بقلم: د. أحمد عبد الخالق
للإنسان أن يُعبِّر عن عدم رضاه عن أمرٍ غُبن فيه، فقد تتخذ الدولة قراراتٍ فيها ظلم للشعب، أو لفئةٍ من فئات الشعب، كالعمال- مثلاً- أو الأطباء، أو المدرسين، أو المهندسين، أو قد ترفع الدولة الأسعار مع ثبات الأجور، فيشعر الشعب بالظلم، أو قد يتخذ الحاكم قرارات حرب أو سلمٍ مع دولةٍ ما، ويكون من شأنها الإضرار بالصالح العام، وفي كل هذه الحالات وغيرها يريد المتضررون أن يعبروا عن عدم رضاهم ورفضهم لما قد تقرر؛ فإن هم سكتوا وأنكر كل منهم في نفسه، فكيف يعرف أولو الأمر أنهم غير راضين، والقاعدة تقول: لا يسمع من ساكت قول، وإن تكلموا فرادى، فإنهم لا وزن للفرد ولا قيمة لصوته، فكيف يتم ذلك؟ كيف يضغطون على أصحاب القرار بتعديل قراراتهم؟
أعتقد أنه لا توجد وسيلة بها يضغط عليهم، إلا من خلال عمل جماعي يظهر في شكل مظاهرة سلمية، يعبِّرون فيها عن رأيهم فيما تظاهروا من أجله، أو يكون من خلال اعتصام في مكان ما، أو إضراب عن عمل ما؛ تعبيرًا عن غضبهم وعدم رضاهم، حتى يتحقق لهم ما يريدون، أو ينتهي الأمر الذي دعاهم إلى ذلك.
والسؤال الآن: هل هذا العمل جائز شرعًا؟ وهل يعتبر حقًّا شرعيًّا أم إنه أمر مبتدع يتعارض مع شرع الله تعالى؟ وحتى يتسنى لنا معرفة تفاصيل هذه المسألة، فسوف يتم عرض الآتي: مفهوم المظاهرة، أو حقيقة المظاهرات، أو التظاهرات، والآراء الواردة فيها، والمظاهرات التي كان يقودها علماء، والفتاوى الواردة فيها، والترجيح، ثم يكون الحديث عن الاعتصامات، أو الإضرابات والله الميسر.
أولاً: المظاهرات، حقيقتها، آراء العلماء فيها، ما ورد فيها من فتاوى، والترجيح.
أ- حقيقة المظاهرات، أو التظاهرات:
أ) تعريف المظاهرة في اللغة:
المُظَاهَرةُ: المعاونة، والتَّظاهُرُ: التعاون، واسْتَظْهَرَ به، استعان به، والظِّهارة بالكسر ضد البطانة، ولها عدة معانٍ منها:
1-المُظَاهَرة: المعاونة، وفي حديث علي رضي الله عنه: "أَنه بارَز يَوْمَ بَدْرٍ وظاهَرَ"، أَي نَصَر وأَعان.
2- والظَّهِيرُ: العَوْنُ، الواحد والجمع في ذلك سواء، وإِنما لم يجمع ظَهِير؛ لأَن فَعِيلاً وفَعُولاً قد يستوي فيهما المذكر والمؤُنث والجمع، كما قال الله عز وجل: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)﴾ (الشعراء)، وفي التنزيل العزيز: ﴿وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)﴾ (الفرقان)؛ يعني بالكافر الجِنْسَ، ولذلك أَفرد، وفيه أَيضًا: ﴿وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾ (التحريم).
3- والظَّهِيرُ: المُعِين، وقال الفراء في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾ (التحريم)، قال: يريد أَعوانًا فقال: ظَهِير، ولم يقل: ظُهَراء.
4- وظَاهَرَ عليه: أَعان، واسْتَظْهَرَه عليه، استعانه، واسْتَظْهَر عليه بالأَمر، استعان، وفي حديث علي رضي الله عنه: (يُسْتَظْهَرُ بحُجَج الله وبنعمته على كتابه) وفلان ظِهْرَتي على فلان، وأَنا ظِهْرَتُكَ على هذا أَي عَوْنُكَ.
5- وظَهَرتُ به: افتخرت به، وظَهْرْتُ عليه، قَوِيتُ عليه، يقال: ظَهَرَ فلانٌ على فلان أَي قَوِيَ عليه، وفلان ظاهِرٌ على فلان أَي غالب عليه، وظَهَرْتُ على الرجل: غلبته، وفي الحديث: فَظَهَر الذين كان بينهم وبين رسول، عَهْدٌ فَقَنَتَ شهرًا بعد الركوع يدعو عليهم، أَي غَلَبُوهم(1).
ظاهره من المظاهرة المعاونة(2)، المظاهرة من الظهر؛ لأن الظهر موضع قوة الشيء في ذاته واليد موضع قوة تناوله لغيره
ب) تعريف المظاهرات في الاصطلاح:
قال الخطابي: "معنى المظاهرة المعاونة، إذا استنفروا وجب عليهم النفير، وإذا استنجدوا أُنجدوا، ولم يتخلفوا ولم يتخاذلوا، وأما ما تعارف عليه الناس في هذا العصر من مفهوم المظاهرة والاحتجاجات والمسيرات والاعتصامات من تعريف هي:
إعلاء مشاعر الإسلام في زمن الضعف خير من زمجرة الملايين تستنكر الظلم والفساد، وتحارب الجريمة والرذيلة(3).
ونستخلص من التعريف عدة أشياء وهي:
1- إعلاء مشاعر المسلمين وإظهار قوتهم.
2- إنكار الظلم وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر.
3- أنها وسيلة مشروعة، ووسيلة إعلامية.
4- وبعضهم يرى المظاهرات في معرض الوسائل، التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإظهار الإسلام، والدعوة إليه(4)، فهذه الأمور اقتبست من كلام مَن رأي جواز المظاهرات وسنية مشروعيتها.
أنواع المظاهرات
مظاهرة تخرج، أو ينتزعها مسلم في ديار الإسلام: وهي تلك المظاهرة، التي تكون في ديار الإسلام، ويقوم بها المسلم داخل حدود الدولة، قد تكون منظمة؛ حيث إنها تكون بتراخيص، ومصرَّح لها، ويُحدد الزمان والمكان لهذه المظاهرة، وتنطلق هذه المظاهرة من المكان المُحدد لها إلى المكان المخصص لإلقاء خطاباتها وقرآة كلماتها المعدة مسبقًا، والشكل هذا شكل منظم، ونادرًا ما يخرج عن الحدود المرسومة له، والبعض الآخر قد تكون عفوية، أي من غير تنظيم ومن غير إعداد، مجرد انفعال جماهيري في خروجهم وتظاهرهم، وهذا كثيرًا ما يصحب أعمال شغب وتخريب، وقد تكون هناك مظاهرات للانقلاب والخروج على الحكم؛ حيث تُحاك المؤامرات ليلاً، وتخرج في الصباح؛ لتقلب نظام الحكم.
1) مظاهرة ضد كافر محتل في أرض الإسلام: وهذا ما نشاهده في أرض فلسطين؛ حيث إن كثيرًا من المظاهرات التي خرجت كان لها سبب رئيسي في قيام الانتفاضات الشعبية، وحتى ولو صاحب هذا أعمال عنف ضد المحتل.
2) مظاهرة احتجاج ينتزعها مسلم في ديار الكفر: وهذه المظاهرات تعتبر من العمل السياسي الديمقراطي للشعوب، وتعتبر من مقومات دولة القانون والمؤسسات المدنية عندهم والديمقراطية، فهو منتشر ومسموح بشكل واسع في هذه الدول الغربية بقوانين تحدده، وتقوم بتنظيم شكله وهيئته.
3) مظاهرة ينتزعها كافر، أو ذمي (نصراني، أو يهودي) في ديار الإسلام.
4) مظاهرة ينتزعها مسلم تتجه نحو مصالح دولة كافرة على أرض الإسلام لها تصريح رسمي.
5) مظاهرة مصرح بها، ولكن خرجت عن خط سيرها، وأصابتها الفوضى والغوغاء.
6) مظاهرة تقوم بها جماعة مصرح بها (جمعية صيادين وسائقين مثلاً).
7) مظاهرة تقوم بها جماعة محظورة قانونًا (كحزب محظور، أو موقف مثلاً).
مظاهرة تطالب بحقوق مشروعة قانونًا، ومظاهرة هدفها التغيير السياسي.
فهذه غالبًا هي أنواع المظاهرات، التي يقوم بها أصحابها؛ للتعبير عما هو بداخلهم، ولا بد من الإعلان عنه، حتى يتحقق لهم ما يريدون، وهي وسيلة من وسائل الضغط على السلطات، أو من بيدهم الأمر.
ب- آراء العلماء في المظاهرات:
لم يخص علماؤنا وفقهاؤنا القدامى هذه المسألة بحديث، ولذا فإنها تعتبر من المسائل الحديثة، وتخضع لاجتهاد العلماء في عصرنا، وما دامت المسألة اجتهادية، فلا بد فيها من اختلاف وجهات النظر، ما بين مؤيد ومعارض، وسوف يتم عرض رأي كل منهما، مشفوعًا بالأدلة.
* مذهب المجوزين للمظاهرات وأدلتهم:
يرى هؤلاء المجوزون للمظاهرات، أنها جائزة، وسنة مشروعة، سنها الرسول صلى الله عليه وسلم واستدلوا لذلك بالأدلة الآتية:
الدليل الأول من السنة:
عن ابن عباس قال: سألت عمر، لأي شيء سُميت (الفاروق) قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، ثم شرح الله صدري للإسلام، فقلت: الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، فما في الأرض نسمة أحب إلي من نسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت أختي: هو في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا، فأتيت الدار، وحمزة في أصحابه جلوس في الدار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، فضربت الباب فاستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر بن الخطاب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بمجامع ثيابي، ثم نترني نترة، فما تمالكت أن وقعت على ركبتي، فقال: "ما أنت بمنتهٍ يا عمر!" فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد، فقلت: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق، إن متُّم، وإن حييتم" قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن، فأخرجناه في صفين: حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد(5) ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، فنظرت إلى قريش، وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ (الفاروق) وفرَّق الله بي بين الحق والباطل(6).
وجه الاستدلال:
إن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بالصحابة في مظاهرة، لإظهار قوة المسلمين، وكثرة عددهم بعد إلحاح الصحابة على ذلك، وهذا تعبير عن رأيهم، أو عن معتقدهم، فقد رأوا أنها أنسب وسيلة للتعبير عن الرأي إذ ذاك، ولقد حققت هذه المظاهرة هدفها، وهو إعلان هويتهم، وتعريف قريش بهم وبقوتهم، ولفت الأنظار إليهم، ومن خلال إظهار القوة، فإن الضغط على المسلمين سوف يقل نوعًا ما.
الدليل الثاني من المعقول:
الأصل في الأشياء الإباحة، وقد يخرجها عن هذا الحكم، وجوبًا أو حرمة أو كراهة ما يطرأ عليها، فقد تكون واجبة، عندما لا تكون هناك وسيلة سواها لتغيير المنكر، أو للحصول على حق أو لدفع ظلم.
وقد تكون المظاهرة حرامًا، إذا صاحبها عنف وإراقة دماء وتخريب للممتلكات الخاصة، أو العامة، أو عندما يكون فيها بغي وعدوان، أي أن المتظاهرين لم يكونوا أصحاب حق، ومن هنا فإن المظاهرات من الوسائل المباحة، ولا حرج ولا إثم على القائمين بها إذا التزموا بالضوابط القانونية والشرعية؛ بحيث لا يصاحبها منكر ولا بغي وعدوان، فهذا حق من الحقوق التي منحها الشرع للإنسان، وعلى السلطات أن ترخِّص لهم في ذلك، وأن تقوم بحمايتهم، حتى ينتهي الوقت المسموح به للتعبير عن رأيهم.
الدليل الثالث:
إن المظاهرات وسيلة لها أحكام المقاصد، فإذا أدت إلى تحقيق مصلحة وإزالة مفسدة، كانت مطلوبة، وإذا أدَّت إلى تحقيق مفسدة، أو إزالة مصلحة، كانت حرامًا، وذلك إعمالاً للقاعدة الفقهية التي تقول: "إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما"(7)، والقاعدة الأخرى: "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"(، فالوسائل لها أحكام المقاصد، فما الذي يقصده المسلمون بهذه الوسيلة، إلا إظهار الحق، ورفض الظلم، وشحذ همم الناس وألسنتهم وأقلامهم وأيديهم بما يملكون فعله، كما أن في هذا توحيدًا في الموقف وتقوية لرأي الأمة.
وقد وردت فتاوى في ذلك، تؤيد الرأي القائل بالجواز، ومن تلك الفتاوى ما يلي:
فتوى الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق:
السؤال:
ذكرتم في كتابكم فصول من السياسة الشرعية ص31- 32: أن من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة التظاهرات (المظاهرة)، ولا أعلم نصًّا في هذا المعنى، فأرجو الإفادة عمن ذكر ذلك، وبأي كتاب وجدتم ذلك؟ فإن لم يكن في ذلك مستند، فالواجب الرجوع عن ذلك؛ لأني لا أعلم في شيء من النصوص ما يدل على ذلك، ولما قد علم من المفاسد الكثيرة في استعمال المظاهرات، فإن صح فيها نص فلا بد من إيضاح ما جاء به النص إيضاحًا كاملاً، حتى لا يتعلَّق به المفسدون بمظاهراتهم الباطلة.
والله المسئول أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعًا، وأن يجعلنا جميعًا من الهداة المهتدين، أنه جواد كريم؟
الجواب:
وأما في قولي في كتاب: (فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله) (ص31- 33):
فأقول: لقد ذكرت المظاهرات في معرض الوسائل التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لإظهار الإسلام والدعوة إليه، لما روي أن المسلمين خرجوا بعد إسلام عمر رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفين (إظهارًا للقوة) على أحدهما حمزة رضي الله عنه، وعلى الآخر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولهم كديد ككديد الطحين، حتى دخلوا المسجد، ولم أر لذلك من هدف إلا إظهار القوة، وقد روى هذا الحديث: أبو نعيم في الحلية بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما وفيه:
"فقلت: يا رسول الله، ألسنا على الحق، إن متنا، وإن حيينا؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، أنكم على الحق، إن متم، وإن حييتم"، قال: فقلت: ففيمَ الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق، لتخرجن، فأخرجناه في صفين: حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال فنظرت إلى قريش، وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ الفاروق، وفرَّق الله به بين الحق والباطل"(9).
وأرى أن التشريع الإسلامي قد جاء بكثير من الشعائر؛ لإظهار عزة الإسلام والدعوة إليه، كصلاة الجماعة والجمعة والعيدين، ورأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر النساء الحيَّض وذوات الخدور أن يخرجن إلى المصلى يوم العيد، معللاً ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليشهدن الخير، ودعوة المسلمين"، ومن الخير الذي يشهدنَّه هو كثرة أهل الإسلام، وإظهارهم لشعائره.
فتوى الشيخ سلمان بن فهد العودة:
السؤال:
أرجو من فضيلتكم بيان حكم المظاهرات التي تهدف إلى مناصرة إخواننا المستضعفين، سواء في فلسطين أو غيرها؟
الجواب:
لا نرى بأسًا أن يجتمع المسلمون للإعراب عن احتجاجهم على معاناة إخوانهم في فلسطين؛ بحيث تكون مظاهرة سلمية، وبعيدة عن مضايقة السكان، أو إزعاجهم، أو تعويقهم عن أعمالهم، ولا يكون فيها ارتكاب لما حرَّم الله من منكر بقدر ما تستطيعون، وهذا من نصرة إخوانكم، وله أثره البالغ على اليهود، وعلى من يناصرهم في كل مكان.
ومن ثمراته أن يصل الرأي الإسلامي إلى الشعوب الغربية، التي طالما هيمن اليهود على عقولها، وأوصلوا لها رسالة مضللة عن القضية، والأصل في مثل هذه الأمور الجواز، ولا تحتاج إلى دليل خاص، وقد ورد في السيرة أن المسلمين خرجوا في صفين، لما أسلم حمزة وعمر، ولكنه ضعيف، إنما يغني عنه أنه لا دليل على منع مثل هذا، أو تحريمه، وإنما يمنع إذا ترتب عليه ضرر، أو فساد.
رأي الدكتور يسري هانئ الأستاذ بجامعة الأزهر في المظاهرات:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.. وبعد،،
ففي محاضرة من محاضرات الدكتور يسري هانئ الداعية المعروف بالمنصورة، سأل أخ الدكتور يسري ما حكم المظاهرات؟ فأجاب الدكتور قائلاً:
أخي الكريم.. المظاهرات وسيلة للمساءلة بمطالب الشعب، ورفع الظلم عن المظلومين والمقهورين، وما دام هذا هو الهدف- وهو هدف شريف-، وما دامت هذه المظاهرة تتم بمظهر حضاري، يبتعد عن العنف والتخريب؛ فهي عمل شريف يجوز شرعًا.. أما إذا كانت المظاهرة لغرض آخر غير شرعي، ويخالف الشرع فهو لا يجوز... وذلك طبقًا للقاعدة الشرعية التي تقول ما دام الهدف شريفًا والوسيلة لا تتعارض مع الشرع.. فهذه الوسيلة حلال وتجوز.. أما إذا كان الغرض غير شريف ومحرم شرعًا، فإن الوسيلة لا تجوز... فمثلاً شخص يركب سيارة، لكي يذهب للمسجد لحضور درس، أو حلقة ذكر، فإن الوسيلة وهي السيارة حلال وتجوز ومأجور أنت عليها إن شاء الله...
أما إذا استخدمت السيارة، للذهاب لشراء خمر، أو منكر، فهذه الوسيلة لا تجوز... وقال الدكتور يسري: وفي السيرة النبوية شاهدان: (وإن كانت السيرة روايتها أقل في القوة من روايات كتب الحديث)
أولاً: ذهاب سيدنا أبو بكر إلى المسجد الحرام ومعه 38 من الصحابة الكرام، وصلى بهم هناك وسط نادي الكفر، ولقوا من الأذي ما لقوا، وكان أكثرهم تضررًا سيدنا أبو بكر...
ثانيًا: وهي إسلام سيدنا عمر بن الخطاب وخروجه مع سيدنا حمزه في صفين، وبينهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصلاتهم بالكعبة، وإن كان بلغنا، أن بعض علمائنا الأفاضل، طعنوا في صحة الحديث، ولكن هذا الطعن، ليس بطعن في العمل، ولكن في الإسناد، أي ليس هناك ما يعارض العمل، وهو المظاهرة والمسيرة.. والله أعلم.
فتوى الشيخ أبو محمد المقدسي:
السؤال:
يعم أرجاء العالم الإسلامي بشكل عام مسيرات تضامنية مع إخواننا في فلسطين، ولقد رأينا أن بعضًا من إخواننا يستحثون الناس على المشاركة بهذه المسيرات، ويعتبرونها من الأعمال التي يحبها الله ورسوله، ورأينا أيضًا إخوانًا لنا يقولون: إنه لا فائدة مرجوة من مثل هذه المسيرات.
وسؤالي لكم يا شيخ: ما نصيحتكم لنا في هذا الأمر؟
الجواب:
بالنسبة للمسيرات والمظاهرات، خصوصًا المرتبة قانونيًّا، كمسيرات الإخوان وغيرهم من الوطنيين، فنحن لا نزج بإخواننا فيها ولا ننصح بالمشاركة بها، لكن في الوقت نفسه لا نقف في الصف السلبي المثبط عنها، إذ ليس هذا من السياسة الشرعية في شيء، فماذا يضير المسلمون، أن يعارض، أو يثور، أو يقاتل، أو يُقتل في سبيل مقدساتهم، أو أرضهم من لا خلاق لهم ممن يحسبون على عوام المسلمين، أو هم فعلاً من عوام المسلمين، خصوصًا أن كثيرًا من المشاركين في ذلك، يقودهم الحماس للجهاد والعاطفة والغيرة الإسلامية، فأي مصلحة في الوقوف في وجه هذه المسيرات، أو المظاهرات خصوصًا، إذا كانت محسوبة على أنها غضبة لمقدسات المسلمين، كما هو حال المظاهرات في هذه الأيام، بل على العكس، فإن فيها من المصالح البينة الواضحة؛ من ذلك: أن يعلم أعداء الله من اليهود وغيرهم أن ثمن تلويث مقدسات المسلمين باهظ، ولن يمر بهدوء، وأن الأمة لن ترضى بسلام الاستسلام، الذي رضيه حكامها، ولعل مثل هذه المدافعة تورث صحوة ورجعة إلى الدين، ولو بعد حين، فقد قال تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ (الحج).
* مذهب المانعين للمظاهرات المحرمين لها وأدلتهم:
يرى هؤلاء المانعون للمظاهرات، أنها غير جائزة، وبدعة مستحدثة.
واستدلوا لذلك بالأدلة الآتية:
1) إنها ليست وسيلة شرعية من وسائل الدعوة، بل تشمل كثيرًا من المحرمات في أثناء المظاهرات.
2) المظاهرات، بدعة مستحدثة أول من فعلها، هم الغرب، حيث إنه لم يوجد في التراث أي فعل دل على أن المسلمين فعلوها، لا الصحابة، ولا التابعون، ولا أحد من الفقهاء القدامى، ولا المحدثين، فهي بدعة مستحدثة.
3) إنها باب للخروج على الحكام وتكفيرهم، فتح باب الفتنة في الخوض في أعراض العلماء والحكام.
4) إن كل الأحاديث التي استدل بها المجوزون للمظاهرات، كانت قبل الهجرة، وقبل كمال الشريعة، ولا يخفى أن العمدة في الأمر والنهي وسائر أمور الدين على ما استقرت به الشريعة بعد الهجرة، أما ما يتعلق بالجمعة والأعياد ونحو ذلك من الاجتماعات، التي قد يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ كصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، فكل ذلك من باب إظهار شعائر الإسلام، وليس له تعلق بالمظاهرات(10).
5) إنها تكون سببًا في قيام الشغب والفوضى، ومنح فرص للمخربين والمفسدين بقيام اعتداءات واشتباكات مع الشرطة والدولة.
6) إنها لن تغير أي قرار سياسي في البلاد العربية، أما بلاد الغرب، فإنها تغير، وكثيرًا ما غيرت أنظمة بفعل المظاهرات.
7) فيها تذكية للعنصرية، وإحياء للجاهلية، ودعوة للفساد. يقول الشيخ مقبل: وقد كنت بحمد الله، أحذر من تلكم التظاهرات في خطب العيد، وفي خطب الجمعة(11).
ويقول الشيخ محمد المنجد: وأما التظاهرات، فإن فيها عددًا من المحذورات الشرعية، يجب الحذر منها(3).
وكثير من العلماء ممن تكلم في محظورات التظاهر ومفاسدها سنذكرها إن شاء الله في مبحث فتاوى العلماء في المظاهرات(12).
فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
السؤال:
هل تعتبر المظاهرات الرجالية والنسائية ضد الحكام والولاة، وسيلة من وسائل الدعوة؟ وهل من يموت فيها، يعتبر شهيدًا في سبيل الله؟
الجواب:
المظاهرات الرجالية والنسائية، من أسباب الفتن وظلم الناس، والتعدي على بعض الناس، ولكن الأسباب الشرعية، النصيحة والدعوة إلى الخير، التي شرعها أهل العلم وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمكاتبة والمشافعة مع الأمير والسلطان، ومكاتبته ومناصحته، دون التشهير به.
فتوى الشيخ عبد الله صالح الفوزان:
السؤال:
أحسن الله إليكم، هناك من يرى ويدعو إلى الاعتصامات والمظاهرات ضد الحكام والعلماء؛ فما رأيكم في هذه الوسيلة؟
الجواب:
الضرر لا يزال بالضرر، إذا حدث حادث فيه ضرر، أو منكر، فليس الحل في أن تكون مظاهرات، أو اعتصامات، أو تخريب، وهذا ليس حل هذا، زيادة شر، ولكن الحل مراجعة المسئولين ومناصحتهم، وبيان الواجب عليهم، لعلهم يزيلون هذا الضرر.
فتوى الشيخ أبو إسحاق الحويني:
السؤال:
ما حكم المظاهرات؟
الجواب:
هي غير مشروعة، وعلى هذا سائر علمائنا، وقد علمنا بالتجربة، أن هذه المظاهرات لا قيمة لها، ولا أرجعت حقًّا مغصوبًا، وإحراق العلم الصهيوني والأمريكي وصور الرؤساء، لم يغير أي قرار سياسي، بل إن اعتقالات وإصابات وحوادث، هي نتاج تلك المظاهرات فقط.
ﺟ - مناقشة أدلة المانعين:
الوجه الأول:
إن ما ذكرتموه من أن التظاهرات ليست وسيلة من الوسائل وإنما هي بدعة مستحدثة، فليس ما استحدث في الدين بإطلاق يكون بدعة، فهي وسيلة والوسائل ليست محصورة، بل متجددة مع العصر.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: ليست البدعة كل ما استحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاق، فقد استحدث المسلمون أشياء كثيرة، لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم تُعَدّ بدعة، مثل استحداث عثمان أذانًا آخر يوم الجمعة بالزوراء (مكان خارج المدينة) لما كثر الناس، واتسعت المدينة. ومثل استحداثهم العلوم المختلفة وتدريسها في المساجد، مثل: علم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم النحو والصرف، وعلوم اللغة والبلاغة، وكلها علوم، لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اقتضاها التطور، وفرضتها الحاجة، ولم تخرج عن مقاصد الشريعة، بل هي لخدمتها وتدور حول محورها، فما كان من الأعمال في إطار مقاصد الشريعة، لا يعد في البدعة المذمومة، وإن كانت صورته الجزئية لم تعهد في عهد النبوة، إذ لم تكن الحاجة إليه قائمة(13).
ويقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: والمظاهرات مصلحة عامة، ولا قياس للعام على الخاص.
الوجه الثاني:
إن قولكم: (إنها لن تغير أي قرار سياسي) كلام غير مستقيم؛ حيث إن الواقع يشهد بغير ذلك في كثير من البلدان وفي بلادنا الإسلامية، فالمظاهرات، التي خرجت إبان الحملة الفرنسية على مصر، وبعدها المناوشات بين الإخوان وجمال عبد الناصر، وقيادات الثورة، وجمال عبد الناصر، تدل على أن المظاهرات قد أثرت تأثيرًا مباشرًا، أو غير مباشر على قرارات، وعلى حكومات.
الوجه الثالث:
إن ما ذكرتموه من المفاسد التي تحدث في المظاهرات، فليس كل من يرى بجواز المظاهرات، يرى أنها جائزة، ولم يقل أحد: إن المظاهرات لا تقع، إلا بوجود مثل هذه الأشياء، من تخريب وإيذاء للناس؛ فليس صحيحًا، أن نربط بين المظاهرات وبين الأعمال، التي تحدث، كأسباب عارضة، وليس من أصل التظاهرات؛ فالأصل أن تكون سلمية وبعيدة عن مضايقة السكان، فالمنع يكون، إذا ترتب عليها أضرار وإلا فلا، وهذا يحدث، ولكن نادرًا، وبالمقابل المظاهرات السلمية، فلا منع لها.
الوجه الرابع:
لم يقل أحد ممن دعا إلى المظاهرات؛ إنه يدعو إلى الفساد، فليس من المظاهرات أن يخرج الغوغاء إلى الشارع بلا قيادة وبلا توجيه، فيفسدون ويخربون، وهذا من الفساد في الأرض، فهناك فرق بين الإفساد في الأرض والجهاد في سبيل الله(14).
د- مظاهرات قام بها علماء وحققت أهدافها:
هذه هي المظاهرات التي قامت وكان قياداتها إسلاميين.
وهذه المظاهرات، كان أغلب قادتها من المشايخ ومن طلاب العلم ومن رواد الحركة الإسلامية، ولن أذكر كل مظاهرة قامت في البلاد الإٍسلامية، إنما حصرتها في عمل هؤلاء العلماء المعتبرين وطلاب العلم.
مصر:
وقعت أحداث فبراير عام 1954م، التي بدأت داخل الجيش وسلاح الفرسان، بقيادة خالد محيي الدين، بعد إعلان قبول استقالة محمد نجيب، خرجت المظاهرات تطالب نجيبًا بالبقاء، وكان من المعروف، أنها من تدبير الإخوان المسلمين، وشهدت القاهرة أعنف المظاهرات، واضطر عبد الناصر إلى إعادة نجيب.
وفي يوم 28 فبراير خرجت المظاهرات من جامعة القاهرة والأزهر، ومن أبناء الشعب، فأُصيب عدد من المواطنين، منهم الطالب ثروت يونس العطافي الطالب بكلية الهندسة، واستشهد أحد طلاب الإخوان، وهو الطالب توفيق عجينة، وحمل المتظاهرون قمصان المصابين ملوثة بدمائهم وتوجهوا إلى قصر عابدين، وخرج علماء الأزهر في المظاهرات ضد الإنجليز في عام 1919م.
الكويت:
قام الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وجميع علماء السلفية في الكويت بمظاهرات، وقد خرجوا جميعًا في مقدمة صفوف المظاهرات، التي احتجت على المفسدين في الجامعة، وغيروا القرار بمظاهرتهم، ثم تظاهروا عدة مرات، ويتكرر هذا منهم، ولا يجرؤ أحد على نقض ذلك.
السعودية:
خرج الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله- والد رئيس مجلس الشورى- بأهل القصيم في مظاهرة بشأن مشكلة في مدارس البنات، وخرج الشيخ سلمان العودة منذ سبع سنوات مع العلماء والعامة؛ احتجاجًا على منعه من الكلام، وخرج معه جمع كبير من العلماء والدعاة، ولم تنتقد المظاهرة لذاتها، بل الذين انتقدوها، إنما كان نقدهم على التوقيت، أو احتمال الفوضى، ثم خرج أخيرًا الشيخ المبارك بأهل المنطقة الشرقية.
قطر:
وقاد الشيخ القرضاوي عددًا من المظاهرات، وهو يقود المظاهرات في الدوحة في كل حدث ملم.
السودان:
يخرج علماؤهم للمظاهرات، منها مظاهرات في أعقاب ضرب بلادهم قبل بضع سنوات.
الشام:
وقد خرج علماء الشام في مظاهرات يقودهم الشيخ القصاب، ضد موقف الملك فيصل الشريف عندما تراخى عن الحرب للفرنسيين، وأيدهم رشيد رضا، وقد قامت مظاهرات كثيرة في زمنه.
الجزائر:
وتظاهر علماء الجزائر ودعاتهم مرات عديدة، يتقدمهم محمد السعيد، وعلي بلحاج، وعباس مدني، وبقية من العلماء المسنين، الذين كانوا أعضاء جمعية العلماء.
باكستان:
المظاهرات، التي تقوم بها الأحزاب الإسلامية المعارضة باستمرار، ومن قبل المودودي- رحمه الله-.
اليمن:
خروج كثير من العلماء أمثال الشيخ الزنداني وغيرهم.
الأردن:
فعل الحركات الإسلامية، وحركات الإخوان المستمرة في تنظيم المظاهرات، نصرة لإخواننا في فلسطين.
وكثير من الدول الإسلامية، وما نراه ونشاهده يوميًّا في إندونيسيا، عندما خرج المتظاهرون وأبعدوا سوهارتو، ونظامه الفاسد، والهند وماليزيا، وجنوب إفريقيا، وغيرها كثير.
ﻫ- بيان الراجح في هذه المسألة:
ومن خلال استعراض القولين السابقين وما جرى على دليل المانعين من مناقشة يترجح جواز المظاهرات، إذا لم يترتب عليه، أي ضرر، أو إخلال، أو فساد، وذلك لهذه الأسباب:
السبب الأول:
إن السنة الشريفة ناطقة بوجود التظاهر، فإنكار ذلك دعوى قد قام الدليل على خلافها.
السبب الثاني:
إن ما ذكره مانعو التظاهرات، ليس مستندًا على أية أدلة شرعية، إنما تحسبًا وخوفًا من ارتكاب أي محظورات وما ذكروه ما هو إلا كلام مرسل، لا يقوى على مناهضة تلك الأدلة الشرعية.
السبب الثالث:
الأصل في مثل هذه الأشياء الجواز، ولا تحتاج إلى دليل خاص، وهي وسيلة مباحة فالوسائل لها أحكام المقاصد، فما الذي يقصده المسلمون بهذه الوسيلة إلا إظهار الحق، ورفض الظلم، وشحذ همم الناس وألسنتهم وأقلامهم وأيديهم بما يملكون فعله، كما أن في هذه المظاهرات توحيدًا في الموقف ورأي الأمة.
السبب الرابع:
إنكم لا تعلمون أثر المناصرة والمظاهرة في نفوس إخوانكم، عندما يعلمون أن هناك من انتصر لهم واستنكر الجرائم المقترفة في حق المظلومين، كالفلسطينيين وغيرهم؛ فإذا لم تقم المظاهرات، فإن العالم؛ خاصة الشغوب الأخرى، لا تدري عما يحدث في الشرق الأوسط من مشكلات، ولا يعرفون شيئًا عن قضايانا.
السبب الخامس:
لقد أصبح التظاهر مقياسًا من مقاييس الرأي عند الأمم مسلمها وكافرها في هذا العصر، فنحن لا نعلم رأي أمة من حكامها ولا من إعلامها الذي قد يسيطر عليه حزب، أو قلة لا تخدم مصلحة الأمة، ولا تحرص عليها، ولا نعلم من قال، ممن لم يقل، ومن وافق ومن خالف، فهذا قياس مهم لموقف الأمة واستنكارها لباطل، أو مناصرتها لحق.
السبب السادس:
إشكال عند بعضهم في لفظ مظاهرة وتسمية البعض منهم بالمناصرة؛ فلنتفق على تسميتها مناصرة، ثم نقول: هذه المناصرة للمظلومين في كل أرض، وتحت كل سماء، فليست العبرة بالمسميات، وإنما العبرة بالمعاني وتحقيق الأسماء فالعبرة بالمعنى لا بالمبنى.
السبب السابع:
والتظاهر مع الحق وضد الباطل، سنة مشروعة جارية، سنَّها الله في إظهار الإنكار على الفساد في قوله: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (2)﴾ (النور)، وسنها في الابتهاج بالأعياد، ووداع الرسول صلى الله عليه وسلم للغزاة حين خروجهم والاحتفال بهم حال عودتهم، وفي إظهار القوة كما فعل مع أبي سفيان فألزمه رؤية قوة المسلمين، وقطع الطريق عليه، أن يفكر في إمكان مواجهة القوة الضاربة للإسلام، ومن قبل طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائفين أن يهرولوا في الطواف مضطبعين، إظهارًا لقوة وصحة أجسامهم؛ ما يراجع تفصيله في فقه الحج وفي السير.
وإن لم نظهر موقفنا وحميتنا وصوتنا وتعاطفنا مع إخواننا المقهورين وحمانا المنتهك، فماذا بقي؟ فإظهار الحق، بكل وسيلة وغمط الباطل بكل وسيلة، في عموم ما ذكر، مما تواترت على مشروعيته الأدلة تواترًا معنويًّا، وهي سنة في الإسلام قائمة.
والخلاصة:
وخلاصة ما نخرج به من هذه المسألة الآتي:
1- أن المظاهرات منها ما هو جائز، وهي كل مظاهره خلت من المحاذير الشرعية، ومظاهرات غير جائزة وهي كل مظاهرة أدت إلى مفاسد أخرجتها عن كونها مظاهرة مشروعة.
2- إن المظاهرات، هي نوع من التعاون والنصرة، وتقدر بقدرها وخلوّها من المفاسد والمنكرات.
3- إن المظاهرات، وسيلة وهي مصلحة يمكن تحقيق أهداف إسلامية نبيلة من خلالها.
4- إن المظاهرات، ليست عبادة محضة، وإنما هي وسيلة من الوسائل، ولها حكم المقاصد.
ثانيًا: الإضرابات، أو الاعتصامات.
ومن الوسائل التي يعبِّر بها المظلوم، أو المغبون عن رأيه، الإضراب، أو الاعتصام؛ فالإضراب قد يكون عن العمل، وقد يكون عن الطعام، والاعتصام إنما يكون بملازمة فئة من الفئات مكانًا ما لا يبرحونه، حتى يتحقق لهم ما يطلبون، وقد يصحب الاعتصام إضراب عن الطعام أو عن الكلام، إلى غير ذلك من الوسائل التي بها تصل صرختهم للمسئولين، وآهاتهم للمعنيين، لعلهم بهم يشعرون.
والفرق بين المظاهرات والإضرابات والاعتصامات؛ أن المظاهرة عبارة عن تجمع من الناس، يصحبه خروج إلى الشوارع، أو الميادين، وقد تصحبها هتافات، أو كلمات، أو خطب، وقد تكون صامتة، ويعبر عنها لافتات.
أما الإضرابات والاعتصامات، فغالبًا ما تكون صامتة، وقد تكون بداخل مكان، أو أمام مكان يضربون، أي يمتنعون فيه عن العمل، أو عن الطعام والشراب، أو عن الكلام، حتى يتحقق لهم ما يريدون، أو تصل شكواهم لمن يرغبون.
والخلاف الجاري في المظاهرات، هو نفسه الجاري في الإضرابات والاعتصامات، إلا أنه من خلال النظر في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بعض أصحابه بفعل هذه الطريقة للضغط على المشكو منه؛ ما يجعل الإضرابات عملاً مشروعًا.
فعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره. قال: "اطرح متاعك على طريق" فطرحه، فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لقيت من الناس. قال: "وما لقيت منهم؟"، قال: يلعنونني، قال: "قد لعنك الله قبل الناس"، فقال: إني لا أعود، فجاء الذي شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارفع متاعك فقد كفيت". (رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن)(15).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل يشكو جاره فقال له اذهب فاصبر, فأتاه مرتين أو ثلاثًا, فقال اذهب فاطرح متاعك في الطريق ففعل، فجعل الناس يمرون ويسألونه ويخبرهم خبر جاره فجعلوا يلعنونه فعل الله به وفعل، وبعضهم يدعو عليه فجاء إليه جاره فقال ارجع فإنك لن ترى مني شيئًا تكرهه(16).
وجه الاستدلال:
خروج الرجل بمتاعه إلى الطريق، يشير إلى أنه بذلك الفعل يقوم بلفت أنظار الناس إلى مشكلته مع جاره، وجعل الناس يتعاطفون معه؛ لذلك فقد قاموا بلعن الجار المؤذي؛ ما جعل هذا الظالم يتراجع عن ظلمه بأن أعلن استسلامه للحق.
وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم الرجلَ الشاكي، ما هو إلا نوع من الإضراب، فقد أخرج متاعه خارج البيت وأضرب، أي امتنع عن دخول البيت، حتى تحل مشكلته مع جاره، وبذلك فقد لفت انتباه المارة من الناس، كي يكونوا بجانبه ويتفاعلوا مع قضيته.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قادرًا على حل هذه المشكلة، بعيدًا عن هذا الأسلوب، باعتباره الحاكم والنبي والرسول، والكل يتمنى أن ينفذ ما يريده صلى الله عليه وسلم؛ لكنه أراد أن يعلمنا شيئًا، سوف تحتاج إليه الأمة، في وقت عز فيه النصير، وقل فيه المجير، وتبلدت فيه المشاعر، وكثر فيه الظلم والاستبداد، فلا بد من منبر تعلو فيه الصرخة، حتى تجد لها صدى.
وأما من يقول: إنه لا جدوى من الإضرابات والاعتصامات، وأنها لا تأتي بشيء، فإنه زعم باطل، وتثبيط للهمم، وضياع للحقوق، ووقوف بجوار الظالمين؛ حيث إن هناك حالات كثيرة، تمت فيها اعتصامات وتحققت بسببها المطالب، ورفع فيها الظلم عن المظلومين.
وسوف أذكر موقفًا من هذه المواقف؛ وهو إضراب معلمي الأزهر عن تصحيح أوراق الثانوية الأزهرية 2007م؛ بسبب عدم إدراجهم في كادر معلمي التربية والتعليم، والقصة كما روتها الصحافة في ذلك الوقت، وهذه جريدة (الأسبوع) المصرية تسوق هذا الخبر في 30/6/2007م، كغيرها من الصحف:
بعد اعتصامات اجتماع المجلس الأعلى للأزهر:
قرار جمهوري بضم مدرسي الأزهر إلى كادر المعلمين
أصدر الرئيس حسني مبارك قرارًا جمهوريًّا بضم معلمي الأزهر إلى الكادر الخاص ومساواتهم بمعلمي التربية والتعليم، وجاء هذا القرار بعد 4 أيام من اعتصامات وإضرابات معلمي الأزهر عن التصحيح في جميع محافظات الجمهورية؛ الأمر الذي دعا شيخ الأزهر إلى الذهاب إليهم وطمأنهم، وعقد جلسة طارئة للمجلس الأعلي للأزهر؛ لمناقشة الأمر وخلال اجتماع المجلس برئاسة د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر وحضره د. محمود حمدي زقزوق، ود. أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر وأعضاء المجلس. قوبل تطبيق الكادر بمشكلة تشريعية تتعلق بقانون الأزهر؛ حيث إن للأزهر قانونًا خاصًّا ينظم هيئات الأزهر، رغم قرار المجلس الأعلى للأزهر في جلسته الطارئة يوم الأربعاء الماضي برئاسة د. محمد سيد طنطاوي بموافقة المجلس بالإجماع على أن تسري أحكام القانون رقم 155 لسنة 2007م والخاص بالكادر الخاص لمعلمي التربية والتعليم على جميع المعلمين بالمعاهد الأزهرية بمراحلها المختلفة.. إلا أن الهواجس ومخاوف معلمي الأزهر ما زالت قائمة رغم حرص شيخ الأزهر وقيادات قطاع المعاهد الأزهرية على تطبيق الكادر.. وتتمثل هذه المخاوف في مسألة وقف تنفيذ قرار المجلس الأعلى للأزهر في تعديل بعض مواد القانون 103 لسنة 61 الخاص بتنظيم الأزهر وهيئاته؛ حيث يتطلب تطبيق الكادر على معلمي الأزهر وجوب إصدار تشريع أو تعديل بعض بنود قانون الأزهر، التي يستلزم لها موافقة مجلس الشعب.. على هذه التعديلات، وهي ليست تعديلات جوهرية في أن يطبق الكادر، أو لا يطبق ولكنها، تتعلق بالنواحي الإدارية التنظيمية في كيفية تطبيق هذا الكادر.
طبقًا للبيان الرسمي الصادر من المجلس الأعلى للأزهر، والذي قرَّر فيه أن أحكام القانون 155 لسنة 2007م بتعديل بعض أحكام قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981م على جميع المعلمين بالمعاهد الأزهرية بمراحلها المختلفة الذين يقومون بالتدريس، أو بالتوجيه الفني، أو بالإدارة المدرسية بالمعاهد الأزهرية، وعلى الاختصاصيين الاجتماعيين والنفسيين واختصاصيي التكنولوجيا والصحافة والإعلام وأمناء المكتبات، بما يتواءم ونظم التعليم بالمعاهد الأزهرية المنصوص عليها بقانون إعادة تنظيم الأزهر والهيئات، التي يشملها رقم 103 لسنة 1961م، ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975م، مع السير في الإجراءات التشريعية العاجلة لإصدار مشروع قانون خاص في هذا الشأن بتعديل بعض أحكام قانون إعادة تنظيم الأزهر؛ وذلك توحيدًا للمعاملة بينهم وبين المعلمين التابعين لوزارة التربية والتعليم.
يوضح هذا البيان مشكلتين قد تقابلان تطبيق الكادر على الأزهر.. فرغم أن المجلس الأعلى للأزهر قد قرر تطبيق أحكام قانون الكادر الخاص على الأزهريين، إلا أن جملة "بما يتواءم ونظم التعليم بالمعاهد الأزهرية.." قد تعطل تطبيق الكادر، وإلا فلماذا لم يتم تطبق الكادر وتمر الأمور بسلام ولا يحتاج الأمر إلي إضراب.
يقول المستشار القانوني لمشيخة الأزهر جمال أبو الحسن إن السير في إجراءات التشريع الجديد، التي ستضاف إلى قانون تنظيم الأزهر، لن تؤثر على تطبيق الكادر، فهي مجرد تعديلات تُضاف وليست قانونًا قائمًا بذاته، وهذه التعديلات ستضاف، لكي يتم تطبيق الكادر بشكل سهل لا تقف أمامه أية عوائق إدارية.. فهي مجرد مسألة تنظيمية، ولكن سيتم تطبيق الكادر مع مرتب أول يوليو.
فمثلاً في قانون الأزهر هناك نصوص تشير إلى تولي شيخ الأزهر مهام ومسئوليات.. ورؤساء المناطق الأزهرية لهم توصيف.. في حين أن قانون الكادر الخاص لمعلمي التربية والتعليم يشير إلى تولي المحافظين والإدارة المحلية شئون تطبيق هذا الكادر، بينما الأزهر لا يتبع الإدارة المحلية، أو المحافظين.. كما أن ترتيب المعلمين ودرجاتهم ليس في قانون الأزهر على عكس قانون الكادر الخاص، لذلك اجتمعنا اليوم،
لتعديل هذه الأشياء وإضافتها إلى قانون الأزهر.
من جانبه، قال الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر: إنه يرفض تمامًا عدم تطبيق الكادر الخاص للمعلمين بالتربية والتعليم على معلمي الأزهر، مؤكدًا أن الجميع متساوون على قدم وساق، ومدرسو الأزهر ليسوا أقل من مدرسي التربية والتعليم، ولذلك سارعنا بتعديل قانون الأزهر وسوف أتقدم بهذه التعديلات، التي أقرت اليوم الأربعاء (27/6) إلى رئيس الوزراء لإقرارها وموافقة مجلس الشعب عليها، وأكد شيخ الأزهر أن موافقة المجلس الأعلى للأزهر على تطبيق الكادر الخاص كافية، لكي يصرف المدرسون مزايا هذا الكادر في رواتب يوليو المقبل..
ويؤكد د. عبد الدايم نصير نائب رئيس جامعة الأزهر وعضو المجلس الأعلى للأزهر؛ أن الكادر سوف يطبق مع حلول راتب يوليو المقبل، وهذا أمر لا شك فيه، أما مسألة المواءمة.. فقد أقررنا بها تعديلات جديدة، لتتواءم مع الكادر الخاص بمعلمي التربية والتعليم.
وكان اجتماع قد عقدته اللجنة المشتركة من لجنة التعليم ومكتب لجنة الشئون الدستورية والتشريعية والخطة والموازنة بمجلس الشعب في جلسة 16 يونيو الجاري برئاسة د. أحمد فتحي سرور، وقررت ضرورة تعديل القانون رقم 103 ليتم تطبيق الكادر.
وقال الشيخ عمر الديب وكيل الأزهر: إن شيخ الأزهر قام بإجراء اتصالات مكثفة بكبار المسئولين في الدولة، لتطبيق كادر المعلمين على الأزهر، أسوة بزملائهم في التربية والتعليم، وقد قدمنا إحصائيات بأعداد معلمي الأزهر، فلا يصح أن يطبق القانون على بعض المعلمين في الدولة ويُستثنى من ذلك الأزهريون، فهذا مخالف للعدل ولا يقبله أي عقل.
فهذا مثال من جملة أمثلة تبين مدى جدوى الإضرابات التي يطالب أصحابها بحقوقهم، وبهذا يكون الرد على منكريها.. والله أعلم.
--------------
الهوامش:
(1) مختار الصحاح (ﺟ/1 ﺻ/171/2) لسان العرب (ﺟ/4 ﺻ/525).
(2) الرياض النظرة (ﺟ/2 ﺻ/59).
(3) د. محمد الأحمري- مشروعية المظاهرات إحياء للسنة وتحقيق لمقاصد الشريعة.
(4) الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق السياسة الشرعية (ص31- 32).
(5) كديد الكديد، التراب الناعم، فإذا وطئ صار غباره، أراد أنهم كانوا جماعة، وأن الغبار كان يثور من مشيهم (النهاية) (ﺟ/4 ﺻ/155).
(6) حلية الأولياء (ﺟ/1 ﺻ/40)، وكنز العمال (ﺟ/12 ﺻ/247)، ومرقاة المفاتيح (ﺟ/11 ﺻ/192)، وفيه أبان بن صالح ليس بالقوي وعنه إسحاق بن عبد الله الدمشقي متروك.
(7) شرح القواعد الفقهية (ﺟ/1 ﺻ/201).
( المرجع السابق (ﺟ/1 ﺻ/205).
(9) سبق تخريجه.
(10) رد الشيخ عبد العزيز بن باز على فتوى الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في المظاهرات.
(11) الإلحاد الخميني في أرض الحرمين.
(12) جواب الشيخ المنجد تحت السؤال رقم (11469).
(13) القرضاوي سيرة ومسيرة.
(14) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/ 312- 313).
(15) حديث صحيح أخرجه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ﺟ/2 برقم/2558).
(16) حديث حسن صحيح، رواه أبو داود واللفظ له (ﺟ/4 ﺻ/339) برقم (5153)، وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
للإنسان أن يُعبِّر عن عدم رضاه عن أمرٍ غُبن فيه، فقد تتخذ الدولة قراراتٍ فيها ظلم للشعب، أو لفئةٍ من فئات الشعب، كالعمال- مثلاً- أو الأطباء، أو المدرسين، أو المهندسين، أو قد ترفع الدولة الأسعار مع ثبات الأجور، فيشعر الشعب بالظلم، أو قد يتخذ الحاكم قرارات حرب أو سلمٍ مع دولةٍ ما، ويكون من شأنها الإضرار بالصالح العام، وفي كل هذه الحالات وغيرها يريد المتضررون أن يعبروا عن عدم رضاهم ورفضهم لما قد تقرر؛ فإن هم سكتوا وأنكر كل منهم في نفسه، فكيف يعرف أولو الأمر أنهم غير راضين، والقاعدة تقول: لا يسمع من ساكت قول، وإن تكلموا فرادى، فإنهم لا وزن للفرد ولا قيمة لصوته، فكيف يتم ذلك؟ كيف يضغطون على أصحاب القرار بتعديل قراراتهم؟
أعتقد أنه لا توجد وسيلة بها يضغط عليهم، إلا من خلال عمل جماعي يظهر في شكل مظاهرة سلمية، يعبِّرون فيها عن رأيهم فيما تظاهروا من أجله، أو يكون من خلال اعتصام في مكان ما، أو إضراب عن عمل ما؛ تعبيرًا عن غضبهم وعدم رضاهم، حتى يتحقق لهم ما يريدون، أو ينتهي الأمر الذي دعاهم إلى ذلك.
والسؤال الآن: هل هذا العمل جائز شرعًا؟ وهل يعتبر حقًّا شرعيًّا أم إنه أمر مبتدع يتعارض مع شرع الله تعالى؟ وحتى يتسنى لنا معرفة تفاصيل هذه المسألة، فسوف يتم عرض الآتي: مفهوم المظاهرة، أو حقيقة المظاهرات، أو التظاهرات، والآراء الواردة فيها، والمظاهرات التي كان يقودها علماء، والفتاوى الواردة فيها، والترجيح، ثم يكون الحديث عن الاعتصامات، أو الإضرابات والله الميسر.
أولاً: المظاهرات، حقيقتها، آراء العلماء فيها، ما ورد فيها من فتاوى، والترجيح.
أ- حقيقة المظاهرات، أو التظاهرات:
أ) تعريف المظاهرة في اللغة:
المُظَاهَرةُ: المعاونة، والتَّظاهُرُ: التعاون، واسْتَظْهَرَ به، استعان به، والظِّهارة بالكسر ضد البطانة، ولها عدة معانٍ منها:
1-المُظَاهَرة: المعاونة، وفي حديث علي رضي الله عنه: "أَنه بارَز يَوْمَ بَدْرٍ وظاهَرَ"، أَي نَصَر وأَعان.
2- والظَّهِيرُ: العَوْنُ، الواحد والجمع في ذلك سواء، وإِنما لم يجمع ظَهِير؛ لأَن فَعِيلاً وفَعُولاً قد يستوي فيهما المذكر والمؤُنث والجمع، كما قال الله عز وجل: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)﴾ (الشعراء)، وفي التنزيل العزيز: ﴿وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)﴾ (الفرقان)؛ يعني بالكافر الجِنْسَ، ولذلك أَفرد، وفيه أَيضًا: ﴿وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾ (التحريم).
3- والظَّهِيرُ: المُعِين، وقال الفراء في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)﴾ (التحريم)، قال: يريد أَعوانًا فقال: ظَهِير، ولم يقل: ظُهَراء.
4- وظَاهَرَ عليه: أَعان، واسْتَظْهَرَه عليه، استعانه، واسْتَظْهَر عليه بالأَمر، استعان، وفي حديث علي رضي الله عنه: (يُسْتَظْهَرُ بحُجَج الله وبنعمته على كتابه) وفلان ظِهْرَتي على فلان، وأَنا ظِهْرَتُكَ على هذا أَي عَوْنُكَ.
5- وظَهَرتُ به: افتخرت به، وظَهْرْتُ عليه، قَوِيتُ عليه، يقال: ظَهَرَ فلانٌ على فلان أَي قَوِيَ عليه، وفلان ظاهِرٌ على فلان أَي غالب عليه، وظَهَرْتُ على الرجل: غلبته، وفي الحديث: فَظَهَر الذين كان بينهم وبين رسول، عَهْدٌ فَقَنَتَ شهرًا بعد الركوع يدعو عليهم، أَي غَلَبُوهم(1).
ظاهره من المظاهرة المعاونة(2)، المظاهرة من الظهر؛ لأن الظهر موضع قوة الشيء في ذاته واليد موضع قوة تناوله لغيره
ب) تعريف المظاهرات في الاصطلاح:
قال الخطابي: "معنى المظاهرة المعاونة، إذا استنفروا وجب عليهم النفير، وإذا استنجدوا أُنجدوا، ولم يتخلفوا ولم يتخاذلوا، وأما ما تعارف عليه الناس في هذا العصر من مفهوم المظاهرة والاحتجاجات والمسيرات والاعتصامات من تعريف هي:
إعلاء مشاعر الإسلام في زمن الضعف خير من زمجرة الملايين تستنكر الظلم والفساد، وتحارب الجريمة والرذيلة(3).
ونستخلص من التعريف عدة أشياء وهي:
1- إعلاء مشاعر المسلمين وإظهار قوتهم.
2- إنكار الظلم وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر.
3- أنها وسيلة مشروعة، ووسيلة إعلامية.
4- وبعضهم يرى المظاهرات في معرض الوسائل، التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإظهار الإسلام، والدعوة إليه(4)، فهذه الأمور اقتبست من كلام مَن رأي جواز المظاهرات وسنية مشروعيتها.
أنواع المظاهرات
مظاهرة تخرج، أو ينتزعها مسلم في ديار الإسلام: وهي تلك المظاهرة، التي تكون في ديار الإسلام، ويقوم بها المسلم داخل حدود الدولة، قد تكون منظمة؛ حيث إنها تكون بتراخيص، ومصرَّح لها، ويُحدد الزمان والمكان لهذه المظاهرة، وتنطلق هذه المظاهرة من المكان المُحدد لها إلى المكان المخصص لإلقاء خطاباتها وقرآة كلماتها المعدة مسبقًا، والشكل هذا شكل منظم، ونادرًا ما يخرج عن الحدود المرسومة له، والبعض الآخر قد تكون عفوية، أي من غير تنظيم ومن غير إعداد، مجرد انفعال جماهيري في خروجهم وتظاهرهم، وهذا كثيرًا ما يصحب أعمال شغب وتخريب، وقد تكون هناك مظاهرات للانقلاب والخروج على الحكم؛ حيث تُحاك المؤامرات ليلاً، وتخرج في الصباح؛ لتقلب نظام الحكم.
1) مظاهرة ضد كافر محتل في أرض الإسلام: وهذا ما نشاهده في أرض فلسطين؛ حيث إن كثيرًا من المظاهرات التي خرجت كان لها سبب رئيسي في قيام الانتفاضات الشعبية، وحتى ولو صاحب هذا أعمال عنف ضد المحتل.
2) مظاهرة احتجاج ينتزعها مسلم في ديار الكفر: وهذه المظاهرات تعتبر من العمل السياسي الديمقراطي للشعوب، وتعتبر من مقومات دولة القانون والمؤسسات المدنية عندهم والديمقراطية، فهو منتشر ومسموح بشكل واسع في هذه الدول الغربية بقوانين تحدده، وتقوم بتنظيم شكله وهيئته.
3) مظاهرة ينتزعها كافر، أو ذمي (نصراني، أو يهودي) في ديار الإسلام.
4) مظاهرة ينتزعها مسلم تتجه نحو مصالح دولة كافرة على أرض الإسلام لها تصريح رسمي.
5) مظاهرة مصرح بها، ولكن خرجت عن خط سيرها، وأصابتها الفوضى والغوغاء.
6) مظاهرة تقوم بها جماعة مصرح بها (جمعية صيادين وسائقين مثلاً).
7) مظاهرة تقوم بها جماعة محظورة قانونًا (كحزب محظور، أو موقف مثلاً).
مظاهرة تطالب بحقوق مشروعة قانونًا، ومظاهرة هدفها التغيير السياسي.
فهذه غالبًا هي أنواع المظاهرات، التي يقوم بها أصحابها؛ للتعبير عما هو بداخلهم، ولا بد من الإعلان عنه، حتى يتحقق لهم ما يريدون، وهي وسيلة من وسائل الضغط على السلطات، أو من بيدهم الأمر.
ب- آراء العلماء في المظاهرات:
لم يخص علماؤنا وفقهاؤنا القدامى هذه المسألة بحديث، ولذا فإنها تعتبر من المسائل الحديثة، وتخضع لاجتهاد العلماء في عصرنا، وما دامت المسألة اجتهادية، فلا بد فيها من اختلاف وجهات النظر، ما بين مؤيد ومعارض، وسوف يتم عرض رأي كل منهما، مشفوعًا بالأدلة.
* مذهب المجوزين للمظاهرات وأدلتهم:
يرى هؤلاء المجوزون للمظاهرات، أنها جائزة، وسنة مشروعة، سنها الرسول صلى الله عليه وسلم واستدلوا لذلك بالأدلة الآتية:
الدليل الأول من السنة:
عن ابن عباس قال: سألت عمر، لأي شيء سُميت (الفاروق) قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، ثم شرح الله صدري للإسلام، فقلت: الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، فما في الأرض نسمة أحب إلي من نسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت أختي: هو في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند الصفا، فأتيت الدار، وحمزة في أصحابه جلوس في الدار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، فضربت الباب فاستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر بن الخطاب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بمجامع ثيابي، ثم نترني نترة، فما تمالكت أن وقعت على ركبتي، فقال: "ما أنت بمنتهٍ يا عمر!" فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد، فقلت: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق، إن متُّم، وإن حييتم" قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن، فأخرجناه في صفين: حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد(5) ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، فنظرت إلى قريش، وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ (الفاروق) وفرَّق الله بي بين الحق والباطل(6).
وجه الاستدلال:
إن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بالصحابة في مظاهرة، لإظهار قوة المسلمين، وكثرة عددهم بعد إلحاح الصحابة على ذلك، وهذا تعبير عن رأيهم، أو عن معتقدهم، فقد رأوا أنها أنسب وسيلة للتعبير عن الرأي إذ ذاك، ولقد حققت هذه المظاهرة هدفها، وهو إعلان هويتهم، وتعريف قريش بهم وبقوتهم، ولفت الأنظار إليهم، ومن خلال إظهار القوة، فإن الضغط على المسلمين سوف يقل نوعًا ما.
الدليل الثاني من المعقول:
الأصل في الأشياء الإباحة، وقد يخرجها عن هذا الحكم، وجوبًا أو حرمة أو كراهة ما يطرأ عليها، فقد تكون واجبة، عندما لا تكون هناك وسيلة سواها لتغيير المنكر، أو للحصول على حق أو لدفع ظلم.
وقد تكون المظاهرة حرامًا، إذا صاحبها عنف وإراقة دماء وتخريب للممتلكات الخاصة، أو العامة، أو عندما يكون فيها بغي وعدوان، أي أن المتظاهرين لم يكونوا أصحاب حق، ومن هنا فإن المظاهرات من الوسائل المباحة، ولا حرج ولا إثم على القائمين بها إذا التزموا بالضوابط القانونية والشرعية؛ بحيث لا يصاحبها منكر ولا بغي وعدوان، فهذا حق من الحقوق التي منحها الشرع للإنسان، وعلى السلطات أن ترخِّص لهم في ذلك، وأن تقوم بحمايتهم، حتى ينتهي الوقت المسموح به للتعبير عن رأيهم.
الدليل الثالث:
إن المظاهرات وسيلة لها أحكام المقاصد، فإذا أدت إلى تحقيق مصلحة وإزالة مفسدة، كانت مطلوبة، وإذا أدَّت إلى تحقيق مفسدة، أو إزالة مصلحة، كانت حرامًا، وذلك إعمالاً للقاعدة الفقهية التي تقول: "إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما"(7)، والقاعدة الأخرى: "درء المفاسد أولى من جلب المصالح"(، فالوسائل لها أحكام المقاصد، فما الذي يقصده المسلمون بهذه الوسيلة، إلا إظهار الحق، ورفض الظلم، وشحذ همم الناس وألسنتهم وأقلامهم وأيديهم بما يملكون فعله، كما أن في هذا توحيدًا في الموقف وتقوية لرأي الأمة.
وقد وردت فتاوى في ذلك، تؤيد الرأي القائل بالجواز، ومن تلك الفتاوى ما يلي:
فتوى الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق:
السؤال:
ذكرتم في كتابكم فصول من السياسة الشرعية ص31- 32: أن من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة التظاهرات (المظاهرة)، ولا أعلم نصًّا في هذا المعنى، فأرجو الإفادة عمن ذكر ذلك، وبأي كتاب وجدتم ذلك؟ فإن لم يكن في ذلك مستند، فالواجب الرجوع عن ذلك؛ لأني لا أعلم في شيء من النصوص ما يدل على ذلك، ولما قد علم من المفاسد الكثيرة في استعمال المظاهرات، فإن صح فيها نص فلا بد من إيضاح ما جاء به النص إيضاحًا كاملاً، حتى لا يتعلَّق به المفسدون بمظاهراتهم الباطلة.
والله المسئول أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعًا، وأن يجعلنا جميعًا من الهداة المهتدين، أنه جواد كريم؟
الجواب:
وأما في قولي في كتاب: (فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله) (ص31- 33):
فأقول: لقد ذكرت المظاهرات في معرض الوسائل التي اتخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لإظهار الإسلام والدعوة إليه، لما روي أن المسلمين خرجوا بعد إسلام عمر رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفين (إظهارًا للقوة) على أحدهما حمزة رضي الله عنه، وعلى الآخر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولهم كديد ككديد الطحين، حتى دخلوا المسجد، ولم أر لذلك من هدف إلا إظهار القوة، وقد روى هذا الحديث: أبو نعيم في الحلية بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما وفيه:
"فقلت: يا رسول الله، ألسنا على الحق، إن متنا، وإن حيينا؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، أنكم على الحق، إن متم، وإن حييتم"، قال: فقلت: ففيمَ الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق، لتخرجن، فأخرجناه في صفين: حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال فنظرت إلى قريش، وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ الفاروق، وفرَّق الله به بين الحق والباطل"(9).
وأرى أن التشريع الإسلامي قد جاء بكثير من الشعائر؛ لإظهار عزة الإسلام والدعوة إليه، كصلاة الجماعة والجمعة والعيدين، ورأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر النساء الحيَّض وذوات الخدور أن يخرجن إلى المصلى يوم العيد، معللاً ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليشهدن الخير، ودعوة المسلمين"، ومن الخير الذي يشهدنَّه هو كثرة أهل الإسلام، وإظهارهم لشعائره.
فتوى الشيخ سلمان بن فهد العودة:
السؤال:
أرجو من فضيلتكم بيان حكم المظاهرات التي تهدف إلى مناصرة إخواننا المستضعفين، سواء في فلسطين أو غيرها؟
الجواب:
لا نرى بأسًا أن يجتمع المسلمون للإعراب عن احتجاجهم على معاناة إخوانهم في فلسطين؛ بحيث تكون مظاهرة سلمية، وبعيدة عن مضايقة السكان، أو إزعاجهم، أو تعويقهم عن أعمالهم، ولا يكون فيها ارتكاب لما حرَّم الله من منكر بقدر ما تستطيعون، وهذا من نصرة إخوانكم، وله أثره البالغ على اليهود، وعلى من يناصرهم في كل مكان.
ومن ثمراته أن يصل الرأي الإسلامي إلى الشعوب الغربية، التي طالما هيمن اليهود على عقولها، وأوصلوا لها رسالة مضللة عن القضية، والأصل في مثل هذه الأمور الجواز، ولا تحتاج إلى دليل خاص، وقد ورد في السيرة أن المسلمين خرجوا في صفين، لما أسلم حمزة وعمر، ولكنه ضعيف، إنما يغني عنه أنه لا دليل على منع مثل هذا، أو تحريمه، وإنما يمنع إذا ترتب عليه ضرر، أو فساد.
رأي الدكتور يسري هانئ الأستاذ بجامعة الأزهر في المظاهرات:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.. وبعد،،
ففي محاضرة من محاضرات الدكتور يسري هانئ الداعية المعروف بالمنصورة، سأل أخ الدكتور يسري ما حكم المظاهرات؟ فأجاب الدكتور قائلاً:
أخي الكريم.. المظاهرات وسيلة للمساءلة بمطالب الشعب، ورفع الظلم عن المظلومين والمقهورين، وما دام هذا هو الهدف- وهو هدف شريف-، وما دامت هذه المظاهرة تتم بمظهر حضاري، يبتعد عن العنف والتخريب؛ فهي عمل شريف يجوز شرعًا.. أما إذا كانت المظاهرة لغرض آخر غير شرعي، ويخالف الشرع فهو لا يجوز... وذلك طبقًا للقاعدة الشرعية التي تقول ما دام الهدف شريفًا والوسيلة لا تتعارض مع الشرع.. فهذه الوسيلة حلال وتجوز.. أما إذا كان الغرض غير شريف ومحرم شرعًا، فإن الوسيلة لا تجوز... فمثلاً شخص يركب سيارة، لكي يذهب للمسجد لحضور درس، أو حلقة ذكر، فإن الوسيلة وهي السيارة حلال وتجوز ومأجور أنت عليها إن شاء الله...
أما إذا استخدمت السيارة، للذهاب لشراء خمر، أو منكر، فهذه الوسيلة لا تجوز... وقال الدكتور يسري: وفي السيرة النبوية شاهدان: (وإن كانت السيرة روايتها أقل في القوة من روايات كتب الحديث)
أولاً: ذهاب سيدنا أبو بكر إلى المسجد الحرام ومعه 38 من الصحابة الكرام، وصلى بهم هناك وسط نادي الكفر، ولقوا من الأذي ما لقوا، وكان أكثرهم تضررًا سيدنا أبو بكر...
ثانيًا: وهي إسلام سيدنا عمر بن الخطاب وخروجه مع سيدنا حمزه في صفين، وبينهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصلاتهم بالكعبة، وإن كان بلغنا، أن بعض علمائنا الأفاضل، طعنوا في صحة الحديث، ولكن هذا الطعن، ليس بطعن في العمل، ولكن في الإسناد، أي ليس هناك ما يعارض العمل، وهو المظاهرة والمسيرة.. والله أعلم.
فتوى الشيخ أبو محمد المقدسي:
السؤال:
يعم أرجاء العالم الإسلامي بشكل عام مسيرات تضامنية مع إخواننا في فلسطين، ولقد رأينا أن بعضًا من إخواننا يستحثون الناس على المشاركة بهذه المسيرات، ويعتبرونها من الأعمال التي يحبها الله ورسوله، ورأينا أيضًا إخوانًا لنا يقولون: إنه لا فائدة مرجوة من مثل هذه المسيرات.
وسؤالي لكم يا شيخ: ما نصيحتكم لنا في هذا الأمر؟
الجواب:
بالنسبة للمسيرات والمظاهرات، خصوصًا المرتبة قانونيًّا، كمسيرات الإخوان وغيرهم من الوطنيين، فنحن لا نزج بإخواننا فيها ولا ننصح بالمشاركة بها، لكن في الوقت نفسه لا نقف في الصف السلبي المثبط عنها، إذ ليس هذا من السياسة الشرعية في شيء، فماذا يضير المسلمون، أن يعارض، أو يثور، أو يقاتل، أو يُقتل في سبيل مقدساتهم، أو أرضهم من لا خلاق لهم ممن يحسبون على عوام المسلمين، أو هم فعلاً من عوام المسلمين، خصوصًا أن كثيرًا من المشاركين في ذلك، يقودهم الحماس للجهاد والعاطفة والغيرة الإسلامية، فأي مصلحة في الوقوف في وجه هذه المسيرات، أو المظاهرات خصوصًا، إذا كانت محسوبة على أنها غضبة لمقدسات المسلمين، كما هو حال المظاهرات في هذه الأيام، بل على العكس، فإن فيها من المصالح البينة الواضحة؛ من ذلك: أن يعلم أعداء الله من اليهود وغيرهم أن ثمن تلويث مقدسات المسلمين باهظ، ولن يمر بهدوء، وأن الأمة لن ترضى بسلام الاستسلام، الذي رضيه حكامها، ولعل مثل هذه المدافعة تورث صحوة ورجعة إلى الدين، ولو بعد حين، فقد قال تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ (الحج).
* مذهب المانعين للمظاهرات المحرمين لها وأدلتهم:
يرى هؤلاء المانعون للمظاهرات، أنها غير جائزة، وبدعة مستحدثة.
واستدلوا لذلك بالأدلة الآتية:
1) إنها ليست وسيلة شرعية من وسائل الدعوة، بل تشمل كثيرًا من المحرمات في أثناء المظاهرات.
2) المظاهرات، بدعة مستحدثة أول من فعلها، هم الغرب، حيث إنه لم يوجد في التراث أي فعل دل على أن المسلمين فعلوها، لا الصحابة، ولا التابعون، ولا أحد من الفقهاء القدامى، ولا المحدثين، فهي بدعة مستحدثة.
3) إنها باب للخروج على الحكام وتكفيرهم، فتح باب الفتنة في الخوض في أعراض العلماء والحكام.
4) إن كل الأحاديث التي استدل بها المجوزون للمظاهرات، كانت قبل الهجرة، وقبل كمال الشريعة، ولا يخفى أن العمدة في الأمر والنهي وسائر أمور الدين على ما استقرت به الشريعة بعد الهجرة، أما ما يتعلق بالجمعة والأعياد ونحو ذلك من الاجتماعات، التي قد يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ كصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، فكل ذلك من باب إظهار شعائر الإسلام، وليس له تعلق بالمظاهرات(10).
5) إنها تكون سببًا في قيام الشغب والفوضى، ومنح فرص للمخربين والمفسدين بقيام اعتداءات واشتباكات مع الشرطة والدولة.
6) إنها لن تغير أي قرار سياسي في البلاد العربية، أما بلاد الغرب، فإنها تغير، وكثيرًا ما غيرت أنظمة بفعل المظاهرات.
7) فيها تذكية للعنصرية، وإحياء للجاهلية، ودعوة للفساد. يقول الشيخ مقبل: وقد كنت بحمد الله، أحذر من تلكم التظاهرات في خطب العيد، وفي خطب الجمعة(11).
ويقول الشيخ محمد المنجد: وأما التظاهرات، فإن فيها عددًا من المحذورات الشرعية، يجب الحذر منها(3).
وكثير من العلماء ممن تكلم في محظورات التظاهر ومفاسدها سنذكرها إن شاء الله في مبحث فتاوى العلماء في المظاهرات(12).
فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
السؤال:
هل تعتبر المظاهرات الرجالية والنسائية ضد الحكام والولاة، وسيلة من وسائل الدعوة؟ وهل من يموت فيها، يعتبر شهيدًا في سبيل الله؟
الجواب:
المظاهرات الرجالية والنسائية، من أسباب الفتن وظلم الناس، والتعدي على بعض الناس، ولكن الأسباب الشرعية، النصيحة والدعوة إلى الخير، التي شرعها أهل العلم وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمكاتبة والمشافعة مع الأمير والسلطان، ومكاتبته ومناصحته، دون التشهير به.
فتوى الشيخ عبد الله صالح الفوزان:
السؤال:
أحسن الله إليكم، هناك من يرى ويدعو إلى الاعتصامات والمظاهرات ضد الحكام والعلماء؛ فما رأيكم في هذه الوسيلة؟
الجواب:
الضرر لا يزال بالضرر، إذا حدث حادث فيه ضرر، أو منكر، فليس الحل في أن تكون مظاهرات، أو اعتصامات، أو تخريب، وهذا ليس حل هذا، زيادة شر، ولكن الحل مراجعة المسئولين ومناصحتهم، وبيان الواجب عليهم، لعلهم يزيلون هذا الضرر.
فتوى الشيخ أبو إسحاق الحويني:
السؤال:
ما حكم المظاهرات؟
الجواب:
هي غير مشروعة، وعلى هذا سائر علمائنا، وقد علمنا بالتجربة، أن هذه المظاهرات لا قيمة لها، ولا أرجعت حقًّا مغصوبًا، وإحراق العلم الصهيوني والأمريكي وصور الرؤساء، لم يغير أي قرار سياسي، بل إن اعتقالات وإصابات وحوادث، هي نتاج تلك المظاهرات فقط.
ﺟ - مناقشة أدلة المانعين:
الوجه الأول:
إن ما ذكرتموه من أن التظاهرات ليست وسيلة من الوسائل وإنما هي بدعة مستحدثة، فليس ما استحدث في الدين بإطلاق يكون بدعة، فهي وسيلة والوسائل ليست محصورة، بل متجددة مع العصر.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: ليست البدعة كل ما استحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاق، فقد استحدث المسلمون أشياء كثيرة، لم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم تُعَدّ بدعة، مثل استحداث عثمان أذانًا آخر يوم الجمعة بالزوراء (مكان خارج المدينة) لما كثر الناس، واتسعت المدينة. ومثل استحداثهم العلوم المختلفة وتدريسها في المساجد، مثل: علم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم النحو والصرف، وعلوم اللغة والبلاغة، وكلها علوم، لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اقتضاها التطور، وفرضتها الحاجة، ولم تخرج عن مقاصد الشريعة، بل هي لخدمتها وتدور حول محورها، فما كان من الأعمال في إطار مقاصد الشريعة، لا يعد في البدعة المذمومة، وإن كانت صورته الجزئية لم تعهد في عهد النبوة، إذ لم تكن الحاجة إليه قائمة(13).
ويقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: والمظاهرات مصلحة عامة، ولا قياس للعام على الخاص.
الوجه الثاني:
إن قولكم: (إنها لن تغير أي قرار سياسي) كلام غير مستقيم؛ حيث إن الواقع يشهد بغير ذلك في كثير من البلدان وفي بلادنا الإسلامية، فالمظاهرات، التي خرجت إبان الحملة الفرنسية على مصر، وبعدها المناوشات بين الإخوان وجمال عبد الناصر، وقيادات الثورة، وجمال عبد الناصر، تدل على أن المظاهرات قد أثرت تأثيرًا مباشرًا، أو غير مباشر على قرارات، وعلى حكومات.
الوجه الثالث:
إن ما ذكرتموه من المفاسد التي تحدث في المظاهرات، فليس كل من يرى بجواز المظاهرات، يرى أنها جائزة، ولم يقل أحد: إن المظاهرات لا تقع، إلا بوجود مثل هذه الأشياء، من تخريب وإيذاء للناس؛ فليس صحيحًا، أن نربط بين المظاهرات وبين الأعمال، التي تحدث، كأسباب عارضة، وليس من أصل التظاهرات؛ فالأصل أن تكون سلمية وبعيدة عن مضايقة السكان، فالمنع يكون، إذا ترتب عليها أضرار وإلا فلا، وهذا يحدث، ولكن نادرًا، وبالمقابل المظاهرات السلمية، فلا منع لها.
الوجه الرابع:
لم يقل أحد ممن دعا إلى المظاهرات؛ إنه يدعو إلى الفساد، فليس من المظاهرات أن يخرج الغوغاء إلى الشارع بلا قيادة وبلا توجيه، فيفسدون ويخربون، وهذا من الفساد في الأرض، فهناك فرق بين الإفساد في الأرض والجهاد في سبيل الله(14).
د- مظاهرات قام بها علماء وحققت أهدافها:
هذه هي المظاهرات التي قامت وكان قياداتها إسلاميين.
وهذه المظاهرات، كان أغلب قادتها من المشايخ ومن طلاب العلم ومن رواد الحركة الإسلامية، ولن أذكر كل مظاهرة قامت في البلاد الإٍسلامية، إنما حصرتها في عمل هؤلاء العلماء المعتبرين وطلاب العلم.
مصر:
وقعت أحداث فبراير عام 1954م، التي بدأت داخل الجيش وسلاح الفرسان، بقيادة خالد محيي الدين، بعد إعلان قبول استقالة محمد نجيب، خرجت المظاهرات تطالب نجيبًا بالبقاء، وكان من المعروف، أنها من تدبير الإخوان المسلمين، وشهدت القاهرة أعنف المظاهرات، واضطر عبد الناصر إلى إعادة نجيب.
وفي يوم 28 فبراير خرجت المظاهرات من جامعة القاهرة والأزهر، ومن أبناء الشعب، فأُصيب عدد من المواطنين، منهم الطالب ثروت يونس العطافي الطالب بكلية الهندسة، واستشهد أحد طلاب الإخوان، وهو الطالب توفيق عجينة، وحمل المتظاهرون قمصان المصابين ملوثة بدمائهم وتوجهوا إلى قصر عابدين، وخرج علماء الأزهر في المظاهرات ضد الإنجليز في عام 1919م.
الكويت:
قام الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق وجميع علماء السلفية في الكويت بمظاهرات، وقد خرجوا جميعًا في مقدمة صفوف المظاهرات، التي احتجت على المفسدين في الجامعة، وغيروا القرار بمظاهرتهم، ثم تظاهروا عدة مرات، ويتكرر هذا منهم، ولا يجرؤ أحد على نقض ذلك.
السعودية:
خرج الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله- والد رئيس مجلس الشورى- بأهل القصيم في مظاهرة بشأن مشكلة في مدارس البنات، وخرج الشيخ سلمان العودة منذ سبع سنوات مع العلماء والعامة؛ احتجاجًا على منعه من الكلام، وخرج معه جمع كبير من العلماء والدعاة، ولم تنتقد المظاهرة لذاتها، بل الذين انتقدوها، إنما كان نقدهم على التوقيت، أو احتمال الفوضى، ثم خرج أخيرًا الشيخ المبارك بأهل المنطقة الشرقية.
قطر:
وقاد الشيخ القرضاوي عددًا من المظاهرات، وهو يقود المظاهرات في الدوحة في كل حدث ملم.
السودان:
يخرج علماؤهم للمظاهرات، منها مظاهرات في أعقاب ضرب بلادهم قبل بضع سنوات.
الشام:
وقد خرج علماء الشام في مظاهرات يقودهم الشيخ القصاب، ضد موقف الملك فيصل الشريف عندما تراخى عن الحرب للفرنسيين، وأيدهم رشيد رضا، وقد قامت مظاهرات كثيرة في زمنه.
الجزائر:
وتظاهر علماء الجزائر ودعاتهم مرات عديدة، يتقدمهم محمد السعيد، وعلي بلحاج، وعباس مدني، وبقية من العلماء المسنين، الذين كانوا أعضاء جمعية العلماء.
باكستان:
المظاهرات، التي تقوم بها الأحزاب الإسلامية المعارضة باستمرار، ومن قبل المودودي- رحمه الله-.
اليمن:
خروج كثير من العلماء أمثال الشيخ الزنداني وغيرهم.
الأردن:
فعل الحركات الإسلامية، وحركات الإخوان المستمرة في تنظيم المظاهرات، نصرة لإخواننا في فلسطين.
وكثير من الدول الإسلامية، وما نراه ونشاهده يوميًّا في إندونيسيا، عندما خرج المتظاهرون وأبعدوا سوهارتو، ونظامه الفاسد، والهند وماليزيا، وجنوب إفريقيا، وغيرها كثير.
ﻫ- بيان الراجح في هذه المسألة:
ومن خلال استعراض القولين السابقين وما جرى على دليل المانعين من مناقشة يترجح جواز المظاهرات، إذا لم يترتب عليه، أي ضرر، أو إخلال، أو فساد، وذلك لهذه الأسباب:
السبب الأول:
إن السنة الشريفة ناطقة بوجود التظاهر، فإنكار ذلك دعوى قد قام الدليل على خلافها.
السبب الثاني:
إن ما ذكره مانعو التظاهرات، ليس مستندًا على أية أدلة شرعية، إنما تحسبًا وخوفًا من ارتكاب أي محظورات وما ذكروه ما هو إلا كلام مرسل، لا يقوى على مناهضة تلك الأدلة الشرعية.
السبب الثالث:
الأصل في مثل هذه الأشياء الجواز، ولا تحتاج إلى دليل خاص، وهي وسيلة مباحة فالوسائل لها أحكام المقاصد، فما الذي يقصده المسلمون بهذه الوسيلة إلا إظهار الحق، ورفض الظلم، وشحذ همم الناس وألسنتهم وأقلامهم وأيديهم بما يملكون فعله، كما أن في هذه المظاهرات توحيدًا في الموقف ورأي الأمة.
السبب الرابع:
إنكم لا تعلمون أثر المناصرة والمظاهرة في نفوس إخوانكم، عندما يعلمون أن هناك من انتصر لهم واستنكر الجرائم المقترفة في حق المظلومين، كالفلسطينيين وغيرهم؛ فإذا لم تقم المظاهرات، فإن العالم؛ خاصة الشغوب الأخرى، لا تدري عما يحدث في الشرق الأوسط من مشكلات، ولا يعرفون شيئًا عن قضايانا.
السبب الخامس:
لقد أصبح التظاهر مقياسًا من مقاييس الرأي عند الأمم مسلمها وكافرها في هذا العصر، فنحن لا نعلم رأي أمة من حكامها ولا من إعلامها الذي قد يسيطر عليه حزب، أو قلة لا تخدم مصلحة الأمة، ولا تحرص عليها، ولا نعلم من قال، ممن لم يقل، ومن وافق ومن خالف، فهذا قياس مهم لموقف الأمة واستنكارها لباطل، أو مناصرتها لحق.
السبب السادس:
إشكال عند بعضهم في لفظ مظاهرة وتسمية البعض منهم بالمناصرة؛ فلنتفق على تسميتها مناصرة، ثم نقول: هذه المناصرة للمظلومين في كل أرض، وتحت كل سماء، فليست العبرة بالمسميات، وإنما العبرة بالمعاني وتحقيق الأسماء فالعبرة بالمعنى لا بالمبنى.
السبب السابع:
والتظاهر مع الحق وضد الباطل، سنة مشروعة جارية، سنَّها الله في إظهار الإنكار على الفساد في قوله: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (2)﴾ (النور)، وسنها في الابتهاج بالأعياد، ووداع الرسول صلى الله عليه وسلم للغزاة حين خروجهم والاحتفال بهم حال عودتهم، وفي إظهار القوة كما فعل مع أبي سفيان فألزمه رؤية قوة المسلمين، وقطع الطريق عليه، أن يفكر في إمكان مواجهة القوة الضاربة للإسلام، ومن قبل طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائفين أن يهرولوا في الطواف مضطبعين، إظهارًا لقوة وصحة أجسامهم؛ ما يراجع تفصيله في فقه الحج وفي السير.
وإن لم نظهر موقفنا وحميتنا وصوتنا وتعاطفنا مع إخواننا المقهورين وحمانا المنتهك، فماذا بقي؟ فإظهار الحق، بكل وسيلة وغمط الباطل بكل وسيلة، في عموم ما ذكر، مما تواترت على مشروعيته الأدلة تواترًا معنويًّا، وهي سنة في الإسلام قائمة.
والخلاصة:
وخلاصة ما نخرج به من هذه المسألة الآتي:
1- أن المظاهرات منها ما هو جائز، وهي كل مظاهره خلت من المحاذير الشرعية، ومظاهرات غير جائزة وهي كل مظاهرة أدت إلى مفاسد أخرجتها عن كونها مظاهرة مشروعة.
2- إن المظاهرات، هي نوع من التعاون والنصرة، وتقدر بقدرها وخلوّها من المفاسد والمنكرات.
3- إن المظاهرات، وسيلة وهي مصلحة يمكن تحقيق أهداف إسلامية نبيلة من خلالها.
4- إن المظاهرات، ليست عبادة محضة، وإنما هي وسيلة من الوسائل، ولها حكم المقاصد.
ثانيًا: الإضرابات، أو الاعتصامات.
ومن الوسائل التي يعبِّر بها المظلوم، أو المغبون عن رأيه، الإضراب، أو الاعتصام؛ فالإضراب قد يكون عن العمل، وقد يكون عن الطعام، والاعتصام إنما يكون بملازمة فئة من الفئات مكانًا ما لا يبرحونه، حتى يتحقق لهم ما يطلبون، وقد يصحب الاعتصام إضراب عن الطعام أو عن الكلام، إلى غير ذلك من الوسائل التي بها تصل صرختهم للمسئولين، وآهاتهم للمعنيين، لعلهم بهم يشعرون.
والفرق بين المظاهرات والإضرابات والاعتصامات؛ أن المظاهرة عبارة عن تجمع من الناس، يصحبه خروج إلى الشوارع، أو الميادين، وقد تصحبها هتافات، أو كلمات، أو خطب، وقد تكون صامتة، ويعبر عنها لافتات.
أما الإضرابات والاعتصامات، فغالبًا ما تكون صامتة، وقد تكون بداخل مكان، أو أمام مكان يضربون، أي يمتنعون فيه عن العمل، أو عن الطعام والشراب، أو عن الكلام، حتى يتحقق لهم ما يريدون، أو تصل شكواهم لمن يرغبون.
والخلاف الجاري في المظاهرات، هو نفسه الجاري في الإضرابات والاعتصامات، إلا أنه من خلال النظر في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بعض أصحابه بفعل هذه الطريقة للضغط على المشكو منه؛ ما يجعل الإضرابات عملاً مشروعًا.
فعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره. قال: "اطرح متاعك على طريق" فطرحه، فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لقيت من الناس. قال: "وما لقيت منهم؟"، قال: يلعنونني، قال: "قد لعنك الله قبل الناس"، فقال: إني لا أعود، فجاء الذي شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارفع متاعك فقد كفيت". (رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن)(15).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل يشكو جاره فقال له اذهب فاصبر, فأتاه مرتين أو ثلاثًا, فقال اذهب فاطرح متاعك في الطريق ففعل، فجعل الناس يمرون ويسألونه ويخبرهم خبر جاره فجعلوا يلعنونه فعل الله به وفعل، وبعضهم يدعو عليه فجاء إليه جاره فقال ارجع فإنك لن ترى مني شيئًا تكرهه(16).
وجه الاستدلال:
خروج الرجل بمتاعه إلى الطريق، يشير إلى أنه بذلك الفعل يقوم بلفت أنظار الناس إلى مشكلته مع جاره، وجعل الناس يتعاطفون معه؛ لذلك فقد قاموا بلعن الجار المؤذي؛ ما جعل هذا الظالم يتراجع عن ظلمه بأن أعلن استسلامه للحق.
وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم الرجلَ الشاكي، ما هو إلا نوع من الإضراب، فقد أخرج متاعه خارج البيت وأضرب، أي امتنع عن دخول البيت، حتى تحل مشكلته مع جاره، وبذلك فقد لفت انتباه المارة من الناس، كي يكونوا بجانبه ويتفاعلوا مع قضيته.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قادرًا على حل هذه المشكلة، بعيدًا عن هذا الأسلوب، باعتباره الحاكم والنبي والرسول، والكل يتمنى أن ينفذ ما يريده صلى الله عليه وسلم؛ لكنه أراد أن يعلمنا شيئًا، سوف تحتاج إليه الأمة، في وقت عز فيه النصير، وقل فيه المجير، وتبلدت فيه المشاعر، وكثر فيه الظلم والاستبداد، فلا بد من منبر تعلو فيه الصرخة، حتى تجد لها صدى.
وأما من يقول: إنه لا جدوى من الإضرابات والاعتصامات، وأنها لا تأتي بشيء، فإنه زعم باطل، وتثبيط للهمم، وضياع للحقوق، ووقوف بجوار الظالمين؛ حيث إن هناك حالات كثيرة، تمت فيها اعتصامات وتحققت بسببها المطالب، ورفع فيها الظلم عن المظلومين.
وسوف أذكر موقفًا من هذه المواقف؛ وهو إضراب معلمي الأزهر عن تصحيح أوراق الثانوية الأزهرية 2007م؛ بسبب عدم إدراجهم في كادر معلمي التربية والتعليم، والقصة كما روتها الصحافة في ذلك الوقت، وهذه جريدة (الأسبوع) المصرية تسوق هذا الخبر في 30/6/2007م، كغيرها من الصحف:
بعد اعتصامات اجتماع المجلس الأعلى للأزهر:
قرار جمهوري بضم مدرسي الأزهر إلى كادر المعلمين
أصدر الرئيس حسني مبارك قرارًا جمهوريًّا بضم معلمي الأزهر إلى الكادر الخاص ومساواتهم بمعلمي التربية والتعليم، وجاء هذا القرار بعد 4 أيام من اعتصامات وإضرابات معلمي الأزهر عن التصحيح في جميع محافظات الجمهورية؛ الأمر الذي دعا شيخ الأزهر إلى الذهاب إليهم وطمأنهم، وعقد جلسة طارئة للمجلس الأعلي للأزهر؛ لمناقشة الأمر وخلال اجتماع المجلس برئاسة د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر وحضره د. محمود حمدي زقزوق، ود. أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر وأعضاء المجلس. قوبل تطبيق الكادر بمشكلة تشريعية تتعلق بقانون الأزهر؛ حيث إن للأزهر قانونًا خاصًّا ينظم هيئات الأزهر، رغم قرار المجلس الأعلى للأزهر في جلسته الطارئة يوم الأربعاء الماضي برئاسة د. محمد سيد طنطاوي بموافقة المجلس بالإجماع على أن تسري أحكام القانون رقم 155 لسنة 2007م والخاص بالكادر الخاص لمعلمي التربية والتعليم على جميع المعلمين بالمعاهد الأزهرية بمراحلها المختلفة.. إلا أن الهواجس ومخاوف معلمي الأزهر ما زالت قائمة رغم حرص شيخ الأزهر وقيادات قطاع المعاهد الأزهرية على تطبيق الكادر.. وتتمثل هذه المخاوف في مسألة وقف تنفيذ قرار المجلس الأعلى للأزهر في تعديل بعض مواد القانون 103 لسنة 61 الخاص بتنظيم الأزهر وهيئاته؛ حيث يتطلب تطبيق الكادر على معلمي الأزهر وجوب إصدار تشريع أو تعديل بعض بنود قانون الأزهر، التي يستلزم لها موافقة مجلس الشعب.. على هذه التعديلات، وهي ليست تعديلات جوهرية في أن يطبق الكادر، أو لا يطبق ولكنها، تتعلق بالنواحي الإدارية التنظيمية في كيفية تطبيق هذا الكادر.
طبقًا للبيان الرسمي الصادر من المجلس الأعلى للأزهر، والذي قرَّر فيه أن أحكام القانون 155 لسنة 2007م بتعديل بعض أحكام قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981م على جميع المعلمين بالمعاهد الأزهرية بمراحلها المختلفة الذين يقومون بالتدريس، أو بالتوجيه الفني، أو بالإدارة المدرسية بالمعاهد الأزهرية، وعلى الاختصاصيين الاجتماعيين والنفسيين واختصاصيي التكنولوجيا والصحافة والإعلام وأمناء المكتبات، بما يتواءم ونظم التعليم بالمعاهد الأزهرية المنصوص عليها بقانون إعادة تنظيم الأزهر والهيئات، التي يشملها رقم 103 لسنة 1961م، ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975م، مع السير في الإجراءات التشريعية العاجلة لإصدار مشروع قانون خاص في هذا الشأن بتعديل بعض أحكام قانون إعادة تنظيم الأزهر؛ وذلك توحيدًا للمعاملة بينهم وبين المعلمين التابعين لوزارة التربية والتعليم.
يوضح هذا البيان مشكلتين قد تقابلان تطبيق الكادر على الأزهر.. فرغم أن المجلس الأعلى للأزهر قد قرر تطبيق أحكام قانون الكادر الخاص على الأزهريين، إلا أن جملة "بما يتواءم ونظم التعليم بالمعاهد الأزهرية.." قد تعطل تطبيق الكادر، وإلا فلماذا لم يتم تطبق الكادر وتمر الأمور بسلام ولا يحتاج الأمر إلي إضراب.
يقول المستشار القانوني لمشيخة الأزهر جمال أبو الحسن إن السير في إجراءات التشريع الجديد، التي ستضاف إلى قانون تنظيم الأزهر، لن تؤثر على تطبيق الكادر، فهي مجرد تعديلات تُضاف وليست قانونًا قائمًا بذاته، وهذه التعديلات ستضاف، لكي يتم تطبيق الكادر بشكل سهل لا تقف أمامه أية عوائق إدارية.. فهي مجرد مسألة تنظيمية، ولكن سيتم تطبيق الكادر مع مرتب أول يوليو.
فمثلاً في قانون الأزهر هناك نصوص تشير إلى تولي شيخ الأزهر مهام ومسئوليات.. ورؤساء المناطق الأزهرية لهم توصيف.. في حين أن قانون الكادر الخاص لمعلمي التربية والتعليم يشير إلى تولي المحافظين والإدارة المحلية شئون تطبيق هذا الكادر، بينما الأزهر لا يتبع الإدارة المحلية، أو المحافظين.. كما أن ترتيب المعلمين ودرجاتهم ليس في قانون الأزهر على عكس قانون الكادر الخاص، لذلك اجتمعنا اليوم،
لتعديل هذه الأشياء وإضافتها إلى قانون الأزهر.
من جانبه، قال الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر: إنه يرفض تمامًا عدم تطبيق الكادر الخاص للمعلمين بالتربية والتعليم على معلمي الأزهر، مؤكدًا أن الجميع متساوون على قدم وساق، ومدرسو الأزهر ليسوا أقل من مدرسي التربية والتعليم، ولذلك سارعنا بتعديل قانون الأزهر وسوف أتقدم بهذه التعديلات، التي أقرت اليوم الأربعاء (27/6) إلى رئيس الوزراء لإقرارها وموافقة مجلس الشعب عليها، وأكد شيخ الأزهر أن موافقة المجلس الأعلى للأزهر على تطبيق الكادر الخاص كافية، لكي يصرف المدرسون مزايا هذا الكادر في رواتب يوليو المقبل..
ويؤكد د. عبد الدايم نصير نائب رئيس جامعة الأزهر وعضو المجلس الأعلى للأزهر؛ أن الكادر سوف يطبق مع حلول راتب يوليو المقبل، وهذا أمر لا شك فيه، أما مسألة المواءمة.. فقد أقررنا بها تعديلات جديدة، لتتواءم مع الكادر الخاص بمعلمي التربية والتعليم.
وكان اجتماع قد عقدته اللجنة المشتركة من لجنة التعليم ومكتب لجنة الشئون الدستورية والتشريعية والخطة والموازنة بمجلس الشعب في جلسة 16 يونيو الجاري برئاسة د. أحمد فتحي سرور، وقررت ضرورة تعديل القانون رقم 103 ليتم تطبيق الكادر.
وقال الشيخ عمر الديب وكيل الأزهر: إن شيخ الأزهر قام بإجراء اتصالات مكثفة بكبار المسئولين في الدولة، لتطبيق كادر المعلمين على الأزهر، أسوة بزملائهم في التربية والتعليم، وقد قدمنا إحصائيات بأعداد معلمي الأزهر، فلا يصح أن يطبق القانون على بعض المعلمين في الدولة ويُستثنى من ذلك الأزهريون، فهذا مخالف للعدل ولا يقبله أي عقل.
فهذا مثال من جملة أمثلة تبين مدى جدوى الإضرابات التي يطالب أصحابها بحقوقهم، وبهذا يكون الرد على منكريها.. والله أعلم.
--------------
الهوامش:
(1) مختار الصحاح (ﺟ/1 ﺻ/171/2) لسان العرب (ﺟ/4 ﺻ/525).
(2) الرياض النظرة (ﺟ/2 ﺻ/59).
(3) د. محمد الأحمري- مشروعية المظاهرات إحياء للسنة وتحقيق لمقاصد الشريعة.
(4) الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق السياسة الشرعية (ص31- 32).
(5) كديد الكديد، التراب الناعم، فإذا وطئ صار غباره، أراد أنهم كانوا جماعة، وأن الغبار كان يثور من مشيهم (النهاية) (ﺟ/4 ﺻ/155).
(6) حلية الأولياء (ﺟ/1 ﺻ/40)، وكنز العمال (ﺟ/12 ﺻ/247)، ومرقاة المفاتيح (ﺟ/11 ﺻ/192)، وفيه أبان بن صالح ليس بالقوي وعنه إسحاق بن عبد الله الدمشقي متروك.
(7) شرح القواعد الفقهية (ﺟ/1 ﺻ/201).
( المرجع السابق (ﺟ/1 ﺻ/205).
(9) سبق تخريجه.
(10) رد الشيخ عبد العزيز بن باز على فتوى الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في المظاهرات.
(11) الإلحاد الخميني في أرض الحرمين.
(12) جواب الشيخ المنجد تحت السؤال رقم (11469).
(13) القرضاوي سيرة ومسيرة.
(14) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/ 312- 313).
(15) حديث صحيح أخرجه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ﺟ/2 برقم/2558).
(16) حديث حسن صحيح، رواه أبو داود واللفظ له (ﺟ/4 ﺻ/339) برقم (5153)، وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.