د.عبد الحق بن أحمد حميش( )
ملخص البحث:
في كل عصر، بل في كل يوم تحدث للناس حوادث و قضايا ونوازل جديدة، والاجتهاد في هذه النوازل من الأمور الضرورية في حياة الناس اليوم، وذلك لكثرة المستجدات والقضايا المطروحة، ولأن بالناس حاجة ملحة لمعرفة الحكم الشرعي، خاصة وأنهم يقفون أمام حكمها الشرعي عاجزين حيارى. إن فقه النوازل من أبواب الفقه الضرورية للناس يجيبهم عن مسائلهم ونوازلهم، ويبين لهم الحلال والحرام في قضاياهم. "الفقهية المعاصرة". و"فقه النوازل" موضوع يحتاج إلى مدخل منهجي يهتم به من جميع جوانبه، يوضح معالمه ويضع الأسس والقواعد والضوابط له. ومما يهدف إليه البحث: بيان كيفية معالجة القضايا الفقهية المستجدة المطروحة على الساحة، وما هي الأسس والقواعد والضوابط التي يجب اعتمادها للوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح في تلك النوازل. إن فقه النوازل يقوم على الدراسة الشاملة لجميع ما يتعلق بالنازلة من كافة أبعادها الشرعية، التاريخية، القانونية، الاجتماعية، النفسية، ومن ثم إعطاء الحكم الشرعي المناسب لها. كما يحاول البحث تقديم رؤية شاملة للمجتهدين والفقهاء المهتمين بالدراسات الفقهية بعامة، وبخاصة منها تلك الدراسات التي تتناول مستجدات العصر ونوازله، فيكون البحث مرجعا متواضعا مساعدا لهم من حيث بيان الأصول والأسس والمراجع. ويبين كيف أن الفقه الإسلامي نجح في مواجهة تلك الإشكالات الواقعية، الميدانية، في حياة الناس اليومية، وأنه لم يقف يوما جامداً عاجزا عن مواجهة تطورات الحياة ومشاكلها.
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله للناس كافة بشيرا ونذيراً، وداعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وبين لها الحلال والحرام، القائل -عليه الصلاة والسلام- "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"( )، أما بعد:
ففي كل عصر، بل في كل يوم تحدث للناس حوادث وقضايا ونوازل جديدة، والاجتهاد في هذه النوازل من الأمور الضرورية في حياة الناس اليوم، وذلك لكثرة المستجدات والقضايا المطروحة، ولأن بالناس حاجة ملحة لمعرفة الحكم الشرعي، خاصة وأنهم يقفون أمام حكمها الشرعي عاجزين حيارى.
إن فقه النوازل، من أبواب الفقه الضرورية للناس يجيبهم عن مسائلهم ونوازلهم، ويبين لهم الحلال والحرام في قضاياهم.
"القضايا الفقهية المعاصرة" أو "فقه النوازل" موضوع يحتاج إلى مدخل منهجي يهتم به من جميع جوانبه، يوضح معالمه ويضع الأسس والقواعد والضوابط له.
لقد حاولت في هذه الوريقات التي تجمعت عندي أن ألم شتات هذا الموضوع المهم والخطير في نفس الوقت، وأقدم للقارئ والباحث وطالب العلم ما يعينه على فهم واستيعاب مسائل فقه النوازل، وحتى تكون هذه الدراسة عبارة عن مدخل وأساس يبنى عليها كيفية تناول ومعالجة القضايا الفقهية المعاصرة التي تتنزل بالناس.
أهمية البحث وأهدافه:
لا تخفى أهمية الموضوع وضرورته للمهتمين بعلوم الشريعة بخاصة، ولجميع المسلمين بعامة، وإن البحث يهدف إلى تحقيق الأمور التالية:
1- بيان كيفية معالجة القضايا الفقهية المستجدة المطروحة على الساحة، وما هي الأسس والقواعد والضوابط التي يجب اعتمادها للوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح في تلك النوازل.
2- إن فقه النوازل يقوم على الدراسة الشاملة لجميع ما يتعلق بالنازلة من كافة أبعادها الشرعية، التاريخية، القانونية، الاجتماعية، النفسية، ومن ثم إعطاء الحكم الشرعي المناسب لها.
3- من ثم إبراز قدرة الفقه الإسلامي وفاعليته لتقديم الحلول الناجعة التي تستجيب لواقع العصر وتحدياته.
4- البحث يبرهن على صدق الإسلام وخلوده وصلاحيته للقيادة والريادة والتوجيه إلى يوم الدين.
5- يسعى البحث أيضا لبيان ما يمتاز به الفقه الإسلامي عن غيره من التشريعات البشرية بثروته الهائلة، وتنوعه الشامل، وقواعده المحكمة وعطائه المتواصل مما يستوجب الاهتمام به علما وعملا، دراسة و تطبيقا.
6- يحاول البحث تقديم رؤية شاملة للمجتهدين والفقهاء المهتمين بالدراسات الفقهية بعامة، وبخاصة منها تلك الدراسات التي تتناول مستجدات العصر ونوازله، فيكون البحث مرجعا متواضعا مساعدا لهم من حيث بيان الأصول والأسس والمراجع.
7- يعطي البحث إمكانية الاطلاع على تلك الجهود الفقهية العظيمة في كل عصر من العصور الإسلامية والتي واجهت كل طارئ وجديد، ويبين كيف أن الفقه الإسلامي نجح في مواجهة تلك الإشكالات الواقعية، الميدانية، في حياة الناس اليومية، وأنه لم يقف يوما جامدا عاجزاً عن مواجهة تطورات الحياة ومشاكلها.
8- البحث مشاركة متواضعة للاهتمام بموضوع الاجتهاد النوازلي في الشريعة الإسلامية، والتأكيد على وجوب العودة لتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع مناحي الحياة، وشد الأمة بدينها وعقيدتها، ووجوب استشراف النظر إلى آفاق الاجتهاد الآنية والمستقبلية، بحكم ما تعيشه الأمة الإسلامية من تطورات اجتماعية، وتشهده من تحولات اقتصادية، وتواجهه من اختراعات علمية، وما ينزل بها من نوازل ومستجدات وقضايا معاصرة تبحث عن الحلول الشرعية لها.
9- الباحث يريد سد ثغرة موجودة في المكتبة الإسلامية بسبب عدم وجود مؤلف سابق في الموضوع، ولعل نشر هذا البحث يستثير قريحة علمائنا وطلابنا لبحث الموضوع والاهتمام به.
10- للإشارة إلى المراجع والمؤلفات والمجلات والمواقع الإلكترونية التي اهتمت بهذا الموضوع.
الدراسات السابقة في الموضوع:
لم يكتب في الموضوع كتابة شاملة مستقلة إلا القليل وفيما يلي ذكر لذلك:
1- إعلام الموقعين: لابن القيم الجوزية (752هـ) ففي الجزأين الأول والرابع من الكتاب مباحث نفيسة في الموضوع وإن ما كتبه ابن القيم رحمه الله تعالى في ذلك الوقت كأنه كتبه لنوازل العصر الحاضر وهذا يدل على علم وفقه هذا العالم الكبير.
2- فقه النوازل: د. بكر أبو زيد: والكتاب يحوي مجموعة أبحاث دون مدخل أو مقدمة منهجية.
3- المعاملات المالية المعاصرة: د.محمد عثمان شبير: ففي مقدمة هذا الكتاب دراسة جيدة لكيفية تناول القضايا الفقهية المعاصرة، ولقد استفدت من هذه المقدمة في بحثي خاصة في موضوع منهج دراسة النوازل.
4- منهج استخراج الأحكام الفقهية للنوازل المعاصرة دراسة تأصيلية تطبيقية: للدكتور مسفر بن علي بن محمد القحطاني (رسالة دكتوراه قدمت بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى).
5- مجلة "مجمع الفقه الإسلامي" في عددها الحادي عشر الجزء الثاني حيث اشتمل العدد على دراسات تحت عنوان: "سبل الاستفادة من النوازل (الفتاوى) والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة.
6- مقدمة في فقه النوازل: للأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر على موقعه بالإنترنت (www.almoslim.net) اعتمد في كتابة هذه المقدمة على ما جاء في كتاب المعاملات المالية المعاصرة للدكتور محمد عثمان شبير.
لقد استفدت من بعض هذه الدراسات التي تيسر لي الاطلاع عليها وحاولت أن أضيف إليها بعض المعلومات الأخرى فرتبتها فكان بحثي على النحو التالي:
خطة البحث:
هذا ولقد كانت خطتي في هذا الموضوع على النحو التالي:
المبحث الأول: حقيقة فقه النوازل:
- المطلب الأول: في تعريف فقه النوازل.
- المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة.
- المطلب الثالث: الفرق بين النوازل والفتاوى.
المبحث الثاني: أهمية فقه النوازل:
- المطلب الأول: أنواع القضايا المعاصرة.
- المطلب الثاني: خصائص فقه النوازل.
- المطلب الثالث: فوائد فقه النوازل.
المبحث الثالث: الاجتهاد في فقه النوازل:
- المطلب الأول: شروط المتصدر للفتوى في النوازل.
- المطلب الثاني: طريقة الاجتهاد في الإسلام.
- المطلب الثالث: ضوابط الاجتهاد في النوازل.
- المطلب الرابع: منهج دراسة النوازل.
- المطلب الخامس: الاجتهاد الجماعي في النوازل.
المبحث الرابع: مصادر فقه النوازل:
- المطلب الأول: أهم الكتب التي تعرضت لفقه النوازل.
- المطلب الثاني: المجلات المتخصصة في الدراسات الإسلامية وأبحاث الفقه والاجتهاد.
- المطلب الثالث: المواقع الإلكترونية المهتمة بفقه النوازل.
الخاتمة.
وقبل أن أختم هذه الخدمة، أقر بأن البحث قد يتخلله بعض النقص أو القصور، وذلك لأسباب عدة أهمها: أنه لم يكتب فيه من قبل إلا القليل، فلقد اجتهدت وحاولت أن ألم شتاته الموزع على كتب قديمة وحديثة كثيرة.
فإن وفقت في ذلك فالحمد لله أولا وآخراً، فالتوفيق والسداد منه عز وجل فله الشكر والمنة، وإن قصرت أو أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله من جميع الذنوب والخطايا، إنه سميع مجيب.
وأسأل الله تعالى العلي القدير أن تعم الفائدة من هذا البحث، ويبارك فيه، ويكون مقدمة لبحوث أخرى في الموضوع.
وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام المجتهدين المبعوث رحمة للعالمين.
المبحث الأول: حقيقة فقه النوازل
المطلب الأول: تعريف فقه النوازل:
تعريف النوازل لغة:
قال ابن منظور: النازلة: الشديدة تنزل بالقوم وجمعها نوازل( )، وقال صاحب كتاب الصحاح: النازلة: الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس( )، وقال الفيومي: النازلة هي المصيبة الشديدة تنزل بالناس( ).
فنخلص مما سبق أن النازلة لغة هي: الأمر الشديد الذي يقع، بالناس.
تعريف الفقه:
الفقه لغة: مطلق الفهم، وقيل: فهم الأشياء الدقيقة، وقيل: فهم غرض المتكلم من كلامه( )، أما اصطلاحا: فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية( ).
تعريف "فقه النوازل" اصطلاحا:
- لم أعثر على تعريف اصطلاحي قديم لفقه النوازل، لكن بعض الكتاب المحدثين اجتهدوا في ذلك منهم:
الشيخ شلتوت رحمه الله حيث قال في تعريفها: "هي مشكلات المسلم المعاصر التي تعترضه في حياته اليومية العامة"( )، وقال عبد العزيز بن عبد الله: "هي القضايا والوقائع التي يفصل فيها القضاة طبقا للفقه الإسلامي"( )، وقال الشيخ بكر أبو زيد: "هي الوقائع والمسائل المستجدة، والحادثة المشهورة بلسان العصر باسم النظريات والظواهر"( ).
وقال الشيخ سلمان العورة: "هي قضايا مستجدة يغلب على معظمها طابع العصر المتميز بالتعقيد والتشابك"( ).
وقال محقق كتاب جامع الأحكام للبرزلي: "النازلة: هي في الواقع مشكلة عقائدية أو أخلاقية يصطدم بها المسلم في حياته اليومية، فيحاول أن يجد لها حلا يتلاءم وقيم المجتمع بناء على قواعد شرعية"( ).
بالنظر إلى هذه التعريفات يمكننا ملاحظة التالي:
- أن هذا العلم يبحث في المسائل الجديدة، وهي عبارة عن مشكلات، معاصرة، تتميز بالتعقيد والتشابك، تعترض المسلم في حياته اليومية، فيتصدى لها العلماء المجتهدون ببيان حكمها الشرعي، بناء على قواعد وأصول الشريعة الإسلامية.
عليه يمكننا تعريف فقه النوازل بأنه: "علم بالأحكام الشرعية المتعلقة بالقضايا المعاصرة".
وفي هذا العصر يطلق على فقه النوازل مصطلح "قضايا فقهية معاصرة" فما المراد بهذا المصطلح؟:
يشتمل التعريف عدة عناصر هي: 1- قضايا، 2- فقهية، 3- معاصرة.
أولاً تعريف مصطلح "القضايا":
القضايا: جمع قضية: وهي مأخوذة من قضى، وهي الأمر المتنازع عليه( ) التي تعرض على القاضي أو المجتهد ليحكم أو يفتي فيها.
جاء في المعجم الوسيط القضية: الحكم، والقضية مسألة يتنازع فيها وتعرض على القاضي أو القضاء للبحث والفصل( ).
ثانياً الفقهية:
من الفقه، الفقه كما سبق تعريفه قريبا هو لغة: الفهم الدقيق، أما اصطلاحا: فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.
ومعلوم أن الفقيه يبحث في فعل المكلف من حيث ما يثبت له من الأحكام الشرعية والفقه هو المرجع في معرفة الحكم الشرعي فيما يصدر عن الإنسان أو ما يعترضه من مسائل في حياته( ).
ثالثاً المعاصرة:
المعاصرة مأخوذة من العصر وهو لغة: الدهر، وهو الزمن الذي نزلت فيه هذه القضية، والمقصود به العصر الحالي أو الوقت الحاضر الذي ظهرت فيه كثير من القضايا والمسائل المستجدة التي تحتاج إلى حكم شرعي واجتهاد العلماء المتخصصين فيها.
فمصطلح (قضايا فقهية معاصرة) يعني أن هناك قضايا مستجدة تستحق أن توجه إليها العناية في البحث والتأصيل والتقويم، والإسلام هو الدين الذي أنزله الله عز وجل لتقويم الحياة الإنسانية بما فيها من حركة ونشاط: ومما يقطع به أن له أحكاما وضوابط في كل ما يكتشفه الإنسان من حيث كيفية الاستفادة منه والتعامل معه ولا شك أن علماء الشرع مدعوون دائما إلى استنباط تلك الأحكام والبحث عن تلك الضوابط، مستنيرين بمقاصد شريعة الله وقواعدها العامة ومناهج السلف الصالح التي اتخذوها في مواجهة المستجدات للحكم عليها وضبط التعامل معها( )، وإن حاجة العصر إلى الاجتهاد حاجة أكيدة لما يعرض من قضايا لم تعرض لمن تقدم عصرنا، وكذلك ما سيحدث من قضايا جديدة في المستقبل( ).
المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة:
لقد أطلق الفقهاء على تلك المسائل التي استجدت بالناس في عصورهم المتتالية عدة ألفاظ ومصطلحات، كما تعددت تعبيراتهم وتسمياتهم لهذا اللون من التأليف في الفقه: ومن التسميات التي ذكرت ما يلي:
1- الفتاوي:
هي جمع فتوى -بالواو- بفتح الفاء، وبالياء، فتضم وهي اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم( ).
وفي الاصطلاح: "هو إظهار الأحكام الشرعية بالانتزاع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس"( )، وقيل: هي الإخبار بحكم الله تعالى عن دليل شرعي( ).
ولعل إطلاق اسم الفتاوى على فقه النوازل هو الأشهر والأكثر تداولا بين الناس، من أمثلتها: الفتاوى الهندية، وفتاوى ابن حجر الهيثمي وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية...
2- الفتاوى المعاصرة:
بعضهم يسميها الفتاوى المعاصرة لأنها تتعرض لمسائل الوقت الحاضر وقضاياه أو العصر الحالي، فقد برزت في هذا العصر نوازل كثيرة تحتاج إلى اجتهاد فقهي وحكم شرعي، لعل أشهر من ألف تحت هذا العنوان الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه المشهور في جزأين إلى الآن، وهو من أنفس الكتب.
3- القضايا المستجدة:
القضايا جمع قضية وهي الأمر المتنازع عليه، وأضيف إليها المستجدة لأنها مسائل مستحدثة جديدة الوقوع.
4- المسائل، أو الأسئلة:
سماها بعض العلماء القدماء بالمسائل لأنها تتناول قضايا مطلوبة تطلب حلا أو تطلب فتوى، وبعضهم يسميها بالأسئلة لأنها أسئلة يطرحها الناس ويتكفل العلماء بالرد عليها، ومن أشهر من ألف بهذا الاسم: مسائل: القاضي أبو الوليد بن رشد.
5- الأجوبة، أو الجوابات:
كذلك سماها بعض علماء الأندلس بالجوابات لأنها مسائل أجاب عنها العلماء بطلب من الناس وفي اللغة يقولون: لا يسمى جواب إلا بعد طلب( ).
6- المشكلات:
كما عبر عنها الإمام شلتوت في كتابه الفتاوى حيث قال: "مشكلات المسلم المعاصر التي تعترضه في حياته اليومية"، وكذلك سماها محمد فاروق النبهان في كتابه المدخل للتشريع الإسلامي( )، والمشكلات جمع مشكلة وهي في اللغة من أشكل، يقال أشكل الأمر: إذا التبس( ).
7- الواقعات:
وقال ابن عابدين: الفتاوى أو الواقعات: وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عن ذلك( )، والواقعات جمع واقعة وهي لغة بمعنى نزل، أما في الاصطلاح فهي الحادثة التي تحتاج إلى استنباط حكم شرعي لها، وقيل هي الفتاوى المستنبطة للحوادث المستجدة( ).
8- المستجدات:
وهي المسائل الحادثة التي لم يكن لها وجود من قبل وهذه المسائل يكثر السؤال عن حكمها الشرعي( ).
9- الحوادث:
قال الشيخ محمد البركتي: "الحوادث هي النوازل التي يستفتى فيها"( ).
المطلب الثالث: الفرق بين فقه النوازل والفتاوى:
في الحقيقة هناك ترادف بين النوازل والفتاوى والمسائل والأجوبة، وهي أسماء لمسمى واحد، غير أن النوازل تختص بالحدوث والوقوع فهي لذلك أخص من الفتاوى التي تشمل سؤال الناس عن الأحكام سواء حدثت أولم تحدث.
وقد لا يرد هذا الفرق إذا رجعنا إلى المعنى اللغوي لكلمة الفتوى فهي من الفتاء وهو الحداثة والجدة، وقيل من الفتى وهو الشاب الحدث( ).
قال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي)( ): معنى أفتوني: أجيبوني في الأمر أي الحديث الجديد( ).
وواضح أن الأمر الحديث إما أن يكون هو نفسه حديثا وجديدا حقيقة، وإما أن يكون حديثا بالنسبة للسائل عنه بالخصوص، ومن هنا يظهر التقارب اللغوي بين مصطلحي الفتوى والنازلة( ).
المبحث الثاني: أهمية فقه النوازل
المطلب الأول: أنواع القضايا المعاصرة وأمثلتها:
سأذكر فيما يلي مجموعة كبيرة من القضايا والنوازل المعاصرة وأحيل في الهامش على المجامع أو فتاوى العلماء الذين بحثوا هذه القضايا للاستفادة منها( ):
1- قضايا في العبادات:
الصلاة في الطائرة( ).
استئجار الكنائس للصلاة فيها (في بلاد الغرب)( ).
أوقات الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية الدرجات( ).
تحديد أوائل الشهور القمرية بالحساب( ).
راكب الطائرة متى يفطر؟( ).
الحقنة هل تفطر؟( ).
زكاة الأسهم والسندات( ).
استثمار أموال الزكاة( ).
صرف الزكاة على الدعوة وعلى المراكز الإسلامية( ).
صرف الزكاة على بناء المساجد( ).
مشكلة لحوم الأضاحي في الحج( ).
2- قضايا في مجال الأسرة والمرأة:
الزواج المدني( ).
النكاح بإضمار نية الفرقة( ).
زواج المسيار( ).
التحريم بنقل الدم( ).
تنظيم النسل( ).
إجهاض الجنين الناتج عن اغتصاب( ).
المشاركة السياسية للمرأة( ).
وسائل تنظيم النسل( ).
3- قضايا اقتصادية ومالية (قضايا البيوع):
الورق النقدي( ).
البيع بالتقسيط( ).
بيع الحقوق المجردة( ).
بيع الخلو( ).
الترخيص التجاري( ).
التأمين( ).
تغير قيمة العملة( ).
الإيجار المنتهي بالتمليك( ).
إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة (الفاكس والإنترنت)( ).
الأسواق المالية-البورصة( ).
بطاقات الائتمان( ).
عقد المزايدة( ).
بيع الدم( ).
البنوك الربوية والتعامل معه والعمل فيها( ).
الفوائد المصرفية( ).
الشرط الجزائي( ).
4- قضايا طبية:
قتل الرحمة (تيسير الموت للمريض الميؤوس منه)( ).
إجهاض الجنين المشوه( ).
أطفال الأنابيب( ).
بنوك الحليب( ).
أجهزة الإنعاش( ).
زراعة الأعضاء التناسلية( ).
استخدام الأجنة مصدراً لزراعة الأعضاء( ).
مداواة الرجل المرأة( ).
مسؤوليات الطبيب وأخلاقه وأدبه( ).
مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)( ).
الاستنساخ( ).
الرتق العذري( ).
زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي( ).
حكم تشريح جسم الإنسان( )، نقل الدم( ).
إزالة الشحوم الزائدة (سحب الدهون)( ).
العقاقير والأدوية المحتوية على محرم( ).
اختيار جنس الجنين( ).
الأحكام المتعلقة بالعلاج الطبي( ).
استئجار الرحم( )، موت الدماغ( ).
عمليات التجميل( ).
5- قضايا أخرى:
التجنس بالجنسية الأجنبية( ).
الرياضات العنيفة (الملاكمة، المصارعة)( ).
المسرح والسينما( ).
خطف الطائرات( ).
حوادث السير( ).
العمل في المحلات التي تبيع الخمر والخنزير( ).
المطلب الثاني: خصائص فقه النوازل:
يمتاز هذا النوع من الفقه بخصائص ومميزات أوجزها في النقاط التالية:
النوازل في معظم الأحيان لون جديد من المسائل وطعم جديد لم يسبق حدوثها، لهذا قد تكون على الناس غريبة يصعب فهمها من أول وهلة فهي تحتاج إلى إمعان نظر وإلى بصيرة ثاقبة.
وقليل منها نظري محض أو تعليمي خالص كما هو حال كتب الفقه بصفة خاصة، فهو في الغالب إجابات عن أسئلة يطرحها الناس وحل لمشكلات تتعلق بحياتهم اليومية لهذا كان لها طعم خاص يقبل عليه الناس ويتلهفون معرفة الجواب الصحيح المتعلق به، فكانت مدعاة إلى إثارة علم المتصدر لها واستجلاب رأيه والتعرف على اجتهاداته واختياراته.
كما أن المسائل التي بحثت في فقه النوازل عدت ثروة جيدة، ومادة قانونية إسلامية صحيحة استطاعت أن تدخل في الكتب والمصنفات وأن تستمر ويقبل عليها الناس بلهفة، دون أن تفقد صلاحيتها وقابليتها للحياة.
لذا نرى كيف أن المفتين استندوا إليها في فتاواهم واستشهدوا بها في كتبهم، وأيدوا أجوبتهم بمضمونها، أو باقتباس منها في عبارتها أو أجابوا بها نفسها ناسبين أجوبتهم إلى أصحابها( ).
إن فقه النوازل يختلف عن تلك الافتراضات النظرية فهي مسائل واقعية تحدث للناس وكل متلهف لمعرفة حكمها الشرعي.
كما تتميز المسائل المتعرض لها في فقه النوازل بالتعقيد وكثرة تشابكها ودقة فهما وصعوبة حل معضلاتها، لذا فهي تحتاج إلى مزيد جهد وإلى إمعان نظر وعدم التسرع في الحكم والاجتهاد فيها.
كما أن أكثر هذه المشكلات والقضايا المطروحة قد سببت الحرج والضيق بمن نزلت بهم وهم في حاجة ماسة إلى من يجيبهم عن تلك المسائل وإلى من يرفع الحرج عنهم بالاجتهاد والفتوى
المطلب الثالث: فوائد وأهمية فقه النوازل:
لفقه النوازل فوائد تتعلق بصفة المسائل الواقعية التي تعرض صورا من المجتمع الذي نزلت فيه النازلة، وله فوائد تتعلق بالفتوى أو الحكم الشرعي، وله فوائد تعود على الفقيه المجتهد الناظر في الواقعة وفيما يلي ذكر لهذه الفوائد:
1- أنه من العلوم الهمة والفنون الضرورية في حياة الناس اليوم، لأنه يرد ويجيب عن مشكلات وقضايا مستجدة وعويصة نزلت بالناس وهم في أمس الحاجة لمعرفة الحكم الشرعي فيها.
ومن المعلوم أن الناس لم يكونوا علماء كلهم لا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين، ولقد أمر الله الجاهل أن يسأل العالم عن الحكم فيما ينزل به من قضايا وواقعات، قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)( ).
إذاً يهدف فقه النوازل إلى توليد البدائل الشرعية للمشكلات المطروحة على الساحة المعاصرة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وقانونيا...
2- كما أن لفقه النوازل أهمية أخرى تتصل بصفة النوازل الواقعية التي تعرض لنا صورا من المجتمع الذي وقعت فيه تلك النوازل من الناحية الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية والأدبية:
أ- فمن الناحية الفكرية، يعرفنا فقه النوازل بالعلاقة بين المذاهب الفقهية والفرق الكلامية ويظهر ذلك من خلال المناظرات والمناقشات العلمية التي كانت تدور بين علماء الفرق والمذاهب في أثناء التعرض لنازلة من النوازل، كما يظهر ذلك من خلال مواجهة الأفكار المنحرفة مثل ظاهرة الردة والزندقة وكيف واجه العلماء هذه الظواهر بالقواعد الشرعية اللازمة في هذا الميدان مع الاجتهاد العادل( ).
ب- ومن الناحية الاجتماعية تقدم "النوازل" الكثير من الإشارات إلى أحوال المجتمع الإسلامي في منطقة النازلة من عادات في الأفراح والأتراح، كما تقدم لنا صورة حية عن حياة الناس وعاداتهم في السلم والحرب والعمران وأنواع الملبوسات والمطعومات وما إلى ذلك، الأمر الذي يجعل منها مصدرا وثيقا لعالم الاجتماع مثلما هو للفقيه والعالم.
وكل ذلك سوف يسجله التاريخ، وتتناقله الأجيال، وتصبح كتب فقه النوازل من المصادر والمراجع التي يرجع إليها، لذا نجد كثيرا من المؤرخين قد انصرف إلى مصنفات النوازل والفتاوى لدراستها واستنباط ظواهر اجتماعية منها واستنتاج إفادات تاريخية، ومن هؤلاء المستشرق الفرنسي "جاك بارك" الذي اعتنى بنوازل المازوني- الذي استفاد كثيرا من كتب فقه النوازل لإبراز جوانب اجتماعية للمغرب في عصر هذه النوازل.
ج- ومن الناحية الأدبية فإن لفقه النوازل فوائد عظيمة، فقد تحتوي الأسئلة والأجوبة عن تلك النوازل على قطع أدبية بليغة أو شعر نادر استشهد به، كما أنها تحافظ لنا على لغة الفقه والفقهاء الأدبية الرائعة.
د- ومن الناحية السياسية تنقل هذه النوازل صورة واقعية لحوادث تاريخية تمس ذلك المجتمع الذي وقعت فيه النازلة في السلم والحرب مما قد يفيد السياسي في دراسته ومما يعينه في فهم كثير من أحداث الزمان.
هـ- ومن الناحية الاقتصادية تقدم النوازل جملة من الصور عن الحالة الاقتصادية التي تمر بها البلاد الإسلامية، وعن الملكية والتجارة والبنوك وهذا كله يمكن معرفته من خلال تلك النوازل والمسائل المتعلقة بالمواضيع الاقتصادية، كطغيان البنوك الربوية على واقع المسلمين اليوم وكثرة الأسئلة التي يطرحها المسلمون ويطرحها الواقع المر الذي يتخبط فيه الجانب الاقتصادي في المجتمعات المسلمة، ومشكلة الديون التي تتعب كاهل الدول الإسلامية وغيرها من المواضيع الاقتصادية التي تحتاج إلى فقه واجتهاد في نوازلها وواقعاتها المريرة.
و- ومن الناحية التاريخية تقدم "النوازل" أحداثا تاريخية وقعت للأمة الإسلامية ونزلت بها وتم الجواب عنها، وتقدم أحيانا أحداثا أغفلها المؤرخون الذين ينصب اهتمامهم غالبا بالشؤون السياسية وما يتصل بالحكام والأمراء ومثال عن ذلك ما يحدث اليوم في أفغانستان من تقاتل بين الفصائل الأفغانية، أو مثل الحرب العراقية الإيرانية التي وقعت في الثمانينيات أو اجتياح العراق للكويت وما ترتب عليه من استعانة بالكفار، وما حدث ويحدث لإخواننا المسلمين في يوغسلافيا من اضطهاد واغتصاب وما يستلزم ذلك من فقه واجتهاد يجيب عن تلك الشدائد والنوازل التي تنزل بالأمة الإسلامية في عصورها المتتالية.
3- ومن فوائد فقه النوازل ذلك الأثر العلمي الذي تخلفه هذه الإجابات لأنها تحفظ لنا مسائل واجتهادات العلماء بنصها لتكون سجلا للفتوى والقضاء ومرجعا مهما للمهتمين بها من أهل الاختصاص لا يمكن الاستغناء عنها بحال.
4- كما أن فقه النوازل يعرفنا بأسماء لامعة من العلماء المجتهدين المفتيين، الذين تصدوا لهذه النوازل وأغاثوا الأمة، وكيف أنهم بذلوا الجهد والوسع للوصول إلى الحكم الشرعي وذلك باتباع أصول الاجتهاد دون تعصب أو هوى.
5- وإضافة للفائدة السابقة فإن فقه النوازل يلقي الأضواء على شخصية صاحب ذلك الفقه، وتدلنا على اتجاهه وموقفه وعلى أصوله التي اعتمد عليها في اجتهاده وما إلى ذلك.
6- كما أن لفقه النوازل فائدة أخرى، وهي فيما إذا نوقشت هذه المسائل في المجامع الفقهية التي يتم تشكيلها من علماء يمثلون جميع الدول الإسلامية، فإن ذلك من شأنه تلقيح أفكار العلماء واستفادة بعضهم من علم البعض، وكذلك من أجل التعاون والتكاتف للوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح، وهذا يعصمهم من الخطأ أو الاختلاف، كما يساعد على وضع الأصول والضوابط الاجتهادية مما يسهل على الفقيه والمجتهد النوازلي عمله في استنباط الأحكام الشرعية.
لهذا كله دونت أجوبة العلماء وفتاوى الفقهاء في تلك العصور الزاهرة وكانت مرجعا عظيما لمعرفة الأحكام، وثروة فقهية واسعة وكانت في الوقت نفسه مصادر يرجع إليها مختصون في علم التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة وينهلون منها ما يفيدهم ويعينهم على الفهم الصحيح والعلم الناجح.
وتدوين هذه النوازل ونشرها فيه الفائدة العظيمة ويكون وصلا لما انقطع من سلسلة البحوث الفقهية التي بدأها سلفنا العلماء الأعلام.
7- كسب الأجر والمثوبة من الله عز وجل، فإن الدارس "للنازلة" المتجرد الذي يريد أن يصل إلى حكمها الشرعي إذا بذل جهده ووصل إلى حكم فيها فهو مأجور، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.
8- الحرص على تأدية الأمانة التي حمّلها الله العلماء؛ فقد أخذ الله الميثاق على العلماء ببيان الأحكام الشرعية وعدم كتمانها، وقد حصر التكليف بهم؛ فكان لزاما عليهم التصدي للفتوى في النوازل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وذلك إبراء للذمة بالقيام بتكاليف إبلاغ العلم وعدم كتمانه.
9- كما أن هذه النوازل تثري الفقيه بعلم من سبقه من العلماء، ومن تم يستطيع الاستفادة والإفتاء بفتاوى من سبقه إذا كانت مطابقة ومتناسبة مع النازلة أو على الأقل أن يسلك مسالكهم ومناهجهم في دراسة نوازل عصرهم على نازلة عصره حتى يصل إلى استنباط الحكم الشرعي المناسب لها.
المبحث الثالث: الاجتهاد في النوازل
المطلب الأول: شروط المتصدر للفتوى في النوازل:
من الضرورة أن يكون في الأمة عدد من العلماء المجتهدين الذين نسميهم: بالعالم النوازلي أو الفقيه النوازلي أو المجتهد النوازلي، الذي إلى جانب توافر شروط الاجتهاد فيه -والتي سوف أذكرها بعد قليل- يجب أن يكون ملما بأمور أخرى مهمة أصبحت ضرورية خاصة في هذا العصر بحوادثه المعقدة والمتشابكة، منها فهمه واقع عصره واستيعابه للتكنولوجيا التي ما فتأت تتطور وترتقي.
وليس كل أحد يصلح للفتوى والاجتهاد بل لا بد من توافر شروط معينة فيمن يتصدى للاجتهاد: "قال مالك وجاء رجل ابن هرمز فأرسل بعض السلاطين يستشيره في الفتوى فسأله: أتراني أهلا لذلك؟ قال: "إن كنت عند الناس كذلك ورأوك أهلا لذلك فباشر".
قال محمد بن رشد: زاد في هذه الحكاية في كتاب الأقضية أنه قال له: إن رأيت نفسك أهلا لذلك ورآك الناس أهلا لذلك فافعل. وهي زيادة صحيحة لأنه هو أعرف بنفسه، فإن لم ير نفسه أهلا لذلك فلا ينبغي له أن يفعل وإن رآه الناس أهلا لذلك، وأما إذا لم يره الناس أهلا لذلك فلا ينبغي أن يفتي وإن رأى هو نفسه أهلا لذلك، لأنه قد يغلط فيما يعتقده في نفسه من أنه أهل لذلك، ولا حرج عليه إن فعل إذا علم من نفسه أنه قد كملت له آلات الاجتهاد بأن يكون عالما بالقرآن وبالسنة، مميزا بين صحيحها وسقيمها، عالما بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار وما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه من أهل النظر والاجتهاد بصيرا بوجه القياس عارفا بوضع الأدلة في مواضعها، ويكون عنده من علم اللسان ما يفهم به معاني الكلام فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال مع العدالة والخير والدين صح استفتاؤه فيما ينزل من الأحكام وجاز للعاصي تقليده فيها"( ).
إذا لابد أن تتوافر في المجتهد الذي يبحث في حكم النوازل شروط الاجتهاد المطلوبة في العلماء المجتهدين لأنه لا يتأتى اجتهاد بدون آلته، وحتى لا تتعثر الاجتهادات وتحيد عن أمر الله تعالى إذ لا يمكن فهم مقاصد الشرع في الكتاب الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بها.
وشروط المجتهد كما نص عليها علماء الأصول( ) في كتبهم هي:
1- أن يكون بالغا، لأن غير البالغ لم يكمل عقله حتى يؤخذ بقوله.
2- أن يكون عاقلا، لأن غيره لا تمييز له يهتدي به إلى ما يريد فلا يعتبر قوله، والمراد من الشرط الأول هو الوصول إلى مجرد العقل بالبلوغ، أما الشرط الثاني فالمراد منه كماله.
3- أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة يقول ابن النجار: "وليس المراد أن يعرف سائر آيات القرآن وجميع أحاديث السنة وإنما المراد ما يحتاج إلى معرفته..."، وليس المراد بعلمه بذلك حفظه، بل المراد أن يكون بحيث يمكن استحضاره للاحتجاج به لا حفظه( ).
4- يشترط في المجتهد أيضا أن يكون عالما بالناسخ والمنسوخ منها -أي من الكتاب والسنة- حتى لا يستدل بدليل منسوخ.
5- العلم باللغة العربية: من نحو وصرف وغيرهما من علوم اللغة العربية، وأن يكون عارفا بعلوم البلاغة من معان وبيان وبديع وبذا يستطيع النظر في الدليل نظرا صحيحا ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا ويكفيه في ذلك الدرجة الوسطى لا أن يبلغ مبلغ الأئمة في اللغة العربية كالخليل وسيبويه والأخفش( ).
6- أن يكون عالما خبيرا بمواقع الإجماع حتى لا يفتي ويجتهد بخلاف ما أجمع عليه فيكون قد خرق الإجماع، وخرق الإجماع حرام( ).
7- أن يكون عالما بأسباب النزول في الآيات والأحاديث ليعرف المراد من ذلك، وما يتعلق بهما من تخصيص أو تعميم: ولأن بعض النصوص نزل عاما وقد أريد به الخصوص ولا يفهم ذلك إلا من خلال العلم بسبب نزول النص.
8- يشترط فيه أن يكون عالما بأصول الفقه: أي بأن تكون له قدرة على استخراج أحكام الفقه من أدلتها وذلك بمعرفة القواعد الأصولية، وعليه أن يطول الباع في هذا الشرط ويضطلع على مختصراته ومطولاته بما تبلغ به طاقته فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه( ).
9- عالما بمقاصد الشريعة وعارفا بمصالح الناس وعرفهم حتى يستنبط الأحكام التي توافق مقصد الشارع وحتى لا يوقع الناس في الحرج والعسر: يقول الإمام السيوطي نقلا عن "مقاصد الشرع قبلة المجتهدين من توجه إلى جهة منها أصاب الحق"( ).
شروط أخرى:
ويمكننا أن نضيف إلى تلك الشروط التي ذكرها العلماء في المجتهد شروطا أخرى والتي لابد أن تتوافر في المجتهد النوازلي بصفة خاصة وهي:
1- الملكة الفقهية:
وذلك بأن يكون ذا ملكة فقهية: وقد تكونت لديه من خلال ممارسته لأساليب الفقهاء واصطلاحاتهم، وأن يكون شديد الفهم بالطبع لمقاصد الكلام، لأن من دون هذه المرتبة لن تتأتى لديه القدرة على الاستنباط المقصود بالاجتهاد( ).
2- سعة الأفق:
ويجب أن تتوفر في المجتهد النوازلي سعة الأفق وتتحقق سعة الأفق بعدم الجهود على ظواهر ألفاظ النص، وبالقدرة على تقليب وجوه النظر في المشكلة، وإدراك تعدد وجوه القياس، وانتقاء الأقوى أثرا والأكثر تحقيقا للمصلحة وإن خفي مأخذه ودق تخريجه( ).
3- الدربة على الفتوى والاستنباط والتخريج:
لابد من التدريب على تخريج الأحكام، لأن التدريب يكسب الفقيه المرونة الفقهية اللازمة في معالجة المشكلات الحديثة وضرورة التدريب على تخريج الأحكام كضرورة التدريب على حل مسائل الرياضيات: فكما لا يكفي العلم بالقوانين الرياضية دون التدرب عليها فكذلك لا يكفي العلم بالقواعد الأصولية دون التدرب على تطبيقها واستنباط وتخريج الأحكام منها.
وقد تنبه الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- قديما إلى أهمية التدريب على تخريج الأحكام فكان رحمه الله تعالى يدرب خواص تلاميذه على ذلك: بطرح المشكلة عليهم تم يتلقى الأحكام والإجابات منهم ثم يناقش هذه الأجوبة معهم فيصحح منها ما يصحح ويرد ما يرد ولا يكره أحداً على قول( )، والهدف من ذلك هو الدربة على الفتوى والاستنباط.
4- الفطنة والذكاء:
لابد أن يكون المجتهد النوازلي ذا فطنة وذكاء حادين يستطيع بهما فهم المسائل من جميع جوانبها ليتوصل بذلك إلى الحكم الصحيح، ومن عُدم الفطنة والذكاء فقد يغيب عليه فهم النازلة وقد يغيب عليه فهم الدليل فهما صحيحا فيكون حكمه مجانبا للصواب.
5- معرفة الناس:
وهذا أصل عظيم يحتاج إليه الفقيه النوازلي، فإن لم يكن فقيها فيه، فقيها في الأمر والنهي يطبق أحدهما على الآخر، كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
فإنه إذا لم يكن فقيها بمعرفة الناس فقد يتصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله كما تقدم بيانه( ).
فرع: وجوب ضبط المتصدين للفتوى والاجتهاد في النوازل:
يقول الراغب الأصفهاني: "لا شيء أوجب على السلطان من مراعاة المتصدين للرياسة بالعلم فمن الإخلال بها ينتشر الشر ويكثر الأشرار، ويقع بين الناس التباغض والتنافر وذلك أن السواس أربعة الأنبياء وحكمهم على الخاصة والعامة ظاهرهم وباطنهم، والولاة وحكمهم على ظاهر الخاصة والعامة دون باطنهم، والحكماء وحكمهم على بواطن الخاصة، والوعاظ وحكمهم على بواطن العامة.
وصلاح العامة بمراعاة أمر هذه السياسات لتخدم العامة الخاصة، وتسوس الخاصة العامة، وفساده في عكس ذلك ولما تركت مراعاة التصدي للحكمة والوعظ، وترشح قوم للزعامة في العلم من غير استحقاق منهم لها فأحدثوا بجهلهم بدعا استغروا بها العامة واستجلبوا بها منفعة ورياسة، ووجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم وقرب جوهرهم منهم، فكل قرين إلى شكله كأنس الخنافس بالعقرب وفتحوا بذلك طرقا منسدة ورفعوا بها ستورا مسبلة وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيهم من الشرة، فبدّعوا العلماء وكفروهم اغتصابا لسلطانهم ومنازعة في مكانهم، فأغروا بهم أتباعهم حتى وطؤهم بأخفافهم وأظلافهم فتولد من ذلك البوار والجور العام"( ). إن أمر الدين عظيم وخطير، ومن أجل هذا حرّم الله القول فيه بغير علم، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)( ).
لذا يجب أن يتولى النظر في فقه النوازل من تحصّل على آلة الاجتهاد وتوفرت فيه شروط الاجتهاد المعروفة والمذكورة في كتب أصول الفقه والتي أشرنا إليها قريبا، "أما أدعياء الاجتهاد الذين لا يملكون إلا الجراءة على النصوص بالأصول وإتيان البيوت من غير أبوابها فهؤلاء ينبغي أن يُرفضوا حفاظا على قداسة الدين وحرمة الشريعة"( ).
وينبغي لأولياء الأمور القيام بواجبهم في هذا فلا يسمحوا بالفتوى والاجتهاد إلا لمن كان أهلاً لذلك، وأما من كان بعيداً عن الاجتهاد ولا يحمل آلته فينبغي منعه بقوة السلطان، حفاظا على الدين وعلى أنفس وأرواح الناس...
فرع: ضرورة الإلمام بعلم مقاصد الشريعة للمجتهدين في النوازل:
أمر المقاصد الشرعية أمر في غاية الأهمية بالنسبة لحملة العلم الشرعي والمتفقهين والمجتهدين في النوازل والوقائع المستجدة.
إذ إنها كالبوصلة التي تحدد للمسافر صحة اتجاهه من عدمه فهي بالإضافة -إلى شروط الاجتهاد التي يجب توافرها في المجتهد- تساعد الباحث عن أحكام الشريعة في تحديد صحة سيره، وسلامة طريقه في التعامل مع نصوص الكتاب والسنة وعباراتها واستخراج واستنباط مدلولاتها ومعانيها ومراميها.
إن الالتفات إلى فقه المقاصد يساعد على تجاوز كثير من المزالق التي قد يقع فيها بعض الفقهاء والمجتهدين أو طلبة العلم حين يقصرون نظرهم على دليل جزئي شرعي، غير ملتفتين إلى موقعه في سياقه العام من كليات الشريعة ومقاصدها العامة، وما قد يترتب على تنزيله في الواقع بالكيفية التي ارتأوها غير عابئين بالموازنة بين المصالح والمفاسد الذي هو ثمرة لفقه المقاصد والذي هو في الحقيقة لب السياسة الشرعية وروحها وحقيقتها في التعامل مع الأحداث والوقائع والمستجدات في الحياة ببصيرة وهدى وفقه وعقل وما أقل من جمع ذلك في زماننا.
وإن مثل من يتصدى للفتوى والاجتهاد في النوازل من غير إلمام بمقاصد الشرع ولا معرفة حقيقية بالواقع مثل من يبحث عن الثمرة في غير شجرتها، أو كمن يحاول استنبات البذرة في غير بيئتها ومكانها المناسب الذي لا تنمو وتنتج إلا فيه، وأنى لهذا أو لذلك أن يبلغ المراد أو يصل للغاية والهدف( ).
وإذا عرضت على الفقيه واقعة ليس فيها نص حكم للشارع فإنه يعطي هذه الواقعة حكما يتفق مع مقاصد الشارع، وذلك بأن يكون الحكم محققا مصلحة من جنس المصالح التي دلت النصوص على اعتبارها، ومن ذلك أن الصحابة حكموا بتضمين الصناع السلع التي تتلف بأيديهم، محافظة على الأموال، وحكموا بقتل الجماعة إذا اشتركوا في قتل الواحد، حفظا للأرواح، وحفظ المال والنفس من المصالح التي لاحظها الشارع في تشريعه، وسار على وفقها في تشريع الأحكام.
وأخيرا فإن الفقيه يزن الأدلة الجزئية الظنية بمقاصد الشارع التي قامت أدلته على اعتبارها، فما كان منها مخالفا لهذه المقاصد رده ولم يعتمد عليه في الاستنباط، فقد ردت عائشة رضي الله عنها حديث "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"( ) لأنه يخالف مقصدا شرعيا دل عليه قوله تعالى: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى*وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)( ) وأهمل "مالك" اعتبار حديث "من مات وعليه صوم صام وليه عنه"( )، لمخالفته لهذا المقصد أيضا( ).
إن المجتهد في حاجة إلى معرفة مقاصد الشارع وإلى الطرق التي بها تعرف المقاصد حتى تكون مقاصده تابعة لمقاصد الشارع ومحكومة بها، وذلك لأن اجتهاده في الأمور التي ليست دلالتها واضحة إنما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع، والأولى بأدلة الشريعة دون ما ظهر لغيره من المجتهدين فيجب عليه اتباع ما هو الأقرب، وأما غير المجتهد فهو بحاجة لعلم المقاصد للتعرف على أسرار التشريع وحكمه. وكذلك لتنشيط العقل المسلم وتخليصه من الأمراض والعلل الناجمة عن النظر الجزئي، وتناسي الغايات وتجاهل المقاصد والتشبث بالأمور الشكلية واللفظية والإحالة على التعبد لأدنى ملابسة وتجاهل الحكم أو الكسل عن طلبها والتفتيش عنها.
وإن العلم بمقاصد الشريعة وأهدافها وغاياتها يساعد كثيرا على إخراج العقل المسلم من تلك الوهدة ويعالجه من تلك الأمراض ويعيد إليه نقاءه وصفاءه وتألقه وقدرته على العطاء والاجتهاد وتوخي المقاصد والغايات( ).
قال عبد الوهاب خلاف: "ومعرفة المقصد العام من التشريع من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها، وتطبيقها على الوقائع، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه( ) لأن دلالة الألفاظ والعبارات على المعاني قد تحتمل عدة وجوه، والذي يرجح واحدا من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع، ولأن بعض النصوص قد تتعارض ظواهرها، والذي يرفع هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها هو الوقوف على مقصد الشارع، ولأن كثيرا من الوقائع التي تحدث ربما لا تتناولها عبارات النصوص، وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها بأي دليل من الأدلة الشرعية، والهادي في هذا الاستدلال هو معرفة مقصد الشارع.
ولهذا يعنى رجال السلطة التشريعية في الحكومات الحاضرة بوضع المذكرات التفسيرية، التي تبين المقصد من تشريع القانون بوجه عام، وتبين المقصد الخاص من كل مادة من مواده، وهذه المذكرات التفسيرية وجميع البحوث والمناقشات التي تبودلت أثناء تحضير القانون وتشريعه هي عون رجال القضاء على فهم القانون وتطبيقه بنصوصه وروحه ومعقوله. وكذلك نصوص الأحكام الشرعية لا تفهم على وجهها الصحيح إلا إذا عرف المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام وعرفت الوقائع الجزئية التي من أجلها نزلت الأحكام القرآنية أو وردت السنة القولية أو العملية( ).
اجتهاد الصحابة في النوازل:
قال ابن القيم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين: "... وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره.
وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنّفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاّها في الطريق، وقال: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخّروها إلى بني قريظة فصلوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس( ).
ولما كان علي رضي الله عنه باليمن أتاه ثلاثة من نفر يختصمون في غلام، فقال كل منهم: هو ابني، فأقرع علي بينهم، فجعل الولد للقارع، وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي -رضي الله عنه-( )، واجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة وحكم فيهم باجتهاده، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لقد حَكَمْتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات"( ).
واجتهد الصحابيان اللذان خرجا في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فصليّا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فصوبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال للذي لم يعد: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك" وقال للآخر "لك الأجر مرتين"( ).
ولما قاس مجزز المدلجي وقاف وحكم بقياسه وقيادته على أن أقدام زيد وأسامة ابنه بعضها من بعض سرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى برقت أسارير وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق، وكان زيد أبيض وابنه أسامة أسود، فألحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم( ).
وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد( )، ولما اسْتُخلِف عمر قال: إني لأستحيي من الله أن أردّ شيئا قاله أبو بكر، وقال الشعبي عن شريح قال: قال لي عمر: أقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح( ).
وقد اجتهد ابن مسعود في المفوضة وقال: أقول فيها برأيي، ووفّقه الله للصواب، وقال سفيان عن عبد الرحمن الأصبهاني عن عكرمة قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد ابن ثابت أسأله عن زوج وأبوين، فقال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال، فقال: تجده في كتاب الله أو تقول برأيك؟ قال: أقوله برأيي، ولا أفضّل أمَّا على أب، وقايس علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه وزيد بن ثابت في المكاتب، وقايسه في الجد والإخوة، وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع، وقال: عقلُها سواء، اعتبروها بها( ).
المطلب الثاني: طريقة
ملخص البحث:
في كل عصر، بل في كل يوم تحدث للناس حوادث و قضايا ونوازل جديدة، والاجتهاد في هذه النوازل من الأمور الضرورية في حياة الناس اليوم، وذلك لكثرة المستجدات والقضايا المطروحة، ولأن بالناس حاجة ملحة لمعرفة الحكم الشرعي، خاصة وأنهم يقفون أمام حكمها الشرعي عاجزين حيارى. إن فقه النوازل من أبواب الفقه الضرورية للناس يجيبهم عن مسائلهم ونوازلهم، ويبين لهم الحلال والحرام في قضاياهم. "الفقهية المعاصرة". و"فقه النوازل" موضوع يحتاج إلى مدخل منهجي يهتم به من جميع جوانبه، يوضح معالمه ويضع الأسس والقواعد والضوابط له. ومما يهدف إليه البحث: بيان كيفية معالجة القضايا الفقهية المستجدة المطروحة على الساحة، وما هي الأسس والقواعد والضوابط التي يجب اعتمادها للوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح في تلك النوازل. إن فقه النوازل يقوم على الدراسة الشاملة لجميع ما يتعلق بالنازلة من كافة أبعادها الشرعية، التاريخية، القانونية، الاجتماعية، النفسية، ومن ثم إعطاء الحكم الشرعي المناسب لها. كما يحاول البحث تقديم رؤية شاملة للمجتهدين والفقهاء المهتمين بالدراسات الفقهية بعامة، وبخاصة منها تلك الدراسات التي تتناول مستجدات العصر ونوازله، فيكون البحث مرجعا متواضعا مساعدا لهم من حيث بيان الأصول والأسس والمراجع. ويبين كيف أن الفقه الإسلامي نجح في مواجهة تلك الإشكالات الواقعية، الميدانية، في حياة الناس اليومية، وأنه لم يقف يوما جامداً عاجزا عن مواجهة تطورات الحياة ومشاكلها.
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله للناس كافة بشيرا ونذيراً، وداعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وبين لها الحلال والحرام، القائل -عليه الصلاة والسلام- "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"( )، أما بعد:
ففي كل عصر، بل في كل يوم تحدث للناس حوادث وقضايا ونوازل جديدة، والاجتهاد في هذه النوازل من الأمور الضرورية في حياة الناس اليوم، وذلك لكثرة المستجدات والقضايا المطروحة، ولأن بالناس حاجة ملحة لمعرفة الحكم الشرعي، خاصة وأنهم يقفون أمام حكمها الشرعي عاجزين حيارى.
إن فقه النوازل، من أبواب الفقه الضرورية للناس يجيبهم عن مسائلهم ونوازلهم، ويبين لهم الحلال والحرام في قضاياهم.
"القضايا الفقهية المعاصرة" أو "فقه النوازل" موضوع يحتاج إلى مدخل منهجي يهتم به من جميع جوانبه، يوضح معالمه ويضع الأسس والقواعد والضوابط له.
لقد حاولت في هذه الوريقات التي تجمعت عندي أن ألم شتات هذا الموضوع المهم والخطير في نفس الوقت، وأقدم للقارئ والباحث وطالب العلم ما يعينه على فهم واستيعاب مسائل فقه النوازل، وحتى تكون هذه الدراسة عبارة عن مدخل وأساس يبنى عليها كيفية تناول ومعالجة القضايا الفقهية المعاصرة التي تتنزل بالناس.
أهمية البحث وأهدافه:
لا تخفى أهمية الموضوع وضرورته للمهتمين بعلوم الشريعة بخاصة، ولجميع المسلمين بعامة، وإن البحث يهدف إلى تحقيق الأمور التالية:
1- بيان كيفية معالجة القضايا الفقهية المستجدة المطروحة على الساحة، وما هي الأسس والقواعد والضوابط التي يجب اعتمادها للوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح في تلك النوازل.
2- إن فقه النوازل يقوم على الدراسة الشاملة لجميع ما يتعلق بالنازلة من كافة أبعادها الشرعية، التاريخية، القانونية، الاجتماعية، النفسية، ومن ثم إعطاء الحكم الشرعي المناسب لها.
3- من ثم إبراز قدرة الفقه الإسلامي وفاعليته لتقديم الحلول الناجعة التي تستجيب لواقع العصر وتحدياته.
4- البحث يبرهن على صدق الإسلام وخلوده وصلاحيته للقيادة والريادة والتوجيه إلى يوم الدين.
5- يسعى البحث أيضا لبيان ما يمتاز به الفقه الإسلامي عن غيره من التشريعات البشرية بثروته الهائلة، وتنوعه الشامل، وقواعده المحكمة وعطائه المتواصل مما يستوجب الاهتمام به علما وعملا، دراسة و تطبيقا.
6- يحاول البحث تقديم رؤية شاملة للمجتهدين والفقهاء المهتمين بالدراسات الفقهية بعامة، وبخاصة منها تلك الدراسات التي تتناول مستجدات العصر ونوازله، فيكون البحث مرجعا متواضعا مساعدا لهم من حيث بيان الأصول والأسس والمراجع.
7- يعطي البحث إمكانية الاطلاع على تلك الجهود الفقهية العظيمة في كل عصر من العصور الإسلامية والتي واجهت كل طارئ وجديد، ويبين كيف أن الفقه الإسلامي نجح في مواجهة تلك الإشكالات الواقعية، الميدانية، في حياة الناس اليومية، وأنه لم يقف يوما جامدا عاجزاً عن مواجهة تطورات الحياة ومشاكلها.
8- البحث مشاركة متواضعة للاهتمام بموضوع الاجتهاد النوازلي في الشريعة الإسلامية، والتأكيد على وجوب العودة لتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع مناحي الحياة، وشد الأمة بدينها وعقيدتها، ووجوب استشراف النظر إلى آفاق الاجتهاد الآنية والمستقبلية، بحكم ما تعيشه الأمة الإسلامية من تطورات اجتماعية، وتشهده من تحولات اقتصادية، وتواجهه من اختراعات علمية، وما ينزل بها من نوازل ومستجدات وقضايا معاصرة تبحث عن الحلول الشرعية لها.
9- الباحث يريد سد ثغرة موجودة في المكتبة الإسلامية بسبب عدم وجود مؤلف سابق في الموضوع، ولعل نشر هذا البحث يستثير قريحة علمائنا وطلابنا لبحث الموضوع والاهتمام به.
10- للإشارة إلى المراجع والمؤلفات والمجلات والمواقع الإلكترونية التي اهتمت بهذا الموضوع.
الدراسات السابقة في الموضوع:
لم يكتب في الموضوع كتابة شاملة مستقلة إلا القليل وفيما يلي ذكر لذلك:
1- إعلام الموقعين: لابن القيم الجوزية (752هـ) ففي الجزأين الأول والرابع من الكتاب مباحث نفيسة في الموضوع وإن ما كتبه ابن القيم رحمه الله تعالى في ذلك الوقت كأنه كتبه لنوازل العصر الحاضر وهذا يدل على علم وفقه هذا العالم الكبير.
2- فقه النوازل: د. بكر أبو زيد: والكتاب يحوي مجموعة أبحاث دون مدخل أو مقدمة منهجية.
3- المعاملات المالية المعاصرة: د.محمد عثمان شبير: ففي مقدمة هذا الكتاب دراسة جيدة لكيفية تناول القضايا الفقهية المعاصرة، ولقد استفدت من هذه المقدمة في بحثي خاصة في موضوع منهج دراسة النوازل.
4- منهج استخراج الأحكام الفقهية للنوازل المعاصرة دراسة تأصيلية تطبيقية: للدكتور مسفر بن علي بن محمد القحطاني (رسالة دكتوراه قدمت بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة أم القرى).
5- مجلة "مجمع الفقه الإسلامي" في عددها الحادي عشر الجزء الثاني حيث اشتمل العدد على دراسات تحت عنوان: "سبل الاستفادة من النوازل (الفتاوى) والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة.
6- مقدمة في فقه النوازل: للأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر على موقعه بالإنترنت (www.almoslim.net) اعتمد في كتابة هذه المقدمة على ما جاء في كتاب المعاملات المالية المعاصرة للدكتور محمد عثمان شبير.
لقد استفدت من بعض هذه الدراسات التي تيسر لي الاطلاع عليها وحاولت أن أضيف إليها بعض المعلومات الأخرى فرتبتها فكان بحثي على النحو التالي:
خطة البحث:
هذا ولقد كانت خطتي في هذا الموضوع على النحو التالي:
المبحث الأول: حقيقة فقه النوازل:
- المطلب الأول: في تعريف فقه النوازل.
- المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة.
- المطلب الثالث: الفرق بين النوازل والفتاوى.
المبحث الثاني: أهمية فقه النوازل:
- المطلب الأول: أنواع القضايا المعاصرة.
- المطلب الثاني: خصائص فقه النوازل.
- المطلب الثالث: فوائد فقه النوازل.
المبحث الثالث: الاجتهاد في فقه النوازل:
- المطلب الأول: شروط المتصدر للفتوى في النوازل.
- المطلب الثاني: طريقة الاجتهاد في الإسلام.
- المطلب الثالث: ضوابط الاجتهاد في النوازل.
- المطلب الرابع: منهج دراسة النوازل.
- المطلب الخامس: الاجتهاد الجماعي في النوازل.
المبحث الرابع: مصادر فقه النوازل:
- المطلب الأول: أهم الكتب التي تعرضت لفقه النوازل.
- المطلب الثاني: المجلات المتخصصة في الدراسات الإسلامية وأبحاث الفقه والاجتهاد.
- المطلب الثالث: المواقع الإلكترونية المهتمة بفقه النوازل.
الخاتمة.
وقبل أن أختم هذه الخدمة، أقر بأن البحث قد يتخلله بعض النقص أو القصور، وذلك لأسباب عدة أهمها: أنه لم يكتب فيه من قبل إلا القليل، فلقد اجتهدت وحاولت أن ألم شتاته الموزع على كتب قديمة وحديثة كثيرة.
فإن وفقت في ذلك فالحمد لله أولا وآخراً، فالتوفيق والسداد منه عز وجل فله الشكر والمنة، وإن قصرت أو أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله من جميع الذنوب والخطايا، إنه سميع مجيب.
وأسأل الله تعالى العلي القدير أن تعم الفائدة من هذا البحث، ويبارك فيه، ويكون مقدمة لبحوث أخرى في الموضوع.
وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام المجتهدين المبعوث رحمة للعالمين.
المبحث الأول: حقيقة فقه النوازل
المطلب الأول: تعريف فقه النوازل:
تعريف النوازل لغة:
قال ابن منظور: النازلة: الشديدة تنزل بالقوم وجمعها نوازل( )، وقال صاحب كتاب الصحاح: النازلة: الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس( )، وقال الفيومي: النازلة هي المصيبة الشديدة تنزل بالناس( ).
فنخلص مما سبق أن النازلة لغة هي: الأمر الشديد الذي يقع، بالناس.
تعريف الفقه:
الفقه لغة: مطلق الفهم، وقيل: فهم الأشياء الدقيقة، وقيل: فهم غرض المتكلم من كلامه( )، أما اصطلاحا: فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية( ).
تعريف "فقه النوازل" اصطلاحا:
- لم أعثر على تعريف اصطلاحي قديم لفقه النوازل، لكن بعض الكتاب المحدثين اجتهدوا في ذلك منهم:
الشيخ شلتوت رحمه الله حيث قال في تعريفها: "هي مشكلات المسلم المعاصر التي تعترضه في حياته اليومية العامة"( )، وقال عبد العزيز بن عبد الله: "هي القضايا والوقائع التي يفصل فيها القضاة طبقا للفقه الإسلامي"( )، وقال الشيخ بكر أبو زيد: "هي الوقائع والمسائل المستجدة، والحادثة المشهورة بلسان العصر باسم النظريات والظواهر"( ).
وقال الشيخ سلمان العورة: "هي قضايا مستجدة يغلب على معظمها طابع العصر المتميز بالتعقيد والتشابك"( ).
وقال محقق كتاب جامع الأحكام للبرزلي: "النازلة: هي في الواقع مشكلة عقائدية أو أخلاقية يصطدم بها المسلم في حياته اليومية، فيحاول أن يجد لها حلا يتلاءم وقيم المجتمع بناء على قواعد شرعية"( ).
بالنظر إلى هذه التعريفات يمكننا ملاحظة التالي:
- أن هذا العلم يبحث في المسائل الجديدة، وهي عبارة عن مشكلات، معاصرة، تتميز بالتعقيد والتشابك، تعترض المسلم في حياته اليومية، فيتصدى لها العلماء المجتهدون ببيان حكمها الشرعي، بناء على قواعد وأصول الشريعة الإسلامية.
عليه يمكننا تعريف فقه النوازل بأنه: "علم بالأحكام الشرعية المتعلقة بالقضايا المعاصرة".
وفي هذا العصر يطلق على فقه النوازل مصطلح "قضايا فقهية معاصرة" فما المراد بهذا المصطلح؟:
يشتمل التعريف عدة عناصر هي: 1- قضايا، 2- فقهية، 3- معاصرة.
أولاً تعريف مصطلح "القضايا":
القضايا: جمع قضية: وهي مأخوذة من قضى، وهي الأمر المتنازع عليه( ) التي تعرض على القاضي أو المجتهد ليحكم أو يفتي فيها.
جاء في المعجم الوسيط القضية: الحكم، والقضية مسألة يتنازع فيها وتعرض على القاضي أو القضاء للبحث والفصل( ).
ثانياً الفقهية:
من الفقه، الفقه كما سبق تعريفه قريبا هو لغة: الفهم الدقيق، أما اصطلاحا: فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.
ومعلوم أن الفقيه يبحث في فعل المكلف من حيث ما يثبت له من الأحكام الشرعية والفقه هو المرجع في معرفة الحكم الشرعي فيما يصدر عن الإنسان أو ما يعترضه من مسائل في حياته( ).
ثالثاً المعاصرة:
المعاصرة مأخوذة من العصر وهو لغة: الدهر، وهو الزمن الذي نزلت فيه هذه القضية، والمقصود به العصر الحالي أو الوقت الحاضر الذي ظهرت فيه كثير من القضايا والمسائل المستجدة التي تحتاج إلى حكم شرعي واجتهاد العلماء المتخصصين فيها.
فمصطلح (قضايا فقهية معاصرة) يعني أن هناك قضايا مستجدة تستحق أن توجه إليها العناية في البحث والتأصيل والتقويم، والإسلام هو الدين الذي أنزله الله عز وجل لتقويم الحياة الإنسانية بما فيها من حركة ونشاط: ومما يقطع به أن له أحكاما وضوابط في كل ما يكتشفه الإنسان من حيث كيفية الاستفادة منه والتعامل معه ولا شك أن علماء الشرع مدعوون دائما إلى استنباط تلك الأحكام والبحث عن تلك الضوابط، مستنيرين بمقاصد شريعة الله وقواعدها العامة ومناهج السلف الصالح التي اتخذوها في مواجهة المستجدات للحكم عليها وضبط التعامل معها( )، وإن حاجة العصر إلى الاجتهاد حاجة أكيدة لما يعرض من قضايا لم تعرض لمن تقدم عصرنا، وكذلك ما سيحدث من قضايا جديدة في المستقبل( ).
المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة:
لقد أطلق الفقهاء على تلك المسائل التي استجدت بالناس في عصورهم المتتالية عدة ألفاظ ومصطلحات، كما تعددت تعبيراتهم وتسمياتهم لهذا اللون من التأليف في الفقه: ومن التسميات التي ذكرت ما يلي:
1- الفتاوي:
هي جمع فتوى -بالواو- بفتح الفاء، وبالياء، فتضم وهي اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم( ).
وفي الاصطلاح: "هو إظهار الأحكام الشرعية بالانتزاع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس"( )، وقيل: هي الإخبار بحكم الله تعالى عن دليل شرعي( ).
ولعل إطلاق اسم الفتاوى على فقه النوازل هو الأشهر والأكثر تداولا بين الناس، من أمثلتها: الفتاوى الهندية، وفتاوى ابن حجر الهيثمي وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية...
2- الفتاوى المعاصرة:
بعضهم يسميها الفتاوى المعاصرة لأنها تتعرض لمسائل الوقت الحاضر وقضاياه أو العصر الحالي، فقد برزت في هذا العصر نوازل كثيرة تحتاج إلى اجتهاد فقهي وحكم شرعي، لعل أشهر من ألف تحت هذا العنوان الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه المشهور في جزأين إلى الآن، وهو من أنفس الكتب.
3- القضايا المستجدة:
القضايا جمع قضية وهي الأمر المتنازع عليه، وأضيف إليها المستجدة لأنها مسائل مستحدثة جديدة الوقوع.
4- المسائل، أو الأسئلة:
سماها بعض العلماء القدماء بالمسائل لأنها تتناول قضايا مطلوبة تطلب حلا أو تطلب فتوى، وبعضهم يسميها بالأسئلة لأنها أسئلة يطرحها الناس ويتكفل العلماء بالرد عليها، ومن أشهر من ألف بهذا الاسم: مسائل: القاضي أبو الوليد بن رشد.
5- الأجوبة، أو الجوابات:
كذلك سماها بعض علماء الأندلس بالجوابات لأنها مسائل أجاب عنها العلماء بطلب من الناس وفي اللغة يقولون: لا يسمى جواب إلا بعد طلب( ).
6- المشكلات:
كما عبر عنها الإمام شلتوت في كتابه الفتاوى حيث قال: "مشكلات المسلم المعاصر التي تعترضه في حياته اليومية"، وكذلك سماها محمد فاروق النبهان في كتابه المدخل للتشريع الإسلامي( )، والمشكلات جمع مشكلة وهي في اللغة من أشكل، يقال أشكل الأمر: إذا التبس( ).
7- الواقعات:
وقال ابن عابدين: الفتاوى أو الواقعات: وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عن ذلك( )، والواقعات جمع واقعة وهي لغة بمعنى نزل، أما في الاصطلاح فهي الحادثة التي تحتاج إلى استنباط حكم شرعي لها، وقيل هي الفتاوى المستنبطة للحوادث المستجدة( ).
8- المستجدات:
وهي المسائل الحادثة التي لم يكن لها وجود من قبل وهذه المسائل يكثر السؤال عن حكمها الشرعي( ).
9- الحوادث:
قال الشيخ محمد البركتي: "الحوادث هي النوازل التي يستفتى فيها"( ).
المطلب الثالث: الفرق بين فقه النوازل والفتاوى:
في الحقيقة هناك ترادف بين النوازل والفتاوى والمسائل والأجوبة، وهي أسماء لمسمى واحد، غير أن النوازل تختص بالحدوث والوقوع فهي لذلك أخص من الفتاوى التي تشمل سؤال الناس عن الأحكام سواء حدثت أولم تحدث.
وقد لا يرد هذا الفرق إذا رجعنا إلى المعنى اللغوي لكلمة الفتوى فهي من الفتاء وهو الحداثة والجدة، وقيل من الفتى وهو الشاب الحدث( ).
قال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي)( ): معنى أفتوني: أجيبوني في الأمر أي الحديث الجديد( ).
وواضح أن الأمر الحديث إما أن يكون هو نفسه حديثا وجديدا حقيقة، وإما أن يكون حديثا بالنسبة للسائل عنه بالخصوص، ومن هنا يظهر التقارب اللغوي بين مصطلحي الفتوى والنازلة( ).
المبحث الثاني: أهمية فقه النوازل
المطلب الأول: أنواع القضايا المعاصرة وأمثلتها:
سأذكر فيما يلي مجموعة كبيرة من القضايا والنوازل المعاصرة وأحيل في الهامش على المجامع أو فتاوى العلماء الذين بحثوا هذه القضايا للاستفادة منها( ):
1- قضايا في العبادات:
الصلاة في الطائرة( ).
استئجار الكنائس للصلاة فيها (في بلاد الغرب)( ).
أوقات الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية الدرجات( ).
تحديد أوائل الشهور القمرية بالحساب( ).
راكب الطائرة متى يفطر؟( ).
الحقنة هل تفطر؟( ).
زكاة الأسهم والسندات( ).
استثمار أموال الزكاة( ).
صرف الزكاة على الدعوة وعلى المراكز الإسلامية( ).
صرف الزكاة على بناء المساجد( ).
مشكلة لحوم الأضاحي في الحج( ).
2- قضايا في مجال الأسرة والمرأة:
الزواج المدني( ).
النكاح بإضمار نية الفرقة( ).
زواج المسيار( ).
التحريم بنقل الدم( ).
تنظيم النسل( ).
إجهاض الجنين الناتج عن اغتصاب( ).
المشاركة السياسية للمرأة( ).
وسائل تنظيم النسل( ).
3- قضايا اقتصادية ومالية (قضايا البيوع):
الورق النقدي( ).
البيع بالتقسيط( ).
بيع الحقوق المجردة( ).
بيع الخلو( ).
الترخيص التجاري( ).
التأمين( ).
تغير قيمة العملة( ).
الإيجار المنتهي بالتمليك( ).
إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة (الفاكس والإنترنت)( ).
الأسواق المالية-البورصة( ).
بطاقات الائتمان( ).
عقد المزايدة( ).
بيع الدم( ).
البنوك الربوية والتعامل معه والعمل فيها( ).
الفوائد المصرفية( ).
الشرط الجزائي( ).
4- قضايا طبية:
قتل الرحمة (تيسير الموت للمريض الميؤوس منه)( ).
إجهاض الجنين المشوه( ).
أطفال الأنابيب( ).
بنوك الحليب( ).
أجهزة الإنعاش( ).
زراعة الأعضاء التناسلية( ).
استخدام الأجنة مصدراً لزراعة الأعضاء( ).
مداواة الرجل المرأة( ).
مسؤوليات الطبيب وأخلاقه وأدبه( ).
مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)( ).
الاستنساخ( ).
الرتق العذري( ).
زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي( ).
حكم تشريح جسم الإنسان( )، نقل الدم( ).
إزالة الشحوم الزائدة (سحب الدهون)( ).
العقاقير والأدوية المحتوية على محرم( ).
اختيار جنس الجنين( ).
الأحكام المتعلقة بالعلاج الطبي( ).
استئجار الرحم( )، موت الدماغ( ).
عمليات التجميل( ).
5- قضايا أخرى:
التجنس بالجنسية الأجنبية( ).
الرياضات العنيفة (الملاكمة، المصارعة)( ).
المسرح والسينما( ).
خطف الطائرات( ).
حوادث السير( ).
العمل في المحلات التي تبيع الخمر والخنزير( ).
المطلب الثاني: خصائص فقه النوازل:
يمتاز هذا النوع من الفقه بخصائص ومميزات أوجزها في النقاط التالية:
النوازل في معظم الأحيان لون جديد من المسائل وطعم جديد لم يسبق حدوثها، لهذا قد تكون على الناس غريبة يصعب فهمها من أول وهلة فهي تحتاج إلى إمعان نظر وإلى بصيرة ثاقبة.
وقليل منها نظري محض أو تعليمي خالص كما هو حال كتب الفقه بصفة خاصة، فهو في الغالب إجابات عن أسئلة يطرحها الناس وحل لمشكلات تتعلق بحياتهم اليومية لهذا كان لها طعم خاص يقبل عليه الناس ويتلهفون معرفة الجواب الصحيح المتعلق به، فكانت مدعاة إلى إثارة علم المتصدر لها واستجلاب رأيه والتعرف على اجتهاداته واختياراته.
كما أن المسائل التي بحثت في فقه النوازل عدت ثروة جيدة، ومادة قانونية إسلامية صحيحة استطاعت أن تدخل في الكتب والمصنفات وأن تستمر ويقبل عليها الناس بلهفة، دون أن تفقد صلاحيتها وقابليتها للحياة.
لذا نرى كيف أن المفتين استندوا إليها في فتاواهم واستشهدوا بها في كتبهم، وأيدوا أجوبتهم بمضمونها، أو باقتباس منها في عبارتها أو أجابوا بها نفسها ناسبين أجوبتهم إلى أصحابها( ).
إن فقه النوازل يختلف عن تلك الافتراضات النظرية فهي مسائل واقعية تحدث للناس وكل متلهف لمعرفة حكمها الشرعي.
كما تتميز المسائل المتعرض لها في فقه النوازل بالتعقيد وكثرة تشابكها ودقة فهما وصعوبة حل معضلاتها، لذا فهي تحتاج إلى مزيد جهد وإلى إمعان نظر وعدم التسرع في الحكم والاجتهاد فيها.
كما أن أكثر هذه المشكلات والقضايا المطروحة قد سببت الحرج والضيق بمن نزلت بهم وهم في حاجة ماسة إلى من يجيبهم عن تلك المسائل وإلى من يرفع الحرج عنهم بالاجتهاد والفتوى
المطلب الثالث: فوائد وأهمية فقه النوازل:
لفقه النوازل فوائد تتعلق بصفة المسائل الواقعية التي تعرض صورا من المجتمع الذي نزلت فيه النازلة، وله فوائد تتعلق بالفتوى أو الحكم الشرعي، وله فوائد تعود على الفقيه المجتهد الناظر في الواقعة وفيما يلي ذكر لهذه الفوائد:
1- أنه من العلوم الهمة والفنون الضرورية في حياة الناس اليوم، لأنه يرد ويجيب عن مشكلات وقضايا مستجدة وعويصة نزلت بالناس وهم في أمس الحاجة لمعرفة الحكم الشرعي فيها.
ومن المعلوم أن الناس لم يكونوا علماء كلهم لا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين، ولقد أمر الله الجاهل أن يسأل العالم عن الحكم فيما ينزل به من قضايا وواقعات، قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)( ).
إذاً يهدف فقه النوازل إلى توليد البدائل الشرعية للمشكلات المطروحة على الساحة المعاصرة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وقانونيا...
2- كما أن لفقه النوازل أهمية أخرى تتصل بصفة النوازل الواقعية التي تعرض لنا صورا من المجتمع الذي وقعت فيه تلك النوازل من الناحية الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية والأدبية:
أ- فمن الناحية الفكرية، يعرفنا فقه النوازل بالعلاقة بين المذاهب الفقهية والفرق الكلامية ويظهر ذلك من خلال المناظرات والمناقشات العلمية التي كانت تدور بين علماء الفرق والمذاهب في أثناء التعرض لنازلة من النوازل، كما يظهر ذلك من خلال مواجهة الأفكار المنحرفة مثل ظاهرة الردة والزندقة وكيف واجه العلماء هذه الظواهر بالقواعد الشرعية اللازمة في هذا الميدان مع الاجتهاد العادل( ).
ب- ومن الناحية الاجتماعية تقدم "النوازل" الكثير من الإشارات إلى أحوال المجتمع الإسلامي في منطقة النازلة من عادات في الأفراح والأتراح، كما تقدم لنا صورة حية عن حياة الناس وعاداتهم في السلم والحرب والعمران وأنواع الملبوسات والمطعومات وما إلى ذلك، الأمر الذي يجعل منها مصدرا وثيقا لعالم الاجتماع مثلما هو للفقيه والعالم.
وكل ذلك سوف يسجله التاريخ، وتتناقله الأجيال، وتصبح كتب فقه النوازل من المصادر والمراجع التي يرجع إليها، لذا نجد كثيرا من المؤرخين قد انصرف إلى مصنفات النوازل والفتاوى لدراستها واستنباط ظواهر اجتماعية منها واستنتاج إفادات تاريخية، ومن هؤلاء المستشرق الفرنسي "جاك بارك" الذي اعتنى بنوازل المازوني- الذي استفاد كثيرا من كتب فقه النوازل لإبراز جوانب اجتماعية للمغرب في عصر هذه النوازل.
ج- ومن الناحية الأدبية فإن لفقه النوازل فوائد عظيمة، فقد تحتوي الأسئلة والأجوبة عن تلك النوازل على قطع أدبية بليغة أو شعر نادر استشهد به، كما أنها تحافظ لنا على لغة الفقه والفقهاء الأدبية الرائعة.
د- ومن الناحية السياسية تنقل هذه النوازل صورة واقعية لحوادث تاريخية تمس ذلك المجتمع الذي وقعت فيه النازلة في السلم والحرب مما قد يفيد السياسي في دراسته ومما يعينه في فهم كثير من أحداث الزمان.
هـ- ومن الناحية الاقتصادية تقدم النوازل جملة من الصور عن الحالة الاقتصادية التي تمر بها البلاد الإسلامية، وعن الملكية والتجارة والبنوك وهذا كله يمكن معرفته من خلال تلك النوازل والمسائل المتعلقة بالمواضيع الاقتصادية، كطغيان البنوك الربوية على واقع المسلمين اليوم وكثرة الأسئلة التي يطرحها المسلمون ويطرحها الواقع المر الذي يتخبط فيه الجانب الاقتصادي في المجتمعات المسلمة، ومشكلة الديون التي تتعب كاهل الدول الإسلامية وغيرها من المواضيع الاقتصادية التي تحتاج إلى فقه واجتهاد في نوازلها وواقعاتها المريرة.
و- ومن الناحية التاريخية تقدم "النوازل" أحداثا تاريخية وقعت للأمة الإسلامية ونزلت بها وتم الجواب عنها، وتقدم أحيانا أحداثا أغفلها المؤرخون الذين ينصب اهتمامهم غالبا بالشؤون السياسية وما يتصل بالحكام والأمراء ومثال عن ذلك ما يحدث اليوم في أفغانستان من تقاتل بين الفصائل الأفغانية، أو مثل الحرب العراقية الإيرانية التي وقعت في الثمانينيات أو اجتياح العراق للكويت وما ترتب عليه من استعانة بالكفار، وما حدث ويحدث لإخواننا المسلمين في يوغسلافيا من اضطهاد واغتصاب وما يستلزم ذلك من فقه واجتهاد يجيب عن تلك الشدائد والنوازل التي تنزل بالأمة الإسلامية في عصورها المتتالية.
3- ومن فوائد فقه النوازل ذلك الأثر العلمي الذي تخلفه هذه الإجابات لأنها تحفظ لنا مسائل واجتهادات العلماء بنصها لتكون سجلا للفتوى والقضاء ومرجعا مهما للمهتمين بها من أهل الاختصاص لا يمكن الاستغناء عنها بحال.
4- كما أن فقه النوازل يعرفنا بأسماء لامعة من العلماء المجتهدين المفتيين، الذين تصدوا لهذه النوازل وأغاثوا الأمة، وكيف أنهم بذلوا الجهد والوسع للوصول إلى الحكم الشرعي وذلك باتباع أصول الاجتهاد دون تعصب أو هوى.
5- وإضافة للفائدة السابقة فإن فقه النوازل يلقي الأضواء على شخصية صاحب ذلك الفقه، وتدلنا على اتجاهه وموقفه وعلى أصوله التي اعتمد عليها في اجتهاده وما إلى ذلك.
6- كما أن لفقه النوازل فائدة أخرى، وهي فيما إذا نوقشت هذه المسائل في المجامع الفقهية التي يتم تشكيلها من علماء يمثلون جميع الدول الإسلامية، فإن ذلك من شأنه تلقيح أفكار العلماء واستفادة بعضهم من علم البعض، وكذلك من أجل التعاون والتكاتف للوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح، وهذا يعصمهم من الخطأ أو الاختلاف، كما يساعد على وضع الأصول والضوابط الاجتهادية مما يسهل على الفقيه والمجتهد النوازلي عمله في استنباط الأحكام الشرعية.
لهذا كله دونت أجوبة العلماء وفتاوى الفقهاء في تلك العصور الزاهرة وكانت مرجعا عظيما لمعرفة الأحكام، وثروة فقهية واسعة وكانت في الوقت نفسه مصادر يرجع إليها مختصون في علم التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة وينهلون منها ما يفيدهم ويعينهم على الفهم الصحيح والعلم الناجح.
وتدوين هذه النوازل ونشرها فيه الفائدة العظيمة ويكون وصلا لما انقطع من سلسلة البحوث الفقهية التي بدأها سلفنا العلماء الأعلام.
7- كسب الأجر والمثوبة من الله عز وجل، فإن الدارس "للنازلة" المتجرد الذي يريد أن يصل إلى حكمها الشرعي إذا بذل جهده ووصل إلى حكم فيها فهو مأجور، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.
8- الحرص على تأدية الأمانة التي حمّلها الله العلماء؛ فقد أخذ الله الميثاق على العلماء ببيان الأحكام الشرعية وعدم كتمانها، وقد حصر التكليف بهم؛ فكان لزاما عليهم التصدي للفتوى في النوازل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وذلك إبراء للذمة بالقيام بتكاليف إبلاغ العلم وعدم كتمانه.
9- كما أن هذه النوازل تثري الفقيه بعلم من سبقه من العلماء، ومن تم يستطيع الاستفادة والإفتاء بفتاوى من سبقه إذا كانت مطابقة ومتناسبة مع النازلة أو على الأقل أن يسلك مسالكهم ومناهجهم في دراسة نوازل عصرهم على نازلة عصره حتى يصل إلى استنباط الحكم الشرعي المناسب لها.
المبحث الثالث: الاجتهاد في النوازل
المطلب الأول: شروط المتصدر للفتوى في النوازل:
من الضرورة أن يكون في الأمة عدد من العلماء المجتهدين الذين نسميهم: بالعالم النوازلي أو الفقيه النوازلي أو المجتهد النوازلي، الذي إلى جانب توافر شروط الاجتهاد فيه -والتي سوف أذكرها بعد قليل- يجب أن يكون ملما بأمور أخرى مهمة أصبحت ضرورية خاصة في هذا العصر بحوادثه المعقدة والمتشابكة، منها فهمه واقع عصره واستيعابه للتكنولوجيا التي ما فتأت تتطور وترتقي.
وليس كل أحد يصلح للفتوى والاجتهاد بل لا بد من توافر شروط معينة فيمن يتصدى للاجتهاد: "قال مالك وجاء رجل ابن هرمز فأرسل بعض السلاطين يستشيره في الفتوى فسأله: أتراني أهلا لذلك؟ قال: "إن كنت عند الناس كذلك ورأوك أهلا لذلك فباشر".
قال محمد بن رشد: زاد في هذه الحكاية في كتاب الأقضية أنه قال له: إن رأيت نفسك أهلا لذلك ورآك الناس أهلا لذلك فافعل. وهي زيادة صحيحة لأنه هو أعرف بنفسه، فإن لم ير نفسه أهلا لذلك فلا ينبغي له أن يفعل وإن رآه الناس أهلا لذلك، وأما إذا لم يره الناس أهلا لذلك فلا ينبغي أن يفتي وإن رأى هو نفسه أهلا لذلك، لأنه قد يغلط فيما يعتقده في نفسه من أنه أهل لذلك، ولا حرج عليه إن فعل إذا علم من نفسه أنه قد كملت له آلات الاجتهاد بأن يكون عالما بالقرآن وبالسنة، مميزا بين صحيحها وسقيمها، عالما بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار وما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه من أهل النظر والاجتهاد بصيرا بوجه القياس عارفا بوضع الأدلة في مواضعها، ويكون عنده من علم اللسان ما يفهم به معاني الكلام فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال مع العدالة والخير والدين صح استفتاؤه فيما ينزل من الأحكام وجاز للعاصي تقليده فيها"( ).
إذا لابد أن تتوافر في المجتهد الذي يبحث في حكم النوازل شروط الاجتهاد المطلوبة في العلماء المجتهدين لأنه لا يتأتى اجتهاد بدون آلته، وحتى لا تتعثر الاجتهادات وتحيد عن أمر الله تعالى إذ لا يمكن فهم مقاصد الشرع في الكتاب الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بها.
وشروط المجتهد كما نص عليها علماء الأصول( ) في كتبهم هي:
1- أن يكون بالغا، لأن غير البالغ لم يكمل عقله حتى يؤخذ بقوله.
2- أن يكون عاقلا، لأن غيره لا تمييز له يهتدي به إلى ما يريد فلا يعتبر قوله، والمراد من الشرط الأول هو الوصول إلى مجرد العقل بالبلوغ، أما الشرط الثاني فالمراد منه كماله.
3- أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة يقول ابن النجار: "وليس المراد أن يعرف سائر آيات القرآن وجميع أحاديث السنة وإنما المراد ما يحتاج إلى معرفته..."، وليس المراد بعلمه بذلك حفظه، بل المراد أن يكون بحيث يمكن استحضاره للاحتجاج به لا حفظه( ).
4- يشترط في المجتهد أيضا أن يكون عالما بالناسخ والمنسوخ منها -أي من الكتاب والسنة- حتى لا يستدل بدليل منسوخ.
5- العلم باللغة العربية: من نحو وصرف وغيرهما من علوم اللغة العربية، وأن يكون عارفا بعلوم البلاغة من معان وبيان وبديع وبذا يستطيع النظر في الدليل نظرا صحيحا ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا ويكفيه في ذلك الدرجة الوسطى لا أن يبلغ مبلغ الأئمة في اللغة العربية كالخليل وسيبويه والأخفش( ).
6- أن يكون عالما خبيرا بمواقع الإجماع حتى لا يفتي ويجتهد بخلاف ما أجمع عليه فيكون قد خرق الإجماع، وخرق الإجماع حرام( ).
7- أن يكون عالما بأسباب النزول في الآيات والأحاديث ليعرف المراد من ذلك، وما يتعلق بهما من تخصيص أو تعميم: ولأن بعض النصوص نزل عاما وقد أريد به الخصوص ولا يفهم ذلك إلا من خلال العلم بسبب نزول النص.
8- يشترط فيه أن يكون عالما بأصول الفقه: أي بأن تكون له قدرة على استخراج أحكام الفقه من أدلتها وذلك بمعرفة القواعد الأصولية، وعليه أن يطول الباع في هذا الشرط ويضطلع على مختصراته ومطولاته بما تبلغ به طاقته فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه( ).
9- عالما بمقاصد الشريعة وعارفا بمصالح الناس وعرفهم حتى يستنبط الأحكام التي توافق مقصد الشارع وحتى لا يوقع الناس في الحرج والعسر: يقول الإمام السيوطي نقلا عن "مقاصد الشرع قبلة المجتهدين من توجه إلى جهة منها أصاب الحق"( ).
شروط أخرى:
ويمكننا أن نضيف إلى تلك الشروط التي ذكرها العلماء في المجتهد شروطا أخرى والتي لابد أن تتوافر في المجتهد النوازلي بصفة خاصة وهي:
1- الملكة الفقهية:
وذلك بأن يكون ذا ملكة فقهية: وقد تكونت لديه من خلال ممارسته لأساليب الفقهاء واصطلاحاتهم، وأن يكون شديد الفهم بالطبع لمقاصد الكلام، لأن من دون هذه المرتبة لن تتأتى لديه القدرة على الاستنباط المقصود بالاجتهاد( ).
2- سعة الأفق:
ويجب أن تتوفر في المجتهد النوازلي سعة الأفق وتتحقق سعة الأفق بعدم الجهود على ظواهر ألفاظ النص، وبالقدرة على تقليب وجوه النظر في المشكلة، وإدراك تعدد وجوه القياس، وانتقاء الأقوى أثرا والأكثر تحقيقا للمصلحة وإن خفي مأخذه ودق تخريجه( ).
3- الدربة على الفتوى والاستنباط والتخريج:
لابد من التدريب على تخريج الأحكام، لأن التدريب يكسب الفقيه المرونة الفقهية اللازمة في معالجة المشكلات الحديثة وضرورة التدريب على تخريج الأحكام كضرورة التدريب على حل مسائل الرياضيات: فكما لا يكفي العلم بالقوانين الرياضية دون التدرب عليها فكذلك لا يكفي العلم بالقواعد الأصولية دون التدرب على تطبيقها واستنباط وتخريج الأحكام منها.
وقد تنبه الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- قديما إلى أهمية التدريب على تخريج الأحكام فكان رحمه الله تعالى يدرب خواص تلاميذه على ذلك: بطرح المشكلة عليهم تم يتلقى الأحكام والإجابات منهم ثم يناقش هذه الأجوبة معهم فيصحح منها ما يصحح ويرد ما يرد ولا يكره أحداً على قول( )، والهدف من ذلك هو الدربة على الفتوى والاستنباط.
4- الفطنة والذكاء:
لابد أن يكون المجتهد النوازلي ذا فطنة وذكاء حادين يستطيع بهما فهم المسائل من جميع جوانبها ليتوصل بذلك إلى الحكم الصحيح، ومن عُدم الفطنة والذكاء فقد يغيب عليه فهم النازلة وقد يغيب عليه فهم الدليل فهما صحيحا فيكون حكمه مجانبا للصواب.
5- معرفة الناس:
وهذا أصل عظيم يحتاج إليه الفقيه النوازلي، فإن لم يكن فقيها فيه، فقيها في الأمر والنهي يطبق أحدهما على الآخر، كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
فإنه إذا لم يكن فقيها بمعرفة الناس فقد يتصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله كما تقدم بيانه( ).
فرع: وجوب ضبط المتصدين للفتوى والاجتهاد في النوازل:
يقول الراغب الأصفهاني: "لا شيء أوجب على السلطان من مراعاة المتصدين للرياسة بالعلم فمن الإخلال بها ينتشر الشر ويكثر الأشرار، ويقع بين الناس التباغض والتنافر وذلك أن السواس أربعة الأنبياء وحكمهم على الخاصة والعامة ظاهرهم وباطنهم، والولاة وحكمهم على ظاهر الخاصة والعامة دون باطنهم، والحكماء وحكمهم على بواطن الخاصة، والوعاظ وحكمهم على بواطن العامة.
وصلاح العامة بمراعاة أمر هذه السياسات لتخدم العامة الخاصة، وتسوس الخاصة العامة، وفساده في عكس ذلك ولما تركت مراعاة التصدي للحكمة والوعظ، وترشح قوم للزعامة في العلم من غير استحقاق منهم لها فأحدثوا بجهلهم بدعا استغروا بها العامة واستجلبوا بها منفعة ورياسة، ووجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم وقرب جوهرهم منهم، فكل قرين إلى شكله كأنس الخنافس بالعقرب وفتحوا بذلك طرقا منسدة ورفعوا بها ستورا مسبلة وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيهم من الشرة، فبدّعوا العلماء وكفروهم اغتصابا لسلطانهم ومنازعة في مكانهم، فأغروا بهم أتباعهم حتى وطؤهم بأخفافهم وأظلافهم فتولد من ذلك البوار والجور العام"( ). إن أمر الدين عظيم وخطير، ومن أجل هذا حرّم الله القول فيه بغير علم، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)( ).
لذا يجب أن يتولى النظر في فقه النوازل من تحصّل على آلة الاجتهاد وتوفرت فيه شروط الاجتهاد المعروفة والمذكورة في كتب أصول الفقه والتي أشرنا إليها قريبا، "أما أدعياء الاجتهاد الذين لا يملكون إلا الجراءة على النصوص بالأصول وإتيان البيوت من غير أبوابها فهؤلاء ينبغي أن يُرفضوا حفاظا على قداسة الدين وحرمة الشريعة"( ).
وينبغي لأولياء الأمور القيام بواجبهم في هذا فلا يسمحوا بالفتوى والاجتهاد إلا لمن كان أهلاً لذلك، وأما من كان بعيداً عن الاجتهاد ولا يحمل آلته فينبغي منعه بقوة السلطان، حفاظا على الدين وعلى أنفس وأرواح الناس...
فرع: ضرورة الإلمام بعلم مقاصد الشريعة للمجتهدين في النوازل:
أمر المقاصد الشرعية أمر في غاية الأهمية بالنسبة لحملة العلم الشرعي والمتفقهين والمجتهدين في النوازل والوقائع المستجدة.
إذ إنها كالبوصلة التي تحدد للمسافر صحة اتجاهه من عدمه فهي بالإضافة -إلى شروط الاجتهاد التي يجب توافرها في المجتهد- تساعد الباحث عن أحكام الشريعة في تحديد صحة سيره، وسلامة طريقه في التعامل مع نصوص الكتاب والسنة وعباراتها واستخراج واستنباط مدلولاتها ومعانيها ومراميها.
إن الالتفات إلى فقه المقاصد يساعد على تجاوز كثير من المزالق التي قد يقع فيها بعض الفقهاء والمجتهدين أو طلبة العلم حين يقصرون نظرهم على دليل جزئي شرعي، غير ملتفتين إلى موقعه في سياقه العام من كليات الشريعة ومقاصدها العامة، وما قد يترتب على تنزيله في الواقع بالكيفية التي ارتأوها غير عابئين بالموازنة بين المصالح والمفاسد الذي هو ثمرة لفقه المقاصد والذي هو في الحقيقة لب السياسة الشرعية وروحها وحقيقتها في التعامل مع الأحداث والوقائع والمستجدات في الحياة ببصيرة وهدى وفقه وعقل وما أقل من جمع ذلك في زماننا.
وإن مثل من يتصدى للفتوى والاجتهاد في النوازل من غير إلمام بمقاصد الشرع ولا معرفة حقيقية بالواقع مثل من يبحث عن الثمرة في غير شجرتها، أو كمن يحاول استنبات البذرة في غير بيئتها ومكانها المناسب الذي لا تنمو وتنتج إلا فيه، وأنى لهذا أو لذلك أن يبلغ المراد أو يصل للغاية والهدف( ).
وإذا عرضت على الفقيه واقعة ليس فيها نص حكم للشارع فإنه يعطي هذه الواقعة حكما يتفق مع مقاصد الشارع، وذلك بأن يكون الحكم محققا مصلحة من جنس المصالح التي دلت النصوص على اعتبارها، ومن ذلك أن الصحابة حكموا بتضمين الصناع السلع التي تتلف بأيديهم، محافظة على الأموال، وحكموا بقتل الجماعة إذا اشتركوا في قتل الواحد، حفظا للأرواح، وحفظ المال والنفس من المصالح التي لاحظها الشارع في تشريعه، وسار على وفقها في تشريع الأحكام.
وأخيرا فإن الفقيه يزن الأدلة الجزئية الظنية بمقاصد الشارع التي قامت أدلته على اعتبارها، فما كان منها مخالفا لهذه المقاصد رده ولم يعتمد عليه في الاستنباط، فقد ردت عائشة رضي الله عنها حديث "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"( ) لأنه يخالف مقصدا شرعيا دل عليه قوله تعالى: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى*وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)( ) وأهمل "مالك" اعتبار حديث "من مات وعليه صوم صام وليه عنه"( )، لمخالفته لهذا المقصد أيضا( ).
إن المجتهد في حاجة إلى معرفة مقاصد الشارع وإلى الطرق التي بها تعرف المقاصد حتى تكون مقاصده تابعة لمقاصد الشارع ومحكومة بها، وذلك لأن اجتهاده في الأمور التي ليست دلالتها واضحة إنما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع، والأولى بأدلة الشريعة دون ما ظهر لغيره من المجتهدين فيجب عليه اتباع ما هو الأقرب، وأما غير المجتهد فهو بحاجة لعلم المقاصد للتعرف على أسرار التشريع وحكمه. وكذلك لتنشيط العقل المسلم وتخليصه من الأمراض والعلل الناجمة عن النظر الجزئي، وتناسي الغايات وتجاهل المقاصد والتشبث بالأمور الشكلية واللفظية والإحالة على التعبد لأدنى ملابسة وتجاهل الحكم أو الكسل عن طلبها والتفتيش عنها.
وإن العلم بمقاصد الشريعة وأهدافها وغاياتها يساعد كثيرا على إخراج العقل المسلم من تلك الوهدة ويعالجه من تلك الأمراض ويعيد إليه نقاءه وصفاءه وتألقه وقدرته على العطاء والاجتهاد وتوخي المقاصد والغايات( ).
قال عبد الوهاب خلاف: "ومعرفة المقصد العام من التشريع من أهم ما يستعان به على فهم نصوصه حق فهمها، وتطبيقها على الوقائع، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه( ) لأن دلالة الألفاظ والعبارات على المعاني قد تحتمل عدة وجوه، والذي يرجح واحدا من هذه الوجوه هو الوقوف على مقصد الشارع، ولأن بعض النصوص قد تتعارض ظواهرها، والذي يرفع هذا التعارض ويوفق بينها أو يرجح أحدها هو الوقوف على مقصد الشارع، ولأن كثيرا من الوقائع التي تحدث ربما لا تتناولها عبارات النصوص، وتمس الحاجة إلى معرفة أحكامها بأي دليل من الأدلة الشرعية، والهادي في هذا الاستدلال هو معرفة مقصد الشارع.
ولهذا يعنى رجال السلطة التشريعية في الحكومات الحاضرة بوضع المذكرات التفسيرية، التي تبين المقصد من تشريع القانون بوجه عام، وتبين المقصد الخاص من كل مادة من مواده، وهذه المذكرات التفسيرية وجميع البحوث والمناقشات التي تبودلت أثناء تحضير القانون وتشريعه هي عون رجال القضاء على فهم القانون وتطبيقه بنصوصه وروحه ومعقوله. وكذلك نصوص الأحكام الشرعية لا تفهم على وجهها الصحيح إلا إذا عرف المقصد العام للشارع من تشريع الأحكام وعرفت الوقائع الجزئية التي من أجلها نزلت الأحكام القرآنية أو وردت السنة القولية أو العملية( ).
اجتهاد الصحابة في النوازل:
قال ابن القيم الجوزية في كتابه إعلام الموقعين: "... وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره.
وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام ولم يعنّفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضهم وصلاّها في الطريق، وقال: لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخّروها إلى بني قريظة فصلوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعاني والقياس( ).
ولما كان علي رضي الله عنه باليمن أتاه ثلاثة من نفر يختصمون في غلام، فقال كل منهم: هو ابني، فأقرع علي بينهم، فجعل الولد للقارع، وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي -رضي الله عنه-( )، واجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة وحكم فيهم باجتهاده، فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لقد حَكَمْتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات"( ).
واجتهد الصحابيان اللذان خرجا في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فصليّا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر، فصوبهما النبي صلى الله عليه وسلم، وقال للذي لم يعد: "أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك" وقال للآخر "لك الأجر مرتين"( ).
ولما قاس مجزز المدلجي وقاف وحكم بقياسه وقيادته على أن أقدام زيد وأسامة ابنه بعضها من بعض سرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى برقت أسارير وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق، وكان زيد أبيض وابنه أسامة أسود، فألحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم( ).
وقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد( )، ولما اسْتُخلِف عمر قال: إني لأستحيي من الله أن أردّ شيئا قاله أبو بكر، وقال الشعبي عن شريح قال: قال لي عمر: أقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح( ).
وقد اجتهد ابن مسعود في المفوضة وقال: أقول فيها برأيي، ووفّقه الله للصواب، وقال سفيان عن عبد الرحمن الأصبهاني عن عكرمة قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد ابن ثابت أسأله عن زوج وأبوين، فقال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال، فقال: تجده في كتاب الله أو تقول برأيك؟ قال: أقوله برأيي، ولا أفضّل أمَّا على أب، وقايس علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه وزيد بن ثابت في المكاتب، وقايسه في الجد والإخوة، وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع، وقال: عقلُها سواء، اعتبروها بها( ).
المطلب الثاني: طريقة