نبيل شبيب
طرحت قضية "الفتاوى" الإسلامية نفسها في الآونة الأخيرة على نطاق واسع، ومع تجاوز مفعول عوامل تاريخية قريبة وبعيدة، نجد أنّ البداية الحديثة إلى ذلك كانت في إطار ما أثارته لدى جيل الشبيبة أحداثٌ مأساوية جارية رافقتها مواقف شاذة تحمل عنوان الإسلام، ولكنها تصدم بمضامينها عامّة المسلمين من خلال "حدسهم" الإسلامي على الأقل، ومن خلال انطلاقهم الفطري من الأولويات الإسلامية الكبرى، بما فيها ما هو معروف من الدين بالضرورة، ناهيك عن تعزيز ما يستشعره العامة من جيل الشبيبة عبر رفض علماءَ معتبرين موثوقين لبعض تلك المواقف، كما كان مع مسائل من قبيل تحليل أشكال حديثة من الربا كمثال من قطاع المعاملات، أو ما يرتبط بالمقاومة في فلسطين كمثال على الصعيد السياسي والعلاقات الدولية، أو ماهو إساءة محضة للفتوى وللإسلام وللقائلين بما قالوا أنفسهم، مثل عبثيّة "إرضاع الكبير".
وسبق ذلك طرح قضية "الفتاوى" بتحويل ما يسمّى "الإرهاب" إلى قضية مركزية في العالم الإسلامي، ولم يكن ذلك عند ولادة ظاهرة "الإرهاب" في الغرب ثم انتقال بعض أشكالها إلى أرضٍ إسلامية، كما كان في نطاق "العمل الفدائي" –وليس المقاومة الإسلامية- في قضية فلسطين أو ما وقع تحت عناوين إسلامية في مصر مثلا، فآنذاك قلّ ما طُرحت رسمياً قضية انحراف الفتاوى تحت عنوان "إرهاب"، مقابل جهودٍ فرديةٍ بذلها بعض العلماء والدعاة تحذيراً من ذلك الانحراف. إنّما طُرحت القضية رسميا بقوّة (وهذا من أسباب موقف التشكيك لدى جيل الشبيبة تجاهها) عندما جعلت السياسات الدولية -كالروسية في الشاشان وأخواتها والأمريكية في أفغانستان وأخواتها- من "الإرهاب" قضية مركزية عالميا، وسعت لجعلها كذلك في البلدان الإسلامية أيضاً ولكن وفق رؤاها ومطامعها، فاستجابت لها الجهات الرسمية، رغم استخدام ذلك الطرح الدولي للقضية لتسويغ العدوان الأجنبي الواسع النطاق، أي لتسويغ "عنف أكبر وأخطر من الإرهاب نفسه". ولا يخفى أنّ العنف غير المشروع مرفوض في الإسلام بشكليه هذين، وبأشكاله الأخرى، فلا يمكن التركيز على جانب وتغييب الآخر، سواء في صيغة "فتوى" أو صيغة موقف إسلامي عموما، وسواء ارتبط ذلك بسياسات رسمية دولية ومحلية أم لم يرتبط.
ألوان من الشذوذ واستغلال الشذوذ
في متابعة الجدل المتكرّر حول انتشار "الفتوى"، من الناحية "الكمية"، أو من حيث عدم توافر المؤهلات الكافية لها، يمكن الرجوع إلى أسباب عديدة، وأهمّها ما يدور حول ثلاثة محاور:
1- صدور فتاوى من جانب فريق لم يبلغ مستوى الاجتهاد في مسألة فقهية ناهيك عن توافر شروط الإفتاء لديه، ولكن وجدت مقولاته -لا سيما تحت عنوان الجهاد- عبر كثرة استشهاده بنصوص شرعية أصداءَ التجاوب لدى قطاعات من جيل الشبيبة. وهنا يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار تزامن هذا التجاوب مع حقبة تاريخية يشهد الشبيبة فيها تغييبَ دور العلماء في بيان رفض الشرع الإسلامي المؤكّد لأشدّ الموبقات السياسية تخصيصا، كالاستبداد والتبعية الأجنبية والاستغلال وترسيخ الطبقية والفساد. وبات يقال إن تلك الفتاوى العشوائية من جانب غير المؤهّلين لها هي السبب الرئيسي لانتشار ما يوصف بالإرهاب، فيجب وضع حدّ لها، وكان من المحاولات المعروفة تأكيد ضرورة أخذ الفتاوى ممّن هو أهلٌ لها من العلماء المجتهدين، وهذا صحيح في الأصل، ولكن نشأت في تطبيقه إشكالية خطيرة أضعفت مفعوله، فقد اقترن التطبيق بتوظيف جهود فريقٍ من العلماء لاستصدار فتاوى معاكسة تحرّم ممارسات "الإرهاب"، ولكن لم يقترن في الوقت نفسه (من جانب ذلك الفريق) بمواقف أو فتاوى إسلامية واضحة على صعيد ما أوصل جيل الشبيبة إلى التجاوب مع أولئك المرفوضة فتاواهم.. أي على صعيد المعاناة من الاستبداد والتبعية المحلية والفساد والعدوان والهيمنة الأجنبيين.
2- انتشار وسائل إعلامية جماهيرية، وفتح أبوابها لا سيما عبر الشاشة الصغيرة وعالم الشبكة الافتراضي، لكثير من العلماء، الموثوقين وغير الموثوقين، القادرين على الفتيا وغير القادرين، المؤهّلين بما فيه الكفاية إسلامياً وغير المؤهّلين، لنشر ما يرونه ويعتبرونه فتاوى، بحق أو دون حق، ولضرورة وحاجة واقعية أو دون ذلك، فأصبح إصدار "ما يوصف بالفتاوى" ونشرها وتعميمها ممكناً لمن هبّ ودبّ، ورغم أنّها اقتصرت غالبا على الميادين الجانبية في الدرجة الأولى، أو الفرعية فيما يتعلّق بالنهج الإسلامي الشامل لمختلف جوانب الحياة، فقد شوّش ذلك على العلماء "الرسميين" وعلى مواقعهم ومؤسساتهم "الرسمية"، حتى وإن تقاربت المضامين بين فتاواهم –التي باتت كالمهنة الرسمية- وما بات يسمّى "فتاوى الفضائيات". ومن الجوانب المهمّة المهمَلة في هذا الإشكالية، أنّه لا يمكن أن يجد العامّة من المسلمين مصداقية في الدعوة إلى وضع حدّ لهذا السلوك، "المرفوض" وإن صدر عن فضائيات تحمل مسمّيات إسلامية، ولا تأتي المصداقية بمجرّد القول إنّها دعوة صادرة عن الحرص على أصالة مفهوم الفتوى.. بينما لا تجد فضائيات أكثر عددا، وأكبر تمويلا، وأنشط إنتاجا، مَن يعمل على وضع حدّ لسلوكها في ميدان الفساد والإفساد مع تزوير مفاهيم "الفن والإبداع والترفيه والثقافة".. وبعيدا عن أيّ حرص على استرجاع أصالتها!..
3- طرح ما سمّي فتاوى من جانب أفراد معدودين، محسوبين على أنّهم من العلماء والفقهاء، وما خرجوا من قبل على الخطّ العام للإفتاء "الرسمي" في بلدانهم، ولكن وصلوا ببعض ما طرحوه إلى درجةٍ من الشذوذ لا تخفى على المسلم الفرد وإن كان ضحل المعرفة بالفقه وأصوله، وطرقه المنهجية وحدوده، فأثاروا ضجيجاً إلى درجةٍ مأساوية، "مبكية مضحكة" في كثير من الأحيان، لا سيّما وأنّ أقوالهم الشاذّة وجدت "الاستغلال السريع" من جانب من لا يرون من الأصل في الإسلام نهجا، ولا يهتمّون به دينا، ولا يدعون إلى تطبيقه قدر ما يدعون إلى تطبيق مبادئَ تناقضه ولا علاقة لها به، فظهر بعض هؤلاء هكذا فجأة في موقع "الحرص" المزعوم على الإسلام، وظهر بعضهم الآخر في موقع من ينتهز الفرصة قاصدا (في قولٍ شاذّ بشأن "إرضاع الكبير" مثلا.. كما صُنع سابقا مع التحريم الشاذ للقول بكروية الأرض) ليجعل منه "قضية" مناسبة لتعزيز حملاته القديمة الدائمة ضدّ الإسلام نفسه، وليس ضدّ الشذوذ عن دربه المنهجي العلمي، الذي تمثّل الفتوى القويمة مرتبةً متقدمة منه مضمونا وسبّاقة تاريخيا على مستوى البشرية.
صناعة الفوضى بمعالمها الكبرى
لم تنشأ هذه المحاور الثلاثة اعتباطا ولم توصل إلى ما يمكن وصفه بفوضوية التعامل مع الفتوى في الوقت الحاضر إلاّ في تربة ملائمة لتلك الفوضى، يمكن الوقوف عند مَعلمين اثنين أهم من سواهما من معالمها:
أولا: الإكثار من الفتوى في الجزئيات والتفاصيل والتضييق عليها في الميادين الكبرى الأعظم أهمية وتأثيرا.. فنجد:
1- الأصل في الإسلام أن يتبع إصدار الفتوى الحاجةَ والضرورة عموما، لا سيما مع ما يطرأ من مستجدّات تهمّ عموم المسلمين فيتطلب فتاوى عامّة، أو أن تكون فتوى فردية خاصة فتأتي جواباً على سؤال ولا توجد حاجة إلى نشرها وتعميمها غالبا، لا عبر فضائيات ولا سواها.. ولكن (مع ملاحظة الخلط بين حكم فقهي معروف يُسأل عنه فيأتي الجواب ببيانه.. وبين الفتاوى وفق الاصطلاح الشرعي للكلمة) أصبح السائد في كثير من البلدان الإسلامية هو الإكثار مما يوصف بالفتاوى حول التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، والفروع وفروع الفروع، ونشر الخاصّ من ذلك وتعميمه، ممّا يبيح الظنّ بأنّ القصد هو القول: "هذا هو الإسلام!" وهذه هي ميادينه فحسب، كميدان الطهارة العبادية –مع عدم التقليل من شأنها- بعيدا عن "الطهارة" السياسية، أو ميدان "السحر والرقية" بعيدا عن "المناهج" الاقتصادية.. وهكذا، أي بعيدا عن الميادين الأشمل لِما يواجهه عموم المسلمين والأهمّ حاليا في واقعهم ومستقبلهم، وفي واقع وجودهم المعاصر وتعاملهم مع البشرية من حولهم، والواقع أنّ هذه بالذات هي الميادين المرتبطة بمنهج الإسلام في الحياة والحكم، ولكنّها الميادين التي لا تريد الأنظمة الحاكمة أن تتعرّض لها "الفتاوى الرسمية"، فأمعن أصحابها الاشتغال في تلك الجزئيات بديلا، وغابوا –أو جرى تغييبهم- عن قضايا كبرى في القطاعات السياسية والاقتصادية والأمنية والعلاقات الدولية ومناهج الفكر والتربية والتعليم والإعلام.. إلاّ نادرا.
2- أدّى تقييد حريّة الفتوى والمفتي –بل والمستفتي أيضا- في نطاق ما لا "يزعج" الحاكم، أو ينقض ما يصوّره هو مقبولا أو مطلوبا إسلاميا، إلى ظهور تناقض كبير بين (1) تضخّم مضامين الفتاوى في شؤون الطهارة وفروعها، وفي شؤون اللحوم وتناولها، وفي شؤون العقود الفردية (وليس العقود على مستوى الدولة وعلاقاتها الخارجية.. أي ما يتحكم بمصائر شعوب بأكملها) وما شابه ذلك –مرة أخرى: دون التهوين من شأنه في الأصل- وبين (2) مضامين النسبة الأعظم من النصوص الشرعية، من آيات وأحاديث، والنسبة الأعظم من الاهتمامات الفعلية التطبيقية في واقع المسلمين في العهد الأول، وهي تتركّز على قضايا العقيدة بكلياتها الكبرى، والاحتكام للشرع، والدعوة، والجهاد، والعلاقات بغير المسلمين، وما شابه ذلك، ممّا يتطلّب اليوم إصدار الفتاوى الحاسمة، كيلا ينتشر ما يتناقض مع العقيدة عبر الوسائل التي أُخضع تقنينُ عملها للحاكم بغض النظر عن حكم الإسلام بشأنها، كتباً ووسائل إعلام ومناهج تربية، أو ما يتناقض مع أحكام الجهاد والعلاقات مع غير المسلمين، اتفاقياتٍ وعقودا ومستشارين وواردات وقواعد عسكرية.. وما إلى ذلك.
ثانيا: تضييع الثقة بين العلماء الرسميين والعوام واستغلال ذلك تسييبا وتشدّدا.. فنجد:
1- ارتبطت الفتوى منذ العهد الإسلاميّ الأول بالقدرة العلمية الفقهية الاجتهاديّة التأهيلية، وليس بمنصب، وكان يأخذها الحاكم والمحكوم من أفراد معدودين، لا خلاف حول قدرتهم على الفتوى، وهذا ما نفتقده في أيامنا هذه.. لا نفتقد وجود أفراد اكتسبوا بسعة علمهم وصواب نظرهم ورسوخ مؤهلاتهم بمعايير الإسلام مكانة الثقة والقبول عند عموم المسلمين وعلمائهم، إنّما نفتقد "تحرّرهم" من القيود ليظهر عطاؤهم ومفعوله.. لا نفتقد وجود هؤلاء ولكن نجد ضرباً من ضروب "تهميشهم" وتهميش أثرهم على حياة المسلمين عموما، من خلال اصطناع "مناصب رسمية" للفتوى يشغلها سواهم غالبا، وهي مرتبطة بإرادة الحاكم، تعييناً وراتباً وعزلا، مع ما ترتّب على ذلك من (1) ارتباط فتاوى من يشغلون تلك المناصب بتوجّهات الحاكم (سلبا أو إيجابا) وبالتالي افتقاد ثقة العامّة بهم، حتى وإن صحّ كثير من فتاواهم، وذلك بنسبة موازية لرصد الاستبداد والمعاناة منه، الصادر عن ذلك الحاكم وعن نأيه بنظام حكمه عن تطبيق الإسلام عموماً في سياساته الكبرى، و(2) توظيف الفتاوى رسميا ليواجه بعضها بعضا، وكأنّ الغرض هو تعزيز الخلاف الذي يمكّن من السيطرة على جميع أطراف الخلاف.. لا سيّما عندما يُضطر العلماء -موضع الثقة والقبول من خارج دائرة المناصب الرسمية- إلى الإعلان عن بطلانِ "فتاوى رسمية" بسبب إدراكهم لخطورتها على صعيد فهم الإسلام وتطبيقه، أو يعلنون بأنفسهم عن فتاوى يظهر التناقض بوضوح بينها وبين الخطّ الرسمي الغالب بسلبياته وإيجابياته على فتاوى المناصب الرسمية.
2- الفتوى إجراء عملي واقعي يمثّل أحد الأركان الهامة لضبط الشؤون "العملية" في حياة المجتمع، ووجود الدولة وممارساتها، وليست أمرا نظريا، ولكنّ إعطاء السيادة في الدولة لأجهزة الحكم التنفيذية (والأمنية القمعية) على التشريع وأجهزته الفقهية العلمية والتمثيلية المنتخبة –فضلا عن تغييب استقلال القضاء وسيادته- حَصَر استنباطَ الأحكام في القضايا الأساسية لضبط الشؤون العملية ما بين (1) ما "يسمح" الحاكم به، و(2) الدراسات النظرية في الجامعات والمعاهد وتأليف الكتب. لا يمكن فصل هذا السلوك ونتائجه عن "جزء" من الحصيلة التي نشأت عنه، إذ سلك أفراد وجماعات طريق "الدراسة النظرية" أيضا، ولكن ليس بغرض البحث العلميّ المجرّد، إنّما بغرض "التنظير" لاتجاهٍ من الاتجاهات تحت عنوان الإسلام، فأقحموا "الفتوى" التي يصنعونها دون مؤهلاتٍ غالبا في بنية اتجاههم وتنظيماتهم، لإقناع عددٍ أكبر من المسلمين باتباعه. وليس مستغربا تبعا لذلك أن تستهوي اتجاهاتهم كثيرا من العامّة، إذ سبق أن غيّبت الدولة نفسها "البديل" الصحيح (أي الوضع القويم الأصيل) بتغييب موقع الفتوى القويمة عن الجانب العملي الحاسم في صناعة القرار على مستوى الدولة وأجهزتها والمجتمع ومناهجه، مع اتّباعه على أرض الواقع التطبيقي.
3- ميّز المسلمون، علماؤهم وعامّتهم، في وقت مبكّر، بين الفتوى والرأي الفردي، فإلى جانب إسناد الفتوى لمن هم أهل لها وفق كفاءاتهم، لم يُحجر على مسلم أو مسلمة، من عوامّ المسلمين، أن يعبّر عن رأيه الشخصي وفق ما يفهم هو إسلامه، جهاراً وفي مختلف الميادين، بدءاً بموقف المجادلة أو موقف فتاة من محاولة أبيها تزويجها دون موافقتها، مرورا باعتراض عمر رضي الله عنه في قضية الأسرى، وجميع ذلك وسواه أثناء نزول الوحي، وصولا إلى مواقف عديدة جداً من بعد، ليس أدناها مواجهةُ غلامٍ فتى على رأس وفدِ قومِه أميرَ المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه.. أمّا في الوقت الحاضر فبات محظوراً على أيّ فرد من المسلمين (وعامّة السكان) في بلد إسلامي أن يعبّر الإنسان الذي كرّمه الله تعالى (ومن تكريمه: حرية إرادته المستقلة) عن رأيه المخالف لِما يراه الحاكم ومن معه، تحت طائلة الملاحقة أو العقوبة.. ومن العسير استبعاد اعتبار ذلك نوعاً من "الإكراه" –وإن كان غير مقصود- أن يتحرّك أولئك الأفراد في عمل سريّ، يمكن أن يستصدروا في نطاقه "فتاوى" مخالفة لفتاوى المناصب الرسمية.
4- اقترن تغييب الفتوى "العامّة" المستقلّة عن الحاكم، القويمة في استنباطها من جانب المؤهّلين موضع الثقة لها، المرتبطة مباشرة بواقع المسلمين وقضاياهم الكبرى.. اقترن بصناعة القرار عبر أجهزة الدولة نفسها أو عبر جهاتٍ ذات نفوذ في المجتمع، بعيداً عمّا يقول به الإسلام عبر الفتوى، أي صناعة القرار من خلال مختلف أصناف المناهج المبتدعة محلياً أو المستوردة، ممّا يريده الحاكم بقدر ما يوافق مضمونُه نهجَه ومصلحته الذاتية وبقاءه في السلطة، أو ممّا يجد على الأقلّ سكوت الحاكم عنه، على النقيض من مواجهته العنيفة للتشدّد والتطرّف بعد ظهور موبقاتهما وخطرها عليه.. وأصبح هذا "التسييب" بميزان الإسلام هو المظهر الغالب الذي يعايشه جيل "الصحوة" على وجه التخصيص، وهذا بعد أن سبق تغييب المخرج القويم منه، القائم على العودة إلى الإسلام نفسه، أي تغييب الفتوى العامّة المستقلة وتعزيز مكانتها التوجيهية، مقابل ضعف الثقة بالفتاوى الرسمية الموجَّهة، فأمكن لنهج التشدّد أن يجذب قطاعات واسعة من الشبيبة لفترة من الزمن على الأقل.a
خواطر حول الضوابط المطلوبة
لا شكّ في الحاجة إلى "ضوابط" بيّنة لمواجهة هذه الأوضاع الفوضوية المرتبطة بالتعامل مع الفتوى، وهي نهج "علمي" بالغ الأهمية في بيان ما يريد الإسلام وما لا يريد، وما يقرّر أو يرفض، وما يدعو المسلمين إلى تطبيقه أو إلى اجتنابه، والمفروض أن يتداعى إلى وضع تلك الضوابط أهل العلم الموثوقون، ولكن إلى ذلك الحين لا يفيد الاعتماد على أساليب "الحظر" في عالم معاصر اخترقت وسائله التقنية مختلف حدود الحظر والرقابة والمحاسبة، واختلطت فيه الأوضاع الشاذة اختلاطاً كبيراً ينشر الضباب حول "ثبوت المرجعية الإسلامية المشروعة ومواصفاتها" نتيجة تغييب تحكيم الإسلام في المجتمع والدولة كما ينبغي.
1- لم ينجح في الماضي أسلوب الوصاية الرسمية على الفتوى ولا يمكن أن ينجح قطعاً في الحاضر وما يشهده من تطوّر وسائل التواصل والقدرة على الانفلات من الرقابة عليها، بل قد يضاعف أسبابَ التمرّد ودواعي الفوضى لجوءُ الحاكم في أيّ بلد إسلامي إلى ربط حصر الفتوى بمن يراه "هو" بمعايير حكمه والحفاظ عليه، مؤهّلا للفتوى، تحت طائلة المراقبة والمحاسبة والعقوبة.
2- لا تستعاد الثقة بين عموم المسلمين وفريق من العلماء عن طريق خضوعهم أو إخضاعهم عبر القانون لِما يترتب على ربط "سلوكهم" في الفتوى بتعيينهم ورواتبهم وإعفائهم من مناصبهم، إنّما تستعاد من خلال ممارساتهم، التي تنطلق من إعطاء الأولوية للنص الشرعي أولا، ومنهج الفتوى الإسلامي ثانيا، والتجاوب مع احتياجات الإسلام والمسلمين الكبرى ثالثا، واستقلالهم الفعلي لا النظري عن إرادة الحاكم ورؤاه رابعا.
3- لا توجد جهة مؤهّلة لتصنيف العلماء في مرتبة الاجتهاد والفتيا سوى العلماء أنفسهم، ولا تتحقق الممارسة الفعلية لذلك دون الشرط الجامع لِما سواه، وهو (1) "سيادة هيئة مرجعية" جامعة لهم على قرارها واستقلالها عن سواها، (2) تستعين بصورة منهجية مدروسة ومنظمة بذوي الاختصاص في مختلف الميادين، و(3) تنبثق عنها هي نفسها آليات رقابة وضبطٍ ذاتية، مع (4) تثبيت ذلك دستوريا، بما يُلزم العلماء فيها، ويمنع خرقه من خارج نطاقها.
4- يتطلّب ذلك فيما يتطلب: (1) عدم إقصاء عالم من العلماء لدواعٍ غير مشروعة إسلاميا، رسمية أو غير رسمية (2) التواصل التنظيمي بين العلماء بما يتجاوز الحدود والأعلام والانتماءات الصادرة عن وجود الدول القطرية أو الصادرة عن تعدّد مسارات الاجتهاد الفقهية (3) تحرّر العلماء من مفعول الارتباطات بالإجراءات الرسمية تعيينا وعزلا، ومفعول الاحتياجات المعيشية عبر الرواتب المالية وجميع ما يتفرّع عنها، ولعلّ "الوقف" الذي ابتكره المجتمع الإسلامي الأوّل أجدى بالتطبيق في هذا الميدان من أيّ ميدان آخر.
5- لا غنى عن التمييز بين (1) "الفتاوى العامّة" الشاملة للمسلمين ومجتمعاتهم ودولهم وعلاقاتهم الدولية ومناهج حكمهم، وبالتالي التركيز على إصدارها ونشرها وتعميمها والمطالبة بتطبيقها، وليس مجرّد طرحها نظريا، أو اعتبارها توصيات تجاه الأنظمة.. و(2) "الفتاوى الخاصة" بين العلماء منفردين والعامة، واعتبارها ميدانا للعلاقة المباشرة بينهم، والخاصة بشؤونهم المعيشية الجزئية، وعدم التركيز عليها على حساب الفتاوى العامّة والأشمل، في وسائل النشر والإعلام الجماهيرية.
6- لا يُنتظر واقعيا التخلّص من ظاهرة الفوضوية في التعامل مع الفتوى بين عشية وضحاها، ولا بقرار يصدر من أيّ جهة من الجهات، إنّما هي جزء من عملية النهوض بواقع المسلمين وبلدانهم، بما يشملهم ويشمل غير المسلمين في هذه البلدان، كما يشمل علاقاتهم بالعالم من حولهم، ومراعاة متطلبات العصر الذي يعيشون فيه مع التركيز على الضوابط المطلوبة بمعايير الإسلام نفسه، وعلى العناصر الجامعة منها من وراء تعدّد الاجتهادات، في القضايا المشتركة، والتعايش بين المختلف عليه فيما لا يمثل قضايا مشتركة وكبرى في حياة المسلمين وواقع العالم، إنّما ينبغي التلاقي على أرضية مشتركة على صعيد إصلاح التعامل مع الفتوى، ليكون ذلك جزءاً من مشروع النهوض الحضاري الإسلامي حديثا.
--------------------
هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
طرحت قضية "الفتاوى" الإسلامية نفسها في الآونة الأخيرة على نطاق واسع، ومع تجاوز مفعول عوامل تاريخية قريبة وبعيدة، نجد أنّ البداية الحديثة إلى ذلك كانت في إطار ما أثارته لدى جيل الشبيبة أحداثٌ مأساوية جارية رافقتها مواقف شاذة تحمل عنوان الإسلام، ولكنها تصدم بمضامينها عامّة المسلمين من خلال "حدسهم" الإسلامي على الأقل، ومن خلال انطلاقهم الفطري من الأولويات الإسلامية الكبرى، بما فيها ما هو معروف من الدين بالضرورة، ناهيك عن تعزيز ما يستشعره العامة من جيل الشبيبة عبر رفض علماءَ معتبرين موثوقين لبعض تلك المواقف، كما كان مع مسائل من قبيل تحليل أشكال حديثة من الربا كمثال من قطاع المعاملات، أو ما يرتبط بالمقاومة في فلسطين كمثال على الصعيد السياسي والعلاقات الدولية، أو ماهو إساءة محضة للفتوى وللإسلام وللقائلين بما قالوا أنفسهم، مثل عبثيّة "إرضاع الكبير".
وسبق ذلك طرح قضية "الفتاوى" بتحويل ما يسمّى "الإرهاب" إلى قضية مركزية في العالم الإسلامي، ولم يكن ذلك عند ولادة ظاهرة "الإرهاب" في الغرب ثم انتقال بعض أشكالها إلى أرضٍ إسلامية، كما كان في نطاق "العمل الفدائي" –وليس المقاومة الإسلامية- في قضية فلسطين أو ما وقع تحت عناوين إسلامية في مصر مثلا، فآنذاك قلّ ما طُرحت رسمياً قضية انحراف الفتاوى تحت عنوان "إرهاب"، مقابل جهودٍ فرديةٍ بذلها بعض العلماء والدعاة تحذيراً من ذلك الانحراف. إنّما طُرحت القضية رسميا بقوّة (وهذا من أسباب موقف التشكيك لدى جيل الشبيبة تجاهها) عندما جعلت السياسات الدولية -كالروسية في الشاشان وأخواتها والأمريكية في أفغانستان وأخواتها- من "الإرهاب" قضية مركزية عالميا، وسعت لجعلها كذلك في البلدان الإسلامية أيضاً ولكن وفق رؤاها ومطامعها، فاستجابت لها الجهات الرسمية، رغم استخدام ذلك الطرح الدولي للقضية لتسويغ العدوان الأجنبي الواسع النطاق، أي لتسويغ "عنف أكبر وأخطر من الإرهاب نفسه". ولا يخفى أنّ العنف غير المشروع مرفوض في الإسلام بشكليه هذين، وبأشكاله الأخرى، فلا يمكن التركيز على جانب وتغييب الآخر، سواء في صيغة "فتوى" أو صيغة موقف إسلامي عموما، وسواء ارتبط ذلك بسياسات رسمية دولية ومحلية أم لم يرتبط.
ألوان من الشذوذ واستغلال الشذوذ
في متابعة الجدل المتكرّر حول انتشار "الفتوى"، من الناحية "الكمية"، أو من حيث عدم توافر المؤهلات الكافية لها، يمكن الرجوع إلى أسباب عديدة، وأهمّها ما يدور حول ثلاثة محاور:
1- صدور فتاوى من جانب فريق لم يبلغ مستوى الاجتهاد في مسألة فقهية ناهيك عن توافر شروط الإفتاء لديه، ولكن وجدت مقولاته -لا سيما تحت عنوان الجهاد- عبر كثرة استشهاده بنصوص شرعية أصداءَ التجاوب لدى قطاعات من جيل الشبيبة. وهنا يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار تزامن هذا التجاوب مع حقبة تاريخية يشهد الشبيبة فيها تغييبَ دور العلماء في بيان رفض الشرع الإسلامي المؤكّد لأشدّ الموبقات السياسية تخصيصا، كالاستبداد والتبعية الأجنبية والاستغلال وترسيخ الطبقية والفساد. وبات يقال إن تلك الفتاوى العشوائية من جانب غير المؤهّلين لها هي السبب الرئيسي لانتشار ما يوصف بالإرهاب، فيجب وضع حدّ لها، وكان من المحاولات المعروفة تأكيد ضرورة أخذ الفتاوى ممّن هو أهلٌ لها من العلماء المجتهدين، وهذا صحيح في الأصل، ولكن نشأت في تطبيقه إشكالية خطيرة أضعفت مفعوله، فقد اقترن التطبيق بتوظيف جهود فريقٍ من العلماء لاستصدار فتاوى معاكسة تحرّم ممارسات "الإرهاب"، ولكن لم يقترن في الوقت نفسه (من جانب ذلك الفريق) بمواقف أو فتاوى إسلامية واضحة على صعيد ما أوصل جيل الشبيبة إلى التجاوب مع أولئك المرفوضة فتاواهم.. أي على صعيد المعاناة من الاستبداد والتبعية المحلية والفساد والعدوان والهيمنة الأجنبيين.
2- انتشار وسائل إعلامية جماهيرية، وفتح أبوابها لا سيما عبر الشاشة الصغيرة وعالم الشبكة الافتراضي، لكثير من العلماء، الموثوقين وغير الموثوقين، القادرين على الفتيا وغير القادرين، المؤهّلين بما فيه الكفاية إسلامياً وغير المؤهّلين، لنشر ما يرونه ويعتبرونه فتاوى، بحق أو دون حق، ولضرورة وحاجة واقعية أو دون ذلك، فأصبح إصدار "ما يوصف بالفتاوى" ونشرها وتعميمها ممكناً لمن هبّ ودبّ، ورغم أنّها اقتصرت غالبا على الميادين الجانبية في الدرجة الأولى، أو الفرعية فيما يتعلّق بالنهج الإسلامي الشامل لمختلف جوانب الحياة، فقد شوّش ذلك على العلماء "الرسميين" وعلى مواقعهم ومؤسساتهم "الرسمية"، حتى وإن تقاربت المضامين بين فتاواهم –التي باتت كالمهنة الرسمية- وما بات يسمّى "فتاوى الفضائيات". ومن الجوانب المهمّة المهمَلة في هذا الإشكالية، أنّه لا يمكن أن يجد العامّة من المسلمين مصداقية في الدعوة إلى وضع حدّ لهذا السلوك، "المرفوض" وإن صدر عن فضائيات تحمل مسمّيات إسلامية، ولا تأتي المصداقية بمجرّد القول إنّها دعوة صادرة عن الحرص على أصالة مفهوم الفتوى.. بينما لا تجد فضائيات أكثر عددا، وأكبر تمويلا، وأنشط إنتاجا، مَن يعمل على وضع حدّ لسلوكها في ميدان الفساد والإفساد مع تزوير مفاهيم "الفن والإبداع والترفيه والثقافة".. وبعيدا عن أيّ حرص على استرجاع أصالتها!..
3- طرح ما سمّي فتاوى من جانب أفراد معدودين، محسوبين على أنّهم من العلماء والفقهاء، وما خرجوا من قبل على الخطّ العام للإفتاء "الرسمي" في بلدانهم، ولكن وصلوا ببعض ما طرحوه إلى درجةٍ من الشذوذ لا تخفى على المسلم الفرد وإن كان ضحل المعرفة بالفقه وأصوله، وطرقه المنهجية وحدوده، فأثاروا ضجيجاً إلى درجةٍ مأساوية، "مبكية مضحكة" في كثير من الأحيان، لا سيّما وأنّ أقوالهم الشاذّة وجدت "الاستغلال السريع" من جانب من لا يرون من الأصل في الإسلام نهجا، ولا يهتمّون به دينا، ولا يدعون إلى تطبيقه قدر ما يدعون إلى تطبيق مبادئَ تناقضه ولا علاقة لها به، فظهر بعض هؤلاء هكذا فجأة في موقع "الحرص" المزعوم على الإسلام، وظهر بعضهم الآخر في موقع من ينتهز الفرصة قاصدا (في قولٍ شاذّ بشأن "إرضاع الكبير" مثلا.. كما صُنع سابقا مع التحريم الشاذ للقول بكروية الأرض) ليجعل منه "قضية" مناسبة لتعزيز حملاته القديمة الدائمة ضدّ الإسلام نفسه، وليس ضدّ الشذوذ عن دربه المنهجي العلمي، الذي تمثّل الفتوى القويمة مرتبةً متقدمة منه مضمونا وسبّاقة تاريخيا على مستوى البشرية.
صناعة الفوضى بمعالمها الكبرى
لم تنشأ هذه المحاور الثلاثة اعتباطا ولم توصل إلى ما يمكن وصفه بفوضوية التعامل مع الفتوى في الوقت الحاضر إلاّ في تربة ملائمة لتلك الفوضى، يمكن الوقوف عند مَعلمين اثنين أهم من سواهما من معالمها:
أولا: الإكثار من الفتوى في الجزئيات والتفاصيل والتضييق عليها في الميادين الكبرى الأعظم أهمية وتأثيرا.. فنجد:
1- الأصل في الإسلام أن يتبع إصدار الفتوى الحاجةَ والضرورة عموما، لا سيما مع ما يطرأ من مستجدّات تهمّ عموم المسلمين فيتطلب فتاوى عامّة، أو أن تكون فتوى فردية خاصة فتأتي جواباً على سؤال ولا توجد حاجة إلى نشرها وتعميمها غالبا، لا عبر فضائيات ولا سواها.. ولكن (مع ملاحظة الخلط بين حكم فقهي معروف يُسأل عنه فيأتي الجواب ببيانه.. وبين الفتاوى وفق الاصطلاح الشرعي للكلمة) أصبح السائد في كثير من البلدان الإسلامية هو الإكثار مما يوصف بالفتاوى حول التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، والفروع وفروع الفروع، ونشر الخاصّ من ذلك وتعميمه، ممّا يبيح الظنّ بأنّ القصد هو القول: "هذا هو الإسلام!" وهذه هي ميادينه فحسب، كميدان الطهارة العبادية –مع عدم التقليل من شأنها- بعيدا عن "الطهارة" السياسية، أو ميدان "السحر والرقية" بعيدا عن "المناهج" الاقتصادية.. وهكذا، أي بعيدا عن الميادين الأشمل لِما يواجهه عموم المسلمين والأهمّ حاليا في واقعهم ومستقبلهم، وفي واقع وجودهم المعاصر وتعاملهم مع البشرية من حولهم، والواقع أنّ هذه بالذات هي الميادين المرتبطة بمنهج الإسلام في الحياة والحكم، ولكنّها الميادين التي لا تريد الأنظمة الحاكمة أن تتعرّض لها "الفتاوى الرسمية"، فأمعن أصحابها الاشتغال في تلك الجزئيات بديلا، وغابوا –أو جرى تغييبهم- عن قضايا كبرى في القطاعات السياسية والاقتصادية والأمنية والعلاقات الدولية ومناهج الفكر والتربية والتعليم والإعلام.. إلاّ نادرا.
2- أدّى تقييد حريّة الفتوى والمفتي –بل والمستفتي أيضا- في نطاق ما لا "يزعج" الحاكم، أو ينقض ما يصوّره هو مقبولا أو مطلوبا إسلاميا، إلى ظهور تناقض كبير بين (1) تضخّم مضامين الفتاوى في شؤون الطهارة وفروعها، وفي شؤون اللحوم وتناولها، وفي شؤون العقود الفردية (وليس العقود على مستوى الدولة وعلاقاتها الخارجية.. أي ما يتحكم بمصائر شعوب بأكملها) وما شابه ذلك –مرة أخرى: دون التهوين من شأنه في الأصل- وبين (2) مضامين النسبة الأعظم من النصوص الشرعية، من آيات وأحاديث، والنسبة الأعظم من الاهتمامات الفعلية التطبيقية في واقع المسلمين في العهد الأول، وهي تتركّز على قضايا العقيدة بكلياتها الكبرى، والاحتكام للشرع، والدعوة، والجهاد، والعلاقات بغير المسلمين، وما شابه ذلك، ممّا يتطلّب اليوم إصدار الفتاوى الحاسمة، كيلا ينتشر ما يتناقض مع العقيدة عبر الوسائل التي أُخضع تقنينُ عملها للحاكم بغض النظر عن حكم الإسلام بشأنها، كتباً ووسائل إعلام ومناهج تربية، أو ما يتناقض مع أحكام الجهاد والعلاقات مع غير المسلمين، اتفاقياتٍ وعقودا ومستشارين وواردات وقواعد عسكرية.. وما إلى ذلك.
ثانيا: تضييع الثقة بين العلماء الرسميين والعوام واستغلال ذلك تسييبا وتشدّدا.. فنجد:
1- ارتبطت الفتوى منذ العهد الإسلاميّ الأول بالقدرة العلمية الفقهية الاجتهاديّة التأهيلية، وليس بمنصب، وكان يأخذها الحاكم والمحكوم من أفراد معدودين، لا خلاف حول قدرتهم على الفتوى، وهذا ما نفتقده في أيامنا هذه.. لا نفتقد وجود أفراد اكتسبوا بسعة علمهم وصواب نظرهم ورسوخ مؤهلاتهم بمعايير الإسلام مكانة الثقة والقبول عند عموم المسلمين وعلمائهم، إنّما نفتقد "تحرّرهم" من القيود ليظهر عطاؤهم ومفعوله.. لا نفتقد وجود هؤلاء ولكن نجد ضرباً من ضروب "تهميشهم" وتهميش أثرهم على حياة المسلمين عموما، من خلال اصطناع "مناصب رسمية" للفتوى يشغلها سواهم غالبا، وهي مرتبطة بإرادة الحاكم، تعييناً وراتباً وعزلا، مع ما ترتّب على ذلك من (1) ارتباط فتاوى من يشغلون تلك المناصب بتوجّهات الحاكم (سلبا أو إيجابا) وبالتالي افتقاد ثقة العامّة بهم، حتى وإن صحّ كثير من فتاواهم، وذلك بنسبة موازية لرصد الاستبداد والمعاناة منه، الصادر عن ذلك الحاكم وعن نأيه بنظام حكمه عن تطبيق الإسلام عموماً في سياساته الكبرى، و(2) توظيف الفتاوى رسميا ليواجه بعضها بعضا، وكأنّ الغرض هو تعزيز الخلاف الذي يمكّن من السيطرة على جميع أطراف الخلاف.. لا سيّما عندما يُضطر العلماء -موضع الثقة والقبول من خارج دائرة المناصب الرسمية- إلى الإعلان عن بطلانِ "فتاوى رسمية" بسبب إدراكهم لخطورتها على صعيد فهم الإسلام وتطبيقه، أو يعلنون بأنفسهم عن فتاوى يظهر التناقض بوضوح بينها وبين الخطّ الرسمي الغالب بسلبياته وإيجابياته على فتاوى المناصب الرسمية.
2- الفتوى إجراء عملي واقعي يمثّل أحد الأركان الهامة لضبط الشؤون "العملية" في حياة المجتمع، ووجود الدولة وممارساتها، وليست أمرا نظريا، ولكنّ إعطاء السيادة في الدولة لأجهزة الحكم التنفيذية (والأمنية القمعية) على التشريع وأجهزته الفقهية العلمية والتمثيلية المنتخبة –فضلا عن تغييب استقلال القضاء وسيادته- حَصَر استنباطَ الأحكام في القضايا الأساسية لضبط الشؤون العملية ما بين (1) ما "يسمح" الحاكم به، و(2) الدراسات النظرية في الجامعات والمعاهد وتأليف الكتب. لا يمكن فصل هذا السلوك ونتائجه عن "جزء" من الحصيلة التي نشأت عنه، إذ سلك أفراد وجماعات طريق "الدراسة النظرية" أيضا، ولكن ليس بغرض البحث العلميّ المجرّد، إنّما بغرض "التنظير" لاتجاهٍ من الاتجاهات تحت عنوان الإسلام، فأقحموا "الفتوى" التي يصنعونها دون مؤهلاتٍ غالبا في بنية اتجاههم وتنظيماتهم، لإقناع عددٍ أكبر من المسلمين باتباعه. وليس مستغربا تبعا لذلك أن تستهوي اتجاهاتهم كثيرا من العامّة، إذ سبق أن غيّبت الدولة نفسها "البديل" الصحيح (أي الوضع القويم الأصيل) بتغييب موقع الفتوى القويمة عن الجانب العملي الحاسم في صناعة القرار على مستوى الدولة وأجهزتها والمجتمع ومناهجه، مع اتّباعه على أرض الواقع التطبيقي.
3- ميّز المسلمون، علماؤهم وعامّتهم، في وقت مبكّر، بين الفتوى والرأي الفردي، فإلى جانب إسناد الفتوى لمن هم أهل لها وفق كفاءاتهم، لم يُحجر على مسلم أو مسلمة، من عوامّ المسلمين، أن يعبّر عن رأيه الشخصي وفق ما يفهم هو إسلامه، جهاراً وفي مختلف الميادين، بدءاً بموقف المجادلة أو موقف فتاة من محاولة أبيها تزويجها دون موافقتها، مرورا باعتراض عمر رضي الله عنه في قضية الأسرى، وجميع ذلك وسواه أثناء نزول الوحي، وصولا إلى مواقف عديدة جداً من بعد، ليس أدناها مواجهةُ غلامٍ فتى على رأس وفدِ قومِه أميرَ المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه.. أمّا في الوقت الحاضر فبات محظوراً على أيّ فرد من المسلمين (وعامّة السكان) في بلد إسلامي أن يعبّر الإنسان الذي كرّمه الله تعالى (ومن تكريمه: حرية إرادته المستقلة) عن رأيه المخالف لِما يراه الحاكم ومن معه، تحت طائلة الملاحقة أو العقوبة.. ومن العسير استبعاد اعتبار ذلك نوعاً من "الإكراه" –وإن كان غير مقصود- أن يتحرّك أولئك الأفراد في عمل سريّ، يمكن أن يستصدروا في نطاقه "فتاوى" مخالفة لفتاوى المناصب الرسمية.
4- اقترن تغييب الفتوى "العامّة" المستقلّة عن الحاكم، القويمة في استنباطها من جانب المؤهّلين موضع الثقة لها، المرتبطة مباشرة بواقع المسلمين وقضاياهم الكبرى.. اقترن بصناعة القرار عبر أجهزة الدولة نفسها أو عبر جهاتٍ ذات نفوذ في المجتمع، بعيداً عمّا يقول به الإسلام عبر الفتوى، أي صناعة القرار من خلال مختلف أصناف المناهج المبتدعة محلياً أو المستوردة، ممّا يريده الحاكم بقدر ما يوافق مضمونُه نهجَه ومصلحته الذاتية وبقاءه في السلطة، أو ممّا يجد على الأقلّ سكوت الحاكم عنه، على النقيض من مواجهته العنيفة للتشدّد والتطرّف بعد ظهور موبقاتهما وخطرها عليه.. وأصبح هذا "التسييب" بميزان الإسلام هو المظهر الغالب الذي يعايشه جيل "الصحوة" على وجه التخصيص، وهذا بعد أن سبق تغييب المخرج القويم منه، القائم على العودة إلى الإسلام نفسه، أي تغييب الفتوى العامّة المستقلة وتعزيز مكانتها التوجيهية، مقابل ضعف الثقة بالفتاوى الرسمية الموجَّهة، فأمكن لنهج التشدّد أن يجذب قطاعات واسعة من الشبيبة لفترة من الزمن على الأقل.a
خواطر حول الضوابط المطلوبة
لا شكّ في الحاجة إلى "ضوابط" بيّنة لمواجهة هذه الأوضاع الفوضوية المرتبطة بالتعامل مع الفتوى، وهي نهج "علمي" بالغ الأهمية في بيان ما يريد الإسلام وما لا يريد، وما يقرّر أو يرفض، وما يدعو المسلمين إلى تطبيقه أو إلى اجتنابه، والمفروض أن يتداعى إلى وضع تلك الضوابط أهل العلم الموثوقون، ولكن إلى ذلك الحين لا يفيد الاعتماد على أساليب "الحظر" في عالم معاصر اخترقت وسائله التقنية مختلف حدود الحظر والرقابة والمحاسبة، واختلطت فيه الأوضاع الشاذة اختلاطاً كبيراً ينشر الضباب حول "ثبوت المرجعية الإسلامية المشروعة ومواصفاتها" نتيجة تغييب تحكيم الإسلام في المجتمع والدولة كما ينبغي.
1- لم ينجح في الماضي أسلوب الوصاية الرسمية على الفتوى ولا يمكن أن ينجح قطعاً في الحاضر وما يشهده من تطوّر وسائل التواصل والقدرة على الانفلات من الرقابة عليها، بل قد يضاعف أسبابَ التمرّد ودواعي الفوضى لجوءُ الحاكم في أيّ بلد إسلامي إلى ربط حصر الفتوى بمن يراه "هو" بمعايير حكمه والحفاظ عليه، مؤهّلا للفتوى، تحت طائلة المراقبة والمحاسبة والعقوبة.
2- لا تستعاد الثقة بين عموم المسلمين وفريق من العلماء عن طريق خضوعهم أو إخضاعهم عبر القانون لِما يترتب على ربط "سلوكهم" في الفتوى بتعيينهم ورواتبهم وإعفائهم من مناصبهم، إنّما تستعاد من خلال ممارساتهم، التي تنطلق من إعطاء الأولوية للنص الشرعي أولا، ومنهج الفتوى الإسلامي ثانيا، والتجاوب مع احتياجات الإسلام والمسلمين الكبرى ثالثا، واستقلالهم الفعلي لا النظري عن إرادة الحاكم ورؤاه رابعا.
3- لا توجد جهة مؤهّلة لتصنيف العلماء في مرتبة الاجتهاد والفتيا سوى العلماء أنفسهم، ولا تتحقق الممارسة الفعلية لذلك دون الشرط الجامع لِما سواه، وهو (1) "سيادة هيئة مرجعية" جامعة لهم على قرارها واستقلالها عن سواها، (2) تستعين بصورة منهجية مدروسة ومنظمة بذوي الاختصاص في مختلف الميادين، و(3) تنبثق عنها هي نفسها آليات رقابة وضبطٍ ذاتية، مع (4) تثبيت ذلك دستوريا، بما يُلزم العلماء فيها، ويمنع خرقه من خارج نطاقها.
4- يتطلّب ذلك فيما يتطلب: (1) عدم إقصاء عالم من العلماء لدواعٍ غير مشروعة إسلاميا، رسمية أو غير رسمية (2) التواصل التنظيمي بين العلماء بما يتجاوز الحدود والأعلام والانتماءات الصادرة عن وجود الدول القطرية أو الصادرة عن تعدّد مسارات الاجتهاد الفقهية (3) تحرّر العلماء من مفعول الارتباطات بالإجراءات الرسمية تعيينا وعزلا، ومفعول الاحتياجات المعيشية عبر الرواتب المالية وجميع ما يتفرّع عنها، ولعلّ "الوقف" الذي ابتكره المجتمع الإسلامي الأوّل أجدى بالتطبيق في هذا الميدان من أيّ ميدان آخر.
5- لا غنى عن التمييز بين (1) "الفتاوى العامّة" الشاملة للمسلمين ومجتمعاتهم ودولهم وعلاقاتهم الدولية ومناهج حكمهم، وبالتالي التركيز على إصدارها ونشرها وتعميمها والمطالبة بتطبيقها، وليس مجرّد طرحها نظريا، أو اعتبارها توصيات تجاه الأنظمة.. و(2) "الفتاوى الخاصة" بين العلماء منفردين والعامة، واعتبارها ميدانا للعلاقة المباشرة بينهم، والخاصة بشؤونهم المعيشية الجزئية، وعدم التركيز عليها على حساب الفتاوى العامّة والأشمل، في وسائل النشر والإعلام الجماهيرية.
6- لا يُنتظر واقعيا التخلّص من ظاهرة الفوضوية في التعامل مع الفتوى بين عشية وضحاها، ولا بقرار يصدر من أيّ جهة من الجهات، إنّما هي جزء من عملية النهوض بواقع المسلمين وبلدانهم، بما يشملهم ويشمل غير المسلمين في هذه البلدان، كما يشمل علاقاتهم بالعالم من حولهم، ومراعاة متطلبات العصر الذي يعيشون فيه مع التركيز على الضوابط المطلوبة بمعايير الإسلام نفسه، وعلى العناصر الجامعة منها من وراء تعدّد الاجتهادات، في القضايا المشتركة، والتعايش بين المختلف عليه فيما لا يمثل قضايا مشتركة وكبرى في حياة المسلمين وواقع العالم، إنّما ينبغي التلاقي على أرضية مشتركة على صعيد إصلاح التعامل مع الفتوى، ليكون ذلك جزءاً من مشروع النهوض الحضاري الإسلامي حديثا.
--------------------
هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها