هل فعلا تتغير الفتوي?
وما الادلة علي ذلك?
وما الاشياء التي توجب تغيرها?
لتجد الاجابة علي هذة الاسئلة اقدم لكم هذة الروابط لمجموعة مقالات قيمة للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلاماء المسلمين نفعنا الله بعلمة واطال الله في عمرة
1- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر القدرات والإمكانات
2- من موجبات تغير الفتوى .. تَغيُّر حاجات الناس
3- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الأوضاع الحياتية
4- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الحال
5- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الرأي والفكر
6- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الزمان
7- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر العُرف
8- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر المكان
9- من موجبات تغير الفتوى: عموم البلوى
10- موجبات تغير الفتوى
من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر القدرات والإمكانات
د.يوسف القرضاوي
لقد أصبح الناس في عصرنا أكثر قدرة منهم فيما مضى، لأن العلم الحديث أعطى الإنسان قدرات هائلة، عن طريق الثورات العلمية السبعة: الثورة التكنولوجية، والثورة البيولوجية، والثورة الفضائية، والثورة النووية، والثورة الالكترونية، والثورة المعلوماتية، وثورة الاتصالات... كل هذه أعطت الإنسان قدرة لم تكن له من قبل، وهذه لها تأثيرها في الأحكام.
تطور الطب
هناك أحكام مبنية على القدرة المعينة، للفرد أو للمجتمع، فإذا تغيرت القدرة تغير الحكم. أضرب لذلك مثلا بموقف العلماء قديما من التداوي[1] فقد كانوا يرون أن العلاج ليس أمرًا مطلوبا، ليس واجبًا ولا مستحبًا، بل هو من المباحات حتى إن البعض قال: الأفضل أن لا نتداوى؛ لأن نجاح العلاج لم يكن محققا، فكثير من العلاجات والتشخيصات المرضية كانت ظنية تخمينية.
لكن اليوم – بعد تطور الطب، وابتكار أجهزة تخدمه، لم تخطر على بال السابقين، وارتقاء علم الصيدلة والدواء - وجدت أدوية ناجعة مجربة، فكيف نقول للإنسان: اصبر على الصداع في حين أن قرصا من (الأسبرين) يريحه من ألم الصداع؟! كيف تصبر على وجع الضرس؟! والمغص الكُلوي، وآلام البواسير... وغيرها، وكلها لها أدويتها المعروفة والمجربة، وما دام العلاج مجربا وناجعا، فلا يحل للمرء أن يصبر على ألم يمكن له أن يتخلص منه بسهولة، لأنه يؤلم نفسه بغير مبرر، ويضر نفسه بغير سبب، ومن القواعد المتفق عليها في الشريعة: أن "لا ضرر ولا ضرار"[2]. وإذا وقع الضرر، وجب السعي لإزالته، ولهذا قال الفقهاء في قواعدهم: الضرر يزال بقدر الإمكان، والضرر لا يزال بضرر مثله أو أكثر منه... إلخ.
الآن أصبحت في قدرة الناس أشياء لم يكن يظن الناس أنها تحدث، مثل: زرع الأعضاء فهو من الأشياء التي لم يكن الناس يَحْلُمون بها، لكن التقدم الطبي، والتقدم العلمي، حقق ما كان يعتبر من قبل في باب المستحيلات، وهذا التغير في القدرات تترتب عليه أحكام.
تطور الاتصالات
هناك حديث للنبي صلى الله عليه وسلم، نهى فيه أن " يطرق الرجل أهله ليلا"[3] أي: إذا جاء من السفر فلا يصح أن يفاجئ أهله في منتصف الليل، فعليه أن يؤخر قدومه ليصل في النهار، وهذا كان لأنه لم يكن في مقدور المرء أن يخبر أهله بقدومه، فنهاه النبي عن المجيء في وقت مفاجئ، وكأن الرجل يتهم أهل بيته، ويجري عليهم تفتيشا فجائيا، إضافة إلى أنه ينبغي على المرأة أن تتهيأ للقاء زوجها بالتجمُّل والتزيُّن، فجاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا نطرقهم ليلا، وذلك كان في عصر لا يستطيع المرء فيه الاتصال بأهله. لكن الآن يستطيع المرء أن يستخدم الفاكس أو الهاتف و(الموبايل)؛ ليخبر أهله بقدومه في الوقت المحدد، فلا تحدث المفاجأة المخوفة، فهذا من القدرات التي تغيرت، والإمكانات التي جدّت للناس، فتغير الحكم تبعا لها، فلا مانع من وصول الرجل إلى بيته – بعد الإخبار- في أي وقت من ليل أو نهار.
وهنا أيضا اعتبار آخر، وهو أن مواعيد الوصول لم تعد في ملك المسافر، إذ الطائرات والبواخر وغيرها هي التي تتحكم في ذلك.
انتقال المرأة بانتقال زوجها
قال فقهاء الحنفية: إن المرأة تتبع زوجها، إذا أعطاها كامل مهرها، حتى إنه إذا انتقل من بلد إلى بلد وجب أن تتبعه.
وجاء المتأخرون من علماء الحنفية وقالوا: هذا كان في الزمن الماضي، حيث كان الرجل يؤتمن على أهله وعلى زوجته، والآن (يعني في أيامهم) لو ذهبت المرأة مع زوجها إلى بلد آخر بعيد عن أهلها وأوليائها، فقد يظلمها ويجور عليها، ولا تجد من يدافع عنها، فمن حقها أن لا تذهب معه. هذا كان مبنيا على أن مسألة الاتصال بالأهل صعبة. لكن الآن تستطيع المرأة - إذا كانت مع زوجها في أي بلد - أن تتصل بأهلها بسهولة، فالعالم أصبح قرية واحدة، ونحن الآن نعرف بعد لحظات أو للتو ما يحدث في العالم أولا بأول. فإذا تغيرت القدرات والإمكانيات، فإن هذا يؤدي إلى تغير الفتوى وتغير الأحكام.
[1] راجع ما ذكرناه في كتابنا: (التوكل) فصل (التداوي والتوكل) ص 75 – 95، وفيه ذكرنا آراء الفقهاء والمتصوفة.
[2] سبق تخريجه.
[3] - جزء من حديث ونصه" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثرتهم". رواه مسلم في الإمارة (715) عن جابر، وأبو داود في الجهاد (2776) والنسائي في "السنن الكبرى" في العشرة ( 9096).
من موجبات تغير الفتوى .. تَغيُّر حاجات الناس
الحاجات تتغير في عصرنا، وهناك أشياء كان الناس يعتبرونها كماليات، وأصبحت الآن حاجيات. لا أستطيع الآن وأنا أعيش في دول الخليج في جوه اللاهب أن أقول: الثلاجة كمالية!! إنها باتت ضرورية، وكذلك المروحة أو المكيف وما شابهها، كلها أصبحت ضروريات لا يمكن للناس الاستغناء عنها، في مناخ تبلغ درجة الحرارة فيه قريبا من خمسين! فلو كنت أتكلم عن نصاب الزكاة، وعن أن النصاب يجب أن يكون فاضلا عن الحاجات الأساسية للإنسان، لا أستطيع أن أعتبر أن الحاجات الأساسية هي: الطعام والشراب واللباس والمسكن فقط، فهناك حاجات جديدة للناس ستُبنى عليها أحكام جديدة، وإليكم بعض النماذج والأمثلة.
اقتناء الكلاب بين القديم والحديث
مما ذكره الفقهاء: أن الإمام ابن أبي زيد القيرواني صاحب (الرسالة) المعروفة في المذهب المالكي، والتي شرحها كثيرون. هذا الإمام زاره بعض معاصريه من الفقهاء، فوجدوا في داره كلبا للحراسة. فقالوا له: إن مالكًا رضي الله عنه كان يكره اقتناء الكلاب. فقال لهم: لو أدرك مالك زمننا لاتخذ أسدًا ضاريًا[1].
لقد تغيّرت حاجات الناس، ولم تَعُد حاجات الناس في زمن أبي زيد القيرواني كما كانت في زمن مالك رضي الله عنه، فلجأ الناس إلى الكلاب لتحرسهم من اللصوص وقُطّاع الطرق، فالحاجات إذن تتغير، وإذا تغيّرت الحاجات فلا بد أن يتغير الحكم المبنى عليها.
وفي عصرنا: رأينا الغربيين؛ في أوربا وأمريكا وأستراليا: يقتنون الكلاب في حالة الشيخوخة – التي أمست تطول عندهم، بحيث تزيد عادة على الثمانين - لتؤنسهم من الوحشة، فكثيرا ما يعيشون وحدهم، لا رفيق ولا أنيس، فأمست الكلاب حاجة من حاجاتهم، حيث هجرهم أبناؤهم وأحفادهم وحفيداتهم.
التعليم المنهجي وضرورته
أذكر مثلا آخر لذلك. التعليم المنهجي، أيْ في المدارس والجامعات، لم يكن معدودا من الحاجات والمطالب الأساسيّة من قبل، واليوم أصبح مطلبا مهما للأفراد، ومسألة مهمة للأسرة، وواجبا كبيرا من واجبات الدولة، ولهذا يجب أن يُعتبر في باب النفقات. وكما يجب أن يوفر للإنسان مأكله ومشربه ومسكنه، يجب أن يوفر له ولأبنائه ما يلائمه من التعليم، حسب تطور المجتمعات.
كما يجب أن يعتبر هذا التعليم - في مراحله الأولى على الأقل - في حاجات الإنسان في الزكاة، وفي تحديد (الكفاية التامة) التي يجب أن توفر لكل من يعيش في المجتمع الإسلامي، مسلما أو غير مسلم. فهو مما تتم به كفاية الإنسان في كنف الحياة الإسلامية.
اشتراط المرأة في عقد الزواج
ومما سئلت عنه: هل يجوز للمسلمة أن تشترط في عقد الزواج على من يتزوجها: أن تكمل تعليمها الجامعي؟ وهل يجب على الزوج أن يفي بهذا الشرط؟
وكان جوابي: نعم، يجوز لها ذلك، فإن هذا من حقها، ولاسيما إذا كانت نجيبة ومتفوقة، ومن حقها أن تشترط ذلك في العقد، وعلى الزوج أن يفي به، كما في الحديث: "المسلمون عند شروطهم"[2] وهو نوع من الوفاء بالعهد، وهو فرض في الإٍسلام. وأحق الشروط أن يوفى به: شروط النكاح، لحرص الإسلام على بناء المؤسسة الزوجية الصالحة المستمرة.
ومثل ذلك حق الزوجة العاملة: أن تظل في عملها، إذا اشترطت ذلك في العقد أو خارجه، وقَبِل ذلك الزوج، أو تزوجها وهي تعمل ولم يشترط عليها ترك العمل، وكان عُرف المجتمع إقرار المرأة العاملة على عملها بعد الزواج.
بيوت السكنى ومتطلبات العمل
وبيوت السكنى في الأزمان الماضية: غير بيوت السكنى في الزمن الحاضر، وقد كان يكفي في المسكن قديما: أن يكون فيه عدد من الحجرات تكفي لعدد من أفراد الأسرة، وأن يدخله الهواء والشمس، وأن يكون فيه أثاث محدد مناسب لذلك العصر.
أما الآن فلا بد للمسكن الذي يوفره الزوج لامرأته، أو توفره الدولة لعاملها، أو المؤسسة للموظف لديها، أن يكون موصولا بشبكة الماء والكهرباء، وأن تكون فيه جملة من الأجهزة الأساسية التي تعرف الناس عليها، للشرب وللغسيل والتنظيف، وللطهي وللإطفاء ولتبريد وغيرها، وبدون هذا لا يكون المنزل ملائما ولا ملبيا لحاجات الناس المعاصرة.
وقد تصبح السيارة في بعض البلدان أداة ضرورية لنقل الإنسان من موضع عمله إذا كان بعيدا، كما هو الشأن الآن في بعض المدن الكبيرة، ولم تتوافر الموصلات العامة الموصلة إليه بسهولة.
وبعض الأعمال أمست اليوم تحتاج إلى شروط لم تكن تحتاج إليها في الزمن الفائت، مثل: حاجة المعلم إلى أن يكون مؤهلا تأهيلا تربويا – غير التأهيل العلمي- يستطيع به أن يوصِل ما عنده من علم إلى تلاميذه بطريقة سليمة ومشوقة، وهو ما تقوم به معاهد التربية المختلفة، التي تعد المدرسين المؤهَّلين في اختصاصاتهم، إعدادا تربويا خاصا يعينهم على القيام بأداء رسالتهم على أفضل وجه ممكن.
شراء بيوت السُكنى في الغرب عن طريق البنوك
ومن تغيّر حاجات الناس: ما لمسناه عند الأقليات المسلمة في أوربا وأمريكا وغيرها، من اشتداد الحاجة إلى سكن يملكه المسلم لنفسه ولأسرته، بدل السكن المستأجر، فالسكن المملوك يوفر له أشياء لا يوفرها السكن المستأجر، وهذه الأشياء هي في الحقيقة أمور يحتاج إليها الإنسان المعاصر، وخصوصا في البلاد الغربية.
فهو في حاجة إلى مسكن يستقر فيه، ولا يتحكم فيه المالك ويهدده بالطرد إذا كثر فيه عدد الأولاد، وإلى سكن يرفع مستواه الاجتماعي حيث مستوى أصحاب البيوت المملوكة عادة أعلى من أصحاب البيوت المستأجرة: في الخدمات، وفي نظرة الناس، وتقديرهم الاجتماعي.
وهم في حاجة إلى المزايا التي يتمتع بها أصحاب البيوت المشتراة، عن طريق البنك، باعتبارهم مدنيين، مثل إعفائهم من حد معين من الضرائب، واستحقاقهم لمعونات معينة إلى غير ذلك.
لهذه الحاجات وغيرها: أفتى المجلس الأوربي للإفتاء بالأغلبية للأقلية الأوربية المسلمة بجواز شراء المسلم بيتا للسُكنى عن طريق البنك الربوي، وبذلك يجعل ما كان يدفعه أجرة شهرية للسكن باعتباره قسطا شهريا للسكن المبيع له بالأجل.
وكان الاعتبار الشرعي للمجلس هو: تقدير حاجات المسلمين القوية، التي اعتبرها الفقهاء بمنزلة الضرورة، كما هي قاعدتهم المقررةالحاجة تنزل منزلة الضرورة خاصة كانت أو عامة)[3].
طواف الحائض التي تخشى فوات الرفقة
وفي مثل هذه الحالة أيضا ينبغي أن نراعي فيها تغيّر الحاجات، فقد باتت المرأة اليوم في حجها مرتبطة برفقة تصاحبهم في سفرها، هي ومن معها، سواء كان سفرها برا أم بحرا أم جوا، ولم تعد الأمور كما كانت سابقا، بمعنى أن يتحكم كل حاج في موعد سفره! وإنما أضحى للسفر مواعيد محددة بدقة، لا يستطيع الإنسان أن يتقدم أو يتأخر عنها، وخصوصا في موسم الحج. فلو لو فُرِض أنه تأخر الحيض عند المرأة ولم تطف طواف الإفاضة، وانتظرت أول يوم العيد والثاني والثالث ولم ينقطع الحيض، هنا يجوز لها أن تطوف وهي حائض بعد أن تتحفظ وتتحوط، ولا حرج عليها حتى قال الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم أنه لا يجب عليها شيء. فلنا أن نأخذ هنا بهذه الرخصة، ولا نشدد على المرأة ومن معها.
هكذا نجد في عصرنا حاجات كثيرة، تستجد وتحدث دائما وعلى الفقيه أن يراعي هذه الحاجات المتجددة والمتغيرة في فتواه.
[1] راجع القصة في منح الجليل شرح مختصر خليل / باب في البيع (9/ 369)، وانظر: شرح العلّامة زروق على الرسالة (ج2/ 424).
[2] ورد هذا الحديث بأكثر من لفظ، وفي بعضها زيادة، وعن عدد من الصحابة منهم: أبو هريرة وعائشة وأنس بن مالك ورافع. أما اللفظ الأول: "المسلمون عند شروطهم" فرواه البخاري معلقا في الإجارة بصيغة الجزم، والحاكم في المستدرك كتاب البيوع (2/57) عن عائشة، ورواه الدارقطني في السنن كتاب البيوع (3/27) عن عائشة، والطبراني في الكبير (4/275) عن رافع بن خديج، وذكره الألباني في الصحيحة (2915).
وأما لفظ "المسلمون على شروطهم" فرواه الترمذي في الأحكام (1352) عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وقال: حسن صحيح، وأبو داود في الأقضية (3594) عن أبي هريرة، والحاكم في المستدرك كتاب البيوع (2/57) وقال: رواة هذا الحديث مدنيون و لم يخرجاه، وهذا أصل في الكتاب، وله شاهد من حديث عائشة و أنس بن مالك رضي الله عنهما، وقال الذهبي: لم يصححه وكثير ضعفه النسائي ومشاه غيره. والطبراني في الكبير (17/22)، والدارقطني في السنن في البيوع (3/27) عن أبي هريرة وأنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6714).
[3] انظر: كتابنا ( في فقه الأقليات المسلمة)/154- 188، ط دار الشروق القاهرة.
من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الأوضاع الحياتية
يعد تَغيُّر الأوضاع الاجتماعية والسياسية أمر واقع تقتضيها سنَّة التطور، وكثير من الأشياء والأمور لا تبقى جامدة على حال واحدة، بل تتغير وتتغير نظرة الناس إليها.
غير المسلمين في المجتمع الإسلامي:
قضية غير المسلمين في المجتمع الإسلامي (أهل الذمة)، وهو ما يعبر عنه بقضية (الأقليات الدينية) في المجتمعات الإسلامية. وقضية الأقليات المسلمة في المجتمعات غير الإسلامية، وقضية علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم: هل هي علاقة السلم أو الحرب؟ وقضية المرأة، وسفرها وتعليمها وعملها، ومشاركتها السياسية. هذه قضايا أصبح لها في العالم شأن كبير، ولا يسعنا أن نبقى على فقهنا القديم كما كان في هذه القضايا.
يجب أن نراعي هنا مقاصد الشارع الحكيم، وننظر إلى النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية، ونربط النصوص بعضها ببعض، وها هو القرآن يقول:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]. فهذا هو الأصل، وهو الدستور.
إذا وجدنا أهل الذمة اليوم يتأذون من هذه الكلمة (أهل الذمة). ويقولون: لا نريد أن نُسمّى أهل الذمة، بل نريد أن نُسمّى (مواطنين). فبماذا نجيبهم؟
وجوابنا: أن الفقهاء المسلمين جميعا قالوا: إن أهل الذمة من أهل دار الإسلام، ومعنى ذلك بالتعبير الحديث أنهم: (مواطنون)، فلماذا لا نتنازل عن هذه الكلمة (أهل الذمة) التي تسوءهم، ونقول: هم (مواطنون)، في حين أن سيدنا عمر رضي الله عنه تنازل عما هو أهم من كلمة الذمة؟! تنازل عن كلمة (الجزية) المذكورة في القرآن، حينما جاءه عرب بني تغلب، وقالوا له: نحن قوم عرب نأنف من كلمة الجزية، فخذ منا ما تأخذ باسم الصدقة ولو مضاعفة، فنحن مستعدون لذلك. فتردد عمر في البداية. ثم قال له أصحابه: هؤلاء قوم ذوو بأس، ولو تركناهم لالتحقوا بالروم، وكانوا ضررًا علينا، فقبل منهم وقال: هؤلاء القوم حمقى، رضوا المعنى وأبوا الاسم[1].
فالأحكام تدور على المسميات والمضامين لا على الأسماء والعناوين، ولا بد أن ننظر في قضايا غير المسلمين، وفي قضايا المرأة نظرات جديدة، وأن نرجح فقه التيسير، وفقه التدرج في الأمور؛ مراعاة لتَغيُّر الأوضاع.
إن كثيرا من المشايخ أو العلماء، يعيشون في الكتب، ولا يعيشون في الواقع، بل هم غائبون عن فقه الواقع، أو قل: فقه الواقع غائب عنهم، لأنهم لم يقرؤوا كتاب الحياة، كما قرؤوا كتب الأقدمين.
ولهذا تأتي فتواهم، وكأنها خارجة من المقابر!
محاربة العالم كله كيف؟
وهؤلاء هم الذين أفتوا شباب (السلفية الجهادية) وشباب (تنظيم القاعدة) و(تنظيم الجهاد) في مصر وفي عدد من الأقطار: أن عليهم أن يحاربوا العالم كله، شرقيّه وغربيّه، نصرانيّه ووثنيّه، فكل هؤلاء من: كتابيين ووثنيين وملاحدة وبدائيين في فسطاط الكفر، الذي يجب أن يقاتل، مستدلين بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36] ونحوها من الآيات التي سموها (آية السيف).
وأكدوا هنا ما ذُكر في كتب الفقه من أن جهاد الكفار فرض كفاية على الأمة، ولا يتحقق فرض الكفاية إلا بغزو بلاد الكفرة مرة في السنة على الأقل، أي مهاجمتها في عُقر دارها، وإن لم يبد منها أي إساءة إلى المسلمين.
وجهل هؤلاء ما انتهى إليه العالم من التقارب حتى غدا كأنه قرية واحدة، وما انتهى إليه من مؤسسات دولية: سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وقضائية، وأن هناك اتفاقيات دولية، وقوانين دولية، ومحاكم دولية، وأن العالم كله أصبح يجرم أي دولة تهاجم دولة أخرى بلا مبرر، وأن حدود الدول يجب أن تُحترم، وأن النزاع بين الدول يجب أن يُحل بالطرق السلمية، وأن هناك معاهدات دولية تقنن سير الحروب إذا ما وقعت، وشؤون الأسرى ومصيرهم.
وأننا نحن المسلمين جزء من هذا العالم لا يمكننا أن نتجاهله ونعيش وحدنا، وأننا إذا بحثنا في تراثنا الفقهي والشرعي: وجدنا من الأقوال والنصوص ما يؤيد اتجاه العالم إلى السلم، بل هذا الاتجاه عند المقارنة والتأمل هو الأرجح دليلا، والأهدى سبيلا. وهذا ما اتجهت إليه في كتابي تحت الطبع (فقه الجهاد).
أما ما قاله الفقهاء عن (فرض الكفاية) فقد وجدنا له تفسيرا رائعا عند فقهاء الشافعية، وهو: إعداد القوة العسكرية اللازمة القادرة على الردع، وشحن الثغور ومواضع الخوف بالجيوش المدربة، والجنود الأكفاء على كل مستوى: بري وبحري وجوي، بحيث لو فكّر الآخرون في الاعتداء علينا لوجدوا ردنا حاضرا بما يكفل سلامة البلاد والعباد.
تهنئة النصارى بأعيادهم:
ومراعاة تغيّر الأوضاع العالمية، هو الذي جعلني أخالف شيخ الإسلام ابن تيمية في تحريمه تهنئة النصارى وغيرهم بأعيادهم، وأجيز ذلك إذا كانوا مسالمين للمسلمين، وخصوصا من كان بينه وبين المسلم صلة خاصة، كالأقارب والجيران في المسكن، والزملاء في الدراسة، والرفقاء في العمل ونحوها، وهو من البر الذي لم ينهنا الله عنه. بل يحبه كما يحب الإقساط إليهم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]. ولا سيّما إذا كانوا هم يهنئون المسلمون بأعيادهم، والله تعالى يقول: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء:86)[2].
ضرورة التيسير في مناسك الحج:
ومن الأمور التي ينبغي أن ينظر إليها نظرة جديدة نظرا لتغير الأوضاع: مناسك الحج. فإذا كانت العبادات في الإسلام قائمة على التيسير، كما في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } البقرة:185، وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى ومعاذ حين أرسلهما إلى اليمن قائلا لهما:" يسرا ولا تعسرا.."[3] وأمر به الأمة كلها فيما رواه أنس عنه "يسروا ولا تعسروا[4]". فلا شك أن الحج عبادة خاصة، أشد حاجة إلى التيسير من سائر العبادات الأخرى لعدة أسباب:
أولا: أن كثيرا من الناس قد يؤدي هذه الشعيرة، في ظروف مادية وصحية غير مواتية تماما، وقد سافر وارتحل عن أهله ووطنه، والسفر قطعة من العذاب.
ثانيا: لشدة الزحام الذي يشكو منه المسلمون كافة في مواسم الحج طوال السنوات الأخيرة، وهذا من فضل الله تعالى على أمة الإسلام، وخصوصا عند الدفع من عرفات، والمبيت بمزدلفة، والمبيت بمنى، وعند طواف الإفاضة، ورمي الجمرات. ولا سيما مع قلة الوعي لدى كثيرين من الحجاج، فكلما يسرنا على الناس في أداء مناسكهم، أعناهم على حسن العبادة لربهم، وفي هذا خير كثير.
ثالثا: لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يسر كثيرا في أمور الحج خاصة، فحين سئل يوم النحر عن أمور شتى قدمت أو أخرت، قال لمن سأله: افعل ولا حرج[5]. كما أنه نهى في الحج خاصة عن الغلو في الدين، حين قال للفضل بن العباس حين التقط الحصى للرمي " بمثل هذا فارموا وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"[6].
لهذا أجزنا الدفع من عرفات قبل كما مذهب الشافعي، وعدم المبيت في بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة والطواف بالكعبة طواف الإفاضة بعد منتصف الليل؛ ليلة العيد، وعدم المبيت بمنى أيام الرمي، والرمي قبل الزوال، وغيرها من التخفيفات التي يقتضيها الحال في هذا الزمان[7].
[1] انظر: كتابنا (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) صـ51 طبعة مكتبة وهبة.
[2] راجع فتوانا في هذا لموضوع بالتفصيل في كتابنا (فتاوى معاصرة/ ج3 ص 686- 691).
[3] متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد والسير (3038)، ومسلم في الجهاد والسير (1733)، وأحمد في المسند (19742)، عن أبي موسى.
[4] متفق عليه: رواه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد والسير (1734)، وأحمد في المسند (13175)، وأبو داود في الأدب (4794) عن أنس.
[5] متفق عليه: رواه البخاري في العلم (83)، ومسلم في الحج (1306)، وأحمد في المسند (6484)، وأبو داود في المناسك (2014)، والترمذي في الحج (916)، وابن ماجه في المناسك (3051)، عن ابن عمر.
[6] - رواه أحمد في المسند (3248)، وقال مخرّجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير زياد بن الحصين فمن رجال مسلم، والنسائي في مناسك الحج (3057) وابن ماجه في المناسك (3029) عن ابن عباس.
[7] راجع كتابنا: (مئة سؤال في الحج والعمرة) طبعة دار القلم، دمشق ، الطبعة الأولى 2002م.
من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الحال
تغير الحال، واقع نعيشه جميعاً، فحال الضيق غير حال السعة، وحال المرض غير حال الصحة، وحال السفر غير حال الإقامة، وحال الحرب غير حال السلم، وحال الخوف غير حال الأمن، وحال القوة غير حال الضعف، وحال الشيخوخة غير حال الشباب، وحال الأمية غير حال التعلم.
والمفتي الموفق الذي يراعي هذه الأحوال ويميز بعضها وبعض، ولا يجمد على حكم واحد، وموقف واحد، وإن تغيرت الأحوال.
وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الصحابة في مكة من أن يحملوا السلاح ليقاتلوا دفاعا عن أنفسهم، وهم يأتون إليه بين مضروب ومشجوج، ويأمرهم بالصبر وكف اليد، حتى إذا هاجر إلى المدينة وأصبح لهم دار ودولة أذن الله أن يقاتلوا، وإن الله على نصرهم لقدير.[1]
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يراعي أحوال أصحابه، فيخفف عن الضعفاء ما لا يخفف عن الأقوياء، وييسر على البدوي ما لا ييسر على الحضري، وقد رأيناه عليه السلام حينما بال الأعرابي في المسجد، وهمّ الصحابة به، قال: "لا تزرموه (أي لا تقطعوا عليه بولته) وصبوا عليه ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".[2]
وقد يرى المفتي أن يُفتي لمستفت في موضوع بالتشديد، ويفتي لمستفت آخر في نفس الموضوع بالتخفيف، فيشدد على هذا، أو يخفف على هذا؛ لاعتبارات يراها هو تتعلق باختلاف حال كل منهما. كما روى أحمد[3] أن النبي سئل عن القبلة للصائم فرخص لسائل ونهى سائلاً آخر عن القبلة أثناء الصيام. وبالبحث تبين أن أحد السائلين كان شيخًا فرخص له أن يقبل، وكان الآخر شابًا فنهاه عن التقبيل؟!
توبة القاتل
وقد كانت إجابات النبي صلى الله عليه وسلم تختلف من شخص لآخر، عن السؤال الواحد؛ لأنه كان يراعي أحوال السائلين، فيعطي الإجابة لكل منهم بما يلائم حاله.
فتوى ابن عباس في توبة قاتل النفس:
وكذلك كان الفقهاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
جاء رجل إلى ابن عباس فقال يا ابن عمّ رسول الله، هل للقاتل من توبة؟! فصعّد ابن عباس النظر فيه وقال له: لا، ليس للقاتل من توبة[4].
وعندما ذهب الرجل قال أصحاب ابن عباس له: كنا نسمع منك قبل غير هذا؟ فقال: إني نظرت في وجهه فرأيته مغضبًا، يريد أن يقتل رجلاً مؤمنا.[5] هذا ما دفع ابن عباس لأن يقول له: لا توبة للقاتل.
لو أتاه الرجل وقد قتل (أو ارتكب أي ذنب) وسأله عن التوبة لقال له: باب التوبة مفتوح، وإن الله يغفر الذنوب جميعا، { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } الزمر:53. لكن الرجل كان يحمل حقدًا على آخر، وينوي قتله، ويريد أن يأخذ فتوى مسبقة، فسدّ عليه ابن عباس الطريق. ولذلك قال العلماء: الفتوى قبل الابتلاء بالفعل تختلف عن الفتوى بعد الابتلاء بالفعل.
وهذا ما أسير عليه في فتاواي. عندما يسألني أحد في مسألة من مسائل الطلاق مثلا، فيقول: ما الحكم الشرعي إذا حلفت على زوجتي بالطلاق أن تفعل كذا أو تترك كذا؟
أسأله: هل وقع ذلك؟! فإن قال لي: لا لم يقع، قلت له: إذن اتركه إلى أن يقع. أما إذا قال لي: نعم وقع، فلا بدَّ لي أن أبحث له في هذه الحال عن حل أو جواب عند بعض السلف، مما اختاره ابن تيمية أو ابن القيم وغيرهما. وهكذا أجتهد أن أجد له في رحابة فقهنا العظيم: ما يناسب حاله، ويخرجه من مشكلته.
الأقليات المسلمة
وأرى أن حال الأقليات المسلمة التي تعيش في مجتمعات غير إسلامية، غير حال المسلم الذي يعيش داخل المجتمع الإسلامي، فحال هذه الأقليات تقتضي التيسير عليها، والتخفيف عنها، حتى تستطيع أن تعيش بدينها بين تلك المجتمعات.
التجنيس بجنسية بلد غير إسلامي:
ومن الفتاوى التي تغيّرت بتغير الحال؛ ما يعرف بالتجنس بجنسية أجنبية، وقد رأينا رجلا كالإمام البنا يرى هذا الأمر: مُحرَّما من المحرَّمات القطعية، بل كبيرة من الكبائر الدينية، بل قد يؤدي بمرتكبه إلى الكفر الصريح، والرِّدة عن الإسلام. وكان مما قاله الأستاذ البنا:
(مجرد تجنُّس المسلم بأية جنسية أخرى لدولة غير إسلامية: كبيرة من الكبائر، توجب مَقْت الله وشديد عقابه، والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ادعى لغير أبيه أو انتمى لغير مواليه؛ فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة"[6]، والآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى، وهي قول الله تبارك وتعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28]؛ فكيف إذا صحبه بعد ذلك واجبات وحقوق تبطل الولاء بين المسلمين، وتمزق روابطهم، وتؤدي إلى أن يكون المؤمن، في صفِّ الكافر أمام أخيه المؤمن، وإن خيرا للمسلم أن يَدَع هذه الديار وأمثالها إن تعذرت عليه الإقامة فيها إلا بمثل هذه الوسيلة وأرض الله واسعة: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100]، والله أعلم)[7]. انتهى.
ولكن الذي أراه هنا: أن أخذ الجنسية من بلد غير إسلامي يعتبر أحيانا خيانة لله ورسوله وللمؤمنين، وذلك في حالة الحرب بين المسلمين وغيرهم ممَّن يحاربون الإسلام؛ ولذا أفتى علماء تونس وقت الاحتلال الفرنسي أن أخذ الجنسية الفرنسية يُعدُّ خروجا ورِدَة عن الإسلام؛ لأنه بتجنسه باع ولاءه لوطنه، واشترى ولاءه للمستعمر، فأفتى العلماء الكبار بكفر من فعل ذلك. لأن هذه الفتوى سبيل من سبل المقاومة والاحتلال، وسلاح من أسلحة الجهاد. ولكن في الأوقات العادية نرى المسلم الذي يحتاج للسفر إلى بلاد غير إسلامية تعطيه الجنسية قوة ومَنعة؛ فلا يحق للسلطات طرده، ويكون له حق الانتخاب في المجالس البلدية والتشريعية وانتخابات الرئاسة، مما يعطي المسلمين قوة في هذه البلاد؛ حيث يخطب المرشحون ودَّهم، ويتنافسون على كسب أصواتهم. فحمل الجنسية ليس في ذاته شرًا ولا خيرًا، وإنما تأخذ الحكم حسب ما يترتب على أخذ هذه الجنسية من النفع للمسلمين أو الإضرار بهم.
ولكي نكون منصفين: فلا بد أن نضع فتوى الأستاذ البنا ومن وافقه في إطار زمنها وبيئتها وظروفها، فقد يتشدَّد الأستاذ في أمور، نحن نتساهل فيها اليوم بمقتضى التطور العالمي، واقتراب الناس بعضهم من بعض، وحاجة العالم بعضه إلى بعض، وتغيُّر صفة بعض الدول من دول استعمارية ظالمة للمسلمين، إلى دول حليفة أو شريكة للمسلمين. كما أن الأستاذ في بعض ما كتبه كان في عنفوان الشباب، بما فيه من حماس وثورة ، واندفاع في المواجهة. وللسن حكمها، وللبيئة والزمن تأثيرهما، وعلى كل حال؛ ليس في العلم كبير، وكل أحد يؤخذ منه ويرد عليه، إلا من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
[1] رواه النسائي في الجهاد (3086) عن عبد الرحمن بن عوف، والحاكم في المستدرك كتاب الجهاد (2/76)، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب السير (9/11)، عن ابن عباس، وقال الألباني في صحيح النسائي: صحيح الإسناد (2891)، ونصه: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة. فقال: "إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا". فلما حولنا الله إلى المدينة، أمرنا بالقتال، فكفوا. فأنزل الله عز وجل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77].
[2] رواه البخاري في الوضوء (220)، وأحمد في المسند (7255)، وأبو داود في الطهارة (380)، والترمذي في الطهارة (147)، والنسائي في الطهارة(56)، عن أبي هريرة.
[3] الحديث عند أحمد عن جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : هششت يوما فقبلت وأنا صائم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرا عظيما فقبلت وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ففيم " رواه أحمد (138) وقال مخرّجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الملك بن سعيد الأنصاري فمن رجال مسلم، ورواه أبو داود في الصيام (2385) وابن حبان في الصوم (3544)، وعند أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال: يا رسول الله أُقَبل وأنا صائم. قال: لا. فجاء شيخ فقال: أُقَبل وأنا صائم؟ قال: نعم. قال: فنظر بعضنا إلى بعض؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض؛ إن الشيخ يملك نفسه " رواه أحمد (6739) وقال مخرّجوه: إسناده ضعيف على خلاف في صحابيه، وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح هذا مع أن فيه ابن لهيعة. وصححه الألباني كذلك في الصحيحة (1606) وانظر: كتابنا (فقه الصيام) ص89.
[4] جاء عن ابن عباس أنه سأله سائل فقال: يا أبا العباس هل للقاتل من توبة؟ قال ابن عباس: كالمتعجب من شأنه: ماذا تقول؟ فأعاد عليه مسألته فقال: ماذا تقول؟ مرتين أو ثلاثاً. قال ابن عباس: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي المقتول متعلقاً رأسه بإحدى يديه ملبباً قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دماً حتى يأتي به العرش فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني فيقول الله للقاتل: تعست ويذهب به إلى النار" رواه الترمذي مختصرا في تفسير القرآن (3032) وقال: حديث حسن غريب، ورواه الطبراني في الكبير (10/ 306) وفي الأوسط (4/ 286)، وقال الهيثمي: رواه الترمذي باختصار آخره، ورواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2697).
[5] أخرج عبد بن حميد عن سعد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول : لمن قتل مؤمنا توبة. قال : فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمنا توبة ؟ قال : لا إلا النار! فلما قام الرجل قال له جلساؤه : ما كنت هكذا تفتينا، كنت تفتينا: أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة، فما شأن هذا اليوم ؟ قال: إني أظنه رجلا يغضب، يريد أن يقتل مؤمنا! فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك.(الدر المنثور 2/629 ). ورواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الديات (5/435)، وقال ابن حجر في تلخيص الحبير: رجاله ثقات (4/187).
[6] رواه أبو داود في الأدب (5115) عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5987).
[7] مجلة الإخوان المسلمين. السنة الرابعة. العدد (4). صـ11 بتاريخ 14 صفر 1355هـ الموافق 5 مايو 1936م، نقلا عن سلسلة (من تراث الإمام البنا) الكتاب الرابع. الفقه والفتوى صـ229، 230.
وما الادلة علي ذلك?
وما الاشياء التي توجب تغيرها?
لتجد الاجابة علي هذة الاسئلة اقدم لكم هذة الروابط لمجموعة مقالات قيمة للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلاماء المسلمين نفعنا الله بعلمة واطال الله في عمرة
1- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر القدرات والإمكانات
2- من موجبات تغير الفتوى .. تَغيُّر حاجات الناس
3- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الأوضاع الحياتية
4- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الحال
5- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الرأي والفكر
6- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الزمان
7- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر العُرف
8- من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر المكان
9- من موجبات تغير الفتوى: عموم البلوى
10- موجبات تغير الفتوى
من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر القدرات والإمكانات
د.يوسف القرضاوي
لقد أصبح الناس في عصرنا أكثر قدرة منهم فيما مضى، لأن العلم الحديث أعطى الإنسان قدرات هائلة، عن طريق الثورات العلمية السبعة: الثورة التكنولوجية، والثورة البيولوجية، والثورة الفضائية، والثورة النووية، والثورة الالكترونية، والثورة المعلوماتية، وثورة الاتصالات... كل هذه أعطت الإنسان قدرة لم تكن له من قبل، وهذه لها تأثيرها في الأحكام.
تطور الطب
هناك أحكام مبنية على القدرة المعينة، للفرد أو للمجتمع، فإذا تغيرت القدرة تغير الحكم. أضرب لذلك مثلا بموقف العلماء قديما من التداوي[1] فقد كانوا يرون أن العلاج ليس أمرًا مطلوبا، ليس واجبًا ولا مستحبًا، بل هو من المباحات حتى إن البعض قال: الأفضل أن لا نتداوى؛ لأن نجاح العلاج لم يكن محققا، فكثير من العلاجات والتشخيصات المرضية كانت ظنية تخمينية.
لكن اليوم – بعد تطور الطب، وابتكار أجهزة تخدمه، لم تخطر على بال السابقين، وارتقاء علم الصيدلة والدواء - وجدت أدوية ناجعة مجربة، فكيف نقول للإنسان: اصبر على الصداع في حين أن قرصا من (الأسبرين) يريحه من ألم الصداع؟! كيف تصبر على وجع الضرس؟! والمغص الكُلوي، وآلام البواسير... وغيرها، وكلها لها أدويتها المعروفة والمجربة، وما دام العلاج مجربا وناجعا، فلا يحل للمرء أن يصبر على ألم يمكن له أن يتخلص منه بسهولة، لأنه يؤلم نفسه بغير مبرر، ويضر نفسه بغير سبب، ومن القواعد المتفق عليها في الشريعة: أن "لا ضرر ولا ضرار"[2]. وإذا وقع الضرر، وجب السعي لإزالته، ولهذا قال الفقهاء في قواعدهم: الضرر يزال بقدر الإمكان، والضرر لا يزال بضرر مثله أو أكثر منه... إلخ.
الآن أصبحت في قدرة الناس أشياء لم يكن يظن الناس أنها تحدث، مثل: زرع الأعضاء فهو من الأشياء التي لم يكن الناس يَحْلُمون بها، لكن التقدم الطبي، والتقدم العلمي، حقق ما كان يعتبر من قبل في باب المستحيلات، وهذا التغير في القدرات تترتب عليه أحكام.
تطور الاتصالات
هناك حديث للنبي صلى الله عليه وسلم، نهى فيه أن " يطرق الرجل أهله ليلا"[3] أي: إذا جاء من السفر فلا يصح أن يفاجئ أهله في منتصف الليل، فعليه أن يؤخر قدومه ليصل في النهار، وهذا كان لأنه لم يكن في مقدور المرء أن يخبر أهله بقدومه، فنهاه النبي عن المجيء في وقت مفاجئ، وكأن الرجل يتهم أهل بيته، ويجري عليهم تفتيشا فجائيا، إضافة إلى أنه ينبغي على المرأة أن تتهيأ للقاء زوجها بالتجمُّل والتزيُّن، فجاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا نطرقهم ليلا، وذلك كان في عصر لا يستطيع المرء فيه الاتصال بأهله. لكن الآن يستطيع المرء أن يستخدم الفاكس أو الهاتف و(الموبايل)؛ ليخبر أهله بقدومه في الوقت المحدد، فلا تحدث المفاجأة المخوفة، فهذا من القدرات التي تغيرت، والإمكانات التي جدّت للناس، فتغير الحكم تبعا لها، فلا مانع من وصول الرجل إلى بيته – بعد الإخبار- في أي وقت من ليل أو نهار.
وهنا أيضا اعتبار آخر، وهو أن مواعيد الوصول لم تعد في ملك المسافر، إذ الطائرات والبواخر وغيرها هي التي تتحكم في ذلك.
انتقال المرأة بانتقال زوجها
قال فقهاء الحنفية: إن المرأة تتبع زوجها، إذا أعطاها كامل مهرها، حتى إنه إذا انتقل من بلد إلى بلد وجب أن تتبعه.
وجاء المتأخرون من علماء الحنفية وقالوا: هذا كان في الزمن الماضي، حيث كان الرجل يؤتمن على أهله وعلى زوجته، والآن (يعني في أيامهم) لو ذهبت المرأة مع زوجها إلى بلد آخر بعيد عن أهلها وأوليائها، فقد يظلمها ويجور عليها، ولا تجد من يدافع عنها، فمن حقها أن لا تذهب معه. هذا كان مبنيا على أن مسألة الاتصال بالأهل صعبة. لكن الآن تستطيع المرأة - إذا كانت مع زوجها في أي بلد - أن تتصل بأهلها بسهولة، فالعالم أصبح قرية واحدة، ونحن الآن نعرف بعد لحظات أو للتو ما يحدث في العالم أولا بأول. فإذا تغيرت القدرات والإمكانيات، فإن هذا يؤدي إلى تغير الفتوى وتغير الأحكام.
[1] راجع ما ذكرناه في كتابنا: (التوكل) فصل (التداوي والتوكل) ص 75 – 95، وفيه ذكرنا آراء الفقهاء والمتصوفة.
[2] سبق تخريجه.
[3] - جزء من حديث ونصه" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثرتهم". رواه مسلم في الإمارة (715) عن جابر، وأبو داود في الجهاد (2776) والنسائي في "السنن الكبرى" في العشرة ( 9096).
من موجبات تغير الفتوى .. تَغيُّر حاجات الناس
الحاجات تتغير في عصرنا، وهناك أشياء كان الناس يعتبرونها كماليات، وأصبحت الآن حاجيات. لا أستطيع الآن وأنا أعيش في دول الخليج في جوه اللاهب أن أقول: الثلاجة كمالية!! إنها باتت ضرورية، وكذلك المروحة أو المكيف وما شابهها، كلها أصبحت ضروريات لا يمكن للناس الاستغناء عنها، في مناخ تبلغ درجة الحرارة فيه قريبا من خمسين! فلو كنت أتكلم عن نصاب الزكاة، وعن أن النصاب يجب أن يكون فاضلا عن الحاجات الأساسية للإنسان، لا أستطيع أن أعتبر أن الحاجات الأساسية هي: الطعام والشراب واللباس والمسكن فقط، فهناك حاجات جديدة للناس ستُبنى عليها أحكام جديدة، وإليكم بعض النماذج والأمثلة.
اقتناء الكلاب بين القديم والحديث
مما ذكره الفقهاء: أن الإمام ابن أبي زيد القيرواني صاحب (الرسالة) المعروفة في المذهب المالكي، والتي شرحها كثيرون. هذا الإمام زاره بعض معاصريه من الفقهاء، فوجدوا في داره كلبا للحراسة. فقالوا له: إن مالكًا رضي الله عنه كان يكره اقتناء الكلاب. فقال لهم: لو أدرك مالك زمننا لاتخذ أسدًا ضاريًا[1].
لقد تغيّرت حاجات الناس، ولم تَعُد حاجات الناس في زمن أبي زيد القيرواني كما كانت في زمن مالك رضي الله عنه، فلجأ الناس إلى الكلاب لتحرسهم من اللصوص وقُطّاع الطرق، فالحاجات إذن تتغير، وإذا تغيّرت الحاجات فلا بد أن يتغير الحكم المبنى عليها.
وفي عصرنا: رأينا الغربيين؛ في أوربا وأمريكا وأستراليا: يقتنون الكلاب في حالة الشيخوخة – التي أمست تطول عندهم، بحيث تزيد عادة على الثمانين - لتؤنسهم من الوحشة، فكثيرا ما يعيشون وحدهم، لا رفيق ولا أنيس، فأمست الكلاب حاجة من حاجاتهم، حيث هجرهم أبناؤهم وأحفادهم وحفيداتهم.
التعليم المنهجي وضرورته
أذكر مثلا آخر لذلك. التعليم المنهجي، أيْ في المدارس والجامعات، لم يكن معدودا من الحاجات والمطالب الأساسيّة من قبل، واليوم أصبح مطلبا مهما للأفراد، ومسألة مهمة للأسرة، وواجبا كبيرا من واجبات الدولة، ولهذا يجب أن يُعتبر في باب النفقات. وكما يجب أن يوفر للإنسان مأكله ومشربه ومسكنه، يجب أن يوفر له ولأبنائه ما يلائمه من التعليم، حسب تطور المجتمعات.
كما يجب أن يعتبر هذا التعليم - في مراحله الأولى على الأقل - في حاجات الإنسان في الزكاة، وفي تحديد (الكفاية التامة) التي يجب أن توفر لكل من يعيش في المجتمع الإسلامي، مسلما أو غير مسلم. فهو مما تتم به كفاية الإنسان في كنف الحياة الإسلامية.
اشتراط المرأة في عقد الزواج
ومما سئلت عنه: هل يجوز للمسلمة أن تشترط في عقد الزواج على من يتزوجها: أن تكمل تعليمها الجامعي؟ وهل يجب على الزوج أن يفي بهذا الشرط؟
وكان جوابي: نعم، يجوز لها ذلك، فإن هذا من حقها، ولاسيما إذا كانت نجيبة ومتفوقة، ومن حقها أن تشترط ذلك في العقد، وعلى الزوج أن يفي به، كما في الحديث: "المسلمون عند شروطهم"[2] وهو نوع من الوفاء بالعهد، وهو فرض في الإٍسلام. وأحق الشروط أن يوفى به: شروط النكاح، لحرص الإسلام على بناء المؤسسة الزوجية الصالحة المستمرة.
ومثل ذلك حق الزوجة العاملة: أن تظل في عملها، إذا اشترطت ذلك في العقد أو خارجه، وقَبِل ذلك الزوج، أو تزوجها وهي تعمل ولم يشترط عليها ترك العمل، وكان عُرف المجتمع إقرار المرأة العاملة على عملها بعد الزواج.
بيوت السكنى ومتطلبات العمل
وبيوت السكنى في الأزمان الماضية: غير بيوت السكنى في الزمن الحاضر، وقد كان يكفي في المسكن قديما: أن يكون فيه عدد من الحجرات تكفي لعدد من أفراد الأسرة، وأن يدخله الهواء والشمس، وأن يكون فيه أثاث محدد مناسب لذلك العصر.
أما الآن فلا بد للمسكن الذي يوفره الزوج لامرأته، أو توفره الدولة لعاملها، أو المؤسسة للموظف لديها، أن يكون موصولا بشبكة الماء والكهرباء، وأن تكون فيه جملة من الأجهزة الأساسية التي تعرف الناس عليها، للشرب وللغسيل والتنظيف، وللطهي وللإطفاء ولتبريد وغيرها، وبدون هذا لا يكون المنزل ملائما ولا ملبيا لحاجات الناس المعاصرة.
وقد تصبح السيارة في بعض البلدان أداة ضرورية لنقل الإنسان من موضع عمله إذا كان بعيدا، كما هو الشأن الآن في بعض المدن الكبيرة، ولم تتوافر الموصلات العامة الموصلة إليه بسهولة.
وبعض الأعمال أمست اليوم تحتاج إلى شروط لم تكن تحتاج إليها في الزمن الفائت، مثل: حاجة المعلم إلى أن يكون مؤهلا تأهيلا تربويا – غير التأهيل العلمي- يستطيع به أن يوصِل ما عنده من علم إلى تلاميذه بطريقة سليمة ومشوقة، وهو ما تقوم به معاهد التربية المختلفة، التي تعد المدرسين المؤهَّلين في اختصاصاتهم، إعدادا تربويا خاصا يعينهم على القيام بأداء رسالتهم على أفضل وجه ممكن.
شراء بيوت السُكنى في الغرب عن طريق البنوك
ومن تغيّر حاجات الناس: ما لمسناه عند الأقليات المسلمة في أوربا وأمريكا وغيرها، من اشتداد الحاجة إلى سكن يملكه المسلم لنفسه ولأسرته، بدل السكن المستأجر، فالسكن المملوك يوفر له أشياء لا يوفرها السكن المستأجر، وهذه الأشياء هي في الحقيقة أمور يحتاج إليها الإنسان المعاصر، وخصوصا في البلاد الغربية.
فهو في حاجة إلى مسكن يستقر فيه، ولا يتحكم فيه المالك ويهدده بالطرد إذا كثر فيه عدد الأولاد، وإلى سكن يرفع مستواه الاجتماعي حيث مستوى أصحاب البيوت المملوكة عادة أعلى من أصحاب البيوت المستأجرة: في الخدمات، وفي نظرة الناس، وتقديرهم الاجتماعي.
وهم في حاجة إلى المزايا التي يتمتع بها أصحاب البيوت المشتراة، عن طريق البنك، باعتبارهم مدنيين، مثل إعفائهم من حد معين من الضرائب، واستحقاقهم لمعونات معينة إلى غير ذلك.
لهذه الحاجات وغيرها: أفتى المجلس الأوربي للإفتاء بالأغلبية للأقلية الأوربية المسلمة بجواز شراء المسلم بيتا للسُكنى عن طريق البنك الربوي، وبذلك يجعل ما كان يدفعه أجرة شهرية للسكن باعتباره قسطا شهريا للسكن المبيع له بالأجل.
وكان الاعتبار الشرعي للمجلس هو: تقدير حاجات المسلمين القوية، التي اعتبرها الفقهاء بمنزلة الضرورة، كما هي قاعدتهم المقررةالحاجة تنزل منزلة الضرورة خاصة كانت أو عامة)[3].
طواف الحائض التي تخشى فوات الرفقة
وفي مثل هذه الحالة أيضا ينبغي أن نراعي فيها تغيّر الحاجات، فقد باتت المرأة اليوم في حجها مرتبطة برفقة تصاحبهم في سفرها، هي ومن معها، سواء كان سفرها برا أم بحرا أم جوا، ولم تعد الأمور كما كانت سابقا، بمعنى أن يتحكم كل حاج في موعد سفره! وإنما أضحى للسفر مواعيد محددة بدقة، لا يستطيع الإنسان أن يتقدم أو يتأخر عنها، وخصوصا في موسم الحج. فلو لو فُرِض أنه تأخر الحيض عند المرأة ولم تطف طواف الإفاضة، وانتظرت أول يوم العيد والثاني والثالث ولم ينقطع الحيض، هنا يجوز لها أن تطوف وهي حائض بعد أن تتحفظ وتتحوط، ولا حرج عليها حتى قال الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم أنه لا يجب عليها شيء. فلنا أن نأخذ هنا بهذه الرخصة، ولا نشدد على المرأة ومن معها.
هكذا نجد في عصرنا حاجات كثيرة، تستجد وتحدث دائما وعلى الفقيه أن يراعي هذه الحاجات المتجددة والمتغيرة في فتواه.
[1] راجع القصة في منح الجليل شرح مختصر خليل / باب في البيع (9/ 369)، وانظر: شرح العلّامة زروق على الرسالة (ج2/ 424).
[2] ورد هذا الحديث بأكثر من لفظ، وفي بعضها زيادة، وعن عدد من الصحابة منهم: أبو هريرة وعائشة وأنس بن مالك ورافع. أما اللفظ الأول: "المسلمون عند شروطهم" فرواه البخاري معلقا في الإجارة بصيغة الجزم، والحاكم في المستدرك كتاب البيوع (2/57) عن عائشة، ورواه الدارقطني في السنن كتاب البيوع (3/27) عن عائشة، والطبراني في الكبير (4/275) عن رافع بن خديج، وذكره الألباني في الصحيحة (2915).
وأما لفظ "المسلمون على شروطهم" فرواه الترمذي في الأحكام (1352) عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وقال: حسن صحيح، وأبو داود في الأقضية (3594) عن أبي هريرة، والحاكم في المستدرك كتاب البيوع (2/57) وقال: رواة هذا الحديث مدنيون و لم يخرجاه، وهذا أصل في الكتاب، وله شاهد من حديث عائشة و أنس بن مالك رضي الله عنهما، وقال الذهبي: لم يصححه وكثير ضعفه النسائي ومشاه غيره. والطبراني في الكبير (17/22)، والدارقطني في السنن في البيوع (3/27) عن أبي هريرة وأنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6714).
[3] انظر: كتابنا ( في فقه الأقليات المسلمة)/154- 188، ط دار الشروق القاهرة.
من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الأوضاع الحياتية
يعد تَغيُّر الأوضاع الاجتماعية والسياسية أمر واقع تقتضيها سنَّة التطور، وكثير من الأشياء والأمور لا تبقى جامدة على حال واحدة، بل تتغير وتتغير نظرة الناس إليها.
غير المسلمين في المجتمع الإسلامي:
قضية غير المسلمين في المجتمع الإسلامي (أهل الذمة)، وهو ما يعبر عنه بقضية (الأقليات الدينية) في المجتمعات الإسلامية. وقضية الأقليات المسلمة في المجتمعات غير الإسلامية، وقضية علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم: هل هي علاقة السلم أو الحرب؟ وقضية المرأة، وسفرها وتعليمها وعملها، ومشاركتها السياسية. هذه قضايا أصبح لها في العالم شأن كبير، ولا يسعنا أن نبقى على فقهنا القديم كما كان في هذه القضايا.
يجب أن نراعي هنا مقاصد الشارع الحكيم، وننظر إلى النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية، ونربط النصوص بعضها ببعض، وها هو القرآن يقول:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]. فهذا هو الأصل، وهو الدستور.
إذا وجدنا أهل الذمة اليوم يتأذون من هذه الكلمة (أهل الذمة). ويقولون: لا نريد أن نُسمّى أهل الذمة، بل نريد أن نُسمّى (مواطنين). فبماذا نجيبهم؟
وجوابنا: أن الفقهاء المسلمين جميعا قالوا: إن أهل الذمة من أهل دار الإسلام، ومعنى ذلك بالتعبير الحديث أنهم: (مواطنون)، فلماذا لا نتنازل عن هذه الكلمة (أهل الذمة) التي تسوءهم، ونقول: هم (مواطنون)، في حين أن سيدنا عمر رضي الله عنه تنازل عما هو أهم من كلمة الذمة؟! تنازل عن كلمة (الجزية) المذكورة في القرآن، حينما جاءه عرب بني تغلب، وقالوا له: نحن قوم عرب نأنف من كلمة الجزية، فخذ منا ما تأخذ باسم الصدقة ولو مضاعفة، فنحن مستعدون لذلك. فتردد عمر في البداية. ثم قال له أصحابه: هؤلاء قوم ذوو بأس، ولو تركناهم لالتحقوا بالروم، وكانوا ضررًا علينا، فقبل منهم وقال: هؤلاء القوم حمقى، رضوا المعنى وأبوا الاسم[1].
فالأحكام تدور على المسميات والمضامين لا على الأسماء والعناوين، ولا بد أن ننظر في قضايا غير المسلمين، وفي قضايا المرأة نظرات جديدة، وأن نرجح فقه التيسير، وفقه التدرج في الأمور؛ مراعاة لتَغيُّر الأوضاع.
إن كثيرا من المشايخ أو العلماء، يعيشون في الكتب، ولا يعيشون في الواقع، بل هم غائبون عن فقه الواقع، أو قل: فقه الواقع غائب عنهم، لأنهم لم يقرؤوا كتاب الحياة، كما قرؤوا كتب الأقدمين.
ولهذا تأتي فتواهم، وكأنها خارجة من المقابر!
محاربة العالم كله كيف؟
وهؤلاء هم الذين أفتوا شباب (السلفية الجهادية) وشباب (تنظيم القاعدة) و(تنظيم الجهاد) في مصر وفي عدد من الأقطار: أن عليهم أن يحاربوا العالم كله، شرقيّه وغربيّه، نصرانيّه ووثنيّه، فكل هؤلاء من: كتابيين ووثنيين وملاحدة وبدائيين في فسطاط الكفر، الذي يجب أن يقاتل، مستدلين بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36] ونحوها من الآيات التي سموها (آية السيف).
وأكدوا هنا ما ذُكر في كتب الفقه من أن جهاد الكفار فرض كفاية على الأمة، ولا يتحقق فرض الكفاية إلا بغزو بلاد الكفرة مرة في السنة على الأقل، أي مهاجمتها في عُقر دارها، وإن لم يبد منها أي إساءة إلى المسلمين.
وجهل هؤلاء ما انتهى إليه العالم من التقارب حتى غدا كأنه قرية واحدة، وما انتهى إليه من مؤسسات دولية: سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وقضائية، وأن هناك اتفاقيات دولية، وقوانين دولية، ومحاكم دولية، وأن العالم كله أصبح يجرم أي دولة تهاجم دولة أخرى بلا مبرر، وأن حدود الدول يجب أن تُحترم، وأن النزاع بين الدول يجب أن يُحل بالطرق السلمية، وأن هناك معاهدات دولية تقنن سير الحروب إذا ما وقعت، وشؤون الأسرى ومصيرهم.
وأننا نحن المسلمين جزء من هذا العالم لا يمكننا أن نتجاهله ونعيش وحدنا، وأننا إذا بحثنا في تراثنا الفقهي والشرعي: وجدنا من الأقوال والنصوص ما يؤيد اتجاه العالم إلى السلم، بل هذا الاتجاه عند المقارنة والتأمل هو الأرجح دليلا، والأهدى سبيلا. وهذا ما اتجهت إليه في كتابي تحت الطبع (فقه الجهاد).
أما ما قاله الفقهاء عن (فرض الكفاية) فقد وجدنا له تفسيرا رائعا عند فقهاء الشافعية، وهو: إعداد القوة العسكرية اللازمة القادرة على الردع، وشحن الثغور ومواضع الخوف بالجيوش المدربة، والجنود الأكفاء على كل مستوى: بري وبحري وجوي، بحيث لو فكّر الآخرون في الاعتداء علينا لوجدوا ردنا حاضرا بما يكفل سلامة البلاد والعباد.
تهنئة النصارى بأعيادهم:
ومراعاة تغيّر الأوضاع العالمية، هو الذي جعلني أخالف شيخ الإسلام ابن تيمية في تحريمه تهنئة النصارى وغيرهم بأعيادهم، وأجيز ذلك إذا كانوا مسالمين للمسلمين، وخصوصا من كان بينه وبين المسلم صلة خاصة، كالأقارب والجيران في المسكن، والزملاء في الدراسة، والرفقاء في العمل ونحوها، وهو من البر الذي لم ينهنا الله عنه. بل يحبه كما يحب الإقساط إليهم {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]. ولا سيّما إذا كانوا هم يهنئون المسلمون بأعيادهم، والله تعالى يقول: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء:86)[2].
ضرورة التيسير في مناسك الحج:
ومن الأمور التي ينبغي أن ينظر إليها نظرة جديدة نظرا لتغير الأوضاع: مناسك الحج. فإذا كانت العبادات في الإسلام قائمة على التيسير، كما في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } البقرة:185، وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج:78]. وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى ومعاذ حين أرسلهما إلى اليمن قائلا لهما:" يسرا ولا تعسرا.."[3] وأمر به الأمة كلها فيما رواه أنس عنه "يسروا ولا تعسروا[4]". فلا شك أن الحج عبادة خاصة، أشد حاجة إلى التيسير من سائر العبادات الأخرى لعدة أسباب:
أولا: أن كثيرا من الناس قد يؤدي هذه الشعيرة، في ظروف مادية وصحية غير مواتية تماما، وقد سافر وارتحل عن أهله ووطنه، والسفر قطعة من العذاب.
ثانيا: لشدة الزحام الذي يشكو منه المسلمون كافة في مواسم الحج طوال السنوات الأخيرة، وهذا من فضل الله تعالى على أمة الإسلام، وخصوصا عند الدفع من عرفات، والمبيت بمزدلفة، والمبيت بمنى، وعند طواف الإفاضة، ورمي الجمرات. ولا سيما مع قلة الوعي لدى كثيرين من الحجاج، فكلما يسرنا على الناس في أداء مناسكهم، أعناهم على حسن العبادة لربهم، وفي هذا خير كثير.
ثالثا: لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يسر كثيرا في أمور الحج خاصة، فحين سئل يوم النحر عن أمور شتى قدمت أو أخرت، قال لمن سأله: افعل ولا حرج[5]. كما أنه نهى في الحج خاصة عن الغلو في الدين، حين قال للفضل بن العباس حين التقط الحصى للرمي " بمثل هذا فارموا وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"[6].
لهذا أجزنا الدفع من عرفات قبل كما مذهب الشافعي، وعدم المبيت في بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة والطواف بالكعبة طواف الإفاضة بعد منتصف الليل؛ ليلة العيد، وعدم المبيت بمنى أيام الرمي، والرمي قبل الزوال، وغيرها من التخفيفات التي يقتضيها الحال في هذا الزمان[7].
[1] انظر: كتابنا (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) صـ51 طبعة مكتبة وهبة.
[2] راجع فتوانا في هذا لموضوع بالتفصيل في كتابنا (فتاوى معاصرة/ ج3 ص 686- 691).
[3] متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد والسير (3038)، ومسلم في الجهاد والسير (1733)، وأحمد في المسند (19742)، عن أبي موسى.
[4] متفق عليه: رواه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد والسير (1734)، وأحمد في المسند (13175)، وأبو داود في الأدب (4794) عن أنس.
[5] متفق عليه: رواه البخاري في العلم (83)، ومسلم في الحج (1306)، وأحمد في المسند (6484)، وأبو داود في المناسك (2014)، والترمذي في الحج (916)، وابن ماجه في المناسك (3051)، عن ابن عمر.
[6] - رواه أحمد في المسند (3248)، وقال مخرّجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير زياد بن الحصين فمن رجال مسلم، والنسائي في مناسك الحج (3057) وابن ماجه في المناسك (3029) عن ابن عباس.
[7] راجع كتابنا: (مئة سؤال في الحج والعمرة) طبعة دار القلم، دمشق ، الطبعة الأولى 2002م.
من موجبات تغير الفتوى: تَغيُّر الحال
تغير الحال، واقع نعيشه جميعاً، فحال الضيق غير حال السعة، وحال المرض غير حال الصحة، وحال السفر غير حال الإقامة، وحال الحرب غير حال السلم، وحال الخوف غير حال الأمن، وحال القوة غير حال الضعف، وحال الشيخوخة غير حال الشباب، وحال الأمية غير حال التعلم.
والمفتي الموفق الذي يراعي هذه الأحوال ويميز بعضها وبعض، ولا يجمد على حكم واحد، وموقف واحد، وإن تغيرت الأحوال.
وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الصحابة في مكة من أن يحملوا السلاح ليقاتلوا دفاعا عن أنفسهم، وهم يأتون إليه بين مضروب ومشجوج، ويأمرهم بالصبر وكف اليد، حتى إذا هاجر إلى المدينة وأصبح لهم دار ودولة أذن الله أن يقاتلوا، وإن الله على نصرهم لقدير.[1]
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يراعي أحوال أصحابه، فيخفف عن الضعفاء ما لا يخفف عن الأقوياء، وييسر على البدوي ما لا ييسر على الحضري، وقد رأيناه عليه السلام حينما بال الأعرابي في المسجد، وهمّ الصحابة به، قال: "لا تزرموه (أي لا تقطعوا عليه بولته) وصبوا عليه ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".[2]
وقد يرى المفتي أن يُفتي لمستفت في موضوع بالتشديد، ويفتي لمستفت آخر في نفس الموضوع بالتخفيف، فيشدد على هذا، أو يخفف على هذا؛ لاعتبارات يراها هو تتعلق باختلاف حال كل منهما. كما روى أحمد[3] أن النبي سئل عن القبلة للصائم فرخص لسائل ونهى سائلاً آخر عن القبلة أثناء الصيام. وبالبحث تبين أن أحد السائلين كان شيخًا فرخص له أن يقبل، وكان الآخر شابًا فنهاه عن التقبيل؟!
توبة القاتل
وقد كانت إجابات النبي صلى الله عليه وسلم تختلف من شخص لآخر، عن السؤال الواحد؛ لأنه كان يراعي أحوال السائلين، فيعطي الإجابة لكل منهم بما يلائم حاله.
فتوى ابن عباس في توبة قاتل النفس:
وكذلك كان الفقهاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
جاء رجل إلى ابن عباس فقال يا ابن عمّ رسول الله، هل للقاتل من توبة؟! فصعّد ابن عباس النظر فيه وقال له: لا، ليس للقاتل من توبة[4].
وعندما ذهب الرجل قال أصحاب ابن عباس له: كنا نسمع منك قبل غير هذا؟ فقال: إني نظرت في وجهه فرأيته مغضبًا، يريد أن يقتل رجلاً مؤمنا.[5] هذا ما دفع ابن عباس لأن يقول له: لا توبة للقاتل.
لو أتاه الرجل وقد قتل (أو ارتكب أي ذنب) وسأله عن التوبة لقال له: باب التوبة مفتوح، وإن الله يغفر الذنوب جميعا، { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } الزمر:53. لكن الرجل كان يحمل حقدًا على آخر، وينوي قتله، ويريد أن يأخذ فتوى مسبقة، فسدّ عليه ابن عباس الطريق. ولذلك قال العلماء: الفتوى قبل الابتلاء بالفعل تختلف عن الفتوى بعد الابتلاء بالفعل.
وهذا ما أسير عليه في فتاواي. عندما يسألني أحد في مسألة من مسائل الطلاق مثلا، فيقول: ما الحكم الشرعي إذا حلفت على زوجتي بالطلاق أن تفعل كذا أو تترك كذا؟
أسأله: هل وقع ذلك؟! فإن قال لي: لا لم يقع، قلت له: إذن اتركه إلى أن يقع. أما إذا قال لي: نعم وقع، فلا بدَّ لي أن أبحث له في هذه الحال عن حل أو جواب عند بعض السلف، مما اختاره ابن تيمية أو ابن القيم وغيرهما. وهكذا أجتهد أن أجد له في رحابة فقهنا العظيم: ما يناسب حاله، ويخرجه من مشكلته.
الأقليات المسلمة
وأرى أن حال الأقليات المسلمة التي تعيش في مجتمعات غير إسلامية، غير حال المسلم الذي يعيش داخل المجتمع الإسلامي، فحال هذه الأقليات تقتضي التيسير عليها، والتخفيف عنها، حتى تستطيع أن تعيش بدينها بين تلك المجتمعات.
التجنيس بجنسية بلد غير إسلامي:
ومن الفتاوى التي تغيّرت بتغير الحال؛ ما يعرف بالتجنس بجنسية أجنبية، وقد رأينا رجلا كالإمام البنا يرى هذا الأمر: مُحرَّما من المحرَّمات القطعية، بل كبيرة من الكبائر الدينية، بل قد يؤدي بمرتكبه إلى الكفر الصريح، والرِّدة عن الإسلام. وكان مما قاله الأستاذ البنا:
(مجرد تجنُّس المسلم بأية جنسية أخرى لدولة غير إسلامية: كبيرة من الكبائر، توجب مَقْت الله وشديد عقابه، والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ادعى لغير أبيه أو انتمى لغير مواليه؛ فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة"[6]، والآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى، وهي قول الله تبارك وتعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28]؛ فكيف إذا صحبه بعد ذلك واجبات وحقوق تبطل الولاء بين المسلمين، وتمزق روابطهم، وتؤدي إلى أن يكون المؤمن، في صفِّ الكافر أمام أخيه المؤمن، وإن خيرا للمسلم أن يَدَع هذه الديار وأمثالها إن تعذرت عليه الإقامة فيها إلا بمثل هذه الوسيلة وأرض الله واسعة: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100]، والله أعلم)[7]. انتهى.
ولكن الذي أراه هنا: أن أخذ الجنسية من بلد غير إسلامي يعتبر أحيانا خيانة لله ورسوله وللمؤمنين، وذلك في حالة الحرب بين المسلمين وغيرهم ممَّن يحاربون الإسلام؛ ولذا أفتى علماء تونس وقت الاحتلال الفرنسي أن أخذ الجنسية الفرنسية يُعدُّ خروجا ورِدَة عن الإسلام؛ لأنه بتجنسه باع ولاءه لوطنه، واشترى ولاءه للمستعمر، فأفتى العلماء الكبار بكفر من فعل ذلك. لأن هذه الفتوى سبيل من سبل المقاومة والاحتلال، وسلاح من أسلحة الجهاد. ولكن في الأوقات العادية نرى المسلم الذي يحتاج للسفر إلى بلاد غير إسلامية تعطيه الجنسية قوة ومَنعة؛ فلا يحق للسلطات طرده، ويكون له حق الانتخاب في المجالس البلدية والتشريعية وانتخابات الرئاسة، مما يعطي المسلمين قوة في هذه البلاد؛ حيث يخطب المرشحون ودَّهم، ويتنافسون على كسب أصواتهم. فحمل الجنسية ليس في ذاته شرًا ولا خيرًا، وإنما تأخذ الحكم حسب ما يترتب على أخذ هذه الجنسية من النفع للمسلمين أو الإضرار بهم.
ولكي نكون منصفين: فلا بد أن نضع فتوى الأستاذ البنا ومن وافقه في إطار زمنها وبيئتها وظروفها، فقد يتشدَّد الأستاذ في أمور، نحن نتساهل فيها اليوم بمقتضى التطور العالمي، واقتراب الناس بعضهم من بعض، وحاجة العالم بعضه إلى بعض، وتغيُّر صفة بعض الدول من دول استعمارية ظالمة للمسلمين، إلى دول حليفة أو شريكة للمسلمين. كما أن الأستاذ في بعض ما كتبه كان في عنفوان الشباب، بما فيه من حماس وثورة ، واندفاع في المواجهة. وللسن حكمها، وللبيئة والزمن تأثيرهما، وعلى كل حال؛ ليس في العلم كبير، وكل أحد يؤخذ منه ويرد عليه، إلا من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
[1] رواه النسائي في الجهاد (3086) عن عبد الرحمن بن عوف، والحاكم في المستدرك كتاب الجهاد (2/76)، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب السير (9/11)، عن ابن عباس، وقال الألباني في صحيح النسائي: صحيح الإسناد (2891)، ونصه: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة. فقال: "إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا". فلما حولنا الله إلى المدينة، أمرنا بالقتال، فكفوا. فأنزل الله عز وجل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77].
[2] رواه البخاري في الوضوء (220)، وأحمد في المسند (7255)، وأبو داود في الطهارة (380)، والترمذي في الطهارة (147)، والنسائي في الطهارة(56)، عن أبي هريرة.
[3] الحديث عند أحمد عن جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : هششت يوما فقبلت وأنا صائم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرا عظيما فقبلت وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ففيم " رواه أحمد (138) وقال مخرّجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الملك بن سعيد الأنصاري فمن رجال مسلم، ورواه أبو داود في الصيام (2385) وابن حبان في الصوم (3544)، وعند أحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب فقال: يا رسول الله أُقَبل وأنا صائم. قال: لا. فجاء شيخ فقال: أُقَبل وأنا صائم؟ قال: نعم. قال: فنظر بعضنا إلى بعض؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض؛ إن الشيخ يملك نفسه " رواه أحمد (6739) وقال مخرّجوه: إسناده ضعيف على خلاف في صحابيه، وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح هذا مع أن فيه ابن لهيعة. وصححه الألباني كذلك في الصحيحة (1606) وانظر: كتابنا (فقه الصيام) ص89.
[4] جاء عن ابن عباس أنه سأله سائل فقال: يا أبا العباس هل للقاتل من توبة؟ قال ابن عباس: كالمتعجب من شأنه: ماذا تقول؟ فأعاد عليه مسألته فقال: ماذا تقول؟ مرتين أو ثلاثاً. قال ابن عباس: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي المقتول متعلقاً رأسه بإحدى يديه ملبباً قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دماً حتى يأتي به العرش فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني فيقول الله للقاتل: تعست ويذهب به إلى النار" رواه الترمذي مختصرا في تفسير القرآن (3032) وقال: حديث حسن غريب، ورواه الطبراني في الكبير (10/ 306) وفي الأوسط (4/ 286)، وقال الهيثمي: رواه الترمذي باختصار آخره، ورواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2697).
[5] أخرج عبد بن حميد عن سعد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول : لمن قتل مؤمنا توبة. قال : فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمنا توبة ؟ قال : لا إلا النار! فلما قام الرجل قال له جلساؤه : ما كنت هكذا تفتينا، كنت تفتينا: أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة، فما شأن هذا اليوم ؟ قال: إني أظنه رجلا يغضب، يريد أن يقتل مؤمنا! فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك.(الدر المنثور 2/629 ). ورواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الديات (5/435)، وقال ابن حجر في تلخيص الحبير: رجاله ثقات (4/187).
[6] رواه أبو داود في الأدب (5115) عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5987).
[7] مجلة الإخوان المسلمين. السنة الرابعة. العدد (4). صـ11 بتاريخ 14 صفر 1355هـ الموافق 5 مايو 1936م، نقلا عن سلسلة (من تراث الإمام البنا) الكتاب الرابع. الفقه والفتوى صـ229، 230.