. مقدمة
"الحاكم العادل يظهر له الشعب الولاء ويبطن له الحب والوفاء، فإذا نزلت نازلة جعلوا نحورهم دون نحره، والحاكم الظالم يظهر له الشعب الولاء ويبطن له الكره والبغضاء، فإذا نزلت به نازلة أسلموه ولا يبالون". عبد الرحمن بن خلدون
حَكم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي البلاد أكثر من عقدين من الزمن، وخلال هذه الفترة أظهر الشعب له الولاء وأبطن له الكره والبغضاء؛ لكن تعاظم الظلم والقمع أخرج ما يبطنه الناس إلى العلن. وجاء هذا الإعلان في شكل ثورة عارمة، استوقفت العديد من الباحثين في العلوم السياسية ومسألة الديمقراطية. والحقيقة أنّ سؤال الديمقراطية العربية كان ومازال مطروحًا على جدول أعمال مفكّرين عرب، عكفوا منذ سنواتٍ على تقديم مبادرات وقراءات استشرافية للحالة العربية.
وتجسّدت الثورة التونسية ثورةً شعبية بكلّ المعايير، وهو ما استرعى اهتمام العديد من المؤرّخين والكتاب في المجالات كافّةً، وستكون الثورة موضوعًا غنيًّا للعديد من الأبحاث والمؤلّفات للبحث في جوانبها المختلفة، ولسنوات. وهنا يجتهد الباحث في استعراض ملامح هذه الثورة من زوايا مختلفة لتقديم رؤية أوّلية للأحداث بصورةٍ أكاديمية تستتبع بكتاب.
ومثّلت الثورة الشعبية التونسية التي أدّت إلى هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى السعودية والإطاحة بنظام حكمه الذي استمرّ مدة 23 عاما علامة فارقة وبداية مرحلة تاريخية جديدة في العالم العربي. ولم تتوقّف موجات هذه الثورة عند حدود تونس بل تعدّتها إلى العديد من البلاد العربية، ففعلت فعلها، وفجّرت في هذه الشعوب الطاقة الكامنة، تغذّيها القواسم المشتركة من الفساد والتسلّط وحكم الحزب الواحد وتمركز ثروات الأمّة في يد فئةٍ قليلة من أصحاب رؤوس الأموال الذين تراكمت ثرواتهم على حساب قوت الشّعب ومصادرة حريته باستخدام العصا الأمنيّة الغليظة.
حَكم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي البلاد أكثر من عقدين من الزمن، وخلال هذه الفترة أظهر الشعب له الولاء وأبطن له الكره والبغضاء؛ لكن تعاظم الظلم والقمع أخرج ما يبطنه الناس إلى العلن. وجاء هذا الإعلان في شكل ثورة عارمة، استوقفت العديد من الباحثين في العلوم السياسية ومسألة الديمقراطية. والحقيقة أنّ سؤال الديمقراطية العربية كان ومازال مطروحًا على جدول أعمال مفكّرين عرب، عكفوا منذ سنواتٍ على تقديم مبادرات وقراءات استشرافية للحالة العربية[1].
جسّدت الثورة التونسية ثورةً شعبية بكلّ المعايير، وهو ما استرعى اهتمام العديد من المؤرّخين والكتاب في المجالات كافّةً، وستكون الثورة موضوعًا غنيًّا للعديد من الأبحاث والمؤلّفات للبحث في جوانبها المختلفة، ولسنوات. وهنا يجتهد الباحث في استعراض ملامح هذه الثورة من زوايا مختلفة لتقديم رؤية أوّلية للأحداث بصورةٍ أكاديمية تستتبع بكتاب.
لمحة تاريخية:
استلم زين العابدين بن علي الحكم فجْر 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 بعد انقلابه "الدستوري" على الزعيم الحبيب بورقيبة. وعاشت تونس تحت حكم بن علي أسوأ أنواع الحكم الاستبدادي، خاصةً من قبل الشخصيات الأمنية التي استبدّت بالحكم وجعلت من الديمقراطية والحرية فزّاعة النظام والمحسوبين عليه. وقد نالت المعارضة الإسلامية نصيب الأسد من التعذيب والتطهير والاجتثاث. وشهدت تونس توجيه ضربات متتالية لحرية المعتقد والحريات العامّة، وخاصّةً حرية التعبير. وجرى تدريب أجهزة الأمن التونسية على أنّ أصحاب الآراء والدّاعين للديمقراطية خطر يجب اجتثاثه. وشهدت الساحة التونسية أحداثاً عديدة وعلى فترات متقاربة ومتباعدة عزّزت في مجموعها من حالة الاحتقان التي بلغت ذروتها عبر الثورة، فقد كانت أحداث الحوض المنجمي والانقلاب على الاتّفاقيات بين قيادة الاحتجاج والنظام وما ترتّب على ذلك من قمعٍ واضطهاد ومحاكمات؛ كما كان لتسريبات "ويكيليكس" بشأن فساد نظام الحكم، صداها وإن عملت جماعات الرقابة الأمنية على منْع وصولها للمواطن التونسي من خلال عمليات الحجْب والمنع والإغلاق للعديد من المواقع الالكترونية.
منهجية البحث:
مشكلة البحث: تكمن مشكلة البحث في وجود نظام حكم تسلّطي استبدادي، حكم تونس مدّة ثلاثة وعشرين عامًا، وأنتج واقعًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا صعبًا أدّى إلى تراكم حالةٍ من الاحتقان والشعور بالتهميش ممّا أدّى إلى اندلاع ثورة عارمة أطاحت بالنظام يوم 14/01/2011. ويحاول البحث استجلاء ما إذا كانت الثورة منظّمة أو أنها كانت عفوية خارجة عن أيّ شكلٍ من أشكال التنظيم؟
أهمية البحث: تنبع أهمية البحث من نجاح الثورة الشعبية التونسية ضدّ نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ووصولها إلى هدفها بإسقاط رأس النظام وهروبه للخارج وبداية مرحلة جديدة للتحوّل الديمقراطي في تونس. إلى جانب أنّ هذه الثورة تختلف عن غيرها من الثورات الشعبيّة من حيث لم تكن لها قيادة سياسية ظاهرة وواضحة، وذلك ما كان على الأقلّ في مراحلها الأولى.
أهداف البحث: يهدف هذا البحث إلى تقديم قراءة أوّلية للثورة التونسية حتى لحظة إسقاط الرئيس بن علي. وهناك عدد من الأهداف المكمّلة وهي كالتالي:
التعرّف على إرهاصات انتفاض التونسيين وإسقاطهم للنظام الحاكم.
تبيان المحفّزات الشعبية التي دفعت بالجماهير إلى الشارع وصولاً إلى قصر قرطاج وهروب بن علي.
فهم طبيعة المقوّمات التي حافظت على استمرارية الثورة ما قبل سقوط رأس النظام وبعده.
تحليل مكوّنات الحراك الشعبي التي أعادت إنتاج روح الديمقراطية.
أسئلة الدراسة:
ما هي الأسباب والعوامل التي أدّت إلى اندلاع الثورة التونسية؟
كيف استطاعت ثورة شعبية من دون قيادة سياسية واضحة الوصول إلى أهدافها وإسقاط النظام؟
الإطار النظري للبحث:
في تعريفه لمفهوم الثورة يقول "أيرك هوبزباوم" (Eric Hobsbawm): إنّ الثورة هي تحوّل كبير في بنية المجتمع. ويركّز على فكرة التحوّل (Transformation) ولكن زمكانيّة التحوّل الذي تحدّث عنه الكاتب هي أوروبا ما بين عاميْ 1789-1848[2]. ويشير إلى أربعة عناصر تسترعي الاهتمام عند الحديث عن الثورة وهي:
الخصوصية: وهنا يركّز هوبزباوم على أنّ لكل ثورة خصوصيتها من حيث الزّمان والمكان، وليس هناك تشابهٌ أو تطابق بين ثورتين.
وفى السياق العربي فإن لكلّ بلد خصوصيته من التكوين الديمغرافي والطبيعة الجغرافية وحتى الطبائع البشرية، فتونس تختلف بتركيبتها الديموغرافية وطبيعتها الجغرافية عن الشعوب المجاورة، ولها خصوصيتها التي تميّزها عن الآخرين. ولعلّ في ذلك نفياً لبعض المقارنات التي حاولت القول بأنّ الثورة التونسية جاءت شكلاً مكرّرًا للثورة في إيران عام 1979.
النصر: ويعني انتصار منظومة جديدة على منظومة قديمة، ويشير هوبزباوم هنا إلى انتصار الفكر الرأسمالي الليبرالي على الفكر الاقتصادي الإقطاعي. وفي الإطار العربي لهذا العنصر يمكن الحديث عن غلبة منظومة قيمية عربية بكافة جوانبها على منظومة قيمية قديمة. وبيت القصيد في الحالة العربية حدوث حالة قطيعة بين منظومتين تختلفان عن بعضهما البعض بصورة كاملة.
البعد الجغرافي للثورة: حيث يشير هوبزباوم إلى تأثير هذا البعد في مناطق دول الجوار وفي صيرورة التحوّل (في إشارة منه إلى تأثير أوروبا في أميركا الشمالية). وفي السياق العربي يبرز هذا البعد بصورة جليّة في انتقال الثورة من دولةٍ إلى أخرى، وذلك نظرًا إلى التقارب الجغرافي ووحدة الدّين واللغة والتاريخ المشترك وإلى تقارب الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لأغلب الدول العربية. وثورة تونس يجب أن تفهم ضمن هذا السياق، حيث امتدّت موجات الثورة إلى مناطقَ جغرافية مجاورة في اتّجاه الشرق والغرب، وهو ما عبّر عنه المفكّر العربي عزمي بشارة في إطار قراءته للثورة التونسية[3].
التراكمية: وهنا يُرجع هوبزباوم تفجّر الثورة إلى عوامل متراكمة عبر عدد من السنين أحدثت ضغطًا على القاعدة فولّدت الانفجار الذي يجسّد حالة الثورة. وفي السياق العربي يمكن القول بأن ثورة تونس هي نتاج تراكم عوامل ضغط اجتماعي واقتصادي وسياسي على القاعدة الشعبية ممّا أدّى إلى تفجّر الثورة التونسية، وهذا ينسحب كذلك على العديد من الدول العربية التي شهدت وستشهد ثورات مشابهة.
في السياق الأوروبي، يتحدّث هوبزباوم عن أزمات الأنظمة البائدة شمال العالم وغربه، ويحدّدها في فقدان الشّرعية واستفحال الاستبداد ومصادرة الحرية بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في شمال أميركا وغرب أوروبا. وتمثّل هذه الأزمات القاسم المشترك مع الثورة التونسية، حيث توالت في السنوات الأخيرة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وأزمات حقوق الإنسان والحريات والتي أسهمت بشكل رئيس في تفجّر هذه الثورة.
وأجد هنا أنه لابد من التوقّف عند المصطلحات المستخدمة في وصف الثورة التونسية ومن ذلك مصطلح "ثورة الياسمين"، وأرى أنّ هذا المصطلح استشراقي يقلّل من أهمية الثورة، التي تمثّل في نظر صانعيها ثورة حريّة وكرامة قدّموا لأجلها الكثير من الدّماء، ومكابدة نظام بوليسي استبدادي، وهذه الثورة لم تكن كما جرى تصويرها وفق نظرة استشراقية غربيّة وكأنها نزهه في حديقة ياسمين. والحراك الذي لمسه الباحث في مناطق سيدي بوزيد والقصرين يعبّر عن حقيقة ما تعنيه هذه الثورة من سعْي إلى الحرية والكرامة، وفق ما يؤكّده المحامي خالد العوينية[4]، أحد القيادات الميدانية خلال الثورة.
ويحاول روجر بيترسن (Roger Petersen)، مؤلّف كتاب "المقاومة والتمرد"[5]، عند دراسته لسلوك ثورات في أوروبا الشرقية الإجابة عن سؤال: كيف يستطيع الناس العاديّون التمرّد على أنظمة قويّة ووحشيّة عنيفة؟ ويرى في تفسيره النظري لذلك أنّ الثورة تبدأ على شكل احتجاجات وهذه الاحتجاجات تأخذ بعدًا شعبيًّا، تكسر حاجز الخوف أو ينسى الناس الخوف، ومن ثمّ تتحوّل إلى غضب شعبي عارم تطلَق عليه صفة ثورة. ويمكن إسقاط ذلك بشكل واقعي على الثورة التونسية، ففي السياق التونسي بدأت احتجاجات بسيطة في سيدي بوزيد لفترة من الوقت، ثم اتّخذت بعداً شعبيًّا، وبشكل تصاعدي انتقلت إلى مدن أخرى وبالأخصّ العاصمة تونس، وتحوّلت إلى غضب شعبي استطاع أن يسقط نظام الرئيس المخلوع بن علي.
ومن المصطلحات العديدة التي يقع تداولها عند الإشارة إلى أحداث تونس مصطلح "انتفاضة" والذي نحته الفلسطينيون في مواجهة آلة القمع والبطش الإسرائيلية بصدورهم العارية. ويرى الباحث أنّ الثورات العربية ليست بعيدةً عن النموذج الانتفاضي الفلسطيني، حيث أنها -في جانب مهم منها- تستلهم هذا النموذج للتحرّر من الاستبداد والظلم[6]. وهو ما سبق وأشار إليه الباحث في ورقة بحثيّة بعنوان "نحو حكم عربي رشيد: من ديمقراطية الخبز إلى ديمقراطية الانتخاب"، حيث حاول الربط بيْن الانتفاضة الفلسطينية وانتفاضات الخبز العربية من أجل الوصول إلى فهم ديناميكية الحراك الشعبي في الوطن العربي[7].
و تجدر الإشارة هنا إلى أنّ مصطلح الثورة سوف يتم استخدامه بحسب توصيف هوبزباوم للثورة بكونها قطيعة بين منظومة قديمة ومنظومة حديثة، وهذا ما حدث في تونس. ويمكن استخدام مصطلح الانتفاضة عند الإشارة إلى الأحداث في تونس عند بدايتها[8].
----------------------
[1]- عزمي بشارة، في المسألة العربية مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة لأولى، 2007).
[2]- Eric Hobsbawm, The Age of Revolution: 1789-1848, (London: Vintage Books, 1996), pp. 2-17.
[3]- عزمي بشارة، "زمن الثورات وسرعة الضوء وتونسة العرب"، الجزيرة نت، 24 -1-2011 http://www.aljazeera.net/NR/exeres/099FDDB5-D3A9-43E7-AC9C-46E50E56DC3E.htm
[4]- مقابلة أجراها الباحث مع المحامي خالد العوينية يوم 04/02/2011 بمدينة سيدي بوزيد، تونس.
[5]- Roger Peterse, Resistance and Rebellion: Lessons from Eastern Europe, (Cambridge: Cambridge University Press, 2001).
[6]-Larbi Sadiki, "Popular Uprisings and Arab democratization", International Journal of Middle East Studies, 32, 1, 2000, pp. 71-95.
[7]- Larbi Sadiki, "Toward Arab Liberal Governance: From the Democracy of Bread to the Democracy of the Vote", Third World Quartetly, 1997, Vol. 18, N. 1, pp.127-148.
[8]- تجدر الإشارة إلى أن الثورة التونسية حظيت باهتمام إعلامي وصحافي كبير، ولكن على مستوى البحث الأكاديمي العلمي لا يزال المجتمع البحثي يتفاعل مع الحدث، لذا فهذا البحث هو محاولة متواضعة تعتمد على المصادر الأولية من مشاهدات ومقابلات من أجل استجلاء الموقف ومحاولة تحليل الثورة في إطارها الأكاديمي العلمي.
"الحاكم العادل يظهر له الشعب الولاء ويبطن له الحب والوفاء، فإذا نزلت نازلة جعلوا نحورهم دون نحره، والحاكم الظالم يظهر له الشعب الولاء ويبطن له الكره والبغضاء، فإذا نزلت به نازلة أسلموه ولا يبالون". عبد الرحمن بن خلدون
حَكم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي البلاد أكثر من عقدين من الزمن، وخلال هذه الفترة أظهر الشعب له الولاء وأبطن له الكره والبغضاء؛ لكن تعاظم الظلم والقمع أخرج ما يبطنه الناس إلى العلن. وجاء هذا الإعلان في شكل ثورة عارمة، استوقفت العديد من الباحثين في العلوم السياسية ومسألة الديمقراطية. والحقيقة أنّ سؤال الديمقراطية العربية كان ومازال مطروحًا على جدول أعمال مفكّرين عرب، عكفوا منذ سنواتٍ على تقديم مبادرات وقراءات استشرافية للحالة العربية.
وتجسّدت الثورة التونسية ثورةً شعبية بكلّ المعايير، وهو ما استرعى اهتمام العديد من المؤرّخين والكتاب في المجالات كافّةً، وستكون الثورة موضوعًا غنيًّا للعديد من الأبحاث والمؤلّفات للبحث في جوانبها المختلفة، ولسنوات. وهنا يجتهد الباحث في استعراض ملامح هذه الثورة من زوايا مختلفة لتقديم رؤية أوّلية للأحداث بصورةٍ أكاديمية تستتبع بكتاب.
ومثّلت الثورة الشعبية التونسية التي أدّت إلى هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى السعودية والإطاحة بنظام حكمه الذي استمرّ مدة 23 عاما علامة فارقة وبداية مرحلة تاريخية جديدة في العالم العربي. ولم تتوقّف موجات هذه الثورة عند حدود تونس بل تعدّتها إلى العديد من البلاد العربية، ففعلت فعلها، وفجّرت في هذه الشعوب الطاقة الكامنة، تغذّيها القواسم المشتركة من الفساد والتسلّط وحكم الحزب الواحد وتمركز ثروات الأمّة في يد فئةٍ قليلة من أصحاب رؤوس الأموال الذين تراكمت ثرواتهم على حساب قوت الشّعب ومصادرة حريته باستخدام العصا الأمنيّة الغليظة.
حَكم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي البلاد أكثر من عقدين من الزمن، وخلال هذه الفترة أظهر الشعب له الولاء وأبطن له الكره والبغضاء؛ لكن تعاظم الظلم والقمع أخرج ما يبطنه الناس إلى العلن. وجاء هذا الإعلان في شكل ثورة عارمة، استوقفت العديد من الباحثين في العلوم السياسية ومسألة الديمقراطية. والحقيقة أنّ سؤال الديمقراطية العربية كان ومازال مطروحًا على جدول أعمال مفكّرين عرب، عكفوا منذ سنواتٍ على تقديم مبادرات وقراءات استشرافية للحالة العربية[1].
جسّدت الثورة التونسية ثورةً شعبية بكلّ المعايير، وهو ما استرعى اهتمام العديد من المؤرّخين والكتاب في المجالات كافّةً، وستكون الثورة موضوعًا غنيًّا للعديد من الأبحاث والمؤلّفات للبحث في جوانبها المختلفة، ولسنوات. وهنا يجتهد الباحث في استعراض ملامح هذه الثورة من زوايا مختلفة لتقديم رؤية أوّلية للأحداث بصورةٍ أكاديمية تستتبع بكتاب.
لمحة تاريخية:
استلم زين العابدين بن علي الحكم فجْر 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 بعد انقلابه "الدستوري" على الزعيم الحبيب بورقيبة. وعاشت تونس تحت حكم بن علي أسوأ أنواع الحكم الاستبدادي، خاصةً من قبل الشخصيات الأمنية التي استبدّت بالحكم وجعلت من الديمقراطية والحرية فزّاعة النظام والمحسوبين عليه. وقد نالت المعارضة الإسلامية نصيب الأسد من التعذيب والتطهير والاجتثاث. وشهدت تونس توجيه ضربات متتالية لحرية المعتقد والحريات العامّة، وخاصّةً حرية التعبير. وجرى تدريب أجهزة الأمن التونسية على أنّ أصحاب الآراء والدّاعين للديمقراطية خطر يجب اجتثاثه. وشهدت الساحة التونسية أحداثاً عديدة وعلى فترات متقاربة ومتباعدة عزّزت في مجموعها من حالة الاحتقان التي بلغت ذروتها عبر الثورة، فقد كانت أحداث الحوض المنجمي والانقلاب على الاتّفاقيات بين قيادة الاحتجاج والنظام وما ترتّب على ذلك من قمعٍ واضطهاد ومحاكمات؛ كما كان لتسريبات "ويكيليكس" بشأن فساد نظام الحكم، صداها وإن عملت جماعات الرقابة الأمنية على منْع وصولها للمواطن التونسي من خلال عمليات الحجْب والمنع والإغلاق للعديد من المواقع الالكترونية.
منهجية البحث:
مشكلة البحث: تكمن مشكلة البحث في وجود نظام حكم تسلّطي استبدادي، حكم تونس مدّة ثلاثة وعشرين عامًا، وأنتج واقعًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا صعبًا أدّى إلى تراكم حالةٍ من الاحتقان والشعور بالتهميش ممّا أدّى إلى اندلاع ثورة عارمة أطاحت بالنظام يوم 14/01/2011. ويحاول البحث استجلاء ما إذا كانت الثورة منظّمة أو أنها كانت عفوية خارجة عن أيّ شكلٍ من أشكال التنظيم؟
أهمية البحث: تنبع أهمية البحث من نجاح الثورة الشعبية التونسية ضدّ نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ووصولها إلى هدفها بإسقاط رأس النظام وهروبه للخارج وبداية مرحلة جديدة للتحوّل الديمقراطي في تونس. إلى جانب أنّ هذه الثورة تختلف عن غيرها من الثورات الشعبيّة من حيث لم تكن لها قيادة سياسية ظاهرة وواضحة، وذلك ما كان على الأقلّ في مراحلها الأولى.
أهداف البحث: يهدف هذا البحث إلى تقديم قراءة أوّلية للثورة التونسية حتى لحظة إسقاط الرئيس بن علي. وهناك عدد من الأهداف المكمّلة وهي كالتالي:
التعرّف على إرهاصات انتفاض التونسيين وإسقاطهم للنظام الحاكم.
تبيان المحفّزات الشعبية التي دفعت بالجماهير إلى الشارع وصولاً إلى قصر قرطاج وهروب بن علي.
فهم طبيعة المقوّمات التي حافظت على استمرارية الثورة ما قبل سقوط رأس النظام وبعده.
تحليل مكوّنات الحراك الشعبي التي أعادت إنتاج روح الديمقراطية.
أسئلة الدراسة:
ما هي الأسباب والعوامل التي أدّت إلى اندلاع الثورة التونسية؟
كيف استطاعت ثورة شعبية من دون قيادة سياسية واضحة الوصول إلى أهدافها وإسقاط النظام؟
الإطار النظري للبحث:
في تعريفه لمفهوم الثورة يقول "أيرك هوبزباوم" (Eric Hobsbawm): إنّ الثورة هي تحوّل كبير في بنية المجتمع. ويركّز على فكرة التحوّل (Transformation) ولكن زمكانيّة التحوّل الذي تحدّث عنه الكاتب هي أوروبا ما بين عاميْ 1789-1848[2]. ويشير إلى أربعة عناصر تسترعي الاهتمام عند الحديث عن الثورة وهي:
الخصوصية: وهنا يركّز هوبزباوم على أنّ لكل ثورة خصوصيتها من حيث الزّمان والمكان، وليس هناك تشابهٌ أو تطابق بين ثورتين.
وفى السياق العربي فإن لكلّ بلد خصوصيته من التكوين الديمغرافي والطبيعة الجغرافية وحتى الطبائع البشرية، فتونس تختلف بتركيبتها الديموغرافية وطبيعتها الجغرافية عن الشعوب المجاورة، ولها خصوصيتها التي تميّزها عن الآخرين. ولعلّ في ذلك نفياً لبعض المقارنات التي حاولت القول بأنّ الثورة التونسية جاءت شكلاً مكرّرًا للثورة في إيران عام 1979.
النصر: ويعني انتصار منظومة جديدة على منظومة قديمة، ويشير هوبزباوم هنا إلى انتصار الفكر الرأسمالي الليبرالي على الفكر الاقتصادي الإقطاعي. وفي الإطار العربي لهذا العنصر يمكن الحديث عن غلبة منظومة قيمية عربية بكافة جوانبها على منظومة قيمية قديمة. وبيت القصيد في الحالة العربية حدوث حالة قطيعة بين منظومتين تختلفان عن بعضهما البعض بصورة كاملة.
البعد الجغرافي للثورة: حيث يشير هوبزباوم إلى تأثير هذا البعد في مناطق دول الجوار وفي صيرورة التحوّل (في إشارة منه إلى تأثير أوروبا في أميركا الشمالية). وفي السياق العربي يبرز هذا البعد بصورة جليّة في انتقال الثورة من دولةٍ إلى أخرى، وذلك نظرًا إلى التقارب الجغرافي ووحدة الدّين واللغة والتاريخ المشترك وإلى تقارب الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لأغلب الدول العربية. وثورة تونس يجب أن تفهم ضمن هذا السياق، حيث امتدّت موجات الثورة إلى مناطقَ جغرافية مجاورة في اتّجاه الشرق والغرب، وهو ما عبّر عنه المفكّر العربي عزمي بشارة في إطار قراءته للثورة التونسية[3].
التراكمية: وهنا يُرجع هوبزباوم تفجّر الثورة إلى عوامل متراكمة عبر عدد من السنين أحدثت ضغطًا على القاعدة فولّدت الانفجار الذي يجسّد حالة الثورة. وفي السياق العربي يمكن القول بأن ثورة تونس هي نتاج تراكم عوامل ضغط اجتماعي واقتصادي وسياسي على القاعدة الشعبية ممّا أدّى إلى تفجّر الثورة التونسية، وهذا ينسحب كذلك على العديد من الدول العربية التي شهدت وستشهد ثورات مشابهة.
في السياق الأوروبي، يتحدّث هوبزباوم عن أزمات الأنظمة البائدة شمال العالم وغربه، ويحدّدها في فقدان الشّرعية واستفحال الاستبداد ومصادرة الحرية بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في شمال أميركا وغرب أوروبا. وتمثّل هذه الأزمات القاسم المشترك مع الثورة التونسية، حيث توالت في السنوات الأخيرة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وأزمات حقوق الإنسان والحريات والتي أسهمت بشكل رئيس في تفجّر هذه الثورة.
وأجد هنا أنه لابد من التوقّف عند المصطلحات المستخدمة في وصف الثورة التونسية ومن ذلك مصطلح "ثورة الياسمين"، وأرى أنّ هذا المصطلح استشراقي يقلّل من أهمية الثورة، التي تمثّل في نظر صانعيها ثورة حريّة وكرامة قدّموا لأجلها الكثير من الدّماء، ومكابدة نظام بوليسي استبدادي، وهذه الثورة لم تكن كما جرى تصويرها وفق نظرة استشراقية غربيّة وكأنها نزهه في حديقة ياسمين. والحراك الذي لمسه الباحث في مناطق سيدي بوزيد والقصرين يعبّر عن حقيقة ما تعنيه هذه الثورة من سعْي إلى الحرية والكرامة، وفق ما يؤكّده المحامي خالد العوينية[4]، أحد القيادات الميدانية خلال الثورة.
ويحاول روجر بيترسن (Roger Petersen)، مؤلّف كتاب "المقاومة والتمرد"[5]، عند دراسته لسلوك ثورات في أوروبا الشرقية الإجابة عن سؤال: كيف يستطيع الناس العاديّون التمرّد على أنظمة قويّة ووحشيّة عنيفة؟ ويرى في تفسيره النظري لذلك أنّ الثورة تبدأ على شكل احتجاجات وهذه الاحتجاجات تأخذ بعدًا شعبيًّا، تكسر حاجز الخوف أو ينسى الناس الخوف، ومن ثمّ تتحوّل إلى غضب شعبي عارم تطلَق عليه صفة ثورة. ويمكن إسقاط ذلك بشكل واقعي على الثورة التونسية، ففي السياق التونسي بدأت احتجاجات بسيطة في سيدي بوزيد لفترة من الوقت، ثم اتّخذت بعداً شعبيًّا، وبشكل تصاعدي انتقلت إلى مدن أخرى وبالأخصّ العاصمة تونس، وتحوّلت إلى غضب شعبي استطاع أن يسقط نظام الرئيس المخلوع بن علي.
ومن المصطلحات العديدة التي يقع تداولها عند الإشارة إلى أحداث تونس مصطلح "انتفاضة" والذي نحته الفلسطينيون في مواجهة آلة القمع والبطش الإسرائيلية بصدورهم العارية. ويرى الباحث أنّ الثورات العربية ليست بعيدةً عن النموذج الانتفاضي الفلسطيني، حيث أنها -في جانب مهم منها- تستلهم هذا النموذج للتحرّر من الاستبداد والظلم[6]. وهو ما سبق وأشار إليه الباحث في ورقة بحثيّة بعنوان "نحو حكم عربي رشيد: من ديمقراطية الخبز إلى ديمقراطية الانتخاب"، حيث حاول الربط بيْن الانتفاضة الفلسطينية وانتفاضات الخبز العربية من أجل الوصول إلى فهم ديناميكية الحراك الشعبي في الوطن العربي[7].
و تجدر الإشارة هنا إلى أنّ مصطلح الثورة سوف يتم استخدامه بحسب توصيف هوبزباوم للثورة بكونها قطيعة بين منظومة قديمة ومنظومة حديثة، وهذا ما حدث في تونس. ويمكن استخدام مصطلح الانتفاضة عند الإشارة إلى الأحداث في تونس عند بدايتها[8].
----------------------
[1]- عزمي بشارة، في المسألة العربية مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة لأولى، 2007).
[2]- Eric Hobsbawm, The Age of Revolution: 1789-1848, (London: Vintage Books, 1996), pp. 2-17.
[3]- عزمي بشارة، "زمن الثورات وسرعة الضوء وتونسة العرب"، الجزيرة نت، 24 -1-2011 http://www.aljazeera.net/NR/exeres/099FDDB5-D3A9-43E7-AC9C-46E50E56DC3E.htm
[4]- مقابلة أجراها الباحث مع المحامي خالد العوينية يوم 04/02/2011 بمدينة سيدي بوزيد، تونس.
[5]- Roger Peterse, Resistance and Rebellion: Lessons from Eastern Europe, (Cambridge: Cambridge University Press, 2001).
[6]-Larbi Sadiki, "Popular Uprisings and Arab democratization", International Journal of Middle East Studies, 32, 1, 2000, pp. 71-95.
[7]- Larbi Sadiki, "Toward Arab Liberal Governance: From the Democracy of Bread to the Democracy of the Vote", Third World Quartetly, 1997, Vol. 18, N. 1, pp.127-148.
[8]- تجدر الإشارة إلى أن الثورة التونسية حظيت باهتمام إعلامي وصحافي كبير، ولكن على مستوى البحث الأكاديمي العلمي لا يزال المجتمع البحثي يتفاعل مع الحدث، لذا فهذا البحث هو محاولة متواضعة تعتمد على المصادر الأولية من مشاهدات ومقابلات من أجل استجلاء الموقف ومحاولة تحليل الثورة في إطارها الأكاديمي العلمي.