الشيخ أبو جرة
عاش فضيلة الشيخ محفوظ نحناح (رحمه الله) واحدا وستين (61) سنة (1942-2003) أمضى منها نيفا وأربعين عاما (61-2003) في الجهاد، والتعليم والدعوة والتربية، كان فيها كل همه واهتمامه – بعد أن استرجعت الجزائر استقلالها وسيادتها- منصبا على "ثلاثية" مستعصية على الحل في أدبيات الحركات الإسلامية والدعوة المعاصرة، وفي ثقافة الدعاة عموما، كونها تحولت إلى إرث في مكونات الخلفيات الفكرية والثقافة والسياسية لرجالات التغيير المنشود في منظومة ما كان يعرف بـ "الصحوة الإسلامية" بكل مكوناتها وبمختلف فصائلها وتياراتها في الجزائر بشكل خاص، بين 62-2002 وفي الأقطار التي عانت شعوبها الإستدمار وتشكلت بعد التحرير حكومات وطنية حكمتها بشرعية الثورة والتاريخ لأزيد من نصف قرن في العالم العربي كله.
إنها ثلاثية الإسلام، الوطنية، الديمقراطية (أو علمانية)، التي سماها الشيخ الرئيس محفوظ نحناح (رحمه الله) "المعادلة المفقودة" أي : الإختلال الحاصل – في فقه وممارسات حملة المشروع الإسلامي- بين محتكري التحدث باسم الإسلام ومحتكري الحكم باسم الوطنية (الشرعية التاريخية) والنافذين باسم الديمقراطية العلمانية..في محاولة لردم هذه الهوة بين هذه التضاريس الفكرية في تصور أبناء الحركة الإسلامية في الجزائر، خالف الشيخ نحناح (رحمه الله) الأطروحات الفكرية القائمة على الأسود والأبيض : "هذا حلال وهذا حرام" ليفرق بشكل واضح وصريح بين أحكام الفقه والإجتهادات السياسية، ويقدم تفسيرات جديدة لمسائل جوهرية كالولاء والبراء (بين العقيدة والمصالح المرسلة) والمشاركة السياسية حال الأزمات والجوائح وفي الحالات الطبيعية..وغيرها من المسائل التي أثرت سلبيا على أفكار قادة الحركات الإسلامية وسلوكاتهم وممارستهم الدعوية وعلى تعاطيهم مع الواقع السياسي والثقافي.
تم تلخيص الجهود السياسية التي بذلها أحد أكبر مؤسسي منهج الوسطية والإعتدال في الفكر السياسي التطبيقي المعاصر فضيلة الشيخ محفوظ نحناح (رحمه الله) في كتاب نشره قبل وفاته، بأربع سنوات سماه "الجزائر المنشودة" وجعل له عنوانا فرعيا هو "المعادلة المفقودة: الإسلام، الوطنية، الديمقراطية" ليطرح فيه إشكالية الفقه السياسي للحركات الإسلامية التي تحركت بشكل ممتاز في فضاءات "هدم الجاهلية" في الفكر والتصور والسلوك ولكنها فشلت في بناء "النموذج" في مناهج الدعوة والحركة لأبناء الأمة العربية والإسلامية بشكل عام، والكل يعلم أن الثغرات الواسعة التي فتحها الإستدمار الغربي في "عقلية" أبناء العالم الإسلامي قد أحدثت فزورا عميقة وشقوقا غائرة في بنية الفكر النظري للقائمين على شؤون الدعوة في البلاد الإسلامية، واحتاج الأمر إلى إعادة تشكيل العقل المسلم على قواعد جديدة ورؤية معاصرة مستنبطة من قطعيات النصوص ولكنها منفتحة على تجارب الأمم وخلاصات ما انتهت إليه تطبيقات الفكر البشري في مجال الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان..الخ، في محاولة لمعالجة تشقق العلاقات الفكرية بين الإسلام والوطنية من جهة، ثم بين الإسلام والديمقراطية من جهة ثانية، ثم بين أطراف هذه المعادلة فيما بينها على مستوى الفهم ثم على صعيد الممارسة والتطبيق الميداني من جهة ثالثة.
وهذه هي المعادلة المفقودة التي اكتشفها فضيلة الشيخ نحناح فواجهها مباشرة من غير لف ولا دوران ليؤكد حقيقة جوهرية، كثيرا ما حاول بعض الدعاة كتمانها أو الضرب عنها صفحا، وهي أن الفكر الإسلامي المعاصر مازال يعاني حالة من "العزلة الشعورية" وهو بحاجة إلى أن يفتح أبواب الحوار مع "الآخر" على مصراعيها ليتم – في العراء وتحت ضوء الشمس- ضرب الحق والباطل : "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" الرعد الآية 17.
إن هذه الفكرة على بساطتها كانت تمثل مفتاح الحل للأزمة الجزائرية – التي حملت اسم المأساة الوطنية- والتي دفعت جميع الأطراف ثمنها دون أن تهتدي إلى "قواسم مشتركة" لطالما ضغطت نظريا على صدور المنافحين عن (الإسلام أو الوطنية أو الديمقراطية) في الجزائر، وهم يتحركون في ثلاثة خطوط متوازية تتقدم أو تتأخر حسب حضور كل فصيل وتأثيره في الأحداث، لكنها لا تلتقي ولا تتحاور، مع أن ما يجمع بينها كثير جدا : " لحماية الإسلام من التشوه، والأمة من التخطف والشعب من التجزؤ، والوطن من التفتت، والدولة من الإنهيار، والإستقلال من الإغتصاب، والإنسان من الضياع، والعربية من "الضرائر" والديمقراطية من التحريف والمصادرة، والدعوة من الدجالين، والإجتهاد من التقليد والتعصب، وحماة الإعتدال من الغلو والتطرف، وحماة الثقافة من التبعية، وأصحاب الرأي من القمع، وأصحاب الكلمة من الخيانة، وحماة الإنفتاح من الإنسلاخ والسقوط، وحماة الدستور من الكيل بمكيالين، وحماة القانون من التلاعب، وحماية الإنتخابات من التزوير، وحماة الذاكرة من النسيان، ودعاة السلم من الإغتيال، والقائمين على شؤون الأسرة من الإنحلال والتفكك وحماة الجزائر من "الجزائرية" الملغمة".
كانت هذه المعاني الكلية هي المفردات (المفاتيح) التي أدركها فضيلة الشيخ نحناح ووجه إليها القلوب والعقول ودعاها إلى الإنفتاح المتدرج على العصر لتجاوز ثقافة الإنغلاق والتقوقع والتعصب بالحوار المفتوح بين الإسلاميين والوطنيين والديمقراطيين (العلمانيين) لإكتشاف أن ما يجمع أبناء الوطن الواحد أكثر مما يفرقهم وأن الإلتقاء على الحد الأدنى أفضل من الإفتراق على التعصب للرأي ولو كان أصحابه أغلبية.
إن كل سالك لتحقيق هذه الغاية الكبرى (الجزائر المنشودة) يحتاج إلى التزود بما يؤهله للحوار مع الأخر، وهو :
1- إيمان عميق بالفكرة والمنهج في أوسع معانيه.
2- وفهم دقيق للوسائل والمحيط والزمان والمكان والحال.
3- وحب وثيق لمن يعمل معهم ويعملون معه.
4- وعمل متواصل لا توقفه العقبات ولا تثنيه العراقيل.
ولقد آمن الشيخ الراحل بالإسلام بعمق، وفهم إشكالية الواقع بدقة، وأحب الناس بثقة وإخلاص لدينه ووطنه وأمته عامة (ولاسيما القضية الفلسطينية)، وواصل بياض النهار بسواد الليل عملا وإجتهادا جمع فيه بين متناقضات شتى تمت صياغتها في منهج الوسطية والإعتدال، وهو المنهج الذي قاده إلى التنازل للجزائر وللدولة الجزائرية – خلال مرحلة المأساة الوطنية- فقدم المصلحة العليا للوطن على مصلحة حزبه، وضحى بالسياسة والرئاسة من أجل الإستقرار والإستمرار، ونافح عن كليات الدين تاركا الجزئيات والتفاصيل لهواة الصراع ودعاة "خذوه جملة أو أتركوه جملة" فعارضه من عارضه، ووافقه من وافقه، وتحامل عليه من تحامل، وسار في ركابه من سار..أما هو فقد كان يتحرك في منظور إستراتيجية طويلة النفس بعيدة الغور واسعة القاعدة موزونة الخطوات شاملة لأقضية الحياة كلها، صاغها في شكل "إعلان مبادئ" ضمنها أبرز رؤاه وأودع فيها أوضح تصوراته للقضايا الكبرى حالما بجزائر منشودة فقدت خلالها السلطة بوصلة الإسلام الصحيح والوطنية الحقة والديمقراطية المنفتحة على الجميع.. فظل الصراع قائما بين دعاة الدولة الثيوقراطية وحماة الدولة العلمانية (اللائكية) بعيدا عن دولة الشهداء المدونة في بيان أول نوفمبر 1954 بالنص التالي : "إقامة دولة جزائرية ديمقراطية إجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية".
ملامح الفكر الإستراتيجي
مع بداية إستقلال دول العالم الإسلامي وقعت الأمة الإسلامية في مأزق حضاري شامل تتجاذبه ثلاث قوى أساسية ظلت متنافرة وغير متفقة حول مفهوم "الدولة الوطنية" بعد أن تحررت جل الدول في العالم الإسلامي من ربقة الإستدمار العسكري والسياسي لتذخل في ما يشبه الإستعمار الإقتصادي والثقافي واللغوي..وكل أشكال التبعية والغزو الحضاري.
وبقوع المنطقة الإسلامية جغرافيا على خط الفقر والمرض والجهل تحول الإستعمار العسكري إلى أشكال جديدة من الإستعمار الثقافي والسياسي والإقتصادي اللغوي..في ظروف سياسية كانت محكومة بمنطق الحرب الباردة، تم فيها تأخير الإسلام عن سدة الحكم فانشطر الفكر النخبوي في البلاد الإسلامية إلى ثلاثة تيارات:
· تيار الإسلام : الذي كانت تعلن عنه كثير من الدوائر الرسمية دينا للدولة ثم يتم تغييبه في كل مظاهر الحياة، بل كان يحارب أحيانا عقيدة وشريعة وخلقا ودعوة و"خصوصيات"..ولو كانت في شكله الظاهري..
· تيار الوطنية : التي صارت حكرا على رجال الثورة ودعاة المرجعيات التاريخية (ممن شاركوا في تحرير الأوطان) وكأن من ولدوا بعد الإستقلال لا حق لهم في الثروة والحكم وعليهم أن ينتظروا نهاية جيل الثورة ليضعوا صورة ما بعد الشرعية التاريخية.
· تيار الديمقراطية : وهو في الحقيقة تيار العلمانية الذي أُريد له أن يكون نقيضا للإسلام أو بديلا عنه ومخاصما له بالقفز فوق حقائق الوحي ودلالات التراث وتراكمات صناعة الإنسان والحياة في العالمين العربي والإسلامي، وكأن الديمقراطية - في نظر العلمانيين- بضاعة نوعية لا يتداولها إلاّ "المجتمع المفيد".
أمام هذه الإشكالية المعقدة دار الصراع بين جامد على القديم وجاحد للثوابت ومحتكر للوطنية ومستغل للديمقراطية.. وبدل أن تتوحد جهود الأمة حول "مشروع بناء وطن مشترك" وإقامت دولة مدنية تسع الجميع وتستفرغ طاقات شعوبها في البناء والتنمية، تم تسخير هذه الجهود في البحث عن توازنات مختلة قائمة على حماية مصالح فئوية ناجمة عن ريوع النفط والمحروقات، لذلك كانت هذه الأنظمة الريعية تواجه الأزمات والمشكلات المستعصية باللجوء إلى الحلول الجزئية والمراحل الإنتقالية التي تتجاهل خصائص الأمة وثوابت الدين ومتغيرات الواقع ومنطلقات المجتمع المسلم وتصوراته الكبرى للكون والحياة، وتدير الظهر للتطلعات الأساسية للإنسان المسلم وفطرته وحاجته ومصالحه وقيمه ومبادئه..في هذه المراحل الإنتقالية – بين 62-2002، لم يتم توجيه الجهود لبلورة استراتيجية وطنية شاملة قائمة على التوافق الوطني وخادمة لكل جوانب الحياة وتمس كل مستوياتها وتتغلغل في أدق تفريعاتها ودقائقها ومستجداتها مع مراعاتها للثوابت والأصول التاريخية والأنماط الحضارية للإنسان والمجتمع مثلما تهتم بالطوارئ والنوازل والمتغيرات، وفقا للزمان والمكان والعرف الذي لا يصادم الحقائق والثوابت والمبادئ الأساسية.
باختصار كان البعد الثقافي غائبا ومغيّبا في منظومة الحكم، كما كانت ثوابت الأمة مجرد "فولكلور" تاريخي يتم إدراجه في الإحتفالات الرسمية، في المناسبات الدينية والتاريخية، فداء فضيلة الشيخ محفوظ نحناح (رحمه الله) ليطرح القضية من زاوية التكامل بين الإسلام والوطنية والديمقراطية لخدمة هدف كبير شعاره : "الجزائر حررها الجميع ويبنيها الجميع".
إنها إستراتيجية واضحة وبسيطة تقوم على ثنائية تكاملية ظلت لفترة طويلة تؤسس لمنطق التصادم والتنافر، وأعني بهما ثنائية فقه الشرع وفهم الواقع :
· مراعاة سنن التغيير ببيان الحقائق الثابتة وعدم مصادمتها.
· واستصحاب حقائق الواقع المحلي والإقليمي والعالمي عند كل حركة تجديدية (أي ممارسة الإجتهاد وإعمال الفكر في دائرة منطقة العفو مع الإقرار بأن هناك يقينيات وقطعيات وثوابت تحتاج إلى تثبيت..ثم التفتح في ضوئها على العالم من حولنا).
ولأن العالم الإسلامي كله – بعد ثورات التحرير- أبتلى بتسلط التيارات اللائكية (العلمانية) على سدة الحكم، التي ناصبت الإسلام العداء وأقصته من ساحة المشاركة، وهي لا تعرفه وحاربت الغيب وهي عاجزة عن الإجابة على أبسط ما يربط الإنسان بمحيطه الأخلاقي، هذا التنطع العلماني جعل جهود المصلحين والدعاة تصب كلها تقريبا في رافد تأكيد الهوية والكيونية للمحافظة على صفاء الإنتماء العقدي في معركة أخذت أكثر من حقها سميت في فقه الإغتراب معركة "الولاء والبراء" يتدافع تحت نقعها خصمان :
· دعاة التيار العلماني الوافد : وتسانده غالبا النخب النافذة وتدعمه قوى خارجية في مسمى "الحرب الباردة" لاسيما بين 45-1989.
· وحماة التيار الإسلامي والتيار الوطني الأصيل : ويقف معهم عامة الشعب بكل شرائحه ومكوناته.
والرهان القائم بين الطرفين كان "مشروع مجتمع" ما بعد الإستقلال بمحاولات متعارضة – إلى درجة التصادم- لبلورة استراتيجية سياسية شاملة تهيء لميلاد مجتمع جديد.
فعلى مدى الخمسين (50) سنة الماضية قامت إيديولوجيات كثيرة ثم سقطت، وتطاولت فلسفات كثيرة ثم إنتهى بها تطاولها إلى أن تتحطم على صخرة الواقع، ورفعت شعارات ذات بريق خالب ثم خمدت و"تفرعنت" نظم طاغية ثم فشلت وأفلست إلى أن إنتهى الأمر – في مرحلة متأخرة- إلى التدافع حول من يمثل "سلطة الشعب" ديمقراطيا..ومن يعكس إرادته إنتخابيا، ومن يتحدث باسمه دستوريا..الخ وفي هذه الأثناء تمت بلورة خطابات ثورية لاهبة باسم الشعب وأخرى ديماغوجية باسم الشعب، وثالثة تحريضية كلها باسم الشعب..كانت كلها تعد باستكمال التحرير والتنمية وإعادة تنصيب "السيادة" وتحقيق الوحدة واسترجاع الأرض الفلسطينية المغصوبة ونشر الحريات وإشاعة الديمقراطيات..ولكنها تهاوت الواحدة تلو الأخرى تحت ضربات انحسار الأنظمة المغلقة أو تلك الواعدة بالتوريث فتعرت أمام شعوبها وسقطت أمام فشلها في تحقيق أشواق الشعوب وتطلعاتها وآمالها..برغم محاولات التذويب و"الفوبيا" التي كان من أخر مزاعمها إلصاق الإرهاب بالإسلام.
خلال السنوات العشر (10) الأخيرة من القرن الواحد والعشرين 90-2000، ساد إعتقاد عام لدى غالبية المسلمين في العالم – بعد تفكك الإتحاد السوفياتي- بأن الإسلام وحده هو المخلص لأنه – في نظر منظري القطبية الأحادية- الأقدر على صهر متناقضات الشعوب الإسلامية وطموحاتها الكبرى بقيمه العالية وتعاليمه الشاملة وباعتداله ووسيطته وسعته وسماحته، إذا تخلى عن أفكاره الثورية وجماعاته "الإرهابية" فهو بهذه الصفات يمثل أصلح السبل وأفضل المنطلقات لرفد أشواق الشعوب وتلبية طموحاتها في الحرية والديمقراطية والتنمية..والحركات الإسلامية ذات التوجهات الوسطية المعتدلة ممن يُعرفون بالإنتماء "للإسلام الأنيق"، هم وحدهم القادرون على التعايش السلمي والتعاون على بسط الأمن والإستقرار في عالم تحكمه نمطيات القطب الواحد، ويهيمن فيه الكبار على الصغار، وتضيع فيه حقوق الشعوب أمام الأنظار والأسماع.
هذا التصور كان واضحا تماما في ذهن الشيخ نحناح (رحمه الله) المشكلة – في نظر الشيخ- لقد كان متيقنا أن المتحدثين باسم الإسلام لا يَنقصهم الإخلاص له ولا الحماسة "للموت في سبيله" وإنما كانوا يفتقرون إلى فهم المحيط من حولهم..فالمشكلة ليست في الإسلام وإنما في ممارسات التيارات الرافدة لهذا الدين، إن المشكلة لا تكمن في "البضاعة" وإنما تكمن في طريقة العرض والتسويق، فالقضية عادلة بإعتراف الخصوم، بيد أن الدفاعات التي تولت المرافعة عن هذه "القضية" لا يحضى كثير من أطرافها وكثير من المتحدثين باسم الإسلام بمصداقية كافية أمام الرأي العام بسبب كثرة الخصومات والتنازع حول الجزئيات و"جر الإسلام من ذيله" بدل الأخذ برأسه وعرضه على الناس واقفا على قواعده الخمس وليس غارقا في أنواع المياه، أو ملتبسا بألوان الدماء أو متهما بالإستحلال والمجاهرة بالتكفير والهجرة...الخ
إن الخلاصة المركزة التي ينبغي حفظها والإحتفاظ بها والتأسيس عليها هي : أن المسلمين قد إبتعدوا عن جوهر دينهم الحق وكلياته ومقاصده..وخاضوا في الجزئيات وتنازعوا.. فاختلفوا فيها ونسوا أن يتعاونوا على تجسيد الكليات المهدرة، وعادوا إلى زمن الخلاف حول أحقية علي أو عثمان بالخلافة ونسوا أن أوطان الإسلام مازالت مغصوبة، وأن أحفاد وحفيدات علي وعثمان (رضي الله عنهما) صارت حرماتهم تنتهك في سجن "أبو غريب" وتنسف بيوتهم في فلسطين وتصادر حقوقهم في كل بقاع العالم.
المنطلقات والأهداف
بعد الفراغ من بسط ملامح الإستراتيجية، وعرض إشكالية المنهج، وحصر كل ذلك في ثلاثة تيارات تتنازع الأحقية في القيادة والسيادة وهما:
· دعاة العلمانية الوافدين الذين يتبنون الديمقراطية الإنتقائية.
· وحماة الإسلام العاجزين الذين يدافعون عن مشروع غامض.
· وأصحاب الشرعية التاريخية المحتكرون للوطنية.
خلص فضيلة الشيخ الرئيس (رحمه الله) إلى تحديد ثلاثة أهداف واضحة يجب أن تستفرغ، في سبيل تحقيقها وإنجازها، كل الجهود الخيرة (بصرف النظر عن ولائها وإنتماءاتها الظرفية) طالما جمعتها قبة وطن واحد وفرضت عليها ظروفها الإجتماعية وتشابك مصالحها أن تتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما تختلف فيه لتحقيق كيان "وطني مشترك" ينداح في فضاء العالم العربي والأمة الإسلامية إستجابة لثوابت التاريخ ومعطيات الجغرافيا ووعيا بحقائق العصر التي صارت تفرض المشاركة الشعبية الواسعة لإنجاز المشاريع المشتركة وتحقيق التطلعات الأساسية للجماهير العربية والإسلامية التي لا يمكن أن تخرج عن ثلاث أهداف مشتركة :
- تحقيق الوحدة المنشودة بكل شروطها الموضوعية.
- ضمان الأمن القومي في ظل سيادة الأقطار.
- تحقيق التنمية المتنوعة على أسس من التكامل والتعاون.
وهذه الأهداف الكبرى التي كان يراها الشيخ نحناح إستراتيجية لا يمكن أن تغفل عن نصرة القضية الفلسطينية التي يضعها فضيلة الشيخ الرئيس على قائمة الأولويات، فهي "القضية المركزية للعرب والمسلمين" وهي قلب العرب جغرافيا وقلبه دينيا وحضاريا، وقلبه سياسيا واستراتيجيا، فهي "قطعة محورية في لعبة السياسة الدولية المعاصرة" وبغير تحرير هذه الأرض الطاهرة تظل كل جهودنا المبذولة في سبيل تحقيق الوحدة محض خيال.
ولتحقيق هذه الأهداف الكبرى يؤكد فضيلة الشيخ على جملة من المنطلقات الأساسية يوجزها في رسالتين، الأولى للتيارات الإسلامية والثانية للرأي العام، وهما :
أ- رسالة التيارات الإسلامية :
إن التيار الإسلامي الذي سوف يحمل على عاتقة "رسالة التغيير الشامل" صار ضرورة تشتد الحاجة إليها لأسباب باتت معلومة، فبعد تخبط طويل وتجارب متفرقة أدرك كل تيار نقاط ضعفه ومواطن قوته، وصار التيار البديل –دون الإستغناء عن بقية الجهود- هو التيار الذي يجعل من تحقيق الصالح العام لوطنه وأمته والإنسانية كلها هدفا أساسيا له، فهو تيار يسعى إلى خدمة الناس دون النظر إلى اختلافات اللون أو العرق أو الدين أو اللغة أو الجنسية، تيار جامع يتجمع فيه ما تفرق في الآخرين ومن أهم ما يجب أن يتوفر فيه :
- إرادة قوية متجردة في فهم الإسلام فهما أصيلا منطلقا من القواعد الكلية البينة والمبادئ الثابتة الراسخة بالتوازي والتكامل مع الفهم المعاصر الذي يراعي تحولات الحال والزمان والمكان ويضع صاحبه في الحسبان، مستجدات العصر ومتطلبات الواقع وتغير الإجتهادات الفقهية والإجتهادات السياسية بتغير أسبابها.
- القدرة على الإتصال والإرتباط والتواصل مع المجتمع بكل شرائحه ومكوناته وفئاته وطوائفه بفقه مدرك لمشاطرة الناس أفراحهم وأتراحهم وآلامهم وآمالهم، وقدرة على حمل الهموم وحل ما أشكل من القضايا وتحريك الراكد، ولجم نزوات العواطف بنظرات العقول.
- الإدراك الواعي بأن التغيير يتطلب مثابرة وطول نفس وعملا مستمرا وشاقا، وأن طول الطريق زاده الصبر والإحتساب والتجرد مع التواضع لله وفسح المجال لمشاركة أهل الخير على أوسع نطاق بفهم دقيق وحب وثيق وأمل واسع في غذ أفضل.
- نكران للذات يجعلها تدرك أن المصالح الشخصية هي آفة المشاريع الواعدة، فخير أمة أخرجت للناس كانت قدوة تنصر الحق وتنتصر للقضايا العادلة، ولا تنحاز لمشاريعها الشخصية، فرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أيده الله بنصر وبالمؤمنين لبناء المجتمع الأول لأن أصحابه (عليهم الرضوان) تجردوا لهذه المهمة وأنكروا ذاتهم..وهي المنهجية ذاتها التي يجب أن يتبعها كل من يريد "إعادة البناء" على تقوى من الله ورضوان بحيث تتكاثف فيه جهود الجميع لردم فراغات تاريخية مهولة بحاجة إلى من يسدها وفضاءات بحاجة إلى من "يرابط" فيها وتلك سنة الله في التعاون لإقامة الجسور بين أهل الخير وبناء السدود العالمية أمام زحف يأجوج ومأجوج حيث أوتي ذو القرنين "من كل شيء سببا" ومع ذلك قال لمن حوله "أعينوني بقوة".
- القدرة على جمع المتفرقات وتجاوز الخلافات والتأليف بين وجهات النظر المتعارضة، فهناك دائما "قواسم مشتركة" وهوامش للحوار، وتجارب مسبوقة في شؤون النظم السياسية والترقية الإقتصادية، والتنمية البشرية، فالرفض المطلق مرفوض، والقبول المطلق ممقوت، وإنما هي مراجعات يكون فيها التمحيص والفرز قادرا على أن يشتغل في مؤسسات البحث والدراسة ومراكز التجميع والتوحيد.
إن البشرية اليوم تدلف في قرنها الواحد والعشرين إلى دقائق العلم، وتعمل جاهدة للإلتزام بسبل العدالة والحرية والديمقراطية والعمل في أطر واسعة لتحقيق هذه المعاني الكلية، وإلتزمنا نحن بالإستقامة "فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم" هو السبيل الأمثل لإنخراطنا المتدرج والمرحلي في المنظومة الدولية دون فقدان لخصائصنا، فهناك دائما فواصل بين ما هو من التعاون على حفر الخنادق وما هو من المفاصلة على قاعدة "لكم دينكم ولي دين" :
- والإسلام الصحيح الوسطي المعتدل هو ميزان هذه الرؤية "المتكيفة" مع الواقع الموسوم بالتحولات الكبرى، بل هو منطلق هذه الرؤية وقاعدتها ومبدؤها ومنهاجها بمنطق الحق والعدل والخير.. وما أوسع هذه الدوائر.
إن الإسلام الذي يجب أن نقدمه للناس :
- ليس دينا محصورا في النطاق التقليدي للأديان الأخرى..إنما هو نظام شامل متكامل يحكم الحياة كلها بقيمه ومقاصده وكلياته وقواعده العامة وأحكامه القطعية الثابتة الواضحة وسائر مجالات الإجتهاد وفق طبيعة العصر وظروف الناس.
- وليس دينا تتحكم فيه "الوسائط" أي كان نوعها وطبيعتها وشكلها..سواء قامت بإسم الفرد أو بإسم الجماعة أو بإسم الفكرة أو المؤسسة، إذ ليس من حق أية جهة أن تحتكر "الحقيقة" سواء كانت حزبا أو جماعة أو تنظيما أو فئة، فلا عصمة إلاّ للمعصوم (صلى الله عليه وسلم) ولا جهة تتحدث باسم الإسلام دون سواها، ولا هيئة تملك الحق في فرض وصاياها على الفرد أو المجتمع أو الدولة باسم الإسلام ومبادئه، إنما هو تفاعل مع الواقع وفقه متجدد للنصوص في ما لم يرد فيه نص، فالإسلام جاء ليصنع في الواقع حياة يجد فيها كل فرد أشواق فطرته التي هي – بالأساس- فطرة الله التي فطر الناس عليها.
ب- رسالة الرأي العام : إن التجارب التاريخية التي عرفها الإسلام، والنماذج العالية التي صنعها وصاغها وفق "قوالب زمنية" مرتبطة بزمنها ومكانها وظروف حالها لا يمكن أن تكون بالضرورة هي نفسها تجاربنا ولا هي "نماذجنا" المتطابقة، وإنما هي "معالم عامة" نتعلم منها ونستأنس بها ونستخلص منها الدروس والعبر كلما دعت الحاجة إليها، وهي – في كل الأحوال- ليست عقائد وليست تشريعا ملزما طالما هي دروس تاريخية. و"نماذج" صاغها أصحابها لزمانهم.
ومن ذلك على سبيل المثال :
- أن التعامل مع النصوص الشرعية، غير القطعية، إنما يقوم على أساس الإجتهاد العلمي والفقهي في الفروع والمستجدات بناء على الأصول، وأن هذا الإجتهاد يحتاج إلى علماء وفقهاء ذوي إختصاص وورع داخل مؤسسات و"مجامع" في عصر تجاوزت فيه قضاياه مستويات الإجتهادات الفردية لاسيما إذا كان موضوع الإجتهاد تشريعا عاما (للشأن العام) يلزم عموم المسلمين، هنا وجب – وجوبا شرعيا وواقعيا- أن يقوم هذا الإجتهاد على أساس الشورى بين العلماء والعارفين، وبين أولى الأمر والعالمين.
- إن جهود التغيير المبعثرة التي يسعى القائمون بها إلى العودة بالمجتمعات الإسلامية المعاصرة والأمة ككل إلى قيمها الأصيلة وثوابتها الحضارية الراسخة لا تعني بالضرورة إلغاء الأنظمة والتشريعات المعمول بها، فهي اجتهادات بشرية ناظمة للحياة يمكن الإستفادة منها ومراجعتها تدريجيا، وفق المصلحة العامة، قبل وضع بدائل جديدة لها، وإقرار بعضها إذا ثبت صلاحها ونفعها.. "فالحكمة ضالة المؤمن" والحكمة تقتضي التدرج في إنجاز مشاريع الإصلاح (وليس في منهجية الإصلاح) بحيث تراعى فيه السنن الكونية والقواعد الشرعية، وتتم عمليات الإصلاح وفق مبدأ التدرج تاركة للزمن فرصة لأداء دوره "والزمن جزء من العلاج".
إن أزمة الأمة الإسلامية، - والجزائر جزء من هذه الأمة- ليست مجرد مشكلة أخلاق أو قيم، كما يتوهم البعض ذلك، وإنما هي مشكلة معقدة وعميقة ومتعددة الأسباب والدوافع، ومتشعبة المظاهر والصور، تتداخل فيها العوامل الذاتية والتدخلات الخارجية.. وقد ساهم في تكوينها عوامل سياسية إجتماعية وثقافية، في ظل ظروف تاريخية خاصة. وحل الأزمات المعقدة يتطلب حدا أدنى من التنازل تلتقي عليه كل القوى الوطنية والتيارات والتنظيمات، وحتى الشخصيات الوطنية المؤثرة والأفراد الراغبون فعلا في تحقيق تلك الغاية بناء على صيغة مشتركة في شكل "ورقة عمل" مقترحة للنقاش تنطلق منها جهود التسوية كقاعدة عامة وعريضة تضمن الإتفاق المبدئي على الحد الأدنى المشترك لتحقيق المصلحة الوطنية المشتركة، وهنا ولابد من إدراك أن المشكلة المعقدة تحتاج إلى تعدد آليات الحل، فهناك دائما مخلفات تحتاج إلى رؤية وإلى حل خاص بها حالة بحالة.