إن التعليم هو (الحامض) الذي يذيب شخصية الكائن الحي، ثم يكوّنها كما يشاء، إن هذا (الحامض) هو أشد قوة وتأثيرًا من أي مادة كيمائية، فهو الذي يستطيع أن يحول جبلاً شامخًا إلى كومة تراب).
بهذه الكلمات لخص الشاعر "محمد إقبال" تجربة التعليم الغربي.
فمنذ بزوغ شمس هذا الدين على الدنيا وما فتئ أعداؤه يحاولون إطفاء هذا النور ومحاربة أهله، ولقد كانت محاولتهم القديمة تتلخص في المقارعات العسكرية، واحتلال الأرض، وقتل الرجال وأخذ الخيرات، ثم انتقل مفكرو الغرب من طريقتهم الممقوتة القديمة التي كانوا يؤثرونها في إبادة الأجيال، إلى طريقة جديدة تبدلت فيها الوسائل والأساليب، فأصبحت الجامعات والمدارس الأجنبية بمثابة قاعدة الاحتلال الجديدة ومنطلق جيوشهم، وأصبحت المناهج التعليمية والتربوية هي أهم أسلحته في الاستيلاء على قلوب وعقول أبنائنا وبناتنا والفتك بها.
يعترف مؤلف كتاب (الإسلام في التاريخ الحديث) (W:C: Smlth) بالتأثير العقلي العميق الذي يتركه التعليم الغربي الحديث ومراكزه في العالم الإسلامي يقول: (لقد جرف تيار نظام التعليم الغربي الشباب الإسلامي في البلاد العربية والعجمية (الذين كانوا زبدة أمتهم وزهرة بلادهم) وغيّر عقليتهم إلى حدّ أن عقولهم أصبحت لا تستطيع أن تسيغ الإسلام الصحيح، وأصبحوا لا يندمجون في المجتمع الإسلامي أيضًا ويصبحون جزءًا منه).
لقد فطن الغرب أن التعليم هو أداة جبارة في التغيير، وهو إن كان بالنسبة للغرب هو سر نهضتها، إلا أنه في كثير من الأحيان يعد عندنا هو العامل الأساس وراء كثير من مشكلاتنا، فقد استغله الغرب ليكون أداة تغيير نحو الأسوأ في مجتمعاتنا.
ولقد استخدم الغرب لينال بغيته في تغريب التعليم عددًا من الوسائل والأساليب كان من أبرزها:
إنشاء المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين:
كان من أولى أدوات الاستعمار في سعيه لتدمير عقول أبنائنا: هو زرع المؤسسات المسماة بالتعليمية على مستويات مختلفة، تبدأ بتعليم الأطفال حتى التعليم الجامعي وما بعده من الدراسات، وكان الهدف الأكبر من زرع تلك المؤسسات في إحداث عملية تغريب وعلمنة وتنصير لعقول النشء المسلم، وبالذات لعقول ونفوس أبناء النخب الحاكمة في البلدان الإسلامية، والذين كانوا يعدون بتولي مسؤولية حكم تلك البلاد بالتنسيق مع الاستعمار الغربي.
فهذا المنصر هاملين يقترح على صديقه اليهودي روتشيلد: افتتاح مدرسة ثانوية في تركيا عام 1863م. قائلاً: "لقد أنشأ الأتراك حصنًا لفتح إسطنبول، وأنا سأنشئ هنا مدرسة لهدمهم". هذه العبارة على وجازتها تلخص لنا الدور الخطير الذي لعبته المدرسة الأجنبية في تفكيك العالم الإسلامي وتفتيت ريحه.
ويقول منصر آخر "جب" عن مدرسة أجنبية أخرى في لبنان: (إن مدرسة البنات في بيروت هي بؤبؤ عيني!!).
وتتلخص أهداف تلك المدارس الأجنبية فيما يلي:
الهدف الأول: تشكيك أبناء المسلمين في دينهم، من خلال إدخال الشبه عليهم، وزرع بذور الزيغ والإلحاد بينهم. وكذا نشر الانحراف الخلقي من باب أولى.
الهدف الثاني: تكوين طليعة أو نخبة من أبناء المسلمين في كل بلد تدخله هذه الجامعة؛ ليكونوا قادة المستقبل وأصحاب القرار فيه فيما بعد، والتمكين لهم من ذلك بعد حقنهم بالفكر العلماني وقطع صلتهم بدينهم.
الهدف الثالث: خلق التبعية، وفرض الهيمنة المعنوية والحضارية على المجتمع المسلم، وهذا الهدف هو أهم تلك الأهداف.
المدارس الأجنبية ومدى انتشارها في العالم الإسلامي:
قدحت الشرارة الأولى لتلك المدارس في بيروت، بإنشاء مدرسة للبنات في الإمبراطورية العثمانية سنة 1830م؛ لأن البنات سيكُنَّ أمهات؛ فإذا تربَّيْن في هذه المدارس النصرانية أثّرن على أولادهن!! وكانت تعنى ببنات الأسر والبيوت الكبيرة اللاتي سيكون لهن السيطرة على الجيل المقبل.
وقد تركزت في لبنان جهود الأمريكيين والفرنسيين، وقد كان للجامعة اليسوعية (الأمريكية فيما بعد) وجامعة القديس يوسف دور خطير في لبنان بالتقاط النابهين من نصارى الشام وبنائهم نماذج متغربة تعمل لحساب المشروع الغربي؛ حيث ارتبط كثير منهم بالمخطط الماسوني الهادف لإسقاط الدولة العثمانية، وتفتيت العالم الإسلامي وغرس الدولة اليهودية في المنطقة.
وفي مصر عام 1840م من خلال البعثات التنصيرية تأسست الكلية الفرنسية بالإسكندرية والجمعية الإنجيلية البروتستانتية، وجمعية راهبات القلب المقدس عام 1845م، ثم تلتها: الإخوة المسيحيون والفرير عام 1847م، ثم الآباء اليسوعيون والجزويت، ثم الفرنسيسكان 1859م . ثم تبعتها مدارس الآباء اليسوعيين عام 1880م كمقدمة لاحتلال مصر في عام 1882م، وقد بلغ عدد مجموع الطلاب من المسلمين 7117 طالباً مسلماً حتى عام 1891م، وهو رقم مذهل بمقاييس تلك الأيام وظروفها.
كان انتشار المدارس الأجنبية في مصر مكثفاً ومقصودًا، حتى إنها الآن تبلغ عشرات الآلاف من المدارس، وتبلغ نسبة الطلاب الذي يتعلمون بها حوالي 25 في المئة.
ويشير مؤرخو المدارس الأجنبية أن الجالية اليونانية كانوا كلما حلوا في بلد أنشؤوا فيه كنيسة ومدرسة، كما فعلوا في الإسكندرية عام 1843م ثم في المنصورة، وطنطا، وبور سعيد، والسويس، والقاهرة وغيرها من محافظات مصر، وهكذا الجالية الإيطالية منذ عام 1862م، والجالية الألمانية عام 1866م، واليهود منذ عام 1872م، والمارونيون السوريون، وكانت أولى الجاليات الجالية الأرمنية عام 1828م في منطقة بولاق بمدينة القاهرة.
أما عن تعليم البنات: فقد كان هناك مدرستان في أواخر العقد السادس من القرن الماضي للتعليم العام بحي الأزبكية: واحدة تابعة للكنيسة الأرثوذكسية، والأخرى تابعة لكنيسة الأقباط الإنجيليين. وفي عام 1904م أنشأت الكنيسة القبطية أول مدرسة صناعية ببولاق.
وقد عملت كثير من هذه المدارس بمبدأ المواءمة واستغلال الفرص المتاحة؛ بحيث تظهر ما جاءت من أجله كلما سنحت الفرصة، وتتستر حين تضيق عليها الأمور.
كما شهدت سوريا بالتزامن مع حالة لبنان ومصر جهودًا موسعة لفتح المدارس الإرسالية، حتى كان نصيب سوريا وحدها مــن المدارس الأمريكية عــام 1909م: (174) مدرســــة فـي المـدن والقــرى.
وفي السودان من أنواع المدارس والبعثات التنصيرية الشيء الكثير، بل إن عدد الكنائس في الخرطوم يفوق عدد المساجد!!
وأما في جبال النوبة فقد استولت الإرساليات البريطانية على التعليم فيها منذ عام 1919م وحاصرت توسع الإسلام واللغة العربيــة، وأقفلت ما يفتح مــن المدارس الإســلامية عــام 1931م.
وفي العراق: في أوائل القرن العشرين الميلادي كانت أول مدرسة تبشيرية في البصرة مدرسة للبنات، ثم انتشرت مدارسهم في أنحاء العراق.
وهذا ما جرى عليه الحال في سائر بلاد الإسلام خاصة البلاد التي دخلها الاستعمار.
غير أن فصول المؤامرة لم تنته، بعد فهذه جريدة المصريين الإلكترونية تورد خبرًا بتاريخ 21 - 10 - 2009 تحت عنوان (لتخريج أجيال متأثرة بالأسلوب الأمريكي.. "سكوبي" تعلن إنشاء مدارس أمريكية بالقاهرة والإسكندرية الدراسة فيها بالمجان)! وجاء في تفاصيل الخبر: كشفت مارجريت سكوبي السفيرة الأمريكية لدى مصر عن عزم الإدارة الأمريكية إنشاء العشرات من المدارس النموذجية بالقاهرة والإسكندرية بمناهج وإدارة أمريكية كاملتين بتمويل من المعونة الأمريكية، وبالاتفاق مع وزارة التربية والتعليم.
وقالت:" إن الدراسة بتلك المدارس ستكون بالمجان، وتخصص للطلاب المتميزين ممن تنطبق عليهم الشروط الأمريكية"، وأوضحت أن الهدف من ذلك: هو تخريج مئات الطلاب سنويا؛ ليكونوا نواة لقاعدة طلابية متوافقة مع أحدث الأساليب المتبعة بالولايات المتحدة.
ولم توضح السفيرة في تصريحات على هامش الاحتفال الذي أقيم مساء الثلاثاء بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على إنشاء المركز الثقافي الأمريكي بالإسكندرية، ماهية الشروط الواجب انطباقها على الطلاب الذين سيتم قبولهم في تلك المدارس.
ـ أما التعليم الجامعي فلدينا العديد من المؤسسات التي كان لها أبلغ الأثر في تحول كثير من أبناء الأمة عن قيم دينهم منها:
ـ جامعة القديس يوسف في لبنان، وهي جامعة بابوية كاثوليكية (تعرف الآن بالجامعة اليسوعية).
ـ الجامعة الأمريكية التي كانت من قبل تسمى (الكلية السورية الإنجيلية)، ثم كلية بيروت، وقد أنشئت في عام 1865م، وهي جامعة بروتستانتية.
ـ الكلية الفرنسية في لاهور، وأسست في لاهور باعتبار أن هذا البلد يكاد يكون البلد الفريد في تكوينه في شبه القارة الهندية.
ـ (كلية روبرت) في إستانبول، والكلية الأمريكية (الجامعة الأمريكية فيما بعد في القاهرة).
ـ كلية جوردن (البريطانية) في الخرطوم، وأخيرًا الجامعة الأمريكية الجديدة في الشارقة، وفي قطر!
ـ هناك الجامعة الألمانية والفرنسية ـ في المستقبل القريب ـ في مصر، اللتان شرع في تأسيسهما مؤخرًا.
المدارس الأجنبية والحرب على عقول الأطفال:
نستطيع أن نلمس مدى الثمار الخبيثة التي ستنتجها تلك المدارس؛ إذا ألقينا نظرة سريعة على مدارس اللغات الأجنبية في بلداننا العربية، فغالبًا ما توجد داخل كل مدرسة كنيسة، خاصة مدارس الراهبات، وتأخذ المُدرسة (الراهبة) الأطفال إلى الكنيسة لتعودهم على سماع الأجراس ومشاهدة الطقوس المسيحية وتوزيع بعض الكتيبات كي يألفوا هذا الجو، فكثيرًا ما نرى أطفال المسلمين الصغار يحركون أيديهم بالتثليث وأداء حركات الطقوس الصليبية.
أما المساجد في مدارس اللغات فيحكي التلاميذ أنها دائمًا مغلقة بحجة الحفاظ على دورات المياه ومنع سرقة المصاحف.
كما أن الحجاب ممنوع داخل هذه المدارس، فخلال العام 87/88 صدرت تعليمات خاصة لمدارس الراهبات في الإسكندرية والقاهرة بمنع قبول أوراق الطالبات المحجبات والمدرسات اللاتي يردن التدريس في هذه المدارس، إلى جانب أنه ممنوع على أي طالبة ارتداء الأزياء الطويلة (الماكسي باللهجة المصرية الدارجة).. ما عدا غطاء بسيط من الممكن وضعه على الرأس.. وحتى من ترتدي حجابًا بسيطًا يتم استدعاء ولي أمرها لخروجها على تقاليد المدرسة والاطمئنان والاستفسار عن سبب هذا التغيير، وعلى أنه مجرد تقليد ليس له أهداف سياسية أو دينية! إلى جانب ترهيب أولياء الأمور والطالبات من هذه الأزياء المحتشمة.
إضافة إلى مناهج مدارس اللغات وخاصة في المراحل الابتدائية والإعدادية، هي مقررات أجنبية صرفة، فيتم تدريس تاريخ وجغرافية ألمانيا أو فرنسا تبعًا للغة مدمجًا في ذلك كل ما يحيط بالغرب من عادات وتقاليد وأفكار.
ناهيك عن الاختلاط بين الرجال والسيدات وغيرها من الأمور التي تسيء لأخلاق الأطفال، حيث تقوم كثير من هذه المدارس بإقامة حفلات نهاية العام وتستدعي لها الراقصين والرقصات إضافة إلى الرحلات المختلطة، وتقوم تلك المدارس بإضافة حصص إضافية لتعليم الموسيقى والرقص للفتيات لمن ترغب في ذلك.
هذا ما تعلمه المدارس الأجنبية لأولادنا وخاصة أبناء الصفوة منهم الذين يُنتظر أن يكون منهم قادة المجتمع في المستقبل ونخبته المثقفة، ثم لك أن تتخيل إن كان هذا ما يقدم لأطفالنا في تلك المرحلة فلا تتعجب أن تُخرج هذه المدارس من يهاجم الإسلام ويحارب مظاهر التدين داخل المجتمع.
الثمار الخبيثة للمدارس الأجنبية (الجامعة الأمريكية نموذجًا):
أـ الجامعة الأمريكية في لبنان:
تأسست الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1865م، وهذا التوقيت الزمني له صلة بالإجهاز على الدولة العثمانية ـ التي أطلقوا عليها لقب الرجل المريض- وكان اسمها "الكلية السورية الإنجيلية" وكان هناك تنافس بينها وبين الجامعة اليسوعية ولكنهما تعاونا معًا بناء على دعوة من جب الذي قال: يجب ألا يكون ثمة نعوت مثل: أمريكي، إنكليزي، ألماني… فليكن اسمنا "نصارى".
ومعظم أساتذة الجامعة الأمريكية قسس مثل: دانيال بلس، فيليب حتى، ستيفن بزوز، بيارد ضودج.
وأما مناهجها: فكانت مادة الإنجليزي ـ على سبيل المثال ـ عبارة عن نصوص منقولة من التوراة، كما كان يُستغل كل درس في سبيل تأويل مسيحي لفروع العلوم كالتاريخ وعلم النبات…
واتُفق في عام 1909م أن احتج الطلبة المسلمون على إجبارهم على الدخول إلى الكنيسة؛ فاجتمعت عمدة الجامعة وأصدرت منشورًا طويلاً جدًا، جاء في مادته الرابعة ما يلي:
"إن هذه كلية مسيحية أسست بأموال شعب مسيحي: هم اشتروا الأرض وهم أقاموا الأبنية، وهم أنشؤوا المستشفى وجهزوه، ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء. وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده، فتعرض منافع الدين المسيحي على كل تلميذ … وهكذا نجد أنفسنا ملزمين بأن نعرض الحقيقة المسيحية على كل تلميذ… وإن كل طالب يدخل إلى مؤسستنا يجب أن يعرف مسبقًا ماذا يطلب منه".
وما زالت الجامعة الأمريكية ماضية في مخططها الاستعماري؛ فقد نشر الكاتب "لدفيك برنهارد" سنة 1905م مقالاً عنوانه "أمريكا في الشرق" صور فيه الكلية السورية الإنجيلية على أنها محاولة مدروسة لتمهيد الطريق أمام المصالح الأمريكية.
كما كان للجامعة الأمريكية دور في هدم اللغة العربية لعلمهم أن قوة المسلمين بتمسكهم بلغة القرآن الكريم "الفصحى".. فنشطوا في الدعوة إلى العامية، وأن يحل الحرف اللاتيني مكان العربي.. وهم يقصدون من وراء ذلك أن تتعدد اللهجات. لكن هذه الدعوة فشلت، فأعادت الجامعة الأمريكية الفكرة تحت شعار "تبسيط اللغة" وألف الدكتور أنيس فريحة (أحد أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت) كتابًا أسماه "تبسيط قواعد اللغة العربية وتبويبها على أساس منطقي جديد".
وتلقف هذه الدعوة الأخيرة عدد من رواد التغريب في العالم العربي كان من بينهم "طه حسين"، ونصارى لبنان…
وعندما فشلت الجامعة الأمريكية في كثير من مخططاتها تبنى بعض القائمين عليها "الدعوة العلمانية" في أوساط المسلمين وهدفهم من ذلك إبعاد المسلمين عن حقيقة دينهم، والزج بهم في مهاوي الضياع والقلق. يقول ليفونيان : "خابت دول أوروبا في الحروب الصليبية الأولى من طريق السيف؛ فأرادت أن تثير على المسلمين حربًا صليبية جديدة من طريق التبشير، فاستخدمت لذلك الكنائس والمدارس والمستشفيات، وفرقت المبشرين في العالم. وهكذا تبنت الدول حركة التبشير لمآربها السياسية ومطامعها الاقتصادية".
وهكذا: فالجامعة الأمريكية استعمارية في نشأتها، تبشيرية في أهدافها، والاستعمار والتبشير صنوان لا ينفصل أحدهما عن الآخر. وهي بعد ذلك عدوة لآمال العرب والمسلمين، تآمرت علينا في كل قضايانا ابتداء بهدم الخلافة الإسلامية وانتهاء بقضية فلسطين.
ب ـ الجامعة الأمريكية في مصر:
لعلنا لن نتحدث طويلاً عن نشأة الجامعة في مصر وأهدافها، فهي نفس الأهداف التي جعلها تمد جذورها في لبنان وغيرها من الدولة العربية والإسلامية، لكننا سنلقي الضوء على مساحات صغيرة جدًا في ممارسات تلك الجامعة في مصر ومناهجها والعينة بينة كما يقولون.
كيف يتم تدريس التاريخ الإسلامي في الجامعة:
معظم القائمين على تدريس التاريخ الإسلامي هم أساتذة مسيحيين أجانب ويقومون أيضًا بتدريس تاريخ الشرق الأوسط والحركات الإسلامية المعاصرة.
تقوم الجامعة الأمريكية بتدريس التاريخ الإسلامي من منظورها المعادي للإسلام فعناوين محاضراتها:
- مناقشة ما إذا كان القرآن الكريم كتابا موضوعيا أم لا! ومن خلال ذلك تشكك في القرآن الكريم وإمكانية استخدامه كمرجع تاريخي كما أنها لا تعترف بالأحاديث النبوية في دلائلها على المغزى التاريخي والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي يعرض برؤية استشراقية خالصة حيث يصور الرسول عليه الصلاة والسلام على أنه مجدد ومصلح اجتماعي له فكر خاص، وقد وحد العرب وأحدث تحولاً اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا في حياة البدو وفي منطقة صحراوية كالجزيرة العربية، وكان شعار الإسلام هو الحرب، وبذلك انتشر عن طريق الحرب وقطع الطرق وحرب العصابات واستمالة الشخصيات لتدخل في الإسلام عن طريق إمدادها بالمال.. وأن أسباب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة سببه ليس عقائديًا وإنما له أسباب وأبعاد دنيوية توسعية تخفى عن السطحيين.. وأن العصر الذهبي للتاريخ الإسلامي حدثت خلاله فتن كبرى وصراعات بين الصحابة على تولى السلطة، وأن عليًا لم يبايع أبا بكر الصديق لأنه لم يوافق على ميراث فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام وزوجة علي بن أبي طالب وأن أسباب تخلفنا وتواجدنا في ركب العالم الثالث يرجع أساسًا إلى التوكل وهذا من الدين.
وفي قسم تطور البشرية: يتم تدريس الفتوحات الإسلامية على أنها هجمات تتارية، ويقارن بينها وبين المغول والتتار والفرس والروم ويقود ذلك الأمريكي" نيكولاس هوبكنـز" أستاذ تطور البشرية ورئيس هيئة التحرير بالجامعة الأمريكية، وأثناء أي نقاش يطرح حول الإسلام يستنكر فيه الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات وتطرح أسئلة فجائية على بعض الطلبة والطالبات حول أسباب تعدد الزوجات وسبب كثرة زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام، كما تثار الخلافات المذهبية، أما أسئلة الامتحانات التي تتعلق بالتاريخ الإسلامي فمعظمها تكون مثلاً على النحو التالي:
- انقد النظرة السنية لتاريخ الصحابة.
- أسباب حدوث الفتنة الكبرى وصراعات المسلمين.
- عدد الخلافات المذهبية في الإسلام.
- الأسباب الاقتصادية لتفشي ظاهرة الحجاب.
والإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة يجب طبعاً أن تتسم بموضوعيتهم المزعومة !
والندوات التثقيفية التي تديرها الجامعة لكبار العلمانيين في مصر تدور مثلاً حول: تفشي ظاهرة الحجاب كأنها مرض سببه الفقر، وغيرة الرجل الشرقي، ومناقشة ظاهرة الأمية وتلوث البيئة في مصر.
أما المتحدثات عن حقوق المرأة فهن "أمينة السعيد" أو "نوال السعداوي" وما شابه ذلك من المثقفين اليساريين، إلى جانب سلسلة الندوات التي كانت عن الصراع العربي الإسرائيلي، حيث قام رئيس الجامعة باستدعاء "سامي زبيدة" اليهودي المتعصب لإلقاء عدة ندوات ومحاضرات في الجامعة الأمريكية حول الصراع العربي الصهيوني.
هذا ما تقوم به مؤسسة تعليمية غربية بعقول ونفوس شبابنا، فهل يفكر بعد ذلك عاقل بإرسال أبنائه لمثل تلك المدارس أو الجامعات؟
وهل تعي الأمة خطورة تلك المدارس على مستقبل أبنائها والأجيال من بعدهم، ولعل المدارس الأجنبية وسيلة واحدة من وسائل تغريب التعليم في بلادنا وما زال في جعبة تغريب التعليم العديد من الوسائل منها الابتعاث للخارج، وتغيير المناهج، والاستعانة بالخبراء الأجانب...وغيرها.
لم يكن إنشاء المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين هو الوسيلة الوحيدة التي انتهجها الغرب للسيطرة على عقول أبنائنا وفتياتنا وللفتك بها بل وتحويلها إلى قوى معادية للأمة في تاريخها وهويتها بدلا من أن تكون داعمة لها.
فقد كان الابتعاث إلى الخارج ثاني تلك الوسائل التي اتخذها في حربه على عقول الأمة:
يقول زعيم الفلسفة الوجودية الفرنسي جان بول سارتر : (كنا نُحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف الأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في أمستردام ولندن والنرويج وبلجيكا وباريس، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغدو، ويتعلمون لغاتنا وأساليب رقصنا، وركوب عرباتنا، وكنا ندبر لبعضهم أحيانا زيجات أوروبية ثم نلقنهم أسلوب الحياة الغربية ،كنا نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا، ثم نرسلهم إلى بلادهم ... وأي بلاد ؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائما في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذاً إليها، كنا بالنسبة إليهم رجساً ونجساً لكن منذ أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم ،كنا نصيح من أمستردام أو برلين أو باريس : (الإخاء البشري !) فيرتد رجع أصواتنا من أقاصي إفريقيا، أو الشرق الأوسط ، أو شمال إفريقيا، كنا نقول لهم : ( ليحل المذهب الإنساني، أو دين الإنسانية محل الأديان المختلفة.. .
وكانوا يرددون أصواتنا من أفواههم ... وحين نصمت يصمتون إلا أننا كنا واثقين من أن هؤلاء المغتربين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعناه في أفواههم) .
هذه الكلمات تفسر لماذا حرص الغرب على إرسال بعثات من النابهين والمتفوقين في بلادنا إلى بلادهم إن نوع جديد من السيطرة على مقدرات بلادنا من خلال أبنائنا إنه احتلال لكن ليس في صورة مباشرة.
الابتعاث إلى الخارج:
ما من شك أن أمة من الأمم لا يمكنها الاستغناء عن غيرها، أو أن تستقل بأمرها، لذلك كان التلاقح الفكري ومعرفة ما عند الأمم الأخرى من العلوم والمعارف هدف يحض عليه الإسلام.
وفي عصر ضعفت فيه قوة المسلمين واحتاجوا أن يعوضوا ما سبقتهم به الأمم الغربية، كان لابد لهم أن يفكروا في إرسال أبنائهم للدراسة في الغرب، خاصة دراسة العلوم التجريبية مثل: الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب والفلك وعلوم طبقات الأرض واللغات الأجنبية وغيرها من العلوم.
وإن كان هذا هدف مشروعًا نظريًا، إلى أن البعثات الخارجية لم تذهب من أجل نهضة الأمة أو الإتيان بما فقدته من علوم، بل ذهبت البعثات في معظمها لدراسة الفلسفة والتاريخ واللغة والآداب ...إلخ، وهو ما يدل على انحراف الابتعاث وارتباطه بغايات هدامة، يذكر الدكتور محمد محمد حسين أمر البعثات فيقول : (وأصبح أكثرها يُوجّه توجيهاً أدبياً أو فلسفياً تربوياً بعد أن صارت المجالات الصناعية والخبرات الفنية وقفاً على المستعمرين الأوربيين الذين حولوا المستعمرات وأهلها إلى مزارع ومناجم وعمال لإنتاج المواد الأولية).
فهذا السيد أحمد خان (المولود 1232هـ _ 1817م والمتوفى سنة 1315هـ _ 1898م) – وهو نموذج من المبتعثين _ كان يعارض في إنشاء دراسات علمية تجريبية في الجامعة التي أنشأها في الهند, وهو من الذين قضوا حقبة في بلاد الانكليز, وهو كما يقول الأستاذ الندوي: (أول مسلم هندي سافر إلى الجزائر البريطانية في هذا العهد المبكر) وقد عاد وهو من أشد الناس حماسة للدعوة للأخذ بالحضارة الغربية خيرها وشرها.
ومن كلمات التي تعبر عن وجهته هذه - مقال نشره في "مجلة عليكرة" في تاريخ 19 فبراير سنة 1898-: (إن الهند نظرًا إلى حالتها الراهنة ليست في حاجة إلى تعليم الصنائع , إن الأهم المقدم هو الثقافة الفكرية من المستوى الأعلى) وقد عارض أن يكون مشروع تعليم العلوم الصناعية على حساب تعليم الآداب الإنجليزية والدراسات الأدبية.
ومثال آخر يصلح أن يكون برهاناً على ما يترك الابتعاث من تبعية للغرب في نفس بعض المبتعثين, وهو ما ذكره أستاذنا الدكتور الشيخ مصطفى السباعي عن تجربته مع واحد من هؤلاء التابعين , فقال: (لما كنا طلاباً في نفس تخصص المادة في الفقه والأصول وتاريخ التشريع في كلية الشريعة وكان ذلك عام 1939 عينت مشيخة الأزهر في عهد الشيخ المراغي رحمه الله, الدكتور علي حسين عبد القادر أستاذاً لنا يدرس تاريخ التشريع الإسلامي, وكان قد أنهى دراسته في ألمانيا حديثاً , وهو مجاز من كلية أصول الدين ومكث في ألمانيا أربع سنوات حتى أخذ شهادة الدكتوراه ...
وكان أول درس تلقيناه عنه أن بدأه بمثل هذا الكلام : (إني سأدرس لكم تاريخ التشريع الإسلامي, ولكن على طريقة علمية لا عهد للأزهر بها , وإني أعترف لكم بأني تعلمت في الأزهر قرابة أربعة عشر عاماً فلم أفهم الإسلام , ولكنني فهمت الإسلام حين دراستي في ألمانيا) .
فعجبنا _نحن الطلاب _ من مثل هذا القول , وقلنا فيما بيننا : لنسمع إلى أستاذنا لعله حقاً قد علم شيئاً جديراً بأن نعلمه عن الإسلام مما لا عهد للأزهر به . وابتدأ درسه عن تاريخ السنة النبوية ترجمة حرفية عن كتاب ضخم بين يديه , علمن فيما بعد أنه كتاب جولد تسهير "دراسات إسلامية" وكان أستاذنا ينقل عباراته ويتبناها على أنها حقيقة علمية, واستمر في دروسه, نناقشه فيما يبدو لنا – نحن الطلاب – أنه غير صحيح ، فكان يأبى أن يخالف جولد تسهير بشيء مما ورد في هذا الكتاب).
الثمرات الخبيثة للابتعاث إلى الخارج (مصر نموذجًا):
لقد بدأت أولى رحلات الابتعاث إلى الخارج في عهد محمد علي باشا والى مصر والذي ولي عرش مصر في عام 1805م، أي بعد خروج الفرنسيين من مصر بأعوام قليلة، وهنا سؤال يطرح نفسه لماذا كان رحلات البعثات المصرية إلى فرنسا خاصة دون غيرها؟ وهي التي غزت مصر أيام نابليون وخربت الأزهر وما زالت أثار خيل الفرنسيين التي دخلت الأزهر ودنسته محفورة في عقول ونفوس المصريين ومازالت مشاهد جنودهم وهم يجوسون خلال الديار ويأتون بفظائع جراحها لم تلتئم عند المصريين ... فكيف تعمد حكومة مصر- بعد أن تخلصت ديارها من الاحتلال الفرنسي- إلى أن ترسل أبناءها إلى فرنسا الغازية؟
ففرنسا حين غزت مصر كانت عدوة في أذهان المصريين فكيف تصبح صديقة ونستأمنها على عقول أبنائنا، هل اطمأننا أن عداوة الفرنسيين لنا قد زالت من قلوبهم وأصبحوا يحبون لنا الخير ويسعون إلى تنميتنا وعزنا بتعليمنا العلوم الحديثة؟
لقد كان الابتعاث إلى تلك الدول نوعًا جديدًا من الاحتلال أو نستطيع أن نقول: إنه كان تعويضًا عما فقدوه من سيطرة جيوشها على بلادنا، فأرادوا أن يسيطروا عليها عن طريق السيطرة على عقول الأجيال الجديدة، ثم وضعها في أماكن التوجيه عند رجوعهم إلى بلدانهم.
فكان من أولى الثمرات الخبيثة لتك البعثات أول وزير لوزارة المعارف المصرية وهو أحد أفراد بعثة عام 1826م (مصطفى مختار المولود سنة 1802 والمتوفى سنة 1839) وقد عاد إلى بلاده سنة 1832، أي رحل إلى فرنسا وهو ابن أربع وعشرين سنة وأقام هناك ست سنوات , وهي الفترة التي يتم فيها تكوين شخصية المرء وثقافته , وكان في سن هي ذروة الشباب .
ويبدو أنه كان هناك في فرنسا يستجيب لرغبات من رغبات نفسه , فقد ذكر مترجموه أنه كان لديه ميل إلى الموسيقى, فأرسلت له ساعة دقاقة تحدث نغماً موسيقياً كما اشتريت له آلتان موسيقيتان بـ 184 فرنكاً على حساب الدولة أثناء إقامته هناك وكما يدل هذا الخبر على ميل مصطفى للطرب والموسيقى واشتغاله بهما في فرنسا أثناء طلبة العلم يدل أيضاً على رغبة الدولة في ذاك العهد المبكر المتقدم من اتصالنا بالغرب على مسايرة الشباب في رغباتهم , ومسارعتها لتحقيق ما يريدون من وسائل اللهو والعبث فلو أن دولة إسلامية قامت الآن بإرسال مثل ذلك إلى بعض المبتعثين لاستغربنا ذلك منها . والموسيقى الآن وموقف الناس منها يختلف عن موقفهم منها قبل مائة وخمس وسبعين سنة ,
يقول الدكتور محمد محمد حسين : (كان هؤلاء المبعوثين الذين أرسل أكثرهم إلى فرنسا يقرؤون الكتب الفرنسية ويشاهدون الحياة الفرنسية في أحفل العصور بالصراع الفكري الذي يصحب الثورات وكانت فرنسا تعيش في أعقاب الثورة الفرنسية وما صاحبها وتلاها من قلق فكري وروحي لم يبلغ نهاية مداه , وقد احتل هؤلاء المبعوثين من بعد مكان الصدارة والقيادة في مختلف الميادين )
أضف إلى ذلك أن المجلس الذي أشرف على التعليم أيام محمد علي كان من الأجانب والأرمن ومن المصريين الذين أتموا دراستهم في الخارج . منهم: ( كلوت بك – كياني بك – وأرتين أفندي – واسطفان أفندي - ورفاعة الطهطاوي – وبيومي أفندي – وفارين- وحكاكيان- ولامبر- وهامون- ودوزول )
تقول الكاتبة المسلمة الأمريكية مريم جميل في كتابها " الإسلام في مواجهة الغرب " : ( إن الحضارة الغربية بقوتها الاقتصادية والسياسية القائمة استطاعت أن تبسط نفوذها على العالم كله , ولما استطاعت الشعوب الآسيوية والأفريقية أخيراً أن تنتصر في صراعها للحرية السياسية وتحررت من النير الأجنبي كانت حضارتها قد تحطمت قديماً إن النخبة من هذه الشعوب من غير استثناء تلقوا ثقافتهم في معاهد أوربا وأمريكا , وكانت هذه المعاهد وأساتذتها قد علموهم أن ينظروا إلى تراثهم الثقافي القومي بنظر الاحتقار والازدراء , وكانوا قد خضعوا عقلياً لفلسفات الحضارة المادية .
وكان المثال الأقوى لآثار الابتعاث على عقول المسلمين وسيطرته عليها ثم استخدامها في محاربة الأمة في هويتها ودينها ولغتها، الدكتور (طه حسين) الذي بدأ حياته أزهريًا حافظًا لكتاب الله وعاد إلى مصر بغير الوجه الذي ذهب به, وقد آلت إليه قيادة فكرية للمجتمع, بسبب قيامه بالتدريس في الجامعة وتولية الوزارة, فقد كان عميد كلية الآداب بالقاهرة ومديراً عاماً للثقافة بوزارة المعارف ومستشاراً فنياً فيها وكان مديراً لجامعة الإسكندرية ثم وزيراً للمعارف وبسبب الكتب الكثيرة التي ألفها وأذاعها بين الناس.
يقول في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": ( إن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء , وهي أن نسير سيرة الأوروبيين , ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً , ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها , حلوها ومرها , وما يحب منها وما يكره , وما يحمد منها وما يعاب ).
يدعي في هذا الكتاب بأن صلة مصر إنما هي بأوربا لا بالشرق يقول: ( إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط , وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط ).
وينعى على المصريين أن يروا أنفسهم شرقيين فيقول: ( فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون , وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي وحده , بل معناه العقلي والثقافي , فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني منهم إلى اليوناني والإيطالي والفرنسي , وقد استطعت أن أفهم كثيراً من الغلط وأن أفسر كثيراً من الوهم ولكني لم أستطع قط – ولن أستطيع في يوم من الأيام – أن أفهم هذا الخطأ الشنيع أو أسيغ هذا الوهم الغريب ) .
وكذلك دعا الدكتور طه حسين إلى إقامة شؤون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين , أي دعا إلى قيام حكومة لا دينية , يقول في كتابه المذكور : (وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول ) .
ويدعي : ( أن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية , وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضاً قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة حين كانت الدولة الأموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق ) .
وكذلك دعا طه حسين إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ويقترح أن تكون الفصحى التي نزل بها القرآن لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية , عند أرباب النحل .
يقول : ( وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون , وليست أقل من إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه , ولكنها تقبل من غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها , ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلاتها . فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى , واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر , والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث , والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع ) .
ويقول الدكتور محمد محمد حسين تعليقاً على هذا النص وكشفاً عن خبيئته : ( ومن هذا نرى أن المؤلف لا يرى بأساً من أن تتطور لغة الكتابة والأدب في العربية حتى يصبح الفرق بينها وبين عربية القرآن الكريم مثل الفرق بين الفرنسية واللاتينية).
إن من أشد آثار الابتعاث إلى الخارج ومخاطره ـ وهي كثيرة ـ الانحراف العقيدي والانهيار الخلقي, اللذان يصاب بهما كثير من الطلبة المبتعثين، كما رأينا في النماذج المبتعثة السابقة. لذلك كان واجبًا على الأمة أن تحيط تلك الفئة من أبنائها باهتمامها، وألا تتركهم نهبًا لانفتاح وإغراء وإفساد في مجتمع جديد لم يعهدوه من قبل.
كيف نواجه أخطار الابتعاث إلى الخارج:
أولاً: أن يكون الابتعاث فيما تحتاجه الأمة من علوم تجريبية وتطبيقاته مثل: الكيمياء والفيزياء والهندسة والطب... وغيرها.
ثانيًا: القيام بحركة ترجمة نشطة للعلوم الغربية بحيث لا يحتاج أبنائنا للابتعاث للخارج إلى في إطار محدود.
ثالثًا: أن يتم اختيار الطلبة المبتعثين بدقة، وأن تعقد لهم الدورات قبل سفرهم ويراعى في تلك الدورات الآتي:
1- اختيار الشخصية المبتعثة بعناية، بحيث يعرف عنها الوعي وتمسكها بدينها وعدم القابلية للذوبان والانجراف.
2- توجيه المبتعث لأنجح الوسائل والأساليب للمحافظة على دينه ونفسه وعرضه وماله وتجنب ما يُسيء إلى أي منها.
3- الاطلاع على ظروف الحياة وطبيعتها والخلفيات الفكرية والاجتماعية للبلاد التي يوفد إليها.
4- التأكيد على أهمية التفوق العلمي والإفادة القصوى مما تتيحه فرصة الدراسة في الخارج من الاطلاع والبحث فيما يخدم التخصص العلمي الذي يوفد للدراسة فيه.
5- متابعة المبتعث والتوجيه الدائم له سواء في الجانب العلمي أو الجانب الخلقي والإيماني.
ربما يكون الابتعاث إلى الخارج والمدارس الأجنبية بعض وسائل تغريب التعليم في بلادنا إلا أن المشكلة الأكبر تبقى هي تغريب مناهج الدراسة التي يدرسها عامة المسلمين، وإغلاق الدينية منها، فإن كانت المدارس الأجنبية والابتعاث يؤثر على فئة أو قطاع من المجتمع فإن تغريب المناهج تحت غطاء تطويرها حرب تشمل الجميع دون استثناء.
المراجع:
* استخراب: هو المصطلح الصحيح للتعبير عن احتلال الغرب لبلاد المسلمين وليس "استعمار".
كتب
- كتاب "المدارس العالمية تاريخها ومصادرها" للشيخ بكر أبو زيد
- كتاب "الجذور التاريخية لإرسالية التنصير الأجنبية في مصر" للدكتور خالد نعيم".
- كتاب المدارس الغربية في البلاد الشرقية/ أحمد أمين.
- كتاب: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر/ محمد محمد حسين.
- كتاب: واقعنا المعاصر/ محمد قطب.
بحوث ومقالات:
. بحث بعنوان "كيف تحارب الجامعة الأمريكية الإسلام في مصر؟" للدكتورة ليلى بيومي، نشر في مجلة المختار الإسلامي، العدد: 62
. "أهداف الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 1920-1980" للدكتورة سهير البيلي، نشر في مجلة البيان، العدد (180).
. المدارس التبشيرية التضليلية.. إلى متى؟/ مجلة المجتمع – عدد 350 جمادى الأولى سنة 1397.
. المدارس الأجنبية والإسلام/ أحمد حمزة – مجلة لواء الإسلام – ذو القعدة سنة 1375.
* استخراب: هو المصطلح الصحيح للتعبير عن احتلال الغرب لبلاد المسلمين وليس "استعمار".
الابتعاث إلى الخارج وقضايا الانتماء والاغتراب الحضاري "د. إبراهيم القعيّد"
الابتعاث ومخاطره " الشيخ محمد بن لطفي الصباغ"
كتاب: الإسلام والحضارة الغربية "محمد محمد حسين"
كتاب: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر "محمد محمد حسين"
كتاب: واقعنا المعاصر "محمد قطب"
بهذه الكلمات لخص الشاعر "محمد إقبال" تجربة التعليم الغربي.
فمنذ بزوغ شمس هذا الدين على الدنيا وما فتئ أعداؤه يحاولون إطفاء هذا النور ومحاربة أهله، ولقد كانت محاولتهم القديمة تتلخص في المقارعات العسكرية، واحتلال الأرض، وقتل الرجال وأخذ الخيرات، ثم انتقل مفكرو الغرب من طريقتهم الممقوتة القديمة التي كانوا يؤثرونها في إبادة الأجيال، إلى طريقة جديدة تبدلت فيها الوسائل والأساليب، فأصبحت الجامعات والمدارس الأجنبية بمثابة قاعدة الاحتلال الجديدة ومنطلق جيوشهم، وأصبحت المناهج التعليمية والتربوية هي أهم أسلحته في الاستيلاء على قلوب وعقول أبنائنا وبناتنا والفتك بها.
يعترف مؤلف كتاب (الإسلام في التاريخ الحديث) (W:C: Smlth) بالتأثير العقلي العميق الذي يتركه التعليم الغربي الحديث ومراكزه في العالم الإسلامي يقول: (لقد جرف تيار نظام التعليم الغربي الشباب الإسلامي في البلاد العربية والعجمية (الذين كانوا زبدة أمتهم وزهرة بلادهم) وغيّر عقليتهم إلى حدّ أن عقولهم أصبحت لا تستطيع أن تسيغ الإسلام الصحيح، وأصبحوا لا يندمجون في المجتمع الإسلامي أيضًا ويصبحون جزءًا منه).
لقد فطن الغرب أن التعليم هو أداة جبارة في التغيير، وهو إن كان بالنسبة للغرب هو سر نهضتها، إلا أنه في كثير من الأحيان يعد عندنا هو العامل الأساس وراء كثير من مشكلاتنا، فقد استغله الغرب ليكون أداة تغيير نحو الأسوأ في مجتمعاتنا.
ولقد استخدم الغرب لينال بغيته في تغريب التعليم عددًا من الوسائل والأساليب كان من أبرزها:
إنشاء المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين:
كان من أولى أدوات الاستعمار في سعيه لتدمير عقول أبنائنا: هو زرع المؤسسات المسماة بالتعليمية على مستويات مختلفة، تبدأ بتعليم الأطفال حتى التعليم الجامعي وما بعده من الدراسات، وكان الهدف الأكبر من زرع تلك المؤسسات في إحداث عملية تغريب وعلمنة وتنصير لعقول النشء المسلم، وبالذات لعقول ونفوس أبناء النخب الحاكمة في البلدان الإسلامية، والذين كانوا يعدون بتولي مسؤولية حكم تلك البلاد بالتنسيق مع الاستعمار الغربي.
فهذا المنصر هاملين يقترح على صديقه اليهودي روتشيلد: افتتاح مدرسة ثانوية في تركيا عام 1863م. قائلاً: "لقد أنشأ الأتراك حصنًا لفتح إسطنبول، وأنا سأنشئ هنا مدرسة لهدمهم". هذه العبارة على وجازتها تلخص لنا الدور الخطير الذي لعبته المدرسة الأجنبية في تفكيك العالم الإسلامي وتفتيت ريحه.
ويقول منصر آخر "جب" عن مدرسة أجنبية أخرى في لبنان: (إن مدرسة البنات في بيروت هي بؤبؤ عيني!!).
وتتلخص أهداف تلك المدارس الأجنبية فيما يلي:
الهدف الأول: تشكيك أبناء المسلمين في دينهم، من خلال إدخال الشبه عليهم، وزرع بذور الزيغ والإلحاد بينهم. وكذا نشر الانحراف الخلقي من باب أولى.
الهدف الثاني: تكوين طليعة أو نخبة من أبناء المسلمين في كل بلد تدخله هذه الجامعة؛ ليكونوا قادة المستقبل وأصحاب القرار فيه فيما بعد، والتمكين لهم من ذلك بعد حقنهم بالفكر العلماني وقطع صلتهم بدينهم.
الهدف الثالث: خلق التبعية، وفرض الهيمنة المعنوية والحضارية على المجتمع المسلم، وهذا الهدف هو أهم تلك الأهداف.
المدارس الأجنبية ومدى انتشارها في العالم الإسلامي:
قدحت الشرارة الأولى لتلك المدارس في بيروت، بإنشاء مدرسة للبنات في الإمبراطورية العثمانية سنة 1830م؛ لأن البنات سيكُنَّ أمهات؛ فإذا تربَّيْن في هذه المدارس النصرانية أثّرن على أولادهن!! وكانت تعنى ببنات الأسر والبيوت الكبيرة اللاتي سيكون لهن السيطرة على الجيل المقبل.
وقد تركزت في لبنان جهود الأمريكيين والفرنسيين، وقد كان للجامعة اليسوعية (الأمريكية فيما بعد) وجامعة القديس يوسف دور خطير في لبنان بالتقاط النابهين من نصارى الشام وبنائهم نماذج متغربة تعمل لحساب المشروع الغربي؛ حيث ارتبط كثير منهم بالمخطط الماسوني الهادف لإسقاط الدولة العثمانية، وتفتيت العالم الإسلامي وغرس الدولة اليهودية في المنطقة.
وفي مصر عام 1840م من خلال البعثات التنصيرية تأسست الكلية الفرنسية بالإسكندرية والجمعية الإنجيلية البروتستانتية، وجمعية راهبات القلب المقدس عام 1845م، ثم تلتها: الإخوة المسيحيون والفرير عام 1847م، ثم الآباء اليسوعيون والجزويت، ثم الفرنسيسكان 1859م . ثم تبعتها مدارس الآباء اليسوعيين عام 1880م كمقدمة لاحتلال مصر في عام 1882م، وقد بلغ عدد مجموع الطلاب من المسلمين 7117 طالباً مسلماً حتى عام 1891م، وهو رقم مذهل بمقاييس تلك الأيام وظروفها.
كان انتشار المدارس الأجنبية في مصر مكثفاً ومقصودًا، حتى إنها الآن تبلغ عشرات الآلاف من المدارس، وتبلغ نسبة الطلاب الذي يتعلمون بها حوالي 25 في المئة.
ويشير مؤرخو المدارس الأجنبية أن الجالية اليونانية كانوا كلما حلوا في بلد أنشؤوا فيه كنيسة ومدرسة، كما فعلوا في الإسكندرية عام 1843م ثم في المنصورة، وطنطا، وبور سعيد، والسويس، والقاهرة وغيرها من محافظات مصر، وهكذا الجالية الإيطالية منذ عام 1862م، والجالية الألمانية عام 1866م، واليهود منذ عام 1872م، والمارونيون السوريون، وكانت أولى الجاليات الجالية الأرمنية عام 1828م في منطقة بولاق بمدينة القاهرة.
أما عن تعليم البنات: فقد كان هناك مدرستان في أواخر العقد السادس من القرن الماضي للتعليم العام بحي الأزبكية: واحدة تابعة للكنيسة الأرثوذكسية، والأخرى تابعة لكنيسة الأقباط الإنجيليين. وفي عام 1904م أنشأت الكنيسة القبطية أول مدرسة صناعية ببولاق.
وقد عملت كثير من هذه المدارس بمبدأ المواءمة واستغلال الفرص المتاحة؛ بحيث تظهر ما جاءت من أجله كلما سنحت الفرصة، وتتستر حين تضيق عليها الأمور.
كما شهدت سوريا بالتزامن مع حالة لبنان ومصر جهودًا موسعة لفتح المدارس الإرسالية، حتى كان نصيب سوريا وحدها مــن المدارس الأمريكية عــام 1909م: (174) مدرســــة فـي المـدن والقــرى.
وفي السودان من أنواع المدارس والبعثات التنصيرية الشيء الكثير، بل إن عدد الكنائس في الخرطوم يفوق عدد المساجد!!
وأما في جبال النوبة فقد استولت الإرساليات البريطانية على التعليم فيها منذ عام 1919م وحاصرت توسع الإسلام واللغة العربيــة، وأقفلت ما يفتح مــن المدارس الإســلامية عــام 1931م.
وفي العراق: في أوائل القرن العشرين الميلادي كانت أول مدرسة تبشيرية في البصرة مدرسة للبنات، ثم انتشرت مدارسهم في أنحاء العراق.
وهذا ما جرى عليه الحال في سائر بلاد الإسلام خاصة البلاد التي دخلها الاستعمار.
غير أن فصول المؤامرة لم تنته، بعد فهذه جريدة المصريين الإلكترونية تورد خبرًا بتاريخ 21 - 10 - 2009 تحت عنوان (لتخريج أجيال متأثرة بالأسلوب الأمريكي.. "سكوبي" تعلن إنشاء مدارس أمريكية بالقاهرة والإسكندرية الدراسة فيها بالمجان)! وجاء في تفاصيل الخبر: كشفت مارجريت سكوبي السفيرة الأمريكية لدى مصر عن عزم الإدارة الأمريكية إنشاء العشرات من المدارس النموذجية بالقاهرة والإسكندرية بمناهج وإدارة أمريكية كاملتين بتمويل من المعونة الأمريكية، وبالاتفاق مع وزارة التربية والتعليم.
وقالت:" إن الدراسة بتلك المدارس ستكون بالمجان، وتخصص للطلاب المتميزين ممن تنطبق عليهم الشروط الأمريكية"، وأوضحت أن الهدف من ذلك: هو تخريج مئات الطلاب سنويا؛ ليكونوا نواة لقاعدة طلابية متوافقة مع أحدث الأساليب المتبعة بالولايات المتحدة.
ولم توضح السفيرة في تصريحات على هامش الاحتفال الذي أقيم مساء الثلاثاء بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على إنشاء المركز الثقافي الأمريكي بالإسكندرية، ماهية الشروط الواجب انطباقها على الطلاب الذين سيتم قبولهم في تلك المدارس.
ـ أما التعليم الجامعي فلدينا العديد من المؤسسات التي كان لها أبلغ الأثر في تحول كثير من أبناء الأمة عن قيم دينهم منها:
ـ جامعة القديس يوسف في لبنان، وهي جامعة بابوية كاثوليكية (تعرف الآن بالجامعة اليسوعية).
ـ الجامعة الأمريكية التي كانت من قبل تسمى (الكلية السورية الإنجيلية)، ثم كلية بيروت، وقد أنشئت في عام 1865م، وهي جامعة بروتستانتية.
ـ الكلية الفرنسية في لاهور، وأسست في لاهور باعتبار أن هذا البلد يكاد يكون البلد الفريد في تكوينه في شبه القارة الهندية.
ـ (كلية روبرت) في إستانبول، والكلية الأمريكية (الجامعة الأمريكية فيما بعد في القاهرة).
ـ كلية جوردن (البريطانية) في الخرطوم، وأخيرًا الجامعة الأمريكية الجديدة في الشارقة، وفي قطر!
ـ هناك الجامعة الألمانية والفرنسية ـ في المستقبل القريب ـ في مصر، اللتان شرع في تأسيسهما مؤخرًا.
المدارس الأجنبية والحرب على عقول الأطفال:
نستطيع أن نلمس مدى الثمار الخبيثة التي ستنتجها تلك المدارس؛ إذا ألقينا نظرة سريعة على مدارس اللغات الأجنبية في بلداننا العربية، فغالبًا ما توجد داخل كل مدرسة كنيسة، خاصة مدارس الراهبات، وتأخذ المُدرسة (الراهبة) الأطفال إلى الكنيسة لتعودهم على سماع الأجراس ومشاهدة الطقوس المسيحية وتوزيع بعض الكتيبات كي يألفوا هذا الجو، فكثيرًا ما نرى أطفال المسلمين الصغار يحركون أيديهم بالتثليث وأداء حركات الطقوس الصليبية.
أما المساجد في مدارس اللغات فيحكي التلاميذ أنها دائمًا مغلقة بحجة الحفاظ على دورات المياه ومنع سرقة المصاحف.
كما أن الحجاب ممنوع داخل هذه المدارس، فخلال العام 87/88 صدرت تعليمات خاصة لمدارس الراهبات في الإسكندرية والقاهرة بمنع قبول أوراق الطالبات المحجبات والمدرسات اللاتي يردن التدريس في هذه المدارس، إلى جانب أنه ممنوع على أي طالبة ارتداء الأزياء الطويلة (الماكسي باللهجة المصرية الدارجة).. ما عدا غطاء بسيط من الممكن وضعه على الرأس.. وحتى من ترتدي حجابًا بسيطًا يتم استدعاء ولي أمرها لخروجها على تقاليد المدرسة والاطمئنان والاستفسار عن سبب هذا التغيير، وعلى أنه مجرد تقليد ليس له أهداف سياسية أو دينية! إلى جانب ترهيب أولياء الأمور والطالبات من هذه الأزياء المحتشمة.
إضافة إلى مناهج مدارس اللغات وخاصة في المراحل الابتدائية والإعدادية، هي مقررات أجنبية صرفة، فيتم تدريس تاريخ وجغرافية ألمانيا أو فرنسا تبعًا للغة مدمجًا في ذلك كل ما يحيط بالغرب من عادات وتقاليد وأفكار.
ناهيك عن الاختلاط بين الرجال والسيدات وغيرها من الأمور التي تسيء لأخلاق الأطفال، حيث تقوم كثير من هذه المدارس بإقامة حفلات نهاية العام وتستدعي لها الراقصين والرقصات إضافة إلى الرحلات المختلطة، وتقوم تلك المدارس بإضافة حصص إضافية لتعليم الموسيقى والرقص للفتيات لمن ترغب في ذلك.
هذا ما تعلمه المدارس الأجنبية لأولادنا وخاصة أبناء الصفوة منهم الذين يُنتظر أن يكون منهم قادة المجتمع في المستقبل ونخبته المثقفة، ثم لك أن تتخيل إن كان هذا ما يقدم لأطفالنا في تلك المرحلة فلا تتعجب أن تُخرج هذه المدارس من يهاجم الإسلام ويحارب مظاهر التدين داخل المجتمع.
الثمار الخبيثة للمدارس الأجنبية (الجامعة الأمريكية نموذجًا):
أـ الجامعة الأمريكية في لبنان:
تأسست الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1865م، وهذا التوقيت الزمني له صلة بالإجهاز على الدولة العثمانية ـ التي أطلقوا عليها لقب الرجل المريض- وكان اسمها "الكلية السورية الإنجيلية" وكان هناك تنافس بينها وبين الجامعة اليسوعية ولكنهما تعاونا معًا بناء على دعوة من جب الذي قال: يجب ألا يكون ثمة نعوت مثل: أمريكي، إنكليزي، ألماني… فليكن اسمنا "نصارى".
ومعظم أساتذة الجامعة الأمريكية قسس مثل: دانيال بلس، فيليب حتى، ستيفن بزوز، بيارد ضودج.
وأما مناهجها: فكانت مادة الإنجليزي ـ على سبيل المثال ـ عبارة عن نصوص منقولة من التوراة، كما كان يُستغل كل درس في سبيل تأويل مسيحي لفروع العلوم كالتاريخ وعلم النبات…
واتُفق في عام 1909م أن احتج الطلبة المسلمون على إجبارهم على الدخول إلى الكنيسة؛ فاجتمعت عمدة الجامعة وأصدرت منشورًا طويلاً جدًا، جاء في مادته الرابعة ما يلي:
"إن هذه كلية مسيحية أسست بأموال شعب مسيحي: هم اشتروا الأرض وهم أقاموا الأبنية، وهم أنشؤوا المستشفى وجهزوه، ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء. وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده، فتعرض منافع الدين المسيحي على كل تلميذ … وهكذا نجد أنفسنا ملزمين بأن نعرض الحقيقة المسيحية على كل تلميذ… وإن كل طالب يدخل إلى مؤسستنا يجب أن يعرف مسبقًا ماذا يطلب منه".
وما زالت الجامعة الأمريكية ماضية في مخططها الاستعماري؛ فقد نشر الكاتب "لدفيك برنهارد" سنة 1905م مقالاً عنوانه "أمريكا في الشرق" صور فيه الكلية السورية الإنجيلية على أنها محاولة مدروسة لتمهيد الطريق أمام المصالح الأمريكية.
كما كان للجامعة الأمريكية دور في هدم اللغة العربية لعلمهم أن قوة المسلمين بتمسكهم بلغة القرآن الكريم "الفصحى".. فنشطوا في الدعوة إلى العامية، وأن يحل الحرف اللاتيني مكان العربي.. وهم يقصدون من وراء ذلك أن تتعدد اللهجات. لكن هذه الدعوة فشلت، فأعادت الجامعة الأمريكية الفكرة تحت شعار "تبسيط اللغة" وألف الدكتور أنيس فريحة (أحد أساتذة الجامعة الأمريكية في بيروت) كتابًا أسماه "تبسيط قواعد اللغة العربية وتبويبها على أساس منطقي جديد".
وتلقف هذه الدعوة الأخيرة عدد من رواد التغريب في العالم العربي كان من بينهم "طه حسين"، ونصارى لبنان…
وعندما فشلت الجامعة الأمريكية في كثير من مخططاتها تبنى بعض القائمين عليها "الدعوة العلمانية" في أوساط المسلمين وهدفهم من ذلك إبعاد المسلمين عن حقيقة دينهم، والزج بهم في مهاوي الضياع والقلق. يقول ليفونيان : "خابت دول أوروبا في الحروب الصليبية الأولى من طريق السيف؛ فأرادت أن تثير على المسلمين حربًا صليبية جديدة من طريق التبشير، فاستخدمت لذلك الكنائس والمدارس والمستشفيات، وفرقت المبشرين في العالم. وهكذا تبنت الدول حركة التبشير لمآربها السياسية ومطامعها الاقتصادية".
وهكذا: فالجامعة الأمريكية استعمارية في نشأتها، تبشيرية في أهدافها، والاستعمار والتبشير صنوان لا ينفصل أحدهما عن الآخر. وهي بعد ذلك عدوة لآمال العرب والمسلمين، تآمرت علينا في كل قضايانا ابتداء بهدم الخلافة الإسلامية وانتهاء بقضية فلسطين.
ب ـ الجامعة الأمريكية في مصر:
لعلنا لن نتحدث طويلاً عن نشأة الجامعة في مصر وأهدافها، فهي نفس الأهداف التي جعلها تمد جذورها في لبنان وغيرها من الدولة العربية والإسلامية، لكننا سنلقي الضوء على مساحات صغيرة جدًا في ممارسات تلك الجامعة في مصر ومناهجها والعينة بينة كما يقولون.
كيف يتم تدريس التاريخ الإسلامي في الجامعة:
معظم القائمين على تدريس التاريخ الإسلامي هم أساتذة مسيحيين أجانب ويقومون أيضًا بتدريس تاريخ الشرق الأوسط والحركات الإسلامية المعاصرة.
تقوم الجامعة الأمريكية بتدريس التاريخ الإسلامي من منظورها المعادي للإسلام فعناوين محاضراتها:
- مناقشة ما إذا كان القرآن الكريم كتابا موضوعيا أم لا! ومن خلال ذلك تشكك في القرآن الكريم وإمكانية استخدامه كمرجع تاريخي كما أنها لا تعترف بالأحاديث النبوية في دلائلها على المغزى التاريخي والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي يعرض برؤية استشراقية خالصة حيث يصور الرسول عليه الصلاة والسلام على أنه مجدد ومصلح اجتماعي له فكر خاص، وقد وحد العرب وأحدث تحولاً اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا في حياة البدو وفي منطقة صحراوية كالجزيرة العربية، وكان شعار الإسلام هو الحرب، وبذلك انتشر عن طريق الحرب وقطع الطرق وحرب العصابات واستمالة الشخصيات لتدخل في الإسلام عن طريق إمدادها بالمال.. وأن أسباب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة سببه ليس عقائديًا وإنما له أسباب وأبعاد دنيوية توسعية تخفى عن السطحيين.. وأن العصر الذهبي للتاريخ الإسلامي حدثت خلاله فتن كبرى وصراعات بين الصحابة على تولى السلطة، وأن عليًا لم يبايع أبا بكر الصديق لأنه لم يوافق على ميراث فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام وزوجة علي بن أبي طالب وأن أسباب تخلفنا وتواجدنا في ركب العالم الثالث يرجع أساسًا إلى التوكل وهذا من الدين.
وفي قسم تطور البشرية: يتم تدريس الفتوحات الإسلامية على أنها هجمات تتارية، ويقارن بينها وبين المغول والتتار والفرس والروم ويقود ذلك الأمريكي" نيكولاس هوبكنـز" أستاذ تطور البشرية ورئيس هيئة التحرير بالجامعة الأمريكية، وأثناء أي نقاش يطرح حول الإسلام يستنكر فيه الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات وتطرح أسئلة فجائية على بعض الطلبة والطالبات حول أسباب تعدد الزوجات وسبب كثرة زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام، كما تثار الخلافات المذهبية، أما أسئلة الامتحانات التي تتعلق بالتاريخ الإسلامي فمعظمها تكون مثلاً على النحو التالي:
- انقد النظرة السنية لتاريخ الصحابة.
- أسباب حدوث الفتنة الكبرى وصراعات المسلمين.
- عدد الخلافات المذهبية في الإسلام.
- الأسباب الاقتصادية لتفشي ظاهرة الحجاب.
والإجابة الصحيحة على هذه الأسئلة يجب طبعاً أن تتسم بموضوعيتهم المزعومة !
والندوات التثقيفية التي تديرها الجامعة لكبار العلمانيين في مصر تدور مثلاً حول: تفشي ظاهرة الحجاب كأنها مرض سببه الفقر، وغيرة الرجل الشرقي، ومناقشة ظاهرة الأمية وتلوث البيئة في مصر.
أما المتحدثات عن حقوق المرأة فهن "أمينة السعيد" أو "نوال السعداوي" وما شابه ذلك من المثقفين اليساريين، إلى جانب سلسلة الندوات التي كانت عن الصراع العربي الإسرائيلي، حيث قام رئيس الجامعة باستدعاء "سامي زبيدة" اليهودي المتعصب لإلقاء عدة ندوات ومحاضرات في الجامعة الأمريكية حول الصراع العربي الصهيوني.
هذا ما تقوم به مؤسسة تعليمية غربية بعقول ونفوس شبابنا، فهل يفكر بعد ذلك عاقل بإرسال أبنائه لمثل تلك المدارس أو الجامعات؟
وهل تعي الأمة خطورة تلك المدارس على مستقبل أبنائها والأجيال من بعدهم، ولعل المدارس الأجنبية وسيلة واحدة من وسائل تغريب التعليم في بلادنا وما زال في جعبة تغريب التعليم العديد من الوسائل منها الابتعاث للخارج، وتغيير المناهج، والاستعانة بالخبراء الأجانب...وغيرها.
لم يكن إنشاء المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين هو الوسيلة الوحيدة التي انتهجها الغرب للسيطرة على عقول أبنائنا وفتياتنا وللفتك بها بل وتحويلها إلى قوى معادية للأمة في تاريخها وهويتها بدلا من أن تكون داعمة لها.
فقد كان الابتعاث إلى الخارج ثاني تلك الوسائل التي اتخذها في حربه على عقول الأمة:
يقول زعيم الفلسفة الوجودية الفرنسي جان بول سارتر : (كنا نُحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف الأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في أمستردام ولندن والنرويج وبلجيكا وباريس، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغدو، ويتعلمون لغاتنا وأساليب رقصنا، وركوب عرباتنا، وكنا ندبر لبعضهم أحيانا زيجات أوروبية ثم نلقنهم أسلوب الحياة الغربية ،كنا نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا، ثم نرسلهم إلى بلادهم ... وأي بلاد ؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائما في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذاً إليها، كنا بالنسبة إليهم رجساً ونجساً لكن منذ أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم ،كنا نصيح من أمستردام أو برلين أو باريس : (الإخاء البشري !) فيرتد رجع أصواتنا من أقاصي إفريقيا، أو الشرق الأوسط ، أو شمال إفريقيا، كنا نقول لهم : ( ليحل المذهب الإنساني، أو دين الإنسانية محل الأديان المختلفة.. .
وكانوا يرددون أصواتنا من أفواههم ... وحين نصمت يصمتون إلا أننا كنا واثقين من أن هؤلاء المغتربين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعناه في أفواههم) .
هذه الكلمات تفسر لماذا حرص الغرب على إرسال بعثات من النابهين والمتفوقين في بلادنا إلى بلادهم إن نوع جديد من السيطرة على مقدرات بلادنا من خلال أبنائنا إنه احتلال لكن ليس في صورة مباشرة.
الابتعاث إلى الخارج:
ما من شك أن أمة من الأمم لا يمكنها الاستغناء عن غيرها، أو أن تستقل بأمرها، لذلك كان التلاقح الفكري ومعرفة ما عند الأمم الأخرى من العلوم والمعارف هدف يحض عليه الإسلام.
وفي عصر ضعفت فيه قوة المسلمين واحتاجوا أن يعوضوا ما سبقتهم به الأمم الغربية، كان لابد لهم أن يفكروا في إرسال أبنائهم للدراسة في الغرب، خاصة دراسة العلوم التجريبية مثل: الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب والفلك وعلوم طبقات الأرض واللغات الأجنبية وغيرها من العلوم.
وإن كان هذا هدف مشروعًا نظريًا، إلى أن البعثات الخارجية لم تذهب من أجل نهضة الأمة أو الإتيان بما فقدته من علوم، بل ذهبت البعثات في معظمها لدراسة الفلسفة والتاريخ واللغة والآداب ...إلخ، وهو ما يدل على انحراف الابتعاث وارتباطه بغايات هدامة، يذكر الدكتور محمد محمد حسين أمر البعثات فيقول : (وأصبح أكثرها يُوجّه توجيهاً أدبياً أو فلسفياً تربوياً بعد أن صارت المجالات الصناعية والخبرات الفنية وقفاً على المستعمرين الأوربيين الذين حولوا المستعمرات وأهلها إلى مزارع ومناجم وعمال لإنتاج المواد الأولية).
فهذا السيد أحمد خان (المولود 1232هـ _ 1817م والمتوفى سنة 1315هـ _ 1898م) – وهو نموذج من المبتعثين _ كان يعارض في إنشاء دراسات علمية تجريبية في الجامعة التي أنشأها في الهند, وهو من الذين قضوا حقبة في بلاد الانكليز, وهو كما يقول الأستاذ الندوي: (أول مسلم هندي سافر إلى الجزائر البريطانية في هذا العهد المبكر) وقد عاد وهو من أشد الناس حماسة للدعوة للأخذ بالحضارة الغربية خيرها وشرها.
ومن كلمات التي تعبر عن وجهته هذه - مقال نشره في "مجلة عليكرة" في تاريخ 19 فبراير سنة 1898-: (إن الهند نظرًا إلى حالتها الراهنة ليست في حاجة إلى تعليم الصنائع , إن الأهم المقدم هو الثقافة الفكرية من المستوى الأعلى) وقد عارض أن يكون مشروع تعليم العلوم الصناعية على حساب تعليم الآداب الإنجليزية والدراسات الأدبية.
ومثال آخر يصلح أن يكون برهاناً على ما يترك الابتعاث من تبعية للغرب في نفس بعض المبتعثين, وهو ما ذكره أستاذنا الدكتور الشيخ مصطفى السباعي عن تجربته مع واحد من هؤلاء التابعين , فقال: (لما كنا طلاباً في نفس تخصص المادة في الفقه والأصول وتاريخ التشريع في كلية الشريعة وكان ذلك عام 1939 عينت مشيخة الأزهر في عهد الشيخ المراغي رحمه الله, الدكتور علي حسين عبد القادر أستاذاً لنا يدرس تاريخ التشريع الإسلامي, وكان قد أنهى دراسته في ألمانيا حديثاً , وهو مجاز من كلية أصول الدين ومكث في ألمانيا أربع سنوات حتى أخذ شهادة الدكتوراه ...
وكان أول درس تلقيناه عنه أن بدأه بمثل هذا الكلام : (إني سأدرس لكم تاريخ التشريع الإسلامي, ولكن على طريقة علمية لا عهد للأزهر بها , وإني أعترف لكم بأني تعلمت في الأزهر قرابة أربعة عشر عاماً فلم أفهم الإسلام , ولكنني فهمت الإسلام حين دراستي في ألمانيا) .
فعجبنا _نحن الطلاب _ من مثل هذا القول , وقلنا فيما بيننا : لنسمع إلى أستاذنا لعله حقاً قد علم شيئاً جديراً بأن نعلمه عن الإسلام مما لا عهد للأزهر به . وابتدأ درسه عن تاريخ السنة النبوية ترجمة حرفية عن كتاب ضخم بين يديه , علمن فيما بعد أنه كتاب جولد تسهير "دراسات إسلامية" وكان أستاذنا ينقل عباراته ويتبناها على أنها حقيقة علمية, واستمر في دروسه, نناقشه فيما يبدو لنا – نحن الطلاب – أنه غير صحيح ، فكان يأبى أن يخالف جولد تسهير بشيء مما ورد في هذا الكتاب).
الثمرات الخبيثة للابتعاث إلى الخارج (مصر نموذجًا):
لقد بدأت أولى رحلات الابتعاث إلى الخارج في عهد محمد علي باشا والى مصر والذي ولي عرش مصر في عام 1805م، أي بعد خروج الفرنسيين من مصر بأعوام قليلة، وهنا سؤال يطرح نفسه لماذا كان رحلات البعثات المصرية إلى فرنسا خاصة دون غيرها؟ وهي التي غزت مصر أيام نابليون وخربت الأزهر وما زالت أثار خيل الفرنسيين التي دخلت الأزهر ودنسته محفورة في عقول ونفوس المصريين ومازالت مشاهد جنودهم وهم يجوسون خلال الديار ويأتون بفظائع جراحها لم تلتئم عند المصريين ... فكيف تعمد حكومة مصر- بعد أن تخلصت ديارها من الاحتلال الفرنسي- إلى أن ترسل أبناءها إلى فرنسا الغازية؟
ففرنسا حين غزت مصر كانت عدوة في أذهان المصريين فكيف تصبح صديقة ونستأمنها على عقول أبنائنا، هل اطمأننا أن عداوة الفرنسيين لنا قد زالت من قلوبهم وأصبحوا يحبون لنا الخير ويسعون إلى تنميتنا وعزنا بتعليمنا العلوم الحديثة؟
لقد كان الابتعاث إلى تلك الدول نوعًا جديدًا من الاحتلال أو نستطيع أن نقول: إنه كان تعويضًا عما فقدوه من سيطرة جيوشها على بلادنا، فأرادوا أن يسيطروا عليها عن طريق السيطرة على عقول الأجيال الجديدة، ثم وضعها في أماكن التوجيه عند رجوعهم إلى بلدانهم.
فكان من أولى الثمرات الخبيثة لتك البعثات أول وزير لوزارة المعارف المصرية وهو أحد أفراد بعثة عام 1826م (مصطفى مختار المولود سنة 1802 والمتوفى سنة 1839) وقد عاد إلى بلاده سنة 1832، أي رحل إلى فرنسا وهو ابن أربع وعشرين سنة وأقام هناك ست سنوات , وهي الفترة التي يتم فيها تكوين شخصية المرء وثقافته , وكان في سن هي ذروة الشباب .
ويبدو أنه كان هناك في فرنسا يستجيب لرغبات من رغبات نفسه , فقد ذكر مترجموه أنه كان لديه ميل إلى الموسيقى, فأرسلت له ساعة دقاقة تحدث نغماً موسيقياً كما اشتريت له آلتان موسيقيتان بـ 184 فرنكاً على حساب الدولة أثناء إقامته هناك وكما يدل هذا الخبر على ميل مصطفى للطرب والموسيقى واشتغاله بهما في فرنسا أثناء طلبة العلم يدل أيضاً على رغبة الدولة في ذاك العهد المبكر المتقدم من اتصالنا بالغرب على مسايرة الشباب في رغباتهم , ومسارعتها لتحقيق ما يريدون من وسائل اللهو والعبث فلو أن دولة إسلامية قامت الآن بإرسال مثل ذلك إلى بعض المبتعثين لاستغربنا ذلك منها . والموسيقى الآن وموقف الناس منها يختلف عن موقفهم منها قبل مائة وخمس وسبعين سنة ,
يقول الدكتور محمد محمد حسين : (كان هؤلاء المبعوثين الذين أرسل أكثرهم إلى فرنسا يقرؤون الكتب الفرنسية ويشاهدون الحياة الفرنسية في أحفل العصور بالصراع الفكري الذي يصحب الثورات وكانت فرنسا تعيش في أعقاب الثورة الفرنسية وما صاحبها وتلاها من قلق فكري وروحي لم يبلغ نهاية مداه , وقد احتل هؤلاء المبعوثين من بعد مكان الصدارة والقيادة في مختلف الميادين )
أضف إلى ذلك أن المجلس الذي أشرف على التعليم أيام محمد علي كان من الأجانب والأرمن ومن المصريين الذين أتموا دراستهم في الخارج . منهم: ( كلوت بك – كياني بك – وأرتين أفندي – واسطفان أفندي - ورفاعة الطهطاوي – وبيومي أفندي – وفارين- وحكاكيان- ولامبر- وهامون- ودوزول )
تقول الكاتبة المسلمة الأمريكية مريم جميل في كتابها " الإسلام في مواجهة الغرب " : ( إن الحضارة الغربية بقوتها الاقتصادية والسياسية القائمة استطاعت أن تبسط نفوذها على العالم كله , ولما استطاعت الشعوب الآسيوية والأفريقية أخيراً أن تنتصر في صراعها للحرية السياسية وتحررت من النير الأجنبي كانت حضارتها قد تحطمت قديماً إن النخبة من هذه الشعوب من غير استثناء تلقوا ثقافتهم في معاهد أوربا وأمريكا , وكانت هذه المعاهد وأساتذتها قد علموهم أن ينظروا إلى تراثهم الثقافي القومي بنظر الاحتقار والازدراء , وكانوا قد خضعوا عقلياً لفلسفات الحضارة المادية .
وكان المثال الأقوى لآثار الابتعاث على عقول المسلمين وسيطرته عليها ثم استخدامها في محاربة الأمة في هويتها ودينها ولغتها، الدكتور (طه حسين) الذي بدأ حياته أزهريًا حافظًا لكتاب الله وعاد إلى مصر بغير الوجه الذي ذهب به, وقد آلت إليه قيادة فكرية للمجتمع, بسبب قيامه بالتدريس في الجامعة وتولية الوزارة, فقد كان عميد كلية الآداب بالقاهرة ومديراً عاماً للثقافة بوزارة المعارف ومستشاراً فنياً فيها وكان مديراً لجامعة الإسكندرية ثم وزيراً للمعارف وبسبب الكتب الكثيرة التي ألفها وأذاعها بين الناس.
يقول في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": ( إن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء , وهي أن نسير سيرة الأوروبيين , ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً , ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها , حلوها ومرها , وما يحب منها وما يكره , وما يحمد منها وما يعاب ).
يدعي في هذا الكتاب بأن صلة مصر إنما هي بأوربا لا بالشرق يقول: ( إن العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط , وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط ).
وينعى على المصريين أن يروا أنفسهم شرقيين فيقول: ( فأما المصريون أنفسهم فيرون أنهم شرقيون , وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي وحده , بل معناه العقلي والثقافي , فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني منهم إلى اليوناني والإيطالي والفرنسي , وقد استطعت أن أفهم كثيراً من الغلط وأن أفسر كثيراً من الوهم ولكني لم أستطع قط – ولن أستطيع في يوم من الأيام – أن أفهم هذا الخطأ الشنيع أو أسيغ هذا الوهم الغريب ) .
وكذلك دعا الدكتور طه حسين إلى إقامة شؤون الحكم على أساس مدني لا دخل فيه للدين , أي دعا إلى قيام حكومة لا دينية , يقول في كتابه المذكور : (وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية ولا قواماً لتكوين الدول ) .
ويدعي : ( أن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية , وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية أيضاً قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة حين كانت الدولة الأموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق ) .
وكذلك دعا طه حسين إلى إخضاع اللغة العربية لسنة التطور ويقترح أن تكون الفصحى التي نزل بها القرآن لغة دينية فحسب كالسريانية والقبطية واللاتينية واليونانية , عند أرباب النحل .
يقول : ( وفي الأرض أمم متدينة كما يقولون , وليست أقل من إيثاراً لدينها ولا احتفاظاً به ولا حرصاً عليه , ولكنها تقبل من غير مشقة ولا جهد أن تكون لها لغتها الطبيعية المألوفة التي تفكر بها وتصطنعها لتأدية أغراضها , ولها في الوقت نفسه لغتها الدينية الخاصة التي تقرأ بها كتبها المقدسة وتؤدي فيها صلاتها . فاللاتينية مثلاً هي اللغة الدينية لفريق من النصارى , واليونانية هي اللغة الدينية لفريق آخر , والقبطية هي اللغة الدينية لفريق ثالث , والسريانية هي اللغة الدينية لفريق رابع ) .
ويقول الدكتور محمد محمد حسين تعليقاً على هذا النص وكشفاً عن خبيئته : ( ومن هذا نرى أن المؤلف لا يرى بأساً من أن تتطور لغة الكتابة والأدب في العربية حتى يصبح الفرق بينها وبين عربية القرآن الكريم مثل الفرق بين الفرنسية واللاتينية).
إن من أشد آثار الابتعاث إلى الخارج ومخاطره ـ وهي كثيرة ـ الانحراف العقيدي والانهيار الخلقي, اللذان يصاب بهما كثير من الطلبة المبتعثين، كما رأينا في النماذج المبتعثة السابقة. لذلك كان واجبًا على الأمة أن تحيط تلك الفئة من أبنائها باهتمامها، وألا تتركهم نهبًا لانفتاح وإغراء وإفساد في مجتمع جديد لم يعهدوه من قبل.
كيف نواجه أخطار الابتعاث إلى الخارج:
أولاً: أن يكون الابتعاث فيما تحتاجه الأمة من علوم تجريبية وتطبيقاته مثل: الكيمياء والفيزياء والهندسة والطب... وغيرها.
ثانيًا: القيام بحركة ترجمة نشطة للعلوم الغربية بحيث لا يحتاج أبنائنا للابتعاث للخارج إلى في إطار محدود.
ثالثًا: أن يتم اختيار الطلبة المبتعثين بدقة، وأن تعقد لهم الدورات قبل سفرهم ويراعى في تلك الدورات الآتي:
1- اختيار الشخصية المبتعثة بعناية، بحيث يعرف عنها الوعي وتمسكها بدينها وعدم القابلية للذوبان والانجراف.
2- توجيه المبتعث لأنجح الوسائل والأساليب للمحافظة على دينه ونفسه وعرضه وماله وتجنب ما يُسيء إلى أي منها.
3- الاطلاع على ظروف الحياة وطبيعتها والخلفيات الفكرية والاجتماعية للبلاد التي يوفد إليها.
4- التأكيد على أهمية التفوق العلمي والإفادة القصوى مما تتيحه فرصة الدراسة في الخارج من الاطلاع والبحث فيما يخدم التخصص العلمي الذي يوفد للدراسة فيه.
5- متابعة المبتعث والتوجيه الدائم له سواء في الجانب العلمي أو الجانب الخلقي والإيماني.
ربما يكون الابتعاث إلى الخارج والمدارس الأجنبية بعض وسائل تغريب التعليم في بلادنا إلا أن المشكلة الأكبر تبقى هي تغريب مناهج الدراسة التي يدرسها عامة المسلمين، وإغلاق الدينية منها، فإن كانت المدارس الأجنبية والابتعاث يؤثر على فئة أو قطاع من المجتمع فإن تغريب المناهج تحت غطاء تطويرها حرب تشمل الجميع دون استثناء.
المراجع:
* استخراب: هو المصطلح الصحيح للتعبير عن احتلال الغرب لبلاد المسلمين وليس "استعمار".
كتب
- كتاب "المدارس العالمية تاريخها ومصادرها" للشيخ بكر أبو زيد
- كتاب "الجذور التاريخية لإرسالية التنصير الأجنبية في مصر" للدكتور خالد نعيم".
- كتاب المدارس الغربية في البلاد الشرقية/ أحمد أمين.
- كتاب: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر/ محمد محمد حسين.
- كتاب: واقعنا المعاصر/ محمد قطب.
بحوث ومقالات:
. بحث بعنوان "كيف تحارب الجامعة الأمريكية الإسلام في مصر؟" للدكتورة ليلى بيومي، نشر في مجلة المختار الإسلامي، العدد: 62
. "أهداف الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 1920-1980" للدكتورة سهير البيلي، نشر في مجلة البيان، العدد (180).
. المدارس التبشيرية التضليلية.. إلى متى؟/ مجلة المجتمع – عدد 350 جمادى الأولى سنة 1397.
. المدارس الأجنبية والإسلام/ أحمد حمزة – مجلة لواء الإسلام – ذو القعدة سنة 1375.
* استخراب: هو المصطلح الصحيح للتعبير عن احتلال الغرب لبلاد المسلمين وليس "استعمار".
الابتعاث إلى الخارج وقضايا الانتماء والاغتراب الحضاري "د. إبراهيم القعيّد"
الابتعاث ومخاطره " الشيخ محمد بن لطفي الصباغ"
كتاب: الإسلام والحضارة الغربية "محمد محمد حسين"
كتاب: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر "محمد محمد حسين"
كتاب: واقعنا المعاصر "محمد قطب"