أصبحت الولايات المتحدة في وضع فريد من نوعه بعد انهيار غريمها المنافس لها. وبالتالي، فهي تمثل الآن القوة العالمية الأولى و الوحيدة في آن، ومع ذلك فإن سيادة أميركا عالمياً تذكرنا في بعض المجالات بالإمبراطوريات السابقة، بالرغم من الأبعاد الإقليمية التي ميزت هذه الإمبراطوريات. وهكذا، فقد بنت هذه الإمبراطوريات قوتها على السلطة التي مارستها على أتباعها، والخاضعين لها، محمياتها ومستعمراتها، علما أنها كانت تنظر عموماً إلى الخارجين عن هذه السيطرة بوصفهم برابرة. وإلى درجة ما، فإن هذه التعابير المنطوية على مفارقات تاريخية ليست كلها غير ملائمة لبعض الدول التي تدور حالياً في الفلك الأميركي. وعلى غرار الماضي فإن الممارسة "الإمبريالية " الأميركية تشتق إلى حد كبير من التنظيم الأمثل، ومن قدرتها على تعبئة موارد اقتصادية وتكنولوجية ضخمة ومعدة لأهداف عسكرية، ومن الإغراء الثقافي الغامض، والمتسم في الوقت ذاته بالأهمية والذي تتصف به طريقة أو أسلوب الحياة الأميركية، ومن الدينامية الحادة والتنافسية المتأصلة لدى النخب (جمع نخبة) الاجتماعية والسياسية الأميركية .
كانت الإمبراطوريات السابقة تتمتع بهذه السمات عموماً. ولعل روما ترد أولاً إلى الذهن .فقد أقيمت هذه الإمبراطورية خلال قرنين ونصف قرن تقريباً على توسع إقليمي دائب نحو الشمال أولاً، ومن ثم نحو الغرب والجنوب الشرقي، إضافة إلى تأكيد السيطرة البحرية الفعالة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط كلها. فمن الناحية الجغرافية، وصلت ذروة التوسع في العام 211 قبل الميلاد (انظر الخريطة). كانت روما ذات سلطة سياسية مركزية وذات اقتصاد يتمتع بالاكتفاء الذاتي. أما سلطتها الإمبريالية فقد مورست عن تعمد وقصد عبر منظومة معقدة من التنظيمات السياسية والاقتصادية. وكذلك، فإن منظومة الطرق البرية والبحرية المصممة استراتيجيا، والمنطلقة من العاصمة، سمحت بإعادة الانتشار السريع وبالحشد، كلما حدث تهديد أمني رئيس، للجيوش الرومانية المتوضعة في مختلف الدول التابعة، وفي المقاطعات الخاضعة للدولة المركزية.
وفي ذروة الإمبراطورية نشرت الجيوش الرومانية في الخارج ما لا يقل عن 300 ألف رجل، وهي قوة كبيرة وهامة جعلت من التفوق الروماني في التكتيك والأسلحة حقيقة فعلية إضافة إلى قدرة المركز على التحكم بإعادة النشر السريعة نسبياً. (ومن المدهش أن نذكر أنه في العام 1996، كانت أميركا، التي تشكل حالياً القوة العظمى ذات التعداد السكاني الأكبر بكثير من سكان الإمبراطورية الرومانية، تحمى أماكن الامتداد الخارجية لمناطق سيطرتها بوساطة 296 ألف جندي محترف يتوضعون في ما وراء البحار .
ومهما يكن من اثر فإن القوة الإمبريالية لروما كانت قد جاءت من حقيقة نفسية مهمة. فالقول "أنا مواطن روماني "كان أرقى تعريف ممكن بالذات، ومصدر فخر واعتزاز، وطموحاً يريد كل إنسان أن يحققه. وغالباً ما كان يمنح ذلك حتى إلى الذين لم يكونوا قد ولدوا في إمبراطورية روما، وكان هذا الوضع المتميز للمواطن الروماني يعتبر تعبيراً عن تفوق ثقافي وتربوي يبرر الإحساس بأصالة السلطة الإمبريالية الرومانية. وهو لا يعني الانتماء إلى الحكم الشرعي لروما فحسب، بل كان يجعل الخاضعين لهذه السلطة راغبين في أن يتم قبولهم وتمثلهم وإدخالهم في البنية الإمبراطورية. فالتفوق الثقافي، الذي اعتبر أمراً مسلماً به من قبل الحكام ومعترفاً به من قبل الأتباع المذعنين عمل في نهاية المطاف على تعزيز القوة الإمبراطورية .
وعموماً، فإن هذه القوة الإمبريالية المثلى، والتي لم يكن ينازعها أحد استمرت 300 سنة . وباستثناء التحدي الذي فرض في مرحلة ما من قبل قرطاجة المجاورة وعلى الأطراف الشرقية للإمبراطورية اليونانية، فإن العالم الخارجي كان في معظمه بربرياً وغير منظم جيدا وغير قادر في غالب الأحيان على القيام إلا بهجمات متفرقة ومشتتة، ناهيك عن تخلفه الثقافي. وطالما كانت الإمبراطورية الرومانية قادرة على المحافظة على الحيوية والوحدة الداخليتين، فإن العالم الخارجي كان غير قادر على المنافسة .
ثمة أسباب ثلاثة رئيسة أدت إلى الانهيار الفعلي للإمبراطورية الرومانية. فالأول هو أن الإمبراطورية أصبحت كبيرة جداً ولم يعد ممكناً أن تحكم من مركز واحد، ولكن انقسامها إلى نصفين غربي وشرقي دمّر أوتوماتيكياً الطابع الاحتكاري لسلطتها. والثاني هو أن الفترة الطويلة الأمد للإحساس بالغطرسة والاعتزاز خلقت مذهب المتعة الثقافي الذي عمل بالتدريج على تآكل رغبة النخبة السياسية في العظمة. والثالث هو أن التضخم الدائم عمل بدوره على نسف قدرة النظام على المحافظة على نفسه دون تضحيات اجتماعية، الأمر الذي لم يعد المواطنون مستعدين للقيام به. وهكذا تأمر كل من التفتت الثقافي، والانقسام السياسي والتضخم المالي، لكي يجعلوا روما غير منيعة إزاء البرابرة الذين عاشوا على حدودها الخارجية .
لم تكن روما، حسب المقاييس المعاصرة الحالية، قوة عالمية حقيقية، بل كانت مجرد قوة إقليمية. ومهما يكن الأمر في ضوء الإحساس بالعزلة التي كانت سائدة في ذلك الوقت بين مختلف قارات العالم، فإن قوتها الإقليمية كانت متحفظة (أو محتواة ذاتياً، وبتعبير آخر مستهلكة ذاتياً) ومعزولة، ولم يكن يوجد لها غريم مباشر أو حتى بعيد. وهكذا، كانت الإمبراطورية الرومانية عالماً قائماً بحد ذاته علماً أن تنظيمها السياسي المتفوق وتفوقها الثقافي جعلا منها خليفة للأنظمة الإمبراطورية التي سبقتها وكانت ذات مساحات جغرافية أكبر منها .
ومع كل ذلك، لم تكن الإمبراطورية الرومانية فريدة في نوعها. فالإمبراطوريتان الرومانية والصينية ظهرتا معاً في نفس الوقت، بالرغم من أن أيا منهما لم تكن تعي وجود الأخرى. وفي العام 221 قبل الميلاد (وهو زمن الحروب البونية بين روما وقرطاجة)، نجد أن توحيد الدول السبع الموجودة آنذاك في قوام الإمبراطورية الصينية الأولى، من قبل "تشين" حثّ على بناء الجدار العظيم في الصين الشمالية لكي يعزل المملكة الداخلية عن عالم البربر الموجود وراءها . أما إمبرطورية هان اللاحقة، التي بدأت تظهر في العام 140 قبل الميلاد، فقد كانت أكثر أهمية وتأثيراً من حيث الحجم والتنظيم. وعندما بدأت مرحلة المسيحية، كان عدد من يخضعون لسلطة هذه الإمبراطورية لا يقل عن 57 مليون إنسان. وإن هذا العدد الكبير، الذي لم يسبق له مثيل، كان دليلاً على وجود سيطرة مركزية فعالة على نحو استثنائي، وعلى أن هذه السيطرة كانت تمارس بوساطة نظام بيروقراطي مركزي وتأدبي. وتوسع الحكم الإمبريالي إلى كوريا (الحالية)، وأجزاء من منغوليا، ومعظم الساحل الصيني (الحالي). ولكن، وحسبما حدث لروما ، فقد أصبحت إمبراطورية هان مصابة بأمراض داخلية وتسارع أنهيارها الفعلي بسبب تقسيمها في العام 220 قبل الميلاد إلى ثلاث ممالك مستقلة .
تضمن التاريخ اللاحق للصين دورات توحيد وتوسع، ولكن جاءت بعدها فترات التفتت والتشظي. وقد نجحت الصين، أكثر من مرة، في إقامة أنظمة إمبريالية ذات أحتواء ذاتي، ومعزولة، وغير معرضة لتحديات خارجية من قبل أي منافسين. ولم يلبث التقسيم الثلاثي الأطراف لمملكة هان أن انعكس اتجاهه في العام 589 بعد الميلاد، مع ظهور شيء ما قريب من النظام الإمبريالي. ولكن فترة توكيد الذات أو التفوق الإمبريالي العظيم للصين اصطدمت بالمانشوريين (شعب منشوريا المنغولي) وخاصة في أثناء الحكم المبكر لسلالة تشينغ. وفي القرن الثامن عشر أصبحت الصين، مرة ثانية، إمبراطورية قوية الجناحين، حيث أحيط مركزها الإمبريالي (الإمبراطوري) بدول من الأتباع والمؤيدين، بما في ذلك كوريا (الحالية) والهند الصينية، وتايلاند وبورما، ونيبال. وهكذا أمتد الحكم الصيني من الشرق الأقصى الروسي (حالياً) وعبر سيبيريا الجنوبية إلى بحيرة بايكال، وحتى كازاخستان (الحالية أيضاً)، ومن ثم نحو المحيط الهندي، وباتجاه الخلف عبر لاوس وفيتنام الشمالية.
وعلى غرار الحالة الرومانية، فإن هذه الإمبراطورية كانت ذات تنظيم مالي، واقتصادي، وثقافي، وأمني معقد. فالسيطرة على مساحة كبيرة من الأرض، وعلى ما يزيد على 300 مليون إنسان يعيشون فيها، كانت قد مورست عبر كل هذه الوسائل، ومع تشديد قوي على سلطة سياسية مركزية، ومدعومة بمنظومة خدمات للسعادة (جمع ساعي أو مراسل) فعالة إلى حد كبير. وكانت الإمبراطورية كلها مقسمة إلى أربع مناطق، تبدأ من العاصمة بكين (حالياً بيجين) وتصل إلى مناطق حدودية تبعد مسافات يقطعها السعاة في أسبوع وأسبوعين، وثلاثة أسابيع ، وأربعة أسابيع على التوالي. أما السلطة البيروقراطية المركزية، المدربة مهنياً، والمنتقاة على أساس التنافس والمهارة، فهي التي كانت تقدم مصادر القوة للوحدة .
كانت هذه الوحدة قد عززت، ودعّمت، على غرار ما حدث في روما أيضاً بإحساس قوي التأثير ومتجذر بعمق عن التفوق الثقافي الذي ازداد قوة في ظل الكونفوشيوسية التي كانت فلسفة مفضلة إمبراطورياً، ومع التشديد على الانسجام، والتسلسل الهرمي في السلطة والانضباط. وعموماً فإن الصين، أو الإمبراطورية السماوية، كان ينظر إليها على أنها مركز العالم، مع وجود برابرة فقط على حدودها وما وراء هذه الحدود. وأن كونك صينياً يعني أنك مثقف، ولهذا السبب، فإن سائر العالم كان يدين للصين بالاحترام والإذعان لرغباتها. وإن هذا الإحساس الخاص بالتفوق تخلّل الرد الذي أعطاه الإمبراطور الصيني، حتى في مرحلة تراجع النمو في الصين، في نهاية القرن الثامن عشر، إلى ملك بريطانيا العظمى جورج الثالث الذي كان مبعوثوه قد حاولوا إغراء الصين على الدخول في علاقة تجارية من خلال تقديم بعض المنتجات الصناعية البريطانية، بوصفها هدايا تعبر عن حسن النية :
"نحن، الامبراطور، نأمر، بنعمة السماء، ملك إنكلترا أن يأخذ علما بتوجيهاتنا:
فالإمبراطورية السماوية، التي تحكم الجميع ضمن البحار الأربعة....
لا تثّمن الأشياء النادرة والنفيسة... وليس لها أقل حاجة إلى صناعات بلادكم.... ولذا فقد ... أمرنا مبعوثيكم المحترمين أن يعودوا بأمان إلى وطنهم. وأنت أيها الملك، يجب عليك أن تعمل بانسجام مع رغباتنا، وذلك بأن تقوى ولاءك لنا وأن تؤكد لنا الطاعة الدائمة ".
إن تراجع وسقوط عدة إمبرطوريات صينية عزي بصورة رئيسة إلى عوامل داخلية. فقد انتصر المغول وفي وقت لاحق "البرابرة" الغربيون بسبب التعب الداخلي، والفساد، ومذهب المتعة، والانهيار الاقتصادي، إضافة إلى أن الإبداع العسكري عمل على إضعاف الإرادة الصينية ثم على انهيارها. وهكذا، استغلت القوى الخارجية سوء الأحوال الداخلية في الصين، وخاصة بريطانيا في حرب الأفيون في الأعوام 1839ـ1842، ثم اليابان، بعد قرن من ذلك التاريخ، حيث خلقت، بدورها، إحساساً عميقاً، بالإذلال الثقافي الذي أثار المشاعر الصينية عبر القرن العشرين، وذلك بسبب الصدام بين إحساسهم التحذر بالتفوق الثقافي من ناحية، وبين الحقائق السياسية المخزية لدولة الصين في فترة ما بعد الإمبراطورية من ناحية ثانية. وعلى غرار إمبراطورية روما، فان الصين الإمبراطورية. تصنف حالياً بوصفها قوة إقليمية ولكن هذه الدولة كانت لها تطلعات عالمية في فترة ذروتها، وذلك بمعنى أنه لم تكن توجد آنذاك أي دولة أخرى قادرة على تحدي هذا الوضع الإمبراطوري أو حتى على مقاومة أي توسع لاحق له، إذا كان هذا التوسع يمثل نزعة أو رغبة صينية. وكان النظام الصيني ذا احتواء ذاتي وقدرة ذاتية على الاستمرارية، واعتمد بصورة رئيسية على الهوية الأتنية المشتركة، بالإضافة إلى قدرة محدودة نسبياً في ممارسة السلطة (نقل القوة) المركزية إلى الدول الخاضعة لها والموجودة على حدودها الجغرافية أو ذات الاتنيات الأجنبية .
إن المركز الاتني الكبير والمسيطر جعل من الممكن أن تقوم الصين بعمليات تجديد إمبراطورية دورية أو عمليات إحياء وترميم نشيطة. وفي هذا المجال، كانت الصين مختلفة تماماً عن الإمبراطوريات الأخرى التي كانت فيها الشعوب الأقل عدداً، وذات الدوافع الأقوى إلى الهيمنة، قادرة، خلال فترة زمنية ما على أن تفرض سيطرتها، وتستمر بها، على السكان الآخرين من ذوي الاتنيات الأخرى. ومهما يكن الأمر، فما أن انهارت السيطرة لمثل هذه الإمبراطوريات ذات البنية المركزية الصغيرة، حتى أصبحت عملية التجديد غير واردة .
ولكي نجد ما يماثل إلى حد ما التعريف الحالي للقوة العالمية، يجب أن نعود إلى الظاهرة الهامة للإمبراطورية المغولية. فقد ظهرت هذه الإمبراطورية عبر صراع حاد مع خصوم رئيسيين ومنظمين جيداً. وكانت بين هؤلاء المهزومين مملكتا بولونيا وهنغاريا، وقوات الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وعدة ولايات روسية، والخلافة في بغداد، وحتى سلالة سنغ في الصين، في وقت لاحق .
أقام جينكيز خان وخلفاؤه، بعد أن هزم منافسيه الإقليميين، سيطرة مركزية على الأراضي التي احتلها، وبالتالي فإن علماء الجغرافيا السياسية الحاليين عرفوا هذه الكتلة من الأراضي بأنها المنطقة المركزية أو المحورية الحيوية للقوة (الدولة) العالمية. وقد امتدت هذه الإمبراطورية القارية الأوراسية من شواطئ بحر الصين إلى الأناضول في آسيا الصغرى وأوروبا الوسطى (انظر الخريطة). ولم يحدث بعد ذلك أن وجدت سيطرة مركزية مماثلة على مثل هذه المساحات الواسعة من الأراضي التي احتلتها الإمبراطورية المغولية إلا في أيام الذروة للكتلة الصينية السوفييتية الستالينية.
كانت الإمبراطوريات الرومانية، والصينية، والمغولية دولا إقليمية حققت طموحات المتطلعين إلى امتلاك سلطة أو قوة عالمية. وفي حالة روما والصين، وحسبما لا حظنا سابقاً، فقد كانت بينهما الإمبراطورية متطورة جداً على الصعيدين السياسي والاقتصادي، بينما مارس المغول المنتشرون على نطاق واسع لتفوق "المركز" دوراً جامعاً هاماً. وفي المقابل، فإن الإمبراطورية المغولية حافظت على السيطرة السياسية بالاعتماد، على نحو مباشر، على الغزو العسكري الذي كان يليه التكيف مع الشروط المحلية .
كانت السلطة الإمبراطورية المغولية تعتمد إلى حدٍ كبير على السيطرة العسكرية. وإذ كانت هذه السيطرة تتحقق بالاستخدام الذكي، الذي تنعدم فيه الشفقة أو الرحمة، للتكتيك العسكري المتفوق الذي جمع بين القدرة الكبيرة في الحركة السريعة والحشد المؤقت جيداً (في الوقت المناسب)، فإن الحكم المغولي لم يكن يملك نظاماً اقتصادياً أو مالياً منظماً، ولا كانت السلطة المغولية نابعة من أي إحساس أكيد بالتفوق الثقافي. وكان الحكام المغول قليلي العدد جداً إذا أخذنا ذلك من منظور تمثيل طبقة حاكمة قادرة على التكاثر الذاتي ومهما يكن الأمر فإن غياب ذلك الإحساس، من حيث الوعي الذاتي، بالتفوق الثقافي أو حتى الاتني، هو الذي حرم النخبة الإمبراطورية من الثقة الذاتية اللازمة.
وفي الحقيقة، فإن الحكام المغول أثبتوا أنهم حساسون جداً إزاء استيعابهم تدريجياً أو ذوبانهم في الشعوب الأكثر تقدماً وثقافة التي استولوا عليها. وهكذا، فإن أحد أحفاد جينكيز خان الذي أصبح إمبراطوراً للجزء الصيني من مملكة الخان العظمى، أصبح داعية متحمساً لمذهب الكونفوشوسية، بينما أصبح حفيد آخر داعية متحمساً للإسلام في وظيفته كسلطان لبلاد الفرس ، وكذلك، أصبح حفيد ثالث من هؤلاء، الحاكم الثقافي الفارسي لآسيا الوسطى .
وهكذا، كان هذا العامل، أي استيعاب أو ذوبان الحكام في المحكومين، ومع غياب الثقافة السياسية المسيطرة، إضافة إلى المشكلات غير القابلة للحل المتعلقة بخلافة الخان الكبير الذي أسس الإمبراطورية ، هو الذي ادى الى انهيارها في نهاية المطاف. وقد أصبحت مملكة المغول كبيرة جداً ولدرجة لم يعد ممكناً معها أن تحكم من قبل مركز واحد، ولكن الحل الذي جرب في هذا المجال، أي تقسيم الإمبراطورية إلى عدة أجزاء ذاتية الاحتواء، هو الذي حثّ، وحتى بسرعة أكبر على الذوبان المحلي الأمر الذي سّرع، بدوره، التفتت الإمبراطوري. وبعد أن، استمرت أكبر إمبراطورية برية في العالم مدة قرنين، من العام 1206 إلى العام 1405، اختفت دون أن تترك أثراً.
وبعد ذلك، أصبحت أوروبا مركز القوة العالمية من ناحية، ومركز الصراعات من أجل امتلاك القوة العالمية من ناحية ثانية. وفي الواقع، فخلال الثلاثة قرون تقريباً، استطاع المحيط الشمالي الغربي من القارة الأوراسية أو يحقق، عبر القدرة على نقل القوة البحرية ولأول مرة في التاريخ، سيطرة عالمية حقيقية عندما وصلت القوة الأوروبية، إلى كل قارات العالم، وأثبتت وجودها في هذه القارت. ويجدر بالذكر أن القائمين بهذه السيطرة من الأوروبيين الغربيين الإمبراطوريين كانوا قلة من الناحية الديموغرافية، ولا سيما إذا ما قورنوا بعدد الذين أخضعوا لهم، ومع ذلك فمع بداية القرن العشرين، وخارج نصف الكرة الغربي (الذي كان قد خضع أيضاً قبل قرنين للسيطرة الأوروبية الغربية والذي كان مأهولاً في معظمه بالمهاجرين الأوروبيين وأحفادهم)، نجد أن الصين، وروسيا، والإمبراطورية العثمانية، وأثيوبيا كانت وحدها متحررة من السيطرة الأوروبية الغربية.
بريجسكى مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقاً ، أستاذ السياسة الخارجية بجامعة جون هوبكنز - واشنطن
كانت الإمبراطوريات السابقة تتمتع بهذه السمات عموماً. ولعل روما ترد أولاً إلى الذهن .فقد أقيمت هذه الإمبراطورية خلال قرنين ونصف قرن تقريباً على توسع إقليمي دائب نحو الشمال أولاً، ومن ثم نحو الغرب والجنوب الشرقي، إضافة إلى تأكيد السيطرة البحرية الفعالة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط كلها. فمن الناحية الجغرافية، وصلت ذروة التوسع في العام 211 قبل الميلاد (انظر الخريطة). كانت روما ذات سلطة سياسية مركزية وذات اقتصاد يتمتع بالاكتفاء الذاتي. أما سلطتها الإمبريالية فقد مورست عن تعمد وقصد عبر منظومة معقدة من التنظيمات السياسية والاقتصادية. وكذلك، فإن منظومة الطرق البرية والبحرية المصممة استراتيجيا، والمنطلقة من العاصمة، سمحت بإعادة الانتشار السريع وبالحشد، كلما حدث تهديد أمني رئيس، للجيوش الرومانية المتوضعة في مختلف الدول التابعة، وفي المقاطعات الخاضعة للدولة المركزية.
وفي ذروة الإمبراطورية نشرت الجيوش الرومانية في الخارج ما لا يقل عن 300 ألف رجل، وهي قوة كبيرة وهامة جعلت من التفوق الروماني في التكتيك والأسلحة حقيقة فعلية إضافة إلى قدرة المركز على التحكم بإعادة النشر السريعة نسبياً. (ومن المدهش أن نذكر أنه في العام 1996، كانت أميركا، التي تشكل حالياً القوة العظمى ذات التعداد السكاني الأكبر بكثير من سكان الإمبراطورية الرومانية، تحمى أماكن الامتداد الخارجية لمناطق سيطرتها بوساطة 296 ألف جندي محترف يتوضعون في ما وراء البحار .
ومهما يكن من اثر فإن القوة الإمبريالية لروما كانت قد جاءت من حقيقة نفسية مهمة. فالقول "أنا مواطن روماني "كان أرقى تعريف ممكن بالذات، ومصدر فخر واعتزاز، وطموحاً يريد كل إنسان أن يحققه. وغالباً ما كان يمنح ذلك حتى إلى الذين لم يكونوا قد ولدوا في إمبراطورية روما، وكان هذا الوضع المتميز للمواطن الروماني يعتبر تعبيراً عن تفوق ثقافي وتربوي يبرر الإحساس بأصالة السلطة الإمبريالية الرومانية. وهو لا يعني الانتماء إلى الحكم الشرعي لروما فحسب، بل كان يجعل الخاضعين لهذه السلطة راغبين في أن يتم قبولهم وتمثلهم وإدخالهم في البنية الإمبراطورية. فالتفوق الثقافي، الذي اعتبر أمراً مسلماً به من قبل الحكام ومعترفاً به من قبل الأتباع المذعنين عمل في نهاية المطاف على تعزيز القوة الإمبراطورية .
وعموماً، فإن هذه القوة الإمبريالية المثلى، والتي لم يكن ينازعها أحد استمرت 300 سنة . وباستثناء التحدي الذي فرض في مرحلة ما من قبل قرطاجة المجاورة وعلى الأطراف الشرقية للإمبراطورية اليونانية، فإن العالم الخارجي كان في معظمه بربرياً وغير منظم جيدا وغير قادر في غالب الأحيان على القيام إلا بهجمات متفرقة ومشتتة، ناهيك عن تخلفه الثقافي. وطالما كانت الإمبراطورية الرومانية قادرة على المحافظة على الحيوية والوحدة الداخليتين، فإن العالم الخارجي كان غير قادر على المنافسة .
ثمة أسباب ثلاثة رئيسة أدت إلى الانهيار الفعلي للإمبراطورية الرومانية. فالأول هو أن الإمبراطورية أصبحت كبيرة جداً ولم يعد ممكناً أن تحكم من مركز واحد، ولكن انقسامها إلى نصفين غربي وشرقي دمّر أوتوماتيكياً الطابع الاحتكاري لسلطتها. والثاني هو أن الفترة الطويلة الأمد للإحساس بالغطرسة والاعتزاز خلقت مذهب المتعة الثقافي الذي عمل بالتدريج على تآكل رغبة النخبة السياسية في العظمة. والثالث هو أن التضخم الدائم عمل بدوره على نسف قدرة النظام على المحافظة على نفسه دون تضحيات اجتماعية، الأمر الذي لم يعد المواطنون مستعدين للقيام به. وهكذا تأمر كل من التفتت الثقافي، والانقسام السياسي والتضخم المالي، لكي يجعلوا روما غير منيعة إزاء البرابرة الذين عاشوا على حدودها الخارجية .
لم تكن روما، حسب المقاييس المعاصرة الحالية، قوة عالمية حقيقية، بل كانت مجرد قوة إقليمية. ومهما يكن الأمر في ضوء الإحساس بالعزلة التي كانت سائدة في ذلك الوقت بين مختلف قارات العالم، فإن قوتها الإقليمية كانت متحفظة (أو محتواة ذاتياً، وبتعبير آخر مستهلكة ذاتياً) ومعزولة، ولم يكن يوجد لها غريم مباشر أو حتى بعيد. وهكذا، كانت الإمبراطورية الرومانية عالماً قائماً بحد ذاته علماً أن تنظيمها السياسي المتفوق وتفوقها الثقافي جعلا منها خليفة للأنظمة الإمبراطورية التي سبقتها وكانت ذات مساحات جغرافية أكبر منها .
ومع كل ذلك، لم تكن الإمبراطورية الرومانية فريدة في نوعها. فالإمبراطوريتان الرومانية والصينية ظهرتا معاً في نفس الوقت، بالرغم من أن أيا منهما لم تكن تعي وجود الأخرى. وفي العام 221 قبل الميلاد (وهو زمن الحروب البونية بين روما وقرطاجة)، نجد أن توحيد الدول السبع الموجودة آنذاك في قوام الإمبراطورية الصينية الأولى، من قبل "تشين" حثّ على بناء الجدار العظيم في الصين الشمالية لكي يعزل المملكة الداخلية عن عالم البربر الموجود وراءها . أما إمبرطورية هان اللاحقة، التي بدأت تظهر في العام 140 قبل الميلاد، فقد كانت أكثر أهمية وتأثيراً من حيث الحجم والتنظيم. وعندما بدأت مرحلة المسيحية، كان عدد من يخضعون لسلطة هذه الإمبراطورية لا يقل عن 57 مليون إنسان. وإن هذا العدد الكبير، الذي لم يسبق له مثيل، كان دليلاً على وجود سيطرة مركزية فعالة على نحو استثنائي، وعلى أن هذه السيطرة كانت تمارس بوساطة نظام بيروقراطي مركزي وتأدبي. وتوسع الحكم الإمبريالي إلى كوريا (الحالية)، وأجزاء من منغوليا، ومعظم الساحل الصيني (الحالي). ولكن، وحسبما حدث لروما ، فقد أصبحت إمبراطورية هان مصابة بأمراض داخلية وتسارع أنهيارها الفعلي بسبب تقسيمها في العام 220 قبل الميلاد إلى ثلاث ممالك مستقلة .
تضمن التاريخ اللاحق للصين دورات توحيد وتوسع، ولكن جاءت بعدها فترات التفتت والتشظي. وقد نجحت الصين، أكثر من مرة، في إقامة أنظمة إمبريالية ذات أحتواء ذاتي، ومعزولة، وغير معرضة لتحديات خارجية من قبل أي منافسين. ولم يلبث التقسيم الثلاثي الأطراف لمملكة هان أن انعكس اتجاهه في العام 589 بعد الميلاد، مع ظهور شيء ما قريب من النظام الإمبريالي. ولكن فترة توكيد الذات أو التفوق الإمبريالي العظيم للصين اصطدمت بالمانشوريين (شعب منشوريا المنغولي) وخاصة في أثناء الحكم المبكر لسلالة تشينغ. وفي القرن الثامن عشر أصبحت الصين، مرة ثانية، إمبراطورية قوية الجناحين، حيث أحيط مركزها الإمبريالي (الإمبراطوري) بدول من الأتباع والمؤيدين، بما في ذلك كوريا (الحالية) والهند الصينية، وتايلاند وبورما، ونيبال. وهكذا أمتد الحكم الصيني من الشرق الأقصى الروسي (حالياً) وعبر سيبيريا الجنوبية إلى بحيرة بايكال، وحتى كازاخستان (الحالية أيضاً)، ومن ثم نحو المحيط الهندي، وباتجاه الخلف عبر لاوس وفيتنام الشمالية.
وعلى غرار الحالة الرومانية، فإن هذه الإمبراطورية كانت ذات تنظيم مالي، واقتصادي، وثقافي، وأمني معقد. فالسيطرة على مساحة كبيرة من الأرض، وعلى ما يزيد على 300 مليون إنسان يعيشون فيها، كانت قد مورست عبر كل هذه الوسائل، ومع تشديد قوي على سلطة سياسية مركزية، ومدعومة بمنظومة خدمات للسعادة (جمع ساعي أو مراسل) فعالة إلى حد كبير. وكانت الإمبراطورية كلها مقسمة إلى أربع مناطق، تبدأ من العاصمة بكين (حالياً بيجين) وتصل إلى مناطق حدودية تبعد مسافات يقطعها السعاة في أسبوع وأسبوعين، وثلاثة أسابيع ، وأربعة أسابيع على التوالي. أما السلطة البيروقراطية المركزية، المدربة مهنياً، والمنتقاة على أساس التنافس والمهارة، فهي التي كانت تقدم مصادر القوة للوحدة .
كانت هذه الوحدة قد عززت، ودعّمت، على غرار ما حدث في روما أيضاً بإحساس قوي التأثير ومتجذر بعمق عن التفوق الثقافي الذي ازداد قوة في ظل الكونفوشيوسية التي كانت فلسفة مفضلة إمبراطورياً، ومع التشديد على الانسجام، والتسلسل الهرمي في السلطة والانضباط. وعموماً فإن الصين، أو الإمبراطورية السماوية، كان ينظر إليها على أنها مركز العالم، مع وجود برابرة فقط على حدودها وما وراء هذه الحدود. وأن كونك صينياً يعني أنك مثقف، ولهذا السبب، فإن سائر العالم كان يدين للصين بالاحترام والإذعان لرغباتها. وإن هذا الإحساس الخاص بالتفوق تخلّل الرد الذي أعطاه الإمبراطور الصيني، حتى في مرحلة تراجع النمو في الصين، في نهاية القرن الثامن عشر، إلى ملك بريطانيا العظمى جورج الثالث الذي كان مبعوثوه قد حاولوا إغراء الصين على الدخول في علاقة تجارية من خلال تقديم بعض المنتجات الصناعية البريطانية، بوصفها هدايا تعبر عن حسن النية :
"نحن، الامبراطور، نأمر، بنعمة السماء، ملك إنكلترا أن يأخذ علما بتوجيهاتنا:
فالإمبراطورية السماوية، التي تحكم الجميع ضمن البحار الأربعة....
لا تثّمن الأشياء النادرة والنفيسة... وليس لها أقل حاجة إلى صناعات بلادكم.... ولذا فقد ... أمرنا مبعوثيكم المحترمين أن يعودوا بأمان إلى وطنهم. وأنت أيها الملك، يجب عليك أن تعمل بانسجام مع رغباتنا، وذلك بأن تقوى ولاءك لنا وأن تؤكد لنا الطاعة الدائمة ".
إن تراجع وسقوط عدة إمبرطوريات صينية عزي بصورة رئيسة إلى عوامل داخلية. فقد انتصر المغول وفي وقت لاحق "البرابرة" الغربيون بسبب التعب الداخلي، والفساد، ومذهب المتعة، والانهيار الاقتصادي، إضافة إلى أن الإبداع العسكري عمل على إضعاف الإرادة الصينية ثم على انهيارها. وهكذا، استغلت القوى الخارجية سوء الأحوال الداخلية في الصين، وخاصة بريطانيا في حرب الأفيون في الأعوام 1839ـ1842، ثم اليابان، بعد قرن من ذلك التاريخ، حيث خلقت، بدورها، إحساساً عميقاً، بالإذلال الثقافي الذي أثار المشاعر الصينية عبر القرن العشرين، وذلك بسبب الصدام بين إحساسهم التحذر بالتفوق الثقافي من ناحية، وبين الحقائق السياسية المخزية لدولة الصين في فترة ما بعد الإمبراطورية من ناحية ثانية. وعلى غرار إمبراطورية روما، فان الصين الإمبراطورية. تصنف حالياً بوصفها قوة إقليمية ولكن هذه الدولة كانت لها تطلعات عالمية في فترة ذروتها، وذلك بمعنى أنه لم تكن توجد آنذاك أي دولة أخرى قادرة على تحدي هذا الوضع الإمبراطوري أو حتى على مقاومة أي توسع لاحق له، إذا كان هذا التوسع يمثل نزعة أو رغبة صينية. وكان النظام الصيني ذا احتواء ذاتي وقدرة ذاتية على الاستمرارية، واعتمد بصورة رئيسية على الهوية الأتنية المشتركة، بالإضافة إلى قدرة محدودة نسبياً في ممارسة السلطة (نقل القوة) المركزية إلى الدول الخاضعة لها والموجودة على حدودها الجغرافية أو ذات الاتنيات الأجنبية .
إن المركز الاتني الكبير والمسيطر جعل من الممكن أن تقوم الصين بعمليات تجديد إمبراطورية دورية أو عمليات إحياء وترميم نشيطة. وفي هذا المجال، كانت الصين مختلفة تماماً عن الإمبراطوريات الأخرى التي كانت فيها الشعوب الأقل عدداً، وذات الدوافع الأقوى إلى الهيمنة، قادرة، خلال فترة زمنية ما على أن تفرض سيطرتها، وتستمر بها، على السكان الآخرين من ذوي الاتنيات الأخرى. ومهما يكن الأمر، فما أن انهارت السيطرة لمثل هذه الإمبراطوريات ذات البنية المركزية الصغيرة، حتى أصبحت عملية التجديد غير واردة .
ولكي نجد ما يماثل إلى حد ما التعريف الحالي للقوة العالمية، يجب أن نعود إلى الظاهرة الهامة للإمبراطورية المغولية. فقد ظهرت هذه الإمبراطورية عبر صراع حاد مع خصوم رئيسيين ومنظمين جيداً. وكانت بين هؤلاء المهزومين مملكتا بولونيا وهنغاريا، وقوات الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وعدة ولايات روسية، والخلافة في بغداد، وحتى سلالة سنغ في الصين، في وقت لاحق .
أقام جينكيز خان وخلفاؤه، بعد أن هزم منافسيه الإقليميين، سيطرة مركزية على الأراضي التي احتلها، وبالتالي فإن علماء الجغرافيا السياسية الحاليين عرفوا هذه الكتلة من الأراضي بأنها المنطقة المركزية أو المحورية الحيوية للقوة (الدولة) العالمية. وقد امتدت هذه الإمبراطورية القارية الأوراسية من شواطئ بحر الصين إلى الأناضول في آسيا الصغرى وأوروبا الوسطى (انظر الخريطة). ولم يحدث بعد ذلك أن وجدت سيطرة مركزية مماثلة على مثل هذه المساحات الواسعة من الأراضي التي احتلتها الإمبراطورية المغولية إلا في أيام الذروة للكتلة الصينية السوفييتية الستالينية.
كانت الإمبراطوريات الرومانية، والصينية، والمغولية دولا إقليمية حققت طموحات المتطلعين إلى امتلاك سلطة أو قوة عالمية. وفي حالة روما والصين، وحسبما لا حظنا سابقاً، فقد كانت بينهما الإمبراطورية متطورة جداً على الصعيدين السياسي والاقتصادي، بينما مارس المغول المنتشرون على نطاق واسع لتفوق "المركز" دوراً جامعاً هاماً. وفي المقابل، فإن الإمبراطورية المغولية حافظت على السيطرة السياسية بالاعتماد، على نحو مباشر، على الغزو العسكري الذي كان يليه التكيف مع الشروط المحلية .
كانت السلطة الإمبراطورية المغولية تعتمد إلى حدٍ كبير على السيطرة العسكرية. وإذ كانت هذه السيطرة تتحقق بالاستخدام الذكي، الذي تنعدم فيه الشفقة أو الرحمة، للتكتيك العسكري المتفوق الذي جمع بين القدرة الكبيرة في الحركة السريعة والحشد المؤقت جيداً (في الوقت المناسب)، فإن الحكم المغولي لم يكن يملك نظاماً اقتصادياً أو مالياً منظماً، ولا كانت السلطة المغولية نابعة من أي إحساس أكيد بالتفوق الثقافي. وكان الحكام المغول قليلي العدد جداً إذا أخذنا ذلك من منظور تمثيل طبقة حاكمة قادرة على التكاثر الذاتي ومهما يكن الأمر فإن غياب ذلك الإحساس، من حيث الوعي الذاتي، بالتفوق الثقافي أو حتى الاتني، هو الذي حرم النخبة الإمبراطورية من الثقة الذاتية اللازمة.
وفي الحقيقة، فإن الحكام المغول أثبتوا أنهم حساسون جداً إزاء استيعابهم تدريجياً أو ذوبانهم في الشعوب الأكثر تقدماً وثقافة التي استولوا عليها. وهكذا، فإن أحد أحفاد جينكيز خان الذي أصبح إمبراطوراً للجزء الصيني من مملكة الخان العظمى، أصبح داعية متحمساً لمذهب الكونفوشوسية، بينما أصبح حفيد آخر داعية متحمساً للإسلام في وظيفته كسلطان لبلاد الفرس ، وكذلك، أصبح حفيد ثالث من هؤلاء، الحاكم الثقافي الفارسي لآسيا الوسطى .
وهكذا، كان هذا العامل، أي استيعاب أو ذوبان الحكام في المحكومين، ومع غياب الثقافة السياسية المسيطرة، إضافة إلى المشكلات غير القابلة للحل المتعلقة بخلافة الخان الكبير الذي أسس الإمبراطورية ، هو الذي ادى الى انهيارها في نهاية المطاف. وقد أصبحت مملكة المغول كبيرة جداً ولدرجة لم يعد ممكناً معها أن تحكم من قبل مركز واحد، ولكن الحل الذي جرب في هذا المجال، أي تقسيم الإمبراطورية إلى عدة أجزاء ذاتية الاحتواء، هو الذي حثّ، وحتى بسرعة أكبر على الذوبان المحلي الأمر الذي سّرع، بدوره، التفتت الإمبراطوري. وبعد أن، استمرت أكبر إمبراطورية برية في العالم مدة قرنين، من العام 1206 إلى العام 1405، اختفت دون أن تترك أثراً.
وبعد ذلك، أصبحت أوروبا مركز القوة العالمية من ناحية، ومركز الصراعات من أجل امتلاك القوة العالمية من ناحية ثانية. وفي الواقع، فخلال الثلاثة قرون تقريباً، استطاع المحيط الشمالي الغربي من القارة الأوراسية أو يحقق، عبر القدرة على نقل القوة البحرية ولأول مرة في التاريخ، سيطرة عالمية حقيقية عندما وصلت القوة الأوروبية، إلى كل قارات العالم، وأثبتت وجودها في هذه القارت. ويجدر بالذكر أن القائمين بهذه السيطرة من الأوروبيين الغربيين الإمبراطوريين كانوا قلة من الناحية الديموغرافية، ولا سيما إذا ما قورنوا بعدد الذين أخضعوا لهم، ومع ذلك فمع بداية القرن العشرين، وخارج نصف الكرة الغربي (الذي كان قد خضع أيضاً قبل قرنين للسيطرة الأوروبية الغربية والذي كان مأهولاً في معظمه بالمهاجرين الأوروبيين وأحفادهم)، نجد أن الصين، وروسيا، والإمبراطورية العثمانية، وأثيوبيا كانت وحدها متحررة من السيطرة الأوروبية الغربية.
بريجسكى مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقاً ، أستاذ السياسة الخارجية بجامعة جون هوبكنز - واشنطن