أخيرا قررت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التابعة لهيئة الدفاع عن الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، تأجيل موعد انتخابات المجلس التأسيسي التي من المفترض تنظيمها يوم 24 يوليو/تموز، إلى يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول من السنة الجارية، لأسباب تقنية ولوجستية على ما يقول رئيس الهيئة العليا، كمال الجندوبي. ورغم أن حكومة الباجي قايد السبسي عبرت في البداية عن التزامها بالموعد المحدد، إلا أن موقفها لا يبدو قاطعا ونهائيا على نحو ما عبرت عن ذلك تصريحات رئيس الوزراء على هامش اجتماع الثمانية، ما يجعل من إمكانية التأجيل أمر وارد، وإن كان من المحتمل أن ينتهي الوضع إلى موعد وفاقي ما بين التاريخ الأصلي، والتاريخ المقترح من طرف الهيئة العليا. أما الأحزاب السياسية فقد تفاوتت مواقفها من قرار الهيئة. رفضت النهضة والحزب الديمقراطي التقدمي وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية التأجيل، في حين وافقت الأحزاب اليسارية، وفي مقدمتها حزب التجديد وحزب العمال الشيوعي، على مبدأ التأجيل الذي كانت تدعو له أصلا.
اليساريون وفزاعة الإسلاميين
إستراتيجية تقوية القوى الصغرى
إلى أين تتجه الأوضاع؟
اليساريون وفزاعة الإسلاميين
التجاذب حول موعد إجراء الانتخابات في تونس، والذي يبدو شكليا وجزئيا في ظاهره، ليس في الحقيقة إلا جزءا من مشهد سياسي أوسع، يتسم في صورته العامة بالاستقطاب والتجاذب على رهانات انتخاب المجلس التأسيسي القادم، الذي من المفترض أن يضع دستورا جديدا للبلاد ويقيم مرتكزات النظام السياسي الوليد في مرحلة ما بعد الثورة.
ورغم أن خطوط هذا الاستقطاب تبدو كثيرة ومتعددة الجبهات، إلا أنها تتكثف اليوم في الصراع بين المجموعات اليسارية التي تهيمن على تركيبة هيئة حماية الثورة، ولها امتدادات في المجتمع المدني والأحزاب السياسية من جهة، وبين التيار الإسلامي، ممثلا في حركة النهضة، التي تتمتع بحضور متزايد في الشارع التونسي، وترجّح جل استطلاعات الرأي تقدمها في نيل أصوات الناخبين.
ويندرج هذه المشهد في سياق أوسع، فتونس تعيش منذ رحيل بن علي حالة استقطاب بين نظام قديم ومتراجع، ولكنه مازال يمتلك الكثير من مقومات الاستمرار بهيئاته وأشخاصه، وبين نظام جديد هو بصدد التشكل، ولكنه لا يمتلك غير شرعية الثورة وزخم الشارع. وتعكس حكومة المرحلة الانتقالية بقيادة الباجي قايد السبسي هذا المشهد السياسي بكل تناقضاته وتعقيداته. فهي من جهة أولى اضطرت، تحت الضغط الشعبي، إلى أن تأخذ مسافة من عهد بن علي المخلوع، ويبدو ذلك جليا سواء من خلال إقدامها على قرار حل التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان يمثل أهم مرتكز لنظام بن علي بعد الأجهزة الأمنية الضاربة، أو من خلال الإعلان عن حل البوليس السياسي، ثم تعقب رموز العهد السابق والمتورطين في التعذيب من داخل وزارة الداخلية، ولكنها من جهة أخرى تبدو حريصة على ضبط إيقاع عملية التغيير والحيلولة دون ذهابها بعيدا، ومن ذلك إعادة "نشر" رجالات العهد السابق في مواقعهم الجديدة سواء، كوزراء أو محافظين أو مدراء شركات ومؤسسات، وعودة البوليس بقوة إلى الشارع بعد إعادة بناء الأجهزة الأمنية، والسعي الحثيث إلى إحياء الميراث البورقيبي، بما في ذلك إعادة الاعتبار لمقولة هيبة الدولة التي تعد إحدى أهم مفردات ذلك العهد.
ما ذكره وزير الداخلية المقال فرحات الراجحي من وجود قوى خفية تدير الوضع التونسي ليس إلا إشارة إلى أطراف نافذة تتكون من رجال أعمال، وصفوة العاصمة (البلدية) وفريقا من وزراء سابقين، هم اليوم يشاركون في إدارة دفة الحكم، من وراء ستار، إلى جانب الباجي قايد السبسي. كما أن هنالك نخبة من خريجي المدرسة القومية للإدارة، التي تمثل العصب الأساسي للبيروقراطية التونسية منذ عقود طويلة، وفق التقاليد الفرنسية المعروفة، لا تزال تمسك بالمفاصل الحيوية للدولة، ولم تتأثر كثيرا بالتقلبات السياسية الراهنة. ومن بين الأسماء التي يشير إليها المراقبون، الهادي البكوش وكمال لطيف ومصطفى كمال النابلي وحامد القروي وغيرهم. كما أن هناك شخصيات فرنسية رسمية وغير رسمية من أصل تونسي تتمتع هي الأخرى بنفوذ قوي داخل دوائر القرار السياسي التونسي، ومن ذلك بيار للوش سكرتير الدولة للتجارة الخارجية الفرنسي، وهو من أصل تونسي، والمخرج السينمائي ورجل الأعمال المعروف طارق بن عمار ابن شقيقة وسيلة بن عمار زوجة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وغيرهما.
إستراتيجية تقوية القوى الصغرى
ما يعقد الوضع السياسي التونسي الراهن، هو أنه لا توجد قوة حقيقية بمقدورها ملأ الفراغ السياسي الذي تركه حل الحزب الحاكم، تكون قادرة على الوقوف الندي في وجه الإسلاميين. ثمة جهود حثيثة يبذلها حزب نجيب الشابي (الحزب الديمقراطي التقدمي) لاستمالة القاعدة الانتخابية للحزب الحاكم المنحل، خصوصا في العاصمة ومدن الساحل، ولكن لا توجد مؤشرات قوية تدل على أنه سيكون مركز الجذب الوحيد بالنسبة للتجمعيين، أو أنه سيكون منافسا جديا للإسلاميين. ولذلك، هناك مخاوف تنتاب جزءا من الطبقة السياسية، في الحكم والمعارضة، وخصوصا ذات التوجهات اليسارية، من أن تتمخض الانتخابات القادمة عن تمثيل قوي للإسلاميين في المجلس التأسيسي، وقد وقع التحسب لذلك من خلال سن قانون انتخابي يجعل من الصعب على أي قوة نيل أغلبية راجحة في المجلس، ويعطي حظوظا أوفر للقوى الصغرى وفق نظام البقايا. كما حرصت القوى اليسارية التي تهيمن على هيئة حماية الثورة، الدفع بما سمي وثيقة العهد الجمهوري إلى أجندة الهيئة، وذهب بعض الأعضاء إلى المطالبة بجعل هذه الوثيقة فوق الدستور ورهينة بيد الجيش، في محاولة لتقييد أيدي القوى القادمة إلى المجلس التأسيسي. ولذلك يبدو مطلب تأجيل الانتخابات لا يتعلق بالجوانب الفنية واللوجستية فحسب، بقدر ما يتعلق بإرادة ربح مزيد من الوقت وتفعيل تكتيكات مواجهة الإسلاميين في الأشهر القادمة.
على أن حكومة الباجي قايد السبسي، ويشاركها الجيش في ذلك، باتت مقتنعة بأن الاستحقاق الانتخابي، وبغض النظر عن النتائج التي سيسفر عنها، مسألة ضرورية للخروج من حالة الفراغ والاضطراب التي تطبع المرحلة الانتقالية الراهنة، وهي أكثر من ذلك تخشى من أن التمادي في التأجيل أو تعطيل الانتخابات من شأنه أن يعرض البلد إلى مخاطر جمة، بما في ذلك احتمال انهيار الدولة أصلا. فالمواجهات التي وقعت في الأسبوع الماضي في مدينة الروحية (من محافظة سليانة) مع مجموعات من القاعدة، قيل أنها تسللت من الحدود الليبية، وأودت بحياة ثلاثة من العساكر التونسيين، ثم عودة موجات الاحتجاج في العديد من المدن التونسية (بنزرت، تطاوين، سليانة)، بموازاة انفجار المطالب الاجتماعية بصورة غير مسبوقة، ثم تزايد أعباء البطالة والأزمة الاقتصادية، كلها تؤشر على أن البلد لم يدرك بعد مرحلة الهدوء والاستقرار. كما أن الضغط الذي تتعرض له تونس من الجوار الليبي سواء بسبب امتداد الصراع إلى داخل الحدود الجنوبية التونسية نفسها (مدينة ذهيبة الحدودية) أو بسبب تدفق عشرات آلاف اللاجئين، إلى جانب احتمال تدخلات جزائرية، كلها تزيد تعقيد الوضع الأمني التونسي، مثلما تستدعي الحاجة إلى تأسيس شرعية سياسية جديدة في مرحلة ما بعد رحيل بن علي.
إلى أين تتجه الأوضاع؟
إن الحراك السياسي الذي تعيشه تونس والذي تختلط فيه المطالب السياسية، بأجواء الاضطراب والانفلات الأمني، تمثل جزءا من المناخ السياسي العام الذي يطبع البلد في مرحلة الثورة، وليس هناك ما يشير إلى أن هذه الديناميكية مع ما يرافقها من تداعيات أمنية واقتصادية مكلفة، ستتوقف في الآماد القريبة. كما أن إرادة احتواء الثورة وكبح جماح عملية التغيير ستظل قائمة، سواء بناء على حسابات نخب الحكم، أو استجابة لضغوطات الجوار الإقليمي أو مطالب القوى الدولية، ولكن زخم الشارع، مصحوبا بحالة اليقظة الشعبية، وخصوصا بين قطاعات الشباب، وعودة الأحزاب بقوة إلى الساحة، قد أحدثت في مجملها نوعا من التوازن المفقود مع النظام القائم، بما يجعل من الصعب جدا العودة إلى التقاليد التسلطية السابقة، ومع ذلك يظل الوضع السياسي التونسي متأثرا إلى حد كبير بمناخ الثورات العربية والوجهة التي ستأخذها، وخصوصا بما يجري في ليبيا ومصر.
الأرجح أنه كلما اقتربت الساحة السياسية التونسية من موعد الانتخابات، كلما ازدادت حدة التوتر وتصاعدت وتيرة المناكفات السياسية، إلا أن خيار الانفتاح السياسي قد فرض نفسه ولم يعد من الممكن توقف عملية التغيير، وعليه من المستبعد أن تشهد تونس تكرارا دراميا للسيناريو الجزائري مجددا. فعلى الصعيد الداخلي، ساهم فتح خط تواصل بين المؤسسة العسكرية وقيادات النهضة، خصوصا بعد تصريحات الراجحي المفاجئة، فضلا عن مد الصلات بحكومة السبسي، في تهدئة الأجواء السياسية. أما على الصعيد الخارجي، فإن الحقائق الجديدة التي فرضتها الثورات العربية قد دفعت القوى الدولية هي الأخرى إلى القبول الاضطراري بوجود الإسلاميين طرفا نشيطا في المعادلة الجديدة. فقد باتت هذه القوى تغلب اليوم إستراتيجية المسايرة والاحتواء التدريجي على خيار المواجهة أو النفي. الولايات المتحدة الأمريكية لا تجد غضاضة في التعامل مع حكومة يشارك فيها، أو حتى يقودها إسلاميون في تونس، خاصة وأن هذا الخيار يبدو غير مكلف كثيرا، في بلد يدخل ضمن دائرة النفوذ الفرنسي تقليديا، فضلا عن كونه صغير الحجم ولا يتموضع ضمن خط الصراع الساخن مع إسرائيل. الفرنسيون بدورهم بدؤوا يدركون أنه لا يمكن تغييب الإسلاميين عن المعادلة الجديدة، بالنظر إلى أنهم قد خسروا كثيرا جراء إسنادهم القوي لبن علي إلى غاية سقوطه. من المؤكد أن الفرنسيين لن يتخلوا عن دعم حلفائهم في الساحة التونسية والعمل على إضعاف الإسلاميين، إلا أنهم في كل الأحوال لن يرفعوا الفيتو في وجه مشاركة الإسلاميين. ضمن هذه السياقات، توضع تصريحات وزير الخارجية آلان جوبيه الأخيرة التي أثنى خلالها على حركة النهضة. وحتى عساكر الجزائر المتوجسين مما يجري في تونس باتوا اليوم أكثر ميلا للتعامل البراغماتي مع الوضع الناشئ في تونس، خصوصا مع اهتزاز وضع الحليف الليبي.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات
اليساريون وفزاعة الإسلاميين
إستراتيجية تقوية القوى الصغرى
إلى أين تتجه الأوضاع؟
اليساريون وفزاعة الإسلاميين
التجاذب حول موعد إجراء الانتخابات في تونس، والذي يبدو شكليا وجزئيا في ظاهره، ليس في الحقيقة إلا جزءا من مشهد سياسي أوسع، يتسم في صورته العامة بالاستقطاب والتجاذب على رهانات انتخاب المجلس التأسيسي القادم، الذي من المفترض أن يضع دستورا جديدا للبلاد ويقيم مرتكزات النظام السياسي الوليد في مرحلة ما بعد الثورة.
ورغم أن خطوط هذا الاستقطاب تبدو كثيرة ومتعددة الجبهات، إلا أنها تتكثف اليوم في الصراع بين المجموعات اليسارية التي تهيمن على تركيبة هيئة حماية الثورة، ولها امتدادات في المجتمع المدني والأحزاب السياسية من جهة، وبين التيار الإسلامي، ممثلا في حركة النهضة، التي تتمتع بحضور متزايد في الشارع التونسي، وترجّح جل استطلاعات الرأي تقدمها في نيل أصوات الناخبين.
ويندرج هذه المشهد في سياق أوسع، فتونس تعيش منذ رحيل بن علي حالة استقطاب بين نظام قديم ومتراجع، ولكنه مازال يمتلك الكثير من مقومات الاستمرار بهيئاته وأشخاصه، وبين نظام جديد هو بصدد التشكل، ولكنه لا يمتلك غير شرعية الثورة وزخم الشارع. وتعكس حكومة المرحلة الانتقالية بقيادة الباجي قايد السبسي هذا المشهد السياسي بكل تناقضاته وتعقيداته. فهي من جهة أولى اضطرت، تحت الضغط الشعبي، إلى أن تأخذ مسافة من عهد بن علي المخلوع، ويبدو ذلك جليا سواء من خلال إقدامها على قرار حل التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان يمثل أهم مرتكز لنظام بن علي بعد الأجهزة الأمنية الضاربة، أو من خلال الإعلان عن حل البوليس السياسي، ثم تعقب رموز العهد السابق والمتورطين في التعذيب من داخل وزارة الداخلية، ولكنها من جهة أخرى تبدو حريصة على ضبط إيقاع عملية التغيير والحيلولة دون ذهابها بعيدا، ومن ذلك إعادة "نشر" رجالات العهد السابق في مواقعهم الجديدة سواء، كوزراء أو محافظين أو مدراء شركات ومؤسسات، وعودة البوليس بقوة إلى الشارع بعد إعادة بناء الأجهزة الأمنية، والسعي الحثيث إلى إحياء الميراث البورقيبي، بما في ذلك إعادة الاعتبار لمقولة هيبة الدولة التي تعد إحدى أهم مفردات ذلك العهد.
ما ذكره وزير الداخلية المقال فرحات الراجحي من وجود قوى خفية تدير الوضع التونسي ليس إلا إشارة إلى أطراف نافذة تتكون من رجال أعمال، وصفوة العاصمة (البلدية) وفريقا من وزراء سابقين، هم اليوم يشاركون في إدارة دفة الحكم، من وراء ستار، إلى جانب الباجي قايد السبسي. كما أن هنالك نخبة من خريجي المدرسة القومية للإدارة، التي تمثل العصب الأساسي للبيروقراطية التونسية منذ عقود طويلة، وفق التقاليد الفرنسية المعروفة، لا تزال تمسك بالمفاصل الحيوية للدولة، ولم تتأثر كثيرا بالتقلبات السياسية الراهنة. ومن بين الأسماء التي يشير إليها المراقبون، الهادي البكوش وكمال لطيف ومصطفى كمال النابلي وحامد القروي وغيرهم. كما أن هناك شخصيات فرنسية رسمية وغير رسمية من أصل تونسي تتمتع هي الأخرى بنفوذ قوي داخل دوائر القرار السياسي التونسي، ومن ذلك بيار للوش سكرتير الدولة للتجارة الخارجية الفرنسي، وهو من أصل تونسي، والمخرج السينمائي ورجل الأعمال المعروف طارق بن عمار ابن شقيقة وسيلة بن عمار زوجة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وغيرهما.
إستراتيجية تقوية القوى الصغرى
ما يعقد الوضع السياسي التونسي الراهن، هو أنه لا توجد قوة حقيقية بمقدورها ملأ الفراغ السياسي الذي تركه حل الحزب الحاكم، تكون قادرة على الوقوف الندي في وجه الإسلاميين. ثمة جهود حثيثة يبذلها حزب نجيب الشابي (الحزب الديمقراطي التقدمي) لاستمالة القاعدة الانتخابية للحزب الحاكم المنحل، خصوصا في العاصمة ومدن الساحل، ولكن لا توجد مؤشرات قوية تدل على أنه سيكون مركز الجذب الوحيد بالنسبة للتجمعيين، أو أنه سيكون منافسا جديا للإسلاميين. ولذلك، هناك مخاوف تنتاب جزءا من الطبقة السياسية، في الحكم والمعارضة، وخصوصا ذات التوجهات اليسارية، من أن تتمخض الانتخابات القادمة عن تمثيل قوي للإسلاميين في المجلس التأسيسي، وقد وقع التحسب لذلك من خلال سن قانون انتخابي يجعل من الصعب على أي قوة نيل أغلبية راجحة في المجلس، ويعطي حظوظا أوفر للقوى الصغرى وفق نظام البقايا. كما حرصت القوى اليسارية التي تهيمن على هيئة حماية الثورة، الدفع بما سمي وثيقة العهد الجمهوري إلى أجندة الهيئة، وذهب بعض الأعضاء إلى المطالبة بجعل هذه الوثيقة فوق الدستور ورهينة بيد الجيش، في محاولة لتقييد أيدي القوى القادمة إلى المجلس التأسيسي. ولذلك يبدو مطلب تأجيل الانتخابات لا يتعلق بالجوانب الفنية واللوجستية فحسب، بقدر ما يتعلق بإرادة ربح مزيد من الوقت وتفعيل تكتيكات مواجهة الإسلاميين في الأشهر القادمة.
على أن حكومة الباجي قايد السبسي، ويشاركها الجيش في ذلك، باتت مقتنعة بأن الاستحقاق الانتخابي، وبغض النظر عن النتائج التي سيسفر عنها، مسألة ضرورية للخروج من حالة الفراغ والاضطراب التي تطبع المرحلة الانتقالية الراهنة، وهي أكثر من ذلك تخشى من أن التمادي في التأجيل أو تعطيل الانتخابات من شأنه أن يعرض البلد إلى مخاطر جمة، بما في ذلك احتمال انهيار الدولة أصلا. فالمواجهات التي وقعت في الأسبوع الماضي في مدينة الروحية (من محافظة سليانة) مع مجموعات من القاعدة، قيل أنها تسللت من الحدود الليبية، وأودت بحياة ثلاثة من العساكر التونسيين، ثم عودة موجات الاحتجاج في العديد من المدن التونسية (بنزرت، تطاوين، سليانة)، بموازاة انفجار المطالب الاجتماعية بصورة غير مسبوقة، ثم تزايد أعباء البطالة والأزمة الاقتصادية، كلها تؤشر على أن البلد لم يدرك بعد مرحلة الهدوء والاستقرار. كما أن الضغط الذي تتعرض له تونس من الجوار الليبي سواء بسبب امتداد الصراع إلى داخل الحدود الجنوبية التونسية نفسها (مدينة ذهيبة الحدودية) أو بسبب تدفق عشرات آلاف اللاجئين، إلى جانب احتمال تدخلات جزائرية، كلها تزيد تعقيد الوضع الأمني التونسي، مثلما تستدعي الحاجة إلى تأسيس شرعية سياسية جديدة في مرحلة ما بعد رحيل بن علي.
إلى أين تتجه الأوضاع؟
إن الحراك السياسي الذي تعيشه تونس والذي تختلط فيه المطالب السياسية، بأجواء الاضطراب والانفلات الأمني، تمثل جزءا من المناخ السياسي العام الذي يطبع البلد في مرحلة الثورة، وليس هناك ما يشير إلى أن هذه الديناميكية مع ما يرافقها من تداعيات أمنية واقتصادية مكلفة، ستتوقف في الآماد القريبة. كما أن إرادة احتواء الثورة وكبح جماح عملية التغيير ستظل قائمة، سواء بناء على حسابات نخب الحكم، أو استجابة لضغوطات الجوار الإقليمي أو مطالب القوى الدولية، ولكن زخم الشارع، مصحوبا بحالة اليقظة الشعبية، وخصوصا بين قطاعات الشباب، وعودة الأحزاب بقوة إلى الساحة، قد أحدثت في مجملها نوعا من التوازن المفقود مع النظام القائم، بما يجعل من الصعب جدا العودة إلى التقاليد التسلطية السابقة، ومع ذلك يظل الوضع السياسي التونسي متأثرا إلى حد كبير بمناخ الثورات العربية والوجهة التي ستأخذها، وخصوصا بما يجري في ليبيا ومصر.
الأرجح أنه كلما اقتربت الساحة السياسية التونسية من موعد الانتخابات، كلما ازدادت حدة التوتر وتصاعدت وتيرة المناكفات السياسية، إلا أن خيار الانفتاح السياسي قد فرض نفسه ولم يعد من الممكن توقف عملية التغيير، وعليه من المستبعد أن تشهد تونس تكرارا دراميا للسيناريو الجزائري مجددا. فعلى الصعيد الداخلي، ساهم فتح خط تواصل بين المؤسسة العسكرية وقيادات النهضة، خصوصا بعد تصريحات الراجحي المفاجئة، فضلا عن مد الصلات بحكومة السبسي، في تهدئة الأجواء السياسية. أما على الصعيد الخارجي، فإن الحقائق الجديدة التي فرضتها الثورات العربية قد دفعت القوى الدولية هي الأخرى إلى القبول الاضطراري بوجود الإسلاميين طرفا نشيطا في المعادلة الجديدة. فقد باتت هذه القوى تغلب اليوم إستراتيجية المسايرة والاحتواء التدريجي على خيار المواجهة أو النفي. الولايات المتحدة الأمريكية لا تجد غضاضة في التعامل مع حكومة يشارك فيها، أو حتى يقودها إسلاميون في تونس، خاصة وأن هذا الخيار يبدو غير مكلف كثيرا، في بلد يدخل ضمن دائرة النفوذ الفرنسي تقليديا، فضلا عن كونه صغير الحجم ولا يتموضع ضمن خط الصراع الساخن مع إسرائيل. الفرنسيون بدورهم بدؤوا يدركون أنه لا يمكن تغييب الإسلاميين عن المعادلة الجديدة، بالنظر إلى أنهم قد خسروا كثيرا جراء إسنادهم القوي لبن علي إلى غاية سقوطه. من المؤكد أن الفرنسيين لن يتخلوا عن دعم حلفائهم في الساحة التونسية والعمل على إضعاف الإسلاميين، إلا أنهم في كل الأحوال لن يرفعوا الفيتو في وجه مشاركة الإسلاميين. ضمن هذه السياقات، توضع تصريحات وزير الخارجية آلان جوبيه الأخيرة التي أثنى خلالها على حركة النهضة. وحتى عساكر الجزائر المتوجسين مما يجري في تونس باتوا اليوم أكثر ميلا للتعامل البراغماتي مع الوضع الناشئ في تونس، خصوصا مع اهتزاز وضع الحليف الليبي.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات