إعداد: الدكتور خالد احمد الشنتوت
- 1
من أهم المصطلحات المستخدمة في الفكر السياسي الإسلامي القديم والمعاصر ، فمن هم أهل العقد والحل .
ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية بهذا التريب ( العقد والحل ) مرة ، ومرة ( الحل والعقد ) يقول : ( والإمامة تنعقد من وجهين : أحدهما باختيار أهل العقد والحل . والثاني بعهد الإمام من قبل : فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد ، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد بع الإمامة منهم على مذاهب شتى ، فقالت طائفة لاتنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد .... ثم يقول : فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار ...
أما لماذا سُمِّيَ هؤلاء بأهل الحل والعقد ؟ فهذه تسمية ابتكرها علماء الشريعة المسلمون، وليس عليها نص صريح في القرآن أو السنة، ومن استدل عليها بنص أو حديث أو بما يشبه النص، فإنما كان ذلك على سبيل التوسع والتأويل. ولم نهتدِ إلى أول من وضع هذا التعبير أو أول من أطلقه، وكل ما عثرنا عليه من إشارات ليس فيها الدلالة الكافية في كتب أصول الفقه.
ولما كان أهل الحل والعقد يستندون في سلطتهم إلى مبدأ الشورى فقد ذهب البعض إلى تسميتهم " بأهل الشورى"، وهي تسمية أفضل وأوضح، وإن كنا سنلتزم بالتسمية الشائعة؛ لأنها المُعِيْنَة على البحث في كتب الفقه والتراث، مع ذهابنا إلى أن تطوير المفهوم ليكون "أهل الشورى" وتحريره وتطويره أمر لازم لأولي التخصص.
وقد استخدم الماوردي في نفس الموضع مصطلح ( أهل الاختيار ) ويبدو أنه يقصد بهم أهل العقد والحل يقول : ( فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم ، ... وإن لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان : أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا إماماً للأمة ، والثاني أهل الإمامةحتى ينتصب أحدهم للإمامة ، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم ... ) فأهل الاختيار هم الذين يختارون الإمام ، وسبق معنا قوله ( والإمامة تنعقد من وجهين : أحدهما باختيار أهل العقد والحل... ) وهذا يدعونا إلى القول أن أهل الاختيار عند الماوردي هم أهل العقد والحل .
ويستخدم الماوردي أيضاً مصطلح أهل الشورى ويقصد به الذين أوكل لهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختيار الخليفة من بعده ، وهؤلاء أشبه بمكتب أهل العقد والحل ، حيث أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه شاور العشرات من غير هؤلاء ، أي أن أهل العقد والحل أوسع من أهل الشورى الذين أوكل لهم عمر مهمة اختيار الخليفة .
يقول الدكتور صلاح الصاوي يحفظه الله : ( يذكر النووي رحمه الله أن أهل الحل والعقد هم العلماء والرؤساء ووجوه الناس ، ويعلل ذلك بقوله : لأن الأمر ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس ( نهاية المحتاج للرملي 7/120) . ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم أصحاب الأمر وذووه ، وأن ذلك يشترك فيه صنفان من الناس أهل القدرة وأهل العلم ، فيدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل متبوع مطاع ... ) ويلاحظ الباحث أن هذا المصطلح يختلط بمصطلح أولي الأمر عند العلماء القدامي .
يقول الصاوي والمتأمل في هذه المقولات يستطيع أن يخلص بما يلي :
أن أهل الحل والعقد هم أهل الزعامة الدينية والدنيوية في الأمة ، وهم أصحاب الحل والعقد وذووه ، ممن إذا رضوا رضي الناس ، وإذا اجتمعت كلمتهم أوكلمة جمهورهم على الأقل اجتمعت باجتماعها كلمة الأمة ؛ فمن لاحل عنده ولاعقد لديه فلا دخول له في هذه الطائفة ... وهذا التعبير ينتظم طائفتين من الناس : أهل العلم الذين يتبعهم الناس لما لهم من الفقه في الدين والدعوة إليه والإنكار على من خالفه . وأهل القدرة الذين يتبعهم الناس لما لهم من الثقل السياسي والاجتماعي في الأمة ، وتعبير أهل القدرة ينتظم كذلك فريقين : أهل الخبرة في الشئون العامة ، ومن لهم قيادة أو رياسة في الناس كزعماء البيوت والأسر وشيوخ القبائل ورؤساء المجموعات ونحوها ( مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي لحسن البنا ) .
أهل الحل والعقد في واقعنا المعاصر :
هم كل متبوع مطاع في واقع العمل الإسلامي ممن تحقق لديه الحد الأدنى من الانتساب إلى جماعة المسلمين في إطارها العلمي وذلك بالالتزام المجمل بالإسلام عقيدة وشريعة ، والإنكار على الخارجين عليه ، وعدم التزامه ابتداء بفرقة ضالة كالخوارج أو الروافض ونحوه ... ويتمثل هؤلاء في الواقع في قادة الدعوات ، ومن كتب الله لهم قبولاً عاماً بين الناس من العلماء والدعاة وإن لم يكن لهم انتساب إلى مدرسة بعينها من مدارس العمل الإسلامي المعاصر ، كما يتمثلون في وجهاء الناس وأولو المكانة والخبرة في الأمة وموضع الثقة من سوادها الأعظم وممن صح انتسابهم إلى الجماعة في إطارها العلمي ( ص33 جماعة المسلمين ، صلاح الصاوي )
ثم يقول الصاوي : ناقلاً عن الماوردي في الأحكام السلطانية (ص5) ( وأهل الحل والعقد هم أهل الاختيار يشترط فيهم مايشترط في أهل الاختيار من العدالة ، والعلم ، والكفاية والرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار الأصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف )
=============================
أهل الحل والعقد - 2
أهل الحل والعقد وصنع القرار
اقتبس بعضه من موقع إسلام أون لاين بتصرف كبير
بما أن صنع القرار في الدولة يسير في ركب أهدافها؛ إذ ترمي من ورائه إلى تحقيق هذه الأهداف مرحليًّا أو نهائيًّا، فإنه من الطبيعي أن تختلف هذه العملية ونوعية القرارات في الدولة الإسلامية عنها في غيرها من الدول.
والإسلام في الواقع لم يغلق باب فاعلية ومبادرة الإنسان في مجال التشريع، وإنما حدد إطاره، فثَمَّة قسم من أمور الحياة الإنسانية أصدر القرآن والسنة فيه حكمًا قاطعًا، وفي مثل هذا الأمور لا يستطيع أي فقيه أن يُغَيِّر ما صدر فيهما من أحكام ، بل فقط ينظم إدارة التطبيق وتنظيم شئونه.. أي سياساته. لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يستطيع التحرك في ميدان التشريع في كثير من الأمور، فدائرة العفو والتجديد والاجتهاد في مستجدات الحياة وفق مقاصد الشرع مفتوحة.
هناك إذاً مجال للتشريع والتقنين في الدولة الإسلامية، ونستطيع أن نقسم القرارات في الدولة الإسلامية إلى أنواع ثلاثة وفق معيار النص عليها في الشريعة ودرجاته.
1 - قرارات تنفيذية لأمور ورد فيها نص في الكتاب والسنة:
فما جاء فيه نص، قضى فيه النصُ وخرج عن اختصاص البشر، فلا يمكن أن يكون محلاًّ للشورى (صناعة القرار).
2 - قرارات في أمور لم يَرِدْ فيها نص، وهذه الأمور تنقسم إلى:
- أمور فنية يغلب عليها التخصص كالزراعة والصناعة والتعليم والناحية العسكرية والطبية والإدارية وأمثالها، وهذه مسألة عقلية تعتمد على المعلومات السابقة والخبرة والتمرس والتجربة والفهم للواقع والقدرات الفردية كالذكاء وسرعة البديهة وقوة الربط بين أطراف الموضوع ووضوح الرؤية.
- أمور عامة : يتحملها العامة، وهذه يتجلى سلطان الأمة فيها، ويُقضى فيها غالبًا برأي الأغلبية.
والقرارات التي تدور في إطار ما لم يرد فيه نص تنقسم من حيث درجتها إلى:
- مسائل لم تُدلِ فيها الشريعة بحكم، لكنها أصدرت حكمًا في أمور تشابهها، وتكون ممارسة التشريع في هذا القسم بفهم أسباب الأحكام وعللها فهمًا عميقًا، وتنفيذها في الأمور التي تكمن فيها نفس العلل والدواعي، وتحديد ما هو مُسْتَثْنَى من هذه الأمور وما يخلو حقيقة من أسباب الحكم ودواعيه.
- مسائل لم تتبنَّ فيها الشريعة أحكامًا بعينها، وإنما أعطت في شأنها بعض المبادئ العامة الجامعة، أو بَيَّن فيها الشارع المُسْتَحب المطلوب فعله، والمكروه الذي ينبغي منعه وإزالته.
ومهمة التشريع في هذه الدائرة فهم مبادئ الشريعة وأصولها في هذه المسائل، ثم وضع القوانين في الأمور الواقعية الفعلية، بحيث تُبْنَى على ما أوضحته الشريعة من أصول ومبادئ وبحث يتحقق منها القصد الذي أراده الشارع وهدفه، أي الاستنباط للأحكام من روح التشريع.
- مسائل سكتت الشريعة عنها تمامًا، فليس فيها حكم صريح أو قياسي أو مستنبط، وهذا السكوت في حد ذاته دليل على أن الله تعالى أعطى الإنسان حق إبداء رأيه في أمور ومسائل هذا القسم، ومن ثَمَّ يمارس الإنسان التشريع فيها ضمن حدود الشريعة .
وهذا يعني تفرد الدولة الإسلامية بالنظر إلى نوعية القرارات بنطاق لا مجال فيه لصناعة القرار إلا في إطار النص، حيث توجد نصوص ملزمة من القرآن والسنة، وهو ما لا يميز الحكومات الأخرى سواء الليبرالية أم الشيوعية. فالأغلبية لا تستطيع في ظل الحكومة الإسلامية أن تتعدى حكمًا شرعيًّا، على حين أنه لا توجد حدود شرعية في الحكومات غير الإسلامية لدرجة إباحة الزنا بل الشذوذ، وهو ما لا يُطرح أساسًا للبحث في إطار الدولة الإسلامية ما دام هناك نص.
أهل الحل والعقد وعملية صنع القرار
لما كانت الشورى دعامة من دعائم الإيمان وصفة من الصفات المميزة للمسلمين، فقد سَوَّى الله بينها وبين الصلاة والإنفاق في قوله "وَالَّذِيْنَ اسْتَجَابُوْا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوْا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُوْن" [الشورى: 38]، وكما كان الله تعالى قد أوجبها على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ينزل عليه الوحي بالتشريع والتوجيه، وحل المشكلات في قوله: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر…" [آل عمران: 159]، فإن الشورى تصبح إذاً فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين، فعلى الحاكم أن يستشير في كل أمور الحكم والإدارة والسياسة والتشريع، وكل ما يتعلق بمصلحة الأفراد أو المصلحة العامة.
تعريف أهل الحل والعقد :
لقد أوجب الإسلام الشورى، ولكن من هم أولئك الذين يجب أن يستشاروا ؟ إننا لا نجد في الآيات القرآنية ولا في الأحاديث النبوية نصًّا صريحًا يحددهم بصورة مفصلة أو حتى يشير إليهم إشارة عامة مجملة؛ لذلك كان علينا أن نرجع إلى ما جرت عليه السنة العملية أي في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وما جرى عليه من بعده الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين، كما علينا الرجوع إلى ما ذكره كبار المفسرين وإلى ما يراه علماء الفقه الإسلامي.
ومِنَ استعراض الوقائع التاريخية يثبت أن أهل الشورى من الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين [أي أهل الحل والعقد] يضمون عناصر أو فئات مختلفة تكونت بطريقة طبيعية تدريجية .
أولاً: السابقون الأولون إلى اعتناق الإسلام بمكة.
ثانيًا: الممتازون بخدماتهم وتضحياتهم وبصيرتهم وفراستهم.
ثالثاً: أصحاب النفوذ من الأنصار الذين دعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد إسلامهم إلى الهجرة إلى المدينة، وذلك بعد أن عملوا على نشر الإسلام بالمدينة.
أما في عصرنا الحالي فبما أن سلطة التشريع في الدولة الإسلامية هي السلطة التي تتولى استنباط الأحكام الشرعية ، فإن هذه السلطة يتولاها كل قادر على استنباط الأحكام للوقائع وفقًا لما يتفق والأصول العامة للشريعة الإسلامية، ووفقًا لما يحقق أهدافها في التيسير على الناس ودفع الحرج عنهم وتحقيق غاياتها في إسعاد البشرية، وهذا يتطلب أن يكون مُتولِّي وضع القوانين في دولة الإسلام عالمًا بأحكام الشريعة الإسلامية فاهمًا لأغراضها ومراميها، وهو أمر ينطبق على العلماء والباحثين في شتى المجالات، وكبار قادة الجند، وكبار القضاة، وبذلك تكون سلطة التشريع قد جمعت شتى التخصصات، ويكون للعلماء والمجتهدين استنباط الأحكام الشرعية للوقائع بعد استلهام روح الشريعة ومشاورة المتخصصين، كما لا نغفل رؤوس الناس والطوائف والحرف، أي قيادات ما يسمى الآن "بالمجتمع المدني" .
وقد رأى كل من الإمام ابن تيمية في السلف والإمام محمد عبده في المتأخرين أن أهل الحل والعقد هم الذين أشار إليهم القرآن ب "أُولِي الأَمْر" في قول الله تعالى: "وَأَطِيْعُوْا اللهَ وَأَطِيْعُوْا الرَّسُوْلَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم…".
فرأى ابن تيمية - رحمه الله - أنهم "الأمراء نواب ذي السلطان، والقضاة، وأمراء الأجناد، وولاة الأموال، والكتاب، والسعاة على الخراج والصدقات"، وبذلك وسَّع من نطاقهم ليشملوا كل من يلي أمرًا من أمور المسلمين، وبالتالي نقلنا من مفهوم "الصفوة" وضع القرار على مستوى الدولة ككل، إلى التسلسل في الولاية، ووضع القرار بمفهومه الشامل في كل جانب من جوانب الدولة.
أما الإمام محمد عبده فقد رأى أن أولى الأمر - وهم أهل الحل والعقد - هم: الأمراء، والحكام، والعلماء، ورؤساء الجند، وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر وجب أن يطاعوا بشرط أن يكونوا مسلمين "أولي الأمر منكم"، وأن لا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسول الله التي عُرِفَت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في مجتمعهم في الأمر واتفاقهم عليه، وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة.
شروط أهل الحل والعقد
يجب أن يتوفر في أهل الحل والعقد عدة شروط، أجمع عليها تقريبًا علماء الشريعة، هي:
1 – العدالة : والعدالة هي التحلي بالفرائض والفضائل والتخلي عن المعاصي والرذائل، وعمَّا يخل بالمروءة أيضًا.
2 – العلم : يشترط أن يتوفر العلم في أهل الحل والعقد، والعلم المقصود هو العلم بمعناه الواسع؛ فيدخل فيه علم الدين وعلم السياسة وغيرهما من العلوم، ولا يشترط أن يكون العالم منهم ملمًّا بكل العلوم.
3 - الرأي والحكمة : وأن يكون ممن عُرِفَ بجودة الرأي والحكمة، ولا يشترط فيه أن يكون من ذوي العصبة؛ لأن أساس الشورى هو الرأي الصحيح الحكيم المتفق مع الشرع المجرد من الهوى والعصبية.
وإلى جانب هذه الشروط العامة اللازمة لأهل الحل والعقد يجب أن يتصفوا بعدة صفات هي في مجملها:
- الفطنة والذكاء ؛ لئلا تشتبه عليهم الأمور فتلتبس، فلا يصح مع اشتباهها عزم ولا يتم في التباسها عزم.
- الأمانة ؛ لئلا يخونوا فيما ائتمنوا عليه، ويفشوا فيما استنصحوا فيه.
- الصدق ؛ ليثق الملك فيما ينهون عنه، ويعمل برأيهم فيما أشاروا به عليه.
تنظيم أهل الحل والعقد
لما كان أمر التشريع في الدولة الإسلامية من الأمور الاختصاصية، أي التي لا يمكن أن تقوم بها الأمة كلها، فقد وجب أن ينوب عنها في تصريف شئونها فئة منها، وأولئك هم أهل الحل والعقد. ولكن كيف يتم تنظيمهم؟
رأى أغلبية أهل السلف أن أهل الحل والعقد هم أولي الأمر على كافة مستوياتهم في الدولة كما أشرنا آنفًا لرأي ابن تيمية، وهذا يعني أن أمر اختيارهم موكول إلى الخليفة، ثم يتولى كل صاحب أمر أو منصب اختيار مَن هم دونه بطريقة تسلسلية.
ويرى أغلب الكتاب المعاصرين في نظرية ونظام الحكم الإسلامي أن أهمية أهل الحل والعقد ودورهم في تعيين مصير البلاد والشعب، يقتضي أن ينتخب (يبايع) الناسُ نوابَهم ومندوبيهم في "مجلس الشورى" أو "مجلس النواب" وفق أسس دقيقة ذكرها الدين في نصوصه
إذا تَمَّ الاتفاق إذًا على أن أفضل الطرق لإيجاد فريق أهل الحل والعقد الذي يقع على عاتقه التشاور في التدابير المهمة والخطيرة ورسم سياسة الدولة هو الاختيار الحر بالانتخاب، تثور بعد ذلك مسألتان: الأولى هي صفة جمهور المنتخبين، والثانية هي شروط الترشيح والدخول في مجال اختيار الأمة.
أما عن صفة جمهور المنتخبين فلا بد أن يتصفوا بالبلوغ في السن، والرشد في الفكر، إلا أنه يجب كذلك أن يُربَّى الجمهور تربية فكرية تؤهلهم للانتخاب الصحيح حتى لا ينتخبوا للإمامة أو لعضوية مجلس أهل الحل والعقد أو مجلس الشورى، إلا أناساً يحوزون الأهلية حسب روح الدستور الذي يحكم الدولة الإسلامية. وأن يربى المسلمون على تأصيل الانتخاب في الإسلام ليكون الانتخاب أمانة وشهادة .
ويرى أبو الأعلى المودودي أنه لا ينتخب لأي منصب من مناصب المسئولية أو عضوية مجلس الشورى (أهل الحل والعقد) من يرشح نفسه لذلك، أو يسعى فيه سعيًا ما، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "إنا والله لا نُوَلِّي هذا الأمر أحدًا سأله أو حرص عليه"، وإن المجتمع الإسلامي لا مجال فيه للدعايات الانتخابية أصلاً، وإن مما يَمَجُّه الذوق الإسلامي وتأباه العقلية الإسلامية أن يقدح المرشحون في بعضهم البعض للفوز بالمنصب، وأن يمدحوا أنفسهم في نشرات خاصة لذلك.
ورأى الكثير من أساتذة القانون الدستوري الحديث أن التنظيم المعاصر لا يتنافى مع الشريعة الإسلامية، بشرط أن ينص صراحة في الدساتير على بطلان كل تشريع يخالف القواعد الكلية التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية، ويكفي إنشاء مجلس من كبار العلماء الذين يُوثَق في علمهم وفي دينهم وأخلاقهم؛ لتعرض عليه التشريعات قبل إصدارها من البرلمان؛ ليقرر ما إذا كانت تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وفي حالة التعارض عليه أن يجد الحل البديل الذي يحقق مصالح الناس؛ لأنه حيث توجد المصلحة (المنضبطة وليس المتوهمة) فثَمَّ شرع الله تعالى.
وفي بعض الدول ينتخب قسم من ( أهل الشورى ) من قبل الشعب ، ويعين قسم آخر من قبل الحاكم ، وتختلف النسب باختلاف الدول ، وفي بعض الدول أيضاً يوجد مجلسان أحدهما مجلس النواب أو الشعب أو أهل الشورى ، ومجلس آخر يسمونه مجلس الشيوخ أو مجلس الأمة ( كما في الجزائر ) ، وفي الغالب يعين بعض أعضاء مجلس الشيوخ من قبل الحاكم وينتخب الباقون ....
وليتحملني القراء الكرام عندما أقول يعين الحاكم بعضهم ، ويتذكروا انتخابات قريبة
في بلاد العالم الثالث ، حصل فيها الرئيس على ( 100%) ، وبعضها حصل على (9ر99%) وبعضها (7ر97) ولاتجد أقل من هذه النسب ، لأن الناخبين لايفقهون معنى الانتخاب ، ولم يسمعوا أن الانتخاب شهادة حق يثاب عليها الشاهد أو شهادة زور تعدل الشرك بالله ، ونحن السبب لأننا لم نقل لهم ذلك ، نسأل الله المغفرة ...
============================
أهل الحل والعقد - 3
هل قرارات أهل الحل والعقد ملزمة ؟
وبعبارة أخرى هل الشورى ملزمة أم معلمة فقط ؟
تقضى الأمور في مجالس أهل الحل والعقد بغالبية الآراء في عامة الأحوال، فإذا تَمَّ التوصل إلى رأي، فهل يصبح هذا الرأي ملزماً لرئيس الدولة ؟ بمعنى : هل الشورى وكل ما يدور في فلكها من أهل الحل والعقد وقراراتهم : ملزمة أم غير ملزمة؟
مدار الحديث والكتابات التي تناولت مدى إلزامية قرارات أهل الحل والعقد تحت هذا المسمى أو تحت مسمى إلزامية الشورى، الآية الكريمة في سورة آل عمران "وَشَاوِرْهُمْ فِيْ الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله…" [آل عمران: 159]. فيرى البعض أن هذا الخطاب للرسول ولأمته، وأن الشورى ملزمة للرئيس ولأمته، وأن الشورى ملزمة لرئيس الدولة، ورأى البعض الآخر أن قوله: " فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ…" ترُدُّ القرار النهائي للرسول صلى الله عليه وسلم وبالتبعية لولاة الأمر من بعده من للخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين ومن تبعهم. وسنتناول حجج كِلا الرأيين.
1- الشورى ملزمة :
يرى أصحاب الرأي الأول أن الشورى فرض على أهل الحكم والسلطة، دل على ذلك فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) وفعل الصحابة (رضي الله عنهم)، وأن رئيس الدولة الذي يُعْرَض عنه يتعين على الأمة خلعه حتى قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف عليه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: " وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى بَيْنَهُمْ".
وهذا رأي لا خلاف عليه، فلم ينكر أحد أن الشورى واجبة، إنما ثار الجدل حول "ما بعد الشورى" أي ما يعرف في النظم السياسية المعاصرة ب "اتخاذ القرار".
وأبو الأعلى المودودي يرى أن قاعدة "وأمرهم شورى بينهم" تتطلب خمسة أمور:
1 - أن ينال الناس الحرية الكاملة في التعبير عن آرائهم.
2 - أن مسئولية تصريف شئون المجتمع لا بد وأن تُلْقَى على كاهل من يتم تعيينه واختياره برضا الناس الحقيقي.
3 - أن يختار للتشاور مع القائد أولئك الذين يحصلون على ثقة الشعب.
4 - أن يشير هؤلاء الممثلون بما يمليه عليهم علمهم وإيمانهم وضميرهم وأن ينالوا حرية الرأي كاملة تامة.
5 - وينتهي المودودي إلى أنه ينبغي التسليم بما يجمع عليه أهل الشورى أو أكثريتهم، أما أن يستمع ولي الأمر إلى آراء جميع أهل الشورى، ثم يختار ما يراه هو نفسه بحرية تامة، فإن الشورى في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها.
فالله لم يقل: تؤخذ آراؤهم ومشورتهم في أمورهم. وإنما قال: "وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى بَيْنَهُمْ" يعني أن تسير أمورهم بتشاورهم فيما بينهم، وتطبيق هذا القول الإلهي لا يتم بأخذ الرأي فقط، وإنما من الضروري لتنفيذه وتطبيقه أن تجري الأمور وفق ما يتقرر بالإجماع أو بالأكثرية، مع إعادة التنبيه على أن الشورى محددة بحدود الدين.
أي أنه لو أجمع الآن أهل الحل والعقد أو أكثرهم بالفعل على توضيح وتفسير نص شرعي، أو قياسي، أو اجتهاد أو استنباط أو إجراء أو مصلحة في مسألة ما ، فلا بد من أن يصير إجماعهم حجة ويُعترف به قانونًا.
2- الشورى معلمة ( غير ملزمة ) :
أما الرأي الثاني فيرى أصحابه أن التشاور أمر، وإصدار القرار وإبرامه أمر آخر، وذلك راجع إلى فردية القيادة في الإسلام، وواقع الرأي الذي تجري فيه المشورة.
فإذا كان الرأي موضع القرار أمرًا من أمور التشريع يؤخذ بالرأي الأقوى دليلاً، إلا أن الذي يجعل من الرأي الأقوى دليلاً قانونًا ينفذ على المسلمين إنما هو رئيس الدولة وحده، والدليل على ذلك ما حدث في صلح الحديبية لما عارض المسلمون ما أبرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش، فاتبع الوحي وضرب برأيهم عُرض الحائط، وكذلك ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين عزم على قتال المرتدين، فقد حكم بالدليل الراجح عنده برغم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان عنده دليل.
[ وأرد على هؤلاء بأن يوم الحديبية وحي من الله لامجال فيه للشورى ، وقد دل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : يابن الخطاب إني رسول الله ولست أعصيه [ أي أن الله أمرني ] ، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً . قال عمر أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، فأخبرتك أنا نأتيه هذا العام ؟ قال : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به ] الرحيق المختوم ص 301
الشورى ملزمة والاستشارة معلمة :
وقد حسم هذا الخلاف الدكتور توفيق الشاوي جزاه الله خيراً في كتابه ( الشورى والاستشارة ) ، وخلاصته أن الشورى في الأمور العامة التي تصدر عن أهل الحل العقد ( المجلس النيابي ) أو ( أهل الشورى أو أهل الحل والعقد ) ملزمة ، أي يخضع لقرارها رئيس الدولة ، وكذلك الأعضاء المخالفين أو ( الأقلية ) عليها الخضوع لقرار الأكثرية ...
أما الاستشارة فهي مايقدمه الخبراء لرئيس الدولة ، كل في تخصصه ، حيث يوضح الأمور لرئيس الدولة ، ومن ثم للرئيس الحق في العمل بهذه الاستشارة أو عدم العمل بها ، فهي نصيحة مقدمة من خبير واحد ، وليست من مجلس الشورى ، كمن يستشير شخصاً في شأن خاص ، فالمستشار مؤتمن ويجب عليه أن يقدم النصيحة واضحة جلية ، والمستشير حر في العمل بهذه النصيحة أو عدم العمل بها . وإذن الاستشارة معلمة ( غير ملزمة ) ، أما الشورى فهي ملزمة ...
-------------------
هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها
- 1
من أهم المصطلحات المستخدمة في الفكر السياسي الإسلامي القديم والمعاصر ، فمن هم أهل العقد والحل .
ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية بهذا التريب ( العقد والحل ) مرة ، ومرة ( الحل والعقد ) يقول : ( والإمامة تنعقد من وجهين : أحدهما باختيار أهل العقد والحل . والثاني بعهد الإمام من قبل : فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد ، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد بع الإمامة منهم على مذاهب شتى ، فقالت طائفة لاتنعقد إلا بجمهور أهل العقد والحل من كل بلد .... ثم يقول : فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار ...
أما لماذا سُمِّيَ هؤلاء بأهل الحل والعقد ؟ فهذه تسمية ابتكرها علماء الشريعة المسلمون، وليس عليها نص صريح في القرآن أو السنة، ومن استدل عليها بنص أو حديث أو بما يشبه النص، فإنما كان ذلك على سبيل التوسع والتأويل. ولم نهتدِ إلى أول من وضع هذا التعبير أو أول من أطلقه، وكل ما عثرنا عليه من إشارات ليس فيها الدلالة الكافية في كتب أصول الفقه.
ولما كان أهل الحل والعقد يستندون في سلطتهم إلى مبدأ الشورى فقد ذهب البعض إلى تسميتهم " بأهل الشورى"، وهي تسمية أفضل وأوضح، وإن كنا سنلتزم بالتسمية الشائعة؛ لأنها المُعِيْنَة على البحث في كتب الفقه والتراث، مع ذهابنا إلى أن تطوير المفهوم ليكون "أهل الشورى" وتحريره وتطويره أمر لازم لأولي التخصص.
وقد استخدم الماوردي في نفس الموضع مصطلح ( أهل الاختيار ) ويبدو أنه يقصد بهم أهل العقد والحل يقول : ( فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم ، ... وإن لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان : أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا إماماً للأمة ، والثاني أهل الإمامةحتى ينتصب أحدهم للإمامة ، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم ... ) فأهل الاختيار هم الذين يختارون الإمام ، وسبق معنا قوله ( والإمامة تنعقد من وجهين : أحدهما باختيار أهل العقد والحل... ) وهذا يدعونا إلى القول أن أهل الاختيار عند الماوردي هم أهل العقد والحل .
ويستخدم الماوردي أيضاً مصطلح أهل الشورى ويقصد به الذين أوكل لهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختيار الخليفة من بعده ، وهؤلاء أشبه بمكتب أهل العقد والحل ، حيث أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه شاور العشرات من غير هؤلاء ، أي أن أهل العقد والحل أوسع من أهل الشورى الذين أوكل لهم عمر مهمة اختيار الخليفة .
يقول الدكتور صلاح الصاوي يحفظه الله : ( يذكر النووي رحمه الله أن أهل الحل والعقد هم العلماء والرؤساء ووجوه الناس ، ويعلل ذلك بقوله : لأن الأمر ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس ( نهاية المحتاج للرملي 7/120) . ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم أصحاب الأمر وذووه ، وأن ذلك يشترك فيه صنفان من الناس أهل القدرة وأهل العلم ، فيدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل متبوع مطاع ... ) ويلاحظ الباحث أن هذا المصطلح يختلط بمصطلح أولي الأمر عند العلماء القدامي .
يقول الصاوي والمتأمل في هذه المقولات يستطيع أن يخلص بما يلي :
أن أهل الحل والعقد هم أهل الزعامة الدينية والدنيوية في الأمة ، وهم أصحاب الحل والعقد وذووه ، ممن إذا رضوا رضي الناس ، وإذا اجتمعت كلمتهم أوكلمة جمهورهم على الأقل اجتمعت باجتماعها كلمة الأمة ؛ فمن لاحل عنده ولاعقد لديه فلا دخول له في هذه الطائفة ... وهذا التعبير ينتظم طائفتين من الناس : أهل العلم الذين يتبعهم الناس لما لهم من الفقه في الدين والدعوة إليه والإنكار على من خالفه . وأهل القدرة الذين يتبعهم الناس لما لهم من الثقل السياسي والاجتماعي في الأمة ، وتعبير أهل القدرة ينتظم كذلك فريقين : أهل الخبرة في الشئون العامة ، ومن لهم قيادة أو رياسة في الناس كزعماء البيوت والأسر وشيوخ القبائل ورؤساء المجموعات ونحوها ( مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي لحسن البنا ) .
أهل الحل والعقد في واقعنا المعاصر :
هم كل متبوع مطاع في واقع العمل الإسلامي ممن تحقق لديه الحد الأدنى من الانتساب إلى جماعة المسلمين في إطارها العلمي وذلك بالالتزام المجمل بالإسلام عقيدة وشريعة ، والإنكار على الخارجين عليه ، وعدم التزامه ابتداء بفرقة ضالة كالخوارج أو الروافض ونحوه ... ويتمثل هؤلاء في الواقع في قادة الدعوات ، ومن كتب الله لهم قبولاً عاماً بين الناس من العلماء والدعاة وإن لم يكن لهم انتساب إلى مدرسة بعينها من مدارس العمل الإسلامي المعاصر ، كما يتمثلون في وجهاء الناس وأولو المكانة والخبرة في الأمة وموضع الثقة من سوادها الأعظم وممن صح انتسابهم إلى الجماعة في إطارها العلمي ( ص33 جماعة المسلمين ، صلاح الصاوي )
ثم يقول الصاوي : ناقلاً عن الماوردي في الأحكام السلطانية (ص5) ( وأهل الحل والعقد هم أهل الاختيار يشترط فيهم مايشترط في أهل الاختيار من العدالة ، والعلم ، والكفاية والرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار الأصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف )
=============================
أهل الحل والعقد - 2
أهل الحل والعقد وصنع القرار
اقتبس بعضه من موقع إسلام أون لاين بتصرف كبير
بما أن صنع القرار في الدولة يسير في ركب أهدافها؛ إذ ترمي من ورائه إلى تحقيق هذه الأهداف مرحليًّا أو نهائيًّا، فإنه من الطبيعي أن تختلف هذه العملية ونوعية القرارات في الدولة الإسلامية عنها في غيرها من الدول.
والإسلام في الواقع لم يغلق باب فاعلية ومبادرة الإنسان في مجال التشريع، وإنما حدد إطاره، فثَمَّة قسم من أمور الحياة الإنسانية أصدر القرآن والسنة فيه حكمًا قاطعًا، وفي مثل هذا الأمور لا يستطيع أي فقيه أن يُغَيِّر ما صدر فيهما من أحكام ، بل فقط ينظم إدارة التطبيق وتنظيم شئونه.. أي سياساته. لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يستطيع التحرك في ميدان التشريع في كثير من الأمور، فدائرة العفو والتجديد والاجتهاد في مستجدات الحياة وفق مقاصد الشرع مفتوحة.
هناك إذاً مجال للتشريع والتقنين في الدولة الإسلامية، ونستطيع أن نقسم القرارات في الدولة الإسلامية إلى أنواع ثلاثة وفق معيار النص عليها في الشريعة ودرجاته.
1 - قرارات تنفيذية لأمور ورد فيها نص في الكتاب والسنة:
فما جاء فيه نص، قضى فيه النصُ وخرج عن اختصاص البشر، فلا يمكن أن يكون محلاًّ للشورى (صناعة القرار).
2 - قرارات في أمور لم يَرِدْ فيها نص، وهذه الأمور تنقسم إلى:
- أمور فنية يغلب عليها التخصص كالزراعة والصناعة والتعليم والناحية العسكرية والطبية والإدارية وأمثالها، وهذه مسألة عقلية تعتمد على المعلومات السابقة والخبرة والتمرس والتجربة والفهم للواقع والقدرات الفردية كالذكاء وسرعة البديهة وقوة الربط بين أطراف الموضوع ووضوح الرؤية.
- أمور عامة : يتحملها العامة، وهذه يتجلى سلطان الأمة فيها، ويُقضى فيها غالبًا برأي الأغلبية.
والقرارات التي تدور في إطار ما لم يرد فيه نص تنقسم من حيث درجتها إلى:
- مسائل لم تُدلِ فيها الشريعة بحكم، لكنها أصدرت حكمًا في أمور تشابهها، وتكون ممارسة التشريع في هذا القسم بفهم أسباب الأحكام وعللها فهمًا عميقًا، وتنفيذها في الأمور التي تكمن فيها نفس العلل والدواعي، وتحديد ما هو مُسْتَثْنَى من هذه الأمور وما يخلو حقيقة من أسباب الحكم ودواعيه.
- مسائل لم تتبنَّ فيها الشريعة أحكامًا بعينها، وإنما أعطت في شأنها بعض المبادئ العامة الجامعة، أو بَيَّن فيها الشارع المُسْتَحب المطلوب فعله، والمكروه الذي ينبغي منعه وإزالته.
ومهمة التشريع في هذه الدائرة فهم مبادئ الشريعة وأصولها في هذه المسائل، ثم وضع القوانين في الأمور الواقعية الفعلية، بحيث تُبْنَى على ما أوضحته الشريعة من أصول ومبادئ وبحث يتحقق منها القصد الذي أراده الشارع وهدفه، أي الاستنباط للأحكام من روح التشريع.
- مسائل سكتت الشريعة عنها تمامًا، فليس فيها حكم صريح أو قياسي أو مستنبط، وهذا السكوت في حد ذاته دليل على أن الله تعالى أعطى الإنسان حق إبداء رأيه في أمور ومسائل هذا القسم، ومن ثَمَّ يمارس الإنسان التشريع فيها ضمن حدود الشريعة .
وهذا يعني تفرد الدولة الإسلامية بالنظر إلى نوعية القرارات بنطاق لا مجال فيه لصناعة القرار إلا في إطار النص، حيث توجد نصوص ملزمة من القرآن والسنة، وهو ما لا يميز الحكومات الأخرى سواء الليبرالية أم الشيوعية. فالأغلبية لا تستطيع في ظل الحكومة الإسلامية أن تتعدى حكمًا شرعيًّا، على حين أنه لا توجد حدود شرعية في الحكومات غير الإسلامية لدرجة إباحة الزنا بل الشذوذ، وهو ما لا يُطرح أساسًا للبحث في إطار الدولة الإسلامية ما دام هناك نص.
أهل الحل والعقد وعملية صنع القرار
لما كانت الشورى دعامة من دعائم الإيمان وصفة من الصفات المميزة للمسلمين، فقد سَوَّى الله بينها وبين الصلاة والإنفاق في قوله "وَالَّذِيْنَ اسْتَجَابُوْا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوْا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُوْن" [الشورى: 38]، وكما كان الله تعالى قد أوجبها على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ينزل عليه الوحي بالتشريع والتوجيه، وحل المشكلات في قوله: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر…" [آل عمران: 159]، فإن الشورى تصبح إذاً فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين، فعلى الحاكم أن يستشير في كل أمور الحكم والإدارة والسياسة والتشريع، وكل ما يتعلق بمصلحة الأفراد أو المصلحة العامة.
تعريف أهل الحل والعقد :
لقد أوجب الإسلام الشورى، ولكن من هم أولئك الذين يجب أن يستشاروا ؟ إننا لا نجد في الآيات القرآنية ولا في الأحاديث النبوية نصًّا صريحًا يحددهم بصورة مفصلة أو حتى يشير إليهم إشارة عامة مجملة؛ لذلك كان علينا أن نرجع إلى ما جرت عليه السنة العملية أي في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وما جرى عليه من بعده الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين، كما علينا الرجوع إلى ما ذكره كبار المفسرين وإلى ما يراه علماء الفقه الإسلامي.
ومِنَ استعراض الوقائع التاريخية يثبت أن أهل الشورى من الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين [أي أهل الحل والعقد] يضمون عناصر أو فئات مختلفة تكونت بطريقة طبيعية تدريجية .
أولاً: السابقون الأولون إلى اعتناق الإسلام بمكة.
ثانيًا: الممتازون بخدماتهم وتضحياتهم وبصيرتهم وفراستهم.
ثالثاً: أصحاب النفوذ من الأنصار الذين دعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد إسلامهم إلى الهجرة إلى المدينة، وذلك بعد أن عملوا على نشر الإسلام بالمدينة.
أما في عصرنا الحالي فبما أن سلطة التشريع في الدولة الإسلامية هي السلطة التي تتولى استنباط الأحكام الشرعية ، فإن هذه السلطة يتولاها كل قادر على استنباط الأحكام للوقائع وفقًا لما يتفق والأصول العامة للشريعة الإسلامية، ووفقًا لما يحقق أهدافها في التيسير على الناس ودفع الحرج عنهم وتحقيق غاياتها في إسعاد البشرية، وهذا يتطلب أن يكون مُتولِّي وضع القوانين في دولة الإسلام عالمًا بأحكام الشريعة الإسلامية فاهمًا لأغراضها ومراميها، وهو أمر ينطبق على العلماء والباحثين في شتى المجالات، وكبار قادة الجند، وكبار القضاة، وبذلك تكون سلطة التشريع قد جمعت شتى التخصصات، ويكون للعلماء والمجتهدين استنباط الأحكام الشرعية للوقائع بعد استلهام روح الشريعة ومشاورة المتخصصين، كما لا نغفل رؤوس الناس والطوائف والحرف، أي قيادات ما يسمى الآن "بالمجتمع المدني" .
وقد رأى كل من الإمام ابن تيمية في السلف والإمام محمد عبده في المتأخرين أن أهل الحل والعقد هم الذين أشار إليهم القرآن ب "أُولِي الأَمْر" في قول الله تعالى: "وَأَطِيْعُوْا اللهَ وَأَطِيْعُوْا الرَّسُوْلَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم…".
فرأى ابن تيمية - رحمه الله - أنهم "الأمراء نواب ذي السلطان، والقضاة، وأمراء الأجناد، وولاة الأموال، والكتاب، والسعاة على الخراج والصدقات"، وبذلك وسَّع من نطاقهم ليشملوا كل من يلي أمرًا من أمور المسلمين، وبالتالي نقلنا من مفهوم "الصفوة" وضع القرار على مستوى الدولة ككل، إلى التسلسل في الولاية، ووضع القرار بمفهومه الشامل في كل جانب من جوانب الدولة.
أما الإمام محمد عبده فقد رأى أن أولى الأمر - وهم أهل الحل والعقد - هم: الأمراء، والحكام، والعلماء، ورؤساء الجند، وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر وجب أن يطاعوا بشرط أن يكونوا مسلمين "أولي الأمر منكم"، وأن لا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسول الله التي عُرِفَت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في مجتمعهم في الأمر واتفاقهم عليه، وأن يكون ما يتفقون عليه من المصالح العامة.
شروط أهل الحل والعقد
يجب أن يتوفر في أهل الحل والعقد عدة شروط، أجمع عليها تقريبًا علماء الشريعة، هي:
1 – العدالة : والعدالة هي التحلي بالفرائض والفضائل والتخلي عن المعاصي والرذائل، وعمَّا يخل بالمروءة أيضًا.
2 – العلم : يشترط أن يتوفر العلم في أهل الحل والعقد، والعلم المقصود هو العلم بمعناه الواسع؛ فيدخل فيه علم الدين وعلم السياسة وغيرهما من العلوم، ولا يشترط أن يكون العالم منهم ملمًّا بكل العلوم.
3 - الرأي والحكمة : وأن يكون ممن عُرِفَ بجودة الرأي والحكمة، ولا يشترط فيه أن يكون من ذوي العصبة؛ لأن أساس الشورى هو الرأي الصحيح الحكيم المتفق مع الشرع المجرد من الهوى والعصبية.
وإلى جانب هذه الشروط العامة اللازمة لأهل الحل والعقد يجب أن يتصفوا بعدة صفات هي في مجملها:
- الفطنة والذكاء ؛ لئلا تشتبه عليهم الأمور فتلتبس، فلا يصح مع اشتباهها عزم ولا يتم في التباسها عزم.
- الأمانة ؛ لئلا يخونوا فيما ائتمنوا عليه، ويفشوا فيما استنصحوا فيه.
- الصدق ؛ ليثق الملك فيما ينهون عنه، ويعمل برأيهم فيما أشاروا به عليه.
تنظيم أهل الحل والعقد
لما كان أمر التشريع في الدولة الإسلامية من الأمور الاختصاصية، أي التي لا يمكن أن تقوم بها الأمة كلها، فقد وجب أن ينوب عنها في تصريف شئونها فئة منها، وأولئك هم أهل الحل والعقد. ولكن كيف يتم تنظيمهم؟
رأى أغلبية أهل السلف أن أهل الحل والعقد هم أولي الأمر على كافة مستوياتهم في الدولة كما أشرنا آنفًا لرأي ابن تيمية، وهذا يعني أن أمر اختيارهم موكول إلى الخليفة، ثم يتولى كل صاحب أمر أو منصب اختيار مَن هم دونه بطريقة تسلسلية.
ويرى أغلب الكتاب المعاصرين في نظرية ونظام الحكم الإسلامي أن أهمية أهل الحل والعقد ودورهم في تعيين مصير البلاد والشعب، يقتضي أن ينتخب (يبايع) الناسُ نوابَهم ومندوبيهم في "مجلس الشورى" أو "مجلس النواب" وفق أسس دقيقة ذكرها الدين في نصوصه
إذا تَمَّ الاتفاق إذًا على أن أفضل الطرق لإيجاد فريق أهل الحل والعقد الذي يقع على عاتقه التشاور في التدابير المهمة والخطيرة ورسم سياسة الدولة هو الاختيار الحر بالانتخاب، تثور بعد ذلك مسألتان: الأولى هي صفة جمهور المنتخبين، والثانية هي شروط الترشيح والدخول في مجال اختيار الأمة.
أما عن صفة جمهور المنتخبين فلا بد أن يتصفوا بالبلوغ في السن، والرشد في الفكر، إلا أنه يجب كذلك أن يُربَّى الجمهور تربية فكرية تؤهلهم للانتخاب الصحيح حتى لا ينتخبوا للإمامة أو لعضوية مجلس أهل الحل والعقد أو مجلس الشورى، إلا أناساً يحوزون الأهلية حسب روح الدستور الذي يحكم الدولة الإسلامية. وأن يربى المسلمون على تأصيل الانتخاب في الإسلام ليكون الانتخاب أمانة وشهادة .
ويرى أبو الأعلى المودودي أنه لا ينتخب لأي منصب من مناصب المسئولية أو عضوية مجلس الشورى (أهل الحل والعقد) من يرشح نفسه لذلك، أو يسعى فيه سعيًا ما، فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "إنا والله لا نُوَلِّي هذا الأمر أحدًا سأله أو حرص عليه"، وإن المجتمع الإسلامي لا مجال فيه للدعايات الانتخابية أصلاً، وإن مما يَمَجُّه الذوق الإسلامي وتأباه العقلية الإسلامية أن يقدح المرشحون في بعضهم البعض للفوز بالمنصب، وأن يمدحوا أنفسهم في نشرات خاصة لذلك.
ورأى الكثير من أساتذة القانون الدستوري الحديث أن التنظيم المعاصر لا يتنافى مع الشريعة الإسلامية، بشرط أن ينص صراحة في الدساتير على بطلان كل تشريع يخالف القواعد الكلية التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية، ويكفي إنشاء مجلس من كبار العلماء الذين يُوثَق في علمهم وفي دينهم وأخلاقهم؛ لتعرض عليه التشريعات قبل إصدارها من البرلمان؛ ليقرر ما إذا كانت تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وفي حالة التعارض عليه أن يجد الحل البديل الذي يحقق مصالح الناس؛ لأنه حيث توجد المصلحة (المنضبطة وليس المتوهمة) فثَمَّ شرع الله تعالى.
وفي بعض الدول ينتخب قسم من ( أهل الشورى ) من قبل الشعب ، ويعين قسم آخر من قبل الحاكم ، وتختلف النسب باختلاف الدول ، وفي بعض الدول أيضاً يوجد مجلسان أحدهما مجلس النواب أو الشعب أو أهل الشورى ، ومجلس آخر يسمونه مجلس الشيوخ أو مجلس الأمة ( كما في الجزائر ) ، وفي الغالب يعين بعض أعضاء مجلس الشيوخ من قبل الحاكم وينتخب الباقون ....
وليتحملني القراء الكرام عندما أقول يعين الحاكم بعضهم ، ويتذكروا انتخابات قريبة
في بلاد العالم الثالث ، حصل فيها الرئيس على ( 100%) ، وبعضها حصل على (9ر99%) وبعضها (7ر97) ولاتجد أقل من هذه النسب ، لأن الناخبين لايفقهون معنى الانتخاب ، ولم يسمعوا أن الانتخاب شهادة حق يثاب عليها الشاهد أو شهادة زور تعدل الشرك بالله ، ونحن السبب لأننا لم نقل لهم ذلك ، نسأل الله المغفرة ...
============================
أهل الحل والعقد - 3
هل قرارات أهل الحل والعقد ملزمة ؟
وبعبارة أخرى هل الشورى ملزمة أم معلمة فقط ؟
تقضى الأمور في مجالس أهل الحل والعقد بغالبية الآراء في عامة الأحوال، فإذا تَمَّ التوصل إلى رأي، فهل يصبح هذا الرأي ملزماً لرئيس الدولة ؟ بمعنى : هل الشورى وكل ما يدور في فلكها من أهل الحل والعقد وقراراتهم : ملزمة أم غير ملزمة؟
مدار الحديث والكتابات التي تناولت مدى إلزامية قرارات أهل الحل والعقد تحت هذا المسمى أو تحت مسمى إلزامية الشورى، الآية الكريمة في سورة آل عمران "وَشَاوِرْهُمْ فِيْ الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله…" [آل عمران: 159]. فيرى البعض أن هذا الخطاب للرسول ولأمته، وأن الشورى ملزمة للرئيس ولأمته، وأن الشورى ملزمة لرئيس الدولة، ورأى البعض الآخر أن قوله: " فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ…" ترُدُّ القرار النهائي للرسول صلى الله عليه وسلم وبالتبعية لولاة الأمر من بعده من للخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين ومن تبعهم. وسنتناول حجج كِلا الرأيين.
1- الشورى ملزمة :
يرى أصحاب الرأي الأول أن الشورى فرض على أهل الحكم والسلطة، دل على ذلك فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) وفعل الصحابة (رضي الله عنهم)، وأن رئيس الدولة الذي يُعْرَض عنه يتعين على الأمة خلعه حتى قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف عليه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: " وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى بَيْنَهُمْ".
وهذا رأي لا خلاف عليه، فلم ينكر أحد أن الشورى واجبة، إنما ثار الجدل حول "ما بعد الشورى" أي ما يعرف في النظم السياسية المعاصرة ب "اتخاذ القرار".
وأبو الأعلى المودودي يرى أن قاعدة "وأمرهم شورى بينهم" تتطلب خمسة أمور:
1 - أن ينال الناس الحرية الكاملة في التعبير عن آرائهم.
2 - أن مسئولية تصريف شئون المجتمع لا بد وأن تُلْقَى على كاهل من يتم تعيينه واختياره برضا الناس الحقيقي.
3 - أن يختار للتشاور مع القائد أولئك الذين يحصلون على ثقة الشعب.
4 - أن يشير هؤلاء الممثلون بما يمليه عليهم علمهم وإيمانهم وضميرهم وأن ينالوا حرية الرأي كاملة تامة.
5 - وينتهي المودودي إلى أنه ينبغي التسليم بما يجمع عليه أهل الشورى أو أكثريتهم، أما أن يستمع ولي الأمر إلى آراء جميع أهل الشورى، ثم يختار ما يراه هو نفسه بحرية تامة، فإن الشورى في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها.
فالله لم يقل: تؤخذ آراؤهم ومشورتهم في أمورهم. وإنما قال: "وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى بَيْنَهُمْ" يعني أن تسير أمورهم بتشاورهم فيما بينهم، وتطبيق هذا القول الإلهي لا يتم بأخذ الرأي فقط، وإنما من الضروري لتنفيذه وتطبيقه أن تجري الأمور وفق ما يتقرر بالإجماع أو بالأكثرية، مع إعادة التنبيه على أن الشورى محددة بحدود الدين.
أي أنه لو أجمع الآن أهل الحل والعقد أو أكثرهم بالفعل على توضيح وتفسير نص شرعي، أو قياسي، أو اجتهاد أو استنباط أو إجراء أو مصلحة في مسألة ما ، فلا بد من أن يصير إجماعهم حجة ويُعترف به قانونًا.
2- الشورى معلمة ( غير ملزمة ) :
أما الرأي الثاني فيرى أصحابه أن التشاور أمر، وإصدار القرار وإبرامه أمر آخر، وذلك راجع إلى فردية القيادة في الإسلام، وواقع الرأي الذي تجري فيه المشورة.
فإذا كان الرأي موضع القرار أمرًا من أمور التشريع يؤخذ بالرأي الأقوى دليلاً، إلا أن الذي يجعل من الرأي الأقوى دليلاً قانونًا ينفذ على المسلمين إنما هو رئيس الدولة وحده، والدليل على ذلك ما حدث في صلح الحديبية لما عارض المسلمون ما أبرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش، فاتبع الوحي وضرب برأيهم عُرض الحائط، وكذلك ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين عزم على قتال المرتدين، فقد حكم بالدليل الراجح عنده برغم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان عنده دليل.
[ وأرد على هؤلاء بأن يوم الحديبية وحي من الله لامجال فيه للشورى ، وقد دل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : يابن الخطاب إني رسول الله ولست أعصيه [ أي أن الله أمرني ] ، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً . قال عمر أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، فأخبرتك أنا نأتيه هذا العام ؟ قال : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به ] الرحيق المختوم ص 301
الشورى ملزمة والاستشارة معلمة :
وقد حسم هذا الخلاف الدكتور توفيق الشاوي جزاه الله خيراً في كتابه ( الشورى والاستشارة ) ، وخلاصته أن الشورى في الأمور العامة التي تصدر عن أهل الحل العقد ( المجلس النيابي ) أو ( أهل الشورى أو أهل الحل والعقد ) ملزمة ، أي يخضع لقرارها رئيس الدولة ، وكذلك الأعضاء المخالفين أو ( الأقلية ) عليها الخضوع لقرار الأكثرية ...
أما الاستشارة فهي مايقدمه الخبراء لرئيس الدولة ، كل في تخصصه ، حيث يوضح الأمور لرئيس الدولة ، ومن ثم للرئيس الحق في العمل بهذه الاستشارة أو عدم العمل بها ، فهي نصيحة مقدمة من خبير واحد ، وليست من مجلس الشورى ، كمن يستشير شخصاً في شأن خاص ، فالمستشار مؤتمن ويجب عليه أن يقدم النصيحة واضحة جلية ، والمستشير حر في العمل بهذه النصيحة أو عدم العمل بها . وإذن الاستشارة معلمة ( غير ملزمة ) ، أما الشورى فهي ملزمة ...
-------------------
هذه الدراسة تعبر عن رأي كاتبها