قراءة في نتائج الانتخابات التركية 2007
الملخص
تعد الانتخابات التي أجريت مؤخرا في تركيا هي الأخطر في تاريخ الجمهورية التركية، خاصة من ناحية تأثيرها المحتمل على مستقبل المجتمع التركي، وهذا ما يفسر نسبة الإقبال العالية على التصويت التي بلغت 85%.
استطاع حزب العدالة والتنمية إحكام سيطرته على البرلمان التركي حيث ارتفعت نسبة المصوتين له من 34% في الانتخابات السابقة إلى 47% في الانتخابات الحالية.
يدل هذا النجاح على ثقة الشعب التركي المتزايدة في حزب العدالة والتنمية ورغبته في الاستمرار في سياساته السابقة. كما أن توجه الشعب إلى إعطاء ثقته لحزب واحد يدل على ترجيحه تشكيل حكومة بحزب واحد بدل الحكومات الائتلافية التي أدخلت البلاد في الفوضى السياسية والفساد الإداري.
نسبة التصويت العالية لصالح الحزب في مختلف مناطق تركيا تشير إلى أنه أصبح الحزب التركي الأول، كما تجلي النتائج العالية التي حصدها الحزب في المناطق الكردية اعترافا واضحا بمكانة الحزب، حيث يبدو أن سياسة حزب العدالة والتنمية في حل المشكلة الكردية عن طريق الاعتراف بالهوية الثقافية والإنسانية لشعب المنطقة بدأت تلقى تجاوبا قويا من الأكراد.
يعزو المحللون سبب فوز العدالة والتنمية بهذه النسبة المرتفعة إلى رد فعل الشعب ضد تدخل الجيش في السياسة والمؤسسات البيروقراطية غير الديمقراطية، ثم العقبات التي وضعت أمام ترشيح عضو من حزب العدالة والتنمية لمنصب الرئيس.
سارع حزب العدالة والتنمية بعد فوزه مباشرة إلى توجيه رسائل تطمئن الداخل والخارج، كما أكد الحزب أنه سيحترم مبادئ العلمانية، وسيستمر على نفس المنهاج في الإصلاحات السياسية.
سيتوج حزب العدالة والتنمية نصره في هذه الانتخابات بإعادة ترشيح عبد الله غول لهذا المنصب، وسيسعى إلى إبرام تحالفات داخل البرلمان ليتمكن من إتمام النصاب القانوني لعقد جلسة اختيار رئيس الجمهورية.
يتوقع كثير من المحللين أن يؤدي فوز حزب العدالة والتنمية إلى استقرار سياسي ينعكس إيجابيا على الاقتصاد التركي، وهذا ما لوحظ منذ اللحظات الأولى لظهور النتائج، حيث ارتفعت مؤشرات البورصة التركية، وانخفضت أسعار الفائدة وسعر صرف العملات الأجنبية مقابل الليرة.
التحليل
تعد الانتخابات التركية العامة التي أجريت في 22 يوليو/ تموز من أخطر الانتخابات وأهمها أيضا في عهد الجمهورية التركية منذ تأسيسها نظرا للأحداث والملابسات التي سبقتها والنتائج التي ستترتب عليها.
وقبل البدء في تحليل نتائج الانتخابات نقدم بعض الأرقام المتعلقة بها. رغم إجراء الانتخابات في العطلة الصيفية، كانت نسبة المشاركة عالية جدا مقارنة بالانتخابات السابقة حيث وصلت إلى 85%، وهو ما يدل على ثقة الشعب التركي وتمسكه بقيم الديمقراطية .
حصل حزب العدالة والتنمية الحاكم على 47% من مجموع الأصوات وتمكن بذلك من إدخال 341 عضوا إلى البرلمان من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 550. أما حزب الشعب الجمهوري الذي كان يقوم بدور المعارضة في الدورة البرلمانية السابقة الذي تحالف مع حزب اليسار الديمقراطي، فقد حصل على 21% من الأصوات وتمكن من الحصول على 112 مقعدا من مقاعد البرلمان.
أما حزب الحركة القومية الذي لم يتمكن من دخول البرلمان في انتخابات 2002 فقد حصل على 14% من أصوات الناخبين وفاز بـ71 مقعدا في البرلمان.
أما حزب المجتمع الديمقراطي، الذي لا يخفي تعاطفه مع حزب العمال الكردستاني المطالب بتأسيس دولة كردية في جنوب شرق تركيا، فقد شارك في هذه الانتخابات بمجموعة من المرشحين المستقلين لتجاوز عقبة الحصول على 10%، وهي النسبة المُشترطة حدا أدنى لدخول الأحزاب إلى قبة البرلمان، وتمكن هكذا من إدخال 24 عضوا إلى البرلمان.
ومن المتوقع أن يشكلوا كتلة سياسية باسم الحزب بعد أداء القسم في البرلمان.
كل المعطيات التي ظهرت في الأشهر الثلاثة الماضية على الخريطة السياسية التركية قبيل إجراء الانتخابات وتمكن حزب العدالة والتنمية من حصد نصف أصوات الناخبين، وتقدمه بذلك على جميع الأحزاب في معظم الدوائر الانتخابية في عموم تركيا، تساعد على تحليل وفهم القضايا العالقة على الساحة السياسية التركية مثل العلاقة بين الدين والدولة، وموقف الشعب من تدخل العسكر في السياسة، وعلاقة الإسلام بالعلمانية.
بوصول أربعة أحزاب ذات توجهات سياسية مختلفة إلى قبة البرلمان، أصبحت جميع الأطياف السياسية ممثلة في البرلمان، وهذا يعد حدثا إيجابيا للديمقراطية التركية.
وضع حزب العدالة والتنمية بعد الانتخابات
إن زيادة نسبة الأصوات التي حصل عليها الحزب، من 34% إلى 47% بعد أربع سنوات ونصف من الحكم، يعد نجاحا باهرا بكل المقاييس، حيث إن الأحزاب الحاكمة في تركيا تفقد عادة جزءا من شعبيتها في فترة حكمها، وهذا يدل على نجاح الحزب في سياساته، وثقة الشعب فيه، ودعمه له وحثه على الاستمرار في سياساته هذه وإدامة الاستقرار في البلد.
كما أن توجه الشعب نحو منح ثقته لحزب واحد يدل على ترجيحه تشكيل حكومة بحزب واحد بدل الحكومات الائتلافية التي أدخلت البلاد في الفوضى السياسية والفساد الإداري كما حدث في فترة التسعينيات من القرن الماضي.
من ناحية ثانية فإن تفاعل الشعب التركي مع سمة التدين عند أعضاء الحزب دليل على ثقة الشعب وتعلقه بالقيم الإسلامية والأخلاقية. رغم أن حزب العدالة والتنمية لم يسع إلى استغلال هويته الإسلامية لكسب أصوات الناخبين، يلاحظ أن للتدين دورا كبيرا في مجالات الاقتصاد والسياسة داخل المجتمع، فالإسلام يعد مصدرا للقيم الرفيعة وعنصر توحيد لصفوف المجتمع، وليس عنصر تفريق.
ومن أهم النتائج التي أفرزتها الانتخابات العامة أن حزب العدالة والتنمية أصبح الحزب الأول في جميع مناطق تركيا، فإذا نظرنا إلى بنية تركيا العرقية نجد أن غالبيتها مكونة من الأتراك، فإذا كانت مناطق شرق تركيا وجنوبها تقطنها أكثرية كردية، حيث يطالب حزب العمال الكردستاني منذ فترة طويلة بتأسيس دولة كردية في تلك المناطق، فإن تفوق حزب العدالة في تلك المناطق أيضا يدل على أن غالبية الأكراد لا يرغبون في الانفصال بل يطمحون إلى الحرية والرفاهية كما قد تتحقق بشكل أفضل مع حزب العدالة والتنمية.
يبدو أن سياسة حزب العدالة والتنمية في حل المشكلة الكردية عن طريق الاعتراف بالهوية الثقافية والإنسانية لشعب المنطقة بدأت تلقى تجاوبا قويا من قبل الأكراد، من ناحية أخرى فإن عدم وجود تمثيل لحزب الحركة القومية في تلك المناطق الذي يستند إلى شعارات القومية التركية، كما أن عدم وجود حزب الشعب الجمهوري الذي يستغل العلمانية و"الأتاتوركية" أداة سياسية في تلك المناطق، إضافة إلى مناطق وسط تركيا يدل على مدى فشل هذين الحزبين في تمثيل واحتضان جميع الأطياف السياسية والعرقية في تركيا.
وبالنظر إلى سير الأحداث التي اضطرت معها تركيا إلى إجراء انتخابات مبكرة نشير إلى الأمور المهمة التالية. فكما هو معروف، لم تجر الانتخابات في موعدها المقرر في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم، وذلك بسبب إخفاق حزب العدالة والتنمية في اختيار رئيس الجمهورية في مايو/ أيار الماضي، حسب ما كان مخططا له، وما رافق ذلك من أزمة بسبب معارضة حزب الشعب الجمهوري المعارض، بحجة أن زوجة عبد الله غول محجبة وأنه صاحب أيديولوجية، وأن هويته الإسلامية تتعارض مع منصب رئاسة الجمهورية الذي يستوجب الدفاع عن مبادئ العلمانية وتمثيل جميع أطياف الشعب التركي كما يدعي حزب الشعب الجمهوري.
والسبب الآخر وراء عدم تمكن الحزب من انتخاب رئيس للجمهورية كان قرار المحكمة الدستورية حيث حكمت لصالح حزب الشعب الجمهوري الذي تقدم إلى المحكمة بطلب إلغاء دستورية جلسة انتخاب عبد الله غول لرئاسة الجمهورية بناء على وجوب تواجد 367 عضوا أثناء التصويت على انتخاب الرئيس، مع أن هذا الشرط لم يتم التنويه به أثناء انتخاب أي رئيس سابق للجمهورية من قبل.
كما أن الإنذار الذي وجهه الجيش إلى حزب العدالة والتنمية في 27 أبريل/ نيسان 2007 دفع باتجاه اتخاذ قرار إجراء انتخابات مبكرة والتوجه إلى الشعب من أجل الخروج من الأزمة المترتبة على عدم التمكن من انتخاب الرئيس.
وقد عزا بعض المحللين سبب فوز العدالة والتنمية بهذه النسبة المرتفعة إلى رد فعل الشعب على تدخل الجيش في السياسة، والمؤسسات البيروقراطية غير الديمقراطية، والعقبات التي وضعت أمام ترشيح حزب العدالة والتنمية أحد أعضائه لمنصب الرئيس.
وفي الوقت الذي عمل فيه حزب العدالة والتنمية على تقديم رسائل مطمئنة إلى جمهور الناخبين ودعوته الناخبين إلى التصويت له بناء على الإنجازات التي حققها في السنوات الأربع الماضية من فترة حكمه، خاصة في المجال الاقتصادي وعلى صعيد السياسة الخارجية وتقدم المفاوضات بشأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لجأت المعارضة إلى أسلوب التخويف من حزب العدالة والتنمية، واتهمته بالعمل على هدم الجمهورية والعودة بالبلاد إلى "الرجعية الإسلامية".
ونتيجة لذلك بقيت أصوات حزب الشعب الجمهوري منحصرة في الطبقة المتغربة والعلمانية المتطرفة ولم يستطع الانتشار داخل الأوساط الشعبية التي تمثل عامة المجتمع التركي.
كما أن حزب المجتمع الديمقراطي الذي تمكن من إدخال 23 عضواً إلى البرلمان اعتمد على السياسة العرقية الكردية. إلا أن الجانب الإيجابي في دخول مجموعة من الأعضاء الأكراد إلى البرلمان يعطي فرصة مناقشة المشكلة الكردية بأسلوب سياسي تحت قبة البرلمان في حال ما إذا اختار النواب الأكراد السياسة وسيلة لحل مشاكلهم بعيدا عن تأييد حزب العمال الكردستاني الذي تصفه الحكومة التركية بالإرهابي وترفض الحوار معه.
كما أن وجود حزب الحركة القومية في البرلمان قد يؤدي إلى وقوع بعض المشادات بينه وبين البرلمانيين الأكراد، وإدخال البرلمان في مسائل جانبية قد تعيق البرلمان في التركيز على المسائل المركزية التي تنتظر إيجاد حلول لها داخل قبة البرلمان.
كما أن دخول الكثير من الأكراد إلى البرلمان ضمن حزب العدالة والتنمية سيسهل إيجاد حل سياسي للمشكلة الكردية في إطار الدولة الموحدة.
حزب العدالة والتنمية: التمثيلية والانتشار
أظهرت نتائج الانتخابات أن حزب العدالة والتنمية لم يحصل على أصوات فئة معينة من الشعب التركي بل حصل على أصوات الناخبين من جميع فئات الشعب من اليمين واليسار، وسكان المدن والأرياف، وأثناء اختيار قائمة المرشحين للانتخابات ركز الحزب على ضم أعضاء يمثلون جميع الأطياف السياسية إلى قائمته الانتخابية مثل ترشيح أرطغرل كوناي سكرتير حزب الشعب الجمهوري سابقا، وأعضاء آخرين مقربين من الحركة القومية، وبالتالي أفرزت الانتخابات البرلمانية حزب العدالة والتنمية حزبا مركزيا يمثل معظم أطياف الشعب التركي.
وفي الوقت الذي سيطرت فيه أنقرة وإسطنبول على مركزية الأحزاب في تركيا مدة ما يقارب قرنا من الزمان، ظهرت في تركيا مراكز قوى جديدة مثل ديار بكر وقيسري وملاطية، وبذلك فقدت المقولة التي تقول "إن من يسيطر على أنقرة يسيطر على تركيا" مصداقيتها، وجاء دور حزب العدالة والتنمية لتجسيد التعددية في مراكز القوى في جميع أنحاء تركيا، ويتربع على كرسي الجلوس في مركز الوسط مكتسبا بذلك صفة الحزب المركزي.
كما أن عدم تنكر حزب العدالة والتنمية لميراث الدولة العثمانية، أعاد إلى تركيا إمكانية القيام بدور إستراتيجي وحيوي في المنطقة، وقد لقي هذا الدور دعما معنويا من الشعب التركي، عبر عنه من خلال صناديق الاقتراع، ولقد لقيت محاولة حزب العدالة والتنمية جعل تركيا مركزا في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى دعما كبيرا من جميع أطياف الشعب التركي.
رسائل سلام وطمأنة
اتبع حزب العدالة والتنمية سياسة عدم إثارة المعارضين وحاول عدم الدخول في المسائل الحساسة، وحل المشاكل تدريجيا، كمشكلة الحجاب، التي طالب حزب العدالة والتنمية حلها بتوافق جميع الأطياف السياسية ومؤسسات المجتمع المدني.
وقد ركز رجب طيب أردوغان على هذه السياسة في أول خطاب له بعد ظهور نتائج الانتخابات، وأشار إلى أن الحزب سيحترم مبادئ العلمانية، وسيستمر على نفس النهج في الإصلاحات السياسية، كما وجه رسالة تطمين إلى جميع أطياف الشعب التركي على أساس أن الحزب سيعمل مع جميع الأحزاب في البرلمان لما فيه مصلحة تركيا.
إشكالية انتخاب رئيس الجمهورية
إن موقف المعارضة والجيش والمحكمة الدستورية العليا، الذي حال دون وصول وزير الخارجية عبد الله غول إلى القصر الجمهوري, وشعور المواطن التركي بأن ظلما كبيرا وقع على غول، كان له بالغ الأثر في النجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة. ولا شك أن الهتافات التي كانت ترددها الجماهير أثناء الحملة الانتخابية مُطالبة بعبد الله غول رئيسا للجمهورية دليل كبير على حجم هذا التعاطف الشعبي.
وعليه ينتظر من حزب العدالة والتنمية أن يتوج نصره في هذه الانتخابات بإعادة ترشيح عبد الله غول لهذا المنصب, لكن الحزب يطالب بإبرام تحالفات داخل البرلمان ليتمكن من إتمام النصاب القانوني لعقد جلسة اختيار رئيس الجمهورية، التي حددتها المحكمة الدستورية العليا بـ367 نائبا ( ثلثا البرلمان), خاصة أن عدد مقاعد الحزب داخل البرلمان الحالي سيكون 340 مقعدا فقط.
عقد عبد الله غول مؤتمرا صحفيا بعد ثلاثة أيام من الانتخابات، بدأه بالحديث عن الأسباب التي قادت إلى الانتخابات البرلمانية المبكرة، بعد تعثر أو استحالة انتخاب رئيسا للجمهورية عن طريق البرلمان، واعتبر أن النسبة العالية التي حصل عليها الحزب خلال الانتخابات الأخيرة جاءت نتيجة الإنجازات الكبيرة للحزب خلال السنوات الـ4.5 التي حكم فيها، كما اعتبرها بمنزلة تجديد للثقة منحها إياه الشعب ردا على تدخلات المعارضة والعسكر ودور المحكمة الدستورية العليا.
كما أكد أن الحزب ليس في عجلة من أمره، وأن الخطوة القادمة تتمثل في افتتاح البرلمان، وتعيين الحكومة، ثم يأتي دور اختيار رئيس الجمهورية.
في حال ترشيح حزب العدالة والتنمية لعبدالله غول مرة ثانية لمنصب رئيس الجمهورية، سيتحتم عليه إبرام تحالفات داخل البرلمان. بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري، لا يتوقع أن يتراجع عن مواقفه الرافضة لدخول محجبة إلى القصر الجمهوري بدعوى الدفاع عن علمانية الدولة، وذلك رغم الهزيمة النكراء التي مني بها في الانتخابات الأخيرة.
فالحزب مازال يدرك أنه مدعوم من مؤسسات فاعلة في الدولة، لذلك سيتحتم على العدالة والتنمية التحالف إما مع حزب الحركة القومية أو مع النواب المستقلين، الذين يشكل الأكراد معظمهم وينتمون إلى حزب المجتمع الديمقراطي المتهم بدعم حزب العمال الكردستاني.
لا شك أن انتخاب رئيس الجمهورية القادم من خلال البرلمان سيكون امتحانا ديمقراطيا كبيرا لحزب الحركة القومية، خاصةً أن الحزبين اليمينيين اللذين رفضا المشاركة في جلسة اختيار رئيس الجمهورية في البرلمان السابق (حزب الطريق القويم وحزب الوطن الأم) لم يعودا ممثلين الحياة السياسية التركية بعد هذه الانتخابات، لذلك فإن حزب الحركة القومية سيأخذ بعين الاعتبار أن الشعب سيعاقب أي حزب يرفض الخيار الديمقراطي داخل البرلمان، هذا من جهة، من جهة أخرى فإن حزب الحركة القومية معروف بأنه دائما ينأى بنفسه عن أي مواجهة مع النظام ومع مؤسسات الدولة، ولذلك سيتردد كثيرا في دعم انتخابات أعاقتها بصورة أو بأخرى المحكمة الدستورية العليا، إحدى أهم مؤسسات الدولة.
أما عن حزب العدالة والتنمية، فإنه في حال حصوله على دعم النواب المستقلين الأكراد التابعين لحزب المجتمع الديمقراطي، فسيفسر ذلك على أنه تحالف بين العدالة والتنمية وبين حزب العمال الكردستاني، ولذلك لن يكون هذا هو الخيار الأول لحزب العدالة والتنمية.
وفي حال عدم حصول حزب العدالة والتنمية على دعم أي من الأحزاب داخل البرلمان، سيلجأ إلى الاستفتاء العام، ووفقا لاستطلاعات الرأي من المتوقع أن يحصل عبد الله غول على أكثر من 50% في حال ترشحه نفسه لمنصب رئيس الجمهورية. إلا أن الوصول إلى هذه المرحلة سيحسب نقطة سلبية كبيرة تضاف إلى رصيد حزب الشعب الجمهوري الخاسر في الانتخابات، وإلى رصيد حزب الحركة القومية الذي وصل حديثا إلى البرلمان، لذلك من المرجح أن يتم الاتفاق داخل البرلمان على مسألة رئاسة الجمهورية.
انعكاس نتائج الانتخابات على الاقتصاد التركي
من الواضح أن فوز حزب العدالة والتنمية لخمس سنوات جديدة، التي يتوقع أن تكون مرحلة استقرار سياسي في ظل حكومة مشكلة من حزب واحد، سينعكس إيجابيا على الاقتصاد التركي، وهذا ما لوحظ منذ اللحظات الأولى بعد ظهور النتائج، حيث ارتفعت مؤشرات البورصة التركية، وانخفضت أسعار الفائدة وسعر صرف العملات الأجنبية مقابل الليرة.
وأخيرا أكدت هذه الانتخابات أن حزب العدالة والتنمية سيبقى أحد أهم اللاعبين الرئيسين على الساحة السياسية التركية، إلا أن دخول لاعبين سياسيين جدد، يعتمدون بالأساس على إحياء الهوية القومية، كحزب الحركة القومية وحزب المجتمع الديمقراطي، قد يتسبب في زيادة حالة الاستقطاب داخل الشارع التركي وما يترتب عليه من مخاطر في المرحلة القادمة.
أما عن حزب الشعب الجمهوري، فيعتقد أن هذا الحزب المحسوب على اليسار رغم انه لم يعد يربطه شيء به، سيعمل على إعادة ترتيب أوراقه في المرحلة القادمة وسيقوم باختيار رئيس جديد للحزب.
إن هذه الانتخابات أظهرت بوضوح أن الشعب التركي له جذور إسلامية عميقة، فرغم محاولات التغريب والعصرنة التي تعتمد على العلمانية و"الأتاتوركية" التي فرضت عليه منذ مطلع القرن الماضي، اختار الشعب في هذه الانتخابات العصرنة التي لا تتصادم مع مقوماته ومقدساته.
إعداد/ د. برهان كوروغلو
باحث في مركز الجزيرة للدراسات
الملخص
تعد الانتخابات التي أجريت مؤخرا في تركيا هي الأخطر في تاريخ الجمهورية التركية، خاصة من ناحية تأثيرها المحتمل على مستقبل المجتمع التركي، وهذا ما يفسر نسبة الإقبال العالية على التصويت التي بلغت 85%.
استطاع حزب العدالة والتنمية إحكام سيطرته على البرلمان التركي حيث ارتفعت نسبة المصوتين له من 34% في الانتخابات السابقة إلى 47% في الانتخابات الحالية.
يدل هذا النجاح على ثقة الشعب التركي المتزايدة في حزب العدالة والتنمية ورغبته في الاستمرار في سياساته السابقة. كما أن توجه الشعب إلى إعطاء ثقته لحزب واحد يدل على ترجيحه تشكيل حكومة بحزب واحد بدل الحكومات الائتلافية التي أدخلت البلاد في الفوضى السياسية والفساد الإداري.
نسبة التصويت العالية لصالح الحزب في مختلف مناطق تركيا تشير إلى أنه أصبح الحزب التركي الأول، كما تجلي النتائج العالية التي حصدها الحزب في المناطق الكردية اعترافا واضحا بمكانة الحزب، حيث يبدو أن سياسة حزب العدالة والتنمية في حل المشكلة الكردية عن طريق الاعتراف بالهوية الثقافية والإنسانية لشعب المنطقة بدأت تلقى تجاوبا قويا من الأكراد.
يعزو المحللون سبب فوز العدالة والتنمية بهذه النسبة المرتفعة إلى رد فعل الشعب ضد تدخل الجيش في السياسة والمؤسسات البيروقراطية غير الديمقراطية، ثم العقبات التي وضعت أمام ترشيح عضو من حزب العدالة والتنمية لمنصب الرئيس.
سارع حزب العدالة والتنمية بعد فوزه مباشرة إلى توجيه رسائل تطمئن الداخل والخارج، كما أكد الحزب أنه سيحترم مبادئ العلمانية، وسيستمر على نفس المنهاج في الإصلاحات السياسية.
سيتوج حزب العدالة والتنمية نصره في هذه الانتخابات بإعادة ترشيح عبد الله غول لهذا المنصب، وسيسعى إلى إبرام تحالفات داخل البرلمان ليتمكن من إتمام النصاب القانوني لعقد جلسة اختيار رئيس الجمهورية.
يتوقع كثير من المحللين أن يؤدي فوز حزب العدالة والتنمية إلى استقرار سياسي ينعكس إيجابيا على الاقتصاد التركي، وهذا ما لوحظ منذ اللحظات الأولى لظهور النتائج، حيث ارتفعت مؤشرات البورصة التركية، وانخفضت أسعار الفائدة وسعر صرف العملات الأجنبية مقابل الليرة.
التحليل
تعد الانتخابات التركية العامة التي أجريت في 22 يوليو/ تموز من أخطر الانتخابات وأهمها أيضا في عهد الجمهورية التركية منذ تأسيسها نظرا للأحداث والملابسات التي سبقتها والنتائج التي ستترتب عليها.
وقبل البدء في تحليل نتائج الانتخابات نقدم بعض الأرقام المتعلقة بها. رغم إجراء الانتخابات في العطلة الصيفية، كانت نسبة المشاركة عالية جدا مقارنة بالانتخابات السابقة حيث وصلت إلى 85%، وهو ما يدل على ثقة الشعب التركي وتمسكه بقيم الديمقراطية .
حصل حزب العدالة والتنمية الحاكم على 47% من مجموع الأصوات وتمكن بذلك من إدخال 341 عضوا إلى البرلمان من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 550. أما حزب الشعب الجمهوري الذي كان يقوم بدور المعارضة في الدورة البرلمانية السابقة الذي تحالف مع حزب اليسار الديمقراطي، فقد حصل على 21% من الأصوات وتمكن من الحصول على 112 مقعدا من مقاعد البرلمان.
أما حزب الحركة القومية الذي لم يتمكن من دخول البرلمان في انتخابات 2002 فقد حصل على 14% من أصوات الناخبين وفاز بـ71 مقعدا في البرلمان.
أما حزب المجتمع الديمقراطي، الذي لا يخفي تعاطفه مع حزب العمال الكردستاني المطالب بتأسيس دولة كردية في جنوب شرق تركيا، فقد شارك في هذه الانتخابات بمجموعة من المرشحين المستقلين لتجاوز عقبة الحصول على 10%، وهي النسبة المُشترطة حدا أدنى لدخول الأحزاب إلى قبة البرلمان، وتمكن هكذا من إدخال 24 عضوا إلى البرلمان.
ومن المتوقع أن يشكلوا كتلة سياسية باسم الحزب بعد أداء القسم في البرلمان.
كل المعطيات التي ظهرت في الأشهر الثلاثة الماضية على الخريطة السياسية التركية قبيل إجراء الانتخابات وتمكن حزب العدالة والتنمية من حصد نصف أصوات الناخبين، وتقدمه بذلك على جميع الأحزاب في معظم الدوائر الانتخابية في عموم تركيا، تساعد على تحليل وفهم القضايا العالقة على الساحة السياسية التركية مثل العلاقة بين الدين والدولة، وموقف الشعب من تدخل العسكر في السياسة، وعلاقة الإسلام بالعلمانية.
بوصول أربعة أحزاب ذات توجهات سياسية مختلفة إلى قبة البرلمان، أصبحت جميع الأطياف السياسية ممثلة في البرلمان، وهذا يعد حدثا إيجابيا للديمقراطية التركية.
وضع حزب العدالة والتنمية بعد الانتخابات
إن زيادة نسبة الأصوات التي حصل عليها الحزب، من 34% إلى 47% بعد أربع سنوات ونصف من الحكم، يعد نجاحا باهرا بكل المقاييس، حيث إن الأحزاب الحاكمة في تركيا تفقد عادة جزءا من شعبيتها في فترة حكمها، وهذا يدل على نجاح الحزب في سياساته، وثقة الشعب فيه، ودعمه له وحثه على الاستمرار في سياساته هذه وإدامة الاستقرار في البلد.
كما أن توجه الشعب نحو منح ثقته لحزب واحد يدل على ترجيحه تشكيل حكومة بحزب واحد بدل الحكومات الائتلافية التي أدخلت البلاد في الفوضى السياسية والفساد الإداري كما حدث في فترة التسعينيات من القرن الماضي.
من ناحية ثانية فإن تفاعل الشعب التركي مع سمة التدين عند أعضاء الحزب دليل على ثقة الشعب وتعلقه بالقيم الإسلامية والأخلاقية. رغم أن حزب العدالة والتنمية لم يسع إلى استغلال هويته الإسلامية لكسب أصوات الناخبين، يلاحظ أن للتدين دورا كبيرا في مجالات الاقتصاد والسياسة داخل المجتمع، فالإسلام يعد مصدرا للقيم الرفيعة وعنصر توحيد لصفوف المجتمع، وليس عنصر تفريق.
ومن أهم النتائج التي أفرزتها الانتخابات العامة أن حزب العدالة والتنمية أصبح الحزب الأول في جميع مناطق تركيا، فإذا نظرنا إلى بنية تركيا العرقية نجد أن غالبيتها مكونة من الأتراك، فإذا كانت مناطق شرق تركيا وجنوبها تقطنها أكثرية كردية، حيث يطالب حزب العمال الكردستاني منذ فترة طويلة بتأسيس دولة كردية في تلك المناطق، فإن تفوق حزب العدالة في تلك المناطق أيضا يدل على أن غالبية الأكراد لا يرغبون في الانفصال بل يطمحون إلى الحرية والرفاهية كما قد تتحقق بشكل أفضل مع حزب العدالة والتنمية.
يبدو أن سياسة حزب العدالة والتنمية في حل المشكلة الكردية عن طريق الاعتراف بالهوية الثقافية والإنسانية لشعب المنطقة بدأت تلقى تجاوبا قويا من قبل الأكراد، من ناحية أخرى فإن عدم وجود تمثيل لحزب الحركة القومية في تلك المناطق الذي يستند إلى شعارات القومية التركية، كما أن عدم وجود حزب الشعب الجمهوري الذي يستغل العلمانية و"الأتاتوركية" أداة سياسية في تلك المناطق، إضافة إلى مناطق وسط تركيا يدل على مدى فشل هذين الحزبين في تمثيل واحتضان جميع الأطياف السياسية والعرقية في تركيا.
وبالنظر إلى سير الأحداث التي اضطرت معها تركيا إلى إجراء انتخابات مبكرة نشير إلى الأمور المهمة التالية. فكما هو معروف، لم تجر الانتخابات في موعدها المقرر في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم، وذلك بسبب إخفاق حزب العدالة والتنمية في اختيار رئيس الجمهورية في مايو/ أيار الماضي، حسب ما كان مخططا له، وما رافق ذلك من أزمة بسبب معارضة حزب الشعب الجمهوري المعارض، بحجة أن زوجة عبد الله غول محجبة وأنه صاحب أيديولوجية، وأن هويته الإسلامية تتعارض مع منصب رئاسة الجمهورية الذي يستوجب الدفاع عن مبادئ العلمانية وتمثيل جميع أطياف الشعب التركي كما يدعي حزب الشعب الجمهوري.
والسبب الآخر وراء عدم تمكن الحزب من انتخاب رئيس للجمهورية كان قرار المحكمة الدستورية حيث حكمت لصالح حزب الشعب الجمهوري الذي تقدم إلى المحكمة بطلب إلغاء دستورية جلسة انتخاب عبد الله غول لرئاسة الجمهورية بناء على وجوب تواجد 367 عضوا أثناء التصويت على انتخاب الرئيس، مع أن هذا الشرط لم يتم التنويه به أثناء انتخاب أي رئيس سابق للجمهورية من قبل.
كما أن الإنذار الذي وجهه الجيش إلى حزب العدالة والتنمية في 27 أبريل/ نيسان 2007 دفع باتجاه اتخاذ قرار إجراء انتخابات مبكرة والتوجه إلى الشعب من أجل الخروج من الأزمة المترتبة على عدم التمكن من انتخاب الرئيس.
وقد عزا بعض المحللين سبب فوز العدالة والتنمية بهذه النسبة المرتفعة إلى رد فعل الشعب على تدخل الجيش في السياسة، والمؤسسات البيروقراطية غير الديمقراطية، والعقبات التي وضعت أمام ترشيح حزب العدالة والتنمية أحد أعضائه لمنصب الرئيس.
وفي الوقت الذي عمل فيه حزب العدالة والتنمية على تقديم رسائل مطمئنة إلى جمهور الناخبين ودعوته الناخبين إلى التصويت له بناء على الإنجازات التي حققها في السنوات الأربع الماضية من فترة حكمه، خاصة في المجال الاقتصادي وعلى صعيد السياسة الخارجية وتقدم المفاوضات بشأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لجأت المعارضة إلى أسلوب التخويف من حزب العدالة والتنمية، واتهمته بالعمل على هدم الجمهورية والعودة بالبلاد إلى "الرجعية الإسلامية".
ونتيجة لذلك بقيت أصوات حزب الشعب الجمهوري منحصرة في الطبقة المتغربة والعلمانية المتطرفة ولم يستطع الانتشار داخل الأوساط الشعبية التي تمثل عامة المجتمع التركي.
كما أن حزب المجتمع الديمقراطي الذي تمكن من إدخال 23 عضواً إلى البرلمان اعتمد على السياسة العرقية الكردية. إلا أن الجانب الإيجابي في دخول مجموعة من الأعضاء الأكراد إلى البرلمان يعطي فرصة مناقشة المشكلة الكردية بأسلوب سياسي تحت قبة البرلمان في حال ما إذا اختار النواب الأكراد السياسة وسيلة لحل مشاكلهم بعيدا عن تأييد حزب العمال الكردستاني الذي تصفه الحكومة التركية بالإرهابي وترفض الحوار معه.
كما أن وجود حزب الحركة القومية في البرلمان قد يؤدي إلى وقوع بعض المشادات بينه وبين البرلمانيين الأكراد، وإدخال البرلمان في مسائل جانبية قد تعيق البرلمان في التركيز على المسائل المركزية التي تنتظر إيجاد حلول لها داخل قبة البرلمان.
كما أن دخول الكثير من الأكراد إلى البرلمان ضمن حزب العدالة والتنمية سيسهل إيجاد حل سياسي للمشكلة الكردية في إطار الدولة الموحدة.
حزب العدالة والتنمية: التمثيلية والانتشار
أظهرت نتائج الانتخابات أن حزب العدالة والتنمية لم يحصل على أصوات فئة معينة من الشعب التركي بل حصل على أصوات الناخبين من جميع فئات الشعب من اليمين واليسار، وسكان المدن والأرياف، وأثناء اختيار قائمة المرشحين للانتخابات ركز الحزب على ضم أعضاء يمثلون جميع الأطياف السياسية إلى قائمته الانتخابية مثل ترشيح أرطغرل كوناي سكرتير حزب الشعب الجمهوري سابقا، وأعضاء آخرين مقربين من الحركة القومية، وبالتالي أفرزت الانتخابات البرلمانية حزب العدالة والتنمية حزبا مركزيا يمثل معظم أطياف الشعب التركي.
وفي الوقت الذي سيطرت فيه أنقرة وإسطنبول على مركزية الأحزاب في تركيا مدة ما يقارب قرنا من الزمان، ظهرت في تركيا مراكز قوى جديدة مثل ديار بكر وقيسري وملاطية، وبذلك فقدت المقولة التي تقول "إن من يسيطر على أنقرة يسيطر على تركيا" مصداقيتها، وجاء دور حزب العدالة والتنمية لتجسيد التعددية في مراكز القوى في جميع أنحاء تركيا، ويتربع على كرسي الجلوس في مركز الوسط مكتسبا بذلك صفة الحزب المركزي.
كما أن عدم تنكر حزب العدالة والتنمية لميراث الدولة العثمانية، أعاد إلى تركيا إمكانية القيام بدور إستراتيجي وحيوي في المنطقة، وقد لقي هذا الدور دعما معنويا من الشعب التركي، عبر عنه من خلال صناديق الاقتراع، ولقد لقيت محاولة حزب العدالة والتنمية جعل تركيا مركزا في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى دعما كبيرا من جميع أطياف الشعب التركي.
رسائل سلام وطمأنة
اتبع حزب العدالة والتنمية سياسة عدم إثارة المعارضين وحاول عدم الدخول في المسائل الحساسة، وحل المشاكل تدريجيا، كمشكلة الحجاب، التي طالب حزب العدالة والتنمية حلها بتوافق جميع الأطياف السياسية ومؤسسات المجتمع المدني.
وقد ركز رجب طيب أردوغان على هذه السياسة في أول خطاب له بعد ظهور نتائج الانتخابات، وأشار إلى أن الحزب سيحترم مبادئ العلمانية، وسيستمر على نفس النهج في الإصلاحات السياسية، كما وجه رسالة تطمين إلى جميع أطياف الشعب التركي على أساس أن الحزب سيعمل مع جميع الأحزاب في البرلمان لما فيه مصلحة تركيا.
إشكالية انتخاب رئيس الجمهورية
إن موقف المعارضة والجيش والمحكمة الدستورية العليا، الذي حال دون وصول وزير الخارجية عبد الله غول إلى القصر الجمهوري, وشعور المواطن التركي بأن ظلما كبيرا وقع على غول، كان له بالغ الأثر في النجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة. ولا شك أن الهتافات التي كانت ترددها الجماهير أثناء الحملة الانتخابية مُطالبة بعبد الله غول رئيسا للجمهورية دليل كبير على حجم هذا التعاطف الشعبي.
وعليه ينتظر من حزب العدالة والتنمية أن يتوج نصره في هذه الانتخابات بإعادة ترشيح عبد الله غول لهذا المنصب, لكن الحزب يطالب بإبرام تحالفات داخل البرلمان ليتمكن من إتمام النصاب القانوني لعقد جلسة اختيار رئيس الجمهورية، التي حددتها المحكمة الدستورية العليا بـ367 نائبا ( ثلثا البرلمان), خاصة أن عدد مقاعد الحزب داخل البرلمان الحالي سيكون 340 مقعدا فقط.
عقد عبد الله غول مؤتمرا صحفيا بعد ثلاثة أيام من الانتخابات، بدأه بالحديث عن الأسباب التي قادت إلى الانتخابات البرلمانية المبكرة، بعد تعثر أو استحالة انتخاب رئيسا للجمهورية عن طريق البرلمان، واعتبر أن النسبة العالية التي حصل عليها الحزب خلال الانتخابات الأخيرة جاءت نتيجة الإنجازات الكبيرة للحزب خلال السنوات الـ4.5 التي حكم فيها، كما اعتبرها بمنزلة تجديد للثقة منحها إياه الشعب ردا على تدخلات المعارضة والعسكر ودور المحكمة الدستورية العليا.
كما أكد أن الحزب ليس في عجلة من أمره، وأن الخطوة القادمة تتمثل في افتتاح البرلمان، وتعيين الحكومة، ثم يأتي دور اختيار رئيس الجمهورية.
في حال ترشيح حزب العدالة والتنمية لعبدالله غول مرة ثانية لمنصب رئيس الجمهورية، سيتحتم عليه إبرام تحالفات داخل البرلمان. بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري، لا يتوقع أن يتراجع عن مواقفه الرافضة لدخول محجبة إلى القصر الجمهوري بدعوى الدفاع عن علمانية الدولة، وذلك رغم الهزيمة النكراء التي مني بها في الانتخابات الأخيرة.
فالحزب مازال يدرك أنه مدعوم من مؤسسات فاعلة في الدولة، لذلك سيتحتم على العدالة والتنمية التحالف إما مع حزب الحركة القومية أو مع النواب المستقلين، الذين يشكل الأكراد معظمهم وينتمون إلى حزب المجتمع الديمقراطي المتهم بدعم حزب العمال الكردستاني.
لا شك أن انتخاب رئيس الجمهورية القادم من خلال البرلمان سيكون امتحانا ديمقراطيا كبيرا لحزب الحركة القومية، خاصةً أن الحزبين اليمينيين اللذين رفضا المشاركة في جلسة اختيار رئيس الجمهورية في البرلمان السابق (حزب الطريق القويم وحزب الوطن الأم) لم يعودا ممثلين الحياة السياسية التركية بعد هذه الانتخابات، لذلك فإن حزب الحركة القومية سيأخذ بعين الاعتبار أن الشعب سيعاقب أي حزب يرفض الخيار الديمقراطي داخل البرلمان، هذا من جهة، من جهة أخرى فإن حزب الحركة القومية معروف بأنه دائما ينأى بنفسه عن أي مواجهة مع النظام ومع مؤسسات الدولة، ولذلك سيتردد كثيرا في دعم انتخابات أعاقتها بصورة أو بأخرى المحكمة الدستورية العليا، إحدى أهم مؤسسات الدولة.
أما عن حزب العدالة والتنمية، فإنه في حال حصوله على دعم النواب المستقلين الأكراد التابعين لحزب المجتمع الديمقراطي، فسيفسر ذلك على أنه تحالف بين العدالة والتنمية وبين حزب العمال الكردستاني، ولذلك لن يكون هذا هو الخيار الأول لحزب العدالة والتنمية.
وفي حال عدم حصول حزب العدالة والتنمية على دعم أي من الأحزاب داخل البرلمان، سيلجأ إلى الاستفتاء العام، ووفقا لاستطلاعات الرأي من المتوقع أن يحصل عبد الله غول على أكثر من 50% في حال ترشحه نفسه لمنصب رئيس الجمهورية. إلا أن الوصول إلى هذه المرحلة سيحسب نقطة سلبية كبيرة تضاف إلى رصيد حزب الشعب الجمهوري الخاسر في الانتخابات، وإلى رصيد حزب الحركة القومية الذي وصل حديثا إلى البرلمان، لذلك من المرجح أن يتم الاتفاق داخل البرلمان على مسألة رئاسة الجمهورية.
انعكاس نتائج الانتخابات على الاقتصاد التركي
من الواضح أن فوز حزب العدالة والتنمية لخمس سنوات جديدة، التي يتوقع أن تكون مرحلة استقرار سياسي في ظل حكومة مشكلة من حزب واحد، سينعكس إيجابيا على الاقتصاد التركي، وهذا ما لوحظ منذ اللحظات الأولى بعد ظهور النتائج، حيث ارتفعت مؤشرات البورصة التركية، وانخفضت أسعار الفائدة وسعر صرف العملات الأجنبية مقابل الليرة.
وأخيرا أكدت هذه الانتخابات أن حزب العدالة والتنمية سيبقى أحد أهم اللاعبين الرئيسين على الساحة السياسية التركية، إلا أن دخول لاعبين سياسيين جدد، يعتمدون بالأساس على إحياء الهوية القومية، كحزب الحركة القومية وحزب المجتمع الديمقراطي، قد يتسبب في زيادة حالة الاستقطاب داخل الشارع التركي وما يترتب عليه من مخاطر في المرحلة القادمة.
أما عن حزب الشعب الجمهوري، فيعتقد أن هذا الحزب المحسوب على اليسار رغم انه لم يعد يربطه شيء به، سيعمل على إعادة ترتيب أوراقه في المرحلة القادمة وسيقوم باختيار رئيس جديد للحزب.
إن هذه الانتخابات أظهرت بوضوح أن الشعب التركي له جذور إسلامية عميقة، فرغم محاولات التغريب والعصرنة التي تعتمد على العلمانية و"الأتاتوركية" التي فرضت عليه منذ مطلع القرن الماضي، اختار الشعب في هذه الانتخابات العصرنة التي لا تتصادم مع مقوماته ومقدساته.
إعداد/ د. برهان كوروغلو
باحث في مركز الجزيرة للدراسات