أولا: مذهب المانعين:
1-الأدلة من القرآن ومدى دلالتها على التحريم:
الدليل الأول:
قال تعالى: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولائك لهم عذاب مهين".
الدليل الثاني:
قوله تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" في معرض مدح المؤمنين
الدليل الثالث:
قوله تعالى: "والذين لا يشهدون الزور".
الدليل الرابع:
قوله تعالى: "واستفزز من استطعت منهم بصوتك".
الدليل الخامس:
قوله تعالى: "وأنتم سامدون"
الأدلة القرآنية لمحرمي الغناء ومدى دلالتها
الدليل الأول:
قال تعالى: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولائك لهم عذاب مهين".
وجه الاستدلال:
صح عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أن: (لهو الحديث) في الآية هو الغناء ,وأقسم ابن مسعود على ذلك فقال: هو –والله- الغناء! ذكر ذلك ابن القيم وغيره ثم نقل عن الحاكم في التفسير من المستدرك قوله: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند.
وقال في موضع آخر من كتابه: هو عندنا في حكم المرفوع.
قال ابن القيم: وهذا –وإن كان فيه نظر- فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم (انظر إغاثة اللهفان لابن القيم ج1 ص 258).
وذكر الواحدي: أن أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء وهو قول مجاهد وعكرمة (انظر المصدر السابق ص 257 وانظر سنن البيهقي (10/223) وقد زاد: إبراهيم النخعي).
وقفات مع الاستدلال:
الأولى:
أن هذا ليس هو التفسير الوحيد للآية فقد فسره بعضهم بأن المراد به:أخبار وقصص الأعاجم وملوكهم وملوك الروم ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث –أحد مشركي قريش العتاة- يحدث به أهل مكة يشغلهم به عن القرآن وقد ذكر ذلك ابن القيم نفسه.
الثانية:
أننا لا نسلم أن تفسير الصحابي في حكم المرفوع إلا فيما كان من سبب نزول ونحوه بل هو في الغالب فهم له في القرآن كثيرا ما يعارضه غيره من الصحابة ولو كان كله مرفوعا ما تعارض ولا اختلف.
الثالثة:
أننا لو سلمنا بصحة هذا التفسير وأنه في حكم المرفوع بل لو كان مرفوعا فعلا لم يكن حجة في موضع النزاع هنا فالآية لا تذم مجرد من يشتغل بالغناء أو لهو الحديث بل تذم وتتوعد بالعذاب المهين من يشتريه ليضل عن سبيل الله ويتخذها هزوا وهذا غير ما نحن فيه.
كلمة لابن حزم: وما أبلغ ما قاله ابن حزم في الرد على من احتج بقول ابن مسعود أو غيره هنا:
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ فِي هَذَا كُلِّهِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لأََحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ غَيْرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَصَّ الآيَةِ يُبْطِلُ احْتِجَاجَهُمْ بِهَا؛ لأََنَّ فِيهَا " وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" وَهَذِهِ صِفَةٌ مَنْ فَعَلَهَا كَانَ كَافِرًا، بِلاَ خِلاَفٍ، إذَا اتَّخَذَ سَبِيلَ اللَّهِ تَعَالَى هُزُوًا.
وَلَوْ أَنَّ امْرَأً اشْتَرَى مُصْحَفًا لِيُضِلَّ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا لَكَانَ كَافِرًا،فَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا ذَمَّ قَطُّ، عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ اشْتَرَى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيَلْتَهِيَ بِهِ وَيُرَوِّحَ نَفْسَهُ، لاَ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِ كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَغَلَ عَامِدًا عَنْ الصَّلاَةِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِقِرَاءَةِ السُّنَنِ، أَوْ بِحَدِيثٍ يَتَحَدَّثُ بِهِ، أَوْ يَنْظُرُ فِي مَالِهِ، أَوْ بِغِنَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ فَاسِقٌ، عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ لَمْ يُضَيِّعْ شَيْئًا مِنْ الْفَرَائِضِ اشْتِغَالاً بِمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ مُحْسِنٌ.(انظر المحلى 9/10).
وما قاله ابن حزم أكده الإمام أبو حامد الغزالي فقال تعقيبا على من احتج بالآية على تحريم الغناء:
وأما شراء لهو الحديث بالدين استبدالا به ليضل به عن سبيل الله فهو حرام مذموم وليس النزاع فيه وليس كل غناء بدلا عن الدين مشترى به ومضلا عن سبيل الله تعالى وهو المراد في الآية ولو قرأ القرآن ليضل به عن سبيل الله لكان حراما.
وأيد هذا بما حكي عن بعض المنافقين: أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا سورة عبس لما فيها من العتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عمر بقتله ورأى فعله حراما لما فيه من الإضلال فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم.
انظر الإحياء (2/260) وما بعدها.
دلالة الوعيد الشديد في الآية:
ومما يؤكد ما ذكره ابن حزم والغزالي: أن الآية تضمنت وعيدا شديدا على هذا الفعل مما يدل على أنه ليس مجرد لهو وترويح كما أن الآية التالية للآية المحتج بها تضمنت زيادة بيان لأوصاف هذا الصنف من الناس الذي عنته الآية إذ قال تعالى بعدها: "وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم".
وهذا لا يوصف به مسلم يعتقد أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ولذا نجد الإمام ابن القيم –وهو من أشد القائلين بتحريم الغناء- يعترف بأن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا –وهو الثقل والصمم- وإذا علم منه شيئا استهزأ به فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا (انظر إغاثة اللهفان ج1 ص 259).
ومن هنا نرى أن تطبيق الآيتين الكريمتين بما تضمنتا من أوصاف وما اشتملتا عليه من وعيد شديد على مجرد من اشتغل بالغناء تلهيا وترويحا للنفس في غاية البعد لمن أنصف وتدبر القرآن.
يؤيد هذا ما نقله الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره من طريق ابن وهب قال:قال ابن زيد في قوله تعالى "ومن الناس من يشتري لهو الحديث.."الآية. قال: هؤلاء أهل الكفر ألا ترى إلى قوله تعالى "وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا" فليس هكذا أهل الإسلام.
قال: وناس يقولون: هي فيكم، وليس كذلك، قال: وهو الحديث الباطل الذي كانوا يلغون فيه.(انظر تفسير الطبري (10/41).
وقال الإمام ابن عطية: والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضاف إلى الكفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله: "ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا" وبالتوعد بالعذاب المهين (انظر تفسير ابن عطية ج11 ص 484).
وهذا هو ما اختاره الإمام الفخر الرازي في تفسيره ولم يذكر غيره فانظره غير مأمور في التفسير الكبير للرازي ج 13 ص 141-142.
الدليل الثاني:
2- قوله تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" في معرض مدح المؤمنين.
وجه الاستدلال:
قالوا: الغناء من اللغو فوجب الإعراض عنه.
ويجاب عن ذلك بأن الظاهر من الآية الكريمة أن المراد من اللغو فيها هو سفه القول من السب والشتم ونحو ذلك وبقية الآية تنطق بذلك قال تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين" فهي شبيهة بقوله تعالى في وصف عباد الرحمن: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما".
ولو سلمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا أن الآية تستحب الإعراض عن سماعه وتمدحه وليس فيها ما يوجب ذلك.
وكلمة "اللغو" ككلمة "الباطل" تعني ما لا فائدة فيه وسماع ما لا فائدة فيه ليس محرما ما لم يضيع حقا أو يشغل عن واجب.
روى عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له أيؤتى يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك فقال لا في الحسنات ولا في السيئات لأنه شبيه باللغو وقال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم.
قال الإمام الغزالي: (إذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء على طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم والمخالفة فيه مع أنه لا فائدة فيه لا يؤاخذ فكيف يؤاخذ به بالشعر والرقص؟)
على أننا نقول: ليس كل غناء لغوا إنه يأخذ حكمه وفق نية صاحبه فالنية الصالحة تحيل اللهو قربة والمباح طاعة والنية الخبيثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة وباطنه الرياء وفي الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
وننقل هنا كلمة جيدة قالها الإمام ابن حزم في المحلى ردا على الذين يمنعون الغناء قال:
(وَاحْتَجُّوا فَقَالُوا: مِنْ الْحَقِّ الْغِنَاءُ أَمْ مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ فَقَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ) فَجَوَابُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ نَوَى بِاسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ عَوْنًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ فَاسِقٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ غَيْرُ الْغِنَاءِ، وَمَنْ نَوَى بِهِ تَرْوِيحَ نَفْسِهِ لِيَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيُنَشِّطَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْبِرِّ فَهُوَ مُطِيعٌ مُحْسِنٌ، وَفِعْلُهُ هَذَا مِنْ الْحَقِّ، وَمَنْ لَمْ يَنْوِ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً، فَهُوَ لَغْوٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَخُرُوجِ الْإِنْسَانِ إلَى بُسْتَانِهِ مُتَنَزِّهًا، وَقُعُودِهِ عَلَى بَابِ دَارِهِ مُتَفَرِّجًا وَصِبَاغِهِ ثَوْبَهُ لاَزَوَرْدِيًّا أَوْ أَخْضَرَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَمَدِّ سَاقِهِ وَقَبْضِهَا وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ) انظر المحلى (9/60) .
الدليل الثالث:
3-قوله تعالى: "والذين لا يشهدون الزور".
وجه الاستدلال:جاء عن بعض السلف تفسير الزور بأنه الغناء.
قال محمد بن الحنفية: الزور هنا: اللهو والغناء.
وكذلك روي عن الحسن ومجاهد وأبي الجحاف. وتسمية الغناء زورا تدل على حرمته.
وقال الكلبي:لا يحضرون مجالس الباطل أي والغناء منها (انظر هذا الأقوال في إغاثة اللهفان (1/260) وبعده).
ولنا مع هذه الأقوال وقفات أيضا:
أولاها: أن بعض المفسرين فسر "والذين لا يشهدون الزور" تفسيرا يبعد به عن مجال الغناء وأمثاله فجعله من الشهادة لا من الشهود يعني أنهم الذين لا تقع منهم شهادة الزور وإن كنت لا أرجح هذا التفسير فعن قتادة قال: الكذب وعن الضحاك قال: الشرك.
ثانيتها:أن بعضهم فسر الزور بأعياد المشركين وما كان فيها من ضلالات الجاهلية وانحرافات الوثنية وتقرب إلى الأصنام ونحو ذلك. رواه الخطيب عن ابن عباس وقريب منه قول عكرمة: لعب كان في الجاهلية (انظر الدر المنثور ج5 ص 80) وقد يلحق بها ما كان في معناها مما يصنعه بعض المبتدعين والمنحرفين حول أضرحة الأولياء وما أشبه ذلك.
والقاعدة:أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
ثالثتها:إن صح تفسير الزور هنا بأنه الغناء فالمراد به: الغناء الذي يحرض على الفسق ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويقترن بالمنكرات.
رابعتها:أن ليس في الآية ما يدل على الوجوب إنما تمدح الآية من فعل ذلك من عباد الرحمن كما مدحتهم آية أخرى بأنهم: "يبيتون لربهم سجدا وقياما" وليس هذا من الواجبات المفروضات بل من الكمالات المستحبة.
الدليل الرابع:
4-قوله تعالى: "واستفزز من استطعت منهم بصوتك".
وجه الاستدلال: ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بصوت الشيطان في الآية: الغناء.
فعن مجاهد قال:صوته:الغناء والمزامير واللهو.
وقال الضحاك:صوت المزمار.
ويرد عليه بالآتي:
هذا تفسير غير معصوم فلا يلزمنا وقد خالفه آخرون فعن ابن عباس:صوته: كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى.
وقيل:بصوتك: أي بوسوستك.(انظر تفسير القرطبي ج 10 ص 288)
وعند وجود الاحتمال يسقط الاستدلال.
والحقيقة:أن الذي يفهم من الآية ليس المعنى الظاهري من الألفاظ بل المقصود هنا أن يقال لإبليس اللعين:اشحذ كل أسلحتك لإضلال بني آدم واجمع عليهم ما تقدر عليه من جندك وكيدك فإنك لن تستطيع أن تضل المخلصين من عباد الله.
الدليل الخامس:
5-قوله تعالى: "وأنتم سامدون"
وجه الاستدلال:
روى عكرمة عن ابن عباس قال: هو الغناء بلغة حمير. يقال: سمد لنا أي غن لنا، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا.
ولكن رويت في معنى الكلمة تفسيرات أخرى:
عن ابن عباس نفسه فقد روى عنه والوالبي والعوفي: سامدون أي لاهون معرضون.
وقال القرطبي:المعروف في اللغة"سمد يسمد سمودا: إذا لها وأعرض.
وقال الضحاك: سامدون شامخون متكبرون.
وفي الصحاح: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد.
وروي عن علي رضي الله عنه أن معنى "سامدون" أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين الصلاة.
وقال الحسن: واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام.
وقال المبرد: سامدون خامدون؛ قال الشاعر:
أتى الحدثان نسوة آل حرب بمقدور سمدن له سمودا
(انظر في كل هذا تفسير القرطبي ج 18 ص 133).
ومن المقرر أن كل دليل تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
قال الإمام الغزالي ردا على من احتجوا بالآية المذكورة:
ينبغي أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضا لأن الآية تشتمل عليه (يقصد قوله تعالى: "وتضحكون ولا تبكون").
فإن قيل إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم فهذا أيضا مخصوص بأشعارهم وغنائهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين كما قال تعالى "والشعراء يتبعهم الغاوون" وأراد به شعراء الكفار ولم يدل ذلك على تحريم نظم الشعر في نفسه. (انظر الإحياء ج2 ص 285).
وبهذا البيان نرى أنه لا توجد في القرآن الكريم آية واحدة تنهض للاحتجاج بها على تحريم الغناء.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
انتهى بتصرف يسير من كتاب الشيخ القرضاوي فقه الغناء والموسيقى ص29-39.
1-الأدلة من القرآن ومدى دلالتها على التحريم:
الدليل الأول:
قال تعالى: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولائك لهم عذاب مهين".
الدليل الثاني:
قوله تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" في معرض مدح المؤمنين
الدليل الثالث:
قوله تعالى: "والذين لا يشهدون الزور".
الدليل الرابع:
قوله تعالى: "واستفزز من استطعت منهم بصوتك".
الدليل الخامس:
قوله تعالى: "وأنتم سامدون"
الأدلة القرآنية لمحرمي الغناء ومدى دلالتها
الدليل الأول:
قال تعالى: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولائك لهم عذاب مهين".
وجه الاستدلال:
صح عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أن: (لهو الحديث) في الآية هو الغناء ,وأقسم ابن مسعود على ذلك فقال: هو –والله- الغناء! ذكر ذلك ابن القيم وغيره ثم نقل عن الحاكم في التفسير من المستدرك قوله: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند.
وقال في موضع آخر من كتابه: هو عندنا في حكم المرفوع.
قال ابن القيم: وهذا –وإن كان فيه نظر- فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم (انظر إغاثة اللهفان لابن القيم ج1 ص 258).
وذكر الواحدي: أن أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء وهو قول مجاهد وعكرمة (انظر المصدر السابق ص 257 وانظر سنن البيهقي (10/223) وقد زاد: إبراهيم النخعي).
وقفات مع الاستدلال:
الأولى:
أن هذا ليس هو التفسير الوحيد للآية فقد فسره بعضهم بأن المراد به:أخبار وقصص الأعاجم وملوكهم وملوك الروم ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث –أحد مشركي قريش العتاة- يحدث به أهل مكة يشغلهم به عن القرآن وقد ذكر ذلك ابن القيم نفسه.
الثانية:
أننا لا نسلم أن تفسير الصحابي في حكم المرفوع إلا فيما كان من سبب نزول ونحوه بل هو في الغالب فهم له في القرآن كثيرا ما يعارضه غيره من الصحابة ولو كان كله مرفوعا ما تعارض ولا اختلف.
الثالثة:
أننا لو سلمنا بصحة هذا التفسير وأنه في حكم المرفوع بل لو كان مرفوعا فعلا لم يكن حجة في موضع النزاع هنا فالآية لا تذم مجرد من يشتغل بالغناء أو لهو الحديث بل تذم وتتوعد بالعذاب المهين من يشتريه ليضل عن سبيل الله ويتخذها هزوا وهذا غير ما نحن فيه.
كلمة لابن حزم: وما أبلغ ما قاله ابن حزم في الرد على من احتج بقول ابن مسعود أو غيره هنا:
قال أبو محمد: لاَ حُجَّةَ فِي هَذَا كُلِّهِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لأََحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ غَيْرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَصَّ الآيَةِ يُبْطِلُ احْتِجَاجَهُمْ بِهَا؛ لأََنَّ فِيهَا " وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ" وَهَذِهِ صِفَةٌ مَنْ فَعَلَهَا كَانَ كَافِرًا، بِلاَ خِلاَفٍ، إذَا اتَّخَذَ سَبِيلَ اللَّهِ تَعَالَى هُزُوًا.
وَلَوْ أَنَّ امْرَأً اشْتَرَى مُصْحَفًا لِيُضِلَّ بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا لَكَانَ كَافِرًا،فَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا ذَمَّ قَطُّ، عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ اشْتَرَى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيَلْتَهِيَ بِهِ وَيُرَوِّحَ نَفْسَهُ، لاَ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِ كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَغَلَ عَامِدًا عَنْ الصَّلاَةِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِقِرَاءَةِ السُّنَنِ، أَوْ بِحَدِيثٍ يَتَحَدَّثُ بِهِ، أَوْ يَنْظُرُ فِي مَالِهِ، أَوْ بِغِنَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ فَاسِقٌ، عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ لَمْ يُضَيِّعْ شَيْئًا مِنْ الْفَرَائِضِ اشْتِغَالاً بِمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ مُحْسِنٌ.(انظر المحلى 9/10).
وما قاله ابن حزم أكده الإمام أبو حامد الغزالي فقال تعقيبا على من احتج بالآية على تحريم الغناء:
وأما شراء لهو الحديث بالدين استبدالا به ليضل به عن سبيل الله فهو حرام مذموم وليس النزاع فيه وليس كل غناء بدلا عن الدين مشترى به ومضلا عن سبيل الله تعالى وهو المراد في الآية ولو قرأ القرآن ليضل به عن سبيل الله لكان حراما.
وأيد هذا بما حكي عن بعض المنافقين: أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا سورة عبس لما فيها من العتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عمر بقتله ورأى فعله حراما لما فيه من الإضلال فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم.
انظر الإحياء (2/260) وما بعدها.
دلالة الوعيد الشديد في الآية:
ومما يؤكد ما ذكره ابن حزم والغزالي: أن الآية تضمنت وعيدا شديدا على هذا الفعل مما يدل على أنه ليس مجرد لهو وترويح كما أن الآية التالية للآية المحتج بها تضمنت زيادة بيان لأوصاف هذا الصنف من الناس الذي عنته الآية إذ قال تعالى بعدها: "وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم".
وهذا لا يوصف به مسلم يعتقد أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ولذا نجد الإمام ابن القيم –وهو من أشد القائلين بتحريم الغناء- يعترف بأن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا –وهو الثقل والصمم- وإذا علم منه شيئا استهزأ به فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا (انظر إغاثة اللهفان ج1 ص 259).
ومن هنا نرى أن تطبيق الآيتين الكريمتين بما تضمنتا من أوصاف وما اشتملتا عليه من وعيد شديد على مجرد من اشتغل بالغناء تلهيا وترويحا للنفس في غاية البعد لمن أنصف وتدبر القرآن.
يؤيد هذا ما نقله الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره من طريق ابن وهب قال:قال ابن زيد في قوله تعالى "ومن الناس من يشتري لهو الحديث.."الآية. قال: هؤلاء أهل الكفر ألا ترى إلى قوله تعالى "وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا" فليس هكذا أهل الإسلام.
قال: وناس يقولون: هي فيكم، وليس كذلك، قال: وهو الحديث الباطل الذي كانوا يلغون فيه.(انظر تفسير الطبري (10/41).
وقال الإمام ابن عطية: والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضاف إلى الكفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله: "ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا" وبالتوعد بالعذاب المهين (انظر تفسير ابن عطية ج11 ص 484).
وهذا هو ما اختاره الإمام الفخر الرازي في تفسيره ولم يذكر غيره فانظره غير مأمور في التفسير الكبير للرازي ج 13 ص 141-142.
الدليل الثاني:
2- قوله تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه" في معرض مدح المؤمنين.
وجه الاستدلال:
قالوا: الغناء من اللغو فوجب الإعراض عنه.
ويجاب عن ذلك بأن الظاهر من الآية الكريمة أن المراد من اللغو فيها هو سفه القول من السب والشتم ونحو ذلك وبقية الآية تنطق بذلك قال تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين" فهي شبيهة بقوله تعالى في وصف عباد الرحمن: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما".
ولو سلمنا أن اللغو في الآية يشمل الغناء لوجدنا أن الآية تستحب الإعراض عن سماعه وتمدحه وليس فيها ما يوجب ذلك.
وكلمة "اللغو" ككلمة "الباطل" تعني ما لا فائدة فيه وسماع ما لا فائدة فيه ليس محرما ما لم يضيع حقا أو يشغل عن واجب.
روى عن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له أيؤتى يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك فقال لا في الحسنات ولا في السيئات لأنه شبيه باللغو وقال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم.
قال الإمام الغزالي: (إذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء على طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم والمخالفة فيه مع أنه لا فائدة فيه لا يؤاخذ فكيف يؤاخذ به بالشعر والرقص؟)
على أننا نقول: ليس كل غناء لغوا إنه يأخذ حكمه وفق نية صاحبه فالنية الصالحة تحيل اللهو قربة والمباح طاعة والنية الخبيثة تحبط العمل الذي ظاهره العبادة وباطنه الرياء وفي الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
وننقل هنا كلمة جيدة قالها الإمام ابن حزم في المحلى ردا على الذين يمنعون الغناء قال:
(وَاحْتَجُّوا فَقَالُوا: مِنْ الْحَقِّ الْغِنَاءُ أَمْ مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ فَقَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ) فَجَوَابُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ نَوَى بِاسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ عَوْنًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ فَاسِقٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ غَيْرُ الْغِنَاءِ، وَمَنْ نَوَى بِهِ تَرْوِيحَ نَفْسِهِ لِيَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيُنَشِّطَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْبِرِّ فَهُوَ مُطِيعٌ مُحْسِنٌ، وَفِعْلُهُ هَذَا مِنْ الْحَقِّ، وَمَنْ لَمْ يَنْوِ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً، فَهُوَ لَغْوٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَخُرُوجِ الْإِنْسَانِ إلَى بُسْتَانِهِ مُتَنَزِّهًا، وَقُعُودِهِ عَلَى بَابِ دَارِهِ مُتَفَرِّجًا وَصِبَاغِهِ ثَوْبَهُ لاَزَوَرْدِيًّا أَوْ أَخْضَرَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَمَدِّ سَاقِهِ وَقَبْضِهَا وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ) انظر المحلى (9/60) .
الدليل الثالث:
3-قوله تعالى: "والذين لا يشهدون الزور".
وجه الاستدلال:جاء عن بعض السلف تفسير الزور بأنه الغناء.
قال محمد بن الحنفية: الزور هنا: اللهو والغناء.
وكذلك روي عن الحسن ومجاهد وأبي الجحاف. وتسمية الغناء زورا تدل على حرمته.
وقال الكلبي:لا يحضرون مجالس الباطل أي والغناء منها (انظر هذا الأقوال في إغاثة اللهفان (1/260) وبعده).
ولنا مع هذه الأقوال وقفات أيضا:
أولاها: أن بعض المفسرين فسر "والذين لا يشهدون الزور" تفسيرا يبعد به عن مجال الغناء وأمثاله فجعله من الشهادة لا من الشهود يعني أنهم الذين لا تقع منهم شهادة الزور وإن كنت لا أرجح هذا التفسير فعن قتادة قال: الكذب وعن الضحاك قال: الشرك.
ثانيتها:أن بعضهم فسر الزور بأعياد المشركين وما كان فيها من ضلالات الجاهلية وانحرافات الوثنية وتقرب إلى الأصنام ونحو ذلك. رواه الخطيب عن ابن عباس وقريب منه قول عكرمة: لعب كان في الجاهلية (انظر الدر المنثور ج5 ص 80) وقد يلحق بها ما كان في معناها مما يصنعه بعض المبتدعين والمنحرفين حول أضرحة الأولياء وما أشبه ذلك.
والقاعدة:أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
ثالثتها:إن صح تفسير الزور هنا بأنه الغناء فالمراد به: الغناء الذي يحرض على الفسق ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويقترن بالمنكرات.
رابعتها:أن ليس في الآية ما يدل على الوجوب إنما تمدح الآية من فعل ذلك من عباد الرحمن كما مدحتهم آية أخرى بأنهم: "يبيتون لربهم سجدا وقياما" وليس هذا من الواجبات المفروضات بل من الكمالات المستحبة.
الدليل الرابع:
4-قوله تعالى: "واستفزز من استطعت منهم بصوتك".
وجه الاستدلال: ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بصوت الشيطان في الآية: الغناء.
فعن مجاهد قال:صوته:الغناء والمزامير واللهو.
وقال الضحاك:صوت المزمار.
ويرد عليه بالآتي:
هذا تفسير غير معصوم فلا يلزمنا وقد خالفه آخرون فعن ابن عباس:صوته: كل داع يدعو إلى معصية الله تعالى.
وقيل:بصوتك: أي بوسوستك.(انظر تفسير القرطبي ج 10 ص 288)
وعند وجود الاحتمال يسقط الاستدلال.
والحقيقة:أن الذي يفهم من الآية ليس المعنى الظاهري من الألفاظ بل المقصود هنا أن يقال لإبليس اللعين:اشحذ كل أسلحتك لإضلال بني آدم واجمع عليهم ما تقدر عليه من جندك وكيدك فإنك لن تستطيع أن تضل المخلصين من عباد الله.
الدليل الخامس:
5-قوله تعالى: "وأنتم سامدون"
وجه الاستدلال:
روى عكرمة عن ابن عباس قال: هو الغناء بلغة حمير. يقال: سمد لنا أي غن لنا، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا.
ولكن رويت في معنى الكلمة تفسيرات أخرى:
عن ابن عباس نفسه فقد روى عنه والوالبي والعوفي: سامدون أي لاهون معرضون.
وقال القرطبي:المعروف في اللغة"سمد يسمد سمودا: إذا لها وأعرض.
وقال الضحاك: سامدون شامخون متكبرون.
وفي الصحاح: سمد سمودا رفع رأسه تكبرا وكل رافع رأسه فهو سامد.
وروي عن علي رضي الله عنه أن معنى "سامدون" أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين الصلاة.
وقال الحسن: واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام.
وقال المبرد: سامدون خامدون؛ قال الشاعر:
أتى الحدثان نسوة آل حرب بمقدور سمدن له سمودا
(انظر في كل هذا تفسير القرطبي ج 18 ص 133).
ومن المقرر أن كل دليل تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
قال الإمام الغزالي ردا على من احتجوا بالآية المذكورة:
ينبغي أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضا لأن الآية تشتمل عليه (يقصد قوله تعالى: "وتضحكون ولا تبكون").
فإن قيل إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم فهذا أيضا مخصوص بأشعارهم وغنائهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين كما قال تعالى "والشعراء يتبعهم الغاوون" وأراد به شعراء الكفار ولم يدل ذلك على تحريم نظم الشعر في نفسه. (انظر الإحياء ج2 ص 285).
وبهذا البيان نرى أنه لا توجد في القرآن الكريم آية واحدة تنهض للاحتجاج بها على تحريم الغناء.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
انتهى بتصرف يسير من كتاب الشيخ القرضاوي فقه الغناء والموسيقى ص29-39.