مصطفى بن بولعيد
من مواليد 5 فيفري 1917 بقرية "اينركب" بأريس ولاية باتنة وعائلته تنتمي إلى عرش " التوابة" ميسورة الحال وتملك الأراضي.
تلقى كجل الأطفال الجزائريين آنذاك تكوينا تقليديا على أيدي مشايخ منطقته يتمثل في حفظ ما تيسر له من القرآن الكريم بعد هذا التحصيل تحول إلى عاصمة الولاية باتنة للإلتحاق بمدرسة الأهالي الإبتدائية لمواصلة دراسته، ثم انتقل إلى الطور الإعدادي.
وهنا لاحظ بن بولعيد سياسة التفرقة والتمييز التي تمارسها الإدارة الاستعمارية بين الأطفال الجزائريين واقرانهم من أبناء المعمرين. وخوفا من تأثر ولده وذوبانه في الشخصية الاستعمارية أوقف والد بن بولعيد ولده عن الدراسة بالكوليج، لكن طموح الفتى وإرادته في تحصيل المزيد من العلوم دفعه إلى الالتحاق بمدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في آريس وكان يشرف عليها آنذاك مسعود بلعقون والشيخ عمر دردور، وفي هذه الأثناء كان يساعد والده في الأشغال المتعلقة بخدمة الأرض وكذلك التجارة غير أن وفاة الوالد في 7 مارس 1935 قلبت حياة الشهيد الذي أصبح المسؤول الأول عن عائلته وهو في الثامنة عشر من عمره. ونظرا لمشاهد البؤس اليومية التي كانت تعيشها الطبقات المحرومة أسس بن بولعيد جمعية خيرية كان من أول ما قامت به هو بناء مسجد بآريس ليكون محورا للتعاون والتضامن بين المواطنين، خاصة التصدي لروح التفرقة و التناحر بين العروش التي كانت تغذيها السلطات الاستعمارية وأذنابها للتحكم في العباد والأوضاع وكان نشاط بن بولعيد الاجتماعي عملا إستراتيجيا يرمي من ورائه إلى توثيق اللحمة والأواصر التي تربط بين أبناء المنطقة للتمسك بها عند الشدائد.
ونظرا لحالة البؤس التي كانت تتخبط فيها منطقة الأوراس في فترة ما بين الحربين العالميتين على غرار باقي مناطق الوطن سافر بن بولعيد سنة 1937 إلى فرنسا واستقر بمنطقة (ميتز) التي تكثر بها الجالية الجزائرية من العمال المحرومين من كل الحقوق وقد مكنته مواقفه في حل مشاكلهم والدفاع عنهم إلى ترأس نقابتهم.
لكن غربته لم تدم أكثر من سنة حيث عاد بعدها إلى مسقط رأسه وإلى نشاطه الأول والمتعلق بالفلاحة والتجارة. ومع الوقت تحول محله التجاري إلى شبه ناد يتردد عليه شباب المنطقة من أمثال مسعود عقون، ابن حاية وغيرهم للخوض في الأوضاع التي كانت تعيشها البلاد.
في بداية 1939 استدعي بن بولعيد لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية وتم تسريحه في 1942 نتيجة الجروح التي أصيب بها ثم تم تجنبده ثانية ما بين 1943 –1944 بخنشلة. بعد تسريحه نهائيا برتبة مساعد عاد إلى الحياة المدنية وتحصل على رخصة لاستغلال خط نقل بواسطة الحافلات يربط بين أريس- باتنة.
وفي هذه الأثناء انخرط بن بولعيد في صفوف حزب الشعب حركة انتصار الحريات الديموقراطية بأريس تحت قيادة مسعود بلعقود وقد عرف بالقدرة الكبيرة على التنظيم والنشاط الفائق مما دفع بالحزب إلى ترشيحه لانتخابات المجلس الجزائري في 4/04/1948 والتي فاز بالدور الأول منها لكن الإدارة الفرنسية لجأت إلى التزوير كعادتها لتزكية أحد المواليين لسياستها. وقد تعرض بن بولعيد إلى محاولتي اغتيال من تدبير العدو وذلك في 1949 و1950 ، كما تعرض أخوه عمر إلى محاولة اغتيال في 1951 .
يعتبر بن بولعيد من الطلائع الأولى التي انضمت إلى المنظمة السرية بمنطقة الأوراس كما كان من الرواد الأوائل الذين أنيطت بهم مهمة تكوين نواة هذه المنظمة في الأوراس التي ضمت آنذاك خمسة خلايا نشيطة واختيار العناصر القادرة على جمع الأسلحة والتدرب عليها والقيام بدوريات استطلاعية للتعرف على تضاريس الأرض من جهة ومن جهة ثانية تدبر امكانية إدخال الأسلحة عن طريق الصحراء. وفي هذا الشأن يقول عبد القادر العمودي أحد أعضاء مجموعة الـ22 في الحديث الذي أدلى به للمركز:" أصدر الحزب أمرا بشراء الأسلحة لغرضين:
- شراء سلاح وذخيرة يوجه لتحضير انطلاق الثورة كاحتياط استراتيجي.
- شراء سلاح يوجه لتدريب المناضلين.
وقد أحضر محمد بلوزداد الأموال اللازمة لذلك وسلمها لمحمد عصامي مسؤول الحزب في بسكرة وكلف هذا الأخير أحمد ميلودي ومحمد بلحاج بالذهاب إلى ليبيا لشراء السلاح في رحلة على الجمال دامت 20 يوما وتمكنا من النجاح وعادا إلى الوادي وخزنا السلاح لدى المناضل عدوكة بلقاسم. وبعد فترة نقل عبد القادر العمودي ومجموعة من المناضلين حمولة 7 جمال من السلاح والذخيرة من الوادي إلى زريبة حامد وقد أعطى العمودي بصفته مسؤولا عن المنطقة الأمر لمصطفى بن بولعيد لتدبر أمر نقل هذا السلاح من زريبة حامد إلى الأوراس وهذا ما تم فعلا".
بعد اكتشاف المنظمة السرية من قبل السلطات الاستعمارية في مارس 1950 برز دور بن بولعيد بقوة لما أخذ على عاتقه التكفل بإيواء بعض المناضلين المطاردين وإخفائهم عن أعين العدو وأجهزته الأمنية، وقد أعقب اكتشاف المنظمة حملة واسعة من عمليات التمشيط والاعتقال والاستنطاق الوحشي بمنطقة الأوراس على غرار باقي مناطق الوطن. ولكن بالرغم من كل المطاردات والمضايقات وحملات التفتيش والمداهمة تمكن بن بولعيد بفضل حنكته وتجربته من الإبقاء على المنظمة الخاصة واستمرارها في النشاط على مستوى المنطقة. وبالموازاة مع هذا النشاط المكثف بذل مصطفى بن بولعيد كل ما في وسعه من أجل احتواء الأزمة بصفته عضو قيادي في اللجنة المركزية للحزب. وقد كلف بن بولعيد في أكتوبر 1953 وبتدعيم من نشطاء L’OS بالاتصال بزعيم الحزب مصالي الحاج الذي كان قد نفي في 14 ماي 1954 إلى فرنسا ووضع تحت الإقامة الجبرية، وذلك في محاولة لإيجاد حل وسطي يرضي المركزيين والمصاليين لكن تعنت مصالي وتمسكه بموقفه أفشل هذا المسعى. ومرة أخرى يحاول بن بولعيد في محاولة ثانية لإيجاد مخرج من الأزمة التي يتخبط فيها الحزب الإتصال بمصالي الحاج بنيور NIORT في الفترة من 23 إلى 26 فيفري 1954 غير أن جواب هذا الأخير كان بإعلان ميلاد "لجنة الإنقاذ العام" في الشهر الموالي (مارس).
وأمام انسداد الأفق وتصلب المواقف توصل أنصار العمل الثوري المسلح وفي طليعتهم بن بولعيد إلى فكرة إنشاء "اللجنة الثورية للوحدة والعمل" والإعلان عنها في 06 مارس 1954 من أجل تضييق الهوة التي تفصل بين المصاليين والمركزيين من جهة وتوحيد العمل والالتفاف حول فكرة العمل الثوري من جهة ثانية.
وفي محاولة أخيرة تنقل مصطفى بن بولعيد إلى مدينة هورنو (بلجيكا) في النصف الثاني من شهر جويلية 1954 للمشاركة في أشغال مؤتمر المصاليين من أجل التوصل إلى تقريب رؤى الطرفين المتناحرين حتى يتفرغ الجميع للقضية الأساسية ألا وهي تحرير الوطن ولا يتأتى ذلك إلا بتوحيد جهود كل أبناء الوطن المخلصين ومرة أخرى يمنى مشروع بن بولعيد بالفشل في مسعاه.
وأمام هذا الانسداد السياسي لم يجد بن بولعيد أمامه من سبيل إلا التنصل من الخصمين المتصارعين (المركزيين والمصاليين) والتفرغ للهدف الأسمى ألا وهو التحضير بجدية للعمل الثوري الكفيل بإخراج الجزائر من محنة الاستعمار. وبعد عدة اتصالات مع بقايا التنظيم السري L’OS تم عقد اللقاء التاريخي لمجموعة الـ22 بدار المناضل المرحوم الياس دريش بحي المدنية في 24 جوان 1954 ( 1) الذي حسم الموقف لصالح تفجير الثورة المسلحة لاسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة منذ اكثر من قرن مضى. ونظرا للمكانة التي يحظى بها بن بولعيد فقد أسندت إليه بالإجماع رئاسة اللقاء الذي انجر عنه تقسيم البلاد إلى مناطق خمس وعين على كل منطقة مسؤول وقد عين مصطفى بن بولعيد على راس المنطقة الأولى: الأوراس كما كان أحد أعضاء لجنة "الستة" (بوضياف، ديدوش، بن بولعيد، بيطاط، بن مهيدي، كريم).
ومن أجل توفير كل شروط النجاح والاستمرارية للثورة المزمع تفجيرها، تنقل بن بولعيد رفقة: ديدوش مراد، محمد بوضياف ومحمد العربي ين مهيدي إلى سويسرا خلال شهر جويلية 1954 بغية ربط الاتصال بأعضاء الوفد الخارجي (بن بلة، خيضر وآيت أحمد) لتبليغهم بنتائج اجتماع مجموعة الـ22 من جهة وتكليفهم بمهمة الإشراف على الدعاية لصالح الثورة وطرق كل الأبواب قصد إمدادها بأكبر قدر ممكن من الأسلحة ومن مختلف المصادر.
ومع اقتراب الموعد المحدد لتفجير الثورة تكثفت نشاطات بن بولعيد من أجل ضبط كل كبيرة وصغيرة لإنجاح هذا المشروع الضخم، وفي هذا الإطار تنقل بطلنا إلى ميلة بمعية كل من محمد بوضياف وديدوش مراد للاجتماع في ضيعة تابعة لعائلة بن طوبال وذلك في سبتمبر 1954 بغرض متابعة النتائج المتوصل إليها في التحضير الجاد لإعلان الثورة المسلحة ودراسة احتياجات كل منطقة من عتاد الحرب كأسلحة والذخيرة. ومن ضمن ما تم الإتفاق عليه في هذا اللقاء هو استظهار الأسلحة المخبأة بالأوراس ونقل قسط منها إلى بعض جهات الوطن. وهكذا تحصلت المنطقة الثانية (الشمال القسنطيني) على 30 قطعة والمنطقة الثالثة (القبائل) على 80 قطعة بينما تم توزيع الأسلحة المتبقية على مختلف الأفواج للقيام بالعمليات المقررة في ليلة فاتح نوفمبر 1954 في منطقة الأوراس.و في 10 أكتوبر 1954 التقى بن بولعيد، كريم بلقاسم ورابح بيطاط في منزل مراد بوقشورة بالرايس حميدو وأثناء هذا الإجتماع تم الإتفاق على:
1. إعلان الثورة المسلحة بإسم جبهة التحرير الوطني.
2. إعداد مشروع بيان أول نوفمبر 1954 .
3. تحديد يوم 22 أكتوبر 1954 موعدا لإجتماع مجموعة الستة لمراجعة مشروع بيان أول نوفمبر وإقراره.
4. تحديد منتصف ليلة الإثنين أول نوفمبر 1954 موعدا لانطلاق الثورة المسلحة.
وطيلة المدة الفاصلة بين الإجتماعين لم يركن بن بولعيد إلى الراحة بل راح ينتقل بين مختلف مناطق الجهة المكلف بها (الأوراس) ضمن العديد من الزيارات الميدانية للوقوف على الاستعدادات والتحضيرات التي تمت وكذا التدريبات التي يقوم بها المناضلون على مختلف الأسلحة وصناعة القبائل والمتفجرات التقليدية. وفي التاريخ المحدد التأم شمل الجماعة التي ضمت: بن بولعيد، بوضياف، بيطاط، بن مهيدي، ديدوش وكريم وذلك بمنزل مراد بوقشورة أين تم الإتفاق على النص النهائي لبيان أول نوفمبر 54 إثر مراجعته والتأكيد بصورة قطعية على الساعة الصفر من ليلة فاتح نوفمبر 54 لتفجير الثورة المباركة وأجمع الحاضرون على إلتزام السرية بالنسبة للقرار النهائي التاريخي والحاسم ثم توجه كل واحد إلى المنطقة التي كلف بالإشراف عليها في انتظار الساعة الصفر والإعداد لإنجاح تلك العملية التي ستغير مجرى تاريخ الشعب الجزائري. وهكذا عقد بن بولعيد عدة اجتماعات بمنطقة الأوراس حرصا منه على انتقاء الرجال القادرين على الثبات وقت الأزمات والشدائد، منها اجتماع بلقرين يوم 20/10/1954 الذي حضره الكثير من مساعديه نذكر منهم على الخصوص: عباس لغرور، شيهاني بشير،عاجل عجول والطاهر نويشي وغيرهم وخلال هذا اللقاء أعلم بن بولعيد رفاقه بالتاريخ المحدد لتفجير ثورة التحرير كما وزع على الحضور بيان أول نوفمبر وضبط حصة كل جهة من الأسلحة والذخيرة المتوفرة. وقبل مرور أسبوع على هذا اللقاء عقد بن بولعيد اجتماعين آخرين في 30 أكتوبر 1954 أحدهما في دشرة (اشمول) والآخر بخنقة الحدادة التقى أثناءهما بمجموعة من أفواج المناضلين وألقى كلمة حماسية شحذ فيه همم الجميع. وفي الغد عقد اجتماعا قبل الساعة صفر، وقد ضم هذا الأخير قادة النواحي والأقسام وفيه تقرر تحديد دشرة أولاد موسى وخنقة لحدادة لإلتقاء أفواج جيش التحرير الوطني واستلام الأسلحة وأخذ آخر التعليمات اللازمة قبل حلول الموعد التاريخي والإنتقال إلى العمل المسلح ضد الأهداف المعنية. وكان السلاح قد استخرج من مطامر قرية الحجاج وتم جرده، تنظيفه وإعداده للحظة الحسم. وفي تلك الليلة قال بن بولعيد قولته الشهيرة:" إخواني سنجعل البارود يتكلم هذه الليلة." وتكلم البارود في الموعد المحدد وتعرضت جل الأهداف المحددة إلى نيران أسلحة جيس التحرير الوطني وسط دهشة العدو وذهوله. وفي صبيحة يوم أول نوفمبر 54 كان قائد منطقة الأوراس مصطفى بن يولعيد يراقب ردود فعل العدو من جبل الظهري المطل على أريس بمعية شيهاني بشير، مدور عزوي، عاجل عجول ومصطفى بوستة. وقد حرص بن بولعيد على عقد اجتماعات أسبوعية تضم القيادة ورؤساء الأفواج لتقييم وتقويم العمليات وتدارس ردود الفعل المتعلقة بالعدو والمواطنين، وبعد تضييق العدو الخناق على الثورة بالأوراس انتقلت قيادة المنطقة الأولى إلى مشونش المنيعة لتعود بعد شهر فقط إلى كيمل.
وبعد حوالي شهرين من اندلاع الثورة أي في أواخر ديسمبر 54 اتجه بن بولعيد إلى مدينة بسكرة للإتصال بمحمد بلحاج لمده بالأسلحة لكن هذا الأخير كان قد أعطى ما عنده للمصاليين مخيبا بذلك ظن قائد الأوراس. وفي طريق العودة إلى مقر القيادته نجى بن بولعيد بأعجوبة من الحصار في غسيرة. وفي بداية شهر جانفي 1955 عقد هذا الأخير اجتماعا في تاوليليت مع إطارات الثورة تناول بالأخص نقص الأسلحة والذخيرة، وقد فرضت هذه الوضعية على بن بولعيد اعلام المجتمعين بعزمه على التوجه إلى بلاد المشرق بهدف التزود بالسلاح ومن ثم تعيين شيهاني بشير قائدا للثورة خلال فترة غيابه ويساعده نائبان هما: عاجل عجول وعباس لغرور. وكذلك تشكيل الدورية التي ترافقه إلى الحدود التونسية والليبية. وفي 24 جانفي 1955 غادر بن بولعيد الأوراس باتجاه المشرق وبعد ثلاثة أيام من السير الحثيث وسط تضاريس طبيعية صعبة وظروف أمنية خطيرة وصل إلى " القلعة " حيث عقد اجتماعا لمجاهدي الناحية لاطلاعهم على الأوضاع التي تعرفها الثورة وأرسل بعضهم موفدين من قبله إلى جهات مختلفة من الوطن مثل: سوق اهراس، خنشلة، ورقلة، خنقة سيدي ناجي، تقرت وغيرها. بعد ذلك واصل بن بولعيد ومرافقه عمر المستيري الطريق باتجاه الهدف المحدد. وبعد مرورهما بناحية نقرين (تبسة ) التقيا في تامغرة بعمر الفرشيشي الذي ألح على مرافقتهما كمرشد. وعند الوصول إلى " أرديف " المدينة المنجمية التونسية، وبها يعمل الكثير من الجزائريين، اتصل بن بولعيد ببعض هؤلاء المنخرطين في صفوف الحركة الوطنية، وكان قد تعرف عليهم عند سفره إلى ليبيا في منتصف أوت 1954، وذلك لرسم خطة تمكن من إدخال الأسلحة، الذخيرة والأموال إلى الجزائر عبر وادي سوف. غير أن حلقة الإتصال انقطعت بوادي سوف وبالتالي اعتبرت نتائج هذه الرحلة سلبية. وانتقل بن بولعيد من أرديف إلى المتلوي بواسطة القطار ومن هناك استقل الحافلة إلى مدينة قفصة حيث بات ليلته فيها رفقة زميليه. وفي الغد اتجه إلى مدينة قابس حيث كان على موعد مع المجاهد حجاج بشير، لكن هذا اللقاء لم يتم بين الرجلين نظرا لاعتقال بشير حجاج من قبل السلطات الفرنسية قبل ذلك. وعند بلوغ الخبر مسامع بن بولعيد ومخافة أن يلقى نفس المصير غادر مدينة قابس على جناح السرعة على متن أول حافلة باتجاه بن قردان رفقة عمر الفريشي أما عمر المستيري فلم يتمكن من اللحاق بالحافلة. وفي مدينة مدنين صعدت فرقة من الصبايحية، ولم تقم بتفتيش الركاب. وعند وصول الحافلة إلى المحطة النهائية بن قرادن طلب هؤلاء من كل الركاب التوجه إلى مركز الشرطة، وحينها أدرك بن بولعيد خطورة الموقف فطلب من مرافقه القيام بنفس الخطوات التي يقوم بها، وكان الظلام قد بدأ يخيم على المكان فأغتنما الفرصة وتسللا بعيدا عن مركز الشرطة عبر الأزقة. وبعد مطاردة مثيرة عثرت عليهما فرقة الصبايحية مختبئين في أحد البساتين ولما اقترب منهما أحد أفراد الدورية أطلق عليه بن بولعيد النار من مسدسه فقتله. وواصلا هروبهما سريعا عبر الطريق الصحراوي كامل الليل وفي الصباح اختبأ، وعند حلول الظلام تابعا سيرهما معتقدين أنهما يسيران باتجاه الحدود التونسية-الليبية لأن بن بولعيد كان قد أضاع البوصلة التي تحدد الإتجاه، كما أنه فقد إحدى قطع مسدسه عند سقوطه.
ولما بلغ منهما العياء والجوع كل مبلغ اختبأ في مكان قرب شعبة صغيرة في انتظار بزوغ الشمس. وما أن طلع النهار حتى كانت فرقة الخيالة تحاصر المكان وطلب منهما الخروج وعندما حاول بن بولعيد استعمال مسدسه وجده غير صالح وإثر ذلك تلقى هذا الأخير ضربة أفقدته الوعي وهكذا تم اعتقال بن بولعيد يوم 11 فيفري 1955.
وفي 3 مارس 1955 قدم للمحكمة العسكرية الفرنسية بتونس التي أصدرت يوم 28 ماي 1955 حكما بالأشغال الشاقة المؤبدة بعدها نقل إلى قسنطينة لتعاد محاكمته من جديد أمام المحكمة العسكرية في 21 جوان 1955 وبعد محاكمة مهزلة أصدرت الحكم عليه بالإعدام.ونقل إلى سجن الكدية الحصين.وفي السجن خاض بن بولعيد نضالا مريرا مع الإدارة لتعامل مساجين الثورة معاملة السجناء السياسيين وأسرى الحرب بما تنص عليه القوانين الدولية. ونتيجة تلك النضالات ومنها الإضراب عن الطعام مدة 14 يوما ومراسلة رئيس الجمهورية الفرنسية تم نزع القيود والسلاسل التي كانت تكبل المجاهدين داخل زنزاناتهم وتم السماح لهم بالخروج صباحا ومساء إلى فناء السجن، كما نقلوا من الزنزنات إلى القاعة المدرعة. وفي هذه المرحلة واصل بن بولعيد مهمته النضالية بالرفع من معنويات المجاهدين ومحاربة الضعف واليأس من جهة والتفكير الجدي في الهروب من جهة ثانية. وبعد تفكير متمعن تم التوصل إلى فكرة الهروب من القاعة المدرعة عن طريق حفر نفق يصلها بمخزن من البناء الاصطناعي وبوسائل جد بدائية شرع الرفاق في عملية الحفر التي دامت 28 يوما كاملا. وقد عرفت عملية الحفر صعوبات عدة منها الصوت الذي يحدثه عملية الحفر في حد ذاتها ثم الأتربة والحجارة الناتجة عن الحفر وتم ايجاد حلول لهذه المعضلات. وفي المخزن المجاور للقاعة المدرعة وجد بن بولعيد ورفاقه بعض الأدوات التي تساعد على صنع سلم للصعود إلى الدور الأول ثم السور الخارجي والنزول منه خارج السجن. وقد فكر بن بولعيد في تنظيم خطة عادلة للفرار وشرحها لرفاقه وهي إجراء عملية القرعة التي يستثني منها الذين شاركوا في العمل إذ يخرجون قبل غيرهم كما استثنت الجماعة بن بولعيد من القرعة ولما تم تحديد اليوم والتوقيت ودقت ساعة الحسم صلى المقبلون على الفرار ركعتين لله وشرعوا في التسلل نحو النفق المؤدي إلى المخزن ومنه إلى السورين الأول فالثاني مستعملين السلم في عمليتي الصعود ثم النزول نحو فضاء الحرية والإنعتاق وقد تمكن من الفرار من هذا السجن الحصين والمرعب كل من مصطفى بن بولعيد، محمد العيفة، الطاهر الزبيري، لخضر مشري، علي حفطاوي، ابراهيم طايبي، رشيد أحمد بوشمال، حمادي كرومة، محمد بزيان، سليمان زايدي وحسين عريف. وبعد مسيرة شاقة على الأقدام الحافية المتورمة والبطون الجائعة والجراح الدامية النازفة وصبر على المحن والرزايا وصلوا إلى مراكز الثورة. وكان بن بولعيد يسير رفقة محمد العيفة. وقد استقبل الفارون من سجن الكدية استقبال الفاتحين الأبطال. وفي طريق العودة إلى مقر قيادته أخذ قسطا من الراحة والعلاج ومن ثم انتقل إلى كيمل حيث عقد سلسلة من اللقاءات مع إطارات الثورة ومسؤوليها بالناحية، كما قام بجولة تفقدية إلى العديد من الأقسام للوقوف على الوضعية النظامية والعسكرية بالمنطقة الأولى (الأوراس ). وقد تخلل هذه الجولة إشراف بن بولعيد على قيادة بعض أفواج جيش التحرير الوطني التي خاضت معارك ضارية ضد قوات العدو وأهمها: معركة ايفري البلح يوم 13/01/1956 ودامت يومين كاملين والثانية وقعت بجبل أحمر خدو يوم 18/01/1956.
وقد عقد آخر اجتماع له قبل استشهاده يوم 22 مارس 1956 بالجبل الأزرق بحضور إطارات الثورة بالمنطقة الأولى وبعض مسؤولي جيش التحرير الوطني بمنطقة الصحراء. ومساء اليوم نفسه أحضر إلى مكان الاجتماع جهاز إرسال واستقبال ألقته قوات العدو وعند محاولة تشغيله انفجر الجهاز الذي كان ملغما مخلفا استشهاد ستة مجاهدين على رأسهم قائد المنطقة الأولى سي مصطفى بن بولعيد وخمسة من رفاقه وبذلك تسدد قوات العدو ضربة موجعة ولكنها غير قاضية لثورة نوفمبر 54.