كان ولا يزال تفرق شمل "الأشقاء" المغاربة خاصية بنيوية لعلاقاتهم البينية، وقد زادت الانتفاضة التونسية والأزمة الليبية خصوصا، من تعكير "الأجواء" السياسية الإقليمية المتلبدة أصلا. فعوضا من أن تتوحد الجهود المغاربية لاحتواء الأزمة والحيلولة دون تحول المنطقة إلى مسرح لعبث الصغار والكبار ولبؤرة توتر، تركت الدول المغاربية الثلاث (الجزائر، المغرب وموريتانيا) أطرافا عربية ودولية تتصرف، ليغيب الدور المغاربي في أول محنة من هذا النوع تعرفها المنطقة، ولتصبح الأزمة الليبية مصدر خلاف جديد بين الجزائر والمغرب.
الأزمة الليبية: تداعيات كبيرة
الدول المغاربية: محك العوامل الطارئة
مواقف بين المسايرة والإجهاض
تداعيات على التوازن البنيوي السائد
حسابات جزائرية ومغربية
مواقف متضاربة وتحميل الآخر إدارة/تسوية الأزمة
الجزائر والمغرب والحسابات الأمريكية
الأزمة الليبية: تداعيات كبيرة
إذا كانت الانتفاضة التونسية قد هزت عرش الأنظمة المغاربية بإطاحتها برأس السلطة التونسية، فإنه لم يكن لها ذلك الوقع الذي أحدثته الأزمة الليبية على العلاقات المغاربية، ومرد ذلك عدة عوامل. أولا، أن الانتفاضة التونسية كانت سلمية وبعيدة عن أي تلاعب أو تدخل أجنبي. بينما حالة ليبيا مغايرة تماما، فالانتفاضة فيها سرعان ما تمت عسكرتها بسبب لجوء النظام إلى الأسلحة الثقيلة ضد المنتفضين، الذين أصبحوا متمردين/ثوارا. فكانت النتيجة التدخل العسكري الأجنبي. ثانيا، تتميز تونس بنوع من التطور على المستويين الاقتصادي والاجتماعي ومؤسسات دولتية، بينما تنفرد ليبيا بغياب المؤسسات الدولتية، وحتى مؤسسة الجيش غير موجودة عمليا لأن القذافي حل كل مؤسسات الدولة في إطار نظامه الجماهيري. ثالثا، الماضي السياسي لتونس؛ فهي دولة تميزت باعتدالها وعدم تورطها في الصراعات أو في خلق التوتر في البلدان المجاورة أو على حدودها، طبعا صغر حجمها وتواضع إمكاناتها يفسران مثل هذا السلوك، لكن يبقى أن هذه السياسة كانت مرغوبة من قبل النخبة التسلطية الحاكمة في البلد. أما ليبيا القذافي فهي على نقيض ذلك؛ تسببت في متاعب ومخاوف أمنية لجيرانها إما بشكل مباشر، كما كان الحال مع تونس، أو بشكل غير مباشر من خلال تمويل ودعم بعض الجماعات المسلحة والإرهابية في منطقة الساحل في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
فرضت الانتفاضة التونسية على الأنظمة المغاربية تبني موقف دفاعي، واعدة بإصلاحات تهدئة للوضع الاجتماعي وتفاديا لاحتجاجات اجتماعية متواصلة ومنظمة، أما الأزمة الليبية فقد منحتها مجددا تلك "العافية" السياسية التي كادت تفقدها بفعل الانتفاضة التونسية، فقد سمحت لها بمواصلة اللعبة السياسية التقليدية من خلال حرب المواقف السياسية والتحالفات الخارجية، دعما وتحصينا للأنظمة داخليا.
الدول المغاربية: محك العوامل الطارئة
يمكن تلخيص أهم العوامل الطارئة على العلاقات المغاربية البينية نتيجة الانتفاضة التونسية والأزمة الليبية في العناصر التالية. أولا، حدوث التغيير من الأسفل ولأول مرة في تاريخ العالم العربي، حيث قادت انتفاضة شعبية إلى تغيير في هرم السلطة بينما تعوَّد المشهد السياسي العربي على التغيير من الأعلى إما بالموت الطبيعي للحكام أو بالانقلابات العسكرية. ثانيا، خروج النظام التونسي ولو جزئيا عن إجماع الأنظمة المغاربية، بموجب معاهدة مراكش (المادة 15) المؤسسة للاتحاد المغاربي، على مراعاة كل واحد منها أمن الآخر. ثالثا، بخروجه عن هذا الإجماع عمليا فإن النظام التونسي الانتقالي يراجع قاعدة أساسية في العالم العربي وهي غلبة أمن النظام الحاكم (أمن العائلة الحاكمة في الأنظمة الملكية وأمن الأقلية الإستراتيجية الحاكمة في الأنظمة الجمهورية والهجينة –خليط جمهوري- ملكي بفعل توريث السلطة). رابعا، التدخل الأجنبي في ليبيا حول المغرب العربي إلى بؤرة توتر ومسرح لعبث الكبار والصغار من الفاعلين الدوليين والإقليميين بأمن المنطقة وبمستقبلها. وربما يعد هذا العامل الطارئ هو العامل الرئيس والأخطر على العلاقات المغاربية البينية نظرا لانعكاساته على العلاقات بين الدول المغاربية، حيث أصبح موضوع خلاف جديد. ومن ثم يمكن القول أن الأنظمة المغاربية دخلت مرحلة جديدة تتميز بالصراع من أجل البقاء بالاعتماد على الخارج – السير في فلك الائتلاف المتدخل في ليبيا- لتحصين الداخل بالنسبة للمغرب، وبتوظيف التموقع المتردد أو المحايد لتحصين الداخل كما هو شأن الجزائر وموريتانيا. وبما أن الشعوب المغاربية ضد أنظمتها وضد التدخل الأجنبي في المنطقة، فإن أي معارضة لهذا الأخير هي تقرب من هذه الشعوب أو على الأقل محاولة لتهدئتها.
مواقف بين المسايرة والإجهاض
انقسمت الدول المغاربية حيال الحالة التونسية، فمنها من عمل على مسايرة الأحداث والتعبير عن "احترام إرادة الشعب التونسي" – رغم أنها لا تحترم إرادة شعوبها – ومنها من ساند النظام منذ الوهلة الأولى وحتى اللحظات الأخيرة التي سبقت فرار الرئيس بن علي، ومنها من التزم الحذر والتريث – شأنه شأن القوى الغربية – حتى يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ليتعامل في النهاية مع الأمر الواقع. ولم تدعم الدول المغاربية صراحة الانتفاضة الديمقراطية في تونس لسبب منطقي: إن هي فعلت فذلك سيكون بمثابة دعوة رسمية لشعوبها للسير على خطى الشعب التونسي.
في خضم الانتفاضة التونسية، كانت القيادات العربية تعول على احتواء النظام التونسي لهذه الانتفاضة، لثقتها الكبيرة في قدرة أنظمتها التسلطية على احتواء كل الأحداث وتجديد نفسها بعد كل محنة سياسية. ولم تكن تنتظر حدوث شروخ داخل النظام باتخاذ الجيش موقفا مساندا للمنتفضين. ولهذا، فالتوقيت الحاسم لإجهاض التحول في تونس قد يكون خلال المرحلة الانتقالية. فقد يحدث احتواء للحالة التونسية تدريجيا وبهدوء بالدعم السياسي والمالي للفريق الحاكم الجديد-القديم بطريقة تسمح لـ "الأشقاء" العرب بمراقبة تطور الأوضاع في تونس عن كثب وتوجيهها. ومشكلة الأطراف العربية مع تونس، هي أن أي بيئة تسلطية لن تسمح بميلاد ديمقراطية في وسطها لما تمثله من خطر على استقرار أنظمتها، لأنها تطرح بديلا لها. فدولة عربية ديمقراطية هي بمثابة خنجر في خاصرة الأنظمة التسلطية العربية الأخرى.
ومن الطبيعي أن يتمنى الحكام العرب فشل التجربة التونسية بتخبطها في فوضى عارمة جراء العجز عن الانتقال الهادئ إلى نظام جديد، أو باستيلاء تيار إسلامي متشدد على السلطة ديمقراطيا ثم الانقلاب عليها. وفي الحالتين تصدق مقولة الفوضى، أو منطق الموازنة التعيس الذي قال به بن علي ومبارك: إما أنا وإما الفوضى، على طريقة المقولة الأموية إما "يزيد وإما السيف" التي تفوه بها معاوية ليورث الحكم لابنه مدشنا بذلك أسوء مقاربة إسلامية للسلطة في التاريخ.
بحكم حجم تونس وموقعها فإنه لن يكون بوسعها في حال تحولها إلى ديمقراطية حقيقة، أن تصبح قبلة الديمقراطيين المغاربة والعرب –في حال بقاء الوضع على حاله في الدول الأخرى- وملاذهم الآمن ومقرا جديدا للإعلام العربي الحر، لأن ذلك سيجعلها مستهدفة من "الأشقاء" المغاربة والعرب الذين سيعتبرونها ساحة خلفية لقوى معارضة لأنظمتهم. وستعمل الدول المغاربية الأخرى على فرض احترام البند الإستراتيجي لمعاهدة مراكش المشار إليه أعلاه. وبما أن هناك وحدة عربية فحواها عدم السماح لمعارضة البلد "الشقيق" بتعكير صفو العلاقة الثنائية، فإن الديمقراطية التونسية –إن تمت فعلا– ستكون مجبرة على احترام هذه القاعدة تجنبا لاستعداء الجوار العربي، وإن هي فعلت فستكون ديمقراطية مبتورة، لأن الديمقراطيات لا تطرد معارضين أجانب وإعلام أجنبي حر إن هم احترموا قوانينها. ومن هنا فالخط الأحمر من منظور الأنظمة العربية عموما هو استقبال تونس الديمقراطية ودعمها للمعارضين العرب.
تداعيات على التوازن البنيوي السائد
يخص الوضع الجديد تحديدا العلاقة الجزائرية-المغربية، لأن تونس وليبيا، بحكم ما تعيشانه، توجدان خارج العملية الإقليمية، أما موريتانيا فليست في وضع محلي إقليمي يسمح لها بلعب دور يذكر، وبالتالي فالوضع الحالي وكأنه يعيد العلاقات المغاربية إلى دائرتها الأولى، دائرة العلاقة الجزائرية-المغربية وبورصة توتراتها. فالمغرب يعتبر أن الجزائر تخسر إقليميا برحيل نظلم القذافي، لكن هذا ليس بصحيح، لأن هذا الأخير كان دائما بمثابة الجار المزعج والمتقلب المزاج، ومصدر متاعب ومخاوف أمنية، وبالتالي فرحيله ليس خسارة. ما تتخوف منه الجزائر هو انفلات الوضع الأمني في البلد الجار وتخبطه في حرب أهلية. ويبدو واضحا أن التغييرات التي يشهدها المغرب العربي زادت من تصلب عود الاستقطاب السياسي في المنطقة بين الجزائر والمغرب. ومن هنا يمكن القول إنها لم تؤثر على التوازن البنيوي الذي كان سائدا في المنطقة، وربما الجديد هو خروج تونس وليبيا –وحتى موريتانيا– من دائرة الزبائن المحليين للفاعلين المتنافسين إقليميا، الجزائر والمغرب. والمثير للانتباه هنا أن الجزائر والمغرب ليسا في منأى عن انتفاضات ديمقراطية على الطريقة التونسية -الأمر الذي من المفروض أن يجعل النظامين في البلدين أقل تعارضا في مواقفهما الإقليمية– لكن رغم ذلك فإن الوضع الإقليمي الجديد زاد من حدة التعارض في المواقف إقليميا ودوليا وكأن النظامين يراهنان على بقائهما رغم رياح التغيير عربيا، والقاسم المشترك بينهما احترام إرادة الشعبين التونسي والليبي لكنهما لا يحترمان إرادة شعبيهما. ونفس الشيء يقال على كل الأنظمة العربية المساندة للثوار في ليبيا، فهي تنتهك إرادة شعوبها وتقول باحترام ودعم إرادة الشعب الليبي (ما هو حرام في الداخل، حلال في الخارج!). وخلاصة القول إن الوضع الجديد زاد من تأجيج التنافس والتعارض في المواقف حيال الأزمة الليبية التي أصبحت مطية لخدمة مآرب أخرى.
ومن ثم فإن الأزمة الليبية زادت من تعقيد العلاقات المغاربية البينية لاسيما بين الفاعلين الأساسيين، الجزائر والمغرب. أما مستقبلا، فالمسألة مرهونة طبعا بالمنحى الذي ستأخذه الأحداث. ففي حال نجاح التحول السياسي في تونس وليبيا فمن المرجح أن تنخفض حدة التنافس بين الجزائر والمغرب لخروج تونس وليبيا من دائرة الزبائن المحليين وسعيهما لإرضاء القوتين وتفادي الصدام معهما، ما يجعلهما يتبنيان الحياد حفاظا على التحول السياسي. أما في حال فشل أو تعثر الانتقال فيهما، فإن التوتر سيزداد لا محالة، خاصة وأن المغرب يحدد مواقفه بالتناغم مع مواقف حلفائه الغربيين والعرب (لحسابات دقيقة تخصه)، فيما تتبنى الجزائر موقفا مستقلا عن المواقف الخارجية. وهذا ما يجعل المغرب العربي مسرحا لصراع نفوذ وتعارض المواقف بين الجزائر والمغرب كما هو الحال منذ سنوات الاستقلال.
حسابات جزائرية ومغربية
بحكم الجوار وطول الحدود مع ليبيا، تعتبر الجزائر ما يحدث في ليبيا، من صراع مسلح وتدخل غربي-أطلسي، تهديدا لأمنها القومي وتتخوف من انتقال الأسلحة إلى عناصر إرهابية في منطقة الساحل. ومن هنا أصبحت هذه الأزمة مناسبة لتدعيم التعاون والتنسيق مع مالي والنيجر وموريتانيا لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة. والجزائر التي لا تشارك في الاجتماعات الدولية بشأن الأزمة الليبية تعمل على عقد اجتماع في سبتمبر/ أيلول المقبل حول تداعيات هذه الأزمة على الإرهاب وتهريب الأسلحة في الساحل والذي ستشارك فيه مجموعة دول الساحل، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، الصين، روسيا والأمم المتحدة. أما حيال الأطراف المتصارعة في ليبيا، فتقول أنها تلتزم الحياد. لكن ما سر هذا الموقف؟
أولا، الجزائر كانت دائما ضد أي تدخل أجنبي مهما كانت الذريعة.
ثانيا، دعم الثوار في ليبيا يعني منطقيا دعم مطلب التغيير السريع محليا.
ثالثا، بحكم الحدود المشتركة فإن دعم أي طرف ضد آخر يقحمها مباشرة في الصراع ويعرض حدودها وترابها لتداعيات أمنية جمة.
رابعا، يبدو أن موقفها يقوم على إدراك سياسي مفاده أن الجزائر لن تتضرر لا في حال بقاء القذافي ولا في حال رحيله، وأنه لا توجد مكاسب سياسية متوقعة تبرر دعم أحد طرفي الصراع لجني الثمار فيما بعد.
خامسا، يبدو أن الجزائر معنية أساسا بهموم الداخل – فالنظام في وضعية صعبة بسبب تنوع وتعدد الاحتجاجات- ولا مصلحة لها في إقحام نفسها في صراع على حدودها الشرقية.
أما المغرب فبحكم الجغرافي لا يعتبر الوضع في ليبيا تهديدا مباشرالأمنه القومي، وبالتالي له هامش حرية أكبر من الجزائر، كما أن الامتدادات الساحلية للأزمة الليبية لا تؤثر على أمنه. هذا ما يفسر أيضا اختياره معسكر التدخل منذ الوهلة الأولى. لكن هذا التموقع يخدم أهداف سياسية مغربية عليا لأنه في واقع الحال مطية لحصد مزيد من الدعم للمغرب في شأن الصحراء الغربية، خاصة وأن الموقف الجزائري من الأزمة الليبية مغاير لموقفه؛ فمن منظور مغربي، سيكون للاعتراف بالمجلس الانتقالي الليبي مكاسب سياسية فيما يخص الصحراء الغربية. ومرد ذلك ليس قوة أو نفوذ هذا المجلس وإنما القوى المساندة له، حيث أصبحت بوابة المجلس الانتقالي معبرا ضروريا لخطب ود القوى الفاعلة وربح دعمها، فضلا عن المكاسب الطاقوية.
فإذا كانت الجزائر، المنشغلة بأمن حدودها مع ليبيا، تتحرك إزاء الأزمة الليبية وعيونها على الإرهاب وتهريب الأسلحة في منطقة الساحل، فإن المغرب يتحرك وعيونه على الصحراء الغربية. فهذه الأخيرة تشكل "عقب أخيل" بالنسبة للمغرب الذي لا يرى سياسته الإقليمية والدولية إلا وفقها. وهذا ما يجعله يتخذ أحيانا مواقف مخالفة للجزائر من باب المناكفة، والمزايدة. فحسابات البلدين في غاية من الواقعية السياسية ولا علاقة لها بأي وازع ديمقراطي، خاصة وأن أنظمة غير ديمقراطية لا يمكنها دعم المطالب الديمقراطية خارج حدودها فيما تقمع شعوبها داخليا، وإن فعلت فذلك لا يعبر إطلاقا عن قناعة ديمقراطية بل عن حسابات سياسية واقعية دقيقة جدا كما هو شأن الدول العربية المساندة صراحة للثوار في ليبيا.
مواقف متضاربة وتحميل الآخر إدارة/تسوية الأزمة
تحميل الآخر ما آلت إليه الأمور في العالم العربي ثقافة سياسية متجذرة في المنطقة، توازيها ثقافة تحميل الآخر عبء إدارة وتسوية الأزمات، ولم تشذ المواقف حيال الأزمة الليبية عن القاعدة. فالدول الثلاث (الجزائر، المغرب وموريتانيا) العاجزة – وربما غير الراغبة– في التأثير على مجريات الأمور في ليبيا تتعامل معها وفق نفس النهج. فالجزائر وموريتانيا تتذرعان وتعتمدان على الاتحاد الإفريقي وخارطة الطريق التي يطرحها والتي يبدو أنها ضلت طريقها، أما المغرب فيتذرع ويعتمد على الجامعة العربية (في بداية الأمر) ثم الأمم المتحدة والقوى الغربية المتدخلة عسكريا في ليبيا.
يقول المغرب إنه يريد حلا سياسيا للأزمة لكنه اختار معسكر التدخل منذ البداية، ويشارك في الاجتماعات الدولية الخاصة بالأزمة الليبية (باريس، لندن والدوحة) - التي يقول القائمون عليها بالحسم العسكري- وإن كان وزير خارجيته التقى ممثلا عن القذافي وممثلين عن المجلس الانتقالي الليبي. أما موريتانيا فتقول هي الأخرى بضرورة الحل السياسي، ورئيسها عضو في الوفد الرئاسي للاتحاد الأفريقي الساعي لإيجاد تسوية سياسية على أساس خارطة الطريق التي يعرضها. أما الجزائر فتنادي أيضا بالحل السلمي، لكنها، عكس المغرب، تنتقد التدخل ولا تشارك في الاجتماعات الدولية وتساند مبادرة الاتحاد الإفريقي (وقف إطلاق النار، حماية المدنيين، حماية المهاجرين المقيمين في ليبيا، والشروع في حوار داخلي يجمع كل الأطراف اللبيبة).
تلتقي الدول المغاربية الثلاث (الجزائر، المغرب وموريتانيا) على نقاط توافق ضئيلة، وهي الدعوة لحل سلمي للأزمة، التمسك بالوحدة الترابية الليبية ورفض التدخل الأجنبي. بيد أن النقطة الأخيرة محل اتفاق جزائري-موريتاني فقط، لأن المغرب اختار المعسكر المنادي بالتدخل في ليبيا كما ساند القرار الأممي 1973، بينما قالت الجزائر بأنها "تسجل" تصويت مجلس الأمن على القرار الأممي، بمعنى أنها لا تسانده لكنها لا تعارضه –على أساس احترام الشرعية الدولية– وتدعو إلى وقف فوري لكل أعمال العنف.
وبغض النظر عن دوافع كل دولة، يبقى القاسم المشترك هو الاعتماد على الغير لحل مشاكل المنطقة. بسلوكها هذا ساهمت هذه الدول في "مَشرَقة" أو "شرق أوسطة" المغرب العربي، ذلك أن هذا الأخير ليس بؤرة توتر وتدخل أجنبي عكس المشرق العربي الذي كان دائما ساحة للتدخل الأجنبي بدعم ومباركة قوى عربية. وها هي الدول المغاربية تسير على نفس النهج. أما تونس فهي خارج مجال التغطية نظرا لوضعها الانتقالي وانكشافها المحلي والإقليمي، فجوارها الشرقي يسبب لها متاعب وهو مصدر قلق دائم إما بسبب وصول جحافل من اللاجئين الليبيين أو الأجانب المقيمين في ليبيا إلى أراضيها، وإما بسبب تهديدات عسكرية مباشرة (تسلل قوات القذافي لأراضيها ومخاطر تهريب الأسلحة).
الجزائر والمغرب والحسابات الأمريكية
اتهام المغرب الجزائر بدعم نظام القذافي بإرسال مرتزقة وأسلحة زاد من المسافة التي تفصله عن جارته. ويبدو السلوك المغربي متناقضا، فمن جهة يثير مجددا مسألة الحدود مؤكدا على رغبته في إعادة فتحها، ومن جهة ثانية يتهم الجزائر بإيفاد مرتزقة لدعم نظام القذافي. وهذا ما يجهض عمليا مطلبه بل ويقصيه على المدى المتوسط. أما الجزائر فترفض هذه الاتهامات وتقول إنها تريد تسوية سياسية للأزمة الليبية وأنها تلتزم الحياد حيالها وتعتبر أن الحل يجب أن يأتي من الليبيين أنفسهم.
ونظرا لحساسية الوضع، فإن الموقف الأمريكي ليس بالعبثي لا من حيث المضمون ولا من حيث التوقيت، حيث أعلن قائد "أفريكوم" (القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا) كارتر هام، لدى زيارته للجزائر الأسبوع الماضي، أنه " ليس هناك أي دليل واحد على تورط الجزائر وإرسالها محاربين مرتزقة إلى ليبيا". كما أقر بمخاوف الجزائر قائلا إن "الجزائر لها الحق في إبداء تخوفها من تنقل السلاح وانتشاره، هذا يشكل تهديدا حقيقيا للمنطقة، ونحن نشاطر الجزائر مخاوفها من أن يصل جزء من الأسلحة إلى تنظيم القاعدة والمجموعات الإرهابية في الساحل"، وأبدى تقديرا لـ "التنسيق العسكري بين الجزائر والنيجر ومالي وموريتانيا" داعيا "الدول الأربع إلى تشديد مراقبة الحدود وتبادل المعلومات". ويمكن تفسر هذا الموقف بعوامل ثلاثة:
أولا، أن الولايات المتحدة تعتبر أن تحرك الجزائر لمحاربة الانزلاق الإرهابي وتهريب الأسلحة من وإلى ليبيا يخدم أيضا أهداف أمريكا والتحالف الدولي المتدخل في ليبيا. بمعنى أنه ليس من مصلحة الجزائر ولا أمريكيا تحول ليبيا إلى معقل للإرهاب العابر للأوطان المدجج بأحدث أسلحة نظام القذافي. ومن هنا فالولايات المتحدة تتفهم الموقف الجزائري ولا ترى فيه ضررا على إستراتيجيتها الليبية بل سندا أمنيا ولو بشكل غير مباشر.
ثانيا، محاولة أمريكية لتدارك الموقف بعد أن أعلنت الخارجية الأمريكية، خلال الأيام الأولى من التدخل العسكري في ليبيا، دعمها خطة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء الغربية.
ثالثا، أنه بتصريحاته هذه يعبر قائد "افريكوم" عن رغبة بلاده نزع فتيل توتر سياسي بين المغرب والجزائر بسبب اتهام الأول للثانية. وتعي أمريكا جيدا أن أي توتر إضافي في البلدين ليس في صالح التحالف الدولي المتدخل في ليبيا. ثم إن موقف الجزائري القاضي بمراقبة أي حركة للأسلحة أو للعناصر الإرهابية من وإلى ليبيا عبر الحدود الجزائرية يصب أيضا في مصلحة التحالف الدولي، حتى وإن كان الموقف الجزائري تحكمه أساسا اعتبارات أمنية وطنية.
هي متفرقة أينما ولت وجهها، نحو إقليمها الطبيعي أي المغرب العربي أو نحو الخارج، هذا هو حال الدول المغاربية. ولا نقول شططا إن اعتبرنا تعميق الهوة بين الجزائر والمغرب أحد أبرز التداعيات الإستراتيجية للأزمة الليبية. وهذا ما يجعل مسألة تطبيع العلاقات الثنائية غير واردة على المدى المتوسط. فالمغرب الذي عرض مجددا على الجزائر قضية فتح الحدود أجهض نهائيا مسعاه باتهامها بإيفاد مرتزقة لدعم نظام القذافي. وبالتالي فإن هذا العامل الطارئ يدعم عوامل بنيوية تقليدية ليصبح هو الآخر، مع مرور الوقت، عاملا بنيويا، خاصة وأن الأزمة الليبية تشكل، بقوة الجغرافيا، تهديدا مباشر للأمن القومي الجزائر.
__________________
عبد النور بن عنتر
خبير في العلاقات الدولية
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات
الأزمة الليبية: تداعيات كبيرة
الدول المغاربية: محك العوامل الطارئة
مواقف بين المسايرة والإجهاض
تداعيات على التوازن البنيوي السائد
حسابات جزائرية ومغربية
مواقف متضاربة وتحميل الآخر إدارة/تسوية الأزمة
الجزائر والمغرب والحسابات الأمريكية
الأزمة الليبية: تداعيات كبيرة
إذا كانت الانتفاضة التونسية قد هزت عرش الأنظمة المغاربية بإطاحتها برأس السلطة التونسية، فإنه لم يكن لها ذلك الوقع الذي أحدثته الأزمة الليبية على العلاقات المغاربية، ومرد ذلك عدة عوامل. أولا، أن الانتفاضة التونسية كانت سلمية وبعيدة عن أي تلاعب أو تدخل أجنبي. بينما حالة ليبيا مغايرة تماما، فالانتفاضة فيها سرعان ما تمت عسكرتها بسبب لجوء النظام إلى الأسلحة الثقيلة ضد المنتفضين، الذين أصبحوا متمردين/ثوارا. فكانت النتيجة التدخل العسكري الأجنبي. ثانيا، تتميز تونس بنوع من التطور على المستويين الاقتصادي والاجتماعي ومؤسسات دولتية، بينما تنفرد ليبيا بغياب المؤسسات الدولتية، وحتى مؤسسة الجيش غير موجودة عمليا لأن القذافي حل كل مؤسسات الدولة في إطار نظامه الجماهيري. ثالثا، الماضي السياسي لتونس؛ فهي دولة تميزت باعتدالها وعدم تورطها في الصراعات أو في خلق التوتر في البلدان المجاورة أو على حدودها، طبعا صغر حجمها وتواضع إمكاناتها يفسران مثل هذا السلوك، لكن يبقى أن هذه السياسة كانت مرغوبة من قبل النخبة التسلطية الحاكمة في البلد. أما ليبيا القذافي فهي على نقيض ذلك؛ تسببت في متاعب ومخاوف أمنية لجيرانها إما بشكل مباشر، كما كان الحال مع تونس، أو بشكل غير مباشر من خلال تمويل ودعم بعض الجماعات المسلحة والإرهابية في منطقة الساحل في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
فرضت الانتفاضة التونسية على الأنظمة المغاربية تبني موقف دفاعي، واعدة بإصلاحات تهدئة للوضع الاجتماعي وتفاديا لاحتجاجات اجتماعية متواصلة ومنظمة، أما الأزمة الليبية فقد منحتها مجددا تلك "العافية" السياسية التي كادت تفقدها بفعل الانتفاضة التونسية، فقد سمحت لها بمواصلة اللعبة السياسية التقليدية من خلال حرب المواقف السياسية والتحالفات الخارجية، دعما وتحصينا للأنظمة داخليا.
الدول المغاربية: محك العوامل الطارئة
يمكن تلخيص أهم العوامل الطارئة على العلاقات المغاربية البينية نتيجة الانتفاضة التونسية والأزمة الليبية في العناصر التالية. أولا، حدوث التغيير من الأسفل ولأول مرة في تاريخ العالم العربي، حيث قادت انتفاضة شعبية إلى تغيير في هرم السلطة بينما تعوَّد المشهد السياسي العربي على التغيير من الأعلى إما بالموت الطبيعي للحكام أو بالانقلابات العسكرية. ثانيا، خروج النظام التونسي ولو جزئيا عن إجماع الأنظمة المغاربية، بموجب معاهدة مراكش (المادة 15) المؤسسة للاتحاد المغاربي، على مراعاة كل واحد منها أمن الآخر. ثالثا، بخروجه عن هذا الإجماع عمليا فإن النظام التونسي الانتقالي يراجع قاعدة أساسية في العالم العربي وهي غلبة أمن النظام الحاكم (أمن العائلة الحاكمة في الأنظمة الملكية وأمن الأقلية الإستراتيجية الحاكمة في الأنظمة الجمهورية والهجينة –خليط جمهوري- ملكي بفعل توريث السلطة). رابعا، التدخل الأجنبي في ليبيا حول المغرب العربي إلى بؤرة توتر ومسرح لعبث الكبار والصغار من الفاعلين الدوليين والإقليميين بأمن المنطقة وبمستقبلها. وربما يعد هذا العامل الطارئ هو العامل الرئيس والأخطر على العلاقات المغاربية البينية نظرا لانعكاساته على العلاقات بين الدول المغاربية، حيث أصبح موضوع خلاف جديد. ومن ثم يمكن القول أن الأنظمة المغاربية دخلت مرحلة جديدة تتميز بالصراع من أجل البقاء بالاعتماد على الخارج – السير في فلك الائتلاف المتدخل في ليبيا- لتحصين الداخل بالنسبة للمغرب، وبتوظيف التموقع المتردد أو المحايد لتحصين الداخل كما هو شأن الجزائر وموريتانيا. وبما أن الشعوب المغاربية ضد أنظمتها وضد التدخل الأجنبي في المنطقة، فإن أي معارضة لهذا الأخير هي تقرب من هذه الشعوب أو على الأقل محاولة لتهدئتها.
مواقف بين المسايرة والإجهاض
انقسمت الدول المغاربية حيال الحالة التونسية، فمنها من عمل على مسايرة الأحداث والتعبير عن "احترام إرادة الشعب التونسي" – رغم أنها لا تحترم إرادة شعوبها – ومنها من ساند النظام منذ الوهلة الأولى وحتى اللحظات الأخيرة التي سبقت فرار الرئيس بن علي، ومنها من التزم الحذر والتريث – شأنه شأن القوى الغربية – حتى يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ليتعامل في النهاية مع الأمر الواقع. ولم تدعم الدول المغاربية صراحة الانتفاضة الديمقراطية في تونس لسبب منطقي: إن هي فعلت فذلك سيكون بمثابة دعوة رسمية لشعوبها للسير على خطى الشعب التونسي.
في خضم الانتفاضة التونسية، كانت القيادات العربية تعول على احتواء النظام التونسي لهذه الانتفاضة، لثقتها الكبيرة في قدرة أنظمتها التسلطية على احتواء كل الأحداث وتجديد نفسها بعد كل محنة سياسية. ولم تكن تنتظر حدوث شروخ داخل النظام باتخاذ الجيش موقفا مساندا للمنتفضين. ولهذا، فالتوقيت الحاسم لإجهاض التحول في تونس قد يكون خلال المرحلة الانتقالية. فقد يحدث احتواء للحالة التونسية تدريجيا وبهدوء بالدعم السياسي والمالي للفريق الحاكم الجديد-القديم بطريقة تسمح لـ "الأشقاء" العرب بمراقبة تطور الأوضاع في تونس عن كثب وتوجيهها. ومشكلة الأطراف العربية مع تونس، هي أن أي بيئة تسلطية لن تسمح بميلاد ديمقراطية في وسطها لما تمثله من خطر على استقرار أنظمتها، لأنها تطرح بديلا لها. فدولة عربية ديمقراطية هي بمثابة خنجر في خاصرة الأنظمة التسلطية العربية الأخرى.
ومن الطبيعي أن يتمنى الحكام العرب فشل التجربة التونسية بتخبطها في فوضى عارمة جراء العجز عن الانتقال الهادئ إلى نظام جديد، أو باستيلاء تيار إسلامي متشدد على السلطة ديمقراطيا ثم الانقلاب عليها. وفي الحالتين تصدق مقولة الفوضى، أو منطق الموازنة التعيس الذي قال به بن علي ومبارك: إما أنا وإما الفوضى، على طريقة المقولة الأموية إما "يزيد وإما السيف" التي تفوه بها معاوية ليورث الحكم لابنه مدشنا بذلك أسوء مقاربة إسلامية للسلطة في التاريخ.
بحكم حجم تونس وموقعها فإنه لن يكون بوسعها في حال تحولها إلى ديمقراطية حقيقة، أن تصبح قبلة الديمقراطيين المغاربة والعرب –في حال بقاء الوضع على حاله في الدول الأخرى- وملاذهم الآمن ومقرا جديدا للإعلام العربي الحر، لأن ذلك سيجعلها مستهدفة من "الأشقاء" المغاربة والعرب الذين سيعتبرونها ساحة خلفية لقوى معارضة لأنظمتهم. وستعمل الدول المغاربية الأخرى على فرض احترام البند الإستراتيجي لمعاهدة مراكش المشار إليه أعلاه. وبما أن هناك وحدة عربية فحواها عدم السماح لمعارضة البلد "الشقيق" بتعكير صفو العلاقة الثنائية، فإن الديمقراطية التونسية –إن تمت فعلا– ستكون مجبرة على احترام هذه القاعدة تجنبا لاستعداء الجوار العربي، وإن هي فعلت فستكون ديمقراطية مبتورة، لأن الديمقراطيات لا تطرد معارضين أجانب وإعلام أجنبي حر إن هم احترموا قوانينها. ومن هنا فالخط الأحمر من منظور الأنظمة العربية عموما هو استقبال تونس الديمقراطية ودعمها للمعارضين العرب.
تداعيات على التوازن البنيوي السائد
يخص الوضع الجديد تحديدا العلاقة الجزائرية-المغربية، لأن تونس وليبيا، بحكم ما تعيشانه، توجدان خارج العملية الإقليمية، أما موريتانيا فليست في وضع محلي إقليمي يسمح لها بلعب دور يذكر، وبالتالي فالوضع الحالي وكأنه يعيد العلاقات المغاربية إلى دائرتها الأولى، دائرة العلاقة الجزائرية-المغربية وبورصة توتراتها. فالمغرب يعتبر أن الجزائر تخسر إقليميا برحيل نظلم القذافي، لكن هذا ليس بصحيح، لأن هذا الأخير كان دائما بمثابة الجار المزعج والمتقلب المزاج، ومصدر متاعب ومخاوف أمنية، وبالتالي فرحيله ليس خسارة. ما تتخوف منه الجزائر هو انفلات الوضع الأمني في البلد الجار وتخبطه في حرب أهلية. ويبدو واضحا أن التغييرات التي يشهدها المغرب العربي زادت من تصلب عود الاستقطاب السياسي في المنطقة بين الجزائر والمغرب. ومن هنا يمكن القول إنها لم تؤثر على التوازن البنيوي الذي كان سائدا في المنطقة، وربما الجديد هو خروج تونس وليبيا –وحتى موريتانيا– من دائرة الزبائن المحليين للفاعلين المتنافسين إقليميا، الجزائر والمغرب. والمثير للانتباه هنا أن الجزائر والمغرب ليسا في منأى عن انتفاضات ديمقراطية على الطريقة التونسية -الأمر الذي من المفروض أن يجعل النظامين في البلدين أقل تعارضا في مواقفهما الإقليمية– لكن رغم ذلك فإن الوضع الإقليمي الجديد زاد من حدة التعارض في المواقف إقليميا ودوليا وكأن النظامين يراهنان على بقائهما رغم رياح التغيير عربيا، والقاسم المشترك بينهما احترام إرادة الشعبين التونسي والليبي لكنهما لا يحترمان إرادة شعبيهما. ونفس الشيء يقال على كل الأنظمة العربية المساندة للثوار في ليبيا، فهي تنتهك إرادة شعوبها وتقول باحترام ودعم إرادة الشعب الليبي (ما هو حرام في الداخل، حلال في الخارج!). وخلاصة القول إن الوضع الجديد زاد من تأجيج التنافس والتعارض في المواقف حيال الأزمة الليبية التي أصبحت مطية لخدمة مآرب أخرى.
ومن ثم فإن الأزمة الليبية زادت من تعقيد العلاقات المغاربية البينية لاسيما بين الفاعلين الأساسيين، الجزائر والمغرب. أما مستقبلا، فالمسألة مرهونة طبعا بالمنحى الذي ستأخذه الأحداث. ففي حال نجاح التحول السياسي في تونس وليبيا فمن المرجح أن تنخفض حدة التنافس بين الجزائر والمغرب لخروج تونس وليبيا من دائرة الزبائن المحليين وسعيهما لإرضاء القوتين وتفادي الصدام معهما، ما يجعلهما يتبنيان الحياد حفاظا على التحول السياسي. أما في حال فشل أو تعثر الانتقال فيهما، فإن التوتر سيزداد لا محالة، خاصة وأن المغرب يحدد مواقفه بالتناغم مع مواقف حلفائه الغربيين والعرب (لحسابات دقيقة تخصه)، فيما تتبنى الجزائر موقفا مستقلا عن المواقف الخارجية. وهذا ما يجعل المغرب العربي مسرحا لصراع نفوذ وتعارض المواقف بين الجزائر والمغرب كما هو الحال منذ سنوات الاستقلال.
حسابات جزائرية ومغربية
بحكم الجوار وطول الحدود مع ليبيا، تعتبر الجزائر ما يحدث في ليبيا، من صراع مسلح وتدخل غربي-أطلسي، تهديدا لأمنها القومي وتتخوف من انتقال الأسلحة إلى عناصر إرهابية في منطقة الساحل. ومن هنا أصبحت هذه الأزمة مناسبة لتدعيم التعاون والتنسيق مع مالي والنيجر وموريتانيا لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة. والجزائر التي لا تشارك في الاجتماعات الدولية بشأن الأزمة الليبية تعمل على عقد اجتماع في سبتمبر/ أيلول المقبل حول تداعيات هذه الأزمة على الإرهاب وتهريب الأسلحة في الساحل والذي ستشارك فيه مجموعة دول الساحل، الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، الصين، روسيا والأمم المتحدة. أما حيال الأطراف المتصارعة في ليبيا، فتقول أنها تلتزم الحياد. لكن ما سر هذا الموقف؟
أولا، الجزائر كانت دائما ضد أي تدخل أجنبي مهما كانت الذريعة.
ثانيا، دعم الثوار في ليبيا يعني منطقيا دعم مطلب التغيير السريع محليا.
ثالثا، بحكم الحدود المشتركة فإن دعم أي طرف ضد آخر يقحمها مباشرة في الصراع ويعرض حدودها وترابها لتداعيات أمنية جمة.
رابعا، يبدو أن موقفها يقوم على إدراك سياسي مفاده أن الجزائر لن تتضرر لا في حال بقاء القذافي ولا في حال رحيله، وأنه لا توجد مكاسب سياسية متوقعة تبرر دعم أحد طرفي الصراع لجني الثمار فيما بعد.
خامسا، يبدو أن الجزائر معنية أساسا بهموم الداخل – فالنظام في وضعية صعبة بسبب تنوع وتعدد الاحتجاجات- ولا مصلحة لها في إقحام نفسها في صراع على حدودها الشرقية.
أما المغرب فبحكم الجغرافي لا يعتبر الوضع في ليبيا تهديدا مباشرالأمنه القومي، وبالتالي له هامش حرية أكبر من الجزائر، كما أن الامتدادات الساحلية للأزمة الليبية لا تؤثر على أمنه. هذا ما يفسر أيضا اختياره معسكر التدخل منذ الوهلة الأولى. لكن هذا التموقع يخدم أهداف سياسية مغربية عليا لأنه في واقع الحال مطية لحصد مزيد من الدعم للمغرب في شأن الصحراء الغربية، خاصة وأن الموقف الجزائري من الأزمة الليبية مغاير لموقفه؛ فمن منظور مغربي، سيكون للاعتراف بالمجلس الانتقالي الليبي مكاسب سياسية فيما يخص الصحراء الغربية. ومرد ذلك ليس قوة أو نفوذ هذا المجلس وإنما القوى المساندة له، حيث أصبحت بوابة المجلس الانتقالي معبرا ضروريا لخطب ود القوى الفاعلة وربح دعمها، فضلا عن المكاسب الطاقوية.
فإذا كانت الجزائر، المنشغلة بأمن حدودها مع ليبيا، تتحرك إزاء الأزمة الليبية وعيونها على الإرهاب وتهريب الأسلحة في منطقة الساحل، فإن المغرب يتحرك وعيونه على الصحراء الغربية. فهذه الأخيرة تشكل "عقب أخيل" بالنسبة للمغرب الذي لا يرى سياسته الإقليمية والدولية إلا وفقها. وهذا ما يجعله يتخذ أحيانا مواقف مخالفة للجزائر من باب المناكفة، والمزايدة. فحسابات البلدين في غاية من الواقعية السياسية ولا علاقة لها بأي وازع ديمقراطي، خاصة وأن أنظمة غير ديمقراطية لا يمكنها دعم المطالب الديمقراطية خارج حدودها فيما تقمع شعوبها داخليا، وإن فعلت فذلك لا يعبر إطلاقا عن قناعة ديمقراطية بل عن حسابات سياسية واقعية دقيقة جدا كما هو شأن الدول العربية المساندة صراحة للثوار في ليبيا.
مواقف متضاربة وتحميل الآخر إدارة/تسوية الأزمة
تحميل الآخر ما آلت إليه الأمور في العالم العربي ثقافة سياسية متجذرة في المنطقة، توازيها ثقافة تحميل الآخر عبء إدارة وتسوية الأزمات، ولم تشذ المواقف حيال الأزمة الليبية عن القاعدة. فالدول الثلاث (الجزائر، المغرب وموريتانيا) العاجزة – وربما غير الراغبة– في التأثير على مجريات الأمور في ليبيا تتعامل معها وفق نفس النهج. فالجزائر وموريتانيا تتذرعان وتعتمدان على الاتحاد الإفريقي وخارطة الطريق التي يطرحها والتي يبدو أنها ضلت طريقها، أما المغرب فيتذرع ويعتمد على الجامعة العربية (في بداية الأمر) ثم الأمم المتحدة والقوى الغربية المتدخلة عسكريا في ليبيا.
يقول المغرب إنه يريد حلا سياسيا للأزمة لكنه اختار معسكر التدخل منذ البداية، ويشارك في الاجتماعات الدولية الخاصة بالأزمة الليبية (باريس، لندن والدوحة) - التي يقول القائمون عليها بالحسم العسكري- وإن كان وزير خارجيته التقى ممثلا عن القذافي وممثلين عن المجلس الانتقالي الليبي. أما موريتانيا فتقول هي الأخرى بضرورة الحل السياسي، ورئيسها عضو في الوفد الرئاسي للاتحاد الأفريقي الساعي لإيجاد تسوية سياسية على أساس خارطة الطريق التي يعرضها. أما الجزائر فتنادي أيضا بالحل السلمي، لكنها، عكس المغرب، تنتقد التدخل ولا تشارك في الاجتماعات الدولية وتساند مبادرة الاتحاد الإفريقي (وقف إطلاق النار، حماية المدنيين، حماية المهاجرين المقيمين في ليبيا، والشروع في حوار داخلي يجمع كل الأطراف اللبيبة).
تلتقي الدول المغاربية الثلاث (الجزائر، المغرب وموريتانيا) على نقاط توافق ضئيلة، وهي الدعوة لحل سلمي للأزمة، التمسك بالوحدة الترابية الليبية ورفض التدخل الأجنبي. بيد أن النقطة الأخيرة محل اتفاق جزائري-موريتاني فقط، لأن المغرب اختار المعسكر المنادي بالتدخل في ليبيا كما ساند القرار الأممي 1973، بينما قالت الجزائر بأنها "تسجل" تصويت مجلس الأمن على القرار الأممي، بمعنى أنها لا تسانده لكنها لا تعارضه –على أساس احترام الشرعية الدولية– وتدعو إلى وقف فوري لكل أعمال العنف.
وبغض النظر عن دوافع كل دولة، يبقى القاسم المشترك هو الاعتماد على الغير لحل مشاكل المنطقة. بسلوكها هذا ساهمت هذه الدول في "مَشرَقة" أو "شرق أوسطة" المغرب العربي، ذلك أن هذا الأخير ليس بؤرة توتر وتدخل أجنبي عكس المشرق العربي الذي كان دائما ساحة للتدخل الأجنبي بدعم ومباركة قوى عربية. وها هي الدول المغاربية تسير على نفس النهج. أما تونس فهي خارج مجال التغطية نظرا لوضعها الانتقالي وانكشافها المحلي والإقليمي، فجوارها الشرقي يسبب لها متاعب وهو مصدر قلق دائم إما بسبب وصول جحافل من اللاجئين الليبيين أو الأجانب المقيمين في ليبيا إلى أراضيها، وإما بسبب تهديدات عسكرية مباشرة (تسلل قوات القذافي لأراضيها ومخاطر تهريب الأسلحة).
الجزائر والمغرب والحسابات الأمريكية
اتهام المغرب الجزائر بدعم نظام القذافي بإرسال مرتزقة وأسلحة زاد من المسافة التي تفصله عن جارته. ويبدو السلوك المغربي متناقضا، فمن جهة يثير مجددا مسألة الحدود مؤكدا على رغبته في إعادة فتحها، ومن جهة ثانية يتهم الجزائر بإيفاد مرتزقة لدعم نظام القذافي. وهذا ما يجهض عمليا مطلبه بل ويقصيه على المدى المتوسط. أما الجزائر فترفض هذه الاتهامات وتقول إنها تريد تسوية سياسية للأزمة الليبية وأنها تلتزم الحياد حيالها وتعتبر أن الحل يجب أن يأتي من الليبيين أنفسهم.
ونظرا لحساسية الوضع، فإن الموقف الأمريكي ليس بالعبثي لا من حيث المضمون ولا من حيث التوقيت، حيث أعلن قائد "أفريكوم" (القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا) كارتر هام، لدى زيارته للجزائر الأسبوع الماضي، أنه " ليس هناك أي دليل واحد على تورط الجزائر وإرسالها محاربين مرتزقة إلى ليبيا". كما أقر بمخاوف الجزائر قائلا إن "الجزائر لها الحق في إبداء تخوفها من تنقل السلاح وانتشاره، هذا يشكل تهديدا حقيقيا للمنطقة، ونحن نشاطر الجزائر مخاوفها من أن يصل جزء من الأسلحة إلى تنظيم القاعدة والمجموعات الإرهابية في الساحل"، وأبدى تقديرا لـ "التنسيق العسكري بين الجزائر والنيجر ومالي وموريتانيا" داعيا "الدول الأربع إلى تشديد مراقبة الحدود وتبادل المعلومات". ويمكن تفسر هذا الموقف بعوامل ثلاثة:
أولا، أن الولايات المتحدة تعتبر أن تحرك الجزائر لمحاربة الانزلاق الإرهابي وتهريب الأسلحة من وإلى ليبيا يخدم أيضا أهداف أمريكا والتحالف الدولي المتدخل في ليبيا. بمعنى أنه ليس من مصلحة الجزائر ولا أمريكيا تحول ليبيا إلى معقل للإرهاب العابر للأوطان المدجج بأحدث أسلحة نظام القذافي. ومن هنا فالولايات المتحدة تتفهم الموقف الجزائري ولا ترى فيه ضررا على إستراتيجيتها الليبية بل سندا أمنيا ولو بشكل غير مباشر.
ثانيا، محاولة أمريكية لتدارك الموقف بعد أن أعلنت الخارجية الأمريكية، خلال الأيام الأولى من التدخل العسكري في ليبيا، دعمها خطة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء الغربية.
ثالثا، أنه بتصريحاته هذه يعبر قائد "افريكوم" عن رغبة بلاده نزع فتيل توتر سياسي بين المغرب والجزائر بسبب اتهام الأول للثانية. وتعي أمريكا جيدا أن أي توتر إضافي في البلدين ليس في صالح التحالف الدولي المتدخل في ليبيا. ثم إن موقف الجزائري القاضي بمراقبة أي حركة للأسلحة أو للعناصر الإرهابية من وإلى ليبيا عبر الحدود الجزائرية يصب أيضا في مصلحة التحالف الدولي، حتى وإن كان الموقف الجزائري تحكمه أساسا اعتبارات أمنية وطنية.
هي متفرقة أينما ولت وجهها، نحو إقليمها الطبيعي أي المغرب العربي أو نحو الخارج، هذا هو حال الدول المغاربية. ولا نقول شططا إن اعتبرنا تعميق الهوة بين الجزائر والمغرب أحد أبرز التداعيات الإستراتيجية للأزمة الليبية. وهذا ما يجعل مسألة تطبيع العلاقات الثنائية غير واردة على المدى المتوسط. فالمغرب الذي عرض مجددا على الجزائر قضية فتح الحدود أجهض نهائيا مسعاه باتهامها بإيفاد مرتزقة لدعم نظام القذافي. وبالتالي فإن هذا العامل الطارئ يدعم عوامل بنيوية تقليدية ليصبح هو الآخر، مع مرور الوقت، عاملا بنيويا، خاصة وأن الأزمة الليبية تشكل، بقوة الجغرافيا، تهديدا مباشر للأمن القومي الجزائر.
__________________
عبد النور بن عنتر
خبير في العلاقات الدولية
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات