تحتاج الشعوب والجماعات الإنسانية بعد مواجهة الهزائم العسكرية وفي لحظات الانهيار والإعتام، ما يذكرها بأن الحياة لم تنته بعد، وأن الهزيمة لا يجب أن تكون هزيمة كاملة، وأن شمس الحياة ستشرق من جديد..
ومن هنا يأتي دور زعماء الشعوب العظام من أهل السياسة ، وأهل الفكر والفلسفة والعلم في رسم خريطة الخلاص لشعوبها . ووسائل هؤلاء العظام متعددة، ولكن لعل من أهمها دور الخطب العظيمة التي تلحق بالكارثة لتفتح أمام الشعوب مسارات جديدة لتطهير الذات، ومواصلة مسيرة التقدم من جديد . هذا ما فعلته مثلاً بعض الخطب القليلة والعظيمة على مر التاريخ بما فيها مثلاً خطبة الزعيم الأسود مارتن لوثر كينج سنة 1963 في كفاحه ضد التعصب العنصري ضد السود في أمريكا " أرى الغد، وأملك الحلم " (I have a dream) ، وخطبة شارل ديجول عندما سقطت فرنسا في يد النازيين " أنا فرنسا وفرنسا أنا " (Je suis France et France est moi) ، وخطبة عبد الناصر في الأزهر بعد العدوان الثلاثي على مصر " كتب علينا القتال ولم يكتب علينا الاستسلام ، سنقاتل والله أكبر الله أكبر " ، ومن التاريخ القديم خطبة مارك أنطونيو بعد اغتيال يوليوس قيصر في روما ، والتي استطاع من خلالها أن يعيد توجيه الجماهير في اتجاه مختلف ليواجه ويقاوم المؤامرة الكبرى التي أدت لاغتيال يوليوس قيصر ( قيصر روما ) بيد أعضاء مجلس شيوخها الذين كانوا من المفروض أن يحموا قانون روما لا أن يغتالوه .
لقد بدلت هذه الخطب بأفواه هؤلاء الزعماء والمفكرين من حركة التاريخ وحولت الهزيمة إلى نصر شعبي هائل .. فالكلمة إن قيلت في الوقت المناسب ومن الشخص المناسب، وفي المكان المناسب تتحول إلى قوة دافعة توقف من الإحساس بالهزيمة واليأس .
خطبة الدكتور أحمد الكبيسي بعد سقوط العراق ستحتل موقعاً مماثلاً في تاريخ التراث البشري، فقد مثلت نموذجاً لا يقل أثراً عما تتركه الكلمة من تعديل في طرق التفكير وفي تهدئة المشاعر الثائرة وأحاسيس الهزيمة .
بعد سقوط العراق في أيدي الغزاة الأمريكيين والبريطانيين وبعد أيام من الكفاح الدامي وغير المتكافئ في البصرة وكربلاء وأم قصر لمدة أسبوعين في مواجهة أكبر قوة عاتية في التاريخ، وفي أول صلاة جمعة في 18 أبريل 2003 بمسجد أبو حنيفة ببغداد، نعم كانت خطبة الجمعة من الدكتور أحمد الكبيسي من الخطب التاريخية النادرة في تاريخ الشعوب بكل مقاييس التطهير النفسي والعلو على الكارثة وإفساح الطريق للأمل .
وسواء اتفقنا مع البناء الإيديولوجي والعقائدي للكبيسي أو اختلفنا معه ، فستظل خطبة ذلك اليوم نقطة تحول بارزة في حرب غزو العراق . إنني أذكر تماماً ذلك الموقع من الخطبة التي وجه فيها الكبيسي حديثه للولايات المتحدة بهذه المعاني : لقد خاب أملنا فيكم، يا بلاد الحرية والديمقراطية، يا حضارة المخترعات والثقافة والفكر، يا وريثة أيزنهاور (لعله كان يقصد إبراهام لينكلن ) ، لقد خاب أملنا فيكم . والآن وقد حدث ما حدث، كفاكم ما فعلتموه فينا ، أخرجوا من بلادنا . لقد أعدمتم تاريخنا، ودمرتم حضارتنا، وأحرقتم مكتباتنا وجامعاتنا، أخرجوا من بلادنا ودعونا نقود وطننا في محنته .
في هذه اللحظة، وفي أكثر من موقع من مواقع هذه الخطبة لم تتمالك جماهير مسجد أبو حنيفة إلا أن تقاطع الخطبة بهتاف الله أكبر ، وأجهش بعضهم بالبكاء، وطفرت عيون الشيخ بالدموع . بكى وبكينا معه. فاضت عيون الكثيرين بالدمع في لحظة كنا نحتاج فيها لهذه الهزة الانفعالية لتقودنا إلى الأمل ، ولتقلب مقاييس الهزيمة . نقطة تحول كان لها صداها في العالم كله حتى في الولايات المتحدة بهذا البكاء تطهرت الجماهير من مسؤولية لم ترتكبها ، و تحملت بشجاعة مسؤولية بناء عراق جديدة عليها أن تواجهها .
تراكمت فيما يتخيل لي عليهم مشاعر الضغط النفسي الهائل خلال فترة فريدة ودامية من تاريخ الشعوب: متاحفهم التي سرقت، بنوكهم التي نهبت، آبار بترولهم التي رهنت لعشرات السنين لدفع تكاليف حرب لم تكن لهم بل ضدهم، أشلاء أطفالهم ونسائهم في الشوارع مقطعة وملقاة بشكل مزري هنا وهناك ...
كان على العراق أن يحول الهزيمة إلى نصر نفسي ، واستطاع الكبيسي أن يوجه دفة الأمور في هذا الاتجاه بدون طنطنة ، وبدون عنتريات صحافتنا وأجهزتنا الإعلامية . كلمات بسيطة قوتها في بساطتها وجبروتها وفي دموع هذا الشيخ التي عكست قدرته على التوحد بمشاعر الجماهير بنسبة ذكاء عاطفي قياسية إذا استخدمنا لغة علماء النفس وأصحاب مفهوم الذكاء العاطفي ( Emotional Intelligence ) .
في اليوم الثاني وفي التاسع عشر من إبريل على وجه التحديد من خطبة الكبيسي، كان جورج بوش يحتفي بعودة الأسرى الأمريكيين السبع الذين تم تخليصهم من الأسر في العراق . وألقى أيضا خطبة قصيرة بالجيش الأمريكي العائد بعد ذلك النصر العسكري المذهل (له) والمحير (لنا) في بغداد التي تحولت ما بين يوم وليلة وبقدرة قادر إلى قطعة جبن هشة مقارنة بالأسابيع السابقة من غزو العراق . بكى بوش أيضاً عندما رحب بالجنود الصغار الذين عادوا بعد تحقيق النصر .
رأيت بوش يبكي مرتين . المرة الأولى بعد أحداث 11 سبتمبر وبعد تدمير أبراج مركز التجارة العالمي والبنتاجون ، وكنت أفهم لماذا بكى آنذاك . أما في هذه المرة فقد انتابتني الحيرة .. وكإنسان تخصصت في علم النفس وفي فهم السلوك الإنساني وعلاجه فقد احترت في تفسير السبب في بكاء بوش في الـ 19 من إبريل الحالي . أفهم لماذا بكى الكبيسي وأفهم لماذا بكى بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر ولكنني لم أفهم لماذا بكى جورج بوش ، هذه المرة :
• هل هي نشوة النصر ؟
• لكننا لا نبكي عادة عندما ننتصر ، خاصة إن كانت قضيتنا عادلة ، ونتوقع النصر لها !!
• أم هي يقظة الضمير والإحساس بالمأساة التاريخية التي ارتكبها في حق المسيرة الحضارية الإنسانية التي هزت لهمجيتها العراق وهزت ضمير العالم المتحضر وغير المتحضر؟
• أم هو إحساس ما بفشل ما .. أدت إليه هذه الحرب على العراق ؟
• فلا صدام أعتقل أو قتل !!
• ولا رفاهية أمريكية قد تحققت (من الغريب أن سوق الأسهم والسندات انخفض في نيويورك بشكل ملحوظ في نفس اليوم الذي دخلت فيه القوات الأمريكية ساحة ميدان فندق فلسطين لتعلن سقوط بغداد) !!
• وأين أسلحة الدمار الشامل التي أكدوا أنها موجودة في بغداد في مكان ما ؟!!
• هل كان بكاؤه أسفاً على ما فعلته الأسلحة والدبابات الأمريكية بالأطفال والشيوخ ، وبهذه المدينة العربية الجميلة !!
• أم كان أسفاً على جنده الصغار الذين قتلوا هناك، ومن لم يقتل لن يشفى نفسياً من هول المأساة ؟
• هل كان بكاؤه نتيجة إحساس عميق بالخجل لما فعله جنده والعصابات المحترفة التي سرقت متاحف بغداد ومكاتبها وتحفها النادرة لتبيعها في السوق السوداء في إسرائيل، وبريطانيا وأسبانيا ؟
• هل كان بكاؤه غضباً من مستشاريه الذين استقالوا من حوله ليبلغوه بأن ضمائرهم لا تحتمل أن يكونوا في مواقعهم، ودور أمريكا الحضاري والإنساني يدمر يوماً بعد يوم؟
• أم هو بكاء الحيرة من الشعب الذي كان يتوقع أن يقابله بالورد والزغاريد، ولكنه الآن يرفع في وجهه اللافتات التي تعلن للعالم وله " أخرجوا من بلادنا وكفاكم ما فعلتموه فينا ؟!! " .
الحقيقة لقد تحيرت بالفعل من بكاء جورج بوش كما لم أتحير من قبل في فهم السلوك الإنساني ودوافعه المعقدة . وكم أتمنى من زملائي في الطب النفسي وعلم النفس الإنساني والسياسي أن يساهموا معي في تسليط بعض معارفهم في فهم شخصية هذا الرئيس الأمريكي الذي أرجو أن لا يكون قد جعل من بداية القرن الواحد والعشرين بداية لنهاية حزينة لما حققته البشرية من مكتسبات خلقية وحضارية على مر العصور والقرون السابقة.
إعجاب واتفاق ودعوة للمزيد :
وبالمناسبة فقد أعجبت بالمبادرة الطيبة التي انطلقت من الزملاء الأفاضل الدكتور محمد أحمد النابلسي ، والدكتور جمال تركي والدكتور خليل فاضل . وأتفق معهم في كثير مما قالوه، عما يستطيع علمنا المتواضع أن يقدمه من تضميد للمعاناة المعاصرة . وأتفق معهم في أن الكثير من جوانب الانهيار والتقدم لا يمكن فهمها جيداً بدون ما تقدمه لنا دراساتنا النفسية والسلوكية والاجتماعية من مرشدات .
واتفق معهم في أن علومنا قادرة أيضا أن تحيي بصيرتنا وبصيرة شعوبنا وحكامنا لتوجهم نحو تطورات أفضل .
وكم أتمنى أن تتطور دعوتهم لمزيد من التبلور والاستمرارية، " فآفة حارتنا النسيان " كما كان كاتبنا الكبير نجيب محفوظ يقول ... ولكن ما شجعني على أن لا تكون هذه الآفة آفتنا أنني أتابع الزملاء الثلاثة الأفاضل فيما يكتبون ، وفيم ينشرون ، وأشعر بأنهم قادرون على تطوير وتفعيل هذه الدعوة ، ولن يسمحوا لغضبنا، وإحساسنا بالمرارة أن ينطفئ دون أن يتحول لوهج حضاري وعلمي دائم .
إنني متيقن وأنا معهم أننا لن نسمح لعلمنا أن يظل رهين أبراجنا العاجية فلدينا الكثير الذي يمكن أن نقدمه لا على المستوى العسكري فهذا أمر قد تم بخيره ومره ، ولكن على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي يمكن لعلمنا أن يدلي فيها بدلوه.
وأثق أن البدء بعملية التفعيل الحضاري للعلوم النفسية والطب النفسي يجب أن تبدأ مبكراً ، ومن الآن ، وقبل أن تغمرنا أجهزة الأعلام العربية ببرامجها التحليلية التافهة، وقبل أن توجهنا تحركات مسرح العرائس العرب لليأس والتعتيم ، و فقدان الإيمان بالإنسان العربي من جديد .
كم أتمنى أن نفعّل غضبنا ( وغالبيتنا غاضبون) فنبدأ بأن نلتقي في مكان ما في شكل مؤتمر علمي لنرسم معاً رؤيتنا منفردين أو متعاونين تقييمنا للأحداث الدائرة والأحداث التي دارت والأحداث التي يمكن أن تدور . لكي نستخدم مالدينا من أسلحة منهجية وفكرية لنحلل ونعالج - إن كان الأمر بيدنا - ما نراه من أسباب تقودنا للتخلف والهروب من مسؤولية التقدم . لكي نبلور ما يمنحنا علمنا من علاجات وإمكانيات للتقدم والتطور .
ومع إيماني بدور العلوم النفسية ، فإنني لا أرى أن العلوم النفسية وحدها تستطيع أن تنفرد بالدور كله . ولهذا فإن من الضروري أن نتعاون مع زملائنا من علماء الاقتصاد والفكر والسياسة لرسم الخريطة الاستراتيجية للوضع المعاصر للحضارة العربية. إن قوتنا الحقيقية تتمثل فيما لدينا من تخصص . ونستطيع من هذا الجانب أن نوقد شمعة أو بعض الشموع، لإضاءة الطريق نحو مستقبل نكون فيه أو قد لا نكون .
قال الأديب الراحل توفيق الحكيم عقب حرب 1967 " المفكرون ليس لهم دور في توجيه العالم مثل السياسيين لأن السياسة في يدها قوة الإرهاب والترغيب . والمفكرون ليس لديهم غير الفكر المجرد والرأي . فإذا استطاع الفكر والرأي إطلاق أشعة قوية، فإن هذه الإشعاع يمكن أن يصبح بدوره قوة فعالة يمكن أن توجه العالم" .
ولعلي أستطيع أن أضيف بأننا معشر المختصين في الطب النفسي وعلم النفس لدينا بالإضافة لسلاح الفكر سلاح المنهج العلمي، ولدينا أيضا موضوع دراستنا وهو الإنسان والسلوك الإنساني الذي يسمح لنا بالقيام بدور التوجيه السياسي والاجتماعي من أوسع الأبواب.
د. عبد الستار إبراهيم أستاذ علم النفس العيادي ورئيس وحدة العلاج النفسي في المركز الطبي التابع لجامعة البترول والمعادن ، الظهران / السعودية
ومن هنا يأتي دور زعماء الشعوب العظام من أهل السياسة ، وأهل الفكر والفلسفة والعلم في رسم خريطة الخلاص لشعوبها . ووسائل هؤلاء العظام متعددة، ولكن لعل من أهمها دور الخطب العظيمة التي تلحق بالكارثة لتفتح أمام الشعوب مسارات جديدة لتطهير الذات، ومواصلة مسيرة التقدم من جديد . هذا ما فعلته مثلاً بعض الخطب القليلة والعظيمة على مر التاريخ بما فيها مثلاً خطبة الزعيم الأسود مارتن لوثر كينج سنة 1963 في كفاحه ضد التعصب العنصري ضد السود في أمريكا " أرى الغد، وأملك الحلم " (I have a dream) ، وخطبة شارل ديجول عندما سقطت فرنسا في يد النازيين " أنا فرنسا وفرنسا أنا " (Je suis France et France est moi) ، وخطبة عبد الناصر في الأزهر بعد العدوان الثلاثي على مصر " كتب علينا القتال ولم يكتب علينا الاستسلام ، سنقاتل والله أكبر الله أكبر " ، ومن التاريخ القديم خطبة مارك أنطونيو بعد اغتيال يوليوس قيصر في روما ، والتي استطاع من خلالها أن يعيد توجيه الجماهير في اتجاه مختلف ليواجه ويقاوم المؤامرة الكبرى التي أدت لاغتيال يوليوس قيصر ( قيصر روما ) بيد أعضاء مجلس شيوخها الذين كانوا من المفروض أن يحموا قانون روما لا أن يغتالوه .
لقد بدلت هذه الخطب بأفواه هؤلاء الزعماء والمفكرين من حركة التاريخ وحولت الهزيمة إلى نصر شعبي هائل .. فالكلمة إن قيلت في الوقت المناسب ومن الشخص المناسب، وفي المكان المناسب تتحول إلى قوة دافعة توقف من الإحساس بالهزيمة واليأس .
خطبة الدكتور أحمد الكبيسي بعد سقوط العراق ستحتل موقعاً مماثلاً في تاريخ التراث البشري، فقد مثلت نموذجاً لا يقل أثراً عما تتركه الكلمة من تعديل في طرق التفكير وفي تهدئة المشاعر الثائرة وأحاسيس الهزيمة .
بعد سقوط العراق في أيدي الغزاة الأمريكيين والبريطانيين وبعد أيام من الكفاح الدامي وغير المتكافئ في البصرة وكربلاء وأم قصر لمدة أسبوعين في مواجهة أكبر قوة عاتية في التاريخ، وفي أول صلاة جمعة في 18 أبريل 2003 بمسجد أبو حنيفة ببغداد، نعم كانت خطبة الجمعة من الدكتور أحمد الكبيسي من الخطب التاريخية النادرة في تاريخ الشعوب بكل مقاييس التطهير النفسي والعلو على الكارثة وإفساح الطريق للأمل .
وسواء اتفقنا مع البناء الإيديولوجي والعقائدي للكبيسي أو اختلفنا معه ، فستظل خطبة ذلك اليوم نقطة تحول بارزة في حرب غزو العراق . إنني أذكر تماماً ذلك الموقع من الخطبة التي وجه فيها الكبيسي حديثه للولايات المتحدة بهذه المعاني : لقد خاب أملنا فيكم، يا بلاد الحرية والديمقراطية، يا حضارة المخترعات والثقافة والفكر، يا وريثة أيزنهاور (لعله كان يقصد إبراهام لينكلن ) ، لقد خاب أملنا فيكم . والآن وقد حدث ما حدث، كفاكم ما فعلتموه فينا ، أخرجوا من بلادنا . لقد أعدمتم تاريخنا، ودمرتم حضارتنا، وأحرقتم مكتباتنا وجامعاتنا، أخرجوا من بلادنا ودعونا نقود وطننا في محنته .
في هذه اللحظة، وفي أكثر من موقع من مواقع هذه الخطبة لم تتمالك جماهير مسجد أبو حنيفة إلا أن تقاطع الخطبة بهتاف الله أكبر ، وأجهش بعضهم بالبكاء، وطفرت عيون الشيخ بالدموع . بكى وبكينا معه. فاضت عيون الكثيرين بالدمع في لحظة كنا نحتاج فيها لهذه الهزة الانفعالية لتقودنا إلى الأمل ، ولتقلب مقاييس الهزيمة . نقطة تحول كان لها صداها في العالم كله حتى في الولايات المتحدة بهذا البكاء تطهرت الجماهير من مسؤولية لم ترتكبها ، و تحملت بشجاعة مسؤولية بناء عراق جديدة عليها أن تواجهها .
تراكمت فيما يتخيل لي عليهم مشاعر الضغط النفسي الهائل خلال فترة فريدة ودامية من تاريخ الشعوب: متاحفهم التي سرقت، بنوكهم التي نهبت، آبار بترولهم التي رهنت لعشرات السنين لدفع تكاليف حرب لم تكن لهم بل ضدهم، أشلاء أطفالهم ونسائهم في الشوارع مقطعة وملقاة بشكل مزري هنا وهناك ...
كان على العراق أن يحول الهزيمة إلى نصر نفسي ، واستطاع الكبيسي أن يوجه دفة الأمور في هذا الاتجاه بدون طنطنة ، وبدون عنتريات صحافتنا وأجهزتنا الإعلامية . كلمات بسيطة قوتها في بساطتها وجبروتها وفي دموع هذا الشيخ التي عكست قدرته على التوحد بمشاعر الجماهير بنسبة ذكاء عاطفي قياسية إذا استخدمنا لغة علماء النفس وأصحاب مفهوم الذكاء العاطفي ( Emotional Intelligence ) .
في اليوم الثاني وفي التاسع عشر من إبريل على وجه التحديد من خطبة الكبيسي، كان جورج بوش يحتفي بعودة الأسرى الأمريكيين السبع الذين تم تخليصهم من الأسر في العراق . وألقى أيضا خطبة قصيرة بالجيش الأمريكي العائد بعد ذلك النصر العسكري المذهل (له) والمحير (لنا) في بغداد التي تحولت ما بين يوم وليلة وبقدرة قادر إلى قطعة جبن هشة مقارنة بالأسابيع السابقة من غزو العراق . بكى بوش أيضاً عندما رحب بالجنود الصغار الذين عادوا بعد تحقيق النصر .
رأيت بوش يبكي مرتين . المرة الأولى بعد أحداث 11 سبتمبر وبعد تدمير أبراج مركز التجارة العالمي والبنتاجون ، وكنت أفهم لماذا بكى آنذاك . أما في هذه المرة فقد انتابتني الحيرة .. وكإنسان تخصصت في علم النفس وفي فهم السلوك الإنساني وعلاجه فقد احترت في تفسير السبب في بكاء بوش في الـ 19 من إبريل الحالي . أفهم لماذا بكى الكبيسي وأفهم لماذا بكى بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر ولكنني لم أفهم لماذا بكى جورج بوش ، هذه المرة :
• هل هي نشوة النصر ؟
• لكننا لا نبكي عادة عندما ننتصر ، خاصة إن كانت قضيتنا عادلة ، ونتوقع النصر لها !!
• أم هي يقظة الضمير والإحساس بالمأساة التاريخية التي ارتكبها في حق المسيرة الحضارية الإنسانية التي هزت لهمجيتها العراق وهزت ضمير العالم المتحضر وغير المتحضر؟
• أم هو إحساس ما بفشل ما .. أدت إليه هذه الحرب على العراق ؟
• فلا صدام أعتقل أو قتل !!
• ولا رفاهية أمريكية قد تحققت (من الغريب أن سوق الأسهم والسندات انخفض في نيويورك بشكل ملحوظ في نفس اليوم الذي دخلت فيه القوات الأمريكية ساحة ميدان فندق فلسطين لتعلن سقوط بغداد) !!
• وأين أسلحة الدمار الشامل التي أكدوا أنها موجودة في بغداد في مكان ما ؟!!
• هل كان بكاؤه أسفاً على ما فعلته الأسلحة والدبابات الأمريكية بالأطفال والشيوخ ، وبهذه المدينة العربية الجميلة !!
• أم كان أسفاً على جنده الصغار الذين قتلوا هناك، ومن لم يقتل لن يشفى نفسياً من هول المأساة ؟
• هل كان بكاؤه نتيجة إحساس عميق بالخجل لما فعله جنده والعصابات المحترفة التي سرقت متاحف بغداد ومكاتبها وتحفها النادرة لتبيعها في السوق السوداء في إسرائيل، وبريطانيا وأسبانيا ؟
• هل كان بكاؤه غضباً من مستشاريه الذين استقالوا من حوله ليبلغوه بأن ضمائرهم لا تحتمل أن يكونوا في مواقعهم، ودور أمريكا الحضاري والإنساني يدمر يوماً بعد يوم؟
• أم هو بكاء الحيرة من الشعب الذي كان يتوقع أن يقابله بالورد والزغاريد، ولكنه الآن يرفع في وجهه اللافتات التي تعلن للعالم وله " أخرجوا من بلادنا وكفاكم ما فعلتموه فينا ؟!! " .
الحقيقة لقد تحيرت بالفعل من بكاء جورج بوش كما لم أتحير من قبل في فهم السلوك الإنساني ودوافعه المعقدة . وكم أتمنى من زملائي في الطب النفسي وعلم النفس الإنساني والسياسي أن يساهموا معي في تسليط بعض معارفهم في فهم شخصية هذا الرئيس الأمريكي الذي أرجو أن لا يكون قد جعل من بداية القرن الواحد والعشرين بداية لنهاية حزينة لما حققته البشرية من مكتسبات خلقية وحضارية على مر العصور والقرون السابقة.
إعجاب واتفاق ودعوة للمزيد :
وبالمناسبة فقد أعجبت بالمبادرة الطيبة التي انطلقت من الزملاء الأفاضل الدكتور محمد أحمد النابلسي ، والدكتور جمال تركي والدكتور خليل فاضل . وأتفق معهم في كثير مما قالوه، عما يستطيع علمنا المتواضع أن يقدمه من تضميد للمعاناة المعاصرة . وأتفق معهم في أن الكثير من جوانب الانهيار والتقدم لا يمكن فهمها جيداً بدون ما تقدمه لنا دراساتنا النفسية والسلوكية والاجتماعية من مرشدات .
واتفق معهم في أن علومنا قادرة أيضا أن تحيي بصيرتنا وبصيرة شعوبنا وحكامنا لتوجهم نحو تطورات أفضل .
وكم أتمنى أن تتطور دعوتهم لمزيد من التبلور والاستمرارية، " فآفة حارتنا النسيان " كما كان كاتبنا الكبير نجيب محفوظ يقول ... ولكن ما شجعني على أن لا تكون هذه الآفة آفتنا أنني أتابع الزملاء الثلاثة الأفاضل فيما يكتبون ، وفيم ينشرون ، وأشعر بأنهم قادرون على تطوير وتفعيل هذه الدعوة ، ولن يسمحوا لغضبنا، وإحساسنا بالمرارة أن ينطفئ دون أن يتحول لوهج حضاري وعلمي دائم .
إنني متيقن وأنا معهم أننا لن نسمح لعلمنا أن يظل رهين أبراجنا العاجية فلدينا الكثير الذي يمكن أن نقدمه لا على المستوى العسكري فهذا أمر قد تم بخيره ومره ، ولكن على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي يمكن لعلمنا أن يدلي فيها بدلوه.
وأثق أن البدء بعملية التفعيل الحضاري للعلوم النفسية والطب النفسي يجب أن تبدأ مبكراً ، ومن الآن ، وقبل أن تغمرنا أجهزة الأعلام العربية ببرامجها التحليلية التافهة، وقبل أن توجهنا تحركات مسرح العرائس العرب لليأس والتعتيم ، و فقدان الإيمان بالإنسان العربي من جديد .
كم أتمنى أن نفعّل غضبنا ( وغالبيتنا غاضبون) فنبدأ بأن نلتقي في مكان ما في شكل مؤتمر علمي لنرسم معاً رؤيتنا منفردين أو متعاونين تقييمنا للأحداث الدائرة والأحداث التي دارت والأحداث التي يمكن أن تدور . لكي نستخدم مالدينا من أسلحة منهجية وفكرية لنحلل ونعالج - إن كان الأمر بيدنا - ما نراه من أسباب تقودنا للتخلف والهروب من مسؤولية التقدم . لكي نبلور ما يمنحنا علمنا من علاجات وإمكانيات للتقدم والتطور .
ومع إيماني بدور العلوم النفسية ، فإنني لا أرى أن العلوم النفسية وحدها تستطيع أن تنفرد بالدور كله . ولهذا فإن من الضروري أن نتعاون مع زملائنا من علماء الاقتصاد والفكر والسياسة لرسم الخريطة الاستراتيجية للوضع المعاصر للحضارة العربية. إن قوتنا الحقيقية تتمثل فيما لدينا من تخصص . ونستطيع من هذا الجانب أن نوقد شمعة أو بعض الشموع، لإضاءة الطريق نحو مستقبل نكون فيه أو قد لا نكون .
قال الأديب الراحل توفيق الحكيم عقب حرب 1967 " المفكرون ليس لهم دور في توجيه العالم مثل السياسيين لأن السياسة في يدها قوة الإرهاب والترغيب . والمفكرون ليس لديهم غير الفكر المجرد والرأي . فإذا استطاع الفكر والرأي إطلاق أشعة قوية، فإن هذه الإشعاع يمكن أن يصبح بدوره قوة فعالة يمكن أن توجه العالم" .
ولعلي أستطيع أن أضيف بأننا معشر المختصين في الطب النفسي وعلم النفس لدينا بالإضافة لسلاح الفكر سلاح المنهج العلمي، ولدينا أيضا موضوع دراستنا وهو الإنسان والسلوك الإنساني الذي يسمح لنا بالقيام بدور التوجيه السياسي والاجتماعي من أوسع الأبواب.
د. عبد الستار إبراهيم أستاذ علم النفس العيادي ورئيس وحدة العلاج النفسي في المركز الطبي التابع لجامعة البترول والمعادن ، الظهران / السعودية