أ.د. ناصر احمد سنه*
ليس بالأمر الهين علي الناس أن يقبلوا "الجديد" إلا بحذر وترقب، وتصارع أحياناً. لذا لقي مُجددون ومُصلحون ـ إبان فترة الإنتقال إلي ذلك الجديد ـ عنتاً كبيراً، ومشقة من مجتمعاتهم، لانهم بشروا بما آمنوا به، وبما أعتقدوا أن فيه صلاحهم.. فرادي وجماعات. ولعل مبعث هذا العنت، وتلك المشقة هو ذلك الموقف "المتذبذب" من ذلك "الجديد"، فالناس يريدونه بيد أنه يثير "قلقهم علي حياتهم التي تبدو مستقرة". و"ما أشبه الليلة بالبارحة"، فالحاجة إلي الإصلاح ماسة، و"التذبذب" قائم، ولعل في الإشارة إلي جهود الرواد المصلحين، و تناولها بالدراسة والتحليل.. محاولة للمّ الشمل، وضم الجهود، وإثراء التواصل، ومعالجة الجمود، ومداواه "الإنهزام النفسي"، و"التخلف الحضاري"، و"القابلية للأستعمار"، ومواجهة الوهن الداخلي، والتآمر الخارجي، الذي يستهدف العروبة والإسلام والأوطان، ونهوضها في آن معاً.
التجديد لا يعني الإزالة والإستحداث، وتغيير الأسس، والتصرف في الأحكام، والإبتعاد عن الجوهر والمعالم والقيم: "فعبر الزمن لا تتغير القيم العليا الحاكمة لحضارة ما، فهي مثالها العام، عقيدتها، فلسفتها، وقيمها الإنسانية العليا التعبر الزمان والمكان.. بيد أنه لا ينبغي أن تكون حالة الدفاع عن (الذات الحضارية) أمام ما تواجهه من تحديات بمثابة غشاوة تختفي خلفها الرغبة والقدرة علي التجديد ـ في المتغير المرن المستجد ـ دون تفريط أو إفراط في الهوية"(1). فالتجديد - إذن- يعني: إعادة الأمر لأقرب ما يكون إلي صورته الأولي، وهو في الدين يعني: "إعادته إلي أصله يوم نشأ، بتنقيته مما ألحقته به أهواء الناس من أباطيل وخرافات، وجمود وتقليد، وتبعية وإنحراف". ويعني التجديد الأقتراب من عصره الذي يعيش فيه، والأرتقاء والنهوض بالعصر وفقا لنهجه الأصيل السامي.. فكريا وفقهياً، ثقافياً وروحياً، إجتماعيا وأخلاقياً، إقتصاديا وإنسانياً الخ.
ولعل "شرعية التجديد" أمر مقرر وفريد في الإسلام دون غيره، ففي الحديث الشريف:"إن الله يبعث لهذه الأمة علي رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (2). فهي سُنة من السنن الدائمة، فكما يصدأ المعدن فيحول الصدأ بينه وبين فعله الحقيقي، كذلك قد تغير الأهواء ـ علي كر السنين ـ رسالات ومنظومات إجتماعية بالبدع والخرافات والأساطير والإضافات التي تحجب جوهرها الفعال وتعطل طاقاتها. ولكون الإسلام الدين الخاتم للرسالات السماوية، ولكي يكون صالحاً لكل زمان ومكان، كان التجديد قانوناً دائماً" (3).
ويضطلع بهذه المهمة من الأمة علمائها العاملين الذين يفقهون مقومات حضارتها، وأسس شريعتها، ومعالم شرائعها.. غاياتها ومقاصدها. كما يحيطون بظروف الناس، ومشكلاتهم ومصالحهم، وكيفية تنزيل النصوص والأحكام عليها وفق هذه المقاصد والغايات، فـ"حيثما تكون المصلحة فثم الشرع". ولقد شهد العصر الحديث ظهور كوكبة من هؤلاء الرواد المجددين والمصلحين أمثال: الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي" (1801م-1873م)، والزعيم "جمال الدين الأفغاني" (1838-م1897)، والمناضل "عبد الرحمن الكواكبي" (1854-1902م)، و الأستاذ الإمام "محمد عبده" (1849- 1905م)، والشيخ "محمد رشيد رضا"(1865ـ ـ 1935م) الخ الذين تركوا علي اللاحقين ممن تسنم سنامهم، وسار علي دربهم ـ فرادي وجماعات ـ آثاراً واضحة الدلالة، بادية المعالم.
لقد كان ميلادها عام 1931م حدثا تاريخياً بارزا. فلقد اضطلعت "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" بدور هام ومؤثر في إنقاذ المجتمع الجزائري، واستنهاضه من كبوته، وترشيد حركته الوطنية بشقيها الثقافي والسياسي. فقد جددت العقيدة، وأحيت المقومات، وأثرت الأفكار، وحررت العقول، ووحدت الصفوف، وجمعت الكفاءات، وفجرت الطاقات، وحددت الغايات، وواجهت المؤامرات، وفندت الشبهات، وربطت المجتمع الجزائري بكيانه الحضاري العربي والإسلامي. وقد وقفت لتذود عن مبادئها خارجياً.. بما ردت به من شبه الطاعنين، وكفكفت من غلواء المبشرين، وبما أقامت من حصون في وجوه المستعمرين، وداخلياً.. بما كان بينها وبين قومها وأبناء ملتها من "تعليم الجاهل، وهداية الحائر، وتوطيد الأسس، وتذليل السبل".
وفي إطار تلك الجمعية نبغت ثلة من العلماء المُجددين أمثال رائدها باني النهضة الجزائرية الإمام الشيخ "عبد الحميد بن باديس"، والعلامة الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي"، والإمام "العربي التبسي"، والشيخ "الطيب العقبي"، والشيخ "مبارك الميلي"، الخ ممن نهض بواجبه، وقاد مسيرة التجديد والإصلاح والبناء الحضاري، وواجه التخلف والتغريب والتذويب والإلحاق، والفصل عن الجذور الحضارية. لقد قامت تلك الثلة بـ"إحياء ما مات، وتجديد ما رث، وتجميع ما افترق، وبناء ما تهدم، وتطهير ما تلوث".
ولقد تأثر الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي" (1889-1965م) بـ"الحركة التجديدية المشرقية" وبأعلامها، فنبغ "كاتباً مبدعاً، ومتحدثاُ بليغاً، وباحثاً متعمقاً، ومفكرا أريباً". وقد ألف في اللغة وقضاياها الدقيقة، وفي الأخلاق وفضائلها العميمة، وفي الأصول وأمور الشريعة، حاملاً: "روح مصلح، وقوة ثائر، وخيال شاعر". كما ناضل مع زمـيـله ورفيق دربه، الإمام "ابن باديس"(1889-1940م) (4)، فكان نائبه، ثم خليفته في رئاسة "الجمعية".
ركائز الفكر التجديدي عند الشيخ "البشير الإبراهيمي"
إن تبيّن ركائز الفكر التجديدي، وفلسفة الخط الإصلاحي لدي الشيخ الإبراهيمي (5) تُعيين علي فهم مناحي مشروعه النهضوي، وما يتصل به من جوانب عقدية وثقافية وإجتماعية وسياسية يمكن الإستفادة منها أو البناء عليها في واقعنا الراهن، واستشرافا لمستقبل أفضل. فما هي ملامح وأسس فكر "الشيخ الإبراهيمي" التجديدي؟، وما مدي إسهاماته في إنجاح فلسفته تلك؟.
ولد "محمد البشير الإبراهيمي" 1889م في قرية "أولاد ابراهيم" في رأس الوادي قرب ولاية "برج بوعريريج"، وتلقى تعليمه الأوَّلي على يد والده وعمه؛ فحفظ القرآن ودرس بعض المتون في مجالي الفقه واللغة. غـادر الجزائر 1911 م ملتحقاً بوالده في (الحجاز)، فأقام معه بالمدينة المنوّرة، حيث تعرف على الشيخ "ابن باديس"، ثم انتقل إلى دمشق 1916 م، فالتقى بعلمائها وأدبائها، ومشتغلاً بالتدريس، ومشاركاً في تأسيس "المجمع العلمي" لتــعـريــب "الإدارات الـحـكـومــيــة".
عاد "الإبراهيمي" إلى الجزائر عام 1920م، وبدأ بدعوته الإصلاحية، ونشر العلم في مدينة (سطيف). وفي عام 1924م زاره "ابن باديس" وعرض عليه فــكــرة إقامة "جمعية العلماء"، وبعد تأسيسها اُختِير "الإبراهيمي" نائباً لرئيسها، وانــتــدب مـــن قِـبـلها لنشر الفكر الإصلاحي غرب الجزائر. فبادر إلى ذلك وبدأ ببناء المدارس الحرة، وحاضر في كل مكان وصل إليه، وامتد نشاطه إلى (تلمسان). وقـامــت ضده قيامة الفئات المعادية، وقدموا العرائض للوالي الفرنسي؛ يلتمسون فـيـها إبعاده، لكنه استمر في نشاطه، وبرزت المدارس العربية في "وهران"(6).
كتب ـ عام 1939م ـ مقالاً في جريدة (الإصلاح)؛ فنفته فرنسا إلى (أفلو) الصحراوية، وبعد وفاة "ابن باديس" انتخب ـ وهو لا يزال منفياًـً رئيساً "للجمعية"، ولم يُفرج عنه إلا عام 1943م. ثم تم اعتقاله ثانية 1945م وأفرج عنه بعد عام. وفى عام 1947م عادت مجلة (البصائر) للصدور، وكانت مقالاته فيها في الذروة من البلاغة والفصاحة، والصراحة والنقد للمستعمر الفرنسي، وعملائه:"رجال من قومنا يضادّوننا، جروا مع الأهواء فلم نوافقهم، واحتكروا الزعامة في الأمة، فلم نسمح لهم، وطالبوا تأييد الجمعية لهم في الصغائر، فلم تستجب لهم، وأرادوا تضليل الأمة وابتزاز أموالها فعارضتهم".
وقد صرف جل جهوده في مكافحة الاستعمار: (يا حضرة الاستعمار: إن جمعية العلماء تعمل للإسلام بإصلاح عقائده، وتفهيم حقائقه، وإحياء آدابه وتاريخه، وتطالبك بتسليم مساجده وأوقافه إلى أهلها، وتطالبك باستقلال قضائه، وتسمي عدوانك على الإسلام ولسانه ومعابده وقضائه: عدوانا بصريح اللفظ. وتطالبك بحرية التعليم العربي، وتدافع عن "الذاتية الجزائرية" التي هي "العروبة والإسلام" مجتمعين في وطن. وتعمل لإحياء اللغة العربية وآدابها وتاريخها، في موطن عربي. وتعمل لتوحيد كلمة المسلمين في الدنيا والدين. وتذكر المسلمين الذين يبلغهم صوتها بحقائق دينهم، وسير أعلامهم، وأمجاد تاريخهم. وتعمل لتقوية رابطة العروبة بين العربي والعربي فذلك طريق إلى خدمة اللغة والأدب. فإذا كانت هذه الأعمال تعد ـ في فهمك ونظرك ـ "سياسة"، فنحن سياسيون في العلانية لا في السر، وبالصراحة لا بالجمجمة. إننا نعد كل هذا "ديناً" على الحقيقة لا على التخيل، ونعده من واجبات الإسلام التي لا نخرج من عهدتها إلا بأدائها على وجهها الصحيح الكامل. ولتعلم أننا نفهم الإسلام على حقيقته؛ وأننا لا نستنزل عن ذلك الفهم برقية راق، ولا بتهديد مُهدد. ولتعلم سلفاً، ولتسلم منطقياً وواقعياً: أننا حين تختلف الأنظار بينك وبين الإسلام، فنحن مع الإسلام، لأننا مسلمون؛ ولتعلم أن تلك الأعمال تزيدنا مع جلال العلم جلال العمل. لتعلم ما دام الإسلام عقيدةً وشعائر، وقرآناً وحديثاً، وقبلة واحدة، فالمسلمون كلهم أمة واحدة؛ وما دامت اللغة العربية لساناً وبياناً وترجماناً، فالعرب كلهم أمة واحدة. "فلا إسلام جزائري" كما تريد ولا عنصرية بربرية كما تشاء. ولتعلم أن زمناً كنت تسلط فيه المسلم على المسلم ليقتله في سبيلك قد انقضى وأنه لن يعود). وما قولك ـ أيها الاستعمارـ في تدخلك في ديننا، وابتلاعك لأوقافنا، واحتكارك للتصرف فيها، وتحكمك في شعائرنا، وتسلطك على قضائنا، وامتهانك للغتنا؟. ما قولك في كل ذلك – أهو من الدين أم من السياسة؟. وكيف تبيح لنفسك التدخل فيما لا يعنيك من شئون ديننا، ثم تحرم علينا الدخول فيما يعنينا من شؤون دنيانا؟. وهبنا وإياك فريقين، فريق أخضع الدين للسياسة ظالماً، وفريق أدخل السياسة في الدين متظلما فهل يستويان؟. إننا إذا حاكمناك إلى الحق غلبناك، وإذا حكمتنا إلى القوة غلبتنا؛ ولكننا قوم ندين بأن العاقبة للحق لا للقوة).
ودائما ما أكد "الإبراهيمي" علي أن أهم مكونات "الذات الجزائرية" هي الإسلام والعروبة معاً. فهما مختلطان اختلاط اللحم بالدم. فالإسلام يشكل المرجعية الأولى، بيد أن إنه ليس الإسلام الذي شابته شوائب الأزمنة والأمكنة، والأعراف المتباينة، فكدرت صفاءه، وغبشت ضياءه. إنه (الإسلام الأول) إسلام مصدريه الباقيين، إسلام القوة لا الضعف، وإسلام التجديد لا الجمود، وإسلام الحرية لا القيود، وإسلام القوة والكرامة. ولقد حرص على أن يبين رسوخه في الجزائر، وأنه أصل حياتها، وروحها التي تسري بأوصالها: (إن الإسلام في الجزائر ثابت ثبوت الرواسي، متين القواعد والأواسي، قد جلا الإصلاح حقائقه فكان له منه كفيل مؤتمن، واستنارت بصائر المصلحين بنوره فكان له منهم حارس يقظ،، وعاد كتابه القرآن إلى منزلته في الإمامة، فكان له منه الحمى الذي لا يطرق، والسياج الذي لا يخرق).
والعروبة التي يدعو إليها ليست عرقية ولا عنصرية، بل هي عروبة لغة وثقافة، جوهرها اللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم:"نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" [الشعراء 193- 195]. ولقد دافع عن العربية: "اللغة العربية في الجزائر ليست غريبة، ولا دخيلة، بل هي في دارها وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشتدة الأواصر مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل". كما أن القرآن عربي، ومحمد عليه الصلاة والسلام رسول الإسلام عربي، وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزله معه: عرب، حتى من لم يكن منهم عربي الأرومة والعرق، فقد تعرب باللسان حين تكلم العربية، وقد روي حديثه عليه الصلاة والسلام: "إنما العروبة اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي". وأرض العرب هي أرض الإسلام ومهده، فيها نشأت الدعوة، وإليها كانت الهجرة، وبها كانت الوفاة، وهي التي ضمت رفاته عليه السلام، والمساجد الكبرى المقدسة.
الوحدة والحرية (أو التوحيد والتحرير): هدفاً
الرسالة الإسلامية وتشريعاتها متصلة الحلقات، ترمي لغاية واحدة، وهي إنشاء "أمة" متحدة المبادئ والغايات، متناسقة ما بينها، لتحمل الأمانة كاملة صحيحة إلى الأجيال اللاحقة، وقد تم للإسلام ما أراد عدة قرون، وما زلنا نحمل بقايا من ذلك، ولولاها لكنا في الغابرين.
ولقد أكد "الأبراهيمي" علي أن: الإسلام قد حرر العقل وجميع القوى التابعة له، وحرم ما يعطل طاقاته أو يغيبه. والعقل هو القوة المميزة للمتضادات والمتنافرات، وهو مناط التكاليف الدينية والدنيوية، لكنه قد يطرأ عليه ما يطرأ على الموازين المادية من الاختلال فيتعطل أو ينعكس إدراكه، والإسلام يعلو بتقدير العقل والفكر إلى أعلى درجة، ويقرر أن إدراك الحقائق العليا في الدين أو الكون إنما هو حظ العقول الراجحة، وأن العقول المريضة والأفكار العقيمة تهبط بصاحبها.
ونراه يشير إلي أن الإسلام قد أعلن من أول يوم حربا شعواء على الوثنية بأنواعها، لأنها أشد ما كانت سلطانا على العقول والنفوس، وإفسادا للفطر الخيرة، حتى محا آثارها، وعمر مكانها بالتوحيد، فحرر العقل من سلطانها حتى يواجه أمانة الدين الجديد صحيحاً معافى، ويؤدي الوظيفة التي خلق لأدائها، (وما هدم أصحاب محمد الأصنام بأيديهم إلا بعد أن هدم محمد الوثنية في نفوسهم، وبعد أن بنى عقولهم من جديد على صخرة التوحيد).
ويشير إلي أن الإسلام رائد في "عدالته الإجتماعية" فقد حرر الفقير، وجعل للفقراء (حقا معلوما) في أموال الأغنياء. فكان الفقير يسأل الغني فيعطيه، أو يحرمه تبعا لخلقه: (فإذا أعطاه شيئا أخذه على أنه مكرمة ممنونة، تجرح نفسه، وإن أشبعت بطنه). لكن الإسلام ألزم الغني بدفع الزكاة للفقير وسماها حقا معلوما، ليشعر الغني بالرضا والتسليم، والاطمئنان إلى أخلاقه ومضاعفته، وترفع عن الفقير غضاضة الاستجداء ومهانة السؤال، وتطهر نفسه من رذيلة الحقد على الغني.
ومن ملامح فكر "الإبراهيمي" الإصلاحي تأكيده علي دور المرأة، وإحترام مكانتها وحقوقها من الظلم الذي لحق بها، فهي: (حينا متاع يتخطف، وهي تارة كرة تتلقف، تعتبر أداة للنسل أو مطية للشهوات، وربما كانت حالتها عند العرب أحسن، ومنزلتها أرفع، يرون فيها عاملاً من عوامل ترقيق العواطف وإرهاف النفس، ودواء لكثافة الطبع وبلادة الحس، ويجدون فيها معاني جليلة من السمو الإنساني، وأشعارهم ـ على كثرتها ـ عامرة بالاعتراف بسلطان المرأة على قلوبهم وبشرح المعاني العالية التي يجدونها فيها، وما شاع عنهم من وأد البنات، لم يكن عاماً فاشياً فيهم، وتعليله عند فاعليه يشعر أنه نتيجة حب طغى حتى انحرف، وأثر عقل أسرف في تقدير العواقب، لا نتيجة كراهية لنوع الأنثى، وعلى كل حال فالوأد خطأ كبير، وجريمة شنيعة، وشذوذ في أحكام الرجال خارج عن نطاق الإنسانية).
ويذهب "الشيخ" إلي أن الحرية والإحسان قاعدة عامة في كل شيئ حتي للحيوان الأعجم. فقد حرم الإسلام علي الإنسان أن يحمله مالا يقدر من الأحمال والأعمال، وأن يجيعه أو يعطشه، فإذا فعل فيه شيئا من ذلك بيع عليه جبرا بحكم الحاكم، وأوصي في الرفق بالحيوان وصايا زاجرة، وفي حديث نبوي أن امرأة دخلت النار بسبب هرة أمسكتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من حشائش الأرض، وأن امرأة عاصية لله دخلت الجنة بسبب كلب وجدته يلهث عطشاً على حف بئر فأدلت خفها وسقته، وما من شيء تفعله جمعيات الرفق بالحيوان في هذا العصر إلا وقد سبق الإسلام إلى أكمل منه. ونراه يتحدث: (إن الإسلام هو "دين التحرير العام"، فنرسل هذا الوصف إرسالاً بدون تحفظ ولا استثناء، لأنه الحق الذي قامت شواهده، وتواترت بيناته، ومن شواهده وشهوده: تلك الأجيال التي صحبت محمداً وآمنت به، واتبعت النور الذي أنزل معه، ثم الذين صحبوهم، ثم الذين اتبعوهم بإحسان).
إذن.. "التحرير" الذي ينشده "الإبراهيمي": تحرير عام شامل، يشمل تحرير الإنسان، والأرض، والفرد، والمجتمع.. تحرير الرجل والمرأة، تحرير العقل والبدن، التحرير من الاستعمار الخارجي الذي: (غايته استغلال الأمة، ووسيلته سد أبواب العلم في وجهها حتى يتم له استغلالها)، ومن الاستعمار الداخلي الذي: (يقوم به جماعة من إخواننا يُصلّون لقبلتنا، وغايتهم استغلال الأمة، وصدّها أيضاً عن العلم، ليستمر لهم استغلالها، وهؤلاء الذين شوهوا محاسن الإسلام). وبرايه أن كلا الاستعماران يتبادلان التأييد والمعونة على حساب الأمة الجزائرية المسكينة (أولئك يضلّونها، وهؤلاء يذلّونها، وجميعهم يستغلّونها!!). لقد كان هذا تحريراً نشدته "جمعية العلماء"، وما "الإبراهيمي" إلا: لسانها المُعبِر، وعقلها المفكِر، وداعيتها المذكِر.
فلقد هدِف "الإبراهيمي" من عمله الإصلاحي إعداد الشعب الجزائري ليوم التحرر من الاستعمار الفرنسي، الذي طال ليله، وطّم سيله، وفشا جبروته، الذي جثم علي صدر الجزائر من 1830م وحتي الأستقلال 1962م. ومع ذلك فليس ثمة "إعتذار منه" عن تلك الحقبة الإستعمارية، بل مازال يري له "أيادٍ بيضاء سعت للنهوض بتلك الشعوب/ البربرية/ المتخلفة، فأدخلتها إلي عالم التمدن والمدنية". وسعي "الشيخ" للعمل علي تحرير نفسية الشعب من الخنوع للمحتل، ومن التبعية لثقافته، ومن اليأس من مقاومته، فالحق لا بد أن ينتصر على الباطل. فكان عليه "غرس العزة في الأنفس، واليقين في السرائر، والأمل في القلوب، والبغض للذل والخنوع، والشعور بالسّيادة، والتوق إلى الحرية". وكانت كلمة (الحرية) من الكلمات المحظورة، التي لا يجوز ذكرها كأنما لا توجد في اللغة أصلا. وكان الاستعمار حريصا على إخفائها وإماتتها، حتى جاء جهود "الإبراهيمي، وابن باديس" فأحيوها بعد موتها، ونشروها من قبرها، وأشاعوها بين الناس، وحببّوها إليهم.
كان طبيعياً ومنطقياً أن تبدأ دعوة "البشير" للتحرير عبر إتحاد الجزائر وشعبها أولا في مواجهة الاستعمار الفرنسي، فتوحيد عنصري الوطن: العرب والبربر أمر لازم، وليس ثمة إثارة لخلافات مفرقة، محذرا من مكايد الاستعمار ودسائسه، ومن همزاته ووساوسه، ومن سياسته المعروفة، وشعارها (فرق تسد). ثم دعوته إلى اتحاد الأحزاب الوطنية التي تعمل لتحرير الجزائر: (كل مسلم عربي جزائري مخلص يُؤيدنا في هذا الاتحاد، وَيَودُ منه ما نَوَد، ويَعتقد فيها ما نعتقده، من أنّه المعقل الوحيد للقضية الجزائرية، والوسيلة الوحيدة لنجاحها؛ ويرى ما نرى من آثار التفرق الشنيع الذي شتّت شمل الأمة الضعيفة، فزادها ضعفا على ضعف، في وقت تطلّعتْ فيه إلى المطالبة بحقها، فهي فيه أحوج ما تكون إلى جمع القوى، والتئام الشمل، واتحاد الكلمة).
وبلسان صادق، وبيان دافق، وبرهان ناطق، يقيم الحجة على الخصم، ويخرس لسانه فلا يتكلم، ويفحمه فلا يجادل.. تحدث الشيخ عن "وحدة الشمال الإفريقي"، ولعل تلك الرؤية، ما أسست لقيام "الأتحاد المغاربي"، والذي بحاجة اليوم لمزيد من الجهود الحثيثة لتفعيل دوره لينهض بما رآه منظروه من قبل. وتعبيرا عن ذلك تقرأ لـ"البشير" مقالا في (البصائر): (عروبة الشمال الإفريقي بجميع أجزائه طبيعية، كيفما كانت الأصول التي انحدَرتْ منها الدماء، والينابيع التي انفجرتْ منها الأخلاق والخصائص، والنواحي التي جاءت منها العادات والتقاليد؛ وهي أثبتُ أساسا، وأقدم عهدًا، أصفى عنصرًا من إنكليزية الإنكليز، وألمانية الألمان. كثيرة هي العوامل التي صيّرت هذا الشمال عربيا قارَّ العروبة على الأسس الثابتة : من دين عربي، ولغة عربية، وكتابة عربية، وآداب عربية، ومنازع عربية، وتشريع عربي.. وجاء التاريخ ـ وهو الحكم في مثل هذاـ فشهد وأدَّى، وجاءت الجغرافيا الطبيعية فوصلت هذا الشمال بمنابت العروبة من جزيرة العرب.. وجاء الزمن بثلاثة عشر قرنا، تشهَد سِنوها وأيامها بأنها فرَغتْ من عملها، وتمّ التمام).
وهو حين يدعو إلى وحدة الجزائر، فوحدة المغرب العربي، فوحدة العرب: ينتهي إلى الوحدة الكبرى للأمة، من المحيط إلى المحيط، من جاكرتا إلى مراكش. وفي خطابه الذي ألقاه في "باريس" أمام الوفود العربية الإسلامية في الأمم المتحدة يقول: (أيها الأخوان: إن النقطة التي ابتدأ منها بلاؤنا وشقاؤنا هي أنهم أرادونا على الانقسام، وزينوه لنا كما يزين الشيطان للإنسان سوء عمله، فأطعناهم وانقسمنا، فوسعوا شقة الانقسام بيننا بأموالهم وأعمالهم وآرائهم وعلومهم، ولم يتركوا أداة من أدوات التقسيم إلا حشدوها في هذا السبيل، ولم يغفلوا الأستاذ والكاتب والراهب والمرأة والتاجر والسمسار حتى بلغوا الغاية في تقسيمنا شيعا ودولا وممالك، كما توزع قطعة الأرض الكبيرة الصالحة، إلى قطع صغيرة لا تصلح واحدة منها ولا تكفي، ثم عمدوا إلى خيرات الأرض فاحتكروها لأنفسهم، واستخرجوها بعقولهم المدبِّرة، وأيدينا المسخَّرة، فكان لهم منها حظ العقل، ولنا منها حظ اليد، ولو أننا تعاسرنا عليهم من أول يوم في تقسيمنا، ولذنا بكعبة الوحدة نطوف بها ونلتزم أركانها لما نالوا منها نيلا، ولما وصلنا إلى هذه الحالة).
العمران يستحدث أنواعاً جديدة من المعاملات الدنيوية.
من ركائز فكر "الشيخ" أن العمران والتحضر أستحدث أنواعاً جديدة من المعاملات الدنيوية، وصوراً شتّى من المعايش ووجوه الكسب لم تكن معروفه، ولا عهد للإسلام الفطري بها. فمن سماحة التشريع الإسلامي ومرونته أن تُتناول هذه المستحدثات الجديدة بأنظار جديدة، وتستنبط من أصوله أحكام لفروعها. وكل هذا لا حرج فيه وليس داخلاً فيما نشكوه، بل نحن أول من يقدر قدر تلك الأنظار الصائبة، والمدارك الراقية، ويقيمها دليلاً على اتساع التشريع الإسلامي لمصالح الناس، وصلاحيته لجميع الأزمنة. وهو ينكر على من سد هذا الباب على الأمة، ويشير إلي قدر أولئك الأئمة أصحاب المذاهب الذين هم مفاخر الإسلام. بيد أنهم ليسوا من فرّق المسلمين، وليس هم الذين ألزموا الناس بها، أو فرضوا على الأمة تقليدهم، فحاشاهم من هذا بل نصحوا وبينوا. ولقد حكّموا الدليل ما وجدوا إلى ذلك السبيل، وأتوا بالغرائب في باب الاستنباط والتعليل، والتفريع والتأصيل، ولهم في باب استخراج علل الأحكام، وبناء الفروع على الأصول، وجمع الأشباه بالأشباه، والاحتياط ومراعاة المصالح ما فاقوا به المتشرعين من جميع الأمم.
العصبية العمياء
ونراه يؤكد علي إن من أسباب التفرق "العصبية العمياء".. العصبية المذهبية والعرقية والقبلية والسياسية الخ. ويشير إلي أن التعصب المذهبي طغي شرره في جميع الأقطار العربية الإسلامية، وكان له أسوأ الأثر في تفريق الكلمة (وإن في وجه التاريخ الإسلامي منها لندوبا). ويري أن آثارها في العلوم الإسلامية، فإنها لم تمدها إلا بنوع من الجدل المكابر، لا يسمن ولا يغني من جوع. ولا عاصم من شرور هذه العصبية إلا صرف الناشئة إلى تعليم فقهي يستند على الاستقلال في الاستدلال، وإعدادها لبلوغ مراتب الكمال، وعدم التحجير عليها في استخدام مواهبها إلى أقصى حد.
ولقد اعتمد "الإبراهيمي" في منهجه الإصلاحي على: التوعية/ التنوير، والتربية. وهما في الواقع ركائز جمعية العلماء، فما كان للشيخ أن يحيد عنها.أما التوعية/التنوير، فهي لجماهير الشعب، الذي هو هدف الإصلاح ووسيلته معا، وأما التربية، فهي للطلائع التي ينتظر منها أن تقود معركة التحرير والبناء والتقدم.
وكانت التوعية/ التنوير في نظر "الشيخ" تقوم على فهم الدين فهماً صحيحاً، بحيث تنشئ مسلماً سليم العقيدة، صحيح العبادة، مستقيم السلوك، عزيز النفس، قوي الجسم، حر الإرادة، مستنير العقل، محبا للخير، غيورا على أهله ووطنه ودينه، عالما بمن هو صديقه، ومن هو عدوه. وكان إنشاء هذا الجيل هو قرّة عين الشيخ وإخوانه، ومعقد الأمل في تحقيق النصر على الاستعمار، وما خلّفه من آثار في الأنفس والعقول والحياة. وكانت جولات الشيخ في طول البلاد وعرضها، ودروسه وخطبه ومحاضراته، وأحاديثه الخاصة والعامة، ومقالاته: كلها تدور حول إيقاظ الوعي الديني الحقيقي، وتنقية الفكر الإسلامي من الخرافات والأباطيل والبدع، التي شوّهت وجه الدين الجميل، وأضافت إليه من الزوائد والشوائب ما كدّر صفاءه، ولوث نقاءه، ومن المحدثات ما عسّر الدين الذي أراد الله به اليُسر ولم يرد به العُسر، وما جعل فيه من حرج. ويعدد الشيخ ما قامت به "جمعية العلماء" من أعمال في التعليم العربي والتوعية والتنوير فيقول:
- زادت الجمعية على هذا العمل العام آخر خاصا، وهو العمل على تخريج جيل جديد، يتلقى هذه المعاني في الصغر، ويثبتها بالعلم الصحيح، لتحارب الاستعمار بسلاح من نوع سلاحه وهو العلم، فأسست في هذين العقدين من السنين نحو مائة وخمسين من المدارس الابتدائية للعربية والدين، وشيدتها بمال الأمة، وصيرتها ملكا للأمة، وهي تضم اليوم ما يقرب من خمسين ألف تلميذ، من حملة الشهادات الابتدائية من مدارس الجمعية.
- بما أن المساجد التي هي تراث الأجداد، صادرتها الحكومة الفرنسية وصادرت أوقافها من يوم الاحتلال، فأحالت بعضها كنائس وبعضها مرافق عامة، وهدمت كثيرا منها لتوسيع الشوارع والحدائق، واحتفظت بالباقي لتتخذ منه حبالة تجر أشباه الموظفين الدينيين، وما زالت هي التي تعين الأئمة والخطباء والمؤذنين، ولكنها تستخدمهم في الجاسوسية والمخابرات، وتجري عليهم المرتبات من الخزينة العامة، لذلك التفتت الجمعية إلى هذه الناحية الحيوية وشيدت بمال الأمة نحو سبعين مسجدا في أنحاء القطر، لأداء الشعائر وإلقاء الدروس الدينية، والحكومة الفرنسية تنظر إلى هذه المساجد نظرتها إلى الحصون المسلحة.
- في الجزائر مئات الآلاف من الشبان العرب المسلمين، فاتهم التعليم الديني والعربي، ولا تلقاهم الجمعية في المدارس ولا في المساجد، والاعتناء بهم واجب، فأنشأت لهم الجمعية عشرات من النوادي الجذابة، تلقي عليهم فيها المحاضرات العلمية والدينية، والاجتماعية، وأدّت هذه النوادي أكثر مما تؤديه المدارس والمساجد من التربية والتوجيه.
- أنشأت الجمعية للعمال الجزائريين في باريس وغيرها من مدن فرنسا عشرات من النوادي وزوّدتها بطائفة من الوعاظ والمعلمين من رجالها، يتعلم فيها أولئك العملة ضروريات دينهم ودنياهم، ويتعلم فيها أبناؤهم اللغة العربية تكلما وكتابة، ويتربون على الدين والوطنية، وقد استفحل أمر هذه النوادي وأتت ثمراتها قبل الحرب الأخيرة، ثم قضت عليها الحرب، ثم حاولت الجمعية تجديدها بعد الحرب، غير أن التكاليف المالية تضاعفت، فكان ذلك وحده سببا للعجز.
- أنقذت الجمعية عشرات الآلاف من أبناء الجزائر من الأمية، بوسائل دبرتها ونجحت فيها نجاحا عجيبا، وأن هذا العمل من غُرر أعمالها لأن الأمية تشل الشعوب.
(الإصلاح الديني): الميدان الداخلي أولى بالاهتمام
كان ميدان الكفاح أمام "البشير"- ومعه "ابن باديس"- علي صعيدين: ضد الاستعمار الخارجي، والاستعمار الداخلي حيث استعمار العقول والنفوس والضمائر بالأوهام والضلالات والبدع. فاختار "الشيخان" البدء بالميدان الداخلي، فهو أحق وأولى بالاهتمام: (كانت الحكمة لاختيارنا الميدان الأول، أن موضوع النزاع ديني، ونحن علماء دين يعترف لنا بالإمامة العلمية حتى الاستعمار وأعوانه، ولا يستطيع الاستعمار أن ينتصر لأوليائه في نزاع ديني انتصارا سافرا، وإنما ينتصر لهم بوسائل أخرى لا تؤثر في هدفنا الذي نرمي إليه، وهو انتزاع الأمة من هؤلاء المستغلين لها باسم الدين، وإنقاذها من جبروتهم، وأننا إذا حررناهم من سلطانهم الوهمي، كانت معنا على الاستعمار الخارجي الحقيقي، ومن لم يكن الشعب معه كان مخذولا في كل ميدان... لقد بدأنا هذه الحركة بجنب حركة التعليم الديني العربي، وأطلقنا عليها اسمها الحقيقي، وهو: (الإصلاح الديني) وهو اسم يهيج أصحاب البدع والضلالات من المسلمين في الدرجة الأولى، ويهيج الاستعمار الخارجي في الدرجة الثانية، فكان من تفاوت التهيج فسحة، سرنا فيها خطوات إلى النجاح، وكانت أعمالنا تسير في دائرة ضيقة، لأن الاستعداد لظهور جمعية العلماء لم يتم إذ ذلك، وكان مبدأ العمليات بدروس دينية ومحاضرات).
وكان التنوير والتربية هي الوسيلة المُثْلى لغرس التعاليم التجديدية، ومعها النزعة العروبية والوطنية، في عقول الناشئة وفي قلوبهم. ومقاومة تيار (الفرنسة) الذي يعمل منذ احتل الجزائر على أن يجردها من هويتها الإسلامية والعربية. وذلك بفرض الفرنسية لغة وحيدة في التعليم، وإبعاد العربية تماما عن هذا المجال. وحذف الدين الإسلامي من مجال التربية والتعليم حذفا تاما. فإذا كان التعليم الفرنسي السائد يقصد إلى فرنسة الجزائريين، فإن التعليم الذي قاده من قبل "ابن باديس"، من بعده "الإبراهيمي"، يقصد إلى إعادة الجزائريين إلي (أسلامهم وعروبتهم ووطنيتهم)، وكان شعار جمعية العلماء: "الإسلام ديننا.. العربية لغتنا.. الجزائر وطننا"!. ولذا كان تركيزهم المستمر والدؤوب على إتاحة :التعليم العربي" ليجد له مكاناً ونهوضاً وفرصة بجوار "التعليم الفرنسي" السائد والمهيمن على الساحة كلها. وكانت مناهج التعليم العربي وكتبه ولغته ومعلموه وإدارته والجو المدرسي العام، كلها تصب في هذا الاتجاه، حتى الأناشيد التي تحفظ للطلاب تغرس فيهم هذه المعاني، وتنمي فيهم هذه المشاعر، مثل النشيد المعروف الذي ألفه الإمام "ابن باديس" نفسه:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسبْ
من قال حاد عن أصله أو قال: مات، فقد كذبْ
من حسن حظ الجزائر أنها وهبت رجالا مربين من الطراز الأول وعلي رأسهم"الإمام ابن باديس"(1889-1940م) كما كان يتحدث عنه ويذكر مآثره "الإبراهيمي": (و"عبد الحميد بن باديس"باني النهضة وإمامها: عالم ديني، ولكنه ليس كعلماء الدين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي في قرونه الأخيرة، جمع الله فيه ما تفرّق في غيره في هذا العصر، وأربى عليهم بالبيان الناصع، واللسان المطاوع، والذكاء الخارق، والفكر الولود، والعقل اللماح، والفهم الغواص على دقائق القرآن وأسرار التشريع الإسلامي، والاطلاع الواسع على أحوال المسلمين ومناشئ أمراضهم، وطرق علاجها، والرأي السديد في العلميات والعمليات، من فقه الإسلام وأطوار تاريخه، والإلمام الكافي بمعارف العصر، مع التمييز بين ضارها ونافعها، مع أنه لا يحسن لغة من لغاتها غير العربية، وكان التضلع في العلوم الدينية واستقلاله في فهمها. إماما في العلوم الاجتماعية، يكمل ذلك كله: قلم بليغ شجاع يجاري لسانه في البيان والسحر، فكان من أخطب خطباء العربية وفرسان منابرها، كما كان من أكتب كتابها. وهو من بيت عريق في المجد والعلم، يتصل نسبه الثابت المحقق بـ"المعز بن باديس"، مؤسس الدولة الباديسية الصنهاجية، إلى صنهاجة القبيلة البربرية العظيمة التي حدثناكم عن دولها وأثارها بالجزائر، و"المعز بن باديس" هو جذم الدولة التي كانت بالقيروان، ويزعم بعض النسّابين أنها يمنية وقعت إلى شمال إفريقيا في إحدى الموجات التي رمى بها الشرق الغرب من طريق برزخ السويس في الأولين، كما رماه بالموجة الهلالية في الآخرين).
ما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تخرّج على عينهم جيل من الشبان، لهم حظوظهم من العلم النظري، ولكنهم طراز واحد في العمل، وصحة التفكير، والانقطاع للجهاد. وكان من طريقتهم في التنوير والتربية: أن يرمون إلى تصحيح الفكر، وصقل العقل، وترقية الروح، وتقوية الخلق، وتسديد الاتجاه في الحياة، واستخراج من قواعد العلوم التعليمية قواعد للاجتماع، وينتزع منها دروسا في التربية والأخلاق. لقد تم بهذا الأمر ، وفي زمن قصير، تم إخراج جيلا جزائرياً يفهم الحياة، ويطلبها عزيزة شريفة، ويتدرع إليها بالأخلاق المتينة، وقد كان تدريبهم على الأعمال النافعة، ولتلامذته إلى اليوم سمات بارزة في إتقان الدعوة الإصلاحية، التي أعلنتها جمعية العلماء في حياته، وفي صدق الاتجاه، وفي إتقان صناعة التعليم على طريقته. وهم الرعيل الأول في الثورة الفكرية الجارفة، التي نقلت الجزائر من حال إلى حال.
وكان "الشيخ الإبراهيمي" يؤمن بالتوعية والتنوير والتربية والتعليم منهاجا للإصلاح، ولا يكتفي بمجرد الخطب الرنانة، والكلمات المسجوعة، أو الدعايات الحزبية. لذا فبعد موت رفيقه "ابن باديس" قاد "الإبراهيمي" سفينة التربية والتعليم، فكان يعلم بنفسه أحيانا، ويوجه المعلمين، ويؤلف في التربية، وصنف كتابا باسم (مرشد المعلمين) قدمه أحد أبناء الجمعية (ا. محمد الغسيري) فقال : وضع أستاذنا الجليل "الإبراهيمي" رئيس جمعية العلماء، برنامجا حافلا للتعليم العربي بجميع أنواعه، وضمّنه أصولا عظيمة من علم التربية، وقد سألناه منذ عامين: أن يجرد لنا فصولا عملية تتعلق بالسنوات الست الابتدائية ففعل، وسلّمه لنا لنطبعه وننتفع به، وطالعناه فلم نجده كالبرامج المعتادة، وإنما هو "معلم مكتوب". فهو يأخذ بيد المعلم ويسير به خطوة بخطوة إلى الغاية لا يضل عنها ولا يجوز، وكأنما هو "ملقن" من وراء المعلم يملي عليه الكلام ويرشده إلى كيفية العمل، لذلك آثر جماعة من قدماء المعلمين تسميته (مرشد المعلمين).
العمل الجماعي/ المجتمعي/ المدني: ضرورة
وكان يؤمن كذلك، كما آمن رفيقه (بالعمل الجماعي/ المجتمعي/ المدني) ضرورة وشرطاً للنجاح وتحقيق الرجاء. فالعمل الفردي ـ مهما يصحبه من الإتقان محدود ـ الأثر، محصور القدرة، مقيد الإمكانات، ولكن إذا تضامّت الجهود، وتلاحمت القوى، أصبحت اللبنات المتفرقة بنيانا مرصوصا، يشد بعضه بعضا. فالعمل الجماعي/ المجتمعي (المدني) أقدر على إنجاز المشروعات الكبيرة، وتحقيق الآمال الطموحة، مما لا يستطيع الأفراد ـ وإن بلغوا ما بلغواـ أن يحققوه. وها هو الإبراهيمي يعدد في مقال ما قامت به (جمعية العلماء) من منجزات جليلة:
- مائة وثلاثون مدرسة عربية مجهزة بكل الأسباب المادية العصرية اللازمة للمدارس، وبجهاز آخر من المعنويات أعظم منها شأنا وأجل خطرا، وبجند من المعلمين الأكفاء قوامه: مائتان وخمسون معلما، من بينهم عشرات النوابغ في التعليم والإدارة، ومشحونة بزهاء ثلاثين ألف تلميذ من أبناء الأمة بنين وبنات، يتلقون مبادئ الدين الصحيح، ومبادئ العربية الفصيحة: نطقا وكتابة وإنشاء، ويتربون على الوطنية الحقيقية وعلى الهداية الإسلامية والآداب العربية، ويتكوّن منهم جيل مسلّح بالعلم، ثابت العقيدة، قوي العزيمة في العمل.. ويزيد في قيمة هذه الحصون العلمية أن الأمة تملك أعيان نحو الخمسين منها، وتملك الانتفاع بالباقي على وجه الكراء. وسبعة وثلاثون مدرسة أخرى شرعت الأمة الإسلامية في تشييدها في هذه السنة، وفيها ما يحتوي على ستة عشر قسما، وفيها ما تقدر نفقاته بخمسة عشر مليونا من الفرنكات.
- معهد تجهيزي عظيم، يخطو إلى الرقي والكمال في نظامه وبرامجه وأساتذته وتلامذته. يؤوي من تخرجه تلك المدارس، ليزود الأمة منهم بالوعاظ والمرشدين والخطباء، ويزود ـ بالمؤهلات ـ الطامحين منهم إلى المزيد من العلم. وجمعيات بلغت المئات، مقسمة على العلم والأدب والرياضة، تبث في الأمة: النظام، والإدارة، وآداب الاجتماع، وديمقراطية الانتخاب، وتعلمها كيف تناقش، وكيف تصوغ الرأي، وكيف تدافع عنه، وكيف تنقضه بالحجة، وكيف تزن الأفكار، وكيف تحاسب العاملين؟. وتدربها على التدرج من الإدارات الصغرى إلى الإدارات الكبرى. لأن الأمة التي لا تحسن إدارة جمعية صغيرة، لا تحسن بالطبع إدارة مجلس فضلا عن حكومة.
- ونواد بلغت العشرات، غايتها إصلاح ما أُفسد من أخلاق الشباب، وكلها ميادين للعمل، وحاثات علي العلم والتعليم. وآلاف من الشباب العربي المسلم كان كالمجهول في نسبه، وكالجاهل لحسبه، ففتحت المحاضرات الحية أذهانه على تاريخ أسلافه وفتقت ألسنته على آدابهم، فتقاسم على أن يقفو الأثر، ويجدد ما اندثر، وأقبل على العلم حتى إذا ضاقت به الجزائر فارقها كالنحلة، ترحل إلى المكان السحيق، لترجع إلى خليتها بالرحيق.
هموم وقضايا الأمة العربية والإسلامية : ساحة وميداناً
كان الإمام "الإبراهيمي" يجاهد في معركة كبيرة، كَثُر فيها الخصوم والأعداء، وقل فيها الأعوان والنصراء، وشحذت فيها أسلحة كثيرة من قبل هؤلاء الأعداء، المجهّزين بكل ما تطلبه المعركة. فهم مجهزون بالعلم والمال، والمكر والخديعة، والعدد والعدة، والتكاتف والتعاضد. فهم يختلفون فيما بينهم على أمور شتى، ولكن إذا كان العدو هو (الآخر): اتفقت كلمتهم، والتأم شملهم، وتوحد صفهم، ونسوا ما بينهم من خلافات جانبية. ومما ضاعف من صعوبة هذه المعركة وشدتها وخطرها: أن ساحتها واسعة، مساحتها (الأمة الإسلامية) على امتداد أقطارها، وتباعد أطرافها، وتنوع عروقها، وتعدد لغاتها.
ولذا كان اهتمامه بكل قضايا الأمة، وعلى رأسها قضيتها المحورية: قضية أرض الإسراء والمعراج والأقصى، والقدس: فلسطين، التي خصّها بالمزيد من الاهتمام فهو يعيش فيها، وتعيش فيه، يذكر بمحنتها، ويحامي عن حقها، ويحرض العرب والمسلمين على الذود عن حياضها، ويدعو الجزائريين خاصة أن ينهضوا بواجبهم نحوها، ولا يتخاذلوا عن نصرتها بكل ما يستطيعون. كان هذا موقفه قبل أن تقوم دولة الكيان الصهيوني، وبعد أن قامت.
كتب في البصائر في العدد (5) سنة 1947م: (يا فلسطين! إن في قلب كل مسلم جزائري من قضيتك جروحا دامية، وفي جفن كل مسلم جزائري من محنتك عبرات هامية، وعلى لسان كل مسلم جزائري في حقك كلمة مترددة هي: فلسطين قطعة من وطني الإسلامي الكبير قبل أن تكون قطعة من وطني العربي الصغير؛ وفي عنق كل مسلم جزائري لك – يا فلسطين – حق واجب الأداء، وذمام متأكد الرعاية، فإن فرّط في جنبك، أو ضاع بعض حقك، فما الذنب ذنبه، وإنما هو ذنب الاستعمار الذي يحول بين المرء وأخيه، والمرء وداره، والمسلم وقبيلته. يا فلسطين ! إذا كان حب الأوطان من أثر الهواء والتراب، والمآرب التي يقضيها الشباب، فإن هوى المسلم لك أن فيك أولى القبلتين، وأن فيك المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وإنك كنت نهاية المرحلة الأرضية، وبداية المرحلة السماوية، من تلك المرحلة الواصلة بين السماء والأرض صعودا، بعد رحلة آدم الواصلة بينهما هبوطا ؛ وإليك إليك ترامت هِمم الفاتحين، وترامت الأيْنُق الذللُ بالفاتحين، تحمل الهدى والسلام، وشرائع الإسلام، وتنقل النبوة العامة إلى أرض النبوات الخاصة، وثمار الوحي الجديد، إلى منابت الوحي القديم، وتكشف عن الحقيقة التي كانت وقفت عند تبوك بقيادة محمد بن عبد الله، ثم وقفت عند مؤتة بقيادة زيد بن حارثة، فكانت الغزوتان تحويما من الإسلام عليك، وكانت الثالثة وردا، وكانت النتيجة أن الإسلام طهّرك من رجس الرومان، كما طهر أطراف الجزيرة قبلك من رجس الأوثان)26.
ودائما ما كان "الشيخ" يتحدث عن قومه وقضاياهم ومآسيهم التي تُؤرق عليه ليله، وتكدر عليه نهاره، يقول: "والحقيقة هي أني كلما أظلّني عيد من أعيادنا الدينية أو القومية – أظلّتني معه سحابة من الحزن لحال قومي، وما هم عليه من التخاذل والانحلال والبعد عن الصالحات، والقرب من الموبقات. وقومي هم العرب أولا، والمسلمون ثانيا، فهم شغل خواطري، وهم مجال سرائري وهم مالئو أرجاء نفسي، ومالكو أزمة تفكيري. أفكِّر في قومي العرب فأجدُهم يتخبّطون في داجية لا صباح لها، ويُفتَنون في كل عام مرةً أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون، وأراهم لا ينقلون قدما إلى أمام، إلا تأخروا خطوات إلى وراء، وقد أنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأمة الوكعاء من الحرائر، عجزت أن تتسامى لعلاهن، أو تتحلى بحلاهن، فحصرت همها في إثارة غيرة حرة على حرة، وتسخير نفسها لضَرّة، نكاية في ضرة، وأفكر في علة هذا البلاء النازل بهم، وفي هذا التفرق المبيد لهم، فأجدها آتية من كبرائهم وملوكهم، ومن المعوقين منهم الذين أشربوا في قلوبهم الذل، فرئموا الضيم والمهانة، واستحبوا الحياة الدنيا فرضوا بسفافها، ونزل الشرف من نفوسهم بدار غريبة فلم يقيم، ونزل الهوان منها بدار إقامة فلم يَرِم ؛ وأصبحوا يتوهمون كل حركة من إسرائيل، أشباحا من عزرائيل". وأفكّر في قومي المسلمين فأجدهم قد ورثوا من الدين قشورا بلا لباب، وألفاظا بلا معان ؛ ثم عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى زواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته الخالصة فموّهوها بالتضليل، وإلى وحدته الجامعة فمزّقوها بالمذاهب والطرق والنحل والشيع ؛ قد نصبوا من الأموات هياكل يفتتنون بها ويقتتلون حولها، ويتعادون لأجلها ؛ وقد نسوا حاضرهم افتنانا بماضيهم، وذهلوا عن أنفسهم اعتمادا على أوليهم، ولم يحفلوا مستقبلهم لأنه – زعموا – غيب، والغيب لله، وصدق الله وكذبوا، فما كانت أعمال محمد وأصحابه إلا للمستقبل، وما غرس محمد شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه من ثمارها، ولكن زرع الأولون، ليجني الآخرون. وهم على ذلك إذ طوقتهم أوروبا بأطواق من حديد، وسامتهم العذاب الشديد، وأخرجتهم من زمرة الأحرار إلى حظيرة العبيد، وورثت بالقوة والكيد والصولة والأيد – أرضهم وديارهم، واحتجنت أموالهم وخيرات أوطانهم، وأصبحوا غرباء فيها، حظهم منها حظ الأوكس، وجزائهم منها جزاء الأبخس".
ويتابع بقوله:"إن من يفكر في حال المسلمين، ويسترسل مع خواطره إلى الأعماق – يفضي به التفكير إلى إحدى نتيجتين: إما أن ييأس فيكفر، وإما أن يجن فيستريح! وجاء هذا العيد. .. والهوى في مراكش يأمر وينهي، والطغيان في الجزائر بلغ المنتهى، والكيد في تونس يسلط الأخ على أخيه، وينام ملء عينيه، والأيدي العابثة في ليبيا تمزق الأوصال، وتداوي الجروح بالقروح، وفرعون في مصر يحاول المحال، ويطاول في الآجال ؛ ومشكلة فلسطين أكلة خبيثة في وجه الجزيرة العربية، تسري وتستشري ؛ والأردن قنطرة عبور، للويل والثبور، وسوريا ولبنان يتبادلان القطيعة، والحجاز مطمح وراث متعاكسين، ونهزة شركاء متشاكسين، وقد أصبحت حماية (بيته)، معلقة بحماية زيته، واليمن السعيدة شقية بأمرائها، مقتولة بسيوفها ؛ والعراق، أعيا داؤه الراق ؛ وتركيا لقمة في لهوات ضيغم، وهي تستدفع تيارا بتيار، وتستجير من الرمضاء بالنار، وفارس طريدة ليثين يتخاطران، وباكستان لم تزمع التشمير، حتى رهصت بكشمير؛ والأفغان تحاول الكمال، فيصدها الخوف من الشمال، وجاوة لم تزل تحبو، تنهض وتكبو، وتومض وتخبو". .."هذه ممالك العروبة والإسلام، كثرت أسماؤها، وقل غناؤها ؛ وهذه أحوال العرب والمسلمين، الذين يقبل عليهم العيد فيقبل بعضهم على بعض، يتقارضون التهاني، ويتعللون بالأماني ؛ أفلا أعذر إذا لقيت الأعياد بوجه عابس، ولسان بكي، وقلم جاف، وقلب حزين؟".
ولا يكتفي "الشيخ" بحمل هموم الإسلام وأمته في العالم الإسلامي فقط، بل تمتد همته وافقه، إلى الأقليات الإسلامية في الغرب، وكأنه يرقب ببصيرته حال تلك الأقليات اليوم في فرنسا وغيرها من دول اوربا وأمريكا، فتراه يعمل لتلك الأقليات، ويسعي لتعليم أبنائهم العربية والحفاظ علي الهوية، ويكتب: "الإسلام روح تجري؛ ونفحة تسري، وحقيقة ليس بين قبولها إلا مواجهتها لها، وليس بين النفوس وبين الإذعان لها إلا إشراقها عليها من مجاليها الأولى".
حديثه عن السياسة وتقويمه لها
يرى "البشير" أن للسياسة بعدين: أحدهما متّجه إلى العلو, والآخر هابط إلى الدون, ومساحة ما بين الطرفين كلها مشمول بمعناها. أما بعدها الصاعد إلى الأعلى , فيتمثل في سياسة إحياء المبادئ التي أهملت أو ضعف سلطانها , من دين ولغة وأخلاق, وارتباط بماضي التراث وتجديد لحاضره, وتعهد لعوامل التضامن والوحدة, ونبذ لأسباب الفرقة والنزاع, فهذا هو البعد الذي يجب أن يسعى إليه العاملون في حقل الدعوة , الناهضون لبناء المجتمع الصالح المصلح. أما بعدها الهابط إلى الدون, فهو ذاك الذي يصير إلى التنافس على الرئاسة والتهافت على كرسي النيابة, وما يتبع ذلك من ذيول المناقشات الفارغة والجدل الموقظ للأضغان والإحن, والمناورات والعصبيات التي تتسابق إلى الامتيازات والحظوظ,، دون تنفيذ الوعود، وهذا هو البعد الذي