د. محمد سعيد حوى
يواجه المسلمون تحديات هائلة ويثار في وجههم شبهات خطيرة, وليس آخرها هذه الاساءات لأعظم انسان في الوجود امام الانبياء محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء رحمة وسعادة وهداية.
الكفر يريد لنا العنت والمشقة كما قال تعالى: "ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر".
وهم كما قال تعالى: "إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون".
وهم: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق".
وبينما هذا شأن الكفر والكافرين كان شأن محمد صلى الله عليه وسلم ان جاء لأجل ان يخلص هذه الانسانية من كل عنت ومشقة, ليحقق لهم كل رحمة وهداية وسعادة.
"واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون".
وقال تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
ومن هنا قد لا نستغرب ما يصدر عن بعض اهل الكفر من مواقف اما جهلاً واما عداءً او لحظة عند بعضهم للوقوف في وجه دعوة الاسلام.
وفي المقابل فانا على يقين كامل ان كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد فيه كل الخير وكل الحق وكل الرحمة والهداية والسعادة.
وعليه, فاذا جاءك عن رسول الله امر قد ترى فيه ما ينافي هناء وسعادة الانسان والرحمة به فهو اما امر غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعاً او هو امر لم يفهمه الانسان على وجهه الصحيح او ان هذا الانسان وقع في اسر الهوى والشهوة والمصلحة الخاصة والانانية وبطبيعة الحال أي تكليف رباني لا بد فيه نوع جهد ومشقة والا لما سمي تكليفاً لكنه قطعاً مستطاع للانسان وفيه الخير كله فمن ذلك الصلاة او الزكاة او الحجاب او تحريم الربا.. الخ.
ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل, يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم, فالذين آمنوا وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون (الأعراف / 157).
ففي ضوء انوار هذه الآيات بيان لصفات رسول الله العليا كما في الكتب السماوية السابقة, ومن اهم خصائصه وصفاته يضع عنهم اصرهم..
ويترتب على ذلك واجبات على هذا الانسان وحق لرسول الله وهو ان يؤمن بهذا الرسول وان يعزره وان ينصره ويتبع هذه الانوار كيف لا وهو مبشر به في الكتب السابقة وقد جاءكم بكل خير.
ومن هنا, كان علينا واجبات عدة, كيف نتبع رسول الله؟ وكيف ننصره وكيف نؤمن به حقاً؟ هذه تساؤلات من المهم بمكان دقة الاجابة عنها, هذا من جهة.
ومن جهة اخرى, اذا كان هذا الرسول العظيم قد جاء بكل خير ورحمة ومبشر به في الكتب السماوية السابقة فلماذا يقف هؤلاء المسيئون هذا الموقف السلبي بل العدواني الشديد تجاه رسول الله..
لا شك ان هنالك اسباباً كثيرة عرفنا القرآن بجذورها واصولها. والذي يعنينا من كل هذه الاسباب ما يخص السنة النبوية:.
ذلك ان هؤلاء المخالفين او المسيئين او بعضهم وعلى هذا سار بعض المستشرقين من قبل يحاولون دائماً ان يتصيدوا مما ينسب الى السنة والى رسول الله صلى الله عليه وسلم من احاديث ونصوص ليثيروا من خلالها الشبهات ويبرروا الاساءات ويؤجّجوا الصراع ويقنعوا الغرب ان هذا الدين انما هو دين قتل او اعتداء او ارهاب.
انه دين لا ينصف المرأة ويمارس التمييز والتفرقة انه دين لا يمكن التعايش معه في انسانية واحدة..
فبعض هؤلاء من المستشرقين او تلامذتهم يعمد الى بعض نصوص السنة يستغلها في تمرير مقولاته وعندما ننظر في تلك النصوص المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم مما يستغل في تلك الشبهات, نجدها فعلاً اما غير صحيحة ولا ثابتة واما محرفة او مجتزأة او منزوعة من سياقها او لم تفهم على وجهها.
ثم نجد ايضاً من بعض ابناء الأمة الاسلامية من يذهب الى التمسك بآراء بعيدة عن سماحة هذا الدين وعن حقيقة ما مر معنا من صفة رسول الله وانه جاء رحمة وهداية ويتمسك بآراء يلحق فيها اشد العنت بالناس افراداً او جماعات ومن ثم تجده يسارع – ربما – الى تكفير الآخرين او تبديعهم او وصفهم بالفسق او يحملهم ما لا يطيقون.
وهم اذا يفعلون ذلك ربما تجدهم يستندون الى نصوص منسوبة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وايضاً عندما تتأمل فيما يستندون اليه تجده اما غير ثابت حقيقة او فيه علة او خطأ خفي او ثمة مشكلة في الفهم او التعامل مع السنة.
وفي المقابل, ايضاً نجد من يستغل هذه الظواهر من الاخطاء القاسية في التعامل مع السنة حتى ان بعض المشتغلين بالسنة لربما رووا لنا ما يخالف بعض مقتضيات العقل او التاريخ او الواقع.
مما ادى بآخرين الى ان يقعوا في خطأ آخر لا يقل فداحة عما سبق وهو رفض السنة مطلقاً او المغالاة في تحكيم الرأي الشخصي والذاتي والاسراف في رفض كثير من النصوص بلا دليل علمي موضوعي في الرفض.
اذن نحن امام مشكلات معقدة.
فمن قوم يسيئون التعامل مع السنة, بحيث ينسب اليها ما ليس منها فيتهم النبي بشتى الاتهامات او يسيء الفهم لها او يحرف.. ويتخذها ستاراً للاساءة لرسول الله وللاساءة لصورة الاسلام..
ومن قوم فرطوا في التعامل مع السنة النبوية باسم الحب لرسول الله وباسم اتباع السنة النبوية فلم يلتزموا بالضوابط العلمية المنهجية مما كان سبباً للآخرين ان يطعنوا بالسنة وبرسول الله..
واوجد فريقاً ثالثاً ممن ينتسب للاسلام ان يذهب بعيداً في رفض السنة..
اذن السؤال الكبير كيف نتعامل مع السنة النبوية تعاملاً صحيحاً شرعاً منضبطاً بالضوابط العلمية والمنهجية الدقيقة..
اننا اذا فعلنا ذلك أي قدمنا المنهجية الدقيقة في التعامل مع السنة النبوية فاننا سنعالج تحديات خطيرة وننصر رسولنا صلى الله عليه وسلم اعظم نصر فلا يكون لمن يعادي او لمن هو من غير المسلمين حجة للطعن "لئلا يكون للناس عليكم حجة الا الذين ظلموا" ولا نسمح لمن كان من المسلمين رافعاً راية الاتباع لرسول الله – ونحسبه صادقاً بذلك – لا نسمح له ان ينسب من الاحكام والرؤى والاجتهادات ما يلحق عنتاً بالأمة او يفتح باباً للطعن كما نعالج هذا التطرف في رفض السنة النبوية..
*قدمت بكل هذا لأؤكد اننا احوج ما نكون الى منهجية علمية دقيقة في التعامل مع السنة النبوية وليسمح لي القارئ الكريم ان اثير بين يديه بعض المشكلات الحقيقية التي تؤكد ضرورة ما قلت من دراسة منهجية للسنة النبوية من خلال ذكر بعض الامثلة.
اولاً: احاديث يصححها بعض اهل العلم:.
كلما قرأت ان احداً صححها او اعتمدها اضع يدي على قلبي اشفاقاً وخوفاً ويزداد المي وحسرتي كيف يمكن ان ينسب ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم:.
1- ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث: (الوائدة والمؤودة في النار) رواه ابو داود رقم 4717) وبعد مناقشة له ذهب الشيخ الالباني الى صحته قائلاً "وبالجملة فالحديث صحيح لا شك فيه" (ينظر حاشية مشكاة المصابيح 1/40).
وهنا يقف الانسان عجباً.. كيف تصحح هكذا نص وهو يخالف مقتضى القرآن ويجعل الظالم والمظلوم في حكم واحد.. بالاضافة لمخالفات شرعية كثيرة اذ كيف يعذب الصغير من مات قبل البلوغ وكيف يحاسب من كان في الفترة...
فلو طبقنا القواعد العلمية الصحيحة الدقيقة لما كنا نذهب الى تصحيح الحديث ولما استغله الاعداء للطعن برسول الله..
2- وهناك نماذج اخرى كثيرة من ذلك الحديث الذي ينسب لأبي هريرة عن رسول الله "ان آدم لما رأى ان عمر داود ستين سنة قال رب زده من عمري اربعين سنة فلما انقضى عمر آدم الا اربعين جاءه ملك الموت فقال آدم: اولم يبق من عمري اربعون سنة, قال اولم تعطها ابنك داود؟! فجحد آدم فجحدت ذريته.. ونسي آدم .. فنسيت ذريته..".. رواه الترمذي (3076 و2368).
والحديث مروي من اكثر من طريق وبألفاظ بينها اختلاف ولم يخل طريق من نقد وضعف ومع ذلك وجدنا من صححه او حسنه (ينظر المشكاة 142).
وهنا تعجب كيف يصح لأحد في الوجود ان يعلم كم عمره او عمر غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم اجله على التحديد.. سوى اقتراب اجله.. ولماذا داود بالذات.. وفي الحديث امور اخرى تحتاج الى دراسة..
فهلا طبقنا قواعد النقد الحديثي الدقيق ومنهجية علمية سليمة في التعامل مع السنة فندفع عن سنة رسول الله مثل هذه الاوهام..
وسنورد نماذج كثيرة في مكانها..
ثانياً: وفي المقابل رأيت من يرد كل احاديث الدجال او احاديث عذاب القبر لمجرد انه لم يقنع بها واخذ يطعن بصحيح البخاري ومسلم وفق هواه..
نعم هناك في تلك الروايات ما لا يصح لكن لا بد من دراسة علمية دقيقة منصفة..
القاعدة الاولى: حجية السنة النبوية:.
من بدهيات العلم واولوياته تقرير مبدأ حجية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أي انها سنة ملزمة حجة في ذاتها واجبة الاتباع.
ومع ذلك, فنحن بحاجة ان نقرر ذلك ابتداءً لانه مما يؤسف له اننا نقع – ونحن نتحدث عن منهج التعامل مع السنة – بين تيارات.
فمن قائل ان السنة ليست بحجة ولا ملزمة ومن قائل انها حجة لكنك تجده يشكك في كل شيء بلا حجة ولا برهان.
ومن مدع انه لا يلزمنا من سنة رسول الله الا ما كان متواتراً وما عدا ذلك انما هي ارشادات غير ملزمة.
وفي الوقت نفسه, نجد انفسنا امام آخرين امام مبدأ حجية السنة تجدهم يندفعون بقبول أي حديث نسب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تحر دقيق واف. واذا ما قام باحث ليدقق ويحرر وينقح وينصح اتهم انه معادٍ للسنة النبوية او اتهم بالانكار او الابتداع..
لهذا كله كان لا بد من تقرير مبدأ حجية السنة والتصرف الى مكانتها ووجوب العمل بها رداً لمزاعم من يتهم الباحثين الراغبين في التحقيق بالانكار ورداً لمزاعم الرادين للعمل بالسنة تحت دعاوى التشكيك او غير ذلك.
عندما نواجه بعض الرافضين للاخذ بالسنة بالادلة يبادرون الى التشكيك بما رواه ائمة الهدى من علماء الحديث متجاهلين الجهود العظيمة التي بذلها علماؤنا في جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وروايته ونقده, وتمييز صحيحه من سقيمه, والوقوف على خفايا العلل فيه مما يمكن ان يكون بعض الرواة الثقات قد اخطأ فيه, فضلاً عن كشف ما اخطأ فيه, فضلاً عن كشف ما اخطأ فيه عامة الرواة.
ومن يقف على علوم الحديث ونقده, يدرك انه امام علم متكامل في النقد التاريخي للنصوص تفردت به الامة الاسلامية.
ولا نتفاجأ بمواقف هؤلاء المغرضين او المنكرين او المشككين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبرنا عنهم فقد روى الترمذي عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني, وهو متكئ على اريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله, فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه, وما وجدنا فيه حراماً حرمناه, وان ما حرم رسول الله كما حرم الله" (سنن الترمذي 5/38) كتاب العلم.
وروى نحوه ابو داود (4/200) في كتاب السنة بلفظ:.
الا واني اوتيت الكتاب ومثله معه, الا يوشك رجل شبعان على اريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتموه فيه من حلال فأحلوه, وما وجدتم فيه من حرام فحرموه, وان ما حرم رسول الله كما حرم الله".
ولك ان تقف مع بعض الفاظ الحديث وهو يصور حال اولئك الرافضين لسنة رسول الله, انه انسان مترف, ملأت الدنيا قلبه, يتكلم بلا مسؤولية, يلقي الكلام على عواهنه, مع ما في نفسه من كبر واستعلاء وجهل في آن معاً, يصور ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم: "رجل شبعان متكئ على اريكيته".
ويأتي الرد النبوي على رافضي سنته من وجوه بأبلغ ما يكون, اذ يبين انه صلى الله عليه وسلم:.
1- اوتي الكتاب ومثله معه.
2- ان ما حرم رسول الله كما حرم الله.
وتفصيل ذلك:.
ان القرآن الذي تدعي ايها المُنكر للسنة الاخذ به هو الذي يأمرنا بالأخذ بكل ما جاء وثبت عن رسول الله في آيات كثيرة:.
"وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا", "واطيعوا الله واطيعوا الرسول", "وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحي", "من يطع الرسول فقد اطاع الله", "قل ان تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم".
وكما ان القرآن امر بطاعة النبي, بين ان النبي مبين لما في الكتاب, قال تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون", "وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون".
وعليه, فلو اردت ان تطبق القرآن في امر الصلاة او الزكاة او الصوم او الحج او المعاملات وغير ذلك من مسائل الزواج او الطلاق.. فكيف يمكننا ذلك من غير السنة, فجاءت آيات القرآن لتبين تلك الحقائق وتقول لمن يزعم انه يؤمن بالقرآن: ان القرآن يقول لك ان بياني عند رسول الله.
علاقة السنة بالقرآن:.
ومن ثم بين العلماء علاقة السنة بالقرآن ومكانتها من وجوه:.
فهي تفصل المجمل كتفصيل امر الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم:.
"صلوا كما رأيتموني أصلي".
وهي تفيد المطلق, فالله تعالى يقول: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.." وجاءت السنة لتبين ان القطع يكون من الرسغ وليس لكل اليد.
والسنة تخصيص العام, فالله تعالى يقول: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون".
فقال الصحابة أينا لم يظلم نفسه.. فقال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك إنما هو الشرك, الم تسمعوا إلى قوله تعالى: "إن الشرك لظلم عظيم".
وكما ان السنة قد تؤكد احكاماً فانها ربما قررت احكاماً سكت عنها القرآن, وانما دل عليها القرآن ان اجمالاً او اشارة او احالة بأن احالنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك:.
ذكر الدجال (بقطع النظر عن صحة بعض التفاصيل) وتفاصيل الوضوء والصلاة, وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها او خالتها.
والخلاصة انك لن تكون صحيح الاخذ بكتاب الله سليم الايمان به الا ان تؤمن بالسنة الصحيحة الثابتة.
نعم, لقد نقل الينا القرآن متواتراً كله, برواية جمع عظيم عن جمع عظيم يستحيل تواطؤهم على الكذب, بينما نقلت السنة في معظمها بما يعرف برواية الآحاد, لكن العلماء وضعوا القواعد المتينة لتمييز ما صح وما لم يصح.
ومن هنا, قلنا انه لا بد من تبين هذه القواعد ومعرفتها وتطبيقها بدقة متناهية, فليس كل من نسب الى رسول الله حديثاً قبلناه, كما انه ليس لنا ان نطعن بمصداقية السنة لمجرد الهوى او الرأي الخاص.. او لما تراه يتفق مع فهمك لنص ما.
فاذا ما جاءنا عن رسول الله نص ما اخضعناه لموازين النقد الحديثي الدقيق متناً وسنداً.
اما سنداً فبالقواعد الحديثية المعلومة في مظانها واما متناً فمن خلال محاكمة النص الى المعلوم من كتاب الله والثابت من سنته صلى الله عليه وسلم والمقرر من قطعيات الشريعة وقواعدها.
فالنقد للمتن لا يكون لمجرد الرأي والهوى والتفكير الذاتي للانسان, وانما يكون لدلالات الشريعة وقواعدها.
وهنا نقول قد يقع الاخذ والرد في مثل هذه القضايا وتتباين وجهات النظر فلا بد ان يبقى لدينا متسع في القلوب للحوار والاجتهاد والنظر مع التأكيد على امرين اثنين.
1- ضرورة ان لا يتكلم في امر السنة الا ذو اختصاص علمي دقيق جمع الى علم الشريعة وقواعدها ونقهها علم النقد الحديثي.
2- ان يكون متجرداً عن الهوى متقياً لله ناصحاً لله ولرسوله ولأئمة المسلمين.
نموذج لنقد المتن الشرعي:.
واود ان اضع بين يدي القارئ الكريم انموذجاً لنقد المتن في اطار من الضوابط الشرعية مقدماً بايجاز وجهة نظر من يرد الحديث ومن يدافع عنه, وكيف ان الامر في احيان كثيرة قابل للاجتهاد والنظر من اهله, وهذا لا يضير مع التحري وتقوى الله:.
حدث البخاري في كتاب الانبياء رقم 3226 باسناده عن ابي هريرة قال رسول الله: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكه (ففقأ عينه, كما في بعض الروايات) فرجع (الملَك) إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت, قال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور, فله بما غطت يده بكل شعرة سنة (فلما رجع الملك إلى موسى) قال موسى: أي رب ثم ماذا قال الموت, قال فالآن...).
هذا الحديث في نظر البخاري وجماهير العلماء صحيح وينتقده بعض اهل العلم يرون ان ذلك مما حمله ابو هريرة عن اهل الكتاب ونسب خطأ لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسبب النقد:.
1- هل يتأخر أجل الانسان.
2-هل جاء الملك قبل وقته؟ وكيف يأتي قبل وقته.
3-هل يسلط الانسان على الملك.
4-هل للملك عين تفقأ.
5-هل يستأذن احد بالموت.
6-هل يصح ان يرفض موسى وهو النبي العظيم لقاء الله.
تساؤلات كثيرة جعلتهم يقولون اذن هذا مما رواه ابو هريرة عن بعض اهل الكتاب ونسب خطأ لرسول الله وخاصة ان الحديث روي من طريق طاووس عن ابي هريرة من قوله كما في احد روايات البخاري بينما روي من طريق همام عن ابي هريرة, من قول رسول الله.
اذن وبالرغم من وجود هذا الحديث في صحيح البخاري فقد تعرض للنقد سنداً ومتناً ويجيب من يراه صحيحا.
ان من رواه مرفوعاً ثقة ثبت مقبول الرواية وان المقصود من القصة اخذ العبرة وان الموت حتم مهما طالت حياة الانسان عندها يستوي العام والألف عام وان الله جعل الملك يأتي على صورة انسان وان موسى سلط على الصورة الانسية لا على الحقيقة الملكية, وهكذا ترى ان ميدان النقد متاح ما دام في اطار من الضوابط الشرعية الدقيقة والتجرد العلمي والأدب الشرعي.
ومع ذلك, فهذا لا يسمح لنا ان نطعن بصحيح البخاري جملة وان وجد بعض النقد لبعض الروايات.
كما لا يسمح لنا ان نشكك بسنة رسول الله اذ بعد تقرير مبدأ حجية السنة نؤكد انه لا بد من دقة التحري والبحث فلا نرد بلا دليل ولا نطعن بل مرجعية علمية, كما لا نقبل بلا بصيرة ويبقى الاساس هو النصح لله ولرسوله
القاعدة الثانية:.
وجوب التحري الدقيق في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:.
اذ تقرر فيما سبق وجوب الاخذ بالسنة وثبوت حجيتها فلا بد من التأكيد هنا انه لا بد من التحري الدقيق الشديد والبحث المتقن فيما يقبل من الرواية وينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد شُغف اناس بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة في الاكثار من الغرائب وحرصوا في ظنهم – حباً لرسول الله ونشراً لسنته على تصحيح كثير من الروايات بمناهج تتسم بالترقيع او التساهل او الاغضاء عن بعض مكامن الخلل في الرواية – فغفلوا بذلك عما هو اهم واوجب وهو عدم جواز نسبة كلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم نتحقق منه بما يشبه اليقين وفق قواعد النقد الحديثي الدقيق.
لقد ظن بعضهم ان كثرة الرواية والاكثار من تصحيح الحديث خير للسنة وللأمة, حتى وجدنا بعض اهل العلم اذا ناقش حديثاً مشكلاً ثم ترجح لديه صحته بناء على منهج الترقيع يقول بعد ذلك صح الحديث والحمد لله فنقول لهؤلاء ليس المهم الاكثار مما ينسب لرسول الله بل ماذا ينسب وماذا ثبت حقاً.
بل القليل الثابت حقاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل به ويطبق بدقة خير من كثير فيه دخن او خلل ولعل الامامين البخاري ومسلم واجها مثل هذه المشكلة – الرغبة في الاكثار من الرواية – فقاما بجهدهما العظيم فانتقيا من الاف الروايات عدداً محدوداً جداً (بلغ عند البخاري 2600 حديث) وعن مسلم (3033) حديثاً واتفقا على 1906) احاديث.
والامام مسلم نص على هذه القضية صراحة في مقدمة صحيحه اذ يقول:.
"ضبط القليل من هذا الشأن واتقانه, ايسر على المرء من معالجة الكثير منه, ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام.. فالقصد منه الى الصحيح القليل اولى بهم من ازدياد السقيم.." صحيح مسلم 1/4.
نعم لم يقصد الشيخان الى حصر الصحيح لكن قدما انموذجاً متقدماً في وجوب التحري وشدة الانتقاء وان الامر ليس بالكثرة.
انه اذن لا بد من التحري والتدقيق في الرواية فلا يقبل الا حديث صحيح صحيح, سلم من كل شذوذ او علة او خطأ ظاهر او خفي في الرواية, وتحقق في جميع رواته صفات الوثاقة (الضبط التام والعدالة) ولم يطرأ أي خلل في الاتصال وهذه قضايا دقيقة في علم نقد الحديث النبوي يدركها اهل الاختصاص.
النبي صلى الله عليه وسلم يحذر.
لقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نحدث عنه الا بما نعلم صحته واكد ذلك صلى الله عليه وسلم في جملة من النصوص ومن ذلك:.
1- عن المغيرة بن شعبة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ان كذباً عليّ ليس ككذب على احد, فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".. مسلم رقم 4.
2- وعن ابي هريرة وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"كفى بالمرء كذباً ان يحدث بكل ما سمع".
ولذا, قال الامام مالك رحمه الله: "اعلم انه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع, ولا يكون اماماً ابداً وهو يحدث بكل ما سمع" (مقدمة صحيح مسلم 1/11).
ومثله عن الامام عبدالرحمن بن مهدي اذ يقول: "لا يكون الرجل اماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما يسمع" (السابق 1/11).
فاذا كان هذا الحذر مطلوباً في عامة القول والكلام, فكيف اذا كان الامر متعلقاً بما ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فلا شك ان الحذر اشد.
ولذا وجدنا العلماء السابقين شديدي الحذر فيما يروون حتى اذا شك احدهم في حديث ترك روايته ومن امثلة ذلك ما رواه الاوزاعي اذ قال في حق حديث النهي عن صيام يوم السبت: "ما زلت كاتما له حتى انتشر" أي انه كان لا يراه صحيحا فامتنع عن روايته.
4- وعن علي رضي الله عنه قال سمعت النبي يخطب فقال" "لا تكذبوا علي فانه من يكذب علي يلجّ النار" اخرجه البخاري ومسلم.
وقد يقول قائل ان كثيرين لا يقصدون الكذب على رسول الله ولكن يظنون ثبوت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول ان مجرد الظن لا يغني من الحق شيئا.
الا ترى الى قوله تعالى "وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً: النجم 28 نعم, اتفق العلماء ان غلبة الظن مع السلامة من أي نقد او خلل او دليل على الخطأ يكفي لقبول رواية الراوي ومن ثم قبلوا رواية الاحاد.
لكن المشكلة اننا وان قبلنا رواية الاحاد نلاحظ في كثير من الاحايين تساهلا او تجاوزا او اغضاء عن بعض قواعد النقد مما يجعلنا واقعين في حيز الظن المحذر منه, حتى لو لم نرد ذلك فلئن نخطئ في رد حديث عن رسول الله خير من ان نقبل حديثا فيه شك او ظن او خلل ما.
لقد استشعر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطورة الامر
قال الامام البغوي: كره قوم من الصحابة والتابعين اكثار الحديث عن النبي خوفا من الزيادة والنقصان والغلط فيه. حتى ان من التابعين من كان يهاب المرفوع, فيوقفه على الصحابي, ويقول: الكذب عليه اهون من الكذب على رسول الله ومنهم من يسند الحديث حتى اذا بلغ به النبي صلى الله عليه وسلم (سكت عن ذكر اسم رسول الله) ومنهم من يقول: يرفعه... وكل ذلك هيبة للحديث عن رسول الله وخوفا من الوعيد (شرح السنة 1/255).
ولنا عودة الى موضوع تحري الصحابة.
للحديث عن رسول الله نور لا تخطؤه عين العلماء المحققون:.
وفي سياق تحذير النبي صلى الله عليه وسلم ان ينسب له ما لم يقل روى الامام احمد (3/497) عن ابي حميد وابي اسيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "اذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له اشعاركم وابشاركم, وترون انه منكم قريب, فأنا اولاكم به, واذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم, وتنفر اشعاركم وابشاركم منه, وترون انه منكم بعيد فأنا ابعدكم منه" قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/149): رجاله رجال الصحيح.
كيف نفهم هذا الحديث:.
وهنا لا بد من وقفة مهمة, اذ لا ينبغي ان يفهم من هذا الحديث ان نقد الحديث يعود لمجرد الذوق او المشاعر الخاصة او لمجرد الرأي بل بين العماء قواعد دقيقة لنقد الحديث تقوم على اسس علمية وضوابط شرعية متينة. الا ان مما يشير اليه الحديث انه لا يصدر عن رسول الله الا كل حق وخير, تألفه القلوب المؤمنة ويأتي متسقاً مؤتلفاً مع كتاب الله سبحانه فاذا بلغنا عن رسول الله قول ووجدناه مخالفاً لما عُرف شرعاً او مخالفاً للنصوص الثابتة وعندها لن تقبله القلوب المؤمنة العارفة بالله وشرعه, فان ذلك مما يكون دليلاً على ان هذا القول لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجوب التحري منهج قرآني رباني:.
وبعد ان اوردت ما سبق من توجيهات نبوية في وجوب التحري في الرواية عنه صلى الله عليه وسلم فانما بدأت به لأنها تحدثت عن حديثه صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص.
والا فان وجوب التحري في كل شيء هو منهج قرآني وامر رباني.
ومن هنا, كان قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" الحجرات.
وكذا قوله تعالى "ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا" الاسراء.
فاذا كان هذا هو الواجب الدائم في كل شأن الانسان, فكيف اذا كان الامر متعلقاً فيما ينسب الى رسول الله.
لقد كان من توجيهات القرآن: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ان بعض الظن اثم" الحجرات.
فاذا كان بعض الظن اثم يجعلك تجتنب كل الظن في علاقاتك الخلقية والمسلكية مع عامة الخلق فان هذا يؤسس لقضية الحذر الشديد في التعامل مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ان ننسب له ما لم يقله بدقة, ولقد ضرب الصحابة النموذج الاروع والارقى في دقة وشدة التحري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم,
القاعدة الثالثة:.
منهج الصحابة في التحري قائم على اساس نقد المتن وهم اشد الناس تحريا وحذرا.
مر معنا من قبل الحديث عن وجوب التحري الشديد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد طبق الصحافة ذلك عمليا وبشكل دقيق وواضح حتى شددوا في امر الرواية ودعوا الى الاقلال منها ووجهوا جهدهم الاكبر نحو القرآن.
روى الدارمي والحاكم عن قرظة بن كعب، قال: بعثنا عمر بن الخطاب الى الكوفة وشيعنا فمشى معنا ثم قال: إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المرجل، فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم وقالوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقلوا الرواية عن رسول الله، ثم انا شريككم.
وفي لفظ آخر: فلا تصدوهم بالاحاديث فتشغلوهم، جردوا القرآن واقلوا الرواية عن رسول الله" سند الدارمي 1/85 ومستدرك الحاكم1/102 وصححه ولم ينتقده الذهبي.
وروى مسلم عن مجاهد رحمه الله قال: جاء بشير العدوي الى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله.. قال رسول الله.. فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر اليه، فقال بشير: يا ابن عباس مالي لا اراك تسمع لحديثي، احدثك عن رسول الله, ولا تسمع، فقال ابن عباس: انا كنا اذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله: ابتدرته ابصارنا واصغينا اليه بأسماعنا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس الا ما نعرف" اخرجه مسلم (1/13).
نماذج من تحري الصحابة ونقدهم.
ولئن كان هذا موقف الصحابة نظريا فلنر أثر ذلك عملياً.
فمن ذلك: 1- حديث فاطمة بنت قيس: ان رسول الله لم يجعل لها سكن ولا نفقة.. فقال عمر بن الخطاب: "لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت او نسيت، لها السكن والنفقة، قال الله عز وجل: ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا ان يأتين بفاحشة مبينة" اخرجه مسلم رقم (2719).
فههنا نجد عمر رد ما نسبته هذه الصحابية لرسول الله بدلالة القرآن.
ولا سند ثمة ينقد مبينا ان سبب الرد ما ثبت عن الله ورسوله، ومن ثم الانسان يمكن ان يخطأ وليس معصوما.. وفي قوله: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا" تأكيد على حجية السنة، وانه انما رد هذا الحديث لما يراه مخالفا لكتاب الله والسنة ذاتها.
2- السيدة عائشة تسمع عمر وابنه يحدثان عن رسول الله: "إن الميت ليعذب ببكاء اهله" فقالت رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله ان الله ليعذب المؤمن ببكاء اهله، ولكن رسول الله قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه.. وقرأت قوله تعالى :"ولا تزر وازرة وزر أخرى".
أخرجه البخاري (3681) ومسلم (2548).
3- ومن ذلك لما بلغ السيدة عائشة انهم يرون عن رسول الله "يقطع صلاة المرأة والحمار والكلب الأسود، قالت: اعدلتمونا بالكلب والحمار؟! لقد رأيتني مضطجعة على السرير فيجيء النبي فيتوسط السرير فيصلي..".
أخرجه البخاري بألفاظ رقم (382) و(508
القاعدة الرابعة:
القرآن قاضٍ على ما سواه والسنة تبع للقرآن في كل شيء وان كانت تستقل ببعض الأحكام:.
يتداول بعض اهل العلم عبارة مفادها: "السنة تقضي على الكتاب ولا يقضي الكتاب على السنة" وتنسب لبعض التابعين منهم: مكحول الدمشقي كما تنسب للامام احمد بن حنبل ونسبها بعضهم لابن عباس (ينظر: ارشاد الفحول, للشوكاني (1/337) والبحر المحيط للزركشي (4/212) وينظر مسند احمد (5/130).
وهذه العبارة بظاهرة تصدم عقل وقلب المسلم فهي مشكلة موهمة ملبسة اذ كيف يمكن ان يتقدم على القرآن شيء.
نعم ان القرآن والسنة كل وحي من الله "وما ينطق عن الهوى, ان هو الا وحي يوحى", "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه".
لكن من ينكر ان القرآن قطعي الثبوت وان السنة في معظمها الا النادر ظنية الثبوت, ومن ثم امكان خطأ الرواة فيما ينسبون الى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائم تماماً.
لقد حاول بعض اهل العلم ان يفسر تلك العبارة الموهمة تفسيراً يجعلها مقبولة فقالوا: أي ان السنة تخصص الكتاب وتبين مجمله وتفصيله, كما بين لنا رسول الله من اين تقطع يد السارق او كما فصل في احكام الصلاة والزكاة ينظر المصادر السابقة ومناهل العرفان 1/208.
ولكنني اعتقد ان العبارة غير سليمة ولا ينبغي لنا ان ندافع عنها, انه لا ينكر احد حجية السنة ولا يُنكر ان السنة مبينة للكتاب وانها قد تستقل ببعض الاحكام, وهذا لا يجعلها قاضية على الكتاب بل نقول:.
الكتاب والسنة كل وحي من الله فلا يتعارضان ولا يتناقضان وان تستقل السنة الصحيحة بحكم او ان تفصل مجملاً فهذا ليس من المتعارض.
لذا نجد كل علماء الأمة يؤكد على الكتاب والسنة معاً قال الامام الشافعي:.
"واعلم ان من تعلم القرآن جلّ في اعين الناس, ومن تعلم الحديث, قويت حجته, ومن تعلم النحو هيب ومن تعلم العربية رق طبعه ومن تعلم الفقه نبل قدره" انظر مناقب الشافعي للأمام ابن الاثير ص 139.
لكن الاشكال لو كان هناك تعارض حسب الظاهر بين القرآن والسنة مع التأكيد ان التعارض الحقيقي بين القرآن والسنة الثابتة قطعاً لا يمكن ان يوجد اذ لا يتعارض الوحيان.
اننا لو رجعنا الى منهج الصحابة المستفاد من رسول الله نجدهم يؤكدون ان القرآن هو الأصل واليه المرجع وهو الذي يقضي على ما سواه, وبه وحدة الامة وبه يرفع الخلاف, وان الناس ربما نسبوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله خطأ او غفلة او عمداً بينما يستحيل ان يستطيع احد ان يدخل في كتاب الله او ان يحرف او يغير.
فهذا مالك بن عبادة الغافقي سمع عقبة بن عامر يحدث على المنبر عن رسول الله احاديث فقال: مالك بن عبادة: ان صاحبكم هذا الحافظ او هالك (اشارة الى شدة خطورة الحديث عن رسول الله وضرورة الحذر) ثم قال مالك بن عبادة كان آخر ما عهد الينا رسول الله ان قال: عليكم بكتاب الله, فانكم سترجعون الى قوم يشتهون الحديث عني, فمن عقل شيئاً فليحدث به ومن قال علي ما لم اقل فليتبوأ مقعداً من النار, ومن حفظ عني شيئاً فليحدثه".
اخرجه ابو عبيد في فضائل القرآن ص 16 واحمد بن حنبل في المسند 4/334 وسنده صحيح.
فهنا نلاحظ بوضوح ان النبي رد الأمة الى كتاب الله فهو الأصل, وشدد في الرواية عنه خوف الخطأ.
ثم لماذا يصر النبي (صلى الله عليه وسلم) ان لا يكتب عنه شيء فقال بينما اخرجه مسلم بسنده عن ابي سعيد الخدري "لا تكتبوا عني شيئاً الا القرآن, فمن كتب عني غير القرآن فليمحه, وحدثوا عني ولا حرج.." صحيح مسلم.
اذن اراد النبي ان يجعل مرجع المسلمين الذي يجمعهم ويوحدهم ويقضي على ما سواه ولا يقضي عليه شيء هو القرآن.
فلم يسمح بتدوين السنة ابتداء, ولعل لذلك حكماً كثيرة, اضافة الى التأكيد على ان القرآن هو الأصل الجامع والقول الفصل, بيان ان الناس قد يخطئون على رسول الله وتحرير كل ما كتب كل انسان مستحيل, فلا يريد ان يدعي احد ان ما كتبه عن رسول الله حجة مطلقة, بل يريد ان تبقى السنة ظنية الثبوت ليبقى مجال الاجتهاد قائماً, ويبقى القرآن هو الكتاب الخالد الجامع الحكم الفصل.
ويؤيد هذا فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى في حضرة رسول الله فعندما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في لحظات وداع الأمة وقد اجتمع عنده الصحابة ماذا قال لهم؟.
لقد قال (صلى الله عليه وسلم) : "هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده" فقال عمر: ان رسول الله غلب عليه الوجع, وعندكم القرآن, حسبنا كتاب الله", واختلف الناس فأمرهم رسول الله ان يقوموا عنه "ينظر البخاري رقم 4432 ومسلم 1637".
وللأسف بعض الناس يطعن في عمر بسبب هذا الموقف ولا يتنبهون الى ان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد اقر عمر ضمناً على موقفه والا فلو كان الامر حتماً وعزيمة من رسول الله لما قبل موقف عمر ولزجره وانتهى الأمر.
والشاهد في النص قول عمر بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) "عندكم القرآن, حسبنا كتاب الله" أي فمهما وجد اختلاف او نزاع فالمرجع والحكم الفصل والقضاء لكتاب الله.
وهذا الفقه العمري في التأكيد على مرجعية القرآن العظيم الاصل الجامع والقاضي على ما سواه, ما رواه عبدالرزاق في المصنف (20484) بسند صحيح الى عروة بن الزبير قال: اراد عمر بن الخطاب ان يكتب السنن, فاستشار اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذلك, فاشاروا عليه ان يكتبها, فطفق يستخير الله فيها شهراً, ثم اصبح يوماً وقد عزم الله له, فقال اني كنت اريد ان اكتب السنن, واني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله, واني والله لا البس كتاب الله بشيء ابداً" والحديث صحيح عن عروة وعروة وان لم يدرك عمر فقد ولد في اوائل خلافة عثمان, لكنه من اعلم اهل المدينة في عصره وهو يحدثنا عن امر اشتهر عن عمر وصدقه الواقع والتاريخ اذ لم يكن تدوين رسمي للسنة الا في عهد عمر بن عبدالعزيز.
وهنا نلحظ هذا الفقه وذاك الأفق وبعد النظر عند عمر كأنه يقول: الدستور الخالد الذي يسع الزمان والمكان وكل المستجدات والذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه, والذي علينا ان نزيد حرصاً في فهمه والتفقه به والعمل بكل ما فيه ونصونه من أي مخالفة انما هو كتاب الله. وقطعاً لا يعني هذا عدم العمل بالسنة, او التقليل من شأنها او ردها حاشا لله ثم معاذ الله.
ولكن واضح ان السنة لم توثق كما وثق القرآن فقد يدعي المدعون بعد ذلك ما لم يثبت, او ان السنة ربما جاءت لتحاكم وقائع خاصة او تجيب عن مشكلة محددة وليس لتكون حكماً عاماً لكل ظرف كما هو واضح من بعض اجابات رسول الله كحكمه لمن وقع على اهله في رمضان فقال: "تصدق به على نفسك".
لقد كان عمر رضي الله عنه فقهاً منه في جعل القرآن هو الأصل والدستور الجامع القاضي على ما سواه يدعو الى التقليل من الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حذراً وهيبة ان يتقوّل عليه وتأكيداً على مرجعية القرآن.
ولهذا المعنى دعا عمر وعائشة وغيرهم ابا هريرة ان يقلل من الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مما حمل ابا هريرة ان يرد على ذلك قائلا: "يقولون ان ابا هريرة قد اكثر, والله الموعد, ويقولون ما بال المهاجرين والانصار لا يتحدثون مثل احاديثه, ثم يبين عذره في ذلك ودعاء رسول الله له بالحفظ" انظر البخاري رقم 118 ومسلم 2492.
والشاهد رغبة الصحابة بالاقلال من الرواية حذراً من جهة وتأكيداً على القرآن من جهة اخرى.
ويؤكد على هذا ما سبق نقله عن عمر "انكم تأتون قوماً لهم ازيز بالقرآن فلا تصدوهم بالأحاديث او لا تشغلوهم".
ومرة اخرى نؤكد ان السنة وحي كما القرآن, ولو كنت جالساً بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) واسمع منه مباشرة لم يجز لي ان اتردد بالسمع والطاعة والقبول والخضوع فلا فرق بين الوحيين من حيث وجوب الطاعة والامتثال والعمل والحجية.
انما الأمر متعلق بكيفية ورود السنة لنا اذ هي ظنية في معظمها ثبوتاً وقد يحيط بها ما يجعلها متعلقة بواقعة او حكماً خاصاً ومن ثم فالسنة لا يمكن ان تعارض كتاب الله ولا يجوز ان يقال تقدم السنة على كتاب الله اذ لا تعارض اصلاً فاذا وجد هذا التعارض فقطعاً القرآن هو المقدم اذ هو القطعي الذي تكفل الله بحفظه كاملاً, ثم ان طبيعة القرآن من حيث اعجازه هو الذي يسع الزمان والمكان والمستجدات ويوحد الأمة ومن ثم ابقى النبي صلى الله عليه وسلم السنة من غير تدوين ليبقى باب الاجتهاد واسعاً في هذا الميدان توسعة وتيسيراً على الناس.
فالقرآن فرض الحجاب على المرأة دون تفصيل كيفيته وهذا يوسع على الناس من خلال النظر فيما ورد في السنة فيما صح او لم يصح فتقع التوسعة.
والقرآن اجمل فرائض الوضوء ونواقضه, وجاءت امور اخرى في السنة تحتمل الاجتهاد والتصحيح والتضعيف فيقع التيسير.
ان اصول الاحاديث الصحيحة التي اليها المرجع في الأحكام قليلة جداً.
فهذا الامام الشافعي يسأل كم اصول الاحكام فقال: خمسمائة فقيل له كم اصول السنن فقال خمسمائة (مثاقب الشافعي لأبن كثير ص 181), اذن احاديث لأحكام بفرائضها وسننها التي هي حجة واصل لا تتجاوز بنظر الشافعي الف حديث.
ان مشكلتنا اليوم مع قوم يريدون تجاوز كتاب الله او نسيانه او عدم التفقه به, او انهم لا يحسنون فهم كتاب الله, ويتساهلون في التصحيح والتضعيف والنقد باسم الانتصار للسنة فيثقلون كاهل السنة وكاهل الأمة خلاف مراد الله ومراد رسوله, ومن ثم ونحن نؤكد حجية السنة الثابتة, لا بد ان نؤكد على قاعدتين اخريين اضافة لكل ما ذكر سنتحدث عنهما ان شاء الله:.
الاولى: لا تحدث بكل ما سمعنا عن رسول الله.
الثانية: حسن فهم السنة على ضوء القرآن كما يفهم القرآن على ضوء السنة.
يواجه المسلمون تحديات هائلة ويثار في وجههم شبهات خطيرة, وليس آخرها هذه الاساءات لأعظم انسان في الوجود امام الانبياء محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء رحمة وسعادة وهداية.
الكفر يريد لنا العنت والمشقة كما قال تعالى: "ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر".
وهم كما قال تعالى: "إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون".
وهم: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق".
وبينما هذا شأن الكفر والكافرين كان شأن محمد صلى الله عليه وسلم ان جاء لأجل ان يخلص هذه الانسانية من كل عنت ومشقة, ليحقق لهم كل رحمة وهداية وسعادة.
"واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون".
وقال تعالى: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
ومن هنا قد لا نستغرب ما يصدر عن بعض اهل الكفر من مواقف اما جهلاً واما عداءً او لحظة عند بعضهم للوقوف في وجه دعوة الاسلام.
وفي المقابل فانا على يقين كامل ان كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد فيه كل الخير وكل الحق وكل الرحمة والهداية والسعادة.
وعليه, فاذا جاءك عن رسول الله امر قد ترى فيه ما ينافي هناء وسعادة الانسان والرحمة به فهو اما امر غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعاً او هو امر لم يفهمه الانسان على وجهه الصحيح او ان هذا الانسان وقع في اسر الهوى والشهوة والمصلحة الخاصة والانانية وبطبيعة الحال أي تكليف رباني لا بد فيه نوع جهد ومشقة والا لما سمي تكليفاً لكنه قطعاً مستطاع للانسان وفيه الخير كله فمن ذلك الصلاة او الزكاة او الحجاب او تحريم الربا.. الخ.
ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل, يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم, فالذين آمنوا وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون (الأعراف / 157).
ففي ضوء انوار هذه الآيات بيان لصفات رسول الله العليا كما في الكتب السماوية السابقة, ومن اهم خصائصه وصفاته يضع عنهم اصرهم..
ويترتب على ذلك واجبات على هذا الانسان وحق لرسول الله وهو ان يؤمن بهذا الرسول وان يعزره وان ينصره ويتبع هذه الانوار كيف لا وهو مبشر به في الكتب السابقة وقد جاءكم بكل خير.
ومن هنا, كان علينا واجبات عدة, كيف نتبع رسول الله؟ وكيف ننصره وكيف نؤمن به حقاً؟ هذه تساؤلات من المهم بمكان دقة الاجابة عنها, هذا من جهة.
ومن جهة اخرى, اذا كان هذا الرسول العظيم قد جاء بكل خير ورحمة ومبشر به في الكتب السماوية السابقة فلماذا يقف هؤلاء المسيئون هذا الموقف السلبي بل العدواني الشديد تجاه رسول الله..
لا شك ان هنالك اسباباً كثيرة عرفنا القرآن بجذورها واصولها. والذي يعنينا من كل هذه الاسباب ما يخص السنة النبوية:.
ذلك ان هؤلاء المخالفين او المسيئين او بعضهم وعلى هذا سار بعض المستشرقين من قبل يحاولون دائماً ان يتصيدوا مما ينسب الى السنة والى رسول الله صلى الله عليه وسلم من احاديث ونصوص ليثيروا من خلالها الشبهات ويبرروا الاساءات ويؤجّجوا الصراع ويقنعوا الغرب ان هذا الدين انما هو دين قتل او اعتداء او ارهاب.
انه دين لا ينصف المرأة ويمارس التمييز والتفرقة انه دين لا يمكن التعايش معه في انسانية واحدة..
فبعض هؤلاء من المستشرقين او تلامذتهم يعمد الى بعض نصوص السنة يستغلها في تمرير مقولاته وعندما ننظر في تلك النصوص المنسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم مما يستغل في تلك الشبهات, نجدها فعلاً اما غير صحيحة ولا ثابتة واما محرفة او مجتزأة او منزوعة من سياقها او لم تفهم على وجهها.
ثم نجد ايضاً من بعض ابناء الأمة الاسلامية من يذهب الى التمسك بآراء بعيدة عن سماحة هذا الدين وعن حقيقة ما مر معنا من صفة رسول الله وانه جاء رحمة وهداية ويتمسك بآراء يلحق فيها اشد العنت بالناس افراداً او جماعات ومن ثم تجده يسارع – ربما – الى تكفير الآخرين او تبديعهم او وصفهم بالفسق او يحملهم ما لا يطيقون.
وهم اذا يفعلون ذلك ربما تجدهم يستندون الى نصوص منسوبة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وايضاً عندما تتأمل فيما يستندون اليه تجده اما غير ثابت حقيقة او فيه علة او خطأ خفي او ثمة مشكلة في الفهم او التعامل مع السنة.
وفي المقابل, ايضاً نجد من يستغل هذه الظواهر من الاخطاء القاسية في التعامل مع السنة حتى ان بعض المشتغلين بالسنة لربما رووا لنا ما يخالف بعض مقتضيات العقل او التاريخ او الواقع.
مما ادى بآخرين الى ان يقعوا في خطأ آخر لا يقل فداحة عما سبق وهو رفض السنة مطلقاً او المغالاة في تحكيم الرأي الشخصي والذاتي والاسراف في رفض كثير من النصوص بلا دليل علمي موضوعي في الرفض.
اذن نحن امام مشكلات معقدة.
فمن قوم يسيئون التعامل مع السنة, بحيث ينسب اليها ما ليس منها فيتهم النبي بشتى الاتهامات او يسيء الفهم لها او يحرف.. ويتخذها ستاراً للاساءة لرسول الله وللاساءة لصورة الاسلام..
ومن قوم فرطوا في التعامل مع السنة النبوية باسم الحب لرسول الله وباسم اتباع السنة النبوية فلم يلتزموا بالضوابط العلمية المنهجية مما كان سبباً للآخرين ان يطعنوا بالسنة وبرسول الله..
واوجد فريقاً ثالثاً ممن ينتسب للاسلام ان يذهب بعيداً في رفض السنة..
اذن السؤال الكبير كيف نتعامل مع السنة النبوية تعاملاً صحيحاً شرعاً منضبطاً بالضوابط العلمية والمنهجية الدقيقة..
اننا اذا فعلنا ذلك أي قدمنا المنهجية الدقيقة في التعامل مع السنة النبوية فاننا سنعالج تحديات خطيرة وننصر رسولنا صلى الله عليه وسلم اعظم نصر فلا يكون لمن يعادي او لمن هو من غير المسلمين حجة للطعن "لئلا يكون للناس عليكم حجة الا الذين ظلموا" ولا نسمح لمن كان من المسلمين رافعاً راية الاتباع لرسول الله – ونحسبه صادقاً بذلك – لا نسمح له ان ينسب من الاحكام والرؤى والاجتهادات ما يلحق عنتاً بالأمة او يفتح باباً للطعن كما نعالج هذا التطرف في رفض السنة النبوية..
*قدمت بكل هذا لأؤكد اننا احوج ما نكون الى منهجية علمية دقيقة في التعامل مع السنة النبوية وليسمح لي القارئ الكريم ان اثير بين يديه بعض المشكلات الحقيقية التي تؤكد ضرورة ما قلت من دراسة منهجية للسنة النبوية من خلال ذكر بعض الامثلة.
اولاً: احاديث يصححها بعض اهل العلم:.
كلما قرأت ان احداً صححها او اعتمدها اضع يدي على قلبي اشفاقاً وخوفاً ويزداد المي وحسرتي كيف يمكن ان ينسب ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم:.
1- ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث: (الوائدة والمؤودة في النار) رواه ابو داود رقم 4717) وبعد مناقشة له ذهب الشيخ الالباني الى صحته قائلاً "وبالجملة فالحديث صحيح لا شك فيه" (ينظر حاشية مشكاة المصابيح 1/40).
وهنا يقف الانسان عجباً.. كيف تصحح هكذا نص وهو يخالف مقتضى القرآن ويجعل الظالم والمظلوم في حكم واحد.. بالاضافة لمخالفات شرعية كثيرة اذ كيف يعذب الصغير من مات قبل البلوغ وكيف يحاسب من كان في الفترة...
فلو طبقنا القواعد العلمية الصحيحة الدقيقة لما كنا نذهب الى تصحيح الحديث ولما استغله الاعداء للطعن برسول الله..
2- وهناك نماذج اخرى كثيرة من ذلك الحديث الذي ينسب لأبي هريرة عن رسول الله "ان آدم لما رأى ان عمر داود ستين سنة قال رب زده من عمري اربعين سنة فلما انقضى عمر آدم الا اربعين جاءه ملك الموت فقال آدم: اولم يبق من عمري اربعون سنة, قال اولم تعطها ابنك داود؟! فجحد آدم فجحدت ذريته.. ونسي آدم .. فنسيت ذريته..".. رواه الترمذي (3076 و2368).
والحديث مروي من اكثر من طريق وبألفاظ بينها اختلاف ولم يخل طريق من نقد وضعف ومع ذلك وجدنا من صححه او حسنه (ينظر المشكاة 142).
وهنا تعجب كيف يصح لأحد في الوجود ان يعلم كم عمره او عمر غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم اجله على التحديد.. سوى اقتراب اجله.. ولماذا داود بالذات.. وفي الحديث امور اخرى تحتاج الى دراسة..
فهلا طبقنا قواعد النقد الحديثي الدقيق ومنهجية علمية سليمة في التعامل مع السنة فندفع عن سنة رسول الله مثل هذه الاوهام..
وسنورد نماذج كثيرة في مكانها..
ثانياً: وفي المقابل رأيت من يرد كل احاديث الدجال او احاديث عذاب القبر لمجرد انه لم يقنع بها واخذ يطعن بصحيح البخاري ومسلم وفق هواه..
نعم هناك في تلك الروايات ما لا يصح لكن لا بد من دراسة علمية دقيقة منصفة..
القاعدة الاولى: حجية السنة النبوية:.
من بدهيات العلم واولوياته تقرير مبدأ حجية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أي انها سنة ملزمة حجة في ذاتها واجبة الاتباع.
ومع ذلك, فنحن بحاجة ان نقرر ذلك ابتداءً لانه مما يؤسف له اننا نقع – ونحن نتحدث عن منهج التعامل مع السنة – بين تيارات.
فمن قائل ان السنة ليست بحجة ولا ملزمة ومن قائل انها حجة لكنك تجده يشكك في كل شيء بلا حجة ولا برهان.
ومن مدع انه لا يلزمنا من سنة رسول الله الا ما كان متواتراً وما عدا ذلك انما هي ارشادات غير ملزمة.
وفي الوقت نفسه, نجد انفسنا امام آخرين امام مبدأ حجية السنة تجدهم يندفعون بقبول أي حديث نسب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تحر دقيق واف. واذا ما قام باحث ليدقق ويحرر وينقح وينصح اتهم انه معادٍ للسنة النبوية او اتهم بالانكار او الابتداع..
لهذا كله كان لا بد من تقرير مبدأ حجية السنة والتصرف الى مكانتها ووجوب العمل بها رداً لمزاعم من يتهم الباحثين الراغبين في التحقيق بالانكار ورداً لمزاعم الرادين للعمل بالسنة تحت دعاوى التشكيك او غير ذلك.
عندما نواجه بعض الرافضين للاخذ بالسنة بالادلة يبادرون الى التشكيك بما رواه ائمة الهدى من علماء الحديث متجاهلين الجهود العظيمة التي بذلها علماؤنا في جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وروايته ونقده, وتمييز صحيحه من سقيمه, والوقوف على خفايا العلل فيه مما يمكن ان يكون بعض الرواة الثقات قد اخطأ فيه, فضلاً عن كشف ما اخطأ فيه, فضلاً عن كشف ما اخطأ فيه عامة الرواة.
ومن يقف على علوم الحديث ونقده, يدرك انه امام علم متكامل في النقد التاريخي للنصوص تفردت به الامة الاسلامية.
ولا نتفاجأ بمواقف هؤلاء المغرضين او المنكرين او المشككين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبرنا عنهم فقد روى الترمذي عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني, وهو متكئ على اريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله, فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه, وما وجدنا فيه حراماً حرمناه, وان ما حرم رسول الله كما حرم الله" (سنن الترمذي 5/38) كتاب العلم.
وروى نحوه ابو داود (4/200) في كتاب السنة بلفظ:.
الا واني اوتيت الكتاب ومثله معه, الا يوشك رجل شبعان على اريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتموه فيه من حلال فأحلوه, وما وجدتم فيه من حرام فحرموه, وان ما حرم رسول الله كما حرم الله".
ولك ان تقف مع بعض الفاظ الحديث وهو يصور حال اولئك الرافضين لسنة رسول الله, انه انسان مترف, ملأت الدنيا قلبه, يتكلم بلا مسؤولية, يلقي الكلام على عواهنه, مع ما في نفسه من كبر واستعلاء وجهل في آن معاً, يصور ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم: "رجل شبعان متكئ على اريكيته".
ويأتي الرد النبوي على رافضي سنته من وجوه بأبلغ ما يكون, اذ يبين انه صلى الله عليه وسلم:.
1- اوتي الكتاب ومثله معه.
2- ان ما حرم رسول الله كما حرم الله.
وتفصيل ذلك:.
ان القرآن الذي تدعي ايها المُنكر للسنة الاخذ به هو الذي يأمرنا بالأخذ بكل ما جاء وثبت عن رسول الله في آيات كثيرة:.
"وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا", "واطيعوا الله واطيعوا الرسول", "وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحي", "من يطع الرسول فقد اطاع الله", "قل ان تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم".
وكما ان القرآن امر بطاعة النبي, بين ان النبي مبين لما في الكتاب, قال تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون", "وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون".
وعليه, فلو اردت ان تطبق القرآن في امر الصلاة او الزكاة او الصوم او الحج او المعاملات وغير ذلك من مسائل الزواج او الطلاق.. فكيف يمكننا ذلك من غير السنة, فجاءت آيات القرآن لتبين تلك الحقائق وتقول لمن يزعم انه يؤمن بالقرآن: ان القرآن يقول لك ان بياني عند رسول الله.
علاقة السنة بالقرآن:.
ومن ثم بين العلماء علاقة السنة بالقرآن ومكانتها من وجوه:.
فهي تفصل المجمل كتفصيل امر الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم:.
"صلوا كما رأيتموني أصلي".
وهي تفيد المطلق, فالله تعالى يقول: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.." وجاءت السنة لتبين ان القطع يكون من الرسغ وليس لكل اليد.
والسنة تخصيص العام, فالله تعالى يقول: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون".
فقال الصحابة أينا لم يظلم نفسه.. فقال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك إنما هو الشرك, الم تسمعوا إلى قوله تعالى: "إن الشرك لظلم عظيم".
وكما ان السنة قد تؤكد احكاماً فانها ربما قررت احكاماً سكت عنها القرآن, وانما دل عليها القرآن ان اجمالاً او اشارة او احالة بأن احالنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك:.
ذكر الدجال (بقطع النظر عن صحة بعض التفاصيل) وتفاصيل الوضوء والصلاة, وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها او خالتها.
والخلاصة انك لن تكون صحيح الاخذ بكتاب الله سليم الايمان به الا ان تؤمن بالسنة الصحيحة الثابتة.
نعم, لقد نقل الينا القرآن متواتراً كله, برواية جمع عظيم عن جمع عظيم يستحيل تواطؤهم على الكذب, بينما نقلت السنة في معظمها بما يعرف برواية الآحاد, لكن العلماء وضعوا القواعد المتينة لتمييز ما صح وما لم يصح.
ومن هنا, قلنا انه لا بد من تبين هذه القواعد ومعرفتها وتطبيقها بدقة متناهية, فليس كل من نسب الى رسول الله حديثاً قبلناه, كما انه ليس لنا ان نطعن بمصداقية السنة لمجرد الهوى او الرأي الخاص.. او لما تراه يتفق مع فهمك لنص ما.
فاذا ما جاءنا عن رسول الله نص ما اخضعناه لموازين النقد الحديثي الدقيق متناً وسنداً.
اما سنداً فبالقواعد الحديثية المعلومة في مظانها واما متناً فمن خلال محاكمة النص الى المعلوم من كتاب الله والثابت من سنته صلى الله عليه وسلم والمقرر من قطعيات الشريعة وقواعدها.
فالنقد للمتن لا يكون لمجرد الرأي والهوى والتفكير الذاتي للانسان, وانما يكون لدلالات الشريعة وقواعدها.
وهنا نقول قد يقع الاخذ والرد في مثل هذه القضايا وتتباين وجهات النظر فلا بد ان يبقى لدينا متسع في القلوب للحوار والاجتهاد والنظر مع التأكيد على امرين اثنين.
1- ضرورة ان لا يتكلم في امر السنة الا ذو اختصاص علمي دقيق جمع الى علم الشريعة وقواعدها ونقهها علم النقد الحديثي.
2- ان يكون متجرداً عن الهوى متقياً لله ناصحاً لله ولرسوله ولأئمة المسلمين.
نموذج لنقد المتن الشرعي:.
واود ان اضع بين يدي القارئ الكريم انموذجاً لنقد المتن في اطار من الضوابط الشرعية مقدماً بايجاز وجهة نظر من يرد الحديث ومن يدافع عنه, وكيف ان الامر في احيان كثيرة قابل للاجتهاد والنظر من اهله, وهذا لا يضير مع التحري وتقوى الله:.
حدث البخاري في كتاب الانبياء رقم 3226 باسناده عن ابي هريرة قال رسول الله: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكه (ففقأ عينه, كما في بعض الروايات) فرجع (الملَك) إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت, قال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور, فله بما غطت يده بكل شعرة سنة (فلما رجع الملك إلى موسى) قال موسى: أي رب ثم ماذا قال الموت, قال فالآن...).
هذا الحديث في نظر البخاري وجماهير العلماء صحيح وينتقده بعض اهل العلم يرون ان ذلك مما حمله ابو هريرة عن اهل الكتاب ونسب خطأ لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسبب النقد:.
1- هل يتأخر أجل الانسان.
2-هل جاء الملك قبل وقته؟ وكيف يأتي قبل وقته.
3-هل يسلط الانسان على الملك.
4-هل للملك عين تفقأ.
5-هل يستأذن احد بالموت.
6-هل يصح ان يرفض موسى وهو النبي العظيم لقاء الله.
تساؤلات كثيرة جعلتهم يقولون اذن هذا مما رواه ابو هريرة عن بعض اهل الكتاب ونسب خطأ لرسول الله وخاصة ان الحديث روي من طريق طاووس عن ابي هريرة من قوله كما في احد روايات البخاري بينما روي من طريق همام عن ابي هريرة, من قول رسول الله.
اذن وبالرغم من وجود هذا الحديث في صحيح البخاري فقد تعرض للنقد سنداً ومتناً ويجيب من يراه صحيحا.
ان من رواه مرفوعاً ثقة ثبت مقبول الرواية وان المقصود من القصة اخذ العبرة وان الموت حتم مهما طالت حياة الانسان عندها يستوي العام والألف عام وان الله جعل الملك يأتي على صورة انسان وان موسى سلط على الصورة الانسية لا على الحقيقة الملكية, وهكذا ترى ان ميدان النقد متاح ما دام في اطار من الضوابط الشرعية الدقيقة والتجرد العلمي والأدب الشرعي.
ومع ذلك, فهذا لا يسمح لنا ان نطعن بصحيح البخاري جملة وان وجد بعض النقد لبعض الروايات.
كما لا يسمح لنا ان نشكك بسنة رسول الله اذ بعد تقرير مبدأ حجية السنة نؤكد انه لا بد من دقة التحري والبحث فلا نرد بلا دليل ولا نطعن بل مرجعية علمية, كما لا نقبل بلا بصيرة ويبقى الاساس هو النصح لله ولرسوله
القاعدة الثانية:.
وجوب التحري الدقيق في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:.
اذ تقرر فيما سبق وجوب الاخذ بالسنة وثبوت حجيتها فلا بد من التأكيد هنا انه لا بد من التحري الدقيق الشديد والبحث المتقن فيما يقبل من الرواية وينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد شُغف اناس بكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة في الاكثار من الغرائب وحرصوا في ظنهم – حباً لرسول الله ونشراً لسنته على تصحيح كثير من الروايات بمناهج تتسم بالترقيع او التساهل او الاغضاء عن بعض مكامن الخلل في الرواية – فغفلوا بذلك عما هو اهم واوجب وهو عدم جواز نسبة كلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم نتحقق منه بما يشبه اليقين وفق قواعد النقد الحديثي الدقيق.
لقد ظن بعضهم ان كثرة الرواية والاكثار من تصحيح الحديث خير للسنة وللأمة, حتى وجدنا بعض اهل العلم اذا ناقش حديثاً مشكلاً ثم ترجح لديه صحته بناء على منهج الترقيع يقول بعد ذلك صح الحديث والحمد لله فنقول لهؤلاء ليس المهم الاكثار مما ينسب لرسول الله بل ماذا ينسب وماذا ثبت حقاً.
بل القليل الثابت حقاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل به ويطبق بدقة خير من كثير فيه دخن او خلل ولعل الامامين البخاري ومسلم واجها مثل هذه المشكلة – الرغبة في الاكثار من الرواية – فقاما بجهدهما العظيم فانتقيا من الاف الروايات عدداً محدوداً جداً (بلغ عند البخاري 2600 حديث) وعن مسلم (3033) حديثاً واتفقا على 1906) احاديث.
والامام مسلم نص على هذه القضية صراحة في مقدمة صحيحه اذ يقول:.
"ضبط القليل من هذا الشأن واتقانه, ايسر على المرء من معالجة الكثير منه, ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام.. فالقصد منه الى الصحيح القليل اولى بهم من ازدياد السقيم.." صحيح مسلم 1/4.
نعم لم يقصد الشيخان الى حصر الصحيح لكن قدما انموذجاً متقدماً في وجوب التحري وشدة الانتقاء وان الامر ليس بالكثرة.
انه اذن لا بد من التحري والتدقيق في الرواية فلا يقبل الا حديث صحيح صحيح, سلم من كل شذوذ او علة او خطأ ظاهر او خفي في الرواية, وتحقق في جميع رواته صفات الوثاقة (الضبط التام والعدالة) ولم يطرأ أي خلل في الاتصال وهذه قضايا دقيقة في علم نقد الحديث النبوي يدركها اهل الاختصاص.
النبي صلى الله عليه وسلم يحذر.
لقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نحدث عنه الا بما نعلم صحته واكد ذلك صلى الله عليه وسلم في جملة من النصوص ومن ذلك:.
1- عن المغيرة بن شعبة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ان كذباً عليّ ليس ككذب على احد, فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".. مسلم رقم 4.
2- وعن ابي هريرة وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"كفى بالمرء كذباً ان يحدث بكل ما سمع".
ولذا, قال الامام مالك رحمه الله: "اعلم انه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع, ولا يكون اماماً ابداً وهو يحدث بكل ما سمع" (مقدمة صحيح مسلم 1/11).
ومثله عن الامام عبدالرحمن بن مهدي اذ يقول: "لا يكون الرجل اماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما يسمع" (السابق 1/11).
فاذا كان هذا الحذر مطلوباً في عامة القول والكلام, فكيف اذا كان الامر متعلقاً بما ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فلا شك ان الحذر اشد.
ولذا وجدنا العلماء السابقين شديدي الحذر فيما يروون حتى اذا شك احدهم في حديث ترك روايته ومن امثلة ذلك ما رواه الاوزاعي اذ قال في حق حديث النهي عن صيام يوم السبت: "ما زلت كاتما له حتى انتشر" أي انه كان لا يراه صحيحا فامتنع عن روايته.
4- وعن علي رضي الله عنه قال سمعت النبي يخطب فقال" "لا تكذبوا علي فانه من يكذب علي يلجّ النار" اخرجه البخاري ومسلم.
وقد يقول قائل ان كثيرين لا يقصدون الكذب على رسول الله ولكن يظنون ثبوت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول ان مجرد الظن لا يغني من الحق شيئا.
الا ترى الى قوله تعالى "وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً: النجم 28 نعم, اتفق العلماء ان غلبة الظن مع السلامة من أي نقد او خلل او دليل على الخطأ يكفي لقبول رواية الراوي ومن ثم قبلوا رواية الاحاد.
لكن المشكلة اننا وان قبلنا رواية الاحاد نلاحظ في كثير من الاحايين تساهلا او تجاوزا او اغضاء عن بعض قواعد النقد مما يجعلنا واقعين في حيز الظن المحذر منه, حتى لو لم نرد ذلك فلئن نخطئ في رد حديث عن رسول الله خير من ان نقبل حديثا فيه شك او ظن او خلل ما.
لقد استشعر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطورة الامر
قال الامام البغوي: كره قوم من الصحابة والتابعين اكثار الحديث عن النبي خوفا من الزيادة والنقصان والغلط فيه. حتى ان من التابعين من كان يهاب المرفوع, فيوقفه على الصحابي, ويقول: الكذب عليه اهون من الكذب على رسول الله ومنهم من يسند الحديث حتى اذا بلغ به النبي صلى الله عليه وسلم (سكت عن ذكر اسم رسول الله) ومنهم من يقول: يرفعه... وكل ذلك هيبة للحديث عن رسول الله وخوفا من الوعيد (شرح السنة 1/255).
ولنا عودة الى موضوع تحري الصحابة.
للحديث عن رسول الله نور لا تخطؤه عين العلماء المحققون:.
وفي سياق تحذير النبي صلى الله عليه وسلم ان ينسب له ما لم يقل روى الامام احمد (3/497) عن ابي حميد وابي اسيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "اذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له اشعاركم وابشاركم, وترون انه منكم قريب, فأنا اولاكم به, واذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم, وتنفر اشعاركم وابشاركم منه, وترون انه منكم بعيد فأنا ابعدكم منه" قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/149): رجاله رجال الصحيح.
كيف نفهم هذا الحديث:.
وهنا لا بد من وقفة مهمة, اذ لا ينبغي ان يفهم من هذا الحديث ان نقد الحديث يعود لمجرد الذوق او المشاعر الخاصة او لمجرد الرأي بل بين العماء قواعد دقيقة لنقد الحديث تقوم على اسس علمية وضوابط شرعية متينة. الا ان مما يشير اليه الحديث انه لا يصدر عن رسول الله الا كل حق وخير, تألفه القلوب المؤمنة ويأتي متسقاً مؤتلفاً مع كتاب الله سبحانه فاذا بلغنا عن رسول الله قول ووجدناه مخالفاً لما عُرف شرعاً او مخالفاً للنصوص الثابتة وعندها لن تقبله القلوب المؤمنة العارفة بالله وشرعه, فان ذلك مما يكون دليلاً على ان هذا القول لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجوب التحري منهج قرآني رباني:.
وبعد ان اوردت ما سبق من توجيهات نبوية في وجوب التحري في الرواية عنه صلى الله عليه وسلم فانما بدأت به لأنها تحدثت عن حديثه صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص.
والا فان وجوب التحري في كل شيء هو منهج قرآني وامر رباني.
ومن هنا, كان قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" الحجرات.
وكذا قوله تعالى "ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا" الاسراء.
فاذا كان هذا هو الواجب الدائم في كل شأن الانسان, فكيف اذا كان الامر متعلقاً فيما ينسب الى رسول الله.
لقد كان من توجيهات القرآن: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ان بعض الظن اثم" الحجرات.
فاذا كان بعض الظن اثم يجعلك تجتنب كل الظن في علاقاتك الخلقية والمسلكية مع عامة الخلق فان هذا يؤسس لقضية الحذر الشديد في التعامل مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ان ننسب له ما لم يقله بدقة, ولقد ضرب الصحابة النموذج الاروع والارقى في دقة وشدة التحري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم,
القاعدة الثالثة:.
منهج الصحابة في التحري قائم على اساس نقد المتن وهم اشد الناس تحريا وحذرا.
مر معنا من قبل الحديث عن وجوب التحري الشديد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد طبق الصحافة ذلك عمليا وبشكل دقيق وواضح حتى شددوا في امر الرواية ودعوا الى الاقلال منها ووجهوا جهدهم الاكبر نحو القرآن.
روى الدارمي والحاكم عن قرظة بن كعب، قال: بعثنا عمر بن الخطاب الى الكوفة وشيعنا فمشى معنا ثم قال: إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المرجل، فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم وقالوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقلوا الرواية عن رسول الله، ثم انا شريككم.
وفي لفظ آخر: فلا تصدوهم بالاحاديث فتشغلوهم، جردوا القرآن واقلوا الرواية عن رسول الله" سند الدارمي 1/85 ومستدرك الحاكم1/102 وصححه ولم ينتقده الذهبي.
وروى مسلم عن مجاهد رحمه الله قال: جاء بشير العدوي الى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله.. قال رسول الله.. فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر اليه، فقال بشير: يا ابن عباس مالي لا اراك تسمع لحديثي، احدثك عن رسول الله, ولا تسمع، فقال ابن عباس: انا كنا اذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله: ابتدرته ابصارنا واصغينا اليه بأسماعنا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس الا ما نعرف" اخرجه مسلم (1/13).
نماذج من تحري الصحابة ونقدهم.
ولئن كان هذا موقف الصحابة نظريا فلنر أثر ذلك عملياً.
فمن ذلك: 1- حديث فاطمة بنت قيس: ان رسول الله لم يجعل لها سكن ولا نفقة.. فقال عمر بن الخطاب: "لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت او نسيت، لها السكن والنفقة، قال الله عز وجل: ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا ان يأتين بفاحشة مبينة" اخرجه مسلم رقم (2719).
فههنا نجد عمر رد ما نسبته هذه الصحابية لرسول الله بدلالة القرآن.
ولا سند ثمة ينقد مبينا ان سبب الرد ما ثبت عن الله ورسوله، ومن ثم الانسان يمكن ان يخطأ وليس معصوما.. وفي قوله: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا" تأكيد على حجية السنة، وانه انما رد هذا الحديث لما يراه مخالفا لكتاب الله والسنة ذاتها.
2- السيدة عائشة تسمع عمر وابنه يحدثان عن رسول الله: "إن الميت ليعذب ببكاء اهله" فقالت رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله ان الله ليعذب المؤمن ببكاء اهله، ولكن رسول الله قال: إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه.. وقرأت قوله تعالى :"ولا تزر وازرة وزر أخرى".
أخرجه البخاري (3681) ومسلم (2548).
3- ومن ذلك لما بلغ السيدة عائشة انهم يرون عن رسول الله "يقطع صلاة المرأة والحمار والكلب الأسود، قالت: اعدلتمونا بالكلب والحمار؟! لقد رأيتني مضطجعة على السرير فيجيء النبي فيتوسط السرير فيصلي..".
أخرجه البخاري بألفاظ رقم (382) و(508
القاعدة الرابعة:
القرآن قاضٍ على ما سواه والسنة تبع للقرآن في كل شيء وان كانت تستقل ببعض الأحكام:.
يتداول بعض اهل العلم عبارة مفادها: "السنة تقضي على الكتاب ولا يقضي الكتاب على السنة" وتنسب لبعض التابعين منهم: مكحول الدمشقي كما تنسب للامام احمد بن حنبل ونسبها بعضهم لابن عباس (ينظر: ارشاد الفحول, للشوكاني (1/337) والبحر المحيط للزركشي (4/212) وينظر مسند احمد (5/130).
وهذه العبارة بظاهرة تصدم عقل وقلب المسلم فهي مشكلة موهمة ملبسة اذ كيف يمكن ان يتقدم على القرآن شيء.
نعم ان القرآن والسنة كل وحي من الله "وما ينطق عن الهوى, ان هو الا وحي يوحى", "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه".
لكن من ينكر ان القرآن قطعي الثبوت وان السنة في معظمها الا النادر ظنية الثبوت, ومن ثم امكان خطأ الرواة فيما ينسبون الى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائم تماماً.
لقد حاول بعض اهل العلم ان يفسر تلك العبارة الموهمة تفسيراً يجعلها مقبولة فقالوا: أي ان السنة تخصص الكتاب وتبين مجمله وتفصيله, كما بين لنا رسول الله من اين تقطع يد السارق او كما فصل في احكام الصلاة والزكاة ينظر المصادر السابقة ومناهل العرفان 1/208.
ولكنني اعتقد ان العبارة غير سليمة ولا ينبغي لنا ان ندافع عنها, انه لا ينكر احد حجية السنة ولا يُنكر ان السنة مبينة للكتاب وانها قد تستقل ببعض الاحكام, وهذا لا يجعلها قاضية على الكتاب بل نقول:.
الكتاب والسنة كل وحي من الله فلا يتعارضان ولا يتناقضان وان تستقل السنة الصحيحة بحكم او ان تفصل مجملاً فهذا ليس من المتعارض.
لذا نجد كل علماء الأمة يؤكد على الكتاب والسنة معاً قال الامام الشافعي:.
"واعلم ان من تعلم القرآن جلّ في اعين الناس, ومن تعلم الحديث, قويت حجته, ومن تعلم النحو هيب ومن تعلم العربية رق طبعه ومن تعلم الفقه نبل قدره" انظر مناقب الشافعي للأمام ابن الاثير ص 139.
لكن الاشكال لو كان هناك تعارض حسب الظاهر بين القرآن والسنة مع التأكيد ان التعارض الحقيقي بين القرآن والسنة الثابتة قطعاً لا يمكن ان يوجد اذ لا يتعارض الوحيان.
اننا لو رجعنا الى منهج الصحابة المستفاد من رسول الله نجدهم يؤكدون ان القرآن هو الأصل واليه المرجع وهو الذي يقضي على ما سواه, وبه وحدة الامة وبه يرفع الخلاف, وان الناس ربما نسبوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله خطأ او غفلة او عمداً بينما يستحيل ان يستطيع احد ان يدخل في كتاب الله او ان يحرف او يغير.
فهذا مالك بن عبادة الغافقي سمع عقبة بن عامر يحدث على المنبر عن رسول الله احاديث فقال: مالك بن عبادة: ان صاحبكم هذا الحافظ او هالك (اشارة الى شدة خطورة الحديث عن رسول الله وضرورة الحذر) ثم قال مالك بن عبادة كان آخر ما عهد الينا رسول الله ان قال: عليكم بكتاب الله, فانكم سترجعون الى قوم يشتهون الحديث عني, فمن عقل شيئاً فليحدث به ومن قال علي ما لم اقل فليتبوأ مقعداً من النار, ومن حفظ عني شيئاً فليحدثه".
اخرجه ابو عبيد في فضائل القرآن ص 16 واحمد بن حنبل في المسند 4/334 وسنده صحيح.
فهنا نلاحظ بوضوح ان النبي رد الأمة الى كتاب الله فهو الأصل, وشدد في الرواية عنه خوف الخطأ.
ثم لماذا يصر النبي (صلى الله عليه وسلم) ان لا يكتب عنه شيء فقال بينما اخرجه مسلم بسنده عن ابي سعيد الخدري "لا تكتبوا عني شيئاً الا القرآن, فمن كتب عني غير القرآن فليمحه, وحدثوا عني ولا حرج.." صحيح مسلم.
اذن اراد النبي ان يجعل مرجع المسلمين الذي يجمعهم ويوحدهم ويقضي على ما سواه ولا يقضي عليه شيء هو القرآن.
فلم يسمح بتدوين السنة ابتداء, ولعل لذلك حكماً كثيرة, اضافة الى التأكيد على ان القرآن هو الأصل الجامع والقول الفصل, بيان ان الناس قد يخطئون على رسول الله وتحرير كل ما كتب كل انسان مستحيل, فلا يريد ان يدعي احد ان ما كتبه عن رسول الله حجة مطلقة, بل يريد ان تبقى السنة ظنية الثبوت ليبقى مجال الاجتهاد قائماً, ويبقى القرآن هو الكتاب الخالد الجامع الحكم الفصل.
ويؤيد هذا فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى في حضرة رسول الله فعندما كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في لحظات وداع الأمة وقد اجتمع عنده الصحابة ماذا قال لهم؟.
لقد قال (صلى الله عليه وسلم) : "هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده" فقال عمر: ان رسول الله غلب عليه الوجع, وعندكم القرآن, حسبنا كتاب الله", واختلف الناس فأمرهم رسول الله ان يقوموا عنه "ينظر البخاري رقم 4432 ومسلم 1637".
وللأسف بعض الناس يطعن في عمر بسبب هذا الموقف ولا يتنبهون الى ان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد اقر عمر ضمناً على موقفه والا فلو كان الامر حتماً وعزيمة من رسول الله لما قبل موقف عمر ولزجره وانتهى الأمر.
والشاهد في النص قول عمر بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) "عندكم القرآن, حسبنا كتاب الله" أي فمهما وجد اختلاف او نزاع فالمرجع والحكم الفصل والقضاء لكتاب الله.
وهذا الفقه العمري في التأكيد على مرجعية القرآن العظيم الاصل الجامع والقاضي على ما سواه, ما رواه عبدالرزاق في المصنف (20484) بسند صحيح الى عروة بن الزبير قال: اراد عمر بن الخطاب ان يكتب السنن, فاستشار اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذلك, فاشاروا عليه ان يكتبها, فطفق يستخير الله فيها شهراً, ثم اصبح يوماً وقد عزم الله له, فقال اني كنت اريد ان اكتب السنن, واني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله, واني والله لا البس كتاب الله بشيء ابداً" والحديث صحيح عن عروة وعروة وان لم يدرك عمر فقد ولد في اوائل خلافة عثمان, لكنه من اعلم اهل المدينة في عصره وهو يحدثنا عن امر اشتهر عن عمر وصدقه الواقع والتاريخ اذ لم يكن تدوين رسمي للسنة الا في عهد عمر بن عبدالعزيز.
وهنا نلحظ هذا الفقه وذاك الأفق وبعد النظر عند عمر كأنه يقول: الدستور الخالد الذي يسع الزمان والمكان وكل المستجدات والذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه, والذي علينا ان نزيد حرصاً في فهمه والتفقه به والعمل بكل ما فيه ونصونه من أي مخالفة انما هو كتاب الله. وقطعاً لا يعني هذا عدم العمل بالسنة, او التقليل من شأنها او ردها حاشا لله ثم معاذ الله.
ولكن واضح ان السنة لم توثق كما وثق القرآن فقد يدعي المدعون بعد ذلك ما لم يثبت, او ان السنة ربما جاءت لتحاكم وقائع خاصة او تجيب عن مشكلة محددة وليس لتكون حكماً عاماً لكل ظرف كما هو واضح من بعض اجابات رسول الله كحكمه لمن وقع على اهله في رمضان فقال: "تصدق به على نفسك".
لقد كان عمر رضي الله عنه فقهاً منه في جعل القرآن هو الأصل والدستور الجامع القاضي على ما سواه يدعو الى التقليل من الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حذراً وهيبة ان يتقوّل عليه وتأكيداً على مرجعية القرآن.
ولهذا المعنى دعا عمر وعائشة وغيرهم ابا هريرة ان يقلل من الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مما حمل ابا هريرة ان يرد على ذلك قائلا: "يقولون ان ابا هريرة قد اكثر, والله الموعد, ويقولون ما بال المهاجرين والانصار لا يتحدثون مثل احاديثه, ثم يبين عذره في ذلك ودعاء رسول الله له بالحفظ" انظر البخاري رقم 118 ومسلم 2492.
والشاهد رغبة الصحابة بالاقلال من الرواية حذراً من جهة وتأكيداً على القرآن من جهة اخرى.
ويؤكد على هذا ما سبق نقله عن عمر "انكم تأتون قوماً لهم ازيز بالقرآن فلا تصدوهم بالأحاديث او لا تشغلوهم".
ومرة اخرى نؤكد ان السنة وحي كما القرآن, ولو كنت جالساً بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) واسمع منه مباشرة لم يجز لي ان اتردد بالسمع والطاعة والقبول والخضوع فلا فرق بين الوحيين من حيث وجوب الطاعة والامتثال والعمل والحجية.
انما الأمر متعلق بكيفية ورود السنة لنا اذ هي ظنية في معظمها ثبوتاً وقد يحيط بها ما يجعلها متعلقة بواقعة او حكماً خاصاً ومن ثم فالسنة لا يمكن ان تعارض كتاب الله ولا يجوز ان يقال تقدم السنة على كتاب الله اذ لا تعارض اصلاً فاذا وجد هذا التعارض فقطعاً القرآن هو المقدم اذ هو القطعي الذي تكفل الله بحفظه كاملاً, ثم ان طبيعة القرآن من حيث اعجازه هو الذي يسع الزمان والمكان والمستجدات ويوحد الأمة ومن ثم ابقى النبي صلى الله عليه وسلم السنة من غير تدوين ليبقى باب الاجتهاد واسعاً في هذا الميدان توسعة وتيسيراً على الناس.
فالقرآن فرض الحجاب على المرأة دون تفصيل كيفيته وهذا يوسع على الناس من خلال النظر فيما ورد في السنة فيما صح او لم يصح فتقع التوسعة.
والقرآن اجمل فرائض الوضوء ونواقضه, وجاءت امور اخرى في السنة تحتمل الاجتهاد والتصحيح والتضعيف فيقع التيسير.
ان اصول الاحاديث الصحيحة التي اليها المرجع في الأحكام قليلة جداً.
فهذا الامام الشافعي يسأل كم اصول الاحكام فقال: خمسمائة فقيل له كم اصول السنن فقال خمسمائة (مثاقب الشافعي لأبن كثير ص 181), اذن احاديث لأحكام بفرائضها وسننها التي هي حجة واصل لا تتجاوز بنظر الشافعي الف حديث.
ان مشكلتنا اليوم مع قوم يريدون تجاوز كتاب الله او نسيانه او عدم التفقه به, او انهم لا يحسنون فهم كتاب الله, ويتساهلون في التصحيح والتضعيف والنقد باسم الانتصار للسنة فيثقلون كاهل السنة وكاهل الأمة خلاف مراد الله ومراد رسوله, ومن ثم ونحن نؤكد حجية السنة الثابتة, لا بد ان نؤكد على قاعدتين اخريين اضافة لكل ما ذكر سنتحدث عنهما ان شاء الله:.
الاولى: لا تحدث بكل ما سمعنا عن رسول الله.
الثانية: حسن فهم السنة على ضوء القرآن كما يفهم القرآن على ضوء السنة.