شخصية الداعي إلى الله وصفاته
بقلم الشيخ محمد محمود الصواف ( رحمه الله)
الدعاة الذين يعملون لقلب الأوضاع المنحرفة، وإصلاح الأحوال الفاسدة وتحويل المجتمعات الإسلامية التي عملت فيها معاول الهدم والتخريب حتى غيرت وهدمت الكثير من أخلاقها وعقائدها وحصونها وقلاعها إلى مجتمعات إسلامية صحيحة سليمة من آفات المبادئ الضالة والفتن المتعددة والمختلفة المصادر والموارد هؤلاء الدعاة لابد أن تتوفر فيهم صفات ومؤهلات لا محيد عنها لتحقيق الغاية الكبرى التي يهدفون إليها في دعوتهم. وشخصية الداعي هي العامل الأساسي في نجاحه في مهمته الإصلاحية الكبيرة.
وهنا سأعرض لأهم الصفات التي ينبغي أن تتوفر فيمن يتصدر للقيام بهذا العمل الإسلامي الكبير وهو الدعوة إلى الله والذي من أجلها وهب نفسه لله وعاهده على نصرة دينه وإعلاء كلمته.
1. ولعل هذا هو الشرط الأول لمن أراد أن يدخل المعمعة والحرب الضروس وهو: أن يهب الداعي نفسه لله ويعاهد الله على نصرة دينه وإعلاء كلمته ويدخل المعركة بإيمان عميق وشجاعة فائقة لا يخاف أحداً إلا الله، ولا يرهب الموت ولا يخشى الردى. قال تعالى: (الذين يبلغون رسالات الله ولا يخشون أحداً إلا الله) .
2. والشرط الثاني: الحرص على تقوى الله في جميع الحالات وتقوية الصلة بالله والإنابة إلى الله في كل صغيرة وكبيرة وازدياد الإيمان والثقة المطلقة بالله عز وجل وأنه تعالى هو الذي يحميك وهو الذي ينصرك، وهو الذي يصرف عنك كيد أعدائك.
إن حرارة الإيمان في قلب الداعي هي التي تستطيع أن تدخل الدفء والحرارة في قلوب الآخرين الذين خوت قلوبهم وجمدت. إن الداعي لا يستطيع أن يعيد الإيمان والثقة بالله في نفوس الآخرين ويملأها حماسة دينية إذا لم يكن هو قد امتلأ إيماناً وحماسة، وقوة روحيه فائقة وثقة بالله مطلقة . إن الدعاة الصادقين الذين سبقونا والذين قاموا بخلافة النبوة ونفخوا في المجتمعات الإسلامية روحاً جديداً، واستطاعوا أن يقفوا سداً منيعاً دون انحراف الناس وسقوطهم في أودية الشهوات والضلالة السحيقة، كما استطاعوا بفضل الله أولاً ثم بفضل الله جهادهم وحنكتهم وحماستهم في تبليغ الدعوة أن يستنقذوا من سقط من الناس في حبائل الشيطان. إن جميع هؤلاء الدعاة كانوا من أهل الله، وكانت ثقتهم بالله، وصلتهم بالله على أحسن ما تكون الصلة بين العبد وربه، والمخلوق وخالقه. ولم يغيروا ولم يبدلوا ولم تستطع سياط الرؤساء والملوك، ولا سماطهم وموائدهم، ولا ثرواتهم ومناصبهم أن تشتري ضمائر هؤلاء الدعاة. الذين استولى على مشاعرهم حب الآخرة والشوق إلى لقاء الله، والحنين إلى الجنة، ولقد رسخ فيهم ذكر الله تعالى وتغلغل في أحشائهم، وأشرقت قلوبهم بنور الله وتنورت لياليهم، وطابت أسحارهم ورضوا عن الله. لذا فقد آثروا الآخرة على الدنيا وقنعوا باليسير، وتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حياتهم وزهدهم وعبادتهم وقناعتهم، واتخذوهم المثل العلى والقدوة العظمى ، بهذا أفلحوا وبهذا نجحوا- وبهذا استطاعوا أن يؤثروا في عصرهم تأثيراً عميقاً، ويقلبوا المفاهيم وينقذوا الناس من الظلمات إلى النور.
3. الشرط الثالث: الإخلاص والتجرد عن المطامع الدنيوية وربما يكون هذا الشرط هو الأول. إذ أن الله تبارك وتعالى لا يقبل عملاً تجرد من الإخلاص. والإخلاص أن تقصد بعملك وجه الله وحده، طالباً رضاه، راغباً في ثوابه، أو خائفاً من عقابه. وأن تتجرد من حب ثناء الناس، أو طلب الجاه، أو ابتغاء الشهرة والظهور فإن حب الظهور- كما قد قيل- يقصم الظهور. وإذا كان عمل الداعي غير خالص لوجه الله، فقد حبط عمله. جاء في الحديث القدسي كما رواه ابن ماجة: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو الذي أشرك ومن ابتغى غير وجه الله في عمله كان عمله وبالاً عليه في الآخرة وإن كان صلاة أو جهاداً أو علماً. والصحابة الكرام كانوا يخشون الظهور بمظهر يدل على الرياء وعدم الإخلاص لله عز وجل فقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يطأطأ رأسه ويلوي رقبته فقال له: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب. وهذا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه عدي بن حاتم حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤمر يوم القيامة بناس من النار إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها وما أعد لأهلها فيها نودوا أن اصرفوهم عنها، فلا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها يقولون: ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا الجنة". وفي رواية أخرى "قبل أن ترينا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك، لكان أهون علينا. قال: ذاك أردت بكم. كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين. تراءون بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلوني، وتركتم للناس ولم تتركوا لي. اليوم أذيقكم أليم العذاب مع ما حرمتم من ثواب" [رواه الطبراني في الكبير والبيهقي].
ليكن الإخلاص شعار الدعاة، وطريقهم إلى الله، وهم أحوج ما يحتاجون إلى الإخلاص. فهم في صراع دائم، وكفاح مستمر مع الطغاة والمتجبرين، ومع الشر والأشرار، والفساد والمفسدين. إن أفضل سلاح نستطيع أن نحارب به هذه المادية الطاغية هو سلاح الإخلاص والزهد في حطام الدنيا، والتجرد عما يتكالب عليه الناس، ويتهالكون عليه من الجاه والمنصب وفضول الأموال الفانية، والألقاب الفارغة. والمجتمعات مهما بلغت من الفساد والمادية والغباوة والعنجهية فإنها لا تزال تقر بالفضل للمخلصين وتشهد لهم بالإخلاص. وإن حاربتهم بكل وسائلها وسلاح الإخلاص حارب به المخلصون ورؤوسهم عالية، وجباههم بيضاء ناصعة تجردوا عن المطامع، وعزفوا عن الشهوات فسبقوا وعزوا. مع العلم بأن الكثير منهم عاش على الزهد والتقشف وكانوا في شظف من العيش بل كان الفقر فخرهم. لذا قدر لهم البقاء والخلود في بطون التاريخ، وكانوا أئمة صادقين مخلصين بارك الله في أعمالهم، ورزقهم القبول والتثبيت، وهم في الآخرة أشد قبولاً، وأكثر تبييتاً واحبهم الله وأحبهم الناس. قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال له عليه الصلاة والسلام: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" [رواه ابن ماجة بإسناد حسن وذكره صاحب سبل السلام ج4 ص177].
4. العزم والثبات وقوة الإرادة: هذا هو الشرط الرابع والذي يرجع الفضل في نجاح الداعي في انقلاب الأوضاع الفاسدة، وتحول التيار الهدام مهما كان قوياً وعنيفاً، فإن عزيمة الداعي وقوة إرادته وثباته على دعوته، وتفانيه في سبيل نصرتها هي التي تكفل له النجاح ولدعوته الرفعة والفلاح. وإذا فتشنا بطون التاريخ عن أولئك الذين حولوا مجراه، وأزالوا الأخطار المحيطة بشعوبهم، وأعادوا الحياة والثقة والإيمان إلى أممهم وبعثوا فيها روح الجهاد ونفخوا فيها روح العمل. إننا لم نجد حركة إصلاحية قديماً أو حديثاً قامت بعمل كبير إلا ووراء هذه الحركة رجل داع إلى الله صحت عزيمته، وقويت إرادته وملكت عليهم دعوته قلبه وفكره، واستولت على مشاعره وعواطفه وتفكيره. فهو يعيش بها ويعيش لها. إذ قد اختلطت الدعوة بدمه ولحمه فلا تفارقه ولا يفارقها، وقد وهب للدعوة حياته، وجهده ، وماله، ووقته. ولولا عزيمة الرسول عليه الصلاة والسلام وثباته وقوة إرادته أمام تلك المؤامرات الخطيرة التي تهتز لها الجبال هزاً، ماذا كان يكون شأن الدعوة لولا صموده وجهاده المتواصل وعزيمته الجبارة التي تتمثل في قولته الخالدة أمام عمه: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه". وماذا كان يكون شأن الإسلام- وهو الدعوة- حينما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وتولى الخلافة أبو بكر الصديق ثم بدأت الردة وكاد الأمر ينفرط لولا لطف الله أولاً ثم عزيمة الخليفة الراشد أبو بكر رضي الله عنه وقوة إرادته وثباته أمام تلك المحنة القاسية وتتمثل قوة عزيمته بقولته المشهورة: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحاربتهم عليه. واله لأقاتلن من يفرق بين الصلاة والزكاة. ولمثل هذا وبمثل هذا فليعمل العاملون. وليسر الدعاة المخلصون.
5. اقتفاء آثار الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا هو الشرط الخامس. فعلى الداعي البصير أن يعمل بالسنة وللسنة وأن يقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع خطواته وأعماله، فمن طلب النجاح والفلاح والمغفرة والحب فعليه باتباع الرسول ذلك ما أرشدنا الله إليه وأمرنا به. قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم" . وقال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) [الأحزاب: 21]. والداعي الموفق السعيد هو الذي يهتدي لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وترسم خطاه، وان يحب ما يحب ويكره ما يكره، وأن يداوم على ما داوم عليه الرسول من السنن، ويتبعه في سيرته وشمائله وأخلاقه وآدابه، وأساليبه وطرقه التي سلكها في دعوته إلى الله. فهو عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى للدعاة ويا سعادة من أحيا سنة من سننه فله أجرها واجر من عمل بها إلى يوم الدين. وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم سيرة للبشرية جمعاء وأشملها وأقومها وهي السيرة الخالدة التي حفظها الله لنا لتبقى نوراً للدعاة، وحجة على الناس وسنته هي السنة المطهرة الزكية العطرة وترك العمل بالسنة هدم للإسلام وتقويض لبنيانه. يقول الأستاذ محمد أسد في كتابه: " الإسلام على مفترق الطرق" (ص87): "إن العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وإن ترك السنة هو انحلال الإسلام .. لقد كانت السنة الهيكل الحديدي الذي قام عليه صرح الإسلام. وانك إذا أزلت هيكل بناء ما أفيدهشك أن يتقوض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟؟". انتهى. فالسنة. السنة أيها الدعاة المخلصون إنها النور والمشعل المضيء بعد القرآن العظيم ونوره المبين.
6. الصبر والاستعلاء على الشدة والبلاء: وهذا هو الشرط السادس لنجاح الدعاة في مهمتهم الثقيلة الشاقة. فطريق الدعوة طريق شائك شاق، والبات عليه، والاستمرار على السير فيه ليس بالأمر الهين البسيط، ولحمل لجبل أخف وأهون من حمل الدعوة، ولكن هذا الأمر الصعب يسير على من يسره الله عليه، وخفيف على من صبر في الله، واستعلى على المحنة وثبت على الشدة والبلاء.
والمحن طريق الأنبياء، وسبيل الأصفياء، من عباد الله الخلصاء. قال تعال في افتتاح سورة العنكبوت: "ألم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" . فالمؤمنون الدعاة يمتحنون، ويصيبهم البلاء ليظهر صدقهم، ويؤذون لتزداد أجورهم، حتى تتكون الفئة المؤمنة الصابرة القوية ثم تنطلق بدعوتها لتحطم الباطل وكل ما يقف في وجهها من عقبات وصعاب. وسيزداد هذا البلاء والامتحان كلما ازداد الإيمان حتى يكتمل، فإذا اكتمل حان موعد النصر وصدق الله وعده (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) لذا قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإذا كان في دينه صلابة زيد في البلاء.[ ذكره ابن كثير ج3 ص 404]. وروى الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أتت علي ثلاثون من يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال" [ البناء والهدم في الدعوات للأستاذ عبد العزيز كامل ص84] . كما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" [ رواه ابن ماجة].
فلابد من البلاء ولابد من المحن والمصائب. تلك سنة الله حتى مع الأنبياء الأصفياء والدعاة ورثة الأنبياء وحملوا مشاعل النور التي حملها أئمتهم من صفوة الله تبارك من عباده المخلصين فلابد أن يصيبهم ما أصاب أسلافهم فعليهم أن يصبروا ويستعلوا على كل شدة تصيبهم فإن النصر مع الصبر، وإن مع العسر يسراً. فمن أراد تغيير المجتمع، وإصلاحه وقيادته إلى الطريق المستقيم، لابد أن تقف في وجه العقبات، ولابد أن تجتمع جحافل الشياطين من الإنس والجن لتصده عن دعوته، وصيحة الدعاة هي صيحة الحق التي تصخ آذان المفسدين، وتربك عمل الشياطين، وتطمر عليهم خططهم في الإفساد والإضلال.
والدعاة رجال إصلاح ولا يمكن أن ينجو المصلح من الشدائد والمحن، وهنا أذكر كلمة أعجبتني للشيخ محمد أحمد العدوي رحمه الله جاءت في كتابه "دعوة الرسل" والذي أنصح كل داعية أن يقرأ هذا الكتاب النفيس قال: "كيف ينجو المصلح من هذه الشدائد ومهمته أن يحول بين النفوس وشهواتها، والقلوب وأهوائها، يحاول أن يرسم لها طريقاً غير طريقها، يباعد بينها وبين ما ألفت من الشهوات، ويقارب بينها وبين ما تركت من الفضائل، فهو مرب يريد أن يخلق الناس خلقاً جديداً، ومهذب يريد أن ينشئهم نشأة صالحة، ويؤلف بين غرائزهم ويوفـق بين أهوائهم المتفاوتة".
والإسلام اليوم عندما ندعو اليه بإخلاص وجد ووعي وبصيرة فإننا سوف نلاقي ما لاقاه رسولنا وقدوتنا وأسوتنا محمد عليه الصلاة والسلام وما لاقاه صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فقد بدأ الإسلام غريباً، وعاد غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء خاصة في هذا العصر عصر الفتن والمحن والشدائد والمصائب وإذا كان سلفنا الصالح قد حورب من طبقات جاهلة، ورئاسات فاشلة، وقبائل خاملة، وشعوب متحاربة متقاتلة. فإننا اليوم نُحارَب من طبقات تزعم أنها مثقفة بل نحارب من حكومات كافرة أجمعت أمرها، واجتمعت كلمتها على أن تحارب الإسلام وتتحد جميعاً في صد دعوته والقضاء على رجاله وهي أقوى الدول وتحمل أفتك الأسلحة وأخطرها.
وفي الكثير من ديار الإسلام أئمة مضلون يعملون جهدهم لهدم الإسلام وتقويض أركانه، وهدم بنيانه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن زياد بد حدير، قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين. رواه الدارمي.
وهناك جمعيات سرية تنفق عليها الملايين وكلها لحرب الإسلام. فالدعاة يحاربون سراً وجهراً وبمخططات جهنمية توضع للقضاء على الإسلام والمسلمين. ولقد أعجبتني كلمة للعقاد رحمه الله وردت في كتابه "عبقرية الصديق" يذكر فيها الأسباب والأصناف من الناس التي تصد عن الدعوة وعن الاستجابة للمصلحين قال: "يمنعهم أن يجيبوا الدعوة إلى المصلحين غطرسة أو سيادة مهددة، أو مصلحة في بقاء القديم ومحاربة الجديد، أو ذهن مغلق لا ينفتح للفهم والتذكير، أو مغامسة الشهوات التي تحبب إليه أن يستنيم إلى الذي يبيحها، ويعزف عن الهداية التي تخطرها، وتقف في سبيلها، أو تعصب غضوب للعقيدة في أبناء قومه، سواء منهم المتعصبون لها والقابلون لها على المجاراة أو المدراة، أو جبن ينهاهم أن يخرج على المألوف ويتصدى لسخط الساخطين وأن يتبين طريق الاستقامة والسداد أو إيضال في الشيخوخة يصد الإنسان عن كل تغيير، ويميل به إلى تواكل ومتابعة وتقليد أو حداثة سن تجعله تابعاً لغيره في الرأي والخليقة وتجعل له شرة تحجبه عن التروية والمراجعة، أو ذلة مطبوعة تلحقه بمن أذله وبسط سلطانه عليه" . انتهى "عبقرية الصديق" ص95.
وليعلم الدعاة أن الغرب والشرق كلهم يد واحدة ومعسكر واحد لحرب الإسلام والمسلمين، وما وجود (إسرائيل) في قلب البلاد العربية وهي قلب العالم الإسلامي النابض إلا لعبة صليبية شيوعية خبيثة المراد منها القضاء على الإسلام والمسلمين.
والكثير من الحكام المستبدين يؤتى بهم إلى الحكم من قبل هؤلاء أو أولئك ليقفوا سداً منيعاً في وجه الزحف الإسلامي الذي يخافه الشرق والغرب معاً، ويعمل جهده على قتله وطمسه، فالحكام المستبدون الذين يحاربون الإسلام عملاء لهؤلاء أو أولئك وهم تلاميذ صغار للكفرة الملحدين أعداء الدين في كل عصر وحين. يقول المستشرق ولفرد كانتول سميث في كتابه: "الإسلام المعاصر" ص104 : "إن الغرب يوجه كل أسلحته الحربية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية لحرب الإسلام وأنه خلق إسرائيل في قلب العالم الإسلامي كجزء من هذا البرنامج المرسوم".
ليعرف المسلمون هذا وينتبهوا إلى ما يراد بهم، وبدينهم وأمتهم، ويكونوا على مستوى المسئولية، وليعرف الدعاة أصناف أعدائهم، وقوتهم ولكنهم بفضل الله مع كل تلك القوى الشريرة المجتمعة على حربهم، وإبادتهم إن صدقوا في دعوتهم واستعلوا على الشدائد وساروا بعزم وصدق وإخلاص وصبر، كان النصر حليفهم وكان الله معهم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. والرسول عليه الصلاة والسلام قد بشرنا بوجود طوائف من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله". [رواه مسلم والترمذي وأبو داود]. وهذه الطائفة في كل بلد ذكر اسم الله فيه، فهو بلد الإسلام، وهذه هي إرادة الله عز وجل لا ينخفض صوت يدعو إلى الإسلام إلا ارتفعت أصوات، ولا يخبو نور إلا أضيئت أنوار، وتلألأت مشاعل، ولا يزال تبارك وتعالى يرسل لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله عز وجل ليبعث على رأس كل قرن لهذه الأمة من يجدد لها دينها". [رواه أبو داود والحاكم].
نقلا من كتاب من القرآن …. وإلى القرآن الدعوة والدعاة
تأليف محمد محمود الصواف
بقلم الشيخ محمد محمود الصواف ( رحمه الله)
الدعاة الذين يعملون لقلب الأوضاع المنحرفة، وإصلاح الأحوال الفاسدة وتحويل المجتمعات الإسلامية التي عملت فيها معاول الهدم والتخريب حتى غيرت وهدمت الكثير من أخلاقها وعقائدها وحصونها وقلاعها إلى مجتمعات إسلامية صحيحة سليمة من آفات المبادئ الضالة والفتن المتعددة والمختلفة المصادر والموارد هؤلاء الدعاة لابد أن تتوفر فيهم صفات ومؤهلات لا محيد عنها لتحقيق الغاية الكبرى التي يهدفون إليها في دعوتهم. وشخصية الداعي هي العامل الأساسي في نجاحه في مهمته الإصلاحية الكبيرة.
وهنا سأعرض لأهم الصفات التي ينبغي أن تتوفر فيمن يتصدر للقيام بهذا العمل الإسلامي الكبير وهو الدعوة إلى الله والذي من أجلها وهب نفسه لله وعاهده على نصرة دينه وإعلاء كلمته.
1. ولعل هذا هو الشرط الأول لمن أراد أن يدخل المعمعة والحرب الضروس وهو: أن يهب الداعي نفسه لله ويعاهد الله على نصرة دينه وإعلاء كلمته ويدخل المعركة بإيمان عميق وشجاعة فائقة لا يخاف أحداً إلا الله، ولا يرهب الموت ولا يخشى الردى. قال تعالى: (الذين يبلغون رسالات الله ولا يخشون أحداً إلا الله) .
2. والشرط الثاني: الحرص على تقوى الله في جميع الحالات وتقوية الصلة بالله والإنابة إلى الله في كل صغيرة وكبيرة وازدياد الإيمان والثقة المطلقة بالله عز وجل وأنه تعالى هو الذي يحميك وهو الذي ينصرك، وهو الذي يصرف عنك كيد أعدائك.
إن حرارة الإيمان في قلب الداعي هي التي تستطيع أن تدخل الدفء والحرارة في قلوب الآخرين الذين خوت قلوبهم وجمدت. إن الداعي لا يستطيع أن يعيد الإيمان والثقة بالله في نفوس الآخرين ويملأها حماسة دينية إذا لم يكن هو قد امتلأ إيماناً وحماسة، وقوة روحيه فائقة وثقة بالله مطلقة . إن الدعاة الصادقين الذين سبقونا والذين قاموا بخلافة النبوة ونفخوا في المجتمعات الإسلامية روحاً جديداً، واستطاعوا أن يقفوا سداً منيعاً دون انحراف الناس وسقوطهم في أودية الشهوات والضلالة السحيقة، كما استطاعوا بفضل الله أولاً ثم بفضل الله جهادهم وحنكتهم وحماستهم في تبليغ الدعوة أن يستنقذوا من سقط من الناس في حبائل الشيطان. إن جميع هؤلاء الدعاة كانوا من أهل الله، وكانت ثقتهم بالله، وصلتهم بالله على أحسن ما تكون الصلة بين العبد وربه، والمخلوق وخالقه. ولم يغيروا ولم يبدلوا ولم تستطع سياط الرؤساء والملوك، ولا سماطهم وموائدهم، ولا ثرواتهم ومناصبهم أن تشتري ضمائر هؤلاء الدعاة. الذين استولى على مشاعرهم حب الآخرة والشوق إلى لقاء الله، والحنين إلى الجنة، ولقد رسخ فيهم ذكر الله تعالى وتغلغل في أحشائهم، وأشرقت قلوبهم بنور الله وتنورت لياليهم، وطابت أسحارهم ورضوا عن الله. لذا فقد آثروا الآخرة على الدنيا وقنعوا باليسير، وتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حياتهم وزهدهم وعبادتهم وقناعتهم، واتخذوهم المثل العلى والقدوة العظمى ، بهذا أفلحوا وبهذا نجحوا- وبهذا استطاعوا أن يؤثروا في عصرهم تأثيراً عميقاً، ويقلبوا المفاهيم وينقذوا الناس من الظلمات إلى النور.
3. الشرط الثالث: الإخلاص والتجرد عن المطامع الدنيوية وربما يكون هذا الشرط هو الأول. إذ أن الله تبارك وتعالى لا يقبل عملاً تجرد من الإخلاص. والإخلاص أن تقصد بعملك وجه الله وحده، طالباً رضاه، راغباً في ثوابه، أو خائفاً من عقابه. وأن تتجرد من حب ثناء الناس، أو طلب الجاه، أو ابتغاء الشهرة والظهور فإن حب الظهور- كما قد قيل- يقصم الظهور. وإذا كان عمل الداعي غير خالص لوجه الله، فقد حبط عمله. جاء في الحديث القدسي كما رواه ابن ماجة: أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو الذي أشرك ومن ابتغى غير وجه الله في عمله كان عمله وبالاً عليه في الآخرة وإن كان صلاة أو جهاداً أو علماً. والصحابة الكرام كانوا يخشون الظهور بمظهر يدل على الرياء وعدم الإخلاص لله عز وجل فقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يطأطأ رأسه ويلوي رقبته فقال له: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب. وهذا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه عدي بن حاتم حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤمر يوم القيامة بناس من النار إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها وما أعد لأهلها فيها نودوا أن اصرفوهم عنها، فلا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها يقولون: ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا الجنة". وفي رواية أخرى "قبل أن ترينا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك، لكان أهون علينا. قال: ذاك أردت بكم. كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين. تراءون بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلوني، وتركتم للناس ولم تتركوا لي. اليوم أذيقكم أليم العذاب مع ما حرمتم من ثواب" [رواه الطبراني في الكبير والبيهقي].
ليكن الإخلاص شعار الدعاة، وطريقهم إلى الله، وهم أحوج ما يحتاجون إلى الإخلاص. فهم في صراع دائم، وكفاح مستمر مع الطغاة والمتجبرين، ومع الشر والأشرار، والفساد والمفسدين. إن أفضل سلاح نستطيع أن نحارب به هذه المادية الطاغية هو سلاح الإخلاص والزهد في حطام الدنيا، والتجرد عما يتكالب عليه الناس، ويتهالكون عليه من الجاه والمنصب وفضول الأموال الفانية، والألقاب الفارغة. والمجتمعات مهما بلغت من الفساد والمادية والغباوة والعنجهية فإنها لا تزال تقر بالفضل للمخلصين وتشهد لهم بالإخلاص. وإن حاربتهم بكل وسائلها وسلاح الإخلاص حارب به المخلصون ورؤوسهم عالية، وجباههم بيضاء ناصعة تجردوا عن المطامع، وعزفوا عن الشهوات فسبقوا وعزوا. مع العلم بأن الكثير منهم عاش على الزهد والتقشف وكانوا في شظف من العيش بل كان الفقر فخرهم. لذا قدر لهم البقاء والخلود في بطون التاريخ، وكانوا أئمة صادقين مخلصين بارك الله في أعمالهم، ورزقهم القبول والتثبيت، وهم في الآخرة أشد قبولاً، وأكثر تبييتاً واحبهم الله وأحبهم الناس. قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال له عليه الصلاة والسلام: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" [رواه ابن ماجة بإسناد حسن وذكره صاحب سبل السلام ج4 ص177].
4. العزم والثبات وقوة الإرادة: هذا هو الشرط الرابع والذي يرجع الفضل في نجاح الداعي في انقلاب الأوضاع الفاسدة، وتحول التيار الهدام مهما كان قوياً وعنيفاً، فإن عزيمة الداعي وقوة إرادته وثباته على دعوته، وتفانيه في سبيل نصرتها هي التي تكفل له النجاح ولدعوته الرفعة والفلاح. وإذا فتشنا بطون التاريخ عن أولئك الذين حولوا مجراه، وأزالوا الأخطار المحيطة بشعوبهم، وأعادوا الحياة والثقة والإيمان إلى أممهم وبعثوا فيها روح الجهاد ونفخوا فيها روح العمل. إننا لم نجد حركة إصلاحية قديماً أو حديثاً قامت بعمل كبير إلا ووراء هذه الحركة رجل داع إلى الله صحت عزيمته، وقويت إرادته وملكت عليهم دعوته قلبه وفكره، واستولت على مشاعره وعواطفه وتفكيره. فهو يعيش بها ويعيش لها. إذ قد اختلطت الدعوة بدمه ولحمه فلا تفارقه ولا يفارقها، وقد وهب للدعوة حياته، وجهده ، وماله، ووقته. ولولا عزيمة الرسول عليه الصلاة والسلام وثباته وقوة إرادته أمام تلك المؤامرات الخطيرة التي تهتز لها الجبال هزاً، ماذا كان يكون شأن الدعوة لولا صموده وجهاده المتواصل وعزيمته الجبارة التي تتمثل في قولته الخالدة أمام عمه: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه". وماذا كان يكون شأن الإسلام- وهو الدعوة- حينما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وتولى الخلافة أبو بكر الصديق ثم بدأت الردة وكاد الأمر ينفرط لولا لطف الله أولاً ثم عزيمة الخليفة الراشد أبو بكر رضي الله عنه وقوة إرادته وثباته أمام تلك المحنة القاسية وتتمثل قوة عزيمته بقولته المشهورة: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحاربتهم عليه. واله لأقاتلن من يفرق بين الصلاة والزكاة. ولمثل هذا وبمثل هذا فليعمل العاملون. وليسر الدعاة المخلصون.
5. اقتفاء آثار الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا هو الشرط الخامس. فعلى الداعي البصير أن يعمل بالسنة وللسنة وأن يقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع خطواته وأعماله، فمن طلب النجاح والفلاح والمغفرة والحب فعليه باتباع الرسول ذلك ما أرشدنا الله إليه وأمرنا به. قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم" . وقال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) [الأحزاب: 21]. والداعي الموفق السعيد هو الذي يهتدي لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وترسم خطاه، وان يحب ما يحب ويكره ما يكره، وأن يداوم على ما داوم عليه الرسول من السنن، ويتبعه في سيرته وشمائله وأخلاقه وآدابه، وأساليبه وطرقه التي سلكها في دعوته إلى الله. فهو عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى للدعاة ويا سعادة من أحيا سنة من سننه فله أجرها واجر من عمل بها إلى يوم الدين. وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم سيرة للبشرية جمعاء وأشملها وأقومها وهي السيرة الخالدة التي حفظها الله لنا لتبقى نوراً للدعاة، وحجة على الناس وسنته هي السنة المطهرة الزكية العطرة وترك العمل بالسنة هدم للإسلام وتقويض لبنيانه. يقول الأستاذ محمد أسد في كتابه: " الإسلام على مفترق الطرق" (ص87): "إن العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وإن ترك السنة هو انحلال الإسلام .. لقد كانت السنة الهيكل الحديدي الذي قام عليه صرح الإسلام. وانك إذا أزلت هيكل بناء ما أفيدهشك أن يتقوض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟؟". انتهى. فالسنة. السنة أيها الدعاة المخلصون إنها النور والمشعل المضيء بعد القرآن العظيم ونوره المبين.
6. الصبر والاستعلاء على الشدة والبلاء: وهذا هو الشرط السادس لنجاح الدعاة في مهمتهم الثقيلة الشاقة. فطريق الدعوة طريق شائك شاق، والبات عليه، والاستمرار على السير فيه ليس بالأمر الهين البسيط، ولحمل لجبل أخف وأهون من حمل الدعوة، ولكن هذا الأمر الصعب يسير على من يسره الله عليه، وخفيف على من صبر في الله، واستعلى على المحنة وثبت على الشدة والبلاء.
والمحن طريق الأنبياء، وسبيل الأصفياء، من عباد الله الخلصاء. قال تعال في افتتاح سورة العنكبوت: "ألم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" . فالمؤمنون الدعاة يمتحنون، ويصيبهم البلاء ليظهر صدقهم، ويؤذون لتزداد أجورهم، حتى تتكون الفئة المؤمنة الصابرة القوية ثم تنطلق بدعوتها لتحطم الباطل وكل ما يقف في وجهها من عقبات وصعاب. وسيزداد هذا البلاء والامتحان كلما ازداد الإيمان حتى يكتمل، فإذا اكتمل حان موعد النصر وصدق الله وعده (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) لذا قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإذا كان في دينه صلابة زيد في البلاء.[ ذكره ابن كثير ج3 ص 404]. وروى الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أتت علي ثلاثون من يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال" [ البناء والهدم في الدعوات للأستاذ عبد العزيز كامل ص84] . كما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" [ رواه ابن ماجة].
فلابد من البلاء ولابد من المحن والمصائب. تلك سنة الله حتى مع الأنبياء الأصفياء والدعاة ورثة الأنبياء وحملوا مشاعل النور التي حملها أئمتهم من صفوة الله تبارك من عباده المخلصين فلابد أن يصيبهم ما أصاب أسلافهم فعليهم أن يصبروا ويستعلوا على كل شدة تصيبهم فإن النصر مع الصبر، وإن مع العسر يسراً. فمن أراد تغيير المجتمع، وإصلاحه وقيادته إلى الطريق المستقيم، لابد أن تقف في وجه العقبات، ولابد أن تجتمع جحافل الشياطين من الإنس والجن لتصده عن دعوته، وصيحة الدعاة هي صيحة الحق التي تصخ آذان المفسدين، وتربك عمل الشياطين، وتطمر عليهم خططهم في الإفساد والإضلال.
والدعاة رجال إصلاح ولا يمكن أن ينجو المصلح من الشدائد والمحن، وهنا أذكر كلمة أعجبتني للشيخ محمد أحمد العدوي رحمه الله جاءت في كتابه "دعوة الرسل" والذي أنصح كل داعية أن يقرأ هذا الكتاب النفيس قال: "كيف ينجو المصلح من هذه الشدائد ومهمته أن يحول بين النفوس وشهواتها، والقلوب وأهوائها، يحاول أن يرسم لها طريقاً غير طريقها، يباعد بينها وبين ما ألفت من الشهوات، ويقارب بينها وبين ما تركت من الفضائل، فهو مرب يريد أن يخلق الناس خلقاً جديداً، ومهذب يريد أن ينشئهم نشأة صالحة، ويؤلف بين غرائزهم ويوفـق بين أهوائهم المتفاوتة".
والإسلام اليوم عندما ندعو اليه بإخلاص وجد ووعي وبصيرة فإننا سوف نلاقي ما لاقاه رسولنا وقدوتنا وأسوتنا محمد عليه الصلاة والسلام وما لاقاه صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فقد بدأ الإسلام غريباً، وعاد غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء خاصة في هذا العصر عصر الفتن والمحن والشدائد والمصائب وإذا كان سلفنا الصالح قد حورب من طبقات جاهلة، ورئاسات فاشلة، وقبائل خاملة، وشعوب متحاربة متقاتلة. فإننا اليوم نُحارَب من طبقات تزعم أنها مثقفة بل نحارب من حكومات كافرة أجمعت أمرها، واجتمعت كلمتها على أن تحارب الإسلام وتتحد جميعاً في صد دعوته والقضاء على رجاله وهي أقوى الدول وتحمل أفتك الأسلحة وأخطرها.
وفي الكثير من ديار الإسلام أئمة مضلون يعملون جهدهم لهدم الإسلام وتقويض أركانه، وهدم بنيانه، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن زياد بد حدير، قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين. رواه الدارمي.
وهناك جمعيات سرية تنفق عليها الملايين وكلها لحرب الإسلام. فالدعاة يحاربون سراً وجهراً وبمخططات جهنمية توضع للقضاء على الإسلام والمسلمين. ولقد أعجبتني كلمة للعقاد رحمه الله وردت في كتابه "عبقرية الصديق" يذكر فيها الأسباب والأصناف من الناس التي تصد عن الدعوة وعن الاستجابة للمصلحين قال: "يمنعهم أن يجيبوا الدعوة إلى المصلحين غطرسة أو سيادة مهددة، أو مصلحة في بقاء القديم ومحاربة الجديد، أو ذهن مغلق لا ينفتح للفهم والتذكير، أو مغامسة الشهوات التي تحبب إليه أن يستنيم إلى الذي يبيحها، ويعزف عن الهداية التي تخطرها، وتقف في سبيلها، أو تعصب غضوب للعقيدة في أبناء قومه، سواء منهم المتعصبون لها والقابلون لها على المجاراة أو المدراة، أو جبن ينهاهم أن يخرج على المألوف ويتصدى لسخط الساخطين وأن يتبين طريق الاستقامة والسداد أو إيضال في الشيخوخة يصد الإنسان عن كل تغيير، ويميل به إلى تواكل ومتابعة وتقليد أو حداثة سن تجعله تابعاً لغيره في الرأي والخليقة وتجعل له شرة تحجبه عن التروية والمراجعة، أو ذلة مطبوعة تلحقه بمن أذله وبسط سلطانه عليه" . انتهى "عبقرية الصديق" ص95.
وليعلم الدعاة أن الغرب والشرق كلهم يد واحدة ومعسكر واحد لحرب الإسلام والمسلمين، وما وجود (إسرائيل) في قلب البلاد العربية وهي قلب العالم الإسلامي النابض إلا لعبة صليبية شيوعية خبيثة المراد منها القضاء على الإسلام والمسلمين.
والكثير من الحكام المستبدين يؤتى بهم إلى الحكم من قبل هؤلاء أو أولئك ليقفوا سداً منيعاً في وجه الزحف الإسلامي الذي يخافه الشرق والغرب معاً، ويعمل جهده على قتله وطمسه، فالحكام المستبدون الذين يحاربون الإسلام عملاء لهؤلاء أو أولئك وهم تلاميذ صغار للكفرة الملحدين أعداء الدين في كل عصر وحين. يقول المستشرق ولفرد كانتول سميث في كتابه: "الإسلام المعاصر" ص104 : "إن الغرب يوجه كل أسلحته الحربية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية لحرب الإسلام وأنه خلق إسرائيل في قلب العالم الإسلامي كجزء من هذا البرنامج المرسوم".
ليعرف المسلمون هذا وينتبهوا إلى ما يراد بهم، وبدينهم وأمتهم، ويكونوا على مستوى المسئولية، وليعرف الدعاة أصناف أعدائهم، وقوتهم ولكنهم بفضل الله مع كل تلك القوى الشريرة المجتمعة على حربهم، وإبادتهم إن صدقوا في دعوتهم واستعلوا على الشدائد وساروا بعزم وصدق وإخلاص وصبر، كان النصر حليفهم وكان الله معهم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. والرسول عليه الصلاة والسلام قد بشرنا بوجود طوائف من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله". [رواه مسلم والترمذي وأبو داود]. وهذه الطائفة في كل بلد ذكر اسم الله فيه، فهو بلد الإسلام، وهذه هي إرادة الله عز وجل لا ينخفض صوت يدعو إلى الإسلام إلا ارتفعت أصوات، ولا يخبو نور إلا أضيئت أنوار، وتلألأت مشاعل، ولا يزال تبارك وتعالى يرسل لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله عز وجل ليبعث على رأس كل قرن لهذه الأمة من يجدد لها دينها". [رواه أبو داود والحاكم].
نقلا من كتاب من القرآن …. وإلى القرآن الدعوة والدعاة
تأليف محمد محمود الصواف