أزمة الجنوب[1].. القديم الجديد في تقسيم اليمن (1-3)
أزمة الجنوب[1].. القديم الجديد في تقسيم اليمن (1-3)
يعنى هذا التقرير الذي أعده مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث بتوصيف الأزمة الراهنة في جنوب اليمن، وهو يعطي:
- خلفية تاريخية لمسألة الجنوب.
- وتوصيف موضوعي لأزمة الجنوب الحالية.. من خلال مظاهرها وصورها.
- كما يتطرق إلى أسباب الأزمة ودوافع الأطراف الفاعلة فيها.
- كما يعرض لمستوى تعاطي الأطراف السياسية والقوى الدينية والاجتماعية مع الأزمة.
- ثمَّ يعرض للتطور المحتمل للأزمة والاحتمالات المتوقعة لمجرياتها.
- كما يستشرف الآثار التي قد تترتب على الأزمة على الصعيدين المحلي والإقليمي.
- ويقترح التقرير جملة من الحلول التي يراها مناسبة لمواجهة هذه الأزمة.
أولا: لمحة تاريخية:
اليساريون تاريخ من التآمر والدموية:
قامت الثورة الشعبية ضد الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن في 14 أكتوبر 1963م، وبدعم من نظام الشمال وبمشاركة يمنيين شماليين. وعقب تضحيات كبيرة وجهاد متواصل نال الجنوب استقلاله في 30 نوفمبر 1967م، بعد احتلال بريطاني دام لأكثر من 120 عاما.
مع إعلان الاستقلال الذي شاركت فيه قوى سياسية وفكرية مختلفة أعلن عن قيام "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" وعاصمتها عدن. إلا أن البلاد دخلت في صراعات دامية بين تياري الثورة: "الجبهة القومية"[2] و"جبهة التحرير"[3]، حُسمت لصالح الأولى، حيث عملت حكومة بريطانيا على تسلميها مقاليد الحكم وتهميش جبهة التحرير.
أدارت "الجبهة القومية" البلاد بفكر يساري، لكن سرعان ما دبَّ الصراع داخلها وأطيح بأول رئيس للبلاد (قحطان الشعبي) في 22 يونيو 1969م، بقيادة سالم ربيع علي (سالمين). بعد ذلك بسنوات قُتل (سالمين) من قبل الرفاق في 26 يونيو 1978م؛ وهو العام ذاته الذي أعلن فيه عن قيام الحزب الاشتراكي اليمني. ولم ينته الصراع بين الرفاق على السلطة حتى توج بأحداث 13 يناير 1986م الدموية، والتي قُتل فيها الآلاف من قيادة الحزب وكوادره، في مقدمتهم عبدالفتاح إسماعيل وعلي عنتر وعلي شايع هادي، في حين غادر علي ناصر محمد وزمرته الجنوب نازحا مع كافة العناصر الموالية له إلى الشمال الذي استضافهم وقدم لهم التسهيلات[4]. وكانت التصفيات الدموية خلال الأحداث تتم وفق فرز مناطقي. ولا يزال أبناء الجنوب في عدن يحتفظون بصور في ذاكرتهم لهذه المجزرة الوحشية التي قتل فيها ما يزيد عن 12 ألف قتيل بمن فيهم المدنيين![5]
ونجا في هذه المواجهات الدامية علي سالم البيض وحيدر أبو بكر العطاس وسالم صالح محمد[6]؛ وآخرون.
لم يكن الصراع فقط على مستوى الداخل بل كان التيار اليساري يسعى إلى تصدير الثورة في المنطقة، من ذلك عُمان والسعودية، الأمر الذي وتَّر علاقة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بدول الجوار وعزز من قبول المملكة العربية السعودية بنظام صنعاء الجمهوري والاعتراف به.
يقول سالم صالح محمد إن الاتحاد السوفيتي كان ينصح قيادات الحزب الاشتراكي اليسارية الراغبة في تصدير الثورة إلى السعودية بتحسين العلاقة معها، وأنهم كانوا يقولون لهم: "أنتم على مقربة من مكة.. فين رايحين بهذا التشدد وهذا التطرف؟!!".[7]
الأمر ذاته لم يتوقف على دول الخليج بل توسع ليشمل نظام صنعاء الشمالي الذي تربطه بالجنوب عوامل بيئية واجتماعية وجغرافية مشتركة وتاريخ مشترك من النضال!
فقد سعت قيادة الجنوب لدعم الثورة ضد النظام الجمهوري الذي تشكل في الشمال باعتباره عميلا لليبرالية الغربية بغية إسقاطه وضم الشمال إلى الجنوب في كيان يساري واحد؛ وهذه كانت نظرة قادة الحزب الاشتراكي للوحدة وحدة ضم وإلحاق. وهو ما ينتقدونه اليوم على حرب 1994م!
بدأ الصراع منذ عام 1972م واستمر إلى منتصف الثمانينات، رغم محاولات الوساطة العربية في أكثر من مرة لحل الأزمة والعمل على لقاء النظامين في دولة واحدة. وعاشت المناطق الوسطى خلال تلك الفترة فصول صراع دموي راح –ويروح[8]- ضحيته عدد كبير من الأبرياء. حيث عملت القوى اليسارية في الشمال بدعم من النظام الجنوبي بأعمال تخريب وتفجير وقتل روعت الآمنين وقوضت استقرار الأمن وهددت في فترة من فترات عنفوانها العاصمة صنعاء ومن ثمَّ السلطة الحاكمة.[9]
فقد بلغ الأمر أن هددت القوى اليسارية مدعومة بقوات جنوبية العاصمة صنعاء عام 1979م حيث استطاعت هذه الميليشيات والقوات المسلحة التوغل في عدد من المحافظات والوصول إلى قرب العاصمة، إلا أنَّ تدخل دول عربية وتوسطها حال دون ذلك، فجرى إيقاف الحرب واستضافة قيادة البلدين في الكويت عام 1981م، حيث وُقِّعَت اتفاقية على توحيد البلدين بين علي عبدالله صالح وعبدالفتاح إسماعيل. وهو الاتفاق الثاني عقب اتفاق طرابلس (1972م) بهذا الشأن.
وكان البلدان قد شهدا محاولات تقارب بينهما في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي –وهو ناصري الانتماء- الذي وصل إلى الحكم بانقلاب أبيض عام 1974م. إلا أن الحمدي اغتيل في ملابسات غامضة، يشير البعض بأنَّ الدافع وراءها كان تقاربه مع الحزب الاشتراكي في الجنوب والقوى اليسارية في الشمال على حساب القوى القبلية والمحافظة. وقد ردَّ نظام الجنوب في حينه على اغتيال الحمدي باغتيال الرئيس أحمد الغشمي عبر حقيبة دبلوماسية مفخخة أرسلت له مع مبعوث خاص من عدن، عقب توليه السلطة بأشهر.
لقد كان الحزب الاشتراكي اليمني يبشر بحراك ثوري على صعيد الجزيرة العربية، وبِقُربِ سقوط الأنظمة (الرجعية) (البائدة) المتمثلة في الإمارات والممالك والسلطنات، وقيام ثورات شعبية مسلحة هنا وهناك. وهذا ما حدا بالمملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج بمساندة اليمن الشمالي في صراعه مع نظام الجنوب الاشتراكي والقوى اليسارية الشمالية الموالية له. خاصة مع ارتماء الحزب الاشتراكي في أحضان المعسكر الشرقي وإنشاء أكبر قاعدة عسكرية في المنطقة في حينه قرب عدن (قاعدة العند)، والتي مثلت تهديدا لأمن الدول المجاورة.
أما الأوضاع في الجنوب فقد كانت غاية في السوء من حيث البنى التحتية وحركة التنمية، فقد عمل الحزب الاشتراكي وفقا لمبادئه وفلسفته السياسية والاقتصادية على محاربة ما يوصف بالطبقة البرجوازية، والقضاء على رجال الدِّين ومشائخ القبائل باعتبارهم يمثلون زعامات "رجعية"، كما أمم الممتلكات الخاصة والعقارات والأراضي وحارب الملكية الخاصة. هذه الظروف دفعت بأبناء الجنوب للهروب والفرار باتجاه اليمن الشمالي الذي كان أفضل حالا فقد شهد نموا اقتصاديا وتغيرا في تطور البنى التحتية وحراكا اجتماعيا ودينيا وتنوعا في المناشط الاقتصادية لعوامل مختلفة كان من أبرزها مورد الحوالات المالية للمغتربين في دول الخليج؛ والبعض منهم باتجاه دول الخليج وفي مقدمتهم السعودية.
ومع نهاية الثمانينات وسقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الشرقي وجد الحزب الاشتراكي نفسه مكشوفا في العراء، فهو منبوذ اجتماعيا وإقليميا ولا يمتلك الموارد الكافية لإدارة الدولة ومعالجة الأوضاع التي بدت متأخرة بالنسبة للشمال. كما أنه خرج من أحداث 1986م الدموية خائر القوى ومحملا بثارات قبلية واجتماعية نتيجة موجات الصراع التي أدارها في البلاد.
هذا الحال عزز رغبة قيادة الحزب في التعجيل بوحدة سياسية مع الشمال الذي كانت قيادته السياسية ترغب في تحقيق منجز تاريخي ظل العرب يحلمون به ويُغَنُون له! فقد كان الشمال البيئة الملائمة للاندماج وجسر العبور إلى دول الخليج والمعسكر الغربي بقيادة واشنطن. وهو ما دفع بالقيادة السياسية في الشمال للتواصل مع واشنطن والرياض لتفهم مواقفهم ونقل رؤية الشمال لمستقبل اليمن الجديد –كما صرح بذلك الرئيس صالح.
وقامت الوحدة في 22 مايو 1990م، في حين كانت القوى المحافظة والدينية والقبلية تمانع من قيام وحدة كهذه مع نظام دموي بحجم الحزب الاشتراكي اليمني دون أن يقدم أي تراجع عن أفكاره اليسارية ومبادئه الشيوعية ويبدي اعتذارا عن تاريخه، إلا أن الرئيس علي عبدالله صالح ضرب صفحا عن هذا الرأي.
أقدم الحزب الاشتراكي اليمني على الوحدة بقرار سياسي ودون استفتاء شعبي –كما بدأ يصرح بهذا مؤخرا حيدر أبو بكر العطاس في مقابلات صحفية وتلفزيونية، في إشارة منه إلى أن الوحدة لم تكتسب شرعية شعبية، وبالتالي فللشعب الجنوبي حاليا حق تقرير مصيره! وقد صرح سالم صالح محمد أن الحزب الاشتراكي اليمني لم يكن يرى بالوحدة الاندماجية مباشرة بل بمرحلة تنسيق في الهيئات السياسية الخارجية تستمر من خمس إلى عشر سنوات، ثمَّ يتم إعلان وحدة فيدرالية بين الشطرين![10]
إذن كانت الوحدة للحزب الاشتراكي بمثابة استراحة المحارب الذي لا تزال في جعبته بقايا تآمر وفي صدره تعطش للدماء؛ فلم تمض ثلاث سنوات على الوحدة حتى شهدت الساحة اليمنية مجددا صراعا بين أطراف الحكم، وأزمة سياسية حادة انتهت بمؤامرة للانفصال والعودة بالجنوب إلى قيادة الحزب، التي مثلت قوة علمانية بإمكانها الوقوف أمام المدِّ الإسلامي الأصولي الذي بات يتنامى في اليمن على خلاف قيادة الشمال التي ظهرت كحليف معه!
"الوحدة أو الموت".. "الانفصال أو الموت"!
جرت الوحدة على ضوء المطالب التي اشترطها الاشتراكيون، والتي كان منها:
- علمانية الدولة واعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع.
- اعتماد الديمقراطية والتعددية السياسية كمبدأ للحكم.
وبقيت للحزب مطالب أخرى ظلت عالقة خلال المرحلة الانتقالية، منها: نزع السلاح من المواطنين، وتجريم حمله بنص القانون، وإخراج معسكرات الجيش والأجهزة الأمنية من المدن، وإيقاف التجنيد الإلزامي، وتقليص حجم القوات المسلحة، وعلى إغلاق ما كان يصفها بمعسكرات التدريب التابعة للمجاهدين العرب –بوصفهم إرهابيين ومتطرفين يجب تسليمهم إلى دولهم!
تشكلت دولة الوحدة من:
رئاسة الدولة: ممثلة في رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض.
ومجلس الوزراء: مكونا من جميع أعضاء الحكومتين في شطري اليمن سابقا برئاسة حيدر أبو بكر العطاس.
والمجلس التشريعي (البرلمان): مكونا من مجلسي التشريع في البلدين، برئاسة ياسين سعيد نعمان.
في حين ظلت الأجهزة العسكرية والأمنية للنظامين غير مدموجتين كما هو الحال مع غالبية الأجهزة الحكومية.
شهدت الفترة الانتقالية فوضى سياسية وانفلاتا أمنيا، وغلاء في الأسعار. وبرز على السطح خلاف سياسي بين شريكي السلطة المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني. فقد بدأ الحزب الاشتراكي باتهام المؤتمر الشعبي العام بتحالفه مع التيارات الإسلامية الأصولية المتطرفة التي يتهمها الحزب باغتيال كوادره القيادية في ظل غطاء القيادة السياسية له.
وارتفعت وتيرة الخلاف بين الطرفين، إلا أن انتخابات 1993م والتي أفرزت القوى السياسية في الساحة على النحو التالي:
في المرتبة الأولى المؤتمر الشعبي العام بحصوله على 122 مقعدا.
في المرتبة الثانية التجمع اليمني للإصلاح بحصوله على 63 مقعدا.
وفي المرتبة الثالثة الحزب الاشتراكي اليمني بحصوله على 56 مقعدا، جميعها في الجنوب!
وهذا كان يعني تغير الخارطة السياسية لصالح القوى الإسلامية التي كان الحزب الاشتراكي يناصبها العداء. إلا أن حرص القيادة السياسية في الشمال على استمرار الوحدة دفع باتجاه التنازل من قبل المؤتمر والإصلاح –وكانا حليفين إستراتيجيين- لصالح الاشتراكي. فتمَّ تشكيل مجلس الرئاسة من قبل المؤتمر والاشتراكي والإصلاح بنسبة (2-2-1) على التوالي، كما تخلى الحزبين (المؤتمر والإصلاح) للاشتراكي عن رئاسة الحكومة وعن نسب المحاصصة التي تعكس قوة كل حزب في مجلس النواب. إلا أنَّ هذه التنازلات لم تقنع الاشتراكي فيما يبدو عقب تشكيل حكومة ائتلافية بين هذه الأحزاب. كما أنَّ قيادة الحزب شعرت بالغبن الواقع عليها وهي التي قدمت أكبر مساحة أرضية مع أكثر ثروة نفطية وأقل شعب لأقل مساحة أرضية مع أكثر شعب وأقل ثروة!
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن أطرافا دولية وإقليمية فيما يبدو دفعت باتجاه التراجع عن الوحدة والعودة إلى التقسيم. يقول سالم صالح محمد: "إن الانفصال كان تحت تأثير –أو تدخل- أطراف محلية وإقليمية ودولية".[11]
ومن ثمَّ بدى الأمر يأخذ منحى تصاعديا، هيئ لها بمنافسة بين الاشتراكي والمؤتمر على المناصب الوظيفية ونهب خزينة الدولة وعسكرة المواقف –خاصة من قبل الحزب الاشتراكي الذي عمل على استقلال معسكراته وقواته المسلحة والأمنية. في هذه الأثناء تواصل الحزب الاشتراكي مع عدد من مشائخ القبائل ذوي الميول اليسارية أو المعارضة، وكذلك مع تيارات شيعية ناقمة على انحسار نفوذها وتأثيرها عن إدارة الحكم ومواقع السلطة، في سبيل إضعاف أداء الدولة وقدرتها على السيطرة، حيث كثرت الحوادث الأمنية وأعمال التخريب.
وشيئا فشيئا باتت الأمور تنذر بانفجار الوضع، خاصة مع وقوع مواجهات محدودة بين الطرفين لم تلبث أن احتويت. وكان هناك شعور عام من قبل قيادات اجتماعية وحزبية باتجاه الأزمة نحو التصعيد والمواجهة[12]. فعملت عدة أطراف محلية وعربية على رأب الصدع وتقريب وجهات النظر والتوسط بين الأطراف لحل الأزمة.
وبدأ الاشتراكيون بتقديم قائمة مطالب من أجل تجاوز الأزمة، حيث شهدت البلاد اعتكافا لنائب الرئيس علي سالم البيض عقب رحلة خارجية قام بها. ورغم جهود الوساطة المحلية والخارجية والاتصالات والزيارات الرسمية لعدد من الوفود إلا أن الأمور كانت تعود إلى ما هي عليه. وأصبح الحزب الاشتراكي –كما كان واضحا- يسعى إلى تأزيم الوضع بشكل أكبر.
وعقب زيارة أخرى للبيض لدول عربية وذهابه للعلاج في نيويورك كما أعلن في حينه، عاد البيض إلى مدينة عدن ليعلن من هناك عن جملة من الشروط في سبيل عودته وعدد من القيادات الاشتراكية في الرئاسة والحكومة إلى صنعاء، حيث أعلنوا عن مقاطعتهم العودة إلى صنعاء.
تدخلت أطراف عربية أخرى لحل الأزمة ولكن دون جدوى، فعقب توقيع طرفي الأزمة على ما عرف بـ"وثيقة العهد والاتفاق"[13]، وسط حضور عربي ودولي كبير في عمَّان برعاية الملك الحسين بن طلال، بتاريخ 20 فبراير 1994م، وعقب لقاء بين صالح والبيض في مدينة صلالة بعُمان لكنه لم يسفر عن شيء[14]، اندلعت المواجهات المسلحة بين قوات الطرفين واستمر التوتر حتى شهر أبريل 1994م حيث خاض الطرفان مواجهات عسكرية شاملة عُرفت بحرب الانفصال[15]. وقد وقف التجمع اليمني للإصلاح في هذه الحرب إلى جانب المؤتمر الشعبي العام ضد خصمه التقليدي.
وفي 21 مايو 1994م أعلن علي سالم البيض من عدن عن انفصال الجنوب وقيام "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية". كما جرى الإعلان عن تشكيل مجلس رئاسة وحكومة مؤقتة.
وقد سبق للبيض أن صرح في 15 فبراير لمجلة "الشروق" الإماراتية بأن: "الفيدرالية صيغة أرقى من الوحدة، من الناحية الحضارية، وإشاعة أوسع لروح الديمقراطية، وأنها تساعد على التنافس، وتقبل التنوع، وتعطي مجالاً للمبادرة، وأن الدول المتطورة في أوروبا، التي قطعت شوطاً طويلاً على النهج الديمقراطي والحداثة، مثل: ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، دول فيدرالية"!
لقد شهدت الحرب شراسة في القتال، وعكست عن إرادة لدى الحزب الاشتراكي شعارها –غير المعلن: "الانفصال أو الموت"!
لكن ورغم قرار الأمم المتحدة الذي اعتبر عدن خطا أحمر لقوات الشمال إلى أن القيادة السياسية التي أعلنت التزامها بالقرار علنا دفعت على أرض الواقع لحسم المعركة وإنهاء الانفصال لكي لا تظل القضية ورقة معلقة بيد أطراف خارجية يتم مقايضة النظام السياسي بها. وبالفعل استطاعت قوات الحكومة اليمنية، والتي عرفت حينها بقوات الشرعية، من دخول عدن ومن ثمَّ المكلا وإنهاء الانفصال كليا في يوليو 1994م. وبذلك عطلت مشروع الانفصال.. وربما أخرته!
النظرة الإقليمية والدولية لليمن الموحد والانفصال:
تأثير الأطراف الإقليمية والدولية لم يغب عن مجمل هذه التفاعلات، فقد جرى زيارة بعض دول الخليج من قبل قادة الحزب الاشتراكي أثناء أزمة 1993م وحتى عقب تفجر الأوضاع، كونها أرادت إقناع هذه الدول بالموقوف إلى جانبها خاصة وهي تحمل على قادة صنعاء بسبب موقفها من حرب الخليج الثانية.
كما أن هذه الدول أجرت اتصالاتها مع الأطراف المختلفة مقدمة عددا من المقترحات ومحاولة أحيانا تقريب وجهات النظر أو تدعيم موقف بعض أطراف الأزمة تجاه مخالفيهم.
كما أن واشنطن أعربت على لسان مسئول أمريكي عن أمل إدارة الرئيس "بيل كلينتون" أن يوقع الحزبين على وثيقة (العهد والاتفاق)، مشيرا بأن واشنطن شجعت اليمنيين بمختلف انتماءاتهم على المحافظة على وحدتهم الوطنية، وعملت مع كافة الأطراف عن كثب لتحقيق ذلك. كما أن اعتكاف علي سالم البيض جاء على خلفية زيارته للولايات المتحدة في حين انفجرت الحرب ورئيس الوزراء حيدر أبو بكر العطاس هناك!
سوريا والأردن ومصر كانوا حاضرين في الأزمة من خلال عدد من التصريحات والجهود والمساعي واللقاءات.
فقد استقبل الرئيس السوري حافظ الأسد نائب الرئيس اليمني علي سالم البيض، وتباحث الطرفان حول وثيقة (العهد والاتفاق) وتطورات الأزمة. كما زار وفد مشترك من مصر والإمارات العربية المتحدة، كلاً من صنعاء وعدن، في العاشر من أبريل، حاملاً مبادرة مشتركة من الرئيس المصري محمد حسني مبارك ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، تقترح استبدال الوحدة الاندماجية بوحدة فيدرالية، وهو ما لم يقبل به المؤتمر الشعبي العام، الذي أكدَّ تمسكه بالوحدة. كما زار الرئيس المصري أبوظبي، للتشاور مع رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة بشأن عقد قمة رباعية في القاهرة، تضمهما إلى جانب الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، ونائبه علي سالم البيض، والذي هدد عقب توقيع وثيقة (العهد والاتفاق) بالانفصال من إحدى عواصم الدول الخليجية.
بعد انفجار الحرب بدت المواقف العربية والدولية تتمحور حول عدة اتجاهات، في الوقت الذي ارتصت فيه جميع القوى الوطنية والإسلامية والاجتماعية إلى جانب القيادة السياسية التي خاضت الحرب باعتبارها تمردا على الدولة ومحاولة للانفصال، فظهرت الجبهة الداخلية أكثر تماسكا من خلال الرفض الشعبي وجسر المعونات الشعبية البري الذي كان يدعم قوات الحكومة الشرعية المقاتلة على خط النار. هذا الموقف امتد إلى الجنوب فقد لزم أبناء الجنوب الحياد في رسالة تتضمن تأييد موقف قوات الحكومة الشرعية، كما أن عددا من الوحدات العسكرية أعلنت عن تسليمها أو انضمامها إلى قوات الحكومة الشرعية، الأمر الذي سهل اجتياز مساحة وجغرافية الجنوب التي كان الاشتراكي يراهن عليها.
ويمكن هنا رصد موقفين متباينين في التعامل مع الأزمة والصراع؛ موقف يرى أن الصراع القائم داخلي بين حكومة شرعية منتخبة ومؤيدة من قبل الشعب، وبين فئة متمردة تعمل من أجل العودة إلى السلطة بالتراجع عن الوحدة والرجوع إلى الماضي. ومن ثمَّ فجوهر الخلاف قائم بالأساس على مشروعين متغايرين: الوحدة في مواجهة الانفصال!
وهذا الموقف يرى أن من حق الحكومة الشرعية التعامل مع هذه الفئة بكل الطرق المشروعة قانونا -بما في ذلك القوة العسكرية- للحفاظ على كيانها ووحدة أراضيها وبسط نفوذها وتحقيق سيادتها.
والموقف الآخر يرى أن الصراع القائم هو صراع بين كيانين منفصلين، سعى أحدهما بعد شراكة ثنائية في إقامة وحدة اندماجية لإلغاء الآخر والانفراد بالسلطة والقرار، دون الاعتراف بالخصوصية وحق الوجود. فهو صراع بين إرادة تفرض بالقوة مشروعا (مسخا) وإرادة تتراجع عن خطوة ثبت فشلها! ومن حقها كما دخلت طوعا فيه أن تخرج منه طوعا!
حكومة صنعاء واستنادا للموقف الأول رأت في أي محاولة للتدخل أو تدويل القضية أو حلها خارج إطار إنهاء التمرد والتزام الوحدة والشرعية اعتداء على سيادتها واستقلالها وشئونها الداخلية.
إلا أن دول الموقف الآخر سعت جاهدة في تقديم دعم مادي ومعنوي للحزب الاشتراكي اليمني، ومن وقت مبكر، فقد أعلنت مصادر في حزب المؤتمر في الثاني من أبريل 1994م عن وجود جسرين: جوي وبحري، لتزويد الاشتراكي بأسلحة ومعدات وذخائر مختلفة تشير لاستعداد الحزب الاشتراكي للانفصال. وفي مؤتمر صحفي عقده الرئيس علي عبدالله صالح أثناء الحرب، صرَّح بأن الجيش تمكن من الاستيلاء على معدات حربية وذخائر ودبابات ومدافع ومدرعات كانت في طريقها إلى الجنوب. وأن هناك جهات دولية تقدم صفقات السلاح للحزب "بتمويل نعرف مصادره" –حسب تعبيره، في إشارة إلى جهات خارجية. رافضا قدوم أي قوات أممية لمراقبة الوضع، ومهددا أن قوات من هذا النوع سيكون مصيرها نفس المصير الذي لقيته في الصومال!
بل إن هذه الدول دعت إلى وقف إطلاق النار والاقتتال مؤكدين بأن "الوحدة لا تفرض بالقوة"! وأعطى بعضها مؤشرات سياسية وإعلامية كنوع من الاعتراف الضمني بدولة الجنوب، المعلنة في 21 مايو 1994م من عدن، إلا أنها لم تجرؤ على تأييد الانفصال والاعتراف بالدولة الجديدة بلغة رسمية. والبعض منها حذر من (حرب أهلية لا نهاية لها)!
هذا الموقف الذي اتخذته بعض الدول العربية والغربية تختلف دوافعه، ففي حين أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تثق بنظام صنعاء وتتخوف من المدِّ الإسلامي وهو ما استغله الاشتراكي لتسويق ذاته كحزب ذو خلفية عدائية أيديولوجية مع الإسلاميين، فقد أعلن مصدر مسئول في الخارجية الأمريكية أن العطاس أبلغ المسئولين الأمريكيين الذين التقاهم في واشنطن بالمخاطر التي ستترتب على استيلاء القوات الشمالية الموالية للرئيس اليمني علي عبدالله صالح على المحافظات الجنوبية. وأكد أن بلاده ستصبح موئلا لتصدير الإرهابيين والمتطرفين. وأنه حصل على وعد من "روبرت بليترو"، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستجدد دعمها للمساعي الرامية إلى تسوية النزاع سلمياً.[16]
لقد ظلت اليمن ولا تزال –حسب بعض المراقبين- تمثل عامل قلق لبعض القوى الدولية للاعتقاد بأنه قد يأتي اليوم الذي يقيم فيه الإسلاميون عليها دولتهم المنشودة، تحقيقاً لوصف مؤسس الإخوان المسلمين -الإمام حسن البنا- لليمن بأنها بيئة صالحة للمشروع الإسلامي كونها لم تتلوث بالاستعمار ومخلفاته! خصوصا وهي تشهد تناميا مطردا للحراك الإسلامي.[17]
لقد حاولت اليمن عبر التواصل المباشر أو إرسال موفدين لها والقيام بجولات متكررة لدول إقليمية لثنيها عن تبني رموز الانفصال وإقناعها بأن اليمن تمثل عمقا إستراتيجيا لهذه الدول وأنها لا تستهدفهم وأن في استقرارها استقرار لهم وللمنطقة، إلا نزعة الخلاف والموروث النفسي كان حاضرا في تعامل هذه الأطراف، والتي كان الحزب الاشتراكي فيما سبق يمثل تهديدا حقيقيا لها!
هذه المواقف والجهود لم تستطع إقناع صنعاء بالتراجع ولا ثنيها عن مواصلة القتال، وفي أثناء ذلك أعلن عن قيام "جمهورية اليمن الديمقراطية"، في 21 مايو 1994م. وذكرت مصادر مسئولة في الحزب الاشتراكي -في حينه، من عدن- أن قادة الحزب عرضوا قيام دولة الانفصال على عدد من رؤساء الدول العربية، وتشاوروا مع بعض الدول الأوربية، وأنهم لمسوا تأييداً لقيام الدولة الجديدة، مما دفع بهم إلى إعلانها في ذكرى الوحدة اليمنية.
الرئيس علي عبدالله صالح اعتبر أي اعتراف بالدولة المعلنة تدخلا بالشؤون الداخلية لليمن، كما اعتبر هذا الإعلان (خيانة عظمى)، وأعلن في مقابل ذلك عن شعار "الوحدة أو الموت"! كما اعتبر بيان مشترك لمجلس الرئاسة وهيئة رئاسة مجلس النواب ومجلس الوزراء أن أي تعامل أياً كان نوعه من أي جهة مع قيادة الانفصال يعتبر عملاً معادياً للشعب اليمني، وتدخلاً سافراً ومرفوضاً في الشؤون الداخلية للجمهورية اليمنية. وأن للسلطات الدستورية في البلاد الحق في التعامل معه بالأسلوب المناسب. وحذر وزير خارجية اليمن محمد سالم باسندوه سفراء الدول العربية والإسلامية في صنعاء من أي موقف يؤيد الانفصال.
رفض الانفصال الأردن والعراق وإلى حدِّ ما السودان وقطر، بينما ظلت غالبية الدول العربية صامتة تجاه هذا الإعلان. ولم تستنكر إيران الانفصال وإن كانت قد أعربت عن أسفها لما حدث! ولم تستبعد بعض الدول إمكانية الاعتراف بالجنوب كدولة منفصلة!
أما الولايات المتحدة الأمريكية فدعت في بيان أصدرته وزارة الخارجية، أطراف النزاع اليمني إلى إعلان وقف نار دائم، والبدء بمحادثات للمصالحة السياسية، واعتبرت الولايات المتحدة أن الوحدة اليمنية، ليست هدفاً ينبغي السعي إلى تحقيقه بقوة السلاح. وجاء في البيان أن "الحلول العسكرية ليست الجواب لمشاكل اليمن، ولن تحقق الوحدة المفروضة بالقوة السلام لليمن"!
لقد أريد لقضية الانفصال بفعل دول عربية وأجنبية أن تطرح للتدويل عبر تبني طرحها للناقش في مجلس الأمن، تحت إلحاح من قيادة الحزب للتدخل الدولي لإيقاف الحرب. إلا أن مسيرة الحرب التي كانت لصالح الحكومة الشرعية أثرت في طرح قرار دولي مؤيد للانفصال أو مجرم لصنعاء.
إن اليمن الموحد بكثافته البشرية وأرضه الشاسعة وسواحله الممتدة لأكثر من 2.400كم على بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر وتنوع ثرواته وموقعه الجغرافي، وتنامي القوى الإسلامية فيه كما أسلفنا، لا يطمئن بعض القوى الدولية والإقليمية، كما أن مواقفه السياسية تجاه قضايا قومية وإسلامية لا تريح القوى الصهيونية والمعادية للأمة وترى فيها تجاوزا للحدود المرسومة للأنظمة. وعليه فإن الانفصال يمثل عامل إضعاف وإشغال وخطوة نحو تهديد دول أخرى لن تجد لها في ظل الدول المجاورة الضعيفة حليفا يقف إلى جانبها.
الحراك الاشتراكي في الجنوب (1994م- 2004م):
عقب الحرب هربت قيادة الانفصال الاشتراكية وكثير من كوادر الحزب المشاركة في الحرب إلى خارج الوطن، لتستضيفهم بعض دول الخليج وتشكل لهم ملجأ آمنا رغم الجرائم التي ارتكبوها في حق الشعب اليمني. وبقيت كوادر الحزب في الداخل في حالة انكماش نتيجة انعكاس حرب الانفصال أمنيا وسياسيا واجتماعيا على المشهد العام.
وتمثلت حالة الانكماش هذه في غياب الحزب عن المشاركة الجادة في الانتخابات –ومنها 1997م. إلا أن الحزب ظل متماسكا وممسكا بقيادته الانفصالية في هيئاته الحزبية العليا.
ورغم تهديد المؤتمر عدة مرات بحظر نشاط الحزب الاشتراكي إلا أنه لم يقم بأي خطوة بهذا الاتجاه. فحظر نشاط الحزب قد يعني تحول نشاطه إلى عمل سري لن تسهل مراقبته، كما أنه استعداء لبقية أعضاء الحزب الذين رفضوا إعلان الانفصال في حرب 1994م، وربما يسهل ذلك للتجمع اليمني للإصلاح اكتساح الساحة السياسية ضد منافسة المؤتمر، وأخيرا فإن حظر الحزب داخليا قد يدفع باتجاه تبنيه كمعارضة خارجية من بعض القوى الإقليمية والدولية.
هذا في الشق السياسي والحزبي أما في شق المشهد اليمني في الجنوب وعلى أرض الواقع فالصدمة لم تكن بالشيء السهل على قواعد الحزب وكوادره.
فقد أعلن بعد الحرب عن تكوين (الجبهة الوطنية للمعارضة –موج)، وكان أبرز رموزها من أبناء الجنوب، لكنها ما لبثت أن تلاشت، نتيجة التفاهم الذي تمَّ بين المملكة العربية السعودية والجمهورية اليمنية على الحدود وتوقيع اتفاقية جدة الحدودية عام 2002م.
في عام 1998م بدأ الإعلان عن تشكيل (اللجان الشعبية)، وكان غالبية المنضوين فيها من الاشتراكيين أو موظفي الجنوب الذين سرحوا من أعمالهم أو أحيلوا على التقاعد نتيجة الحرب، كاحتياط أمني أو كجزء من العقاب![18]
وهي لجان اتخذت طابع الحراك الشعبي دون أي غطاء قانوني.. إلا أن مواجهة الدولة لها بالقوة والإجراءات الأمنية أخمدها سريعا. ليظهر فيما بعد ما عُرف بـ(ملتقى أبناء المناطق الجنوبية)، وهي المرة الأولى التي يبرز فيها مسمى الجنوب عقب الحرب. وكان وراء إعلان هذا الملتقى شخصيات اشتراكية في الداخل والخارج.
ظل الملتقى يراوح مكانه دون أي تأثير يذكر في توجيه قضية الجنوب، وساعد بروز (موج) في الخارج وتبنيها أعمال تفجير في الداخل في إفشال الملتقى وأي حراك باسم الجنوب في ظل أعمال التخريب والتفجير التي طالت عددا من المرافق. وتزعم حركة موج عبدالرحمن الجفري.
بفترة قصيرة من الإعلان عن (موج) جرى الإعلان عن حركة أخرى جديدة، هي (حركة تقرير المصير- حتم)، وكان نشاطها مسلحا ومنطلقا من الداخل حيث تبنت عددا من العمليات التخريبية في الضالع وعدن.
الحركتان –موج وحتم- لم تغيرا من واقع الأمر القائم شيئا، وعلى العكس من ذلك فقد تسببت الحركتان في دفع القيادة السياسية لممارسة مزيد من الإجراءات الأمنية وعسكرة المرافق الحكومية في الجنوب تحسبا لأي عمل مسلح، مع تعيين غالبية الكوادر القيادية في المحافظات الجنوبية من الشمال لضمان عدم العودة بالجنوب إلى مظلة الحزب تحت أي مسمى كان.
انتهت حركة (حتم) هي الأخرى بتوقيع اتفاقية الحدود بين اليمن والسعودية. وظلَّ الملف الجنوبي هادئا إلى حدِّ ما. واستمر الأمر على ذلك حتى عام 2003م حيث جرى إسقاط نظام البعث العراقي من قبل قوى الاحتلال الإنجلو-أمريكية وبدا أن هناك حراكا جديدا كان يرتب له خلال الفترة الماضية، وهذه المرة بمسميات وأوجه جديدة ومن خارج المنطقة.
فقد أُعلن عام 2004م في لندن عن تأسيس (التجمع الديمقراطي الجنوبي- تاج)، والذي نادى بعودة استقلال الجنوب مجددا عن (احتلال) الشمال. وهو ما أعطى مؤشرا باتجاه تخلي الأطراف الإقليمية عن ملف الجنوب وتسلم الأطراف الدولية الفاعلة والمباشرة له. فقد فُسِر الموقف السلبي من الحركة لبريطانيا والولايات المتحدة بأنه موقف داعم خاصة مع بروز حراك وتجاوب مع الحركة على صعيد قيادات حزبية وسياسية في البلدين.
اعتمدت (تاج) على التحرك السياسي السلمي للمطالبة باستقلال الجنوب وعبر التواصل مع الدول المضيفة أوروبيا وفي الولايات المتحدة. محاولة تسليط الضوء على القضايا الحقوقية والمظالم والفساد في الجنوب باعتبارها بلدا محتلا من قبل الشماليين! وفي سبيل ذلك توجهت الحركة لزيارة عدد من المسئولين والنواب والمؤسسات الرسمية والمنظمات الدولية للتعريف بـ(قضية الجنوب)، وأطلقت موقعا لمتابعة ملفات الجنوب وتناول أحداثه الدائرة، والحضور عبر وسائل الإعلام المختلفة: القنوات والإذاعات والصحف والمجلات.
لقد مثلت تاج منعطفا مهما في أزمة الجنوب حيث تبنت فكرة (الجنوب اليمني المحتل من الشمال) وعلى ضوء ذلك جعلت هدفها (التحرير وتقرير مصير الجنوب)! وهو ما يعني دخول القضية في منعطف جديد. وبالفعل شهدت عواصم بعض الدول العربية والأجنبية نشاطا غير مسبوق بين أطراف مختلفة، بعضها غادر اليمن ليلتحق بالمعارضة في الخارج. غير أن الجامع الأغلب لهؤلاء هو انتماؤهم للحزب الاشتراكي أو مشاركتهم إياه في حرب الانفصال.
والجديد في هذا الحراك هو محاولته الخروج من أزمة الخلافات الموروثة بين أبناء الجنوب ورغبته في تغييب صفة الاشتراكية عنه نظرا لسقوط شعبية الحزب تاريخيا وسياسيا. بل أصبح هذا التيار يتهم الحزب الاشتراكي بوضعه الراهن وبقيادته الحالية بأنه (بائع) للقضية الجنوبية و(منحاز) للسلطة!
وفي حين تصاعد العمل في الخارج أخذ الحراك الداخلي يتبلور في جمعيات للمتقاعدين[19] من العسكريين والمدنيين والدبلوماسيين بالإضافة إلى جمعيات التصالح والتسامج وملتقيات مناطقية. وبالفعل ظهرت قضية الجنوب كمسألة سياسية باتت تفرض نفسها إعلاميا وشعبيا في الداخل والخارج.
الحزب الاشتراكي اليمني –الذي خسر الحرب- أُصيب بانتكاسة كبيرة دفعته للمراجعة وترتيب أوراقه الداخلية، حيث بدأ بترميم تصدعاته الداخلية ومدِّ جسور التواصل مع الأحزاب الأخرى في سبيل تشكيل جبهة معارضة قوية، واستطاع إقناع "التجمع اليمني للإصلاح" –ذو التوجه الإسلامي، والذي تواجه مع المؤتمر منفردا في انتخابات 1997م- أن يكون أحد أقطابها. وفي إطار النظرة تجاه قضية الجنوب تشكل داخل الحزب تيار مطالب بتصحيح مسار الوحدة، وهو بهذا المعنى يرفض نتائج حرب 1994م ويطالب بتطبيق وثيقة (العهد والاتفاق)! أو إعادة الوضع إلى ما كان عليه في عام 1990م!
إن ما يميز هذه المرحلة هو التوجه بقضية الحزب (الخاسر) إلى قضية شعب كامل ووطن جغرافي كانت له دولة وسيادة، بحيث استطاع الاشتراكي ترسيخ ما عُرف بـ(قضية الجنوب) في الوعي الجماهيري لدى أبناء الجنوب.. وهذا لم يكن ليتم لولا عوامل أخرى ساعدت الحزب في ترسيخ هذا الهمّ كان من بينها أداء الدولة وممارساتها عقب الحرب.. وهو ما سنتطرق إليه لاحقا.
[1] شارك في إعداد مادة التقرير باحثون لامسوا الأوضاع، وكانوا قريبين من بعض الأحداث، وجلسوا إلى شخصيات ذات علاقة بالموضوع، وسجلوا ملاحظاتهم، والمركز إذ يعترف لهم بالجهد والبذل يقدم لهم جزيل الشكر والامتنان.
[2] وهي ذات توجه يساري متطرف.
[3] يشير البعض أنها كانت مدعومة من قبل نظام جمال عبدالناصر.
[4] علي ناصر محمد غادر صنعاء عقب قيام الوحدة بطلب من قيادة الحزب الاشتراكي في حينه. أما عناصره التي لم تستطع مغادرة عدن في أحداث 13 يناير 1986م فقد واجهات صنوف العذاب والتنكيل والقتل!
[5] لا توجد إحصائيات رسمية معلنة حتى الآن وإنما هي تقديرات لبعض من شاركوا في هذه المجزرة أو حضروها. انظر: تصريح سالم صالح محمد لبرنامج زيارة خاصة، الجزيرة، في 13/1/2004م.
[6] ويرى ياسين سعيد نعمان –الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني أن أحداث 13 يناير كانت نتاج "صراع بين رومانسية الفكرة وبراجماتية الدولة"! وأنها تمت في "ظروف غياب الديمقراطية وحرية الآخر"! (صحيفة النداء، في 25/1/2008م).
كما يرى سالم صالح محمد أن "عدن دمرت تماما"! وأن الديكتاتورية المفرطة والعقلية التي تفكر دائما بهذا الشكل" كانت وراء هذه الأحداث! (برنامج زيارة خاصة، الجزيرة، في 13/1/2004م).
[7] برنامج زيارة خاصة، الجزيرة، في 13/1/2004م.
[8] عملت القوى اليسارية كما هي عادتها بزرع الألغام البشرية في غالبية مناطق الصراع ولا يزال الكثير منها موجودا وقد كلف اليمن –ولا يزال يكلفها- أعباء مالية ومادية وبشرية.
[9] كان ذلك عام 1979م.
[10] الجزيرة، مرجع سابق.
[11] الجزيرة، مرجع سابق.
[12] كان نائب رئيس الوزراء العميد مجاهد أبو شوارب من بين من صرح بذلك. (انظر: الدستور الأردنية، فبراير 1994م). وما أشار إليه أبو شوارب توقعه عدد غير قليل من المطلعين والمراقبين للشأن اليمني محليا وخارجيا.
[13] الوثيقة بالأساس كانت نتيجة الاتفاق الذي توصلت إليه أحزاب الحكومة الائتلافية ولجنة الحوار الوطني في 18 يناير 1994م في مدينة عدن. وقد حاولت الوثيقة في حينه إيجاد دور ما للقوى الخارجية في شأن تنفيذها! بمعنى آخر تدويل الأزمة بصيغة سلمية! لذا جرى الدفع باتجاه توقيع الوثيقة خارج اليمن! فتم اختيار عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية عمَّان لتكون محطة التوقيع؛ بمشاركة كل من: مصر، والمملكة العربية السعودية، وجامعة الدول العربية، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي. وقد أبدى المؤتمر الشعبي العام تحفظه على هذا المقترح، هو والتجمع اليمني للإصلاح حليفه الإستراتيجي –في حينه! ونصت الوثيقة حسب مطالب الحزب الاشتراكي اليمني على تطبيق لا مركزية إدارية واسعة.
[14] تقدمت سلطنة عُمان بمبادرة لإنهاء الأزمة القائمة، والغريب أن هذه المبادرات اقترحت أن تأخذ الوحدة طابع الكنفدرالية أو الفيدرالية بعد أن فشلت الوحدة الاندماجية وحتى لا يدخل اليمن في حرب أهلية!
[15] وقعت الحرب بينما كان حيدر أبو بكر العطاس في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية.
[16] العطاس، الذي بات رئيس الوزراء في "جمهورية اليمن الديمقراطية" التي أعلن عنها في عدن، دعا من القاهرة إلى إرسال مراقبين دوليين للأشراف على وقف النار؛ وصرح أن عدم احترام صنعاء لوقف إطلاق النار يعبر عن "تناقض فاضح في دائرة صنع القرار في اليمن الشمالي، بجميع عناصره العسكرية، والقبلية، والدينية المتطرفة"! وفي إطار التحامل والكذب اتهم الحزب الاشتراكي علماء الإصلاح بإصدار "فتوى دينية" تبيح قتل أبناء الجنوب! وتجيز أخذ ممتلكاتهم كـ"غنيمة حرب"! كما اتهم الشمال بارتكاب مجازر حرب وبالاعتداء على المدنيين وتدمير المصالح العامة والبنى التحتية، علما بأن الاشتراكي استخدم صواريخ "سكود" المحرمة دوليا على المدن الآهلة بالسكان وفي مقدمتها صنعاء.
[17] بعد انتهاء حرب الانفصال 1994م، برز تيار الحركة الإسلامية أكثر قوة، بعد أن شارك في الحرب وكان له فيها دور فاعل ومؤثر، وأصبح أوسع نفوذاً بعد تقاسمه السلطة مع المؤتمر الشعبي العام، وهذا ما دفع الاشتراكيين لاتهام نظام علي عبدالله صالح بالتحالف مع الإسلاميين، بل بأن نظامه (أصولي) الجوهر وإن بدا في ظاهره علمانيا! ولإبعاد هذه التهمة التي بدأت تتردد في عواصم صنع القرار الغربية بتأكيدات عواصم عربية عمل علي عبدالله صالح على مواجهة الحركة في الانتخابات العامة عام 1997م، إلى حدِّ استخدام قوة السلاح! وإلغاء المعاهد العلمية، وتسريح الكوادر الحزبية من أجهزة الدولة. الأمر الذي دفع قادة التجمع اليمني للإصلاح للإعلان عن فك الارتباط الإستراتيجي بينهم وبين المؤتمر الشعبي العام والرئيس صالح؛ بعد اعتقادها أنها ستجني ثمرة مشاركتها في الحرب المزيد من الانتشار والقبول وتعاملت مع القيادة السياسية على هذا الأساس.
%80 [18] من الذين فصلوا من أعمالهم عقب حرب 1994م هم من أعضاء الحزب الاشتراكي –حسب تصريح ياسين سعيد نعمان في حوار مع صحيفة النداء, في 25/1/2008م.80%
[19] انطلقت فكرة جمعيات المتقاعدين في عام 2004م، إلا أن الدولة لم ترخص لهم في حينه، وتعاملت معها باعتبارها نشاطا انفصاليا. فبدأ الإعلان عن هذه الجمعيات انطلاقا من الضالع ثمَّ تبعتها كل من يافع وعدن وأبين وشبوة وحضرموت. وتأسس لاحقا مجلس تنسيق أعلى لكافة الجمعيات في المحافظات الجنوبية جميعا. وشيئا فشيئا بدأت المطالب الحقوقية تنعكس في مهرجانات ومظاهرات واعتصامات وحراك إعلامي وحقوقي.
الحكومة بدورها لم تبد للموضوع بالا، وتعاملت مع بوادر الظاهرة باستهتار وحملة اتهامات؛ لكنها فيما بعد وجدت نفسها أمام حراك واسع وعريض أخذ طابع التهديد السياسي لدولة الوحدة والنظام الحاكم!
جميع الحقوق محفوظة لموقع مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث ©
أزمة الجنوب[1].. القديم الجديد في تقسيم اليمن (1-3)
يعنى هذا التقرير الذي أعده مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث بتوصيف الأزمة الراهنة في جنوب اليمن، وهو يعطي:
- خلفية تاريخية لمسألة الجنوب.
- وتوصيف موضوعي لأزمة الجنوب الحالية.. من خلال مظاهرها وصورها.
- كما يتطرق إلى أسباب الأزمة ودوافع الأطراف الفاعلة فيها.
- كما يعرض لمستوى تعاطي الأطراف السياسية والقوى الدينية والاجتماعية مع الأزمة.
- ثمَّ يعرض للتطور المحتمل للأزمة والاحتمالات المتوقعة لمجرياتها.
- كما يستشرف الآثار التي قد تترتب على الأزمة على الصعيدين المحلي والإقليمي.
- ويقترح التقرير جملة من الحلول التي يراها مناسبة لمواجهة هذه الأزمة.
أولا: لمحة تاريخية:
اليساريون تاريخ من التآمر والدموية:
قامت الثورة الشعبية ضد الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن في 14 أكتوبر 1963م، وبدعم من نظام الشمال وبمشاركة يمنيين شماليين. وعقب تضحيات كبيرة وجهاد متواصل نال الجنوب استقلاله في 30 نوفمبر 1967م، بعد احتلال بريطاني دام لأكثر من 120 عاما.
مع إعلان الاستقلال الذي شاركت فيه قوى سياسية وفكرية مختلفة أعلن عن قيام "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" وعاصمتها عدن. إلا أن البلاد دخلت في صراعات دامية بين تياري الثورة: "الجبهة القومية"[2] و"جبهة التحرير"[3]، حُسمت لصالح الأولى، حيث عملت حكومة بريطانيا على تسلميها مقاليد الحكم وتهميش جبهة التحرير.
أدارت "الجبهة القومية" البلاد بفكر يساري، لكن سرعان ما دبَّ الصراع داخلها وأطيح بأول رئيس للبلاد (قحطان الشعبي) في 22 يونيو 1969م، بقيادة سالم ربيع علي (سالمين). بعد ذلك بسنوات قُتل (سالمين) من قبل الرفاق في 26 يونيو 1978م؛ وهو العام ذاته الذي أعلن فيه عن قيام الحزب الاشتراكي اليمني. ولم ينته الصراع بين الرفاق على السلطة حتى توج بأحداث 13 يناير 1986م الدموية، والتي قُتل فيها الآلاف من قيادة الحزب وكوادره، في مقدمتهم عبدالفتاح إسماعيل وعلي عنتر وعلي شايع هادي، في حين غادر علي ناصر محمد وزمرته الجنوب نازحا مع كافة العناصر الموالية له إلى الشمال الذي استضافهم وقدم لهم التسهيلات[4]. وكانت التصفيات الدموية خلال الأحداث تتم وفق فرز مناطقي. ولا يزال أبناء الجنوب في عدن يحتفظون بصور في ذاكرتهم لهذه المجزرة الوحشية التي قتل فيها ما يزيد عن 12 ألف قتيل بمن فيهم المدنيين![5]
ونجا في هذه المواجهات الدامية علي سالم البيض وحيدر أبو بكر العطاس وسالم صالح محمد[6]؛ وآخرون.
لم يكن الصراع فقط على مستوى الداخل بل كان التيار اليساري يسعى إلى تصدير الثورة في المنطقة، من ذلك عُمان والسعودية، الأمر الذي وتَّر علاقة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بدول الجوار وعزز من قبول المملكة العربية السعودية بنظام صنعاء الجمهوري والاعتراف به.
يقول سالم صالح محمد إن الاتحاد السوفيتي كان ينصح قيادات الحزب الاشتراكي اليسارية الراغبة في تصدير الثورة إلى السعودية بتحسين العلاقة معها، وأنهم كانوا يقولون لهم: "أنتم على مقربة من مكة.. فين رايحين بهذا التشدد وهذا التطرف؟!!".[7]
الأمر ذاته لم يتوقف على دول الخليج بل توسع ليشمل نظام صنعاء الشمالي الذي تربطه بالجنوب عوامل بيئية واجتماعية وجغرافية مشتركة وتاريخ مشترك من النضال!
فقد سعت قيادة الجنوب لدعم الثورة ضد النظام الجمهوري الذي تشكل في الشمال باعتباره عميلا لليبرالية الغربية بغية إسقاطه وضم الشمال إلى الجنوب في كيان يساري واحد؛ وهذه كانت نظرة قادة الحزب الاشتراكي للوحدة وحدة ضم وإلحاق. وهو ما ينتقدونه اليوم على حرب 1994م!
بدأ الصراع منذ عام 1972م واستمر إلى منتصف الثمانينات، رغم محاولات الوساطة العربية في أكثر من مرة لحل الأزمة والعمل على لقاء النظامين في دولة واحدة. وعاشت المناطق الوسطى خلال تلك الفترة فصول صراع دموي راح –ويروح[8]- ضحيته عدد كبير من الأبرياء. حيث عملت القوى اليسارية في الشمال بدعم من النظام الجنوبي بأعمال تخريب وتفجير وقتل روعت الآمنين وقوضت استقرار الأمن وهددت في فترة من فترات عنفوانها العاصمة صنعاء ومن ثمَّ السلطة الحاكمة.[9]
فقد بلغ الأمر أن هددت القوى اليسارية مدعومة بقوات جنوبية العاصمة صنعاء عام 1979م حيث استطاعت هذه الميليشيات والقوات المسلحة التوغل في عدد من المحافظات والوصول إلى قرب العاصمة، إلا أنَّ تدخل دول عربية وتوسطها حال دون ذلك، فجرى إيقاف الحرب واستضافة قيادة البلدين في الكويت عام 1981م، حيث وُقِّعَت اتفاقية على توحيد البلدين بين علي عبدالله صالح وعبدالفتاح إسماعيل. وهو الاتفاق الثاني عقب اتفاق طرابلس (1972م) بهذا الشأن.
وكان البلدان قد شهدا محاولات تقارب بينهما في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي –وهو ناصري الانتماء- الذي وصل إلى الحكم بانقلاب أبيض عام 1974م. إلا أن الحمدي اغتيل في ملابسات غامضة، يشير البعض بأنَّ الدافع وراءها كان تقاربه مع الحزب الاشتراكي في الجنوب والقوى اليسارية في الشمال على حساب القوى القبلية والمحافظة. وقد ردَّ نظام الجنوب في حينه على اغتيال الحمدي باغتيال الرئيس أحمد الغشمي عبر حقيبة دبلوماسية مفخخة أرسلت له مع مبعوث خاص من عدن، عقب توليه السلطة بأشهر.
لقد كان الحزب الاشتراكي اليمني يبشر بحراك ثوري على صعيد الجزيرة العربية، وبِقُربِ سقوط الأنظمة (الرجعية) (البائدة) المتمثلة في الإمارات والممالك والسلطنات، وقيام ثورات شعبية مسلحة هنا وهناك. وهذا ما حدا بالمملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج بمساندة اليمن الشمالي في صراعه مع نظام الجنوب الاشتراكي والقوى اليسارية الشمالية الموالية له. خاصة مع ارتماء الحزب الاشتراكي في أحضان المعسكر الشرقي وإنشاء أكبر قاعدة عسكرية في المنطقة في حينه قرب عدن (قاعدة العند)، والتي مثلت تهديدا لأمن الدول المجاورة.
أما الأوضاع في الجنوب فقد كانت غاية في السوء من حيث البنى التحتية وحركة التنمية، فقد عمل الحزب الاشتراكي وفقا لمبادئه وفلسفته السياسية والاقتصادية على محاربة ما يوصف بالطبقة البرجوازية، والقضاء على رجال الدِّين ومشائخ القبائل باعتبارهم يمثلون زعامات "رجعية"، كما أمم الممتلكات الخاصة والعقارات والأراضي وحارب الملكية الخاصة. هذه الظروف دفعت بأبناء الجنوب للهروب والفرار باتجاه اليمن الشمالي الذي كان أفضل حالا فقد شهد نموا اقتصاديا وتغيرا في تطور البنى التحتية وحراكا اجتماعيا ودينيا وتنوعا في المناشط الاقتصادية لعوامل مختلفة كان من أبرزها مورد الحوالات المالية للمغتربين في دول الخليج؛ والبعض منهم باتجاه دول الخليج وفي مقدمتهم السعودية.
ومع نهاية الثمانينات وسقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الشرقي وجد الحزب الاشتراكي نفسه مكشوفا في العراء، فهو منبوذ اجتماعيا وإقليميا ولا يمتلك الموارد الكافية لإدارة الدولة ومعالجة الأوضاع التي بدت متأخرة بالنسبة للشمال. كما أنه خرج من أحداث 1986م الدموية خائر القوى ومحملا بثارات قبلية واجتماعية نتيجة موجات الصراع التي أدارها في البلاد.
هذا الحال عزز رغبة قيادة الحزب في التعجيل بوحدة سياسية مع الشمال الذي كانت قيادته السياسية ترغب في تحقيق منجز تاريخي ظل العرب يحلمون به ويُغَنُون له! فقد كان الشمال البيئة الملائمة للاندماج وجسر العبور إلى دول الخليج والمعسكر الغربي بقيادة واشنطن. وهو ما دفع بالقيادة السياسية في الشمال للتواصل مع واشنطن والرياض لتفهم مواقفهم ونقل رؤية الشمال لمستقبل اليمن الجديد –كما صرح بذلك الرئيس صالح.
وقامت الوحدة في 22 مايو 1990م، في حين كانت القوى المحافظة والدينية والقبلية تمانع من قيام وحدة كهذه مع نظام دموي بحجم الحزب الاشتراكي اليمني دون أن يقدم أي تراجع عن أفكاره اليسارية ومبادئه الشيوعية ويبدي اعتذارا عن تاريخه، إلا أن الرئيس علي عبدالله صالح ضرب صفحا عن هذا الرأي.
أقدم الحزب الاشتراكي اليمني على الوحدة بقرار سياسي ودون استفتاء شعبي –كما بدأ يصرح بهذا مؤخرا حيدر أبو بكر العطاس في مقابلات صحفية وتلفزيونية، في إشارة منه إلى أن الوحدة لم تكتسب شرعية شعبية، وبالتالي فللشعب الجنوبي حاليا حق تقرير مصيره! وقد صرح سالم صالح محمد أن الحزب الاشتراكي اليمني لم يكن يرى بالوحدة الاندماجية مباشرة بل بمرحلة تنسيق في الهيئات السياسية الخارجية تستمر من خمس إلى عشر سنوات، ثمَّ يتم إعلان وحدة فيدرالية بين الشطرين![10]
إذن كانت الوحدة للحزب الاشتراكي بمثابة استراحة المحارب الذي لا تزال في جعبته بقايا تآمر وفي صدره تعطش للدماء؛ فلم تمض ثلاث سنوات على الوحدة حتى شهدت الساحة اليمنية مجددا صراعا بين أطراف الحكم، وأزمة سياسية حادة انتهت بمؤامرة للانفصال والعودة بالجنوب إلى قيادة الحزب، التي مثلت قوة علمانية بإمكانها الوقوف أمام المدِّ الإسلامي الأصولي الذي بات يتنامى في اليمن على خلاف قيادة الشمال التي ظهرت كحليف معه!
"الوحدة أو الموت".. "الانفصال أو الموت"!
جرت الوحدة على ضوء المطالب التي اشترطها الاشتراكيون، والتي كان منها:
- علمانية الدولة واعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع.
- اعتماد الديمقراطية والتعددية السياسية كمبدأ للحكم.
وبقيت للحزب مطالب أخرى ظلت عالقة خلال المرحلة الانتقالية، منها: نزع السلاح من المواطنين، وتجريم حمله بنص القانون، وإخراج معسكرات الجيش والأجهزة الأمنية من المدن، وإيقاف التجنيد الإلزامي، وتقليص حجم القوات المسلحة، وعلى إغلاق ما كان يصفها بمعسكرات التدريب التابعة للمجاهدين العرب –بوصفهم إرهابيين ومتطرفين يجب تسليمهم إلى دولهم!
تشكلت دولة الوحدة من:
رئاسة الدولة: ممثلة في رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البيض.
ومجلس الوزراء: مكونا من جميع أعضاء الحكومتين في شطري اليمن سابقا برئاسة حيدر أبو بكر العطاس.
والمجلس التشريعي (البرلمان): مكونا من مجلسي التشريع في البلدين، برئاسة ياسين سعيد نعمان.
في حين ظلت الأجهزة العسكرية والأمنية للنظامين غير مدموجتين كما هو الحال مع غالبية الأجهزة الحكومية.
شهدت الفترة الانتقالية فوضى سياسية وانفلاتا أمنيا، وغلاء في الأسعار. وبرز على السطح خلاف سياسي بين شريكي السلطة المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني. فقد بدأ الحزب الاشتراكي باتهام المؤتمر الشعبي العام بتحالفه مع التيارات الإسلامية الأصولية المتطرفة التي يتهمها الحزب باغتيال كوادره القيادية في ظل غطاء القيادة السياسية له.
وارتفعت وتيرة الخلاف بين الطرفين، إلا أن انتخابات 1993م والتي أفرزت القوى السياسية في الساحة على النحو التالي:
في المرتبة الأولى المؤتمر الشعبي العام بحصوله على 122 مقعدا.
في المرتبة الثانية التجمع اليمني للإصلاح بحصوله على 63 مقعدا.
وفي المرتبة الثالثة الحزب الاشتراكي اليمني بحصوله على 56 مقعدا، جميعها في الجنوب!
وهذا كان يعني تغير الخارطة السياسية لصالح القوى الإسلامية التي كان الحزب الاشتراكي يناصبها العداء. إلا أن حرص القيادة السياسية في الشمال على استمرار الوحدة دفع باتجاه التنازل من قبل المؤتمر والإصلاح –وكانا حليفين إستراتيجيين- لصالح الاشتراكي. فتمَّ تشكيل مجلس الرئاسة من قبل المؤتمر والاشتراكي والإصلاح بنسبة (2-2-1) على التوالي، كما تخلى الحزبين (المؤتمر والإصلاح) للاشتراكي عن رئاسة الحكومة وعن نسب المحاصصة التي تعكس قوة كل حزب في مجلس النواب. إلا أنَّ هذه التنازلات لم تقنع الاشتراكي فيما يبدو عقب تشكيل حكومة ائتلافية بين هذه الأحزاب. كما أنَّ قيادة الحزب شعرت بالغبن الواقع عليها وهي التي قدمت أكبر مساحة أرضية مع أكثر ثروة نفطية وأقل شعب لأقل مساحة أرضية مع أكثر شعب وأقل ثروة!
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن أطرافا دولية وإقليمية فيما يبدو دفعت باتجاه التراجع عن الوحدة والعودة إلى التقسيم. يقول سالم صالح محمد: "إن الانفصال كان تحت تأثير –أو تدخل- أطراف محلية وإقليمية ودولية".[11]
ومن ثمَّ بدى الأمر يأخذ منحى تصاعديا، هيئ لها بمنافسة بين الاشتراكي والمؤتمر على المناصب الوظيفية ونهب خزينة الدولة وعسكرة المواقف –خاصة من قبل الحزب الاشتراكي الذي عمل على استقلال معسكراته وقواته المسلحة والأمنية. في هذه الأثناء تواصل الحزب الاشتراكي مع عدد من مشائخ القبائل ذوي الميول اليسارية أو المعارضة، وكذلك مع تيارات شيعية ناقمة على انحسار نفوذها وتأثيرها عن إدارة الحكم ومواقع السلطة، في سبيل إضعاف أداء الدولة وقدرتها على السيطرة، حيث كثرت الحوادث الأمنية وأعمال التخريب.
وشيئا فشيئا باتت الأمور تنذر بانفجار الوضع، خاصة مع وقوع مواجهات محدودة بين الطرفين لم تلبث أن احتويت. وكان هناك شعور عام من قبل قيادات اجتماعية وحزبية باتجاه الأزمة نحو التصعيد والمواجهة[12]. فعملت عدة أطراف محلية وعربية على رأب الصدع وتقريب وجهات النظر والتوسط بين الأطراف لحل الأزمة.
وبدأ الاشتراكيون بتقديم قائمة مطالب من أجل تجاوز الأزمة، حيث شهدت البلاد اعتكافا لنائب الرئيس علي سالم البيض عقب رحلة خارجية قام بها. ورغم جهود الوساطة المحلية والخارجية والاتصالات والزيارات الرسمية لعدد من الوفود إلا أن الأمور كانت تعود إلى ما هي عليه. وأصبح الحزب الاشتراكي –كما كان واضحا- يسعى إلى تأزيم الوضع بشكل أكبر.
وعقب زيارة أخرى للبيض لدول عربية وذهابه للعلاج في نيويورك كما أعلن في حينه، عاد البيض إلى مدينة عدن ليعلن من هناك عن جملة من الشروط في سبيل عودته وعدد من القيادات الاشتراكية في الرئاسة والحكومة إلى صنعاء، حيث أعلنوا عن مقاطعتهم العودة إلى صنعاء.
تدخلت أطراف عربية أخرى لحل الأزمة ولكن دون جدوى، فعقب توقيع طرفي الأزمة على ما عرف بـ"وثيقة العهد والاتفاق"[13]، وسط حضور عربي ودولي كبير في عمَّان برعاية الملك الحسين بن طلال، بتاريخ 20 فبراير 1994م، وعقب لقاء بين صالح والبيض في مدينة صلالة بعُمان لكنه لم يسفر عن شيء[14]، اندلعت المواجهات المسلحة بين قوات الطرفين واستمر التوتر حتى شهر أبريل 1994م حيث خاض الطرفان مواجهات عسكرية شاملة عُرفت بحرب الانفصال[15]. وقد وقف التجمع اليمني للإصلاح في هذه الحرب إلى جانب المؤتمر الشعبي العام ضد خصمه التقليدي.
وفي 21 مايو 1994م أعلن علي سالم البيض من عدن عن انفصال الجنوب وقيام "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية". كما جرى الإعلان عن تشكيل مجلس رئاسة وحكومة مؤقتة.
وقد سبق للبيض أن صرح في 15 فبراير لمجلة "الشروق" الإماراتية بأن: "الفيدرالية صيغة أرقى من الوحدة، من الناحية الحضارية، وإشاعة أوسع لروح الديمقراطية، وأنها تساعد على التنافس، وتقبل التنوع، وتعطي مجالاً للمبادرة، وأن الدول المتطورة في أوروبا، التي قطعت شوطاً طويلاً على النهج الديمقراطي والحداثة، مثل: ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، دول فيدرالية"!
لقد شهدت الحرب شراسة في القتال، وعكست عن إرادة لدى الحزب الاشتراكي شعارها –غير المعلن: "الانفصال أو الموت"!
لكن ورغم قرار الأمم المتحدة الذي اعتبر عدن خطا أحمر لقوات الشمال إلى أن القيادة السياسية التي أعلنت التزامها بالقرار علنا دفعت على أرض الواقع لحسم المعركة وإنهاء الانفصال لكي لا تظل القضية ورقة معلقة بيد أطراف خارجية يتم مقايضة النظام السياسي بها. وبالفعل استطاعت قوات الحكومة اليمنية، والتي عرفت حينها بقوات الشرعية، من دخول عدن ومن ثمَّ المكلا وإنهاء الانفصال كليا في يوليو 1994م. وبذلك عطلت مشروع الانفصال.. وربما أخرته!
النظرة الإقليمية والدولية لليمن الموحد والانفصال:
تأثير الأطراف الإقليمية والدولية لم يغب عن مجمل هذه التفاعلات، فقد جرى زيارة بعض دول الخليج من قبل قادة الحزب الاشتراكي أثناء أزمة 1993م وحتى عقب تفجر الأوضاع، كونها أرادت إقناع هذه الدول بالموقوف إلى جانبها خاصة وهي تحمل على قادة صنعاء بسبب موقفها من حرب الخليج الثانية.
كما أن هذه الدول أجرت اتصالاتها مع الأطراف المختلفة مقدمة عددا من المقترحات ومحاولة أحيانا تقريب وجهات النظر أو تدعيم موقف بعض أطراف الأزمة تجاه مخالفيهم.
كما أن واشنطن أعربت على لسان مسئول أمريكي عن أمل إدارة الرئيس "بيل كلينتون" أن يوقع الحزبين على وثيقة (العهد والاتفاق)، مشيرا بأن واشنطن شجعت اليمنيين بمختلف انتماءاتهم على المحافظة على وحدتهم الوطنية، وعملت مع كافة الأطراف عن كثب لتحقيق ذلك. كما أن اعتكاف علي سالم البيض جاء على خلفية زيارته للولايات المتحدة في حين انفجرت الحرب ورئيس الوزراء حيدر أبو بكر العطاس هناك!
سوريا والأردن ومصر كانوا حاضرين في الأزمة من خلال عدد من التصريحات والجهود والمساعي واللقاءات.
فقد استقبل الرئيس السوري حافظ الأسد نائب الرئيس اليمني علي سالم البيض، وتباحث الطرفان حول وثيقة (العهد والاتفاق) وتطورات الأزمة. كما زار وفد مشترك من مصر والإمارات العربية المتحدة، كلاً من صنعاء وعدن، في العاشر من أبريل، حاملاً مبادرة مشتركة من الرئيس المصري محمد حسني مبارك ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، تقترح استبدال الوحدة الاندماجية بوحدة فيدرالية، وهو ما لم يقبل به المؤتمر الشعبي العام، الذي أكدَّ تمسكه بالوحدة. كما زار الرئيس المصري أبوظبي، للتشاور مع رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة بشأن عقد قمة رباعية في القاهرة، تضمهما إلى جانب الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، ونائبه علي سالم البيض، والذي هدد عقب توقيع وثيقة (العهد والاتفاق) بالانفصال من إحدى عواصم الدول الخليجية.
بعد انفجار الحرب بدت المواقف العربية والدولية تتمحور حول عدة اتجاهات، في الوقت الذي ارتصت فيه جميع القوى الوطنية والإسلامية والاجتماعية إلى جانب القيادة السياسية التي خاضت الحرب باعتبارها تمردا على الدولة ومحاولة للانفصال، فظهرت الجبهة الداخلية أكثر تماسكا من خلال الرفض الشعبي وجسر المعونات الشعبية البري الذي كان يدعم قوات الحكومة الشرعية المقاتلة على خط النار. هذا الموقف امتد إلى الجنوب فقد لزم أبناء الجنوب الحياد في رسالة تتضمن تأييد موقف قوات الحكومة الشرعية، كما أن عددا من الوحدات العسكرية أعلنت عن تسليمها أو انضمامها إلى قوات الحكومة الشرعية، الأمر الذي سهل اجتياز مساحة وجغرافية الجنوب التي كان الاشتراكي يراهن عليها.
ويمكن هنا رصد موقفين متباينين في التعامل مع الأزمة والصراع؛ موقف يرى أن الصراع القائم داخلي بين حكومة شرعية منتخبة ومؤيدة من قبل الشعب، وبين فئة متمردة تعمل من أجل العودة إلى السلطة بالتراجع عن الوحدة والرجوع إلى الماضي. ومن ثمَّ فجوهر الخلاف قائم بالأساس على مشروعين متغايرين: الوحدة في مواجهة الانفصال!
وهذا الموقف يرى أن من حق الحكومة الشرعية التعامل مع هذه الفئة بكل الطرق المشروعة قانونا -بما في ذلك القوة العسكرية- للحفاظ على كيانها ووحدة أراضيها وبسط نفوذها وتحقيق سيادتها.
والموقف الآخر يرى أن الصراع القائم هو صراع بين كيانين منفصلين، سعى أحدهما بعد شراكة ثنائية في إقامة وحدة اندماجية لإلغاء الآخر والانفراد بالسلطة والقرار، دون الاعتراف بالخصوصية وحق الوجود. فهو صراع بين إرادة تفرض بالقوة مشروعا (مسخا) وإرادة تتراجع عن خطوة ثبت فشلها! ومن حقها كما دخلت طوعا فيه أن تخرج منه طوعا!
حكومة صنعاء واستنادا للموقف الأول رأت في أي محاولة للتدخل أو تدويل القضية أو حلها خارج إطار إنهاء التمرد والتزام الوحدة والشرعية اعتداء على سيادتها واستقلالها وشئونها الداخلية.
إلا أن دول الموقف الآخر سعت جاهدة في تقديم دعم مادي ومعنوي للحزب الاشتراكي اليمني، ومن وقت مبكر، فقد أعلنت مصادر في حزب المؤتمر في الثاني من أبريل 1994م عن وجود جسرين: جوي وبحري، لتزويد الاشتراكي بأسلحة ومعدات وذخائر مختلفة تشير لاستعداد الحزب الاشتراكي للانفصال. وفي مؤتمر صحفي عقده الرئيس علي عبدالله صالح أثناء الحرب، صرَّح بأن الجيش تمكن من الاستيلاء على معدات حربية وذخائر ودبابات ومدافع ومدرعات كانت في طريقها إلى الجنوب. وأن هناك جهات دولية تقدم صفقات السلاح للحزب "بتمويل نعرف مصادره" –حسب تعبيره، في إشارة إلى جهات خارجية. رافضا قدوم أي قوات أممية لمراقبة الوضع، ومهددا أن قوات من هذا النوع سيكون مصيرها نفس المصير الذي لقيته في الصومال!
بل إن هذه الدول دعت إلى وقف إطلاق النار والاقتتال مؤكدين بأن "الوحدة لا تفرض بالقوة"! وأعطى بعضها مؤشرات سياسية وإعلامية كنوع من الاعتراف الضمني بدولة الجنوب، المعلنة في 21 مايو 1994م من عدن، إلا أنها لم تجرؤ على تأييد الانفصال والاعتراف بالدولة الجديدة بلغة رسمية. والبعض منها حذر من (حرب أهلية لا نهاية لها)!
هذا الموقف الذي اتخذته بعض الدول العربية والغربية تختلف دوافعه، ففي حين أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تثق بنظام صنعاء وتتخوف من المدِّ الإسلامي وهو ما استغله الاشتراكي لتسويق ذاته كحزب ذو خلفية عدائية أيديولوجية مع الإسلاميين، فقد أعلن مصدر مسئول في الخارجية الأمريكية أن العطاس أبلغ المسئولين الأمريكيين الذين التقاهم في واشنطن بالمخاطر التي ستترتب على استيلاء القوات الشمالية الموالية للرئيس اليمني علي عبدالله صالح على المحافظات الجنوبية. وأكد أن بلاده ستصبح موئلا لتصدير الإرهابيين والمتطرفين. وأنه حصل على وعد من "روبرت بليترو"، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستجدد دعمها للمساعي الرامية إلى تسوية النزاع سلمياً.[16]
لقد ظلت اليمن ولا تزال –حسب بعض المراقبين- تمثل عامل قلق لبعض القوى الدولية للاعتقاد بأنه قد يأتي اليوم الذي يقيم فيه الإسلاميون عليها دولتهم المنشودة، تحقيقاً لوصف مؤسس الإخوان المسلمين -الإمام حسن البنا- لليمن بأنها بيئة صالحة للمشروع الإسلامي كونها لم تتلوث بالاستعمار ومخلفاته! خصوصا وهي تشهد تناميا مطردا للحراك الإسلامي.[17]
لقد حاولت اليمن عبر التواصل المباشر أو إرسال موفدين لها والقيام بجولات متكررة لدول إقليمية لثنيها عن تبني رموز الانفصال وإقناعها بأن اليمن تمثل عمقا إستراتيجيا لهذه الدول وأنها لا تستهدفهم وأن في استقرارها استقرار لهم وللمنطقة، إلا نزعة الخلاف والموروث النفسي كان حاضرا في تعامل هذه الأطراف، والتي كان الحزب الاشتراكي فيما سبق يمثل تهديدا حقيقيا لها!
هذه المواقف والجهود لم تستطع إقناع صنعاء بالتراجع ولا ثنيها عن مواصلة القتال، وفي أثناء ذلك أعلن عن قيام "جمهورية اليمن الديمقراطية"، في 21 مايو 1994م. وذكرت مصادر مسئولة في الحزب الاشتراكي -في حينه، من عدن- أن قادة الحزب عرضوا قيام دولة الانفصال على عدد من رؤساء الدول العربية، وتشاوروا مع بعض الدول الأوربية، وأنهم لمسوا تأييداً لقيام الدولة الجديدة، مما دفع بهم إلى إعلانها في ذكرى الوحدة اليمنية.
الرئيس علي عبدالله صالح اعتبر أي اعتراف بالدولة المعلنة تدخلا بالشؤون الداخلية لليمن، كما اعتبر هذا الإعلان (خيانة عظمى)، وأعلن في مقابل ذلك عن شعار "الوحدة أو الموت"! كما اعتبر بيان مشترك لمجلس الرئاسة وهيئة رئاسة مجلس النواب ومجلس الوزراء أن أي تعامل أياً كان نوعه من أي جهة مع قيادة الانفصال يعتبر عملاً معادياً للشعب اليمني، وتدخلاً سافراً ومرفوضاً في الشؤون الداخلية للجمهورية اليمنية. وأن للسلطات الدستورية في البلاد الحق في التعامل معه بالأسلوب المناسب. وحذر وزير خارجية اليمن محمد سالم باسندوه سفراء الدول العربية والإسلامية في صنعاء من أي موقف يؤيد الانفصال.
رفض الانفصال الأردن والعراق وإلى حدِّ ما السودان وقطر، بينما ظلت غالبية الدول العربية صامتة تجاه هذا الإعلان. ولم تستنكر إيران الانفصال وإن كانت قد أعربت عن أسفها لما حدث! ولم تستبعد بعض الدول إمكانية الاعتراف بالجنوب كدولة منفصلة!
أما الولايات المتحدة الأمريكية فدعت في بيان أصدرته وزارة الخارجية، أطراف النزاع اليمني إلى إعلان وقف نار دائم، والبدء بمحادثات للمصالحة السياسية، واعتبرت الولايات المتحدة أن الوحدة اليمنية، ليست هدفاً ينبغي السعي إلى تحقيقه بقوة السلاح. وجاء في البيان أن "الحلول العسكرية ليست الجواب لمشاكل اليمن، ولن تحقق الوحدة المفروضة بالقوة السلام لليمن"!
لقد أريد لقضية الانفصال بفعل دول عربية وأجنبية أن تطرح للتدويل عبر تبني طرحها للناقش في مجلس الأمن، تحت إلحاح من قيادة الحزب للتدخل الدولي لإيقاف الحرب. إلا أن مسيرة الحرب التي كانت لصالح الحكومة الشرعية أثرت في طرح قرار دولي مؤيد للانفصال أو مجرم لصنعاء.
إن اليمن الموحد بكثافته البشرية وأرضه الشاسعة وسواحله الممتدة لأكثر من 2.400كم على بحر العرب وخليج عدن والبحر الأحمر وتنوع ثرواته وموقعه الجغرافي، وتنامي القوى الإسلامية فيه كما أسلفنا، لا يطمئن بعض القوى الدولية والإقليمية، كما أن مواقفه السياسية تجاه قضايا قومية وإسلامية لا تريح القوى الصهيونية والمعادية للأمة وترى فيها تجاوزا للحدود المرسومة للأنظمة. وعليه فإن الانفصال يمثل عامل إضعاف وإشغال وخطوة نحو تهديد دول أخرى لن تجد لها في ظل الدول المجاورة الضعيفة حليفا يقف إلى جانبها.
الحراك الاشتراكي في الجنوب (1994م- 2004م):
عقب الحرب هربت قيادة الانفصال الاشتراكية وكثير من كوادر الحزب المشاركة في الحرب إلى خارج الوطن، لتستضيفهم بعض دول الخليج وتشكل لهم ملجأ آمنا رغم الجرائم التي ارتكبوها في حق الشعب اليمني. وبقيت كوادر الحزب في الداخل في حالة انكماش نتيجة انعكاس حرب الانفصال أمنيا وسياسيا واجتماعيا على المشهد العام.
وتمثلت حالة الانكماش هذه في غياب الحزب عن المشاركة الجادة في الانتخابات –ومنها 1997م. إلا أن الحزب ظل متماسكا وممسكا بقيادته الانفصالية في هيئاته الحزبية العليا.
ورغم تهديد المؤتمر عدة مرات بحظر نشاط الحزب الاشتراكي إلا أنه لم يقم بأي خطوة بهذا الاتجاه. فحظر نشاط الحزب قد يعني تحول نشاطه إلى عمل سري لن تسهل مراقبته، كما أنه استعداء لبقية أعضاء الحزب الذين رفضوا إعلان الانفصال في حرب 1994م، وربما يسهل ذلك للتجمع اليمني للإصلاح اكتساح الساحة السياسية ضد منافسة المؤتمر، وأخيرا فإن حظر الحزب داخليا قد يدفع باتجاه تبنيه كمعارضة خارجية من بعض القوى الإقليمية والدولية.
هذا في الشق السياسي والحزبي أما في شق المشهد اليمني في الجنوب وعلى أرض الواقع فالصدمة لم تكن بالشيء السهل على قواعد الحزب وكوادره.
فقد أعلن بعد الحرب عن تكوين (الجبهة الوطنية للمعارضة –موج)، وكان أبرز رموزها من أبناء الجنوب، لكنها ما لبثت أن تلاشت، نتيجة التفاهم الذي تمَّ بين المملكة العربية السعودية والجمهورية اليمنية على الحدود وتوقيع اتفاقية جدة الحدودية عام 2002م.
في عام 1998م بدأ الإعلان عن تشكيل (اللجان الشعبية)، وكان غالبية المنضوين فيها من الاشتراكيين أو موظفي الجنوب الذين سرحوا من أعمالهم أو أحيلوا على التقاعد نتيجة الحرب، كاحتياط أمني أو كجزء من العقاب![18]
وهي لجان اتخذت طابع الحراك الشعبي دون أي غطاء قانوني.. إلا أن مواجهة الدولة لها بالقوة والإجراءات الأمنية أخمدها سريعا. ليظهر فيما بعد ما عُرف بـ(ملتقى أبناء المناطق الجنوبية)، وهي المرة الأولى التي يبرز فيها مسمى الجنوب عقب الحرب. وكان وراء إعلان هذا الملتقى شخصيات اشتراكية في الداخل والخارج.
ظل الملتقى يراوح مكانه دون أي تأثير يذكر في توجيه قضية الجنوب، وساعد بروز (موج) في الخارج وتبنيها أعمال تفجير في الداخل في إفشال الملتقى وأي حراك باسم الجنوب في ظل أعمال التخريب والتفجير التي طالت عددا من المرافق. وتزعم حركة موج عبدالرحمن الجفري.
بفترة قصيرة من الإعلان عن (موج) جرى الإعلان عن حركة أخرى جديدة، هي (حركة تقرير المصير- حتم)، وكان نشاطها مسلحا ومنطلقا من الداخل حيث تبنت عددا من العمليات التخريبية في الضالع وعدن.
الحركتان –موج وحتم- لم تغيرا من واقع الأمر القائم شيئا، وعلى العكس من ذلك فقد تسببت الحركتان في دفع القيادة السياسية لممارسة مزيد من الإجراءات الأمنية وعسكرة المرافق الحكومية في الجنوب تحسبا لأي عمل مسلح، مع تعيين غالبية الكوادر القيادية في المحافظات الجنوبية من الشمال لضمان عدم العودة بالجنوب إلى مظلة الحزب تحت أي مسمى كان.
انتهت حركة (حتم) هي الأخرى بتوقيع اتفاقية الحدود بين اليمن والسعودية. وظلَّ الملف الجنوبي هادئا إلى حدِّ ما. واستمر الأمر على ذلك حتى عام 2003م حيث جرى إسقاط نظام البعث العراقي من قبل قوى الاحتلال الإنجلو-أمريكية وبدا أن هناك حراكا جديدا كان يرتب له خلال الفترة الماضية، وهذه المرة بمسميات وأوجه جديدة ومن خارج المنطقة.
فقد أُعلن عام 2004م في لندن عن تأسيس (التجمع الديمقراطي الجنوبي- تاج)، والذي نادى بعودة استقلال الجنوب مجددا عن (احتلال) الشمال. وهو ما أعطى مؤشرا باتجاه تخلي الأطراف الإقليمية عن ملف الجنوب وتسلم الأطراف الدولية الفاعلة والمباشرة له. فقد فُسِر الموقف السلبي من الحركة لبريطانيا والولايات المتحدة بأنه موقف داعم خاصة مع بروز حراك وتجاوب مع الحركة على صعيد قيادات حزبية وسياسية في البلدين.
اعتمدت (تاج) على التحرك السياسي السلمي للمطالبة باستقلال الجنوب وعبر التواصل مع الدول المضيفة أوروبيا وفي الولايات المتحدة. محاولة تسليط الضوء على القضايا الحقوقية والمظالم والفساد في الجنوب باعتبارها بلدا محتلا من قبل الشماليين! وفي سبيل ذلك توجهت الحركة لزيارة عدد من المسئولين والنواب والمؤسسات الرسمية والمنظمات الدولية للتعريف بـ(قضية الجنوب)، وأطلقت موقعا لمتابعة ملفات الجنوب وتناول أحداثه الدائرة، والحضور عبر وسائل الإعلام المختلفة: القنوات والإذاعات والصحف والمجلات.
لقد مثلت تاج منعطفا مهما في أزمة الجنوب حيث تبنت فكرة (الجنوب اليمني المحتل من الشمال) وعلى ضوء ذلك جعلت هدفها (التحرير وتقرير مصير الجنوب)! وهو ما يعني دخول القضية في منعطف جديد. وبالفعل شهدت عواصم بعض الدول العربية والأجنبية نشاطا غير مسبوق بين أطراف مختلفة، بعضها غادر اليمن ليلتحق بالمعارضة في الخارج. غير أن الجامع الأغلب لهؤلاء هو انتماؤهم للحزب الاشتراكي أو مشاركتهم إياه في حرب الانفصال.
والجديد في هذا الحراك هو محاولته الخروج من أزمة الخلافات الموروثة بين أبناء الجنوب ورغبته في تغييب صفة الاشتراكية عنه نظرا لسقوط شعبية الحزب تاريخيا وسياسيا. بل أصبح هذا التيار يتهم الحزب الاشتراكي بوضعه الراهن وبقيادته الحالية بأنه (بائع) للقضية الجنوبية و(منحاز) للسلطة!
وفي حين تصاعد العمل في الخارج أخذ الحراك الداخلي يتبلور في جمعيات للمتقاعدين[19] من العسكريين والمدنيين والدبلوماسيين بالإضافة إلى جمعيات التصالح والتسامج وملتقيات مناطقية. وبالفعل ظهرت قضية الجنوب كمسألة سياسية باتت تفرض نفسها إعلاميا وشعبيا في الداخل والخارج.
الحزب الاشتراكي اليمني –الذي خسر الحرب- أُصيب بانتكاسة كبيرة دفعته للمراجعة وترتيب أوراقه الداخلية، حيث بدأ بترميم تصدعاته الداخلية ومدِّ جسور التواصل مع الأحزاب الأخرى في سبيل تشكيل جبهة معارضة قوية، واستطاع إقناع "التجمع اليمني للإصلاح" –ذو التوجه الإسلامي، والذي تواجه مع المؤتمر منفردا في انتخابات 1997م- أن يكون أحد أقطابها. وفي إطار النظرة تجاه قضية الجنوب تشكل داخل الحزب تيار مطالب بتصحيح مسار الوحدة، وهو بهذا المعنى يرفض نتائج حرب 1994م ويطالب بتطبيق وثيقة (العهد والاتفاق)! أو إعادة الوضع إلى ما كان عليه في عام 1990م!
إن ما يميز هذه المرحلة هو التوجه بقضية الحزب (الخاسر) إلى قضية شعب كامل ووطن جغرافي كانت له دولة وسيادة، بحيث استطاع الاشتراكي ترسيخ ما عُرف بـ(قضية الجنوب) في الوعي الجماهيري لدى أبناء الجنوب.. وهذا لم يكن ليتم لولا عوامل أخرى ساعدت الحزب في ترسيخ هذا الهمّ كان من بينها أداء الدولة وممارساتها عقب الحرب.. وهو ما سنتطرق إليه لاحقا.
[1] شارك في إعداد مادة التقرير باحثون لامسوا الأوضاع، وكانوا قريبين من بعض الأحداث، وجلسوا إلى شخصيات ذات علاقة بالموضوع، وسجلوا ملاحظاتهم، والمركز إذ يعترف لهم بالجهد والبذل يقدم لهم جزيل الشكر والامتنان.
[2] وهي ذات توجه يساري متطرف.
[3] يشير البعض أنها كانت مدعومة من قبل نظام جمال عبدالناصر.
[4] علي ناصر محمد غادر صنعاء عقب قيام الوحدة بطلب من قيادة الحزب الاشتراكي في حينه. أما عناصره التي لم تستطع مغادرة عدن في أحداث 13 يناير 1986م فقد واجهات صنوف العذاب والتنكيل والقتل!
[5] لا توجد إحصائيات رسمية معلنة حتى الآن وإنما هي تقديرات لبعض من شاركوا في هذه المجزرة أو حضروها. انظر: تصريح سالم صالح محمد لبرنامج زيارة خاصة، الجزيرة، في 13/1/2004م.
[6] ويرى ياسين سعيد نعمان –الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني أن أحداث 13 يناير كانت نتاج "صراع بين رومانسية الفكرة وبراجماتية الدولة"! وأنها تمت في "ظروف غياب الديمقراطية وحرية الآخر"! (صحيفة النداء، في 25/1/2008م).
كما يرى سالم صالح محمد أن "عدن دمرت تماما"! وأن الديكتاتورية المفرطة والعقلية التي تفكر دائما بهذا الشكل" كانت وراء هذه الأحداث! (برنامج زيارة خاصة، الجزيرة، في 13/1/2004م).
[7] برنامج زيارة خاصة، الجزيرة، في 13/1/2004م.
[8] عملت القوى اليسارية كما هي عادتها بزرع الألغام البشرية في غالبية مناطق الصراع ولا يزال الكثير منها موجودا وقد كلف اليمن –ولا يزال يكلفها- أعباء مالية ومادية وبشرية.
[9] كان ذلك عام 1979م.
[10] الجزيرة، مرجع سابق.
[11] الجزيرة، مرجع سابق.
[12] كان نائب رئيس الوزراء العميد مجاهد أبو شوارب من بين من صرح بذلك. (انظر: الدستور الأردنية، فبراير 1994م). وما أشار إليه أبو شوارب توقعه عدد غير قليل من المطلعين والمراقبين للشأن اليمني محليا وخارجيا.
[13] الوثيقة بالأساس كانت نتيجة الاتفاق الذي توصلت إليه أحزاب الحكومة الائتلافية ولجنة الحوار الوطني في 18 يناير 1994م في مدينة عدن. وقد حاولت الوثيقة في حينه إيجاد دور ما للقوى الخارجية في شأن تنفيذها! بمعنى آخر تدويل الأزمة بصيغة سلمية! لذا جرى الدفع باتجاه توقيع الوثيقة خارج اليمن! فتم اختيار عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية عمَّان لتكون محطة التوقيع؛ بمشاركة كل من: مصر، والمملكة العربية السعودية، وجامعة الدول العربية، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي. وقد أبدى المؤتمر الشعبي العام تحفظه على هذا المقترح، هو والتجمع اليمني للإصلاح حليفه الإستراتيجي –في حينه! ونصت الوثيقة حسب مطالب الحزب الاشتراكي اليمني على تطبيق لا مركزية إدارية واسعة.
[14] تقدمت سلطنة عُمان بمبادرة لإنهاء الأزمة القائمة، والغريب أن هذه المبادرات اقترحت أن تأخذ الوحدة طابع الكنفدرالية أو الفيدرالية بعد أن فشلت الوحدة الاندماجية وحتى لا يدخل اليمن في حرب أهلية!
[15] وقعت الحرب بينما كان حيدر أبو بكر العطاس في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية.
[16] العطاس، الذي بات رئيس الوزراء في "جمهورية اليمن الديمقراطية" التي أعلن عنها في عدن، دعا من القاهرة إلى إرسال مراقبين دوليين للأشراف على وقف النار؛ وصرح أن عدم احترام صنعاء لوقف إطلاق النار يعبر عن "تناقض فاضح في دائرة صنع القرار في اليمن الشمالي، بجميع عناصره العسكرية، والقبلية، والدينية المتطرفة"! وفي إطار التحامل والكذب اتهم الحزب الاشتراكي علماء الإصلاح بإصدار "فتوى دينية" تبيح قتل أبناء الجنوب! وتجيز أخذ ممتلكاتهم كـ"غنيمة حرب"! كما اتهم الشمال بارتكاب مجازر حرب وبالاعتداء على المدنيين وتدمير المصالح العامة والبنى التحتية، علما بأن الاشتراكي استخدم صواريخ "سكود" المحرمة دوليا على المدن الآهلة بالسكان وفي مقدمتها صنعاء.
[17] بعد انتهاء حرب الانفصال 1994م، برز تيار الحركة الإسلامية أكثر قوة، بعد أن شارك في الحرب وكان له فيها دور فاعل ومؤثر، وأصبح أوسع نفوذاً بعد تقاسمه السلطة مع المؤتمر الشعبي العام، وهذا ما دفع الاشتراكيين لاتهام نظام علي عبدالله صالح بالتحالف مع الإسلاميين، بل بأن نظامه (أصولي) الجوهر وإن بدا في ظاهره علمانيا! ولإبعاد هذه التهمة التي بدأت تتردد في عواصم صنع القرار الغربية بتأكيدات عواصم عربية عمل علي عبدالله صالح على مواجهة الحركة في الانتخابات العامة عام 1997م، إلى حدِّ استخدام قوة السلاح! وإلغاء المعاهد العلمية، وتسريح الكوادر الحزبية من أجهزة الدولة. الأمر الذي دفع قادة التجمع اليمني للإصلاح للإعلان عن فك الارتباط الإستراتيجي بينهم وبين المؤتمر الشعبي العام والرئيس صالح؛ بعد اعتقادها أنها ستجني ثمرة مشاركتها في الحرب المزيد من الانتشار والقبول وتعاملت مع القيادة السياسية على هذا الأساس.
%80 [18] من الذين فصلوا من أعمالهم عقب حرب 1994م هم من أعضاء الحزب الاشتراكي –حسب تصريح ياسين سعيد نعمان في حوار مع صحيفة النداء, في 25/1/2008م.80%
[19] انطلقت فكرة جمعيات المتقاعدين في عام 2004م، إلا أن الدولة لم ترخص لهم في حينه، وتعاملت معها باعتبارها نشاطا انفصاليا. فبدأ الإعلان عن هذه الجمعيات انطلاقا من الضالع ثمَّ تبعتها كل من يافع وعدن وأبين وشبوة وحضرموت. وتأسس لاحقا مجلس تنسيق أعلى لكافة الجمعيات في المحافظات الجنوبية جميعا. وشيئا فشيئا بدأت المطالب الحقوقية تنعكس في مهرجانات ومظاهرات واعتصامات وحراك إعلامي وحقوقي.
الحكومة بدورها لم تبد للموضوع بالا، وتعاملت مع بوادر الظاهرة باستهتار وحملة اتهامات؛ لكنها فيما بعد وجدت نفسها أمام حراك واسع وعريض أخذ طابع التهديد السياسي لدولة الوحدة والنظام الحاكم!
جميع الحقوق محفوظة لموقع مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث ©