الحمد لله رب العالمين مفهم سليمان ومعلم إبراهيم ، عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ، اللهم صلّ وسلم على سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فإن التأمين على الأموال والمنافع وغيرها وسيلةٌ من وسائل حفظ المال ورعايته والتعويض عنه في حال تلفه أو ضياعه ، والحديث عن التأمين من هذا المنطلق والتصور يقتضي التمهيدَ له بما يعطي العلم عن مفهوم الإسلام للمال ونظرته إليه من حيث قيمتُه، والحفاظ عليه وتحصيله . وهل هو وسيلة أو غاية ؟ ومن حيث توجيه الإسلام إلى الأخذ بأسباب إثباته والضمانات الكافية لأدائه وتنظيم الإجراءات لمنع تكاثره في أيدي قلة من الناس ، وذلك بسَنِّ التشريعات الإلهية لتوزيع الثروات بين مستحقيها ولينتفع بالمال مجموعةٌ من المحتاجين إليه من المسلمين .
التــأمـين:
التأمين في اللغة من مادة أمِن يأمَن أمناً إذا وثق وركن إليه وأمَّنه إذا جعله في الأمن فكان بذلك آمناً وفي المنجد: يقال أمّن على ماله عند فلان تأميناً أي جعله في ضمانه.
وأما في الاصطلاح : فقد اختلفت تعريفاته لدى الباحثين إلا أن الاختلاف في الغالب اختلافٌ لفظي ، ولعل أقرب تعريف إلى الجمع والمنع والشمول هو :
أنه عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي للمؤمَنِ له أو من يعينه مستفيداً مبلغاً من المال أو إيراداً دورياً أو تعويضاً عن ضرر إثر حادث مُغطى ضرره في العقد وذلك نظير قسط مالي يؤديه المؤَمَّن له للمؤمِن بصفة دورية أو دفعةً واحدة .
والتأمين من المسائل المستجدة حيث لم يكن لفقهائنا السابقين ذكرٌ له لعدم وجوده في عصورهم . ويذكر أن أول من ذكره من الفقهاء ابن عابدين رحمه الله .
التأمين التعاوني ومستندُ القول بجوازه لدى القائلين به
لا شك أن التأمين التعاوني يعتمد في إجرائه – وترتيب أحكامه على ذلك الإجراء – على ما يعتمد عليه التأمين التجاري من إجراءات حيث إن التأمين مطلقاً يعتمد على خمس ركائز هي :المؤمن ، المؤمنُ له ، محلُ التأمين ، القسطُ التأميني ، التعويضُ في حال الاقتضاء .
حجة القائلين بالتفريق بين التأمين التجاري والتعاوني
1- أن التأمين التعاوني يختلف عن التأمين التجاري في أن الفائض من التزامات صندوق التأمين التعاوني يعود إلى المشتركين فيه كل بحسب نسبة اشتراكه ، وهذا أثر من آثار وصف هذا النوع من التأمين بالتعاوني . فهو تعاون بين المشتركين فيه على الصدوع وجبر المصائب وما زاد عن ذلك رجع إليهم وما ظهر من عجز تعيّن عليهم سداده من أموالهم كل بقدر نسبة اشتراكه .
وأما التأمين التجاري فليس فيه هذا التوجه حيث يعتبر الفائض في صندوقه ربحاً لشركة التأمين التجارية ، وفي حال وجود عجزٍ في هذا الصندوق فيعتبر خسارةً على شركة التأمين التجارية الالتزامُ بتغطية هذا العجز من رأسمال الشركة أو من احتياطياتها حيث تعتبر هذه الخسارة ديناً على الشركة.
ويجاب عن هذا: أن دعوى اختلاف التأمين التعاوني عن التأمين التجاري في موضوع الفائض دعوى غيرُ صحيحة فالفائض ُ في القسمين ربحٌ والعجز في صندوق كل منهما خسارة .
وبهذا يتضح أن التأمينَ التعاوني يتفق مع التأمين التجاري من حيث الإجراء التطبيقي في جميع المراحل التنفيذية وفي العناصر الأساسية وليس بينهما اختلاف يقتضي التفريقَ بينهما في الحكم إباحةً وتحريماً ، فكلا القسمين يشتمل على خمسة شروط هي : المؤمن والمؤمن له ومحل التأمين والقسط التأميني والتعويض في حال الاقتضاء . وأن الإلزامَ والالتزام فيهما يتم بإبرام عقد بين الطرفين – المؤمَّن والمؤمن له – يكون في العقد بيانُ أحوال التغطية ومقاديرها والالتزام بها بغض النظر عن ربح أو خسارة.
2- أن التأمين التجاري يشتمل على الربا والغرر الفاحش والقمار والجهالة ، وأن التأمين التعاوني يخلو من ذلك حيث إنه ضربٌ من التعاون المشروع فهو تعاون على البر والتقوى وأن القسط التأميني يدفعه المؤمَّنُ له للمؤمن على سبيل التبرع وأن التعويضَ في حال الاقتضاء يدفع من صندوق المشتركين وأنهم بحكم تعاونهم ملتزمون بالتعويضات سواءٌ وُجِد في الصندوق ما يفي بسدادها أم حصل في الصندوق عجز عن السداد فهم ملزمون بتغطيته من أموالهم كل بنسبة اشتراكه ، وإذا وجد في الصندوق فائض تعيّن إرجاعه إليهم بخلاف التأمين التجاري فما في الصندوق فائض يعتبر ربحاً لشركة التأمين التجارية فهي شركة ربحية قائمةٌ على المتاجرة وطلب الربح لا على التعاون . كما قيل بان التأمين التجاري مبني على الربا والقمار والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل بخلاف التأمين التعاوني فهو مبني على التبرع والتعاون المطلوب شرعاً وعلى المسامحة وانتفاءِ عنصر المعاوضة.
مناقشة هذا القول:
هذا التوجيه لتسويغ القول بجواز التأمين التعاوني وحرمة التأمين التجاري تحتاج مناقشته إلى وقفات حتى يتضح لنا وجه قبول هذا التوجيه أو رده:
الوقفة الأولى:فيما يتعلق بدعوى التعاون المحمود في التأمين التعاوني وانتفائه عن التأمين التجاري.
القول بأن التعاون المحمود والمشروع في التأمين التعاوني مقصودٌ عند الدخول من قبل المشتركين قول غير صحيح فليس لواحد من المشتركين فيه قصدُ تعاون بينه وبين إخوانه المشتركين بل إن الغالب لا يعرفهم أو أنه يجهل أكثرهم ، ولكن هذا التعاون تم بغير قصد كالحال بالنسبة للمشتركين في التأمين التجاري ، ولا شك أن التأمين بصفة عامة يحصل منه تعاون غير مقصود من المشتركين فيه كما يحصل ذلك في جميع الأعمال المهنية ومن جميع العاملين فيها . فرغيف الخبر مثلاً لا يصل إلى يد آكله حتى يمر بمجموعة من مراحل إعداده- زراعة وحصاداً وتنقية وطحنا وعجناً وخبراً – دون أن يكون لعمال كل مرحة قصدٌ في التعاون مع الآخرين على إعداد هذا الرغيف . فهذا نوع من التعاون فهل هو تعاون مقصود أم هو تعاون تم بحكم بواعثه ونتائجه والحاجة إليه . وهذا يعني أن التأمين بقسميه تم بطريق تعاوني غير مقصود كالحكم في تأمين الحاجات البشرية بين مجموعة من الأفراد على سبيل المراحل التنفيذية من غير قصد تعاون في تحصيلها .
ولا أظن أحداً يدعي التفريق بين مشترك في التأمين التعاوني ومشترك في التأمين التجاري فيقول : بان المشترك في التأمين التعاوني يقصد التعاون على البر والتقوى محتسباً الأجر في ذلك عند الله بخلاف المشترك في التأمين التجاري فليس له قصد في التعاون . لا شك أن القول بذلك دعوى موغلةٌ في الوهم وعدم الانفكاك عما يكذبها من حيث الحسُّ والعقل . بهذا يظهر أن وصف التأمين التعاوني بالتعاون المقصود قولٌ لا حقيقة له وأن الصحيح أنه تعاون غير مقصود كالتعاون التجاري فبطل القول بذلك كفرق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني .
الوقفة الثانية:مع القول بأن القسط التأميني في التأمين التعاوني تم تقديمه من قبل المؤمن له على سبيل التبرع.
هذا القول قرين لدعوى التعاون المقصود والذي تبين بطلانُه . فمن خصائص التبرع أن المتبرعَ له حقُّ العدول عن التبرع بكامل ما يتبرع به أو بجزئه فما على المحسنين من سبيل ،كما أن له حقَّ الامتناع عن الاستمرار بما وعد به من تبرع بالأقساط أو بالمشاركة في سد عجز الصندوق . فهل يقبل من المشترك في التأمين التعاوني هذا الحكم على اعتبار أن مشاركته كانت على سبيل التبرع ؟ أم أن امتناعه عن الاستمرار في دفع الأقساط أو الامتناع عن المشاركة في تغطية عجز الصندوق يسقط حقَّه في التعويض وفي المطالبة بما مضى منه دفعه ويعطي القائمين على إدارة التأمين التعاوني حقَّ فسخ العقد معه؟
إن الإجابة على هذا التساؤل من باحثٍ عن الحقيقة يبطل القول بدعوى التبرع ويلزم بالقول بأن المؤمن والمؤمن له تعاقدُ معاوضةٍ توجب الإلزام كالحال بالنسبة للتأمين التجاري ؛ وأن القول بالتبرع بدون أن تثبت له أحكامه ضربٌ من الوهم والخيال.
الوقفة الثالثة:
مع القول بان توزيع الفائض في الصندوق بعد دفع المستحقات عليه يخرج التأمينَ التعاوني من أن يكون طريقاً من طرق المتاجرة وطلب الربح.
وجه الوقوف مع هذا القول من جانبين :
أحدهما : أن طلب الربح والأخذ بأحوال وأنواع التجارة ليس أمراً محرماً أو مكروهاً حتى يُعَدَّ ذلك من مسوغات القول بتحريم التأمين التجاري لكونه يستهدف ذلك . والقول بإباحة التأمين التعاوني لانتفاء الربح فالضربُ في الأسواق والسعي في طلب الرزق والربح أمر مشروع.
الجانب الآخر: يتلخص في أن التأمين التعاوني في واقعة شركةُ تأمين مكونة من مشتركين أعضاءً فيها . فكل مشترك يحمل في الشركة صفتين ، صفة المؤمن باعتباره باشتراكه فيها عضواً له حقُّ في الفائض بقدر نسبة اشتراكه وعليه الالتزامُ والمشاركة في سداد عجز صندوق الشركة عن الالتزام بالتعويضات بنسبة مشاركته . وله صفة المؤمن له باعتباره باشتراكه أحد عملاء الشركة ملتزماً بدفع قسط التأمين وتلتزم الشركة له بدفع تعويضه عما يلحقه من ضرر مغطى بموجب عقده مع الشركة . وبهذا ينتفي وجه التفريق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري فكلاها شركة تأمين تتفق إحداهما مع الأخرى في جميع خصائص التأمين من حيث عناصره ومن حيث الإلزامُ والصفة القانونية لكلا القسمين . فشركة التأمين التجارية شركة قائمة على الإلزام والحقوق والواجبات وكذلك الأمر بالنسبة لشركة التأمين التعاونية فهي شركة قائمة على الإلزام والالتزام والحقوق والواجبات . ومعلوم أن لكل شركة من الشركتين إدارةُ مسؤولةً عن الجانب التنفيذي لأعمال كل شركة سواء أكانت هذه الإدارة من أهل الشركة نفسها أم كانت إدارة أجنبية مستأجرة للإدارة.,كما أن شركة التأمين التجارية ملزمةٌ بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب سواء أكانت الشركة رابحة أم خاسرة فكذلك الأمر بالنسبة لشركات التأمين التعاونية فهي ملزمة كذلك بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب وإذا كان صندوق الشركة فيه عجزٌ يحول دون كامل التزاماته أو بعضها تعين الرجوعُ إلى المشتركين فيها لسد عجز الصندوق ، حتى يكون قادراً على الوفاء بتغطية كامل التزاماته حيث إنهم أصحاب الشركة وملاكها فيجب على كل واحد منهم أن يسهم في تغطية العجز كل بقدر نسبة اشتراكه فهيا.
وقد جاء النص على ذلك في الأنظمة الأساسية لشركات التأمين التعاونية وصدرت قراراتُ وفتاوى الهيئات الشرعية الرقابية بذلك ، كما صدرت قرارات مجموعة من المجالس والمجامع الفقهية والندوات العلمية بإلزام المشتركين في شركات التأمين التعاونية بسد عجز صناديقها . وهذا مما تزول به الحواجزُ المفتعلة بين شركات التأمين التجارية وشركات التأمين التعاونية.
الوقفة الرابعة: مع القول بان التأمين التجاري يشتمل على الربا والقمار والغرر والجهالة وان التأمين التعاوني لا يشتمل على ذلك وإنما هو ضرب من ضروب التعاون والتسامح والتبرعات.
مناقشة هذا القول:
على افتراض بأن التأمين التجاري ينطوي على الربا والقمار والغرر والجهالة فإن التأمين التعاوني يصب في نفس هذا الحوض مع التأمين التجاري . فأهل هذا القول يقولون عن التأمين التجاري بأن المؤمَن له يدفع أقساطاً تأمينية هي أقل بكثير مما قد يُدفع له تعويضاً في حال الاقتضاء . وليس تقابض العوضين في مجلس واحد وإنما أحد العوضين يُستلم قبل تسلم العوض الآخر إن كان بوقت طويل ، وهذا هو عين الربا بقسميه ربا الفضل وربا النسيئة . ويمكن أن يقال في بلة هذا القول : بأن التأمين التعاوني يسلك هذا المسلك حذو القذة بالقذة ومن فرق بينهما بدعوى التبرع أو التعاون فتفريقه مردود عليه بما سبق . والقول بأن التأمين التجاري يشتمل على القمار حيث إن القمار يعتمد على غرم محقق وغنم محتمل حيث إن المشترك يدفع أقساط اشتراكه قطعاً ولا يدفع له التعويض عن الضرر إلا في حال وقوعه . ووقوع الضرر محتملٌ فقد يقع فيُدفع له مبلغ يفوق ما سبق منه دفعه وقد لا يقع الضرر فتضيع مبالغُه التي دفعها في شكل أقساط ،وهذا هو القمار – غرم محقق وغنم محتمل – ويمكن أن يناقش هذا القول بأن التعاوني يتفق مع التأمين التجاري في هذا التصور . فالمشترك في التأمين التعاوني يلتزم بدفع أقساط التأمين بكل حال وقد ينتهي عقد التأمين معه دون أن يقع عليه ما يقتضي التعويض ، فاتفق مع التأمين التجاري في دعوى اشتماله على القمار – غرم محقق وغنم محتمل – والقول بأن التأمين التجاري يشتمل على الغرر الفاحش حيث إن المؤمن له لا يدري هل ينتهي عقده دون أن يقع عليه ما يوجب التعويض فما مقداره ؟ فهذا عين الغرر . ويمكن أن يناقش هذا القول بأن التأمين التعاوني يتفق مع هذا التصور ، ويسير بهذا مع التأمين التجاري جنبا إلى جنب . ولا يدفع هذا دعوى أن التأمين التعاوني مبني على التبرع والتعاون والتسامح . فهو قول موغل في الوهم والخيال ، وبمثل ما ذكرنا في دعوى الربا والقمار والغرر نقول في دعوى الجهالة فما يقال في التأمين التجاري من أوصاف تقتضي القول بحرمته يلزم أن يقال لك في التأمين التعاوني فليس بينهما فروق تقتضي التقسيم والتفريق في الحكم .
شرعية التأمين بنوعيه
أن التأمين بنوعيه لو تحقق فيه القول باشتماله على الربا والقمار والغرر الفاحش والجهالة ، لو تحقق فيه ذلك أو اشتمل على واحدة ما ذكر لكان ذلك كافياً في القول بحرمته ولا نعلم في القول ببطلان أي عقد يشتمل على الربا أو الغرر الفاحش أو القمار أو الجهالة خلاف بين أهل العلم في البطلان ، والنصوص الشرعية من كتاب الله ومن سنة رسوله محمد e متوافرة في ذلك ، فهل التأمين بنوعيه يشتمل على ما ذكر من ربا وقمار وغرر وجهالة ؟ إننا نستطيع أن نتبين ذلك عن طريق التعرف على محل العقد في التأمين . هل محل ذلك المعاوضة بين نقد ونقد كما هو الحال في المصارفة ؟ أم أن محل ذلك عنصر الرهان والمقامرة بحيث يربح أحد المتقامرين ويخسر الآخر ؟ أم أن محل العقد أمر مجهول لا نعلم حقيقته ولا قدره ولا وجه حصوله ؟ أم أن الغرر متحقق حصوله لدى أطرافه ؟ الواقع أن محل العقد في التأمين بقسميه ليس ما ذكر وإنما هو ضمان الأمن والأمان والسلامة من ضياع المال أو تلفه ، فالأقساط التأمينية ثمن للضمان ، فليس لدينا نقود بنقود ، وليس لدينا غارم وغانم ، وإنما كل طرفيه غانم ، فالمؤمن غانم للأقساط التي هي ثمن ضمانه السلامة . والمؤمن له غانم السلامة سواء سلمت العين المؤمن عليها حيث كسب الطمأنينة والارتياح النفسي أثناء مدة عقد التأمين عليها ، وفي حال تلفها فهو كاسب التعويض عنها ، فهو سالم في حال السلامة أو التلف .
إيرادات على القول بأن محل العقد ضمان الأمن والجواب عنها
أحدها :أن الأمن شيء معنوي لا يصح أن يكون محلا للمعاوضة .
والجواب عن هذا الإيراد : أن الأمن مطلب يسعى لتحقيقه الأفراد والجماعات فالأموال تبذل في سبيل الحماية والحراسة والحفظ وذلك لتحقيق الأمن والسلامة من النقص والتلف والضياع والغصب واضطراب الأمن وانتفاء الاستقرار يستوي في استهداف ذلك الأفراد والجماعات والدول . ولو نظرنا إلى ميزانيات الدول لوجدنا أن وزارات الداخلية تختص بنسب كبيرة من الميزانية ثمنا لتحقيق الأمن والأمان الاستقرار في البلاد وهذا يعني أن الأمن والسلامة والأمان والاستقرار أمور معنوية تبذل في سبيل تحقيقها وتوفيرها للبلاد وأهلها أموال كثيرة قد تتجاوز ثلث ميزانية الدولة.وغني عن البيان القول بأن هناك حقوقا معنوية صالحة لأن تكون محلا للمعاوضات بيعا وشراء وتنازلا وصلحا ، مثل حقوق الطبع والنشر والإنتاج والعلامات التجارية وبراءات الاختراع والتنازل عن الاختصاصات والمعاوضة عن الرغبات الثابتة بالاختصاص كل ذلك من الحقوق المعنوية القابلة لتنقل الأيدي على تملكها بالمعاوضة عنها .
الأمر الثاني : أن من شروط البيع أن يكون المبيع مملوكا للبائع وقت العقد، والأمن والأمان ليسا مملوكين للمؤمن وقت إبرام عقد التأمين بينه وبين المؤمن له .
والجواب عن هذا الإيراد : أن المؤمن وهو شركة التأمين باع من ذمته أمناً جرى وصفه وصفا تنتفي منه الجهالة ، وجرى ذكره في العقد وهو قادر على تحقيقه للمؤمن له وقت الاقتضاء وذلك بدفعه التعويض الجالب للطمأنينة والسلامة والأمان . وهذا من أشباه ضمان الأسواق وضمان أمن الطرقات التي جرى ذكرها واعتبارها لدى بعض الفقهاء ومنهم فقهاء الحنفية فقد ذكروا : ( لو قال شخص لآخر اسلك هذا الطريق فإنه آمن وإن أصابك شيء فيه فأنا ضامن، فسلكه وأخذ اللصوص ماله ضمن القائل تعويضه عما أخذ منه ) اهـ. فهذا نوع من التأمين وهذا القائل : اسلك هذا الطريق وأنا ضامن ما يحصل عليك ، لا يملك الضمان وإنما ضمن له من ذمته مما يغلب على الظن قدرته على حصوله عليه وقت حلول أجل التسليم . وبهذا ينتفي رد هذا القول بأن بائع الأمان لا يملكه وقت العقد .
الأمر الثالث : أن القول ببيع الضمان-الأمن والأمان- باعتباره محل العقد يعني القول بأخذ الأجرة على الضمان وهذا القول قد رفضه جمهور أهل العلم بل حكى ابن المنذر الإجماع ممن يحفظ عنه من أهل العلم على منع أخذ الأجرة على الضمان حيث جرى تخريج محل العقد في التأمين على شراء الضمان –أي ضمان حصول الأمن والسلامة للمؤمن له- وأن ذلك غير جائز .
والجواب عن هذا ما يلي : إن القول بمنع أخذ الأجرة على الضمان ليس محل إجماع بين أهل العلم وإن ذكر ذلك ابن المنذر –رحمه الله – فقد قال بجوازه الإمام إسحاق بن راهويه أحد مجتهدي فقهائنا الأقدمين وهو سابق لابن المنذر . وقال بجوازه من فقهاء العصور المتأخرة من علماء الأزهر الشيخ علي الخفيف والشيخ عبد الرحمن عيسى والشيخ عبد الحليم محمود ، ومن علماء المملكة الشيخ عبد الرحمن السعدي والشيخ عبد الله البسام .
الأمر الرابع : إن الضمان في التأمين وقع على أمر مجهول قدره وغير واقع وقت حصول التعاقد بين الطرفين والعقد على أمر مجهول قدره وغير واقع وقته مما تفسد به العقود .
والجواب عن هذا : أن جمهور أهل العلم يجيزون ضمان المجهول وضمان المعدوم ، لأن مآله العلم إذا وقع ، والإلزام بأثر الضمان لا يتم إلا بوقوع مقتضاه ، ومتى وقع حصل العلم بمقداره ، وقد نص على جواز ضمان المعدوم والمجهول مجموعة من أهل العلم منهم : شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين من الفقهاء ، فقد جاء في الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية جمع علاء الدين البعلي صفحة 132 ما نصه :" ويصح ضمان المجهول ومنه ضمان السوق –إلى أن قال- ويصح ضمان حارس ونحوه وتجار حرب بما يذهب من البلد أو البحر وغايته ضمان مجهول وما لم يجب وهو جائز عند أكثر أهل العلم مالك وأبي حنيفة وأحمد" أهـ .
وخلاصة القول فيما ذكر ما يلي :
1- التأمين نازلة اقتصادية من نوازل العصر اقتضاها حماية المال وحفظه .
2- التأمين موضوع جديد لا عهد لفقهائنا الأقدمين به وقد جرى بحثه والنظر في حكمه من حيث الجواز أو المنع لدى مجموعة من المجالس والمجامع الفقهية والندوات والحلقات العلمية ولدى مجموعة من الفقهاء ومن مجموعة من الهيئات الرقابية للمؤسسات المالية الإسلامية .
3- اختلف العلماء في حكمه فمنهم من حرمه مطلقا ومنهم من أجازه مطلقاً ومنهم من فصل في ذلك فأجاز بعضه وحرم البعض الآخر .
4- ذهب جمهور فقهاء العصر إلى تقسيم التأمين إلى تأمين تعاوني جائز وتأمين تجاري محظور وذكر القائلون بهذا التقسيم وجه القول بجواز التأمين التعاوني ووجه القول بحرمة التأمين التجاري ، وممن قال بهذا هيئة كبار العلماء ومجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة ،ومجمع الفقه الإسلامي بجدة .
5- استند القائلون بإجازة التأمين التعاوني على أنه تبرع وتعاون وليس من عقود المعاوضات فهو تأمين خال من الربا والقمار والغرر والجهالة وجرى نقاش ذلك بما أزال جسور التفريق بينه وبين التأمين التجاري .
6- أن محل العقد ضمان الأمن والسلامة للمؤمن له وليس معاوضة نقود بنقود حيث انتفى بهذا التوجيه القول بأن التأمين يشتمل على الربا والقمار والغرر والجهالة .
7- الجواب على الإيرادات على القول بضمان الأمن من حيث إن الأمن أمر معنوي ليس محل معاوضة وفي نفس الأمر لا يملكه المؤمن كما لا يجوز أخذ الأجرة على الضمان . وضمان المجهول وما لم يقع محل خلاف بين أهل العلم.
وبعد فرأيي في أن موضوع التأمين موضوع ذو أهمية بالغة من حيث حصول البلوى به في غالب مجالات حياتنا ، وأنه نازلة عصرية يجب تكثيف الجهود لبحثه من قطاعات علمية ومهنية مختلفة ، ومن جهات ذات اختصاص ، وممن هم أهل لبحثه من حيث المقدرة الفقهية والتمكن الاقتصادي وبُعد النظر من حيث التدبر والاعتبار والتصور والقدرة على تطبيق الأحداث والنوازل على أحكامها الشرعية ، وأن يكون ذلك في محيط قواعد الإسلام العامة وثوابته الجلية وفي محيط التطبيقات الميدانية مع الأخذ في الاعتبار والنظر أن الأصل في المعاملات الإباحة استئناساً بقوله e أنتم أعلم بشؤون دنياكم) . وأن ما تتحقق به مصالح المسلمين وحفظ أموالهم أمر مشروع . مع التقيد بآداب النقاش والبحث عن الحقيقة بحيث يلتزم الباحث التجرد عن التعصب لقول معين حتى تظهر وجاهته واعتبار صحته انطلاقاً من مبدأ : الحكمة ضالة المؤمن ، ومن مبدأ : الرجال يعرفون بالحق لا أن الحق يعرف بالرجال .
والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الكاتب: سماحة الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع
فإن التأمين على الأموال والمنافع وغيرها وسيلةٌ من وسائل حفظ المال ورعايته والتعويض عنه في حال تلفه أو ضياعه ، والحديث عن التأمين من هذا المنطلق والتصور يقتضي التمهيدَ له بما يعطي العلم عن مفهوم الإسلام للمال ونظرته إليه من حيث قيمتُه، والحفاظ عليه وتحصيله . وهل هو وسيلة أو غاية ؟ ومن حيث توجيه الإسلام إلى الأخذ بأسباب إثباته والضمانات الكافية لأدائه وتنظيم الإجراءات لمنع تكاثره في أيدي قلة من الناس ، وذلك بسَنِّ التشريعات الإلهية لتوزيع الثروات بين مستحقيها ولينتفع بالمال مجموعةٌ من المحتاجين إليه من المسلمين .
التــأمـين:
التأمين في اللغة من مادة أمِن يأمَن أمناً إذا وثق وركن إليه وأمَّنه إذا جعله في الأمن فكان بذلك آمناً وفي المنجد: يقال أمّن على ماله عند فلان تأميناً أي جعله في ضمانه.
وأما في الاصطلاح : فقد اختلفت تعريفاته لدى الباحثين إلا أن الاختلاف في الغالب اختلافٌ لفظي ، ولعل أقرب تعريف إلى الجمع والمنع والشمول هو :
أنه عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي للمؤمَنِ له أو من يعينه مستفيداً مبلغاً من المال أو إيراداً دورياً أو تعويضاً عن ضرر إثر حادث مُغطى ضرره في العقد وذلك نظير قسط مالي يؤديه المؤَمَّن له للمؤمِن بصفة دورية أو دفعةً واحدة .
والتأمين من المسائل المستجدة حيث لم يكن لفقهائنا السابقين ذكرٌ له لعدم وجوده في عصورهم . ويذكر أن أول من ذكره من الفقهاء ابن عابدين رحمه الله .
التأمين التعاوني ومستندُ القول بجوازه لدى القائلين به
لا شك أن التأمين التعاوني يعتمد في إجرائه – وترتيب أحكامه على ذلك الإجراء – على ما يعتمد عليه التأمين التجاري من إجراءات حيث إن التأمين مطلقاً يعتمد على خمس ركائز هي :المؤمن ، المؤمنُ له ، محلُ التأمين ، القسطُ التأميني ، التعويضُ في حال الاقتضاء .
حجة القائلين بالتفريق بين التأمين التجاري والتعاوني
1- أن التأمين التعاوني يختلف عن التأمين التجاري في أن الفائض من التزامات صندوق التأمين التعاوني يعود إلى المشتركين فيه كل بحسب نسبة اشتراكه ، وهذا أثر من آثار وصف هذا النوع من التأمين بالتعاوني . فهو تعاون بين المشتركين فيه على الصدوع وجبر المصائب وما زاد عن ذلك رجع إليهم وما ظهر من عجز تعيّن عليهم سداده من أموالهم كل بقدر نسبة اشتراكه .
وأما التأمين التجاري فليس فيه هذا التوجه حيث يعتبر الفائض في صندوقه ربحاً لشركة التأمين التجارية ، وفي حال وجود عجزٍ في هذا الصندوق فيعتبر خسارةً على شركة التأمين التجارية الالتزامُ بتغطية هذا العجز من رأسمال الشركة أو من احتياطياتها حيث تعتبر هذه الخسارة ديناً على الشركة.
ويجاب عن هذا: أن دعوى اختلاف التأمين التعاوني عن التأمين التجاري في موضوع الفائض دعوى غيرُ صحيحة فالفائض ُ في القسمين ربحٌ والعجز في صندوق كل منهما خسارة .
وبهذا يتضح أن التأمينَ التعاوني يتفق مع التأمين التجاري من حيث الإجراء التطبيقي في جميع المراحل التنفيذية وفي العناصر الأساسية وليس بينهما اختلاف يقتضي التفريقَ بينهما في الحكم إباحةً وتحريماً ، فكلا القسمين يشتمل على خمسة شروط هي : المؤمن والمؤمن له ومحل التأمين والقسط التأميني والتعويض في حال الاقتضاء . وأن الإلزامَ والالتزام فيهما يتم بإبرام عقد بين الطرفين – المؤمَّن والمؤمن له – يكون في العقد بيانُ أحوال التغطية ومقاديرها والالتزام بها بغض النظر عن ربح أو خسارة.
2- أن التأمين التجاري يشتمل على الربا والغرر الفاحش والقمار والجهالة ، وأن التأمين التعاوني يخلو من ذلك حيث إنه ضربٌ من التعاون المشروع فهو تعاون على البر والتقوى وأن القسط التأميني يدفعه المؤمَّنُ له للمؤمن على سبيل التبرع وأن التعويضَ في حال الاقتضاء يدفع من صندوق المشتركين وأنهم بحكم تعاونهم ملتزمون بالتعويضات سواءٌ وُجِد في الصندوق ما يفي بسدادها أم حصل في الصندوق عجز عن السداد فهم ملزمون بتغطيته من أموالهم كل بنسبة اشتراكه ، وإذا وجد في الصندوق فائض تعيّن إرجاعه إليهم بخلاف التأمين التجاري فما في الصندوق فائض يعتبر ربحاً لشركة التأمين التجارية فهي شركة ربحية قائمةٌ على المتاجرة وطلب الربح لا على التعاون . كما قيل بان التأمين التجاري مبني على الربا والقمار والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل بخلاف التأمين التعاوني فهو مبني على التبرع والتعاون المطلوب شرعاً وعلى المسامحة وانتفاءِ عنصر المعاوضة.
مناقشة هذا القول:
هذا التوجيه لتسويغ القول بجواز التأمين التعاوني وحرمة التأمين التجاري تحتاج مناقشته إلى وقفات حتى يتضح لنا وجه قبول هذا التوجيه أو رده:
الوقفة الأولى:فيما يتعلق بدعوى التعاون المحمود في التأمين التعاوني وانتفائه عن التأمين التجاري.
القول بأن التعاون المحمود والمشروع في التأمين التعاوني مقصودٌ عند الدخول من قبل المشتركين قول غير صحيح فليس لواحد من المشتركين فيه قصدُ تعاون بينه وبين إخوانه المشتركين بل إن الغالب لا يعرفهم أو أنه يجهل أكثرهم ، ولكن هذا التعاون تم بغير قصد كالحال بالنسبة للمشتركين في التأمين التجاري ، ولا شك أن التأمين بصفة عامة يحصل منه تعاون غير مقصود من المشتركين فيه كما يحصل ذلك في جميع الأعمال المهنية ومن جميع العاملين فيها . فرغيف الخبر مثلاً لا يصل إلى يد آكله حتى يمر بمجموعة من مراحل إعداده- زراعة وحصاداً وتنقية وطحنا وعجناً وخبراً – دون أن يكون لعمال كل مرحة قصدٌ في التعاون مع الآخرين على إعداد هذا الرغيف . فهذا نوع من التعاون فهل هو تعاون مقصود أم هو تعاون تم بحكم بواعثه ونتائجه والحاجة إليه . وهذا يعني أن التأمين بقسميه تم بطريق تعاوني غير مقصود كالحكم في تأمين الحاجات البشرية بين مجموعة من الأفراد على سبيل المراحل التنفيذية من غير قصد تعاون في تحصيلها .
ولا أظن أحداً يدعي التفريق بين مشترك في التأمين التعاوني ومشترك في التأمين التجاري فيقول : بان المشترك في التأمين التعاوني يقصد التعاون على البر والتقوى محتسباً الأجر في ذلك عند الله بخلاف المشترك في التأمين التجاري فليس له قصد في التعاون . لا شك أن القول بذلك دعوى موغلةٌ في الوهم وعدم الانفكاك عما يكذبها من حيث الحسُّ والعقل . بهذا يظهر أن وصف التأمين التعاوني بالتعاون المقصود قولٌ لا حقيقة له وأن الصحيح أنه تعاون غير مقصود كالتعاون التجاري فبطل القول بذلك كفرق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني .
الوقفة الثانية:مع القول بأن القسط التأميني في التأمين التعاوني تم تقديمه من قبل المؤمن له على سبيل التبرع.
هذا القول قرين لدعوى التعاون المقصود والذي تبين بطلانُه . فمن خصائص التبرع أن المتبرعَ له حقُّ العدول عن التبرع بكامل ما يتبرع به أو بجزئه فما على المحسنين من سبيل ،كما أن له حقَّ الامتناع عن الاستمرار بما وعد به من تبرع بالأقساط أو بالمشاركة في سد عجز الصندوق . فهل يقبل من المشترك في التأمين التعاوني هذا الحكم على اعتبار أن مشاركته كانت على سبيل التبرع ؟ أم أن امتناعه عن الاستمرار في دفع الأقساط أو الامتناع عن المشاركة في تغطية عجز الصندوق يسقط حقَّه في التعويض وفي المطالبة بما مضى منه دفعه ويعطي القائمين على إدارة التأمين التعاوني حقَّ فسخ العقد معه؟
إن الإجابة على هذا التساؤل من باحثٍ عن الحقيقة يبطل القول بدعوى التبرع ويلزم بالقول بأن المؤمن والمؤمن له تعاقدُ معاوضةٍ توجب الإلزام كالحال بالنسبة للتأمين التجاري ؛ وأن القول بالتبرع بدون أن تثبت له أحكامه ضربٌ من الوهم والخيال.
الوقفة الثالثة:
مع القول بان توزيع الفائض في الصندوق بعد دفع المستحقات عليه يخرج التأمينَ التعاوني من أن يكون طريقاً من طرق المتاجرة وطلب الربح.
وجه الوقوف مع هذا القول من جانبين :
أحدهما : أن طلب الربح والأخذ بأحوال وأنواع التجارة ليس أمراً محرماً أو مكروهاً حتى يُعَدَّ ذلك من مسوغات القول بتحريم التأمين التجاري لكونه يستهدف ذلك . والقول بإباحة التأمين التعاوني لانتفاء الربح فالضربُ في الأسواق والسعي في طلب الرزق والربح أمر مشروع.
الجانب الآخر: يتلخص في أن التأمين التعاوني في واقعة شركةُ تأمين مكونة من مشتركين أعضاءً فيها . فكل مشترك يحمل في الشركة صفتين ، صفة المؤمن باعتباره باشتراكه فيها عضواً له حقُّ في الفائض بقدر نسبة اشتراكه وعليه الالتزامُ والمشاركة في سداد عجز صندوق الشركة عن الالتزام بالتعويضات بنسبة مشاركته . وله صفة المؤمن له باعتباره باشتراكه أحد عملاء الشركة ملتزماً بدفع قسط التأمين وتلتزم الشركة له بدفع تعويضه عما يلحقه من ضرر مغطى بموجب عقده مع الشركة . وبهذا ينتفي وجه التفريق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري فكلاها شركة تأمين تتفق إحداهما مع الأخرى في جميع خصائص التأمين من حيث عناصره ومن حيث الإلزامُ والصفة القانونية لكلا القسمين . فشركة التأمين التجارية شركة قائمة على الإلزام والحقوق والواجبات وكذلك الأمر بالنسبة لشركة التأمين التعاونية فهي شركة قائمة على الإلزام والالتزام والحقوق والواجبات . ومعلوم أن لكل شركة من الشركتين إدارةُ مسؤولةً عن الجانب التنفيذي لأعمال كل شركة سواء أكانت هذه الإدارة من أهل الشركة نفسها أم كانت إدارة أجنبية مستأجرة للإدارة.,كما أن شركة التأمين التجارية ملزمةٌ بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب سواء أكانت الشركة رابحة أم خاسرة فكذلك الأمر بالنسبة لشركات التأمين التعاونية فهي ملزمة كذلك بدفع التعويضات المستحقة عليها للمشتركين عند الاقتضاء والوجوب وإذا كان صندوق الشركة فيه عجزٌ يحول دون كامل التزاماته أو بعضها تعين الرجوعُ إلى المشتركين فيها لسد عجز الصندوق ، حتى يكون قادراً على الوفاء بتغطية كامل التزاماته حيث إنهم أصحاب الشركة وملاكها فيجب على كل واحد منهم أن يسهم في تغطية العجز كل بقدر نسبة اشتراكه فهيا.
وقد جاء النص على ذلك في الأنظمة الأساسية لشركات التأمين التعاونية وصدرت قراراتُ وفتاوى الهيئات الشرعية الرقابية بذلك ، كما صدرت قرارات مجموعة من المجالس والمجامع الفقهية والندوات العلمية بإلزام المشتركين في شركات التأمين التعاونية بسد عجز صناديقها . وهذا مما تزول به الحواجزُ المفتعلة بين شركات التأمين التجارية وشركات التأمين التعاونية.
الوقفة الرابعة: مع القول بان التأمين التجاري يشتمل على الربا والقمار والغرر والجهالة وان التأمين التعاوني لا يشتمل على ذلك وإنما هو ضرب من ضروب التعاون والتسامح والتبرعات.
مناقشة هذا القول:
على افتراض بأن التأمين التجاري ينطوي على الربا والقمار والغرر والجهالة فإن التأمين التعاوني يصب في نفس هذا الحوض مع التأمين التجاري . فأهل هذا القول يقولون عن التأمين التجاري بأن المؤمَن له يدفع أقساطاً تأمينية هي أقل بكثير مما قد يُدفع له تعويضاً في حال الاقتضاء . وليس تقابض العوضين في مجلس واحد وإنما أحد العوضين يُستلم قبل تسلم العوض الآخر إن كان بوقت طويل ، وهذا هو عين الربا بقسميه ربا الفضل وربا النسيئة . ويمكن أن يقال في بلة هذا القول : بأن التأمين التعاوني يسلك هذا المسلك حذو القذة بالقذة ومن فرق بينهما بدعوى التبرع أو التعاون فتفريقه مردود عليه بما سبق . والقول بأن التأمين التجاري يشتمل على القمار حيث إن القمار يعتمد على غرم محقق وغنم محتمل حيث إن المشترك يدفع أقساط اشتراكه قطعاً ولا يدفع له التعويض عن الضرر إلا في حال وقوعه . ووقوع الضرر محتملٌ فقد يقع فيُدفع له مبلغ يفوق ما سبق منه دفعه وقد لا يقع الضرر فتضيع مبالغُه التي دفعها في شكل أقساط ،وهذا هو القمار – غرم محقق وغنم محتمل – ويمكن أن يناقش هذا القول بأن التعاوني يتفق مع التأمين التجاري في هذا التصور . فالمشترك في التأمين التعاوني يلتزم بدفع أقساط التأمين بكل حال وقد ينتهي عقد التأمين معه دون أن يقع عليه ما يقتضي التعويض ، فاتفق مع التأمين التجاري في دعوى اشتماله على القمار – غرم محقق وغنم محتمل – والقول بأن التأمين التجاري يشتمل على الغرر الفاحش حيث إن المؤمن له لا يدري هل ينتهي عقده دون أن يقع عليه ما يوجب التعويض فما مقداره ؟ فهذا عين الغرر . ويمكن أن يناقش هذا القول بأن التأمين التعاوني يتفق مع هذا التصور ، ويسير بهذا مع التأمين التجاري جنبا إلى جنب . ولا يدفع هذا دعوى أن التأمين التعاوني مبني على التبرع والتعاون والتسامح . فهو قول موغل في الوهم والخيال ، وبمثل ما ذكرنا في دعوى الربا والقمار والغرر نقول في دعوى الجهالة فما يقال في التأمين التجاري من أوصاف تقتضي القول بحرمته يلزم أن يقال لك في التأمين التعاوني فليس بينهما فروق تقتضي التقسيم والتفريق في الحكم .
شرعية التأمين بنوعيه
أن التأمين بنوعيه لو تحقق فيه القول باشتماله على الربا والقمار والغرر الفاحش والجهالة ، لو تحقق فيه ذلك أو اشتمل على واحدة ما ذكر لكان ذلك كافياً في القول بحرمته ولا نعلم في القول ببطلان أي عقد يشتمل على الربا أو الغرر الفاحش أو القمار أو الجهالة خلاف بين أهل العلم في البطلان ، والنصوص الشرعية من كتاب الله ومن سنة رسوله محمد e متوافرة في ذلك ، فهل التأمين بنوعيه يشتمل على ما ذكر من ربا وقمار وغرر وجهالة ؟ إننا نستطيع أن نتبين ذلك عن طريق التعرف على محل العقد في التأمين . هل محل ذلك المعاوضة بين نقد ونقد كما هو الحال في المصارفة ؟ أم أن محل ذلك عنصر الرهان والمقامرة بحيث يربح أحد المتقامرين ويخسر الآخر ؟ أم أن محل العقد أمر مجهول لا نعلم حقيقته ولا قدره ولا وجه حصوله ؟ أم أن الغرر متحقق حصوله لدى أطرافه ؟ الواقع أن محل العقد في التأمين بقسميه ليس ما ذكر وإنما هو ضمان الأمن والأمان والسلامة من ضياع المال أو تلفه ، فالأقساط التأمينية ثمن للضمان ، فليس لدينا نقود بنقود ، وليس لدينا غارم وغانم ، وإنما كل طرفيه غانم ، فالمؤمن غانم للأقساط التي هي ثمن ضمانه السلامة . والمؤمن له غانم السلامة سواء سلمت العين المؤمن عليها حيث كسب الطمأنينة والارتياح النفسي أثناء مدة عقد التأمين عليها ، وفي حال تلفها فهو كاسب التعويض عنها ، فهو سالم في حال السلامة أو التلف .
إيرادات على القول بأن محل العقد ضمان الأمن والجواب عنها
أحدها :أن الأمن شيء معنوي لا يصح أن يكون محلا للمعاوضة .
والجواب عن هذا الإيراد : أن الأمن مطلب يسعى لتحقيقه الأفراد والجماعات فالأموال تبذل في سبيل الحماية والحراسة والحفظ وذلك لتحقيق الأمن والسلامة من النقص والتلف والضياع والغصب واضطراب الأمن وانتفاء الاستقرار يستوي في استهداف ذلك الأفراد والجماعات والدول . ولو نظرنا إلى ميزانيات الدول لوجدنا أن وزارات الداخلية تختص بنسب كبيرة من الميزانية ثمنا لتحقيق الأمن والأمان الاستقرار في البلاد وهذا يعني أن الأمن والسلامة والأمان والاستقرار أمور معنوية تبذل في سبيل تحقيقها وتوفيرها للبلاد وأهلها أموال كثيرة قد تتجاوز ثلث ميزانية الدولة.وغني عن البيان القول بأن هناك حقوقا معنوية صالحة لأن تكون محلا للمعاوضات بيعا وشراء وتنازلا وصلحا ، مثل حقوق الطبع والنشر والإنتاج والعلامات التجارية وبراءات الاختراع والتنازل عن الاختصاصات والمعاوضة عن الرغبات الثابتة بالاختصاص كل ذلك من الحقوق المعنوية القابلة لتنقل الأيدي على تملكها بالمعاوضة عنها .
الأمر الثاني : أن من شروط البيع أن يكون المبيع مملوكا للبائع وقت العقد، والأمن والأمان ليسا مملوكين للمؤمن وقت إبرام عقد التأمين بينه وبين المؤمن له .
والجواب عن هذا الإيراد : أن المؤمن وهو شركة التأمين باع من ذمته أمناً جرى وصفه وصفا تنتفي منه الجهالة ، وجرى ذكره في العقد وهو قادر على تحقيقه للمؤمن له وقت الاقتضاء وذلك بدفعه التعويض الجالب للطمأنينة والسلامة والأمان . وهذا من أشباه ضمان الأسواق وضمان أمن الطرقات التي جرى ذكرها واعتبارها لدى بعض الفقهاء ومنهم فقهاء الحنفية فقد ذكروا : ( لو قال شخص لآخر اسلك هذا الطريق فإنه آمن وإن أصابك شيء فيه فأنا ضامن، فسلكه وأخذ اللصوص ماله ضمن القائل تعويضه عما أخذ منه ) اهـ. فهذا نوع من التأمين وهذا القائل : اسلك هذا الطريق وأنا ضامن ما يحصل عليك ، لا يملك الضمان وإنما ضمن له من ذمته مما يغلب على الظن قدرته على حصوله عليه وقت حلول أجل التسليم . وبهذا ينتفي رد هذا القول بأن بائع الأمان لا يملكه وقت العقد .
الأمر الثالث : أن القول ببيع الضمان-الأمن والأمان- باعتباره محل العقد يعني القول بأخذ الأجرة على الضمان وهذا القول قد رفضه جمهور أهل العلم بل حكى ابن المنذر الإجماع ممن يحفظ عنه من أهل العلم على منع أخذ الأجرة على الضمان حيث جرى تخريج محل العقد في التأمين على شراء الضمان –أي ضمان حصول الأمن والسلامة للمؤمن له- وأن ذلك غير جائز .
والجواب عن هذا ما يلي : إن القول بمنع أخذ الأجرة على الضمان ليس محل إجماع بين أهل العلم وإن ذكر ذلك ابن المنذر –رحمه الله – فقد قال بجوازه الإمام إسحاق بن راهويه أحد مجتهدي فقهائنا الأقدمين وهو سابق لابن المنذر . وقال بجوازه من فقهاء العصور المتأخرة من علماء الأزهر الشيخ علي الخفيف والشيخ عبد الرحمن عيسى والشيخ عبد الحليم محمود ، ومن علماء المملكة الشيخ عبد الرحمن السعدي والشيخ عبد الله البسام .
الأمر الرابع : إن الضمان في التأمين وقع على أمر مجهول قدره وغير واقع وقت حصول التعاقد بين الطرفين والعقد على أمر مجهول قدره وغير واقع وقته مما تفسد به العقود .
والجواب عن هذا : أن جمهور أهل العلم يجيزون ضمان المجهول وضمان المعدوم ، لأن مآله العلم إذا وقع ، والإلزام بأثر الضمان لا يتم إلا بوقوع مقتضاه ، ومتى وقع حصل العلم بمقداره ، وقد نص على جواز ضمان المعدوم والمجهول مجموعة من أهل العلم منهم : شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين من الفقهاء ، فقد جاء في الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية جمع علاء الدين البعلي صفحة 132 ما نصه :" ويصح ضمان المجهول ومنه ضمان السوق –إلى أن قال- ويصح ضمان حارس ونحوه وتجار حرب بما يذهب من البلد أو البحر وغايته ضمان مجهول وما لم يجب وهو جائز عند أكثر أهل العلم مالك وأبي حنيفة وأحمد" أهـ .
وخلاصة القول فيما ذكر ما يلي :
1- التأمين نازلة اقتصادية من نوازل العصر اقتضاها حماية المال وحفظه .
2- التأمين موضوع جديد لا عهد لفقهائنا الأقدمين به وقد جرى بحثه والنظر في حكمه من حيث الجواز أو المنع لدى مجموعة من المجالس والمجامع الفقهية والندوات والحلقات العلمية ولدى مجموعة من الفقهاء ومن مجموعة من الهيئات الرقابية للمؤسسات المالية الإسلامية .
3- اختلف العلماء في حكمه فمنهم من حرمه مطلقا ومنهم من أجازه مطلقاً ومنهم من فصل في ذلك فأجاز بعضه وحرم البعض الآخر .
4- ذهب جمهور فقهاء العصر إلى تقسيم التأمين إلى تأمين تعاوني جائز وتأمين تجاري محظور وذكر القائلون بهذا التقسيم وجه القول بجواز التأمين التعاوني ووجه القول بحرمة التأمين التجاري ، وممن قال بهذا هيئة كبار العلماء ومجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة ،ومجمع الفقه الإسلامي بجدة .
5- استند القائلون بإجازة التأمين التعاوني على أنه تبرع وتعاون وليس من عقود المعاوضات فهو تأمين خال من الربا والقمار والغرر والجهالة وجرى نقاش ذلك بما أزال جسور التفريق بينه وبين التأمين التجاري .
6- أن محل العقد ضمان الأمن والسلامة للمؤمن له وليس معاوضة نقود بنقود حيث انتفى بهذا التوجيه القول بأن التأمين يشتمل على الربا والقمار والغرر والجهالة .
7- الجواب على الإيرادات على القول بضمان الأمن من حيث إن الأمن أمر معنوي ليس محل معاوضة وفي نفس الأمر لا يملكه المؤمن كما لا يجوز أخذ الأجرة على الضمان . وضمان المجهول وما لم يقع محل خلاف بين أهل العلم.
وبعد فرأيي في أن موضوع التأمين موضوع ذو أهمية بالغة من حيث حصول البلوى به في غالب مجالات حياتنا ، وأنه نازلة عصرية يجب تكثيف الجهود لبحثه من قطاعات علمية ومهنية مختلفة ، ومن جهات ذات اختصاص ، وممن هم أهل لبحثه من حيث المقدرة الفقهية والتمكن الاقتصادي وبُعد النظر من حيث التدبر والاعتبار والتصور والقدرة على تطبيق الأحداث والنوازل على أحكامها الشرعية ، وأن يكون ذلك في محيط قواعد الإسلام العامة وثوابته الجلية وفي محيط التطبيقات الميدانية مع الأخذ في الاعتبار والنظر أن الأصل في المعاملات الإباحة استئناساً بقوله e أنتم أعلم بشؤون دنياكم) . وأن ما تتحقق به مصالح المسلمين وحفظ أموالهم أمر مشروع . مع التقيد بآداب النقاش والبحث عن الحقيقة بحيث يلتزم الباحث التجرد عن التعصب لقول معين حتى تظهر وجاهته واعتبار صحته انطلاقاً من مبدأ : الحكمة ضالة المؤمن ، ومن مبدأ : الرجال يعرفون بالحق لا أن الحق يعرف بالرجال .
والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الكاتب: سماحة الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع