محمد علي أبو بكر السقاف
يؤشر ظهور القضية الجنوبية في شكل الحراك الجنوبي كحامل شرعي للقضية إلى أمرين، أولهما في اختيار التسمية بالجنوبية كقضية وكحراك دون الإفصاح عن يمنيتها أم لا.
"
عرف جنوب اليمن في عهد الاحتلال البريطاني مفهوم الدولة والإدارة وسيادة القانون والمجتمع المدني والتعددية الحزبية والسياسية والحياة البرلمانية. ونشأت في ظل دولة الاستقلال دولة مركزية مدنية يحكمها نظام الحزب الواحد ممثلا بالحزب الاشتراكي.
"والأمر الثاني يتعلق بتغييب الحزب الاشتراكي اليمني الحزب الحاكم سابقا للجنوب، وهو من وقع باسمه الأمين العام للحزب اتفاقيات الوحدة الأخيرة مع دولة الشمال، ويؤخذ على هذا الحزب فترة حكمه الشمولي وعدم تأمينه لحقوق ومصالح أبناء دولة الجنوب عند إبرامه لاتفاقيات الوحدة.
وقد حرص الحراك منذ قيامه، وبمختلف فصائله، على إيجاد مسافة تفصل بينه وبين الحزب الاشتراكي ليكون قوة فاعلة جنوبية غير رسمية تختلف بأهدافها وتكوينها عن الحزب الاشتراكي. فمن أهم أهداف الحراك التي تميزه عن الاشتراكي أنه يدعو لفك الارتباط بالشمال واستعادة استقلال وسيادة دولة الجنوب. بينما الحزب الاشتراكي، كبقية الأحزاب السياسية المعارضة المنتمية إلى كتلة اللقاء المشترك، يسعى للوصول إلى السلطة في إطار دولة الوحدة.
والاختلاف الآخر بينهما يتمثل في أن الحراك يحتضن جميع فئات أبناء الجنوب من مستقلين وحزبيين منتمين إلى جميع الأحزاب السياسية القائمة في اليمن، بمن فيهم أعضاء في الحزب الحاكم، المؤتمر الشعبي العام. كما أن جميع أعضاء الحراك وقياداته مقتصرة فقط على أبناء الجنوب، ولا يوجد بينهم أحد من أبناء المحافظات الشمالية، في حين أن غالبية قواعد الحزب الاشتراكي وبقية الأحزاب الأخرى هي من الشمال بحكم فارق الكثافة السكانية بين الشمال والجنوب التي تصل إلى ما نسبته 80% في الشمال، مقابل 20% في الجنوب.
تجاهل الوحدة للموروث وللاتفاقيات السابقة
الحرب ومطلب فك الارتباط
القضية الجنوبية والحراك في مواجهة السلطة والدولة
الحراك الجنوبي وبقية الفاعلين غير الرسميين
خاتمة
تجاهل الوحدة للموروث وللاتفاقيات السابقة
أدت الحرب الأولى في سبتمبر/أيلول 1972 بين الشمال والجنوب إلى توقيع أول اتفاقية دولية للوحدة في القاهرة في أكتوبر من نفس العام، تلتها حرب ثانية بين البلدين في فبراير 1979 ولم تنل من دولة الجنوب. ثم كانت الحرب الداخلية في الجنوب والمسماة بمذابح 13 يناير/كانون الثاني 1986 لتترك أثرا كبيرا كان من أهم نتائجها إضعاف القوة العسكرية وقدراتها القتالية لدولة الجنوب، فقد راح ضحية هذه الحرب الأهلية الآلاف من الجنوبيين في الصراع بين أنصار الرئيس علي ناصر محمد وجماعته الذين أطلق عليهم اسم (الزمرة)، ومعارضيه الذين انتصروا في المواجهة المسلحة وتولوا السلطة بعدها بقيادة علي سالم البيض كأمين عام للحزب الاشتراكي وكانوا يسمون (بالطغمة).
وأدى هذا الصراع بين الجماعتين إلى نزوح ما بين20 ألفا و30 ألفا من أفضل ألوية الجيش الجنوبي وكوادره مع أسرهم إلى اليمن الشمالي، واستخدمت صنعاء هذه القوة لاحقا لتحقق نصرها العسكري في حرب 1994.
فقد كانت مذابح 13 يناير/كانون الثاني 1986 من العناصر الرئيسة التي تسببت بإضعاف القوة التفاوضية الجنوبية في طريقها إلى الوحدة مع الشمال، لا بل تحرص السلطة اليمنية الحالية على إذكاء الصراعات التي أفرزتها تلك الحرب التاريخية لتحرض أطرافا ضد أطراف أخرى، وذلك في سياق مواجهتها للحراك الجنوبي.
وبالإشارة إلى ضعف القوة التفاوضية للجنوب، فإن أهم مظاهرها قد تمثلت في اثنتين:
إقرار القادة الجنوبيين لوحدة ارتجالية تحت الضغوط لم تأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في الموروث التاريخي والسياسي الذي عاشه الجنوبيون إبان فترة الاستعمار البريطاني أو في المرحلة التالية له في دولتهم المستقلة.
عدم إدراك القادة الجنوبيين لمكامن القوة والضعف في دولتهم مقارنة مع الشمال، هذا فضلا عن تفريطهم باتفاقيات الوحدة السابقة بقبولهم التوقيع على اتفاقية صنعاء في 22 أبريل/نيسان 1994 التي تناقض في آلياتها الاتفاقيات المعقودة.
1- اختلاف الموروث التاريخي والسياسي
تمت الوحدة بين الدولتين اليمن الشمالي والجنوبي دون أن تأخذ بالاعتبار الاختلاف بينهما في الموروث التاريخي والسياسي، ويمكن تمييزه وفق الآتي:
جنوب اليمن
عرف جنوب اليمن في عهد الاحتلال البريطاني مفهوم الدولة والإدارة وسيادة القانون والمجتمع المدني والتعددية الحزبية والسياسية والحياة البرلمانية. ونشأت في ظل دولة الاستقلال دولة مركزية مدنية يحكمها نظام الحزب الواحد ممثلا بالحزب الاشتراكي.
أما النظام السياسي فقد كان ذا طابع أيديولوجي علماني، وكان الاقتصاد موجها ومعتمدا على ملكية القطاع العام والمختلط لأدوات الإنتاج والصناعات الخدمية التي كانت بعض مكوناتها قد أممت أصلا، ولم يتم بعد الوحدة إعادتها لأصحابها وتركت على ما هي عليه ليسهل استيلاء دولة الوحدة عليها، وهو ما حصل حيث وزعت مع أراضي وعقارات الدولة الأخرى على المتنفذين والمقربين من السلطة بعد حرب 1994.
وكانت دولة الجنوب تقوم على محاصرة القبيلة دستوريا وتشريعيا وعدم الاعتراف بها، وكانت تحتكر وحدها أدوات العنف وممارسته.
اليمن الشمالي
عاش اليمن الشمالي ظروفا مختلفة عن تلك التي في الجنوبي من ذلك:
تعايشت الدولة والإدارة مع نظام الأعراف القبلية الذي أثبت في بعض الأحيان أنه السائد فوق سيادة القانون.
حظرت فيه الحياة الحزبية دستوريا، وتم تأسيس المؤتمر الشعبي العام في عهد الرئيس علي عبد الله صالح وكانت تسميته بالمؤتمر بسبب هذا الحظر.
النظام السياسي يقوم على تحالف المؤسستين العسكرية والقبلية خاصة في ظل حكم الرئيس علي عبد الله صالح، والاقتصاد يجمع بين حرية السوق والاقتصاد الموجه.
الدولة والمؤسسة القبلية بيدهما أدوات العنف، لذا فإن تسليح القبيلة كان ولا يزال من أهم روافد ديمومة وفاعلية دور القبيلة السياسي.
2- الوحدة والاتفاقيات السابقة
أقرت كل الاتفاقيات، من اتفاقية الوحدة الأولى الموقعة في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 1972 حتى اتفاق عدن في نوفمبر/تشرين الثاني 1989، خطوات تسبق إعلان قيام دولة الوحدة، أهمها تنظيم استفتاء على دستور الوحدة وإقراره، وانتخاب أعضاء البرلمان الجديد الموحد في إطار من التعددية الحزبية، على أن يتم أيضا انتخاب أعضاء مجلس الرئاسة وتشكيل الحكومة الموحدة.
ولكن ما حدث في اتفاقية صنعاء في 22 أبريل/نيسان 1990 جاء بعكس ذلك، فقد اتفق الطرفان على إعلان قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو/أيار 1990، وتشكيل مجلس النواب الموحد بدمج أعضاء مجلس الشورى للشمال وعددهم 159 عضوا مع أعضاء مجلس الشعب الأعلى للجنوب وعددهم 111 عضوا، يضاف إليهم 31 عضوا يختارون بقرار من مجلس الرئاسة.
واللافت أن قانون الانتخابات العامة الذي صدر عام 1992 اعتمد تقسيم الدوائر الانتخابية وفق المعيار السكاني، وعليه خصص للجنوب 56 مقعدا بدلا من الرقم السابق 126 مقعدا. وبذلك أصبح الجنوب الذي تبلغ مساحته الجغرافية 336 ألف كلم مربع (يعادل ثلثي مساحة اليمن الموحد الإجمالية البالغة 555 ألف كلم مربعا)، وينتج ما يقارب 80% من نفط دولة الوحدة ممثلا في مجلس النواب بـ56 مقعدا نيابيا فقط، أي بفارق مقعدين فقط عن المقاعد المخصصة لمحافظة صنعاء وأمانة العاصمة البالغة 54 مقعدا.
وابتكرت اتفاقية صنعاء منصب نائب رئيس مجلس الرئاسة الذي شغله ممثلا للجنوب السيد علي سالم البيض، وهو منصب لم ينص عليه دستور الوحدة الذي فرغت اللجنة الدستورية من إعداده في نهاية العام 1981، وتسبب ذلك بغياب اختصاصات نائب الرئيس الدستورية.
كما أن الدستور نفسه الذي كان من المفترض الاستفتاء عليه قبل 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1990 لم يستفت عليه إلا في مايو/أيار 1991، أي بعد عام من قيام دولة الوحدة، بل ذهبت السلطة أبعد من ذلك واعتبرت الاستفتاء على الدستور كأنه استفتاء على الوحدة، وأنه لا حاجة لاستفتاء الشعب على الوحدة بذاتها.
الحرب ومطلب فك الارتباط
تركت حرب صيف 1994 آثارا سيئة على الحياة في الجنوب، أدت إلى ميلاد القضية الجنوبية والحراك الجنوبي المطالب بفك الارتباط مع الشمال.
"
تركت حرب صيف 1994 آثارا سيئة على الحياة في الجنوب، أدت إلى ميلاد القضية الجنوبية والحراك الجنوبي المطالب بفك الارتباط مع الشمال.
"وباشتداد الأزمة السياسية بين شريكي دولة الوحدة تشكلت لجنة حوار من القوى السياسية لحل الأزمة وتوصلت إلى صياغة ما سمي بوثيقة العهد والاتفاق، وتم التوقيع عليها في عمان بتاريخ 20/2/1994 تحت إشراف الملك حسين، وهي الاتفاقية التي تنصلت منها السلطة بعد انتصارها في حرب 1994.
فقد اعتبر خطاب الرئيس علي عبد الله صالح في ميدان السبعين في العاصمة صنعاء في 27/4/1994 بمنزلة إعلان حرب على الجنوب تلاه مباشرة صدور عدة قرارات جمهورية، منها إعلان حالة الطوارئ في 5/5/1994، وإسقاط الشرعية الدستورية عن علي سالم البيض ثم عن حيدر العطاس بقرار من مجلس الرئاسة اتخذه انفراديا أعضاؤه الثلاثة الشماليون وفي غياب ممثلي الجنوب الاثنين، وردا على ذلك أعلن علي سالم البيض في 21/5/1994 فك الارتباط بالشمال. وصدر قراران عن مجلس الأمن الدولي رقم (924) و(931) في يونيو 1994، دعا الطرفين لحل مشاكلهما بالحوار وليس من خلال استعمال القوة، ونوه إلى إبقاء هذه المسألة "قيد النظر الفعلي". ولكن انتهت الحرب في 7/7/1994 بهزيمة الجنوب عسكريا.
واعتبرت بعض النخب والقيادات الجنوبية أن الحرب حولت الوحدة إلى احتلال، وأنها أسقطت اتفاقيات الوحدة واستبدلت بدستور الوحدة دستورا جديدا للعام 1994.
التشريع أداة انقلابية
يرى الحراك الجنوبي أن الحرب ألغت الوحدة التوافقية بالوسائل العسكرية، وأن التشريع استخدم كأداة انقلابية لإلغاء الأسس القانونية لدولة الوحدة وللاستيلاء على ثروات الجنوب وإلغاء مقومات دولته، ومن ذلك:
أقر مجلس النواب اليمني الموحد في أكتوبر/تشرين الأول 1994 تعديل 80 مادة من أصل 131 مادة من دستور الوحدة المستفتى عليه في مايو/أيار 1991، وخلافا لاتفاقية الوحدة التي ألغت دستوري الدولتين السابقتين أعيدت -تحت مسمى التعديل- مجموعة من مواد دستور الشمال للعام 1970 إلى الدستور الجديد، كما ألغيت من هذا الأخير بعض المواد كالمادة المتعلقة بحقوق المواطن المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان القاضية "بأنه لا تمييز بين المواطنين بسب الجنس أو اللون ... أو العقيدة". وكذلك استبدل من مجلس الرئاسة كهيئة تمثيل للشمال والجنوب هيئة فردية ممثلة برئيس الجمهورية.
أصدر الرئيس في أكتوبر/تشرين الأول 1994 قرارات بقانون تتعلق بالجرائم والعقوبات وبالإجراءات الجزائية، وبالعقوبات والإجراءات العسكرية، واستخدمت للتعجيل بمحاكمة قادة الجنوب.
أصدر الرئيس قرارا جمهوريا بقانون لسنة 1995 يتعلق بأراضي وعقارات الدولة، سمح بموجبه لرئيس الجمهورية بتوزيع أراضي وعقارات الدولة بشكل رئيسي في الجنوب، على أفراد من أسرته ومن العسكريين والتجار والشيوخ الذين شاركوا في حرب 1994 مكافأة لهم.
شكلت اللجنة العليا للخصخصة بموجب قانون الخصخصة للعام 1999، بطريقة أتاحت لمجموعة من المتنفذين تملك المؤسسات الصناعية والتجارية والفندقية والخدمية للقطاع العام والمختلط إضافة إلى تملك المنشآت والمباني والعقارات الحكومية.
وزعت السلطة السياسية بعد العام 1994 امتيازات نفطية في أراضي الجنوب لعدد من الشخصيات القبلية والعسكرية الشمالية ولبعض أقارب الرئيس، إضافة إلى أن معظم شركات الخدمات للعمليات البترولية هي بيد شخصيات غير جنوبية، بل إن غالبية العمال فيها يستقدمون من خارج أبناء المحافظات المنتجة للنفط في الجنوب، مع العلم أن أغلب القطاعات النفطية تقع في الجنوب، فقد أظهرت دراسات قام بها الأستاذ في جامعة عدن حسين مثنى العاقل أن من بين 100 قطاع يقع 92 قطاعا نفطيا في المحافظات الجنوبية. أما القطاعات المنتجة للنفط فهناك 13 قطاعا إنتاجيا منها 12 في محافظات الجنوب، مقابل قطاع واحد في الشمال.
تداعيات أخرى للحرب
وهناك تداعيات أخرى للحرب يمكن استخلاصها من المطالب والأهداف التي تستظل بها أبرز الجهات المكونة للحراك، ومنها:
أدخلت السلطة بعد حرب 1994 ثقافة القبيلة السائدة في الشمال إلى الجنوب بتعميم مصلحة شؤون القبائل على الجنوب، وعينت "مشايخ وعقال حارات"، وهو ما لم تعرفه عدن وبقية المحافظات الجنوبية طيلة تاريخها.
عسكرة المدن في الجنوب، بعد أن كان المجتمع المدني قد ترسخ في الجنوب منذ فترة الاستعمار البريطاني وأثناء فترة دولة الاستقلال.
تغيير التركيبة السكانية في الجنوب، بتشجيع نزوح المواطنين من الشمال إلى الجنوب، وتوزيع الأراضي عليهم بالمجان ليستوطنوها بكثافة.
تغيير التقسيمات الإدارية للدولة بذريعة مسح آثار التشطير بين البلدين، من ذلك ضم مديريات ذات كثافة سكانية من محافظات تعز وإب والبيضاء إلى محافظة الضالع بقانون العام 1998، كما ضمت بنفس القانون مديريتان أخريان من محافظة تعز إلى محافظة لحج. وأضيفت أيضا مديرية من محافظة البيضاء إلى محافظة شبوة بقانون العام 1999. ومن الملاحظ أيضا أنه تم فصل مديرية باب المندب الإستراتيجي الهام من محافظة عدن في الجنوب إلى محافظة تعز الشمالية التي لا تطل على بحر.
حل جيش وقوات أمن الجنوب بعد حرب 1994، بتسريح غالبية قادة وأفراد الجيش والأمن وإحالتهم إلى التقاعد البالغ إجمالي عددهم (82200) فرد، ومن جهة أخرى بلغ عدد المحالين إلى التقاعد الإجباري (566616) من أصل (680000) من إجمالي الموظفين والعاملين في القطاع المدني في الجنوب.
القضية الجنوبية والحراك في مواجهة السلطة والدولة
هناك عاملان رئيسان فجرا القضية الجنوبية والحراك الجنوبي، وهما:
"
قامت بعض مكونات الحراك الجنوبي خاصة في الفترة بين العامين 2009 و2010 بصياغة برامج سياسية للمستقبل، وتتعلق بمرحلة استعادة دولة الجنوب المستقلة وفك ارتباطها مع الشمال، وذلك بهدف سد الفراغ الذي كان يعاني منه الحراك بعدم توفيره رؤية سياسية للمستقبل.
"النخبة الجنوبية من مفكرين وكتاب وصحفيين وفنانين في استشعارهم بقضيتهم والمظالم التي لحقت بهم نتيجة السياسات الخاطئة التي ارتكبت في مرحلة الإعداد وتحقيق الوحدة من قبل قيادة الجنوب.
جمعيات المتعاقدين العسكريين والأمنيين التي أنشئت في 2007، وطالبت لأول مرة في الداخل الجنوبي بحق الجنوبيين في تقرير المصير، واستطاعت تحريك الشارع في فعاليات شعبية شارك فيها الآلاف من الجنوبيين. وتتكون تلك الجمعيات من قيادات عسكرية وأمنية عليا وضباط وجنود أحيلوا للتقاعد أو فصلوا من الخدمة بعد حرب 1994 وجمعيهم جنوبيون.
وهناك عوامل أخرى ساهمت في صناعة قضية الجنوب، قامت بها بعض الكيانات والهيئات الجنوبية غير الرسمية، وجاءت قبل تشكيل جمعيات المتقاعدين والعسكريين وتلك التي تشكلت بعدها في 2007.
بدايات هيئات وكيانات القضية الجنوبية
سعت أطراف جنوبية في الداخل والخارج بعد حرب 1994 مباشرة إلى إعلان رفضها لتداعيات الحرب على الجنوب وتبنت مطالبه.
في الداخل
ظهرت قيادات بارزة في الحزب الاشتراكي بنهاية حرب 1994، تمثلت بشخصين هما محمد حيدر مسدوس وحسن باعوم، طالبا من داخل وخارج حزبهما الاشتراكي بضرورة إصلاح مسار الوحدة وإزالة آثار حرب 1994.
تشكلت لجان شعبية في عدد من المحافظات الجنوبية والشرقية في أغسطس/آب 1998 واستمرت حتى 2001 في نشاطها الرافض لتداعيات حرب 1994 بوصفها ناتجة عن عملية "احتلال لدولة جنوب اليمن"، وذلك في سياق الدفاع عن حق أبناء محافظات الجنوب "بالأفضلية" في التوظيف والسكن وتوزيع الأراضي، ثم تأسس بعد ذلك ما عرف باسم "ملتقى أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية" في نوفمبر/تشرين الثاني 2001.
جرى تنظيم "ملتقيات التصالح والتسامح" بين الجنوبيين أنفسهم، وذلك في 13 يناير/كانون الثاني 2006، وعقدت اجتماعاتها في جمعية ردفان بعدن لطي صفحة الصراعات الدموية على السلطة بين القيادات الجنوبية، خاصة تلك التي وقعت في 13 يناير/كانون الثاني 1986 ووصفت بالمذابح.
في الخارج
بعد حرب 1994 ولجوء بعض القيادات الجنوبية إلى الخارج، تأسست في العاصمة لندن الجبهة الوطنية للمعارضة الجنوبية (موج)، ثم تلتها حركة تقرير المصير (حتم) إلى أن تأسس التجمع الديمقراطي الجنوبي (تاج) في أغسطس 2004 وفي لندن أيضا، وأعلن بشكل صريح خلافا للآخرين المطالبة بحق تقرير المصير و"تحرير الجنوب العربي" وليس جنوب اليمن.
الحراك الجنوبي.. مكوناته وأهدافه ووسائل التغيير
أدت تداعيات حرب 1994 وما أعقبها، من ولادة حركات احتجاجية حقوقية وسياسية وما رافق ذلك أو تبعه من انحسار لسلطة الدولة، إلى ولادة الحراك الجنوبي عام 2007. وتميز الحراك عن سواه بتغير مكوناته وأهدافه ابتداء من العام 2008 وبوصفه مظلة لعدة كيانات سياسية وحقوقية جنوبية.
مكونات الحراك
المرحلة الأولى: كانت المطالب في هذه المرحلة حقوقية ولم ترق للمطالبة بالاستقلال أو الانفصال:
جمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين والمدنيين، وتشكلت في مارس/آذار 2007، وتوجت بتشكيل مجلس التنسيق الأعلى للرئاسة برئاسة العميد الركن ناصر النوبة، وانتشرت تشكيلاتها على مستوى جميع محافظات ومديريات الجنوب.
جمعية العاطلين عن العمل، ولها وجود تنظيمي في جميع المحافظات الجنوبية.
جمعيات شباب بلا عمل، وتضم العاطلين من خريجي الجامعات والمعاهد الفنية.
منظمة ولجان "مناضلي ثورة 14 أكتوبر/تشرين الأول وحرب التحرير".
جمعيات المزارعين التي توحدت تحت تسمية مجلس تنسيق الجمعيات الزراعية.
جمعية الدبلوماسيين المسرحين.
المرحلة الثانية: بدأت في هذه المرحلة الكيانات بالمطالبة بالاستقلال ولم تقتصر على الحقوقية، حيث تشكلت كيانات أخرى بهياكل تنظيمية جديدة وبمسميات تدل على أهدافها الرئيسية التي لم تجرؤ تلك التي كانت في العام 2007 على الإفصاح عنها كاستقلال الجنوب، ومن هذه الكيانات: المجلس الوطني الأعلى للنضال السلمي لتحرير واستعادة دولة الجنوب وتأسست في 13/10/ 2008 برئاسة حسن باعوم، وحركة النضال السلمي الجنوبي (نجاح) في مارس 2009.
وفي هذه المرحلة أنشأ ناصر النوبة رئيس مجلس التنسيق الأعلى لجمعية المتقاعدين العسكريين والأمنيين في 19/1/ 2008 كيانا آخر لا يقتصر على العسكريين ومطالبهم الحقوقية سماه الهيئة الوطنية العليا لاستقلال الجنوب. ثم تأسس في مايو/أيار 2009 مجلس قيادة الثورة السلمية، بدمج أغلب الكيانات التي تأسست ابتداء من العام 2008، باستثناء الهيئة الوطنية العليا لاستقلال الجنوب المشار إليها آنفا، واختيرت قيادته من رؤساء تلك المكونات، كما اختير الرئيس السابق علي سالم البيض رئيسا لها. وفي 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2009 تم التراجع عن التسمية باسم "مجلس قيادة الثورة" واستبدل منها اسم "المجلس الأعلى للحراك السلمي لتحرير الجنوب" واختير حسن باعوم رئيسا له.
أهداف الحراك
انطلقت الجمعيات والهيئات التي تشكلت في مطلع العام 2007 كياناتٍ حقوقية مطلبية، ثم تحولت إلى سياسية بسبب عدم تجاوب السلطة مع مطالبها، وذهب بعضها إلى المطالبة بإنهاء ما تسميه "احتلال الجنوب" وفك الارتباط مع دولة الشمال، مع الإشارة إلى أنها لا تعده انفصالا، لمراعاة الفرق بين المصطلحين وفق القانون الدولي.
ففك الارتباط يعني بمفهوم القانون الدولي أن الوحدة قد تمت بين دولتين ذاتي سيادة، وهما عضوان في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وتريد إحداهما أو الطرفان معا فك رابطة الوحدة واستعادة كل منهما لسيادته واستقلاله، كما حدث في الوحدة المصرية السورية في العام 1961، وتشيكوسلوفاكيا في1992... إلخ.
بينما الانفصال يعني اقتطاع جزء من أراضي دولة قائمة وإعلان نفسها دولة مستقلة مثلما حدث مع كاتنغا في أزمة الكونغو عام 1960، وبيافرا مع نيجيريا عام 1970.
لذلك فالحراك يرى أن إعلان الحرب عام 1994 من اليمن الشمالي على الجنوب أنهى الوحدة التوافقية، وأن إصرار السلطة على تسمية مطالب الحراك بالانفصالية يكرس المفاهيم السائدة في الشمال، من أن الجنوب هو الفرع والشمال هو الأصل، ويكرس تزييف التاريخ بالقول بأن اليمن كان دولة واحدة وهذا لم يحدث منذ قرون(1) والتوحد الذي تحقق فعلا هو ما حدث في 22/ مايو- أيار /1990م.
صياغة برامج المستقبل
قامت بعض مكونات الحراك الجنوبي خاصة في الفترة بين العامين 2009 و2010 بصياغة برامج سياسية للمستقبل، وتتعلق بمرحلة استعادة دولة الجنوب المستقلة وفك ارتباطها مع الشمال، وذلك بهدف سد الفراغ الذي كان يعاني منه الحراك بعدم توفيره رؤية سياسية للمستقبل. وهنا طرح مشروعان سياسيان من قبل بعض قياديي الجنوب في الخارج، أحدهما تقدم به علي سالم البيض وآخر قدمه حيدر أبوبكر العطاس، وصيغ كل مشروع منهما على حدة بتعاون وتنسيق مع قيادة الحراك في الداخل وبمساندة مجموعة من النخب الأكاديمية الجنوبية، وفيما يلي أهم البنود التي توافق المشروعان عليها كعناوين رئيسة:
تحديد فترة انتقالية مدتها سنتان يعاد فيها بناء هياكل الدولة ومؤسساتها.
تشكيل جمعية وطنية مؤقتة ومجلس رئاسة ومجلس وزراء.
تحديد أسس بناء الدولة بنهاية الفترة الانتقالية، وإعداد دستور جديد يؤكد على مبادئ الفصل بين السلطات وشكل النظام السياسي كنظام برلماني وشكل الدولة الفدرالي.
وبصياغة برنامج للمستقبل يكون الحراك قد غطى الفراغ الذي كان يعانيه من غياب رؤيته السياسية للمستقبل الذي انتقد عليه بشدة.
وسائل الحراك في التغيير
"
يرى الحراك أن قضية الجنوب هي قضيته، وأنها قضية شعب وأرض وثروة وهوية يجب استعادتها بالنضال السلمي، وتجسيدا لهذا المبدأ يتجنب الحراك الانجرار إلى العمل المسلح لتحقيق أهدافه.
"يرى الحراك أن قضية الجنوب هي قضيته، وأنها قضية شعب وأرض وثروة وهوية يجب استعادتها بالنضال السلمي، وتجسيدا لهذا المبدأ يتجنب الحراك الانجرار إلى العمل المسلح لتحقيق أهدافه، مع العلم أن من بين مكوناته جمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين وهم من أفراد القوات المسلحة والأمنية الجنوبية، ومن أبرز الأساليب التي اتبعوها حتى الآن في أنشطتهم إقامة المهرجانات والاعتصامات والمسيرات والمظاهرات، إضافة إلى الإضراب والعصيان المدني.
وفي الوقت نفسه، تبذل بعض القوى في الحراك الجنوبي جهودا حثيثة لتوحيد جميع مكونات جنوب اليمن تحت مظلة واحدة مع احتفاظ كل منها بشخصيته المستقلة، ليكون الحراك هو الحامل الشرعي للقضية الجنوبية والمعبر السياسي عنها، محليا وإقليميا ودوليا.
إجراءات السلطة ضد الحراك
قامت السلطة بإجراءات عدة في مواجهة تظاهرات ونشاطات الحراك الجنوبي المتواصلة، من ذلك:
عالجت السلطة أوضاع مجموعة قليلة من المتقاعدين العسكريين والأمنيين الجنوبيين فقط وبررت ذلك بقلة موارد الدولة المالية، وعدم توفر معلومات وإحصائيات دقيقة عن عدد المتقاعدين والمسرحين ورتبهم الوظيفية ورواتبهم المستحقة، وأن أزمة المتقاعدين لا تقتصر على الجنوبيين بل تشمل أيضا آخرين من الشمال.
تتبع السلطة اليمنية في مواجهة الحراك الجنوبي سياسات تنفذها في العادة "سلطات احتلال" لا سلطات وطنية كما يرى مؤيدو الحراك، مؤكدة بذلك ما تردده بعض قيادات الحراك من أن الجنوب بعد حرب 1994 أصبح "أرضا محتلة".
واجهت السلطة الحراك بتكثيف تواجدها العسكري في أغلب مدن الجنوب خاصة في مدن محافظة الضالع ولحج وأبين، ونشرت نقاط عسكرية وأمنية تفصل بينها مسافات متقاربة، وهي مظاهر تخلو منها مدن المحافظات الشمالية باستثناء محافظة صعدة.
أغلب مدراء الأمن والقيادات العسكرية ليسوا من أبناء الجنوب، وكذلك محافظو المحافظات الجنوبية إلى منتصف 2008 كانوا جميعهم من الشمال ثم جرى تعويضهم بمحافظين جنوبيين، وفرض حصار مطبق على المناطق الساخنة في ردفان ومحافظات الضالع ويافع ولحج مرتين، أولهما في مايو/أيار 2010، وثانيتهما في يناير 2011 لمدة لا تقل عن ثلاثة أسابيع. وكان أحد أهداف سياسة "الحصار" إثارة تذمر شعبي ضد ناشطي الحراك، وهو ما لم يتحقق، ولكن على صعيد آخر حققت السلطة نجاحا نسبيا في زرع ثقافة الكراهية بين مواطني الجنوب والشمال من خلال نسبة عمليات قتل وتشويه إلى ناشطي الحراك الجنوبي، وهو ما تنفيه قياداتهم بشدة.
سعت السلطة إلى حجب أخبار الحراك ومنع نقل صورة سياسة اليد الحديدية التي تعتمدها السلطة ضدهم، فصادرت سبع صحف مستقلة لفترة قصيرة كتغطية على إيقاف صحيفة "الأيام" العدنية (الجنوبية) لأكثر من عامين حتى الآن، وسجن رئيس تحريرها وولداه لعدة أشهر.
استخدمت السلطة العنف المفرط في قمع فعاليات الحراك حتى بالذخيرة الحية وصولا إلى الأسلحة الثقيلة في ضرب مدن الجنوب(2)، وهناك ازدياد مستمر في عدد المعتقلين وصدرت أحكام مغلظة ضدهم، هذا فضلا عما وجهت من اتهامات للسلطة بأنها حاولت اغتيال بعض القيادات من الحراك الجنوبي وفشلت.
اتهام السلطة للحراك الجنوبي تارة بتحالفه مع القاعدة وتارة أخرى بتحالفه مع الحوثيين، ولم توفر السلطة جهدا لتأكيد التهمة الأولى بأن الجنوب أصبح مرتعا للإرهاب القاعدي بينما تراجعت عملياته في المحافظات الشمالية بعد أن طالت هجمات متتالية مبنى الأمن السياسي في عدن إضافة إلى ما تبعه من هجمات مسلحة استهدفت الأمن العام والأمن السياسي في أبين في منتصف العام الماضي.
الحراك وتأكل سلطات الدولة
أثبت الحراك قدرته على الحد من سلطة الدولة في كثير من المواجهات:
فقد أحكمت مجموعة من المسلحين من أبناء ردفان ويافع والضالع سيطرتها على مدينة الحبيلين بردفان سيطرة شبة مطلقة لأكثر من عامين، منذ مطلع العام 2009 حتى يناير/كانون الثاني 2011 مستفيدة من انشغال الجيش اليمني بحرب صعدة السادسة.
لم يعد بوسع الرئيس اليمني التنقل في الجنوب بحرية، ومن الأمثلة على ذلك أنه بات يكتفي بمقابلة أعضاء المجالس المحلية الجنوبية في قصر الرئاسة بصنعاء بدلا من الالتقاء بهم في مجالسهم. وبهذا، فمن الواضح أن الحراك أصبح يمثل تحديا لسلطة الدولة ورموزها وللرئيس نفسه.
حث الحراك الجنوبيين على العصيان المدني ودعا بعض قادته إلى تفعيل ما أسماه بالمحاربة الاقتصادية للنظام من خلال نقل الإضرابات الشاملة إلى قطاعات النفط والموانئ والمطارات والكهرباء والمياه، ودعوا أبناء الجنوب إلى الامتناع عن دفع الضرائب وفواتير المياه والكهرباء.
نجح الحراك في مقاطعة مرحلة الإعداد للانتخابات النيابية التي كان من المقرر إجراؤها في 27 أبريل/نيسان 2009 وأجلت لعامين، وكرر موقفه من جديد بأنه سيقاطع الإعداد للانتخابات النيابية فيما إذا أجريت في أبريل القادم من هذا العام.
من الواضح أن تنامي قدرة الحراك واتساع قاعدته الشعبية في الجنوب يقابلها تآكل في سلطات الدولة ووظائفها وانفلات سيطرتها على أجزاء من محافظات الجنوب التي يعدها الحراك مناطق محررة، وستزداد رقعتها تدريجيا في المستقبل القريب.
الحراك الجنوبي وبقية الفاعلين غير الرسميين
يتميز الحراك الجنوبي عن بقية الفاعلين غير الرسميين في اليمن، ولا سيما الحركة الحوثية وتنظيم القاعدة إضافة إلى التكتلات القبلية، بمميزات عدة.
الحراك والحركة الحوثية
يمثل الحراك فئة تقول أنها كانت تنتسب لدولة مستقلة لها هويتها الخاصة بها، وتريد استعادة هذه الدولة من خلال العمل السلمي. بينما اعتمد الحوثيون المواجهة المسلحة ضد السلطة. ومن الناحية الرسمية يتميز الحراك عن الحركة الحوثية باعتبار أن الأخير يهدد نظام الرئيس علي عبدالله صالح، والحراك الانفصالي يهدد وحدة اليمن.
وعلى صعيد الصراع مع السلطة، لم تسمح الأخيرة لأي وساطة إقليمية أو دولية بالتدخل، بينما وافقت ورحبت بالوساطة القطرية وأشركت السعودية في حربها ضد الحوثيين، وخضعت لمطالب الولايات المتحدة بإيقاف حربها ضد الحوثيين لتتفرغ أي السلطة لمكافحة الإرهاب والقاعدة.
الحراك والتكتلات القبلية
توجد قبائل في الجنوب لكنها ليست تكتلات قبلية مثل الشمال، فقد تم تطويق القبائل في نهاية فترة الاستعمار البريطاني ونزعت أسلحتها. كما حلت معظم قضايا الثأر بين قبائل الجنوب في إطار دولة الاستقلال، ويشارك أعضاء من القبائل الجنوبية في الحراك، ويقفون مع بقية شرائح المجتمع المدني في نشاطاته السلمية لاستعادة الجنوب.
الحراك والقاعدة
يعتمد الحراك الجنوبي في وجوده وأعضائه وأنشطته على أبناء الجنوب، وساحة عمله هي الجنوب حصرا، ويريد دولته الخاصة عبر العمل السلمي. أما القاعدة فهي تنظيم أممي لا تقتصر في أنشطتها أو في وجودها على اليمن، فهي موجودة في الشمال بمأرب والجوف، وفي الجنوب بأبين وشبوة وحضرموت، وتعتمد العنف لتحقيق أهدافها.
ويعتقد غالبية قيادات الحراك أن القاعدة هي صناعة السلطة، خرج أعضاؤها من القصر الرئاسي للدولة وتتبع قيادة الدولة ومؤسساتها الأمنية، وأن الرئيس يستخدمها لتشويه صورة الحراك إقليميا ودوليا، ليبرر ضرب قواعد الحراك بحجة مكافحة الإرهاب، كما حدث في شبوة في سبتمبر/أيلول 2010، ما أدى إلى تهجير ما بين 15000 و20000 شخص من مدينة الحوطة.
خاتمة
لم يهتز النظام السياسي اليمني القائم إلا بظهور جمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين ندا قويا موازيا له، خاصة بعد أن أصبحت هذه الجمعيات جزءا من ائتلاف نزل إلى الشارع يطالب بحق الجنوب في تقرير مصيره، وهو ما لم تنجح فيه الأحزاب السياسية منذ نهاية حرب 1994.
ويثبت المشهد العربي الذي تجلى فيه سقوط الرئيسين التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك، أن النضال السلمي كخيار إستراتيجي للحراك لم يستنفد غرضه بعد، خاصة أن الحراك الجنوبي هو الأول في العالم العربي الذي تبنى النضال السلمي يوميا ومنذ سنوات لتحقيق مطالبه.
ومشاركة الحراك في الثورة الحالية في الشمال والجنوب دليل على نضجه السياسي والحضاري، لأن الحراك لو رفع مطالبه بفك الارتباط:
"
المستقبل ومرحلة ما بعد الثورة، فليس من المتوقع أن يتخلى الحراك الجنوبي عن هدفه بفك الارتباط المستوحى من تجربة عقدين من الوحدة، ولوجود اختلاف جذري بين هوية الشعبين في الجنوب والشمال وتطلعاتهما.
"سيعطى الرئيس صالح ذريعة للقول بتغير طبيعة الاحتجاجات ضده من الإصلاح إلى الانفصال، وسيساعده ذلك على إجهاض الثورة، ومع ذلك لا يزال صالح يرفع في خطبه فزاعتي "انفصال الجنوب وعودة الإمامة".
سيقف مئات الألوف في الشمال ضد مطلب الحراك بفك الارتباط، ولكن يؤمل برد جميل شمالي نحو الحراك، بأن يعطى الجنوبيون حق تقرير المصير. كما أنه من المعروف تاريخيا أن الأنظمة الديمقراطية لا تشن حربا بعضها ضد بعض.
أما المستقبل ومرحلة ما بعد الثورة، فليس من المتوقع أن يتخلى الحراك الجنوبي عن هدفه بفك الارتباط المستوحى من تجربة عقدين من الوحدة، ولوجود اختلاف جذري بين هوية الشعبين في الجنوب والشمال وتطلعاتهما.
___________________
دكتوراه الدولة في القانون الدولي السوربون، وناشط حقوقي
ملاحظة: الدراسة جزء من تقرير معمق يضم عدة دراسات وبعنوان "الفاعلون غير الرسميين في اليمن"، سيصدر قريبا عن مركز الجزيرة للدراسات.
هوامش
(1) أشار عبدالله أحمد غانم وزير العدل السابق ورئيس الدائرة السياسية للمؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم) إلى أن "انقسام اليمن إلى شطرين شمالي وجنوبي قد تم قبل أكثر من قرنين". وذلك في مقالة له بعنوان: "مقاربة أولية لأوجه الشبه والاختلاف بين الوحدة اليمنية والوحدة الألمانية". انظر: صحيفة 26 سبتمبر، العدد 1525، تاريخ 8 يوليو/تموز 2010.
(2) انظر تقرير هيومن رايتس عن "إطلاق قذائف للدبابات والمدافع" من إحدى مواقع الجيش اليمني على قرية في الحبيلين ( محافظة لحج ) في 28 أبريل/ نيسان 2009. تقرير هيومن رايتس وتش: "باسم الوحدة رد الحكومة اليمنية القاسي على احتجاجات الحراك الجنوبي" الصادر في ديسمبر / كانون الأول 2009. الرابط الإلكتروني:
http://www.hrw.org/node/87091
ونقلت صحيفة الصحوة اليمنية أن القصف العشوائي بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة الذي تعرضت له مدينة الضالع في 7 يونيو /حزيران 2010 من قبل قوات اللواء (35) مدرع، نتج عنه 6 قتلى مدنيين وأصيب 18 جريحا من المواطنين إضافة إلى تضرر حوالي 30 منزلا . انظر الصحيفة المذكورة العدد 1229 بتاريخ 10/6/ 2010 الرابط الإلكتروني
http://www.alsahwa-yemen.net/arabic/pdf/201006101229/21D_4.pdf
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات
يؤشر ظهور القضية الجنوبية في شكل الحراك الجنوبي كحامل شرعي للقضية إلى أمرين، أولهما في اختيار التسمية بالجنوبية كقضية وكحراك دون الإفصاح عن يمنيتها أم لا.
"
عرف جنوب اليمن في عهد الاحتلال البريطاني مفهوم الدولة والإدارة وسيادة القانون والمجتمع المدني والتعددية الحزبية والسياسية والحياة البرلمانية. ونشأت في ظل دولة الاستقلال دولة مركزية مدنية يحكمها نظام الحزب الواحد ممثلا بالحزب الاشتراكي.
"والأمر الثاني يتعلق بتغييب الحزب الاشتراكي اليمني الحزب الحاكم سابقا للجنوب، وهو من وقع باسمه الأمين العام للحزب اتفاقيات الوحدة الأخيرة مع دولة الشمال، ويؤخذ على هذا الحزب فترة حكمه الشمولي وعدم تأمينه لحقوق ومصالح أبناء دولة الجنوب عند إبرامه لاتفاقيات الوحدة.
وقد حرص الحراك منذ قيامه، وبمختلف فصائله، على إيجاد مسافة تفصل بينه وبين الحزب الاشتراكي ليكون قوة فاعلة جنوبية غير رسمية تختلف بأهدافها وتكوينها عن الحزب الاشتراكي. فمن أهم أهداف الحراك التي تميزه عن الاشتراكي أنه يدعو لفك الارتباط بالشمال واستعادة استقلال وسيادة دولة الجنوب. بينما الحزب الاشتراكي، كبقية الأحزاب السياسية المعارضة المنتمية إلى كتلة اللقاء المشترك، يسعى للوصول إلى السلطة في إطار دولة الوحدة.
والاختلاف الآخر بينهما يتمثل في أن الحراك يحتضن جميع فئات أبناء الجنوب من مستقلين وحزبيين منتمين إلى جميع الأحزاب السياسية القائمة في اليمن، بمن فيهم أعضاء في الحزب الحاكم، المؤتمر الشعبي العام. كما أن جميع أعضاء الحراك وقياداته مقتصرة فقط على أبناء الجنوب، ولا يوجد بينهم أحد من أبناء المحافظات الشمالية، في حين أن غالبية قواعد الحزب الاشتراكي وبقية الأحزاب الأخرى هي من الشمال بحكم فارق الكثافة السكانية بين الشمال والجنوب التي تصل إلى ما نسبته 80% في الشمال، مقابل 20% في الجنوب.
تجاهل الوحدة للموروث وللاتفاقيات السابقة
الحرب ومطلب فك الارتباط
القضية الجنوبية والحراك في مواجهة السلطة والدولة
الحراك الجنوبي وبقية الفاعلين غير الرسميين
خاتمة
تجاهل الوحدة للموروث وللاتفاقيات السابقة
أدت الحرب الأولى في سبتمبر/أيلول 1972 بين الشمال والجنوب إلى توقيع أول اتفاقية دولية للوحدة في القاهرة في أكتوبر من نفس العام، تلتها حرب ثانية بين البلدين في فبراير 1979 ولم تنل من دولة الجنوب. ثم كانت الحرب الداخلية في الجنوب والمسماة بمذابح 13 يناير/كانون الثاني 1986 لتترك أثرا كبيرا كان من أهم نتائجها إضعاف القوة العسكرية وقدراتها القتالية لدولة الجنوب، فقد راح ضحية هذه الحرب الأهلية الآلاف من الجنوبيين في الصراع بين أنصار الرئيس علي ناصر محمد وجماعته الذين أطلق عليهم اسم (الزمرة)، ومعارضيه الذين انتصروا في المواجهة المسلحة وتولوا السلطة بعدها بقيادة علي سالم البيض كأمين عام للحزب الاشتراكي وكانوا يسمون (بالطغمة).
وأدى هذا الصراع بين الجماعتين إلى نزوح ما بين20 ألفا و30 ألفا من أفضل ألوية الجيش الجنوبي وكوادره مع أسرهم إلى اليمن الشمالي، واستخدمت صنعاء هذه القوة لاحقا لتحقق نصرها العسكري في حرب 1994.
فقد كانت مذابح 13 يناير/كانون الثاني 1986 من العناصر الرئيسة التي تسببت بإضعاف القوة التفاوضية الجنوبية في طريقها إلى الوحدة مع الشمال، لا بل تحرص السلطة اليمنية الحالية على إذكاء الصراعات التي أفرزتها تلك الحرب التاريخية لتحرض أطرافا ضد أطراف أخرى، وذلك في سياق مواجهتها للحراك الجنوبي.
وبالإشارة إلى ضعف القوة التفاوضية للجنوب، فإن أهم مظاهرها قد تمثلت في اثنتين:
إقرار القادة الجنوبيين لوحدة ارتجالية تحت الضغوط لم تأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في الموروث التاريخي والسياسي الذي عاشه الجنوبيون إبان فترة الاستعمار البريطاني أو في المرحلة التالية له في دولتهم المستقلة.
عدم إدراك القادة الجنوبيين لمكامن القوة والضعف في دولتهم مقارنة مع الشمال، هذا فضلا عن تفريطهم باتفاقيات الوحدة السابقة بقبولهم التوقيع على اتفاقية صنعاء في 22 أبريل/نيسان 1994 التي تناقض في آلياتها الاتفاقيات المعقودة.
1- اختلاف الموروث التاريخي والسياسي
تمت الوحدة بين الدولتين اليمن الشمالي والجنوبي دون أن تأخذ بالاعتبار الاختلاف بينهما في الموروث التاريخي والسياسي، ويمكن تمييزه وفق الآتي:
جنوب اليمن
عرف جنوب اليمن في عهد الاحتلال البريطاني مفهوم الدولة والإدارة وسيادة القانون والمجتمع المدني والتعددية الحزبية والسياسية والحياة البرلمانية. ونشأت في ظل دولة الاستقلال دولة مركزية مدنية يحكمها نظام الحزب الواحد ممثلا بالحزب الاشتراكي.
أما النظام السياسي فقد كان ذا طابع أيديولوجي علماني، وكان الاقتصاد موجها ومعتمدا على ملكية القطاع العام والمختلط لأدوات الإنتاج والصناعات الخدمية التي كانت بعض مكوناتها قد أممت أصلا، ولم يتم بعد الوحدة إعادتها لأصحابها وتركت على ما هي عليه ليسهل استيلاء دولة الوحدة عليها، وهو ما حصل حيث وزعت مع أراضي وعقارات الدولة الأخرى على المتنفذين والمقربين من السلطة بعد حرب 1994.
وكانت دولة الجنوب تقوم على محاصرة القبيلة دستوريا وتشريعيا وعدم الاعتراف بها، وكانت تحتكر وحدها أدوات العنف وممارسته.
اليمن الشمالي
عاش اليمن الشمالي ظروفا مختلفة عن تلك التي في الجنوبي من ذلك:
تعايشت الدولة والإدارة مع نظام الأعراف القبلية الذي أثبت في بعض الأحيان أنه السائد فوق سيادة القانون.
حظرت فيه الحياة الحزبية دستوريا، وتم تأسيس المؤتمر الشعبي العام في عهد الرئيس علي عبد الله صالح وكانت تسميته بالمؤتمر بسبب هذا الحظر.
النظام السياسي يقوم على تحالف المؤسستين العسكرية والقبلية خاصة في ظل حكم الرئيس علي عبد الله صالح، والاقتصاد يجمع بين حرية السوق والاقتصاد الموجه.
الدولة والمؤسسة القبلية بيدهما أدوات العنف، لذا فإن تسليح القبيلة كان ولا يزال من أهم روافد ديمومة وفاعلية دور القبيلة السياسي.
2- الوحدة والاتفاقيات السابقة
أقرت كل الاتفاقيات، من اتفاقية الوحدة الأولى الموقعة في القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 1972 حتى اتفاق عدن في نوفمبر/تشرين الثاني 1989، خطوات تسبق إعلان قيام دولة الوحدة، أهمها تنظيم استفتاء على دستور الوحدة وإقراره، وانتخاب أعضاء البرلمان الجديد الموحد في إطار من التعددية الحزبية، على أن يتم أيضا انتخاب أعضاء مجلس الرئاسة وتشكيل الحكومة الموحدة.
ولكن ما حدث في اتفاقية صنعاء في 22 أبريل/نيسان 1990 جاء بعكس ذلك، فقد اتفق الطرفان على إعلان قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو/أيار 1990، وتشكيل مجلس النواب الموحد بدمج أعضاء مجلس الشورى للشمال وعددهم 159 عضوا مع أعضاء مجلس الشعب الأعلى للجنوب وعددهم 111 عضوا، يضاف إليهم 31 عضوا يختارون بقرار من مجلس الرئاسة.
واللافت أن قانون الانتخابات العامة الذي صدر عام 1992 اعتمد تقسيم الدوائر الانتخابية وفق المعيار السكاني، وعليه خصص للجنوب 56 مقعدا بدلا من الرقم السابق 126 مقعدا. وبذلك أصبح الجنوب الذي تبلغ مساحته الجغرافية 336 ألف كلم مربع (يعادل ثلثي مساحة اليمن الموحد الإجمالية البالغة 555 ألف كلم مربعا)، وينتج ما يقارب 80% من نفط دولة الوحدة ممثلا في مجلس النواب بـ56 مقعدا نيابيا فقط، أي بفارق مقعدين فقط عن المقاعد المخصصة لمحافظة صنعاء وأمانة العاصمة البالغة 54 مقعدا.
وابتكرت اتفاقية صنعاء منصب نائب رئيس مجلس الرئاسة الذي شغله ممثلا للجنوب السيد علي سالم البيض، وهو منصب لم ينص عليه دستور الوحدة الذي فرغت اللجنة الدستورية من إعداده في نهاية العام 1981، وتسبب ذلك بغياب اختصاصات نائب الرئيس الدستورية.
كما أن الدستور نفسه الذي كان من المفترض الاستفتاء عليه قبل 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1990 لم يستفت عليه إلا في مايو/أيار 1991، أي بعد عام من قيام دولة الوحدة، بل ذهبت السلطة أبعد من ذلك واعتبرت الاستفتاء على الدستور كأنه استفتاء على الوحدة، وأنه لا حاجة لاستفتاء الشعب على الوحدة بذاتها.
الحرب ومطلب فك الارتباط
تركت حرب صيف 1994 آثارا سيئة على الحياة في الجنوب، أدت إلى ميلاد القضية الجنوبية والحراك الجنوبي المطالب بفك الارتباط مع الشمال.
"
تركت حرب صيف 1994 آثارا سيئة على الحياة في الجنوب، أدت إلى ميلاد القضية الجنوبية والحراك الجنوبي المطالب بفك الارتباط مع الشمال.
"وباشتداد الأزمة السياسية بين شريكي دولة الوحدة تشكلت لجنة حوار من القوى السياسية لحل الأزمة وتوصلت إلى صياغة ما سمي بوثيقة العهد والاتفاق، وتم التوقيع عليها في عمان بتاريخ 20/2/1994 تحت إشراف الملك حسين، وهي الاتفاقية التي تنصلت منها السلطة بعد انتصارها في حرب 1994.
فقد اعتبر خطاب الرئيس علي عبد الله صالح في ميدان السبعين في العاصمة صنعاء في 27/4/1994 بمنزلة إعلان حرب على الجنوب تلاه مباشرة صدور عدة قرارات جمهورية، منها إعلان حالة الطوارئ في 5/5/1994، وإسقاط الشرعية الدستورية عن علي سالم البيض ثم عن حيدر العطاس بقرار من مجلس الرئاسة اتخذه انفراديا أعضاؤه الثلاثة الشماليون وفي غياب ممثلي الجنوب الاثنين، وردا على ذلك أعلن علي سالم البيض في 21/5/1994 فك الارتباط بالشمال. وصدر قراران عن مجلس الأمن الدولي رقم (924) و(931) في يونيو 1994، دعا الطرفين لحل مشاكلهما بالحوار وليس من خلال استعمال القوة، ونوه إلى إبقاء هذه المسألة "قيد النظر الفعلي". ولكن انتهت الحرب في 7/7/1994 بهزيمة الجنوب عسكريا.
واعتبرت بعض النخب والقيادات الجنوبية أن الحرب حولت الوحدة إلى احتلال، وأنها أسقطت اتفاقيات الوحدة واستبدلت بدستور الوحدة دستورا جديدا للعام 1994.
التشريع أداة انقلابية
يرى الحراك الجنوبي أن الحرب ألغت الوحدة التوافقية بالوسائل العسكرية، وأن التشريع استخدم كأداة انقلابية لإلغاء الأسس القانونية لدولة الوحدة وللاستيلاء على ثروات الجنوب وإلغاء مقومات دولته، ومن ذلك:
أقر مجلس النواب اليمني الموحد في أكتوبر/تشرين الأول 1994 تعديل 80 مادة من أصل 131 مادة من دستور الوحدة المستفتى عليه في مايو/أيار 1991، وخلافا لاتفاقية الوحدة التي ألغت دستوري الدولتين السابقتين أعيدت -تحت مسمى التعديل- مجموعة من مواد دستور الشمال للعام 1970 إلى الدستور الجديد، كما ألغيت من هذا الأخير بعض المواد كالمادة المتعلقة بحقوق المواطن المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان القاضية "بأنه لا تمييز بين المواطنين بسب الجنس أو اللون ... أو العقيدة". وكذلك استبدل من مجلس الرئاسة كهيئة تمثيل للشمال والجنوب هيئة فردية ممثلة برئيس الجمهورية.
أصدر الرئيس في أكتوبر/تشرين الأول 1994 قرارات بقانون تتعلق بالجرائم والعقوبات وبالإجراءات الجزائية، وبالعقوبات والإجراءات العسكرية، واستخدمت للتعجيل بمحاكمة قادة الجنوب.
أصدر الرئيس قرارا جمهوريا بقانون لسنة 1995 يتعلق بأراضي وعقارات الدولة، سمح بموجبه لرئيس الجمهورية بتوزيع أراضي وعقارات الدولة بشكل رئيسي في الجنوب، على أفراد من أسرته ومن العسكريين والتجار والشيوخ الذين شاركوا في حرب 1994 مكافأة لهم.
شكلت اللجنة العليا للخصخصة بموجب قانون الخصخصة للعام 1999، بطريقة أتاحت لمجموعة من المتنفذين تملك المؤسسات الصناعية والتجارية والفندقية والخدمية للقطاع العام والمختلط إضافة إلى تملك المنشآت والمباني والعقارات الحكومية.
وزعت السلطة السياسية بعد العام 1994 امتيازات نفطية في أراضي الجنوب لعدد من الشخصيات القبلية والعسكرية الشمالية ولبعض أقارب الرئيس، إضافة إلى أن معظم شركات الخدمات للعمليات البترولية هي بيد شخصيات غير جنوبية، بل إن غالبية العمال فيها يستقدمون من خارج أبناء المحافظات المنتجة للنفط في الجنوب، مع العلم أن أغلب القطاعات النفطية تقع في الجنوب، فقد أظهرت دراسات قام بها الأستاذ في جامعة عدن حسين مثنى العاقل أن من بين 100 قطاع يقع 92 قطاعا نفطيا في المحافظات الجنوبية. أما القطاعات المنتجة للنفط فهناك 13 قطاعا إنتاجيا منها 12 في محافظات الجنوب، مقابل قطاع واحد في الشمال.
تداعيات أخرى للحرب
وهناك تداعيات أخرى للحرب يمكن استخلاصها من المطالب والأهداف التي تستظل بها أبرز الجهات المكونة للحراك، ومنها:
أدخلت السلطة بعد حرب 1994 ثقافة القبيلة السائدة في الشمال إلى الجنوب بتعميم مصلحة شؤون القبائل على الجنوب، وعينت "مشايخ وعقال حارات"، وهو ما لم تعرفه عدن وبقية المحافظات الجنوبية طيلة تاريخها.
عسكرة المدن في الجنوب، بعد أن كان المجتمع المدني قد ترسخ في الجنوب منذ فترة الاستعمار البريطاني وأثناء فترة دولة الاستقلال.
تغيير التركيبة السكانية في الجنوب، بتشجيع نزوح المواطنين من الشمال إلى الجنوب، وتوزيع الأراضي عليهم بالمجان ليستوطنوها بكثافة.
تغيير التقسيمات الإدارية للدولة بذريعة مسح آثار التشطير بين البلدين، من ذلك ضم مديريات ذات كثافة سكانية من محافظات تعز وإب والبيضاء إلى محافظة الضالع بقانون العام 1998، كما ضمت بنفس القانون مديريتان أخريان من محافظة تعز إلى محافظة لحج. وأضيفت أيضا مديرية من محافظة البيضاء إلى محافظة شبوة بقانون العام 1999. ومن الملاحظ أيضا أنه تم فصل مديرية باب المندب الإستراتيجي الهام من محافظة عدن في الجنوب إلى محافظة تعز الشمالية التي لا تطل على بحر.
حل جيش وقوات أمن الجنوب بعد حرب 1994، بتسريح غالبية قادة وأفراد الجيش والأمن وإحالتهم إلى التقاعد البالغ إجمالي عددهم (82200) فرد، ومن جهة أخرى بلغ عدد المحالين إلى التقاعد الإجباري (566616) من أصل (680000) من إجمالي الموظفين والعاملين في القطاع المدني في الجنوب.
القضية الجنوبية والحراك في مواجهة السلطة والدولة
هناك عاملان رئيسان فجرا القضية الجنوبية والحراك الجنوبي، وهما:
"
قامت بعض مكونات الحراك الجنوبي خاصة في الفترة بين العامين 2009 و2010 بصياغة برامج سياسية للمستقبل، وتتعلق بمرحلة استعادة دولة الجنوب المستقلة وفك ارتباطها مع الشمال، وذلك بهدف سد الفراغ الذي كان يعاني منه الحراك بعدم توفيره رؤية سياسية للمستقبل.
"النخبة الجنوبية من مفكرين وكتاب وصحفيين وفنانين في استشعارهم بقضيتهم والمظالم التي لحقت بهم نتيجة السياسات الخاطئة التي ارتكبت في مرحلة الإعداد وتحقيق الوحدة من قبل قيادة الجنوب.
جمعيات المتعاقدين العسكريين والأمنيين التي أنشئت في 2007، وطالبت لأول مرة في الداخل الجنوبي بحق الجنوبيين في تقرير المصير، واستطاعت تحريك الشارع في فعاليات شعبية شارك فيها الآلاف من الجنوبيين. وتتكون تلك الجمعيات من قيادات عسكرية وأمنية عليا وضباط وجنود أحيلوا للتقاعد أو فصلوا من الخدمة بعد حرب 1994 وجمعيهم جنوبيون.
وهناك عوامل أخرى ساهمت في صناعة قضية الجنوب، قامت بها بعض الكيانات والهيئات الجنوبية غير الرسمية، وجاءت قبل تشكيل جمعيات المتقاعدين والعسكريين وتلك التي تشكلت بعدها في 2007.
بدايات هيئات وكيانات القضية الجنوبية
سعت أطراف جنوبية في الداخل والخارج بعد حرب 1994 مباشرة إلى إعلان رفضها لتداعيات الحرب على الجنوب وتبنت مطالبه.
في الداخل
ظهرت قيادات بارزة في الحزب الاشتراكي بنهاية حرب 1994، تمثلت بشخصين هما محمد حيدر مسدوس وحسن باعوم، طالبا من داخل وخارج حزبهما الاشتراكي بضرورة إصلاح مسار الوحدة وإزالة آثار حرب 1994.
تشكلت لجان شعبية في عدد من المحافظات الجنوبية والشرقية في أغسطس/آب 1998 واستمرت حتى 2001 في نشاطها الرافض لتداعيات حرب 1994 بوصفها ناتجة عن عملية "احتلال لدولة جنوب اليمن"، وذلك في سياق الدفاع عن حق أبناء محافظات الجنوب "بالأفضلية" في التوظيف والسكن وتوزيع الأراضي، ثم تأسس بعد ذلك ما عرف باسم "ملتقى أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية" في نوفمبر/تشرين الثاني 2001.
جرى تنظيم "ملتقيات التصالح والتسامح" بين الجنوبيين أنفسهم، وذلك في 13 يناير/كانون الثاني 2006، وعقدت اجتماعاتها في جمعية ردفان بعدن لطي صفحة الصراعات الدموية على السلطة بين القيادات الجنوبية، خاصة تلك التي وقعت في 13 يناير/كانون الثاني 1986 ووصفت بالمذابح.
في الخارج
بعد حرب 1994 ولجوء بعض القيادات الجنوبية إلى الخارج، تأسست في العاصمة لندن الجبهة الوطنية للمعارضة الجنوبية (موج)، ثم تلتها حركة تقرير المصير (حتم) إلى أن تأسس التجمع الديمقراطي الجنوبي (تاج) في أغسطس 2004 وفي لندن أيضا، وأعلن بشكل صريح خلافا للآخرين المطالبة بحق تقرير المصير و"تحرير الجنوب العربي" وليس جنوب اليمن.
الحراك الجنوبي.. مكوناته وأهدافه ووسائل التغيير
أدت تداعيات حرب 1994 وما أعقبها، من ولادة حركات احتجاجية حقوقية وسياسية وما رافق ذلك أو تبعه من انحسار لسلطة الدولة، إلى ولادة الحراك الجنوبي عام 2007. وتميز الحراك عن سواه بتغير مكوناته وأهدافه ابتداء من العام 2008 وبوصفه مظلة لعدة كيانات سياسية وحقوقية جنوبية.
مكونات الحراك
المرحلة الأولى: كانت المطالب في هذه المرحلة حقوقية ولم ترق للمطالبة بالاستقلال أو الانفصال:
جمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين والمدنيين، وتشكلت في مارس/آذار 2007، وتوجت بتشكيل مجلس التنسيق الأعلى للرئاسة برئاسة العميد الركن ناصر النوبة، وانتشرت تشكيلاتها على مستوى جميع محافظات ومديريات الجنوب.
جمعية العاطلين عن العمل، ولها وجود تنظيمي في جميع المحافظات الجنوبية.
جمعيات شباب بلا عمل، وتضم العاطلين من خريجي الجامعات والمعاهد الفنية.
منظمة ولجان "مناضلي ثورة 14 أكتوبر/تشرين الأول وحرب التحرير".
جمعيات المزارعين التي توحدت تحت تسمية مجلس تنسيق الجمعيات الزراعية.
جمعية الدبلوماسيين المسرحين.
المرحلة الثانية: بدأت في هذه المرحلة الكيانات بالمطالبة بالاستقلال ولم تقتصر على الحقوقية، حيث تشكلت كيانات أخرى بهياكل تنظيمية جديدة وبمسميات تدل على أهدافها الرئيسية التي لم تجرؤ تلك التي كانت في العام 2007 على الإفصاح عنها كاستقلال الجنوب، ومن هذه الكيانات: المجلس الوطني الأعلى للنضال السلمي لتحرير واستعادة دولة الجنوب وتأسست في 13/10/ 2008 برئاسة حسن باعوم، وحركة النضال السلمي الجنوبي (نجاح) في مارس 2009.
وفي هذه المرحلة أنشأ ناصر النوبة رئيس مجلس التنسيق الأعلى لجمعية المتقاعدين العسكريين والأمنيين في 19/1/ 2008 كيانا آخر لا يقتصر على العسكريين ومطالبهم الحقوقية سماه الهيئة الوطنية العليا لاستقلال الجنوب. ثم تأسس في مايو/أيار 2009 مجلس قيادة الثورة السلمية، بدمج أغلب الكيانات التي تأسست ابتداء من العام 2008، باستثناء الهيئة الوطنية العليا لاستقلال الجنوب المشار إليها آنفا، واختيرت قيادته من رؤساء تلك المكونات، كما اختير الرئيس السابق علي سالم البيض رئيسا لها. وفي 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2009 تم التراجع عن التسمية باسم "مجلس قيادة الثورة" واستبدل منها اسم "المجلس الأعلى للحراك السلمي لتحرير الجنوب" واختير حسن باعوم رئيسا له.
أهداف الحراك
انطلقت الجمعيات والهيئات التي تشكلت في مطلع العام 2007 كياناتٍ حقوقية مطلبية، ثم تحولت إلى سياسية بسبب عدم تجاوب السلطة مع مطالبها، وذهب بعضها إلى المطالبة بإنهاء ما تسميه "احتلال الجنوب" وفك الارتباط مع دولة الشمال، مع الإشارة إلى أنها لا تعده انفصالا، لمراعاة الفرق بين المصطلحين وفق القانون الدولي.
ففك الارتباط يعني بمفهوم القانون الدولي أن الوحدة قد تمت بين دولتين ذاتي سيادة، وهما عضوان في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وتريد إحداهما أو الطرفان معا فك رابطة الوحدة واستعادة كل منهما لسيادته واستقلاله، كما حدث في الوحدة المصرية السورية في العام 1961، وتشيكوسلوفاكيا في1992... إلخ.
بينما الانفصال يعني اقتطاع جزء من أراضي دولة قائمة وإعلان نفسها دولة مستقلة مثلما حدث مع كاتنغا في أزمة الكونغو عام 1960، وبيافرا مع نيجيريا عام 1970.
لذلك فالحراك يرى أن إعلان الحرب عام 1994 من اليمن الشمالي على الجنوب أنهى الوحدة التوافقية، وأن إصرار السلطة على تسمية مطالب الحراك بالانفصالية يكرس المفاهيم السائدة في الشمال، من أن الجنوب هو الفرع والشمال هو الأصل، ويكرس تزييف التاريخ بالقول بأن اليمن كان دولة واحدة وهذا لم يحدث منذ قرون(1) والتوحد الذي تحقق فعلا هو ما حدث في 22/ مايو- أيار /1990م.
صياغة برامج المستقبل
قامت بعض مكونات الحراك الجنوبي خاصة في الفترة بين العامين 2009 و2010 بصياغة برامج سياسية للمستقبل، وتتعلق بمرحلة استعادة دولة الجنوب المستقلة وفك ارتباطها مع الشمال، وذلك بهدف سد الفراغ الذي كان يعاني منه الحراك بعدم توفيره رؤية سياسية للمستقبل. وهنا طرح مشروعان سياسيان من قبل بعض قياديي الجنوب في الخارج، أحدهما تقدم به علي سالم البيض وآخر قدمه حيدر أبوبكر العطاس، وصيغ كل مشروع منهما على حدة بتعاون وتنسيق مع قيادة الحراك في الداخل وبمساندة مجموعة من النخب الأكاديمية الجنوبية، وفيما يلي أهم البنود التي توافق المشروعان عليها كعناوين رئيسة:
تحديد فترة انتقالية مدتها سنتان يعاد فيها بناء هياكل الدولة ومؤسساتها.
تشكيل جمعية وطنية مؤقتة ومجلس رئاسة ومجلس وزراء.
تحديد أسس بناء الدولة بنهاية الفترة الانتقالية، وإعداد دستور جديد يؤكد على مبادئ الفصل بين السلطات وشكل النظام السياسي كنظام برلماني وشكل الدولة الفدرالي.
وبصياغة برنامج للمستقبل يكون الحراك قد غطى الفراغ الذي كان يعانيه من غياب رؤيته السياسية للمستقبل الذي انتقد عليه بشدة.
وسائل الحراك في التغيير
"
يرى الحراك أن قضية الجنوب هي قضيته، وأنها قضية شعب وأرض وثروة وهوية يجب استعادتها بالنضال السلمي، وتجسيدا لهذا المبدأ يتجنب الحراك الانجرار إلى العمل المسلح لتحقيق أهدافه.
"يرى الحراك أن قضية الجنوب هي قضيته، وأنها قضية شعب وأرض وثروة وهوية يجب استعادتها بالنضال السلمي، وتجسيدا لهذا المبدأ يتجنب الحراك الانجرار إلى العمل المسلح لتحقيق أهدافه، مع العلم أن من بين مكوناته جمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين وهم من أفراد القوات المسلحة والأمنية الجنوبية، ومن أبرز الأساليب التي اتبعوها حتى الآن في أنشطتهم إقامة المهرجانات والاعتصامات والمسيرات والمظاهرات، إضافة إلى الإضراب والعصيان المدني.
وفي الوقت نفسه، تبذل بعض القوى في الحراك الجنوبي جهودا حثيثة لتوحيد جميع مكونات جنوب اليمن تحت مظلة واحدة مع احتفاظ كل منها بشخصيته المستقلة، ليكون الحراك هو الحامل الشرعي للقضية الجنوبية والمعبر السياسي عنها، محليا وإقليميا ودوليا.
إجراءات السلطة ضد الحراك
قامت السلطة بإجراءات عدة في مواجهة تظاهرات ونشاطات الحراك الجنوبي المتواصلة، من ذلك:
عالجت السلطة أوضاع مجموعة قليلة من المتقاعدين العسكريين والأمنيين الجنوبيين فقط وبررت ذلك بقلة موارد الدولة المالية، وعدم توفر معلومات وإحصائيات دقيقة عن عدد المتقاعدين والمسرحين ورتبهم الوظيفية ورواتبهم المستحقة، وأن أزمة المتقاعدين لا تقتصر على الجنوبيين بل تشمل أيضا آخرين من الشمال.
تتبع السلطة اليمنية في مواجهة الحراك الجنوبي سياسات تنفذها في العادة "سلطات احتلال" لا سلطات وطنية كما يرى مؤيدو الحراك، مؤكدة بذلك ما تردده بعض قيادات الحراك من أن الجنوب بعد حرب 1994 أصبح "أرضا محتلة".
واجهت السلطة الحراك بتكثيف تواجدها العسكري في أغلب مدن الجنوب خاصة في مدن محافظة الضالع ولحج وأبين، ونشرت نقاط عسكرية وأمنية تفصل بينها مسافات متقاربة، وهي مظاهر تخلو منها مدن المحافظات الشمالية باستثناء محافظة صعدة.
أغلب مدراء الأمن والقيادات العسكرية ليسوا من أبناء الجنوب، وكذلك محافظو المحافظات الجنوبية إلى منتصف 2008 كانوا جميعهم من الشمال ثم جرى تعويضهم بمحافظين جنوبيين، وفرض حصار مطبق على المناطق الساخنة في ردفان ومحافظات الضالع ويافع ولحج مرتين، أولهما في مايو/أيار 2010، وثانيتهما في يناير 2011 لمدة لا تقل عن ثلاثة أسابيع. وكان أحد أهداف سياسة "الحصار" إثارة تذمر شعبي ضد ناشطي الحراك، وهو ما لم يتحقق، ولكن على صعيد آخر حققت السلطة نجاحا نسبيا في زرع ثقافة الكراهية بين مواطني الجنوب والشمال من خلال نسبة عمليات قتل وتشويه إلى ناشطي الحراك الجنوبي، وهو ما تنفيه قياداتهم بشدة.
سعت السلطة إلى حجب أخبار الحراك ومنع نقل صورة سياسة اليد الحديدية التي تعتمدها السلطة ضدهم، فصادرت سبع صحف مستقلة لفترة قصيرة كتغطية على إيقاف صحيفة "الأيام" العدنية (الجنوبية) لأكثر من عامين حتى الآن، وسجن رئيس تحريرها وولداه لعدة أشهر.
استخدمت السلطة العنف المفرط في قمع فعاليات الحراك حتى بالذخيرة الحية وصولا إلى الأسلحة الثقيلة في ضرب مدن الجنوب(2)، وهناك ازدياد مستمر في عدد المعتقلين وصدرت أحكام مغلظة ضدهم، هذا فضلا عما وجهت من اتهامات للسلطة بأنها حاولت اغتيال بعض القيادات من الحراك الجنوبي وفشلت.
اتهام السلطة للحراك الجنوبي تارة بتحالفه مع القاعدة وتارة أخرى بتحالفه مع الحوثيين، ولم توفر السلطة جهدا لتأكيد التهمة الأولى بأن الجنوب أصبح مرتعا للإرهاب القاعدي بينما تراجعت عملياته في المحافظات الشمالية بعد أن طالت هجمات متتالية مبنى الأمن السياسي في عدن إضافة إلى ما تبعه من هجمات مسلحة استهدفت الأمن العام والأمن السياسي في أبين في منتصف العام الماضي.
الحراك وتأكل سلطات الدولة
أثبت الحراك قدرته على الحد من سلطة الدولة في كثير من المواجهات:
فقد أحكمت مجموعة من المسلحين من أبناء ردفان ويافع والضالع سيطرتها على مدينة الحبيلين بردفان سيطرة شبة مطلقة لأكثر من عامين، منذ مطلع العام 2009 حتى يناير/كانون الثاني 2011 مستفيدة من انشغال الجيش اليمني بحرب صعدة السادسة.
لم يعد بوسع الرئيس اليمني التنقل في الجنوب بحرية، ومن الأمثلة على ذلك أنه بات يكتفي بمقابلة أعضاء المجالس المحلية الجنوبية في قصر الرئاسة بصنعاء بدلا من الالتقاء بهم في مجالسهم. وبهذا، فمن الواضح أن الحراك أصبح يمثل تحديا لسلطة الدولة ورموزها وللرئيس نفسه.
حث الحراك الجنوبيين على العصيان المدني ودعا بعض قادته إلى تفعيل ما أسماه بالمحاربة الاقتصادية للنظام من خلال نقل الإضرابات الشاملة إلى قطاعات النفط والموانئ والمطارات والكهرباء والمياه، ودعوا أبناء الجنوب إلى الامتناع عن دفع الضرائب وفواتير المياه والكهرباء.
نجح الحراك في مقاطعة مرحلة الإعداد للانتخابات النيابية التي كان من المقرر إجراؤها في 27 أبريل/نيسان 2009 وأجلت لعامين، وكرر موقفه من جديد بأنه سيقاطع الإعداد للانتخابات النيابية فيما إذا أجريت في أبريل القادم من هذا العام.
من الواضح أن تنامي قدرة الحراك واتساع قاعدته الشعبية في الجنوب يقابلها تآكل في سلطات الدولة ووظائفها وانفلات سيطرتها على أجزاء من محافظات الجنوب التي يعدها الحراك مناطق محررة، وستزداد رقعتها تدريجيا في المستقبل القريب.
الحراك الجنوبي وبقية الفاعلين غير الرسميين
يتميز الحراك الجنوبي عن بقية الفاعلين غير الرسميين في اليمن، ولا سيما الحركة الحوثية وتنظيم القاعدة إضافة إلى التكتلات القبلية، بمميزات عدة.
الحراك والحركة الحوثية
يمثل الحراك فئة تقول أنها كانت تنتسب لدولة مستقلة لها هويتها الخاصة بها، وتريد استعادة هذه الدولة من خلال العمل السلمي. بينما اعتمد الحوثيون المواجهة المسلحة ضد السلطة. ومن الناحية الرسمية يتميز الحراك عن الحركة الحوثية باعتبار أن الأخير يهدد نظام الرئيس علي عبدالله صالح، والحراك الانفصالي يهدد وحدة اليمن.
وعلى صعيد الصراع مع السلطة، لم تسمح الأخيرة لأي وساطة إقليمية أو دولية بالتدخل، بينما وافقت ورحبت بالوساطة القطرية وأشركت السعودية في حربها ضد الحوثيين، وخضعت لمطالب الولايات المتحدة بإيقاف حربها ضد الحوثيين لتتفرغ أي السلطة لمكافحة الإرهاب والقاعدة.
الحراك والتكتلات القبلية
توجد قبائل في الجنوب لكنها ليست تكتلات قبلية مثل الشمال، فقد تم تطويق القبائل في نهاية فترة الاستعمار البريطاني ونزعت أسلحتها. كما حلت معظم قضايا الثأر بين قبائل الجنوب في إطار دولة الاستقلال، ويشارك أعضاء من القبائل الجنوبية في الحراك، ويقفون مع بقية شرائح المجتمع المدني في نشاطاته السلمية لاستعادة الجنوب.
الحراك والقاعدة
يعتمد الحراك الجنوبي في وجوده وأعضائه وأنشطته على أبناء الجنوب، وساحة عمله هي الجنوب حصرا، ويريد دولته الخاصة عبر العمل السلمي. أما القاعدة فهي تنظيم أممي لا تقتصر في أنشطتها أو في وجودها على اليمن، فهي موجودة في الشمال بمأرب والجوف، وفي الجنوب بأبين وشبوة وحضرموت، وتعتمد العنف لتحقيق أهدافها.
ويعتقد غالبية قيادات الحراك أن القاعدة هي صناعة السلطة، خرج أعضاؤها من القصر الرئاسي للدولة وتتبع قيادة الدولة ومؤسساتها الأمنية، وأن الرئيس يستخدمها لتشويه صورة الحراك إقليميا ودوليا، ليبرر ضرب قواعد الحراك بحجة مكافحة الإرهاب، كما حدث في شبوة في سبتمبر/أيلول 2010، ما أدى إلى تهجير ما بين 15000 و20000 شخص من مدينة الحوطة.
خاتمة
لم يهتز النظام السياسي اليمني القائم إلا بظهور جمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين ندا قويا موازيا له، خاصة بعد أن أصبحت هذه الجمعيات جزءا من ائتلاف نزل إلى الشارع يطالب بحق الجنوب في تقرير مصيره، وهو ما لم تنجح فيه الأحزاب السياسية منذ نهاية حرب 1994.
ويثبت المشهد العربي الذي تجلى فيه سقوط الرئيسين التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك، أن النضال السلمي كخيار إستراتيجي للحراك لم يستنفد غرضه بعد، خاصة أن الحراك الجنوبي هو الأول في العالم العربي الذي تبنى النضال السلمي يوميا ومنذ سنوات لتحقيق مطالبه.
ومشاركة الحراك في الثورة الحالية في الشمال والجنوب دليل على نضجه السياسي والحضاري، لأن الحراك لو رفع مطالبه بفك الارتباط:
"
المستقبل ومرحلة ما بعد الثورة، فليس من المتوقع أن يتخلى الحراك الجنوبي عن هدفه بفك الارتباط المستوحى من تجربة عقدين من الوحدة، ولوجود اختلاف جذري بين هوية الشعبين في الجنوب والشمال وتطلعاتهما.
"سيعطى الرئيس صالح ذريعة للقول بتغير طبيعة الاحتجاجات ضده من الإصلاح إلى الانفصال، وسيساعده ذلك على إجهاض الثورة، ومع ذلك لا يزال صالح يرفع في خطبه فزاعتي "انفصال الجنوب وعودة الإمامة".
سيقف مئات الألوف في الشمال ضد مطلب الحراك بفك الارتباط، ولكن يؤمل برد جميل شمالي نحو الحراك، بأن يعطى الجنوبيون حق تقرير المصير. كما أنه من المعروف تاريخيا أن الأنظمة الديمقراطية لا تشن حربا بعضها ضد بعض.
أما المستقبل ومرحلة ما بعد الثورة، فليس من المتوقع أن يتخلى الحراك الجنوبي عن هدفه بفك الارتباط المستوحى من تجربة عقدين من الوحدة، ولوجود اختلاف جذري بين هوية الشعبين في الجنوب والشمال وتطلعاتهما.
___________________
دكتوراه الدولة في القانون الدولي السوربون، وناشط حقوقي
ملاحظة: الدراسة جزء من تقرير معمق يضم عدة دراسات وبعنوان "الفاعلون غير الرسميين في اليمن"، سيصدر قريبا عن مركز الجزيرة للدراسات.
هوامش
(1) أشار عبدالله أحمد غانم وزير العدل السابق ورئيس الدائرة السياسية للمؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم) إلى أن "انقسام اليمن إلى شطرين شمالي وجنوبي قد تم قبل أكثر من قرنين". وذلك في مقالة له بعنوان: "مقاربة أولية لأوجه الشبه والاختلاف بين الوحدة اليمنية والوحدة الألمانية". انظر: صحيفة 26 سبتمبر، العدد 1525، تاريخ 8 يوليو/تموز 2010.
(2) انظر تقرير هيومن رايتس عن "إطلاق قذائف للدبابات والمدافع" من إحدى مواقع الجيش اليمني على قرية في الحبيلين ( محافظة لحج ) في 28 أبريل/ نيسان 2009. تقرير هيومن رايتس وتش: "باسم الوحدة رد الحكومة اليمنية القاسي على احتجاجات الحراك الجنوبي" الصادر في ديسمبر / كانون الأول 2009. الرابط الإلكتروني:
http://www.hrw.org/node/87091
ونقلت صحيفة الصحوة اليمنية أن القصف العشوائي بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة الذي تعرضت له مدينة الضالع في 7 يونيو /حزيران 2010 من قبل قوات اللواء (35) مدرع، نتج عنه 6 قتلى مدنيين وأصيب 18 جريحا من المواطنين إضافة إلى تضرر حوالي 30 منزلا . انظر الصحيفة المذكورة العدد 1229 بتاريخ 10/6/ 2010 الرابط الإلكتروني
http://www.alsahwa-yemen.net/arabic/pdf/201006101229/21D_4.pdf
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات