اعترف بداية أنني وقفت برهة زمنية متأملا ومتهيبا أمام شخصية الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، لا أدري كيف أدخل إلى عالمه الفكري والقيادي والسياسي
الرحب لأحيط بكل ما استجمعته هذه الجوانب من عناصر الثراء والتميز والتألق، إذ كل جانب من هاته الجوانب مع دنوك منها تغمرك بفيض ظلالها وتشدك إليها سعة وعمقا ورؤية فما بالك بكل هاته الجوانب التي تشكل في مجموعها ظاهرة قيادية أو قل ظاهرة تجديدية كما وصفه بها عارفوه.
الشيخ محفوظ نحناح ظاهرة قيادية أنبتها الإسلام وعركتها التجارب وشغلها أحوال الأمة، منذ بواكير عمره استوقفه المنحنى الحضاري للأمة وهاله أمره وأمرها وهي تعيش التخلف والتشتت والاستبداد فانبرى بكل عزيمة وقوة إرادة ونفاذ بصيرة لعلاج المشكلات ومداواة الجراح وإصلاح الإختلالات في الفهم والممارسات على الصعيد الفكري والسياسي والاجتماعي ضمن دائرة الوطن والأمة والإنسانية جمعاء متسلحا بمنهجه الحصيف وتكوينه الفكري المتأصل وشخصيته الفذة الجامعة فصنع بذلك مدرسة فكرية تربوية وسياسية أسست لتجربة متميزة بات منهجها حديث الخاص والعام ومثار اهتمام القريب والبعيد بل وموئلا للآخرين بعد تنكر وجحود برؤية متبصرة واضحة مشرئبة نحو المستقبل وبإرادة أكيدة لم تثنها عقبات الطريق وألغامه وعورة المسلك وأشواكه وكيد الخصوم والمناوئين كل ذلك لم يثنه عن مواصلة السير نحو الهدف وتثبيت المنهج للسائرين لم يأبه في ذلك بادعاءات المشككين وتلفيقات المبطلين حسبه في ذلك عظم الأمانة وضخامة المسؤولية وشرف الرسالة ومقتضيات الشهادة على الناس.
أدرك المهمة فحدد الهدف فراح يستجمع لها الوسائل والآليات، استنهض عزائمه واستفرغ وسعه منافحا عن الإسلام الصحيح وعن ثوابت المجتمع ومصلحة الشعب والوطن، أصل بمنهجه للإسلام الصحيح وللوطنية الصادقة ووضع نصب أعينه أولويات ومقاصد واستشرف لمساره أبعاد وطموحات القليل من أدركها في حينها، عرف كيف يتعامل مع الأوضاع المعقدة وكيف تواجه الأزمات والفتن فكانت طروحاته بمثابة منظومة علاج، وجه العناية والاهتمام ببناء الدولة على أسس من الاستقرار والتنمية ووفق الجهد الوطني المشترك وكان دائما يوجه الاهتمام بالمستقبل حتى لا تأسرنا اللحظة الراهنة فطروحاته عن مرحلة ما بعد الإرهاب ومرحلة ما بعد الأزمة شاهدة على ذلك، وحذر من ممارسات التأزيم والتلغيم ومن الاستنزاف للموارد والامكانات والاستفزاز للمشاعر والقيم، كان حاذق الفهم نافذ البصيرة مدرك لمعادلة التوازن والموازنة، عرف كيف يستمد من التراث وكيف يستوحي من مختلف المدارس والحركات الإصلاحية وكيف يتعامل مع الفكر الحداثي في توليفة منهجية صنعها بفكره المبدع الذي أنتج به الأفكار والمواقف وابدع به المواقف والرؤى بشهادة الكثير من النخب السياسية، فان الشيخ نحناح ابدع في الجمع بين الوطنية والإسلام وفي التفريق بين السلطة والدولة وفي عملية التكيف والانفتاح وبناء العلاقات ومد الجسور وفي تصحيح وتوصيف العلاقات بين الحكام والشعوب وبين الأنظمة والحركات الإسلامية وبين العالم الإسلامي والغرب.
سلامة منهج وثقافة واسعة ووعي بالأحداث وفصاحة بيان وحسن عرض عرف كيف يؤثر في الرأي العام المحلي والدولي بمختلف فئاته ونخبه السياسية والفكرية والثقافية وكيف يصنع المبادرة والتأثير في الأحداث وليس الانتظار لرد الفعل على الأحداث.
وعلى هدا المستوى من العمل والتحرك ومع كثرة انشغالاته بقضايا الأمة وعلى رأسها القضية المركزية قضية فلسطين التي أبدى فها مواقف ومساعي متميزة وشاهدة ولم تغب عن باله حتى في مرض وفاته، فمع كل ذلك فقد كان دائم التنقل إلى المناطق العطشى للفهم الصحيح للإسلام وكان له تأثير كبير على الكثيرين فضلا عن حضوره في القضايا الاجتماعية يترقب الناس رأيه ويتشوقون لنصائحه فلم يكن غريبا على رجل بمثل هذا الرصيد وهذه التجربة أن يكون محل تقدير وإشادة من قبل الكثير من العلماء والمفكرين والسياسيين والدبلوماسيين والإعلاميين حتى أنك لا تجد أحدا من هؤلاء صادف وان التقى بالشيخ محفوظ نحناح ولو كان اللقاء معدود اللحظات إلا وسجل في حقه شهادة وخصه بوسام تقدير نظرا للخصائص التي وجدها فيها وعاينها بذرته وأخذها بالمشاهدة والإدراك لا بالنقول والروايات فكثيرا ما كان يقول الشيخ محفوظ نحناح نريد من يسمع منا لا من يسمع عنا.
وإذ كانت هذه بعض أوصاف الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله فإنه وزيادة على ذلك فقد انشغل بتكوين الرجال وتأسيس الحركة بالتأسيس لمنهجها التربوي والفكري والتنظيمي والسياسي وأسس البنيان على قواعد متينة ورسم الأهداف بدقة ووضوح ومضى واثقا بعد أن ضرب أروع الأمثلة للقيادة الناجحة وحسبه في ذلك أن ترك خلفه منهجا فكريا واضحا وبرنامجا سياسيا ناضجا ورصيدا نضاليا معتبرا ورجالا يترسمون على إثره الخطى مستشعرين الأمانة الثقيلة التي في أعناقهم، ومنذ أن رحل عنا وهو الغائب الحاضر في كل أعمالنا وجلساتنا وأنشطتنا، وترك فراغا لا يملأه إلا هذا المنهج والمنهج على منواله.