موجبات تغير الفتوى في عصرنا
إن للاجتهاد في الشريعة الإسلامية منزلة كبيرة، فإن الشريعة لا تؤتي أُكلها، ولا تحقِّق أهدافها في حياة الفرد والأسرة والجماعة والأمة إلا بإعماله، في مجالاته المختلفة، وعلى كلِّ مستوياته المتباينة، وبكلِّ أصنافه المتنوِّعة، من اجتهاد إنشائي، أو اجتهاد انتقائي، ومن اجتهاد مطلق، أو اجتهاد جزئي، ومن اجتهاد فردي، أو اجتهاد جماعي.
وللاجتهاد في الشريعة: صور شتَّى، فمنه اجتهاد في القضاء يمارسه القضاة، ولا سيما في عصور الاجتهاد الإسلامي، وقبل تقنين الأحكام في مواد، وإيجاب التقيُّد بها على القضاة، وتحريم الاجتهاد عليهم إلا فيما يتعلَّق بتحقيق المناط.
ومن صور الاجتهاد: التقنين. أي وضع الأحكام في صيغة مواد قانونية، حسب اختلاف الموضوعات، فهناك قانون الأسرة، والقانون المدني، والقانون الجنائي، والقانون الإداري والمالي، وغيرها.
كما قنَّنت (مجلة الأحكام) العدلية الشهيرة في أواخر العهد العثماني: القانون المدني على المذهب الحنفي.
تقنين أحكام الفقه
ويمكن تقنين أحكام الفقه الإسلامي في المجالات المختلفة، بناء على اجتهاد جديد، سواء كان اجتهادا كليا أم جزئيا، إنشائيا أم انتقائيا.
وقد وقع ذلك في قانون الأسرة أو ما سمِّي (الأحوال الشخصية) فقد كان في أول الأمر ملتزما بالمذهب الحنفي، ثم تحرَّر منه إلى باحة المذاهب الأربعة، ثم مضى في الاجتهاد إلى الاختيار من كنوز الفقه الإسلامي كلِّه.
وكان الذي تبنَّى ذلك في مصر: الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر، الذي عارضه المقلِّدون ومتعصبة المذاهب، ولكنه ردَّ عليهم بالأدلَّة الشرعية التي لا يستطيع أن ينكرها إلا جاهل أو مكابر.
ومن صور الاجتهاد: البحث الفقهي، وهو ما كان يقوم به الأئمة في حلْقاتهم، مع أصحابهم وتلاميذهم، حيث يفرِّعون الفروع، ويطرحون الأسئلة - أو تُطرح عليهم - ويجيبون عنها، في ظلِّ النصوص، والقواعد الفقهية، والمقاصد الشرعية. وهو ما يقوم بنوع منه: الأساتذة الأكاديميون في جامعاتهم، أو طالبو الدراسات العليا في أُطروحاتهم.
وعلى أساسه يؤلِّف أهل الاجتهاد الكتب.
ومن صور الاجتهاد: الفتوى، حيث تأتي الأسئلة إلى العالم أو المفتي – مشافهة أو مكتوبة - في مختلف أمور الحياة، فردية وأُسْرية واجتماعية، والمفتي مفروض عليه إذا سُئل أن يجيب ويبيِّن، ولا سيما إذا لم يكن هناك من يجيب غيره، أو كان معينا من قبل الدولة للإفتاء. والأصل في إجابة المفتي: أن تكون عن بحث واجتهاد، وهنا يأتي الحكم منزَّلا على الواقع، فليس مجرَّد افتراض، بل هو مبنيٌّ على الواقع، ومرتبط به.
وفي كلِّ مذهب من المذاهب المتبوعة: كتب للفتاوى منزَّلة على الوقائع المسؤول عنها من أفراد المسلمين أو من حكامهم، وتشتمل على كلِّ أبواب الفقه، وهي في كلِّ مذهب مبنيَّة على أحكام المذهب وأصوله وتخريجاته.
وبعضهم يسمُّونها (أحكام النوازل).
وهناك بعض الفتاوى، اعتمدت الدليل الشرعي، ولم تلتزم دائما المذهب المتبوع، وقد تترك المذاهب المتبوعة جميعا، وتعتمد على قول أحد الصحابة، أو التابعين.
وأشهر مثل لذلك: هي (فتاوى شيخ الإسلام) ابن تيمية الشهيرة، التي شرَّقت وغرَّبت.
دعاة الإصلاح والتجديد.
وفي عصرنا ظهر مفتون، يجيبون عن أسئلة الناس، في ضوء الأدلة الشرعية، غير متقيِّدين بمذهب من المذاهب، وإنما يرجِّحون ما يقضي به الدليل.
أبرز هؤلاء في عصرنا: العلاَّمة السيد محمد رشيد رضا، صاحب (مجلة المنار) و(تفسير المنار) والذي ظلَّ يفتي جماهير المسلمين في أنحاء العالم على صفحات مجلته التي اشتهرت في عالم الإسلام، وخصوصا بين دعاة الإصلاح والتجديد.
وقد جُمعت هذه الفتاوى ونُشرت في ستة مجلدات كبيرة، ومن مزايا هذه الفتاوى: أنها تهتمُّ ببيان مقاصد الشريعة، وربط الأحكام بعللها ومصالحها، ومعالجة فقه الواقع على بصيرة، ولا تغفل عما يجري في العالم من حولها، فهي تجمع بحق بين الأصالة والمعاصرة، وهي تُعنى ببيان الحكم الشرعي، وبيان حِكمته وهدفه معا، وبهذا تقتنع العقول، وتطمئن القلوب.
كما ظهرت فتاوى الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، وهي على نهج الشيخ رشيد رضا أيضا، وقد جُمعت في مجلد، وكنتُ ممَّن ساهم في جمعها وتنسيقها - من مظانها المختلفة المبعثرة - وإخراجها في كتاب واحد، أنا وأخي أحمد العسَّال، بتكليف من الأستاذ الدكتور محمد البهي المدير العام للثقافة الإسلامية بالأزهر.
ومن ذلك: فتاوى العلاَّمة الكبير الشيخ محمد أبو زهرة، التي كان يفتي بها في بعض المجلات، وخصوصا: مجلة (لواء الإسلام)، وقد جمعها وحقَّقها وعلَّق عليها أخونا العالم الباحث الداعية الشيخ مجد مكي حفظه الله.
ومن ذلك: فتاوى العلاَّمة الفقيه الكبير الشيخ مصطفى الزرقا، التي جمعها وحقَّقها وعلَّق عليها الأخ مجد مكي أيضا، والتي سعدتُ بكتابة مقدَّمة لها، شرَّفني بطلبها الشيخ الزرقا نفسه رحمه الله.
ومنها فتاوى المفتين الرسميين في عدد من البلاد الإسلامية، ومنهــم مفتو مصر، وفيهم أئمة وعلماء كبار، مثل: الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ حسنين مخلوف، وغيرهم. وقد صدرت هذه الفتاوى المصرية في بضعة وعشرين مجلدا، ولا زالت مستمرَّة.
ومن أبرز ما ينبغي الاهتمام به في هذه الفتاوى: مراعاة موجبات تغيُّر الفتوى، التي نصَّ عليها المحقِّقون من علماء الأمة، فقالوا بوجوب تغيُّر الفتوى بتغيُّر الزمان والمكان والعرف والحال، وهو ما أكَّدناه في هذا البحث، وأوجبنا على المفتى المعاصر: أن يلاحظ موجبات تغيُّر الفتوى في هذا الزمان، وقد أضفنا بعض الموجبات التي اقتضاها العصر، إلى ما نصَّ عليه علماؤنا السابقون رضي الله عنهم، وهي: موجبات أربعة:
تغير المكان.
تغير الزمان.
تغير الحال.
تغير العرف.
ثم أضفنا إلى هذه الأربعة ستة أخرى، فأوصلنا هذه الموجبات اليوم إلى عشرة كاملة، وهذه الستة هي:
تغير المعلومات.
تغير حاجات الناس.
تغير قدرات الناس وإمكاناتهم.
تغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
عموم البلوى.
تغير الرأي والفكر.
مقام الإفتاء
إن مقام الإفتاء في دين الله مقام عظيم، لا يجوز الاستهانة به، ولا توليته لمَن ليس أهلا له، سواء من ناحية الفقه والفكر أم من ناحية الدين والخلق.
وقد كان سلف الأمة يستنكرون أن يُستفتَى مَن ليس مؤهَّلا للفتوى، ويعتبرون ذلك أمرا عظيما منكرا.
وقال الإمام الشاطبي: المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم [1]، في بيان أحكام الشرع للناس، حيث يقول لهم: هذا حلال، وهذا حرام.
واعتبر الإمام ابن القيم المفتي بمثابة مَن يوقِّع عن الله جلَّ جلاله، كالذين يعتمدهم الخلفاء والملوك للتوقيع نيابة عنهم. وهم الذين صنف لهم كتابه: (إعلام الموقعين عن رب العالمين) فأيُّ منصب يداني هذا المنصب؟
ونحن نقرأ في كتاب الله تعالى أن الله سبحانه قد تولَّى إفتاء عباده في بعض المسائل، كما قال جلَّ شأنه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176]، {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء:127].
وجاء الاستفتاء بصيغة: {يَسْأَلونَكَ} في بضع عشرة آية، وكان الردُّ عليها من الله تعالى: بكلمة: {قُلْ}، كما في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220،219].
إلى آخر الآيات التي جاء فيها السؤال من المؤمنين، وجاءت الإجابة من ربِّ العالمين. وهذا كلُّه يدلُّنا على أهمية الإفتاء، ومنزلة المفتي. حيث نسب عز وجل الإفتاء إلى ذاته، فهو ألم وأعظم، وأكرم من أفتى.
ومما لا يخفى على باحث: أن المسلمين وحدهم؛ هم الأمة التي تسأل عن أحكام دينها، لتعرف المقبول من المردود في العبادات، والحلال من الحرام في المعاملات، ولا يوجد أمة في الأرض - كتابية أو وثنية – عندها مثل هذا الاهتمام. ولها أنشئت مؤسسة الإفتاء في البلاد الإسلامية، وخصوصا في الدولة العثمانية، كما أنشئ منصب (المفتي) في كثير من الأقطار، وهو يعد وهو يعد المنصب الديني والعلمي الأول، إلا في قليل من البلاد مثل: مصر، حيث يعد منصب (شيخ الأزهر) هو: المنصب الأول والأعلى.
ومن أجل هذا صنفت الكتب في شروط المفتي، وأدب المفتي، وأدب المستفتي، وعقدت في عصرنا المؤتمرات من أجل ذلك. وخصوصا بعد انتشار الفضائيات، وظهور المفتين (على الهواء) الذين يفتون في كل شيء، ولا يقولون مرة: لا أدري! أو هذا السؤال يحتاج إلى بحث أو مراجعة، أو مشاورة. وقد قال بعض السلف: من أخطأ قول (لا أدري) فقد أصيبت مقاتله[2].
ومن أجل هذا أصدرنا كتابنا من قبل: (الفتوى بين الانضباط والتسيب) ونصدر رسالتنا هذه عن (موجبات تغير الفتوى في عصرنا) لنعين أهل الفتوى على سلوك المحجة البيضاء، وتحري الحق والصواب ما استطاعوا، والتعب في البحث عن الحقيقة، ثم استعانة المفتي بالله تعالى أن يسدده وينور بصيرته. كما قال بعض السلف: إذا أشكل عليك أمر فقل: يا معلّم إبراهيم علمني، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101].
كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم، أن نقول:"اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل؛ فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"[3].
ــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: الموافقات / ج4/ ص 244.
[2] نسبها أبو نعيم في الحلية إلى: سفيان بن عيينة (7/ 274)، وكذلك في صفة الصفوة (2/ 234) ونسبها العجلوني في كشف الخفاء إلى محمد بن عجلان (2/1981)، وفي الإحياء عن ابن مسعود (1/ 69).
[3] رواه مسلم في صلاة المسافرين (770)عن عائشة، وابن ماجه في إقامة الصلاة ( 1357) وأبو داود في الصلاة (767) والنسائي في "الكبرى" في الصلاة (1324) وفي "المجتبى" في قيام الليل (1625).
ـــــــــــــــــــــــــ
المصدر : موقع القرضاوي 26-9-2007
إن للاجتهاد في الشريعة الإسلامية منزلة كبيرة، فإن الشريعة لا تؤتي أُكلها، ولا تحقِّق أهدافها في حياة الفرد والأسرة والجماعة والأمة إلا بإعماله، في مجالاته المختلفة، وعلى كلِّ مستوياته المتباينة، وبكلِّ أصنافه المتنوِّعة، من اجتهاد إنشائي، أو اجتهاد انتقائي، ومن اجتهاد مطلق، أو اجتهاد جزئي، ومن اجتهاد فردي، أو اجتهاد جماعي.
وللاجتهاد في الشريعة: صور شتَّى، فمنه اجتهاد في القضاء يمارسه القضاة، ولا سيما في عصور الاجتهاد الإسلامي، وقبل تقنين الأحكام في مواد، وإيجاب التقيُّد بها على القضاة، وتحريم الاجتهاد عليهم إلا فيما يتعلَّق بتحقيق المناط.
ومن صور الاجتهاد: التقنين. أي وضع الأحكام في صيغة مواد قانونية، حسب اختلاف الموضوعات، فهناك قانون الأسرة، والقانون المدني، والقانون الجنائي، والقانون الإداري والمالي، وغيرها.
كما قنَّنت (مجلة الأحكام) العدلية الشهيرة في أواخر العهد العثماني: القانون المدني على المذهب الحنفي.
تقنين أحكام الفقه
ويمكن تقنين أحكام الفقه الإسلامي في المجالات المختلفة، بناء على اجتهاد جديد، سواء كان اجتهادا كليا أم جزئيا، إنشائيا أم انتقائيا.
وقد وقع ذلك في قانون الأسرة أو ما سمِّي (الأحوال الشخصية) فقد كان في أول الأمر ملتزما بالمذهب الحنفي، ثم تحرَّر منه إلى باحة المذاهب الأربعة، ثم مضى في الاجتهاد إلى الاختيار من كنوز الفقه الإسلامي كلِّه.
وكان الذي تبنَّى ذلك في مصر: الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر، الذي عارضه المقلِّدون ومتعصبة المذاهب، ولكنه ردَّ عليهم بالأدلَّة الشرعية التي لا يستطيع أن ينكرها إلا جاهل أو مكابر.
ومن صور الاجتهاد: البحث الفقهي، وهو ما كان يقوم به الأئمة في حلْقاتهم، مع أصحابهم وتلاميذهم، حيث يفرِّعون الفروع، ويطرحون الأسئلة - أو تُطرح عليهم - ويجيبون عنها، في ظلِّ النصوص، والقواعد الفقهية، والمقاصد الشرعية. وهو ما يقوم بنوع منه: الأساتذة الأكاديميون في جامعاتهم، أو طالبو الدراسات العليا في أُطروحاتهم.
وعلى أساسه يؤلِّف أهل الاجتهاد الكتب.
ومن صور الاجتهاد: الفتوى، حيث تأتي الأسئلة إلى العالم أو المفتي – مشافهة أو مكتوبة - في مختلف أمور الحياة، فردية وأُسْرية واجتماعية، والمفتي مفروض عليه إذا سُئل أن يجيب ويبيِّن، ولا سيما إذا لم يكن هناك من يجيب غيره، أو كان معينا من قبل الدولة للإفتاء. والأصل في إجابة المفتي: أن تكون عن بحث واجتهاد، وهنا يأتي الحكم منزَّلا على الواقع، فليس مجرَّد افتراض، بل هو مبنيٌّ على الواقع، ومرتبط به.
وفي كلِّ مذهب من المذاهب المتبوعة: كتب للفتاوى منزَّلة على الوقائع المسؤول عنها من أفراد المسلمين أو من حكامهم، وتشتمل على كلِّ أبواب الفقه، وهي في كلِّ مذهب مبنيَّة على أحكام المذهب وأصوله وتخريجاته.
وبعضهم يسمُّونها (أحكام النوازل).
وهناك بعض الفتاوى، اعتمدت الدليل الشرعي، ولم تلتزم دائما المذهب المتبوع، وقد تترك المذاهب المتبوعة جميعا، وتعتمد على قول أحد الصحابة، أو التابعين.
وأشهر مثل لذلك: هي (فتاوى شيخ الإسلام) ابن تيمية الشهيرة، التي شرَّقت وغرَّبت.
دعاة الإصلاح والتجديد.
وفي عصرنا ظهر مفتون، يجيبون عن أسئلة الناس، في ضوء الأدلة الشرعية، غير متقيِّدين بمذهب من المذاهب، وإنما يرجِّحون ما يقضي به الدليل.
أبرز هؤلاء في عصرنا: العلاَّمة السيد محمد رشيد رضا، صاحب (مجلة المنار) و(تفسير المنار) والذي ظلَّ يفتي جماهير المسلمين في أنحاء العالم على صفحات مجلته التي اشتهرت في عالم الإسلام، وخصوصا بين دعاة الإصلاح والتجديد.
وقد جُمعت هذه الفتاوى ونُشرت في ستة مجلدات كبيرة، ومن مزايا هذه الفتاوى: أنها تهتمُّ ببيان مقاصد الشريعة، وربط الأحكام بعللها ومصالحها، ومعالجة فقه الواقع على بصيرة، ولا تغفل عما يجري في العالم من حولها، فهي تجمع بحق بين الأصالة والمعاصرة، وهي تُعنى ببيان الحكم الشرعي، وبيان حِكمته وهدفه معا، وبهذا تقتنع العقول، وتطمئن القلوب.
كما ظهرت فتاوى الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، وهي على نهج الشيخ رشيد رضا أيضا، وقد جُمعت في مجلد، وكنتُ ممَّن ساهم في جمعها وتنسيقها - من مظانها المختلفة المبعثرة - وإخراجها في كتاب واحد، أنا وأخي أحمد العسَّال، بتكليف من الأستاذ الدكتور محمد البهي المدير العام للثقافة الإسلامية بالأزهر.
ومن ذلك: فتاوى العلاَّمة الكبير الشيخ محمد أبو زهرة، التي كان يفتي بها في بعض المجلات، وخصوصا: مجلة (لواء الإسلام)، وقد جمعها وحقَّقها وعلَّق عليها أخونا العالم الباحث الداعية الشيخ مجد مكي حفظه الله.
ومن ذلك: فتاوى العلاَّمة الفقيه الكبير الشيخ مصطفى الزرقا، التي جمعها وحقَّقها وعلَّق عليها الأخ مجد مكي أيضا، والتي سعدتُ بكتابة مقدَّمة لها، شرَّفني بطلبها الشيخ الزرقا نفسه رحمه الله.
ومنها فتاوى المفتين الرسميين في عدد من البلاد الإسلامية، ومنهــم مفتو مصر، وفيهم أئمة وعلماء كبار، مثل: الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ حسنين مخلوف، وغيرهم. وقد صدرت هذه الفتاوى المصرية في بضعة وعشرين مجلدا، ولا زالت مستمرَّة.
ومن أبرز ما ينبغي الاهتمام به في هذه الفتاوى: مراعاة موجبات تغيُّر الفتوى، التي نصَّ عليها المحقِّقون من علماء الأمة، فقالوا بوجوب تغيُّر الفتوى بتغيُّر الزمان والمكان والعرف والحال، وهو ما أكَّدناه في هذا البحث، وأوجبنا على المفتى المعاصر: أن يلاحظ موجبات تغيُّر الفتوى في هذا الزمان، وقد أضفنا بعض الموجبات التي اقتضاها العصر، إلى ما نصَّ عليه علماؤنا السابقون رضي الله عنهم، وهي: موجبات أربعة:
تغير المكان.
تغير الزمان.
تغير الحال.
تغير العرف.
ثم أضفنا إلى هذه الأربعة ستة أخرى، فأوصلنا هذه الموجبات اليوم إلى عشرة كاملة، وهذه الستة هي:
تغير المعلومات.
تغير حاجات الناس.
تغير قدرات الناس وإمكاناتهم.
تغير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
عموم البلوى.
تغير الرأي والفكر.
مقام الإفتاء
إن مقام الإفتاء في دين الله مقام عظيم، لا يجوز الاستهانة به، ولا توليته لمَن ليس أهلا له، سواء من ناحية الفقه والفكر أم من ناحية الدين والخلق.
وقد كان سلف الأمة يستنكرون أن يُستفتَى مَن ليس مؤهَّلا للفتوى، ويعتبرون ذلك أمرا عظيما منكرا.
وقال الإمام الشاطبي: المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم [1]، في بيان أحكام الشرع للناس، حيث يقول لهم: هذا حلال، وهذا حرام.
واعتبر الإمام ابن القيم المفتي بمثابة مَن يوقِّع عن الله جلَّ جلاله، كالذين يعتمدهم الخلفاء والملوك للتوقيع نيابة عنهم. وهم الذين صنف لهم كتابه: (إعلام الموقعين عن رب العالمين) فأيُّ منصب يداني هذا المنصب؟
ونحن نقرأ في كتاب الله تعالى أن الله سبحانه قد تولَّى إفتاء عباده في بعض المسائل، كما قال جلَّ شأنه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176]، {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء:127].
وجاء الاستفتاء بصيغة: {يَسْأَلونَكَ} في بضع عشرة آية، وكان الردُّ عليها من الله تعالى: بكلمة: {قُلْ}، كما في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220،219].
إلى آخر الآيات التي جاء فيها السؤال من المؤمنين، وجاءت الإجابة من ربِّ العالمين. وهذا كلُّه يدلُّنا على أهمية الإفتاء، ومنزلة المفتي. حيث نسب عز وجل الإفتاء إلى ذاته، فهو ألم وأعظم، وأكرم من أفتى.
ومما لا يخفى على باحث: أن المسلمين وحدهم؛ هم الأمة التي تسأل عن أحكام دينها، لتعرف المقبول من المردود في العبادات، والحلال من الحرام في المعاملات، ولا يوجد أمة في الأرض - كتابية أو وثنية – عندها مثل هذا الاهتمام. ولها أنشئت مؤسسة الإفتاء في البلاد الإسلامية، وخصوصا في الدولة العثمانية، كما أنشئ منصب (المفتي) في كثير من الأقطار، وهو يعد وهو يعد المنصب الديني والعلمي الأول، إلا في قليل من البلاد مثل: مصر، حيث يعد منصب (شيخ الأزهر) هو: المنصب الأول والأعلى.
ومن أجل هذا صنفت الكتب في شروط المفتي، وأدب المفتي، وأدب المستفتي، وعقدت في عصرنا المؤتمرات من أجل ذلك. وخصوصا بعد انتشار الفضائيات، وظهور المفتين (على الهواء) الذين يفتون في كل شيء، ولا يقولون مرة: لا أدري! أو هذا السؤال يحتاج إلى بحث أو مراجعة، أو مشاورة. وقد قال بعض السلف: من أخطأ قول (لا أدري) فقد أصيبت مقاتله[2].
ومن أجل هذا أصدرنا كتابنا من قبل: (الفتوى بين الانضباط والتسيب) ونصدر رسالتنا هذه عن (موجبات تغير الفتوى في عصرنا) لنعين أهل الفتوى على سلوك المحجة البيضاء، وتحري الحق والصواب ما استطاعوا، والتعب في البحث عن الحقيقة، ثم استعانة المفتي بالله تعالى أن يسدده وينور بصيرته. كما قال بعض السلف: إذا أشكل عليك أمر فقل: يا معلّم إبراهيم علمني، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101].
كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم، أن نقول:"اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل؛ فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"[3].
ــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: الموافقات / ج4/ ص 244.
[2] نسبها أبو نعيم في الحلية إلى: سفيان بن عيينة (7/ 274)، وكذلك في صفة الصفوة (2/ 234) ونسبها العجلوني في كشف الخفاء إلى محمد بن عجلان (2/1981)، وفي الإحياء عن ابن مسعود (1/ 69).
[3] رواه مسلم في صلاة المسافرين (770)عن عائشة، وابن ماجه في إقامة الصلاة ( 1357) وأبو داود في الصلاة (767) والنسائي في "الكبرى" في الصلاة (1324) وفي "المجتبى" في قيام الليل (1625).
ـــــــــــــــــــــــــ
المصدر : موقع القرضاوي 26-9-2007