في اجتماع لقادة الجيش في أفريل 1967 تساءل العقيد زبيري مستهجنا "كيف يتلقى عقيد أوامره من رائد"، وكان يقصد الرائد عبد القادر شابو الذي كانت صلاحياته تفوق صلاحيات قائد الأركان، رغم أنه أعلى منه رتبة. وبحسب عمار ملاح، فإن قادة النواحي العسكرية اتفقوا على ضرورة تحديد صلاحيات قائد الأركان، باستثناء العقيد أحمد بن شريف، الذي قال إنه "لم يحن بعد تحديد صلاحيات قيادة الأركان".
في هذا الخصوص، أكد عمار ملاح أن العقيد الطاهر زبيري لم يمارس صلاحياته كقائد أركان فعلي إلى غاية أزمة 1967، مستدركا أنه عندما عاد من دورة تكوينية من الاتحاد السوفياتي عيّن نائبا لقائد الأركان مكلف بالتنظيم. أما الرائد محمد زرقيني فعيّن نائبا لقائد الأركان مكلف بالعمليات وفي هذه المرحلة بدأت صلاحيات قيادة الأركان تتوضح أكثر.
بومدين كان يحمي ضباط فرنسا
وأشار ملاح إلى أن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي كانوا أحد الأسباب التي أدت إلى الانقلاب العسكري على بومدين لأنه كان يوفر لهم الحماية. وأضاف، "أن بومدين في أحد لقاءاته بمجموعة من الضباط، كان من بينهم عبد المجيد شريف (كان قائدا للناحية العسكرية الأولى برتبة جنرال) والنقيب محمد علاق والملازم الأول اليمين زروال والمتحدث وآخرون، أثار أمامه عبد المجيد شريف ما كان يُعرف بيننا بضباط فرنسا، فردّ عليه بومدين "لو أسمع واحدا يتكلم عن ضباط فرنسا سأرمي حجرة في فمه".
وعن السر وراء عداء قدماء ضباط جيش التحرير والضباط المتخرجين من الأكاديميات العسكرية في المشرق العربي للضباط الفارين من الجيش الفرنسي، قال عمار ملاح "هناك من الضباط الفارين في الجيش الفرنسي من ارتكبوا جرائم في حق الشعب الجزائري إبان حرب التحرير ولم يلحقوا بالثورة إلا في السنوات الأخيرة قبل الاستقلال"، وأشار إلى أن "مدير المخابرات قاصدي مرباح كان يعرفهم بالاسم منهم الرائد بورجل وبوشنافة".
ونفى ملاح ما قاله العقيد زبيري عن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي بأنهم كانوا أكثر كفاءة من قدماء ضباط جيش التحرير، وقال "الضباط الفارين من الجيش الفرنسي لم يتخرّجوا من معاهد عسكرية فرنسية بل جلهم ذوي رتب بسيطة".
وأعطى ملاح مثالا عن الدورة التدريبية في الاتحاد السوفياتي التي كان على رأسها ملاح ونائبه آيت مسعودان (قائد القوات الجوية) رفقة 34 ضابطا ساميا أغلبهم من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي مثل بوزادة وسليم سعدي وخليل وعبد المجيد علاهم وعبد الحميد لطرش وشقيق عبد القادر شابو وأنه عندما قدم لهم في روسيا تمرين حول كتيبة الدفاع، سأل ملاح عبد المجيد علاهم حول هذه المسألة فنفى معرفته بالحل، ونقل ملاح هذا الكلام لبومدين وأضاف "الضباط الفارين من الجيش الفرنسي لم يكونوا أحسن منّا مستوى".
ثلاثة فيالق تحركت والفيلق الرابع استجاب لأوامر سعيد عبيد
وبالنسبة لمعركة العفرون قال الرائد عمار ملاح إن العقيد بومدين استدعاه بصفته نائبا لقائد الأركان رفقة الرائد محمد زرقيني نائب قائد الأركان في أواخر نوفمبر 1967 وقال لهم "ابتداء من اليوم كل الأوامر تصدر من عندي وتحسّبوا للتشويش الذي يقوم به كمال الورتي (نقيب في قيادة الأركان) وشريف مهدي (الكاتب العام لهيئة الأركان)"، فردّ عليه زرقيني "حضرة العقيد لا يوجد"، ولكن بومدين كان واثقا مما يقول، وكان محقا لأن الورتي وشريف مهدي كانا من أنصار زبيري وكانا يتحركان في هذا السياق، وفهمت من كلام بومدين أن العقيد زبيري لم يعد قائدا للأركان، خاصة عندما قال: "ابتداء من اليوم...".
وفي تلك الفترة أكد الرائد عمار ملاح أن العقيد زبيري قال لهم "نحيو بومدين"، مشددا على أن زبيري حينها لم يتحدث أبدا عن التفاوض مع بومدين، وأن تنحية بومدين بالقوة هو الكلام المتداول بين الضباط الموالين للعقيد زبيري، وقال "بومدين كان ديكتاتورا حقيقيا لكن مشكلتنا كانت مع ضباط فرنسا وبومدين هو من كان يحميهم ويسيرهم وفي مؤتمر الحزب في 1964 قال لنا: إذا خيّرت بين المتعاونين الأجانب وضباط فرنسا سأختار ضباط فرنسا".
اتصل العقيد زبيري بالرائد عمار ملاح (يوم 12 ديمسبر 1967) وأمره بتحريك الفيالق إلى قيادة الناحية العسكرية الأولى في البليدة، لكن ملاح، بحسب قوله، طلب منه مزيدا من الوقت، لأن تحريك الفيالق يتطلب تحضيرات تستغرق وقتا، وكانت هناك أربعة فيالق معنية بهذا التحرك واحد مشاة في المدية والثاني ميكانيكي بمليانة (عين الدفلى) واثنان في الشلف أحدهما مدرع والثاني مشاة.
ذهب عمار ملاح لتبليغ الأوامر إلى العياشي حواسنية قائد الفيلق المدرع في الشلف وإلى قائد فيلق المشاة أيضا، فاستجاب العياشي حواسنية وأراد إخبار سليمان لكحل فرفض ملاح وقال له "هذا خان شعباني فكيف لا يخوننا"، لكن العياشي كان يثق فيه وأخبر لكحل على 10:30 فأسرع لكحل إلى بومدين وأخبره بخطة تحرك الفيالق.
أمر سعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى الفيالق الأربعة بعدم التحرك، فاستجاب فيلق المشاة بالشلف لهذا الأمر، ورفض التحرك فانتقل ملاح إلى مليانة فوجد عبد السلام مباركية قائد الفيلق الميكانيكي مترددا بعدما جاءه أمر سعيد عبيد بعدم التحرك، فقال له ملاح لماذا لا تتحرك، فقد كانت مليانة قريبة من البليدة؟، فقال له جاءتني أوامر من سعيد عبيد بعدم التحرك، فلن أتحرك. لكن عندما تحدث ملاح إلى جنود الفيلق استجابوا له، كما أن مباركية عندما علم أن فيلق المدية بقيادة معمر قارة تحرك هو الآخر قرر المضي معنا إلى البليدة.
وعبر عمار ملاح عن عدم معرفته الأسباب التي جعلت سعيد عبيد لا يقف معهم في عملية الانقلاب على بومدين، ملمحا إلى أن تفاصيل هذه المسألة يعرفها العقيد زبيري ويحياوي وبن سالم والعقيد عباس وسعيد عبيد، على أساس أن هؤلاء الضباط الخمسة هم الذين كانوا معنيين بأيّ عملية ضد العقيد بومدين ولكن تفاصيل حدثت بينهم قال ملاح إنه يجهلها.
معركة العفرون
ويروي الرائد عمار ملاح مجريات معركة العفرون كما عاشها وقال "الفيلق المدرع بقيادة العياشي حواسنية كان أول الواصلين إلى العفرون، رغم أنه كان أبعد فيلق عن العاصمة والدبابات تحمل على شاحنات إلى ميدان المعركة ولا تجري في الطريق، وعندما وجدنا جسر بورومي مغلقا سرنا على السكة الحديدية وقتلنا 4 جنود موالين لبومدين وبدأت الاشتباكات".
وأشار ملاح إلى أن قوات بومدين لم تكن كثيفة في البداية ولكن بدأ يصلهم المدد من عدة جهات، وأضاف "من الصباح إلى المساء ونحن نقصف بالدبابات والمدافع والطائرات ثم وصلت قوات المظليين وتم إنزالها جوا على جبل عفرون، كما وصلت قوات الشاذلي بن جديد من الغرب (الناحية العسكرية الثانية وهران) وتم تطويقنا".
في تلك الليلة جاء العقيد زبيري لتفقد قواته وقدم له ملاح تقريرا حول المعركة وقال له "إبقَ معنا لأن الدعوة فشلت"، فرد عليه العقيد زبيري "تراجعوا إلى حمام ريغة وسأنظر ماذا فعل العقيد عباس والرائد يحياوي".
وأوضح عمار ملاح، أنه طلب من القوات التي بقيت معهم بعد انسحاب فيلق المدية التحصّن بالجبال وعدم تدمير الدبابات والمدرعات التي بين أيديهم.
القدر أفشل محاولة اغتيال بومدين
اعترف الرائد عمار ملاح أنه من كان وراء التخطيط وتنفيذ محاولة اغتيال العقيد هواري بومدين رئيس مجلس الثورة والتي نجا منها بأعجوبة. وكشف أن رئيس الحرس الجمهوري والشرطة، أحمد دراية، ومحافظ الشرطة، كمال حمودي، كانا مؤيدين لفكرة تنحية بومدين دون أن يكون هذا الأخير على علم بذلك.
وعندما دخل عمار ملاح إلى العاصمة بعد معركة العفرون، اتفق مع ضابط من عين ياغوت بباتنة يدعى زروال (ليس اليمين زروال) بتدبير عملية لاغتيال بومدين، وكان مع زروال جماعة من الأوراس من بينهم بورزان من عين البيضاء (أم البواقي) من الحرس الجمهوري.
وحتى إذا وقع الاشتباك مع الحرس الجمهوري قام زروال بقلب الرصاص داخل رشاشاتهم باستثناء رصاصتين ركبتا بشكل صحيح، وبدل أن يأخذ بورزان الرشاش السليم أخذ أحد الرشاشات مقلوبة الرصاص، وعندما حان وقت التنفيذ أطلق بورزان رصاصتين على بومدين الأولى أصابت شاربه والثانية أصابت سائقه "الطيب" في الكتف وبعدها تعطل الرشاش ولم يتمكن من إفراغ ذخيرته على السيارة التي كانت تقل بومدين. أما الرجل الثاني المكلف بالعملية، فقد اشتبك مع الحرس الجمهوري وقتل في الحين.
كنت أخشى أن يقتلني دراية في السجن ليدفن سرّه
استطاعت قوات بومدين أن تكتشف مخبأ عمار ملاح وتعتقله، لكن عمار ملاح يؤكد أن الأمن العسكري بحث معه ولم يعذبه، لكنه تعرّض لتعذيب شديد على يد أحمد دراية قائد الحرس الجمهوري والشرطة، وقال "كنت واثقا أن بومدين لن يقتلني (رغم علمه بتورطه في محاولة اغتياله) ولكني كنت أخشى أن يقتلني دراية في إحدى الزنزانات حتى لا تنكشف حقيقة علاقته بحركة 14 ديسمبر 1967 لبومدين".
وتحدث ملاح عن التعذيب الشديد الذي تعرّض له في السجن والظروف اللاّإنسانية التي عاشها، وقال بتأثر "طلبت من القاضي العسكري محمد تواتي أن يسمح بإعطائي ملعقة حتى لا آكل مثل الحيوان فرفض، خوفا من أن أستعملها في محاولة الهرب من السجن، فقلت له إذن أعطوني ملعقة من البلاستيك لكنهم رفضوا، فاتخذت من "قابصة شمة" ملعقة للأكل".
الرائد عمار ملاح نائب قائد الأركان السابق
كان مجاهدا في الولاية الأولى الأوراس بالمنطقة الثانية في جبل شيلية تحت قيادة محمد الصالح يحياوي، ورُقي إلى رتبة رائد في جيش التحرير وعضو قيادة الولاية الأولى الأوراس تحت قيادة العقيد الطاهر زبيري.
بعد الاستقلال أصبح قائدا للناحية العسكرية الخامسة (قسنطينة) بعد أن رقي العقيد زبيري قائدا للأركان، ثم عيّن قائدا للناحية العسكرية الرابعة (ورقلة) خلال عملية القبض على العقيد محمد شعباني في 1964.
كان على رأس دفعة متكونة من 34 ضابطا ساميا ذهبوا إلى الاتحاد السوفياتي لتلقي دورة تكوينية، ولما عاد إلى أرض الوطن عيّن نائبا لقائد الأركان مكلفا بالتنظيم.
كان من المفروض أن يقود الدفعة الثانية من القوات الجزائرية المتجهة إلى الجبهة المصرية للمشاركة في حرب الاستنزاف ضد اليهود، لكن اندلاع أزمة زبيري مع بومدين جعلته ينحاز إلى صف زبيري، وبعد فشل عملية الانقلاب على بومدين دبّر عملية فاشلة لاغتياله.
ألقي عليه القبض في 1968 وحكم عليه بالإعدام، وبعد وفاة بومدين وصعود الشاذلي إلى الحكم في 1980 أصدر قرارا بالعفو عنه بعد نحو 12 سنة قضاها في السجن. عيّنه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عضوا في مجلس الأمة عن الثلث الرئاسي.
تجدر الإشارة، إلى أن عمار ملاح من المجاهدين القلائل الذين لهم عدة إصدارات وكتب عن الثورة وما بعد الثورة أبرزها كتاب "حركة 14 ديسمبر 1967
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 24
العقيد محمد الصالح يحياوي يرد على الطاهر زبيري
جماعة بومدين جهّزت طائرة للفرار في حالة فشل الانقلاب على بن بلة
يتعرّض الإنسان في مسار حياته إلى فترات دقيقة وحرجة، يشتد فيها التنازع بين العقل والعاطفة، إزاء مواقف محددة، سيما إذا كانت تمس، وفي العمق، قضايا وطنية ومصيرية، ويكثر حولها الجدل، وتتعدد الروايات، إلى درجة أن كل من له ضمير حي، ويحرص على إبداء الحقيقة، خدمة للتاريخ وإنصافا للرجال، يجد نفسه مجبرا على تجاوز الاعتبارات العاطفية، والاحتكام إلى العقل والضمير.
وهذا ما حدث لي وأنا أتابع قراءة مذكرات الأخ العقيد “الطاهر الزبيري”، والتي ذكر فيها معلومات غير دقيقة، وأخرى مبتورة مجزأة، تستدعي التصحيح والتوضيح.
لقد ربطتني بالأخ الزبيري، علاقات مودة وصداقة متينة، أحكمت عراها سنوات من الكفاح المسلح، أثناء حرب التحرير، ورسّختها بعد الاستقلال قناعات مشتركة، وأهداف واحدة، ناضلنا في سبيل حمايتها وتحقيقها، واتخذنا معا مواقف صريحة وقوية، ضد ما بدا لنا من انحرافات عن مبادئ أول نوفمبر، ومن نزوع إلى التفرّد بالحكم، والسعي لبناء نظام بوليسي جائر. فانتقدنا بشدة ممارسات الرئيس أحمد بن بلة، ثم الرئيس بومدين، عند نزوعه هو الآخر إلى التفرّد.
وسأتناول بشيء من التفصيل وقائع ما حدث في هذه الفترة الحساسة من تاريخ الجزائر، متجاوزا كل العواطف، ملتزما الأمانة والصدق.
سأروي كل ذلك بنزاهة وتجرد ما استطعت كشهادة، خدمة للتاريخ، وإنصافا للرجال، كما أسلفت، وتطهيرا لنفسي من الإثم، لأن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: “لا تكتُموا الشهادة، ومن يكتُمْها فإنه آثِـمٌ قـلبُه” صدق الله العظيم. ولنبدأ رواية الوقائع من بداياتها الأولى، ليتضح سياقها العام…
كيف ساءت العلاقة مع الرئيس بن بلة؟
في أواخر سنة 1962 تقرر انتدابي للعمل مع “المكتب السياسي” لتنظيم الحزب وإنشاء هياكله على المستوى الوطني، والتحضير لمؤتمره الأول، ممثلا لولاية الأوراس. وكنت، وقتها، مازلت أمشي بالعِصِىّ، إذ لم أكن قد شفيتُ بعد من جراح معركة الوادي الأحمر، بناحية آريس، بتاريخ 18 جانفي 1962. ولقد أتاح لي هذا التعيين فرصة التعرف على أعضاء المكتب السياسي الذين عُيّنوا في مؤتمر طرابلس، وعلى الكثير من الأطر والقادة من مختلف النواحي والمناطق. وبحكم عملي في الحزب، وكممثل أيضا لولاية “الأوراس”، انتخبتُ في مؤتمر 1964، عضوا في قيادة الحزب.
وفي آخر دورة من دورات اللجنة المركزية التي سبقت حركة 19 جوان 1965 ببضعة أشهر، وكان الرئيس “بن بلة” وقتها أمينا عاما للجنة المركزية، يدير أشغالها، ورئيسا للحكومة، ولعدد من الوزارات والهيئات العليا. طلبت منه الكلمة، وتحدثت عن الاعتقالات السياسية، والنفي إلى الصحراء لشخصيات وطنية، وضباط من جيش التحرير الوطني، وكيف تتعامل وتتصرف معهم الشرطة السياسية التابعة مباشرة للرئيس بن بلة.
كان يجلس بجانبي الأخ “عبد العزيز زرداني”، والذي حاول الإمساك بسترتي طالبا مني الجلوس. غير أني واصلت الحديث. ثار الرئيس بن بلة، وانتفض واقفا، ورفع الجلسة، وغادر القاعة إلى مكتبه القريب.
اتصل في الحين بنائبه، وزير الدفاع، العقيد “بومدين”، وكانت تجمعني به علاقة احترام، فأنا الذي استقبلته، في الحدود الجزائرية ـ التونسية، في أواخر صائفة 1962، بعد أن تأزمت العلاقة بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة، وجئت به إلى مدينة خنشلة، حيث قضينا الليل هناك، في منزل المناضل “بوزيان”، وفي الصباح غادرنا إلى مركز الولاية القريب من غابة الابراجة، حيث كان قائد الولاية “سي الطاهر الزبيري” في الانتظار.
كانت فرصة ثمينة، أني تعرفت وتحدثت طويلا مع قائد الأركان الذي أصدرت الحكومة المؤقتة قرارا بعزله.
قلت، اتصل به بن بلة، ليقول له، إنه لا يريد أن يراني مرة أخرى في اللجنة المركزية. كان الرئيس بن بلة يعتقد خاطئا أنني تدخلت بإيعاز أو تنسيق مع قيادة الجيش، التي لم يكن يطمئن لها، ولا هي تطمئن له. وفي اليوم الموالي، اتصل بي “سي الطاهر”، وأخبرني أن بن بلة لا يريد أن يراني مرة أخرى في قيادة الحزب، وأن بومدين يقترح عليّ العودة إلى الجيش كنائب للعقيد عباس بكلية شرشال؛ حيث كان العقيد عباس، رحمه الله، من أعز أصدقائي وأخلصهم، حتى وافته المنية.
تم وضعي في الصورة عن حركة 19 جوان 1965 أسابيع قبل اليوم الموعـود. وكنت أشرف، بنفسي، على تحضير الوحدة التي تقرر أن تتجه للعاصمة، للمشاركة في كتابة فصل جديد من تاريخ الجزائر.
لم أكن مع المجموعة التي ذهبت إلى »فيلا جولي”، مقر إقامة الرئيس بن بلة، في ذلك الوقت، بل قمتُ تلك الليلة بمهام أخرى داخل العاصمة، وكنت مع الوحدة التي قدتها قريبا من الجميع. أما الذين ذهبوا إلى “فيلا جولي”، فهم:
العقيد الزبيري، والعقيد عباس، والرائد السعيد عْبيد، وأحمد دْراية.
كيف كانت الأوضاع في تلك الليلة؟
(ليلة 19 جوان 1965)
في سنة 1978، زارني في مقر الحزب، بعد وفاة بومدين، وكنت وقتها المسؤول التنفيذي المكلف بالحزب، زارني الأخ “الطيّبي العربي”، عضو مجلس الثورة، ووزير الفلاحة سابقا رحمه الله.
قال لي أنتم تجهلون شيئا مهمّا وخطيرا يتعلق بليلة 19 جوان 1965، ليلة أن كنتم تقودون عملية من أخطر العمليات، وكنتم بين الحياة والموت… كانت مجموعة أخرى من أعضاء مجلس الثورة، وذكر لي أسماء: بومدين، ومدغري، وبوتفليقة، وقائد أحمد، والشريف بلقاسم، وشابو عبد القادر. قال لي إن هؤلاء أحضروا طائرة في المطار العسكري ببوفاريك، تحسّبا لأي طارئ، قد يُفشل العملية.
لم يتعرّض “الزبيري” لهذا، غير أن الطيّبي العربي كان واثقا مما يقول. ولقد أكدتْ هذه العملية، مرة أخرى، أننا كنا نحن قيادات الداخل، نصنّف دائما في خانة الأنصار وغيرنا في خانة المهاجرين، فهم الأمراء كما قال “أبوبكر الصديق” رضي الله عنه.
أزمة خريف 1967
قبل الفاتح من نوفمبر1967 بأسابيع، جاءني إلى “بشار”، قائد الأركان العقيد سي الطاهر الزبيري، مصحوبا بالرائدين: “زرقيني” و”بوتـلة”. وكان الثلاثة غير راضين عن وضع قيادة الأركان والصلاحيات الممنوحة لها، وعلاقتها بوزارة الدفاع. فضلتُ أن لا أشارك في الحديث، فأنا لم أكن أطمئنّ لبعضهم. ولم يقل لي العقيد سي الطاهر، طيلة وجوده بالناحية الثالثة، أيّ شيء عن خططه، وعمّا كان ينوي القيام به في الفاتح من نوفمبر.
وقبل أيام قليلة من التظاهرة، اتصل بي الملازم الأول “عيسى بخوش”، قائد مدرسة المدفعية “بالتلاغمة”، والذي كان بالعاصمة مع المجموعة التي ستشارك في الاستعراض العسكري. قلت اتصل بي وأخبرني أنهم تسلموا أمرا من قيادة الأركان للمشاركة في الاستعراض العسكري بالذخائر الحية، وهذا شيء خطير، وغير مألوف من قبل، فنبّهته للمخاطر، وحذّرته من سلوك هذا الطريق… كل هذا وقائد الأركان لم يقل لي شيئا.
كان الملازم الأول عيسى بخـوش من أعز زملائي، حتى اليوم. عمل مرؤوسا لي بالمنطقة الأولى، ثم بالمنطقة السادسة “النمامشة”، بولاية الأوراس، وكانت هذه الأخيرة من أخطر وأصعب المناطق بالأوراس، وأنا مازلت أعاني من جروح معاركها حتى اليوم…
أما غياب قائد الأركان يوم الفاتح من نوفمبر عن الاستعراض، فقد أخبرني به العقيد عباس، رحمه الله. وبعد حادثة الغياب هذه، كلف الرئيس بومدين، العقيد عباس، والرائد بن سالم، بالانضمام إلى قائد الناحية الأولى، الرائد “السعيد أعبيد”، للمشاركة في تهدئة الأوضاع التي بدأت تطفو على سطح الأحداث، وجَعْـل حد “للشوشرة” داخل الجيش، والتي أثمرت فيما بعد حركة سميت بـ: حركة “14 ديسمبر”، التي قادها العقيد “الزبيري”.
ذهاب العقيد زبيري إلى ثكنة “اللّيدو” والاحتماء بفيلق الدبابات
كان أول من أخبرني بذهاب قائد الأركان، إلى ثكنة “الليدو”، حيث يوجد الفيلق المدرع بقيادة الملازم الأول “العياشي”، هو الرئيس بومدين بنفسه، في الثالثة أو الرابعة صباحا، عن طريق الخط المباشر. وكنت في مقر قيادة الناحية العسكرية الثالثة ببشار. وقال لي، وقتها، إن سي الطاهر الزبيري قد ذهب إلى ثكنة “الليدو”، بضواحي العاصمة، عند صهره العياشي. وأردف قائلا: “…لقد كلفت عباس وبن سالم وعْـبَيد، بالاتصال به، وأرجو أن تكونوا يقظين، فالناحية الثالثة وضْعها حساس. وسأعاود الاتصال بك عندما يعود عباس ومن معه من عند سي الطاهر”.
وفعلا عاود الاتصال بي، في نفس اليوم، ليخبرني أن سي الطاهر، عـاد إلى منزله. وطلب مني العقيد بومدين القدوم إلى العاصمة للمشاركة في المساعي التي يبذلها الإخوة الثلاثة المذكورون آنفا.
لذلك، فأنا لم أذهب قط مع الإخوة الثلاثة إلى»الليدو”، كما قال العقيد الزبيري. وقد عملنا، نحن الأربعة، كل ما في وسعنا لتفادي المحظور، ونجحنا في إقناع الزبيري، بإبعاد فيلق المدرعات إلى ولاية” الشلف”.( الأصنام وقتئذ).
لم يكن أيّ منا، نحن الأربعة، يفكر في عمل عسكري. فلا بن سالم الذي كانت وحداته على بعد أمتار من الرئاسة، ولا السعيد عـبيد الذي كان هو أيضا قاب قوسين أو أدنى من مقرات القيادة، ولا عباس الذي كان على بعد بضعة كيلومترات من تواجد بومدين، ولا يحياوي الذي كانت جل وحداته بمنطقة تندوف، على بعد 2000 كيلومتر من العاصمة.
كانت مواقفنا نحن الأربعة متعاطفة مع سي الطاهر سياسيا، وكنا نصارح بومدين بهذا، كما كان يفعل سي الطاهر. ولم نكن ندفعه ثم نتخلّى عنه، كما يقول، خاصة في حديث له مع قناة الجزيرة، وهذا شيء لم يحصل أبدا.
وطيلة أيام الأزمة التي استمرت أسابيع طويلة،. تجنبت لقاء سي الطاهر على انفراد. كنت أعلم انه ينسق مع العُقـداء القدامى، ومنجلي، ولعروسي وآخرين، وهم كثرة، وكان فعلا يخطط مع هؤلاء لعملٍ ما، كما أكد ذلك “ملاح”.
قلت تجنبت لقاء سي الطاهر على انفراد. ما عدا مرة واحدة، تلاقينا فيها أمام منزلي، قبل منتصف الليل، وطلب مني أن نذهب معا إلى منزله فذهبنا. وكان منزله دائما مليئا بأناس لا أعرفهم، أو لا أطمئن إليهم. جلسنا معا في غرفة منفصلة عـن الصالون، وكان ثالثنا الملازم موسى احواسنية رحمه الله. تحدثنا عن الأوضاع. وفهمت أنه يريد التغيير، ولكن ليس لديه برنامج واضح، لم يقل وقتها ما لونه، وما شكله، وما طعمه.
قلت له في تلك الليلة بصراحة، وأظنه يتذكر الآن ذلك جيدا.. قلت له: “سي الطاهر، ليس من طبعي الخيانة والغدر؛ بومدين وضعني على رأس قيادة ناحية من أخطر النواحي، ولا يمكن أن أطعنه في الظهر!”.
ربما كنت في قرارة نفسي لا أعتقد هذا.. ولكني قلته بقصد إبعاد سي الطاهر عن هذا التفكير.. غضب مني وقال لي: هذا أنت؟ وافترقنا.
سي الطاهر يقول كنت أنتظر المدد من يحياوي ونزار، ومرات من عباس، وبن سالم، واعبيد.. كيف ينتظر المدد من يحياوي الذي سمع منه هذا الكلام، وتبعد وحداته عن العاصمة بـ2000 كم؟
Admin- Admin
- عدد المساهمات : 2093
تاريخ التسجيل : 01/03/2010
الموقع : hmsain.ahlamontada.com
- مساهمة رقم 25
رد: مذكرات الطاهر الزبيري
يقول سي الطاهر الزبيري في مذكراته: كنت أنتظر المدد من يحياوي ونزار. ومرات أخرى من عباس، وبن سالم، والسعيد عبيد.. كيف ينتظر المدد من يحياوي الذي سمع منه مثل ذلك الكلام بمنتهى الصراحة؟ بالاضافة إلى أن وحداته العسكرية تبعد عن العاصمة بألفي كيلومتر. (2000 كم!)
ثم يتهمنا سي الطاهر نحن الأربعة بالحياد تارة، وبالخوف تارة أخرى، والكل يعلم مَـن هم هؤلاء الأربعة الذين يـقال عنهم إنهم خافوا، وأخلفوا ما وعـدوا به... سامحه الله.
لقد حاول الرائد ملاح، طيلة أيام الأزمة، الاتصال بي فامتنعت. وكنت أعرف أنه حول منزله طيلة أيام الأزمة إلى وكر يلتقي به كل ما هب ودب.. وكان مخترقا بالتأكيد من أعوان الأمن المندسين بين زواره.
ليلة اختفاء العقيد زبيري
في يوم 12 ديسمبر، رتبنا نحن الأربعة موعـدا مع الرئيس بومدين، للفصل في قضايا ثلاث:
أولا - الاتفاق على فترة زمنية نسلم فيها الحكم لسلطة مدنية، عن طريق انتخابات حرة، أو مؤتمر للحزب.
ثانيا - استئناف مجلس الثورة لاجتماعاته في هذه الفترة.
ثالثا - تسوية وضعية سي الطاهر الزبيري.
في ذلك اليوم دعانا الرائد السعيد عْبيد لتناول الإفطار الرمضاني في منزله القريب من منزل سي الطاهر. وكـنـا، حول مائدة الطعام، نحن الأربعة، ومعنا قائد احمد. وسي الطاهر. وضعنا سي الطاهر في الصورة، مما كنا ننوي القيام به أثناء اجتماعنا مع بومدين في تلك الليلة. قلنا لي سي الطاهر، نحن الأربعة إما أن نصل إلى حل بالنسبة لهذه القضايا الثلاث، أو نقدم استقالاتنا، وهو أقصى ما كنا فاعلين. واتفقنا مع سي طاهر على أن نلقاه، في تلك الليلة، بعد لقائنا مع بومدين .
دام اجتماعنا مع بومدين حوالي خمس ساعات. كان اللقاء صريحا وعاصفا. واتفقنا معه في النهاية على فترة ستة أشهر كمدة للخروج من المؤقت، وإجراء انتخابات حرة بعدها. وأثناء هذه الفترة يواصل مجلس الثورة اجتماعاته وهو -أي المجلس- الذي يشرف على هذه العملية وبحضور سي الطاهر دون عودته لقيادة الأركان.
بعد خروجنا من منزل بومدين ذهبنا مباشرة إلى منزل الزبيري، كما اتفقنا، قرعنا بابه، فخرج لنا كاتبه الخاص الشريف مهدي الذي قال لنا سي الطاهر نائم وأوصى أن لا يوقظه أحد. تساءلنا أيعقل أن ينام وقد اتفقنا على اللقاء؟
انصرفنا، واتفقنا على اللقاء بعد 5 أو 6 ساعات، أي بعد طلوع شمس ذلك الليل الطويل. وفعلا، التقينا نحن الأربعة على الساعة الثامنة صباحا، وحاولنا الاتصال بسي الطاهر عن طريق الهاتف، ولكن دون جدوى. فتأكدنا حينئذ أن في الأمر"إن"، كما يقال، فقررنا أن نفترق ويذهب كل منا إلى عمله.
سافرتُ، في ذلك اليوم، برا إلى بشار. لم استطع الوصول إلى مدينة البيض إلا بعد منتصف الليل. كانت الثلوج كثيفة في طريقنا، ودخلنا مدينة البيض فوجدناها شبه ميتة، لا كهرباء، ولا ماء، ولا حركة، ولا خبز... كان بها فندق صغير مغلق، فتوجهنا نحو مخبرة المدينة لننام ما تبقى من الليل بالقرب من الفرن لشدة البرد. وقد وصلت كثافة الثلوج إلى نحو أربعين سنتيمترا أو أكثر..
عشت يوم 14 ديسمبر بمدينة البيض معزولا عن الدنيا، لا أعلم شيئا عما دار بمنطقة العـفـرون. وقد جاءني قائد الدرك، بعد منتصف النهار،وأكد لي أن الطريق غير سالك حتى عين الصفراء تقريبا. ونصحني بالتوجه إلى وهران لأخذ طائرة عمودية من هناك. فلم يكن أمامي فعلا إلا التوجه إلى وهران، وأذكر أن الطريق قد فتحت لي بواسطة ناقلة جند، استعملت كاسحة ثلج، حتى تجاوزتُ منحدرات معسكر.
وصلت إلى مقر الناحية بعد العشاء. وذهبت مباشرة إلى مكتب قائد الناحية الرائد الشاذلي بن جديد، فوجدته في حالة سيئة للغاية.. وكان أول من أخبرني بحادثة العـفرون. وبانتحار الرائد السعيد عبيد قائد الناحية الأولى...
نمت تلك الليلة بوهران، وفي صبيحة اليوم التالي، 15 ديسمبر1967، ركبت طائرة عمودية وتوجهت إلى بشار. وكان كل شيء قد انتهى.
لقد اعترف العقيد الزبيري أنه غادر منزله ليلة 12، بعد لقائنا معا في بيت الرائد عـْبيد، وانه أعطى الأوامر للرائد ملاح بالتحرك في اتجاه البليدة، في تلك الليلة، ولم يلتزم بما اتفقنا عليه.. واتضح فيما بعد أنه كان يخطط ويدبر مع الآخرين، للأسف الشديد.
وقد فاته أنه خسر المعركة في اليوم الذي ذهب فيه إلى ثـُكنة الليدو وعاد منها إلى منزله. واعترف بهذا عندما وافق على نقل الفيلق المدرع إلى مكان بعيد.
كان متناقضا في سرده للأحداث، حتى ملاح، وهو ذراعه الأيمن، كما يقول، فاجأه بأمر التحرك في اتجاه البليدة. فهل يعقل أن نقوم بعملية بهذا الحجم والخطورة والتعقيد.. دون دراسة وافية وكافية لكل جوانبها؟؟.
ملاح يعترف أن الوحدات المعَـوَّل عليها لم تكن جاهزة للقيام بهذه المغامرة، وطالب بالمزيد من الوقت، ولكن سي الطاهر كان يرفض ذلك. وأنا هنا أؤكد، مرة أخرى، أن القادة الأربعة الذين ذهبوا للقاء بومدين في تلك الليلة، بعد لقائهم مع الزبيري، لم يكونوا أبدا يعـلمون، أو يـفكرون، فيما فكر فيه، وخطط له
وخطط له الطاهر الزبيري. وأنه لم يكن صريحا معنا، وأن ما قام به ليلة اجتماعنا بالرئيس بومدين دليل على ذلك.
لقد تكلم عن الوحدات الثلاث أو الأربع الموالية له. ولم يتكلم أو عن الوحدات التي كانت وغير موالية. ولم يفكر في كيفية التعامل معها. وهل يصح أن نختصر الجيش الوطني الشعبي كله في ثلاث وحدات أوأربع؟ وبعضها كان مترددا حتى اللحظة الأخيرة.. والأخ سي الطاهر يعلم، ويدرك، أن الشجاعة العسكرية والسياسية لم تكن تنقصني في أي مكان وزمان. لقد كان الرئيس بومدين يسميني الغراب الأسود، لأنني لم أتملق له في يوم من الأيام...
لقد كنت أتعامل معه، دائما، بقاعدة أن الصديق هو مَن صَـدَق، وليس من "صدّق".. وقلت له مرة، في اجتماع لمجلس الثورة، حضره من أعضاء هذا المجلس الأحياء، السادة: بوتفليقة، وبن جديد، وبن شريف. وكنا بصدد الإعداد لانتخابات المجلس الوطني وقتها. قلت له لقد اشتغلنا معك طيلة هذه السنوات، وتحت قيادتك بالموافقة لا المشاركة. وافقناك، ولم نشاركك في الكثير من القرارات والمواقف. ربما كان هذا لثقتنا فيك، أو لخوفنا منك، وقد حان الوقت للعمل معا بالمشاركة، إذا كان لا بد من الاستمرار معا.
كنت دائما أحاول التحدث مع بومدين عندما تكون الفرص سانحة في موضوع سي الطاهر، حتى جاء اليوم الذي طلب فيه مني أن لا أتكلم معه في هذا الموضوع. وكنت على صلة بأخيه الحاج بلقاسم الزبيري، رحمه الله، وكان يزورني في شرشال، وخاصة عندما ينوي السفر للخارج.
وكان الأخ دراية، رحمه الله، عضو مجلس الثورة، والمدير العام للأمن الوطني في ذلك الوقت، على علم بـهذا، وكان يساعـد دائما في عملية الخروج بتدخل مني...
ولقد مر الآن قرابة نصف قرن على الأحداث المأساوية لحركة 14 ديسمبر 1967، وغاب عنا وعن الساحة الكثير من الإخوة الرفاق الذين عايشوا وعاشوا هذه الأحداث بكل مرارتها...الآن يجب أن يُـقـرّ ويعـترف الأخ سي الطاهر، الذي أكن له دائما كل التقدير، بأن حركـته دمرت الجميع، وأنه انفرد بـقـراراته، كما انفرد زميله بومدين. وأن هذه العملية تسببت في تصفية عدد من إطارات الجيش الشابة التي كانت نعم الذخر لمستقبل الوطن.
وللحديث بقية. ليس الآن، ولكن في فرصة أخرى...
ثم يتهمنا سي الطاهر نحن الأربعة بالحياد تارة، وبالخوف تارة أخرى، والكل يعلم مَـن هم هؤلاء الأربعة الذين يـقال عنهم إنهم خافوا، وأخلفوا ما وعـدوا به... سامحه الله.
لقد حاول الرائد ملاح، طيلة أيام الأزمة، الاتصال بي فامتنعت. وكنت أعرف أنه حول منزله طيلة أيام الأزمة إلى وكر يلتقي به كل ما هب ودب.. وكان مخترقا بالتأكيد من أعوان الأمن المندسين بين زواره.
ليلة اختفاء العقيد زبيري
في يوم 12 ديسمبر، رتبنا نحن الأربعة موعـدا مع الرئيس بومدين، للفصل في قضايا ثلاث:
أولا - الاتفاق على فترة زمنية نسلم فيها الحكم لسلطة مدنية، عن طريق انتخابات حرة، أو مؤتمر للحزب.
ثانيا - استئناف مجلس الثورة لاجتماعاته في هذه الفترة.
ثالثا - تسوية وضعية سي الطاهر الزبيري.
في ذلك اليوم دعانا الرائد السعيد عْبيد لتناول الإفطار الرمضاني في منزله القريب من منزل سي الطاهر. وكـنـا، حول مائدة الطعام، نحن الأربعة، ومعنا قائد احمد. وسي الطاهر. وضعنا سي الطاهر في الصورة، مما كنا ننوي القيام به أثناء اجتماعنا مع بومدين في تلك الليلة. قلنا لي سي الطاهر، نحن الأربعة إما أن نصل إلى حل بالنسبة لهذه القضايا الثلاث، أو نقدم استقالاتنا، وهو أقصى ما كنا فاعلين. واتفقنا مع سي طاهر على أن نلقاه، في تلك الليلة، بعد لقائنا مع بومدين .
دام اجتماعنا مع بومدين حوالي خمس ساعات. كان اللقاء صريحا وعاصفا. واتفقنا معه في النهاية على فترة ستة أشهر كمدة للخروج من المؤقت، وإجراء انتخابات حرة بعدها. وأثناء هذه الفترة يواصل مجلس الثورة اجتماعاته وهو -أي المجلس- الذي يشرف على هذه العملية وبحضور سي الطاهر دون عودته لقيادة الأركان.
بعد خروجنا من منزل بومدين ذهبنا مباشرة إلى منزل الزبيري، كما اتفقنا، قرعنا بابه، فخرج لنا كاتبه الخاص الشريف مهدي الذي قال لنا سي الطاهر نائم وأوصى أن لا يوقظه أحد. تساءلنا أيعقل أن ينام وقد اتفقنا على اللقاء؟
انصرفنا، واتفقنا على اللقاء بعد 5 أو 6 ساعات، أي بعد طلوع شمس ذلك الليل الطويل. وفعلا، التقينا نحن الأربعة على الساعة الثامنة صباحا، وحاولنا الاتصال بسي الطاهر عن طريق الهاتف، ولكن دون جدوى. فتأكدنا حينئذ أن في الأمر"إن"، كما يقال، فقررنا أن نفترق ويذهب كل منا إلى عمله.
سافرتُ، في ذلك اليوم، برا إلى بشار. لم استطع الوصول إلى مدينة البيض إلا بعد منتصف الليل. كانت الثلوج كثيفة في طريقنا، ودخلنا مدينة البيض فوجدناها شبه ميتة، لا كهرباء، ولا ماء، ولا حركة، ولا خبز... كان بها فندق صغير مغلق، فتوجهنا نحو مخبرة المدينة لننام ما تبقى من الليل بالقرب من الفرن لشدة البرد. وقد وصلت كثافة الثلوج إلى نحو أربعين سنتيمترا أو أكثر..
عشت يوم 14 ديسمبر بمدينة البيض معزولا عن الدنيا، لا أعلم شيئا عما دار بمنطقة العـفـرون. وقد جاءني قائد الدرك، بعد منتصف النهار،وأكد لي أن الطريق غير سالك حتى عين الصفراء تقريبا. ونصحني بالتوجه إلى وهران لأخذ طائرة عمودية من هناك. فلم يكن أمامي فعلا إلا التوجه إلى وهران، وأذكر أن الطريق قد فتحت لي بواسطة ناقلة جند، استعملت كاسحة ثلج، حتى تجاوزتُ منحدرات معسكر.
وصلت إلى مقر الناحية بعد العشاء. وذهبت مباشرة إلى مكتب قائد الناحية الرائد الشاذلي بن جديد، فوجدته في حالة سيئة للغاية.. وكان أول من أخبرني بحادثة العـفرون. وبانتحار الرائد السعيد عبيد قائد الناحية الأولى...
نمت تلك الليلة بوهران، وفي صبيحة اليوم التالي، 15 ديسمبر1967، ركبت طائرة عمودية وتوجهت إلى بشار. وكان كل شيء قد انتهى.
لقد اعترف العقيد الزبيري أنه غادر منزله ليلة 12، بعد لقائنا معا في بيت الرائد عـْبيد، وانه أعطى الأوامر للرائد ملاح بالتحرك في اتجاه البليدة، في تلك الليلة، ولم يلتزم بما اتفقنا عليه.. واتضح فيما بعد أنه كان يخطط ويدبر مع الآخرين، للأسف الشديد.
وقد فاته أنه خسر المعركة في اليوم الذي ذهب فيه إلى ثـُكنة الليدو وعاد منها إلى منزله. واعترف بهذا عندما وافق على نقل الفيلق المدرع إلى مكان بعيد.
كان متناقضا في سرده للأحداث، حتى ملاح، وهو ذراعه الأيمن، كما يقول، فاجأه بأمر التحرك في اتجاه البليدة. فهل يعقل أن نقوم بعملية بهذا الحجم والخطورة والتعقيد.. دون دراسة وافية وكافية لكل جوانبها؟؟.
ملاح يعترف أن الوحدات المعَـوَّل عليها لم تكن جاهزة للقيام بهذه المغامرة، وطالب بالمزيد من الوقت، ولكن سي الطاهر كان يرفض ذلك. وأنا هنا أؤكد، مرة أخرى، أن القادة الأربعة الذين ذهبوا للقاء بومدين في تلك الليلة، بعد لقائهم مع الزبيري، لم يكونوا أبدا يعـلمون، أو يـفكرون، فيما فكر فيه، وخطط له
وخطط له الطاهر الزبيري. وأنه لم يكن صريحا معنا، وأن ما قام به ليلة اجتماعنا بالرئيس بومدين دليل على ذلك.
لقد تكلم عن الوحدات الثلاث أو الأربع الموالية له. ولم يتكلم أو عن الوحدات التي كانت وغير موالية. ولم يفكر في كيفية التعامل معها. وهل يصح أن نختصر الجيش الوطني الشعبي كله في ثلاث وحدات أوأربع؟ وبعضها كان مترددا حتى اللحظة الأخيرة.. والأخ سي الطاهر يعلم، ويدرك، أن الشجاعة العسكرية والسياسية لم تكن تنقصني في أي مكان وزمان. لقد كان الرئيس بومدين يسميني الغراب الأسود، لأنني لم أتملق له في يوم من الأيام...
لقد كنت أتعامل معه، دائما، بقاعدة أن الصديق هو مَن صَـدَق، وليس من "صدّق".. وقلت له مرة، في اجتماع لمجلس الثورة، حضره من أعضاء هذا المجلس الأحياء، السادة: بوتفليقة، وبن جديد، وبن شريف. وكنا بصدد الإعداد لانتخابات المجلس الوطني وقتها. قلت له لقد اشتغلنا معك طيلة هذه السنوات، وتحت قيادتك بالموافقة لا المشاركة. وافقناك، ولم نشاركك في الكثير من القرارات والمواقف. ربما كان هذا لثقتنا فيك، أو لخوفنا منك، وقد حان الوقت للعمل معا بالمشاركة، إذا كان لا بد من الاستمرار معا.
كنت دائما أحاول التحدث مع بومدين عندما تكون الفرص سانحة في موضوع سي الطاهر، حتى جاء اليوم الذي طلب فيه مني أن لا أتكلم معه في هذا الموضوع. وكنت على صلة بأخيه الحاج بلقاسم الزبيري، رحمه الله، وكان يزورني في شرشال، وخاصة عندما ينوي السفر للخارج.
وكان الأخ دراية، رحمه الله، عضو مجلس الثورة، والمدير العام للأمن الوطني في ذلك الوقت، على علم بـهذا، وكان يساعـد دائما في عملية الخروج بتدخل مني...
ولقد مر الآن قرابة نصف قرن على الأحداث المأساوية لحركة 14 ديسمبر 1967، وغاب عنا وعن الساحة الكثير من الإخوة الرفاق الذين عايشوا وعاشوا هذه الأحداث بكل مرارتها...الآن يجب أن يُـقـرّ ويعـترف الأخ سي الطاهر، الذي أكن له دائما كل التقدير، بأن حركـته دمرت الجميع، وأنه انفرد بـقـراراته، كما انفرد زميله بومدين. وأن هذه العملية تسببت في تصفية عدد من إطارات الجيش الشابة التي كانت نعم الذخر لمستقبل الوطن.
وللحديث بقية. ليس الآن، ولكن في فرصة أخرى...