أتاتورك
قام الإسلام ولايزال بدور بارز فى تاريخ الأمة التركية، وكان العامل المهم دائماً فى توجيه الروح التركية.. فهو الذي أعطى الدولة العثمانية شخصيتها الدولية، وكيانها التاريخي، وهو الذى منحها شرعية قيادة العالم الإسلامي طوال ستة قرون، وهو الذي ساعد على تحقيق التجانس والدمج الاجتماعي بين القوميات والجنسيات المختلفة في ربوع الإمبراطورية..
ورغم إلغاء مصطفى كمال الخلافة في 3 مارس 1924م فإنه لم يستطع أبداً إلغاء الإسلام من قلوب وعقول ووعي ووجدان الناس. وهو الذي لم يدخر وسعاً، ولم يترك وسيلة لمحاربة الإسلام وسلخ تركيا منه إلا وفعلها.. في حالة محزنة من حالات التراجع.
كان أتاتورك فيما يبدو متأثراً فيها بمفهوم (العلمانية الثورية) التي قال بها فلاسفة مثل ماركس وفيورباخ في أواخر القرن التاسع عشر...والتي كانت تستهدف هدم الدين وتخليص الدولة والمجتمع من تأثيراته تماماً... في حين أن منشأ العلمانية كان بغرض الحد من أثر الدين والكنيسة على شؤون المجتمع وسياسة الدولة فقط.. ولم تكن هناك نوايا لمخاصمه الدين وعدائه.
حرب على العربية والمظاهر الإسلامي
فقام أتاتورك بفرض القبعة على الشعب بالقانون وببطش الدولة، وحارب الأبجدية العربية التي كانت تُكتب بها اللغة التركية فصدر قانون بالكتابة بالأبجدية اللاتينية، ونُقِّيت التركية من الكلمات الفارسية والعربية، وأصبح الأذان للصلاة بالتركية. ثم جاءت الهجمة الشرسة على أسماء الشعب فيما عرف ب(معركة الألقاب).. وحقيقة لم أعرف في تاريخ (الضرورات) أطرف وأغرب مما فعله مصطفى كمال.. فقد بدا واضحًا أنه ورجاله يسعون لتغيير دين الشعب وهيئته وأسمائه وكل ما يتعلق بهويته وأصل وجوده شكلاً ومضموناً.
وفي الذكرى العاشرة لتأسيس الجمهورية التركية جُمعت المصاحف والكتب الدينية ووضعت على ظهور الإبل ليقودها رجل يرتدي الزي العربي متجهاً بها نحو الجزيرة العربية وعُلقت على رقاب الإبل لافتة تقول: "جاءت من الصحراء ولتعد إلى الصحراء، وجاءت من العرب فلتذهب إلى العرب".. أخطأ أتاتورك في حق أمته خطأً فادحاً، حين اعتبر الإسلام عقبة في طريق التقدم والنهوض؛ ناسياً أن الدين فطرة ومشاعر وحقيقة من حقائق الحياة، وهو (مركب الحضارة) الذي يمزج (الإنسان والتراب والوقت). فالفكرة الدينية رافقت دائماً تركيب الحضارة عبر التاريخ كما يقول مالك بن نبي.. أو كما قال برتراند رسل: "الدين كلمة لها تاريخ طويل.... وحقيقة الناس هي العقل والدين والغريزة"... فما بالك إذا كان هذا الدين هو الإسلام الذي هو بطبيعته منهاج شامل للحياة؟ وما بالك إذا كان هؤلاء الناس هم الأتراك بشدتهم وحدتهم وقوتهم؟!
أتاتورك ودكتاتورية الحزب الواحد
والغريب أنه أثناء حرب الاستقلال 1920م اعتمد أتاتورك على أئمة المساجد في تعبئة الجماهير وتحفيزهم.. وكان بديع الزمان النورسي (الكردي) من أوائل العلماء الذين وقفوا إلى جانبه، بل إن رجال الدين أنفسهم ساهموا في التمهيد لمجيئه (المؤتمر) الأول للجمعية الوطنية كان يضم 73 عالماً دينياً من بين 361.. وحين أصدر شيخ الإسلام في الأستانة فتواه المشهورة بتكفير أتاتورك رد عليه مفتي أنقرة بفتوى مضادة تحمل توقيع 152 عالماً دينياً بتحريض من أتاتورك.. لم يفعل أتاتورك أي شيء في سبيل الإصلاح الحقيقي والذى كان المجتمع التركي كما كل العالم الإسلامي بحاجة حقيقية إليه.. فظل الريف التركي كما هو على تخلفه وفقره تحت سيطرة الأغوات، وبقي الأشراف في المدن كما هم يمارسون استغلالهم وتسلطهم.. حتى العلمانية المستوردة لم يقم أتاتورك بتطبيقها كما اخترعها الغرب. فالعلمانية الغربية كما ذكرنا كانت تعني الخلاص من ظروف الحروب الدينية والتي طالما اصطلت بها شعوب أوروبا.. وليست من الدين.. وتطورت فأصبحت تضمن حرية العقيدة والتعبير.. ولا تأخذ موقفاً مناوئاً للدين وشعائره كما فهمها وطبقها هو.. فقط أقام ديكتاتورية الحزب الواحد (حزب الشعب الجمهوري).. وأعطى صحوته مفهوماً (فاشستياً) أراد فيه للجماهير أن تكون كتلاً بلا ملامح، بلا معالم، بلا أفكار.. فألغى المحاكم الشرعية واستعاض عنها بالقانون المدني السويسري والقانون الجنائي الإيطالي والقانون التجاري الألماني، ومنع تعدد الزوجات.
حين صدرت هذه القرارات قامت ثورة الشيخ سعيد النورسى في شرق الأناضول. ورغم وصفها بالكردية الانفصالية فإن أهم مطالبها كان المطالبة بعودة الخليفة (وحيد الدين) آخر سلاطين بني عثمان.. ونشطت أيضاً الجماعات النقشبندية، وظلت حركات الرفض والممانعة هذه مستمرة حتى عام 1936م، وحين اشتد الضغط عليها اتجهت إلى السرية خاصة بعد المحاكمات والإعدامات.
الدين أحتم الحتميات
ولأن القوانين الحتمية أقوى من فعل الأفراد كما يقول ابن خلدون والدين في حياة الأمم من أحتم الحتميات، فبعد نصف قرن من هذه التجربة النشاز بدا للنخبة التركية أنها كمن كان يطرق أنفه على باب مغلق طوال السنين السابقة، وأن الخلل لم يكن بين القبعة والطربوش، وأن القصة أبعد عمقاً من كل ما فعله أبو الأتراك.. الذى ترك لمن بعده وهماً تبدد وكثيراً من الجراح... فما إن جاء عام 1946م حتى أُلغي نظام الحزب الواحد وأُقرت التعددية وأصبح الدين حاضراً في كل البرامج الحزبية.. وحدث تحول في سلوك النظام تجاه الإسلام عندما أدرك حزب الشعب الجمهوري (حزب أتاتورك) حجم الفراغ الذي لم يستطع النظام أن يملأه في المجال الديني، فاقترح السماح بإجراء تعليم ديني، بشرط أن يكون تحت حكم وسيطرة الدولة. وفي 1947م قرر الموافقة على اقتراح بالسماح بتعليم الدين الإسلامي بالحروف اللاتينية بشكل خاص وخارج المدارس الرسمية، على أن يتم ذلك تحت إشراف وزارة التعليم.
برنامج للمواد الديني
وفي 1948م أُعلن برنامج المواد الدينية التي ستدرس للصفين الرابع والخامس الابتدائي. وفي 1949م أصبحت المادة الدينية تدرس في المدارس الابتدائية بموجب إذن كتابي من ولي الأمر؛ بشرط أن تدرس خارج أوقات الدراسة الرسمية وفي الفترة التي كانت فيها الحكومة الائتلافية مكونة من حزبي الشعب الجمهوري والسلامة الوطني، عام 1973م تم وضع المواد الدينية في جميع الصفوف تحت مسمى (دروس الأخلاق) على أن تكون بمعدل ساعة أسبوعية وبشكل إجباري. وكانت مدارس الأئمة والخطباء قد أغلقت تماماً بعد عام 1930بسبب عدم وجود طلاب!!!. ولكن مع التحول لحياة التعددية الحزبية وتخلي حزب الشعب الجمهوري مضطراً عن نظرته للإسلام باعتباره عامل إعاقة أمام التحديث المنشود.. ومع التوجه نحو الديمقراطية في الفترة التي حكم فيها الحزب الديمقراطي البلاد بعد هزيمته لحزب الشعب الجمهوري عادت هذه المدارس ثانية، وبدأ السياسيون يتزلفون إلى الناخبين من أجل الحصول على أصواتهم، وتوجهوا إلى جماهير كانت مهملة منذ أعوام طوال، وخشي حزب الشعب رافع راية العلمانية من أن تهرب منه الأصوات نحو الأحزاب الأخرى.. وبعد تردد طويل وافق على وضع التعليم الديني في نظام الدولة، خاصة بعد شعور الجميع آن الدولة بحاجة حقيقية إلى (رجل دين مثقف) وتوافرت لديهم قناعة بأن رجال الدين المثقفين سيقومون بأدوار مهمة في تحقيق التماسك الاجتماعي للوطن.
الانقلاب العسكري الأول
وبدأ الحزب الديمقراطى والحزب الجمهورى يتنافسان على أصوات الجماهير بقرارات الانفتاح الديني، وعندما فاز الحزب الديمقراطي بالأغلبية عام 1950م أصدر رئيس الوزراء عدنان مندريس قراراً برفع الحظر عن الأذان باللغة العربية وكان ذلك فى حد ذاته حدثاً هائلاً بكل المقاييس، وأول ثغرة تنفتح في جدار القهر الأتاتوركي.. وتم ترميم المساجد، وأصبح النشاط الإسلامي مسموحاً به، بعد أن كان محظوراً، غير أن هذه التوجهات السياسية ذات البعد الاجتماعي والسياسى الخطير لم تستطع النخب العلمانية الشرسة احتمالها واستخدمت عصاها الغليظة.. فقام الجيش بانقلابه الأول في27-5-1960م باعتباره الحامي لمبادئ أتاتورك العلمانية وحامي الجمهورية، وتم إعدام (عدنان مندريس) رئيس الوزراء في هذا الانقلاب وتولى قائد الانقلاب (جمال جورسيل) رئاسةَ الدولة والوزراء ووزارةَ الدفاع.
وفي عام 1961م انشق حزب العدالة عن الحزب الديمقراطي، ووصل إلى الحكم عام 1965، وحدث تحول آخر مهم داخل حزب الشعب الجمهورى بتولي بولند أجاويد رئاسة الحزب، واعترف لأول مرة بأن الصراع لم يكن بين الطربوش والقبعة، بل بين الفقر والاستغلال، وأن كل الأحزاب استغلت الدين لإخفاء عجزها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
فترة الستينيات: تحولات خطيرة: كانت فترة الستينيات قد شهدت تحولات خطيرة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، فتغير كثير من أنماط الحياة. وعلى المستوى السياسي انتشرت الأحزاب اليسارية في صفوف الطلاب والمثقفين وظهرت أيضاً في تلك الفترة توجهات سياسية (إسلامية) واضحة وصريحة فظهر البروفيسور نجم الدين أربكان الذي عيَّنه حزب العدالة رئيسًا لاتحاد مجالس الصناعة والتجارة التركية، وقد كان لتوه قادماً من ألمانيا حاملاً الدكتوراه في صناعة المحركات الميكانيكية، ثم كان الظهور القوي له في الحياة السياسية حين فاز كمرشح مستقل عن دائرة قونية، وكان فوزًا كبيرًا وساحقًا بما يتجاوز كونه فوزاً لنائب له جماهير...
وفي عام 1970م أسس أربكان حزب النظام الوطني منفصلاً به عن حزب العدالة.. الذى كان بدوره منفصلاً عن الحزب الديمقراطى..
تميز برنامجُ الحزب بالاتجاه شرقاً نحو (المحيط الحضاري والتاريخي) للأمة التركية، وبدأ في انتقاد حزب العدالة وحزب الشعب، وفي نفس الوقت كان ملتزماً بالنظام القانوني للبلاد.. ولم يحاول أبداً الخروج عليه. وفي العام التالي أقام الحزب مؤتمره السنوي الأول مبتدئًا الحفل بالنشيد الوطني (حلمي يقود خطاي)، واختير أربكان أمينًا له.
كانت هذه الفترة تتسم بالقلق السياسي، وعانت البلاد من أزمات حادة لم تفلح الحكومات المتعاقبة في معالجتها، وهو ما دعا الجيش في 12 مارس 1971م إلى توجيه مذكرة إنذار لرئيس الوزراء وقتها (سليمان ديميريل) تدعوه فيها إلى إجراء إصلاحات سريعة من أجل القضاء على أسباب هذه الأزمات.. وإلا فإن الجيش سيمارس حقه الدستوري ويتولى مقاليد الحكم، وعُرف هذا الانقلاب في الحياة السياسية التركية ب(انقلاب المذكرة)، فاستقالت الحكومة وحظر حزب النظام الوطني وأغلقت مقراته ومكاتبه واضُّطر أربكان لمغادرة البلاد حتى تهدأ هذه العاصفة.
أربكان.. ومرحلة التأسيس.. وأردوغان ومرحلة الانطلاق
في عام 1972م أسس فريد ملان حزب السلامة الوطني على نفس نهج حزب النظام، وبقي أربكان في الظل بعد عودته إلى البلاد.. وخاض الحزب الانتخابات البرلمانية وحصل على (49) مقعدًا، ودخل في حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري، وتضمن الاتفاق بينهما مبادئ مهمة، منها إطلاق الحريات العامة، وحرية الصحافة، والعفو عن السجناء السياسيين.
وتولى أربكان منصب نائب رئيس الوزراء وأجاويد رئيساً، وكانت خطوة واسعة للأمام بالنسبة للحركة الإسلامية التي حصلت على مكاسب مهمة في حقيقة الأمر من هذا التحالف، مثل: فتح عدد كبير من مدارس الأئمة والخطباء، وكانت أهم إنجازات هذه الوزارة، إقناع قيادة الجيش التركي بإنزال قواتها في جزيرة قبرص وسط ترحيب شعبي كبير واحتلال أكثر من ثلثها لحماية المسلمين القبارصة "الأتراك"، وأصبحت الحركة الإسلامية المتمثلة في حزب السلامة الوطني رقماً مهماً في الحياة السياسية التركية.. وهو ما لم يكن مقبولاً من النخبة العلمانية التي زادت مخاوفها أكثر وأكثر، فافتُعلت أزمة سياسية واستقال أربكان ومؤيدوه من الوزارة.Img No.##141126##$$
كان أربكان في موقفه الحازم من قضية الإنزال التركي في قبرص زعيماً شعبياً بامتياز... ذلك أن الشعب التركي يعتبر جزيرة قبرص جزءًا من أرضه، خاصة بعد أن قامت بريطانيا بتمكين اليونانيين منها حتى يصبحوا أكثرية، وهي الجزيرة التي لا تبعد سوى ستة كيلومترات عن الموانئ التركية، في حين تبعد عن اليونان أكثر من ستمائة كيلومتر.
ائتلف حزب السلامة الوطني مع حزب العدالة في حكومتي 1975 1978م، وكان أربكان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء، وتبنى الحزب في هذه الفترة قضايا ذات طابع اقتصادي بالأساس، وكان أربكان مسكوناً بتجربة النهوض العظيم في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فقام الحزب بحملة قومية لإنشاء صناعات كبرى خاصة في مجال الأسلحة الثقيلة، فافتتح في 1976م أكثر من مائة مؤسسة صناعية كبرى، وعمل على إصدار قانون يُلغي الفوائد الربوية على القروض الزراعية تيسيراً على الفلاحين، وتم إحلال زراعة الحبوب محل زراعة الدخان... وقام بإصلاحات اجتماعية واقتصادية كبيرة.
وفي عام (1980م) عقد الحزب مؤتمرًا شعبياً تحت شعار: "أنقذوا القدس"، ورُفعت فيه الأعلام الخضراء، وظهرت دعوات لإقامة دولة إسلامية في تركيا!!!! وبدا أن الحركة الإسلامية تتمرد على ذاتها وتستولد لها حجماً جديداً، ولم يكن الزمن مواتياً، ولا الريح موافقة بعد لمثل ذلك، فقام الجيش على الفور بانقلاب عسكري، وسيطر العسكريون على السلطة السياسية، وتم حل الأحزاب، ومن بينها بالطبع حزب السلامة، وتركزت السلطة في يد مجلس الأمن القومي، وقُيِّدت الحريات العامة، ولم يُسمح بدخول انتخابات عام 1983م إلا لثلاثة أحزاب هي: حزب الديمقراطية، ويتكون من جنرالات الجيش المتقاعدين، وحزب الشعب الجناح الأتاتوركي، وحزب الوطن الأم بقيادة "تورجوت أوزال"، وهو الذي فاز في تلك الانتخابات، وظلت الحياة السياسية في تركيا على ما بها من قلق وعدم استقرار. و"أوزال" مهندس كهربائي له خبرة لا بأس بها بالشؤون الاقتصادية والسياسية، وكان من قبل مرشح حزب السلامة الوطني عن ولاية "أزمير"، ويوصف بأنه سفير الغرب في تركيا، ورغم ذلك فإن الحركة الإسلامية في عهده سواء كان في رئاسة الوزراء أو في رئاسة الجمهورية تمتعت بحرية كبيرة، واحتلت مساحة أكبر في الشارع التركي، فقد كان الرجل يرى أن الإسلام المعتدل كإطار أيديولوجي مهم للحد من تطرف الأتاتوركية التي أضرت بالأمة التركية.. وأيضاً لمنع نمو الأفكارالمتطرفة خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران... لذلك تَبَنَّى سياسات إسلامية معتدلة مقارنة بسابقيه، فدعم المدارس التي تُخرِّج الأئمة والخطباء لتصل نسبة خريجيها إلى 20% من خريجي المدارس المتوسطة، وسمح بالدعوة الإسلامية في الإذاعة والتلفزيون، وسمح للفتيات بارتداء الحجاب، بعد أن كان ممنوعاً، وسمح بقيام مؤسسات الأوقاف، كما سمحت السياسات الاقتصادية التي تبناها بوجود شركات ومشروعات إسلامية.
تولى أوزال رئاسة الجمهورية في نوفمبر 1989م، وقبل توليه الرئاسة بيوم واحد نظمت طالبات جامعة "أنقرة" مظاهرة كبيرة اشترك فيها خمسة آلاف طالبة احتجاجًا على منع الحجاب في الجامعات التركية بقرار من المحكمة الدستورية العليا، وأحدثت هذه المظاهرة أثراً كبيراً في الشارع التركي، حيث رأى البعض أن الظهور المكثف للمحجبات هو من قبيل التخطيط السياسي، حيث يقدمون النساء في الواجهة مما يجعل تأثيرهن أقوى ومواجهتهن أقل، ورأى آخرون أن النساء رفعن رايات الانتماء للإسلام بارتداء الحجاب لتثبت الحركة الإسلامية في تركيا أنها موجودة في الوجدان الشعبي، وبذلك استطاعت الحركة الإسلامية أن تنقل معركتها مع العلمانيين إلى الشارع لتحريك المشاعر الإسلامية لدى المواطن التركي، ولا شك أن هذا الأداء من قبل الحركة كان يهدف إلى عدم حدوث انتكاسة للإسلاميين كالتي حدثت في بداية الثمانينيات... وكان أربكان قد أسس حزب الرفاه عام 1983 وكان برنامجه تحت عنوان: "النظام العادل"، مشيراً إلى النظام الإسلامي، وكان برنامج الحزب يهدف إلى إلغاء العلمانية الثورية أو "الشاملة" كما سماها لاحقاً العلامة الدكتور عبدالوهاب المسيري. وخاض به أربكان الانتخابات بعد ذلك. فاستطاع في الانتخابات المحلية عام 1989م أن يحصل على خمس بلديات، وفي عام 1992م كانت المفاجأة الكبيرة في الوسط السياسي التركي بفوزه الكبير في الانتخابات..
كان اقتراب الحركة الإسلامية من السلطة في هذا الوقت اقتراباً حكيماً وئيداً، يستند إلى قاعدة اجتماعية قوية، وكان وجود الرئيس تورجوت أوزال في الحكم بأفكاره غير المتطرفة تجاه الإسلاميين عاملاً مهماً أسهم في تقوية موقفه، إلا أن أوزال توفي بأزمة قلبية مفاجئة في 17-4-1993م قبل أن يكمل فترة رئاسته وتولى الحكم بعده "سليمان ديميريل".Img No.##141128##$$
ومع تنامي الشعورالإسلامي في تركيا وسيادة حزب الرفاه انتخابياً على عاصمتي تركيا: أنقرة وإسطنبول، توحدت أحزاب اليمين واليسار ضده لتستطيع مواجهته، وعلى العكس حقق الحزب فوزًا كبيراً في انتخابات 1994م، وهو ما أقلق الأحزاب المختلفة، فبدأ بعضها يخاطب الجماهير عن طريق فتح معاهد لتدريس القرآن الكريم، كان نجاح تجربة حزب الرفاه في الانتخابات البلدية وتأكيده العملي بأنه حزب نظيف وقريب من الهموم العادية للناس، وارتقاؤه بالخدمات في البلديات التي فاز فيها دون تفرقة بين الناس.. خطوة واسعة أخرى للأمام، وانتقل الحزب من شرعية المسجد إلى شرعية المجتمع بهدوء وقوة وثبات، فحقق شعبية كبيرة رغم ما واجهه من حملات لتشويه أدائه، والتقليل من أهميته، وتجلت هذه الجماهيرية للحزب في الانتخابات البرلمانية في 1995م، حيث حصل على (158) مقعدًا من (550) مقعداً، وحصل في الانتخابات البلدية الجزئية التي جرت في ذلك العام على 33% من الأصوات، وأعقب هذا الفوز الكاسح للرفاه، انهيار الحكومة الائتلافية بين حزبي "الطريق القويم" و"الوطن الأم". وتحالف الجميع ضد وصول حزب الرفاه للحكم، فعهد الرئيس ديميريل إلى تانسو تشيلر زعيمة "الطريق القويم" بتشكيل الوزارة ففشلت.. وقدَّم الرفاه ملفات تُدينها بالفساد، وحصل على موافقة من البرلمان على إجراء تحقيق حول ممتلكاتها الشخصية.
أما "مسعود يلماظ" زعيم حزب "الوطن الأم" فلجأ إلى حيلة المحكمة الدستورية العليا، والتي استطاع الحصول منها على حكم بعدم دستورية اقتراع الثقة على حكومة أربكان، فأدى ذلك إلى فوضى سياسية، مع إصرار عنيد على عدم صعود أربكان لرئاسة الوزارة. لكن الحزب أدار هذه الأزمة بحكمة وخبرة عالية، فكان أن أعلنت تشيلر قبولها الائتلاف السياسي معه على أن يتولى أربكان رئاسة الوزارة وتكون الوزارات السياسية السيادية من نصيب حزب الطريق القويم، وفي يونيو 1996م، تشكلت وزارة ائتلافية برئاسة نجم الدين أربكان، ولأن الفشل في شيء أفضل من عدم خوض التجربة، فقد أصبح أربكان بذلك أول "إسلامي" يصعد إلى قمة السلطة السياسية في العصرالحديث في الشرق الأوسط عن طريق الانتخاب، رغم انه لم يكن هناك ثمة فشل.. فالتجربة على قصرها تعد ناجحة أو بروفة لنجاح آت عما قريب فقد استطاع الرجل في هذه الفترة التي تولى فيها الوزارة وهي عام واحد أن يخفض ديون تركيا من "38" مليار دولار إلى "15" مليار دولار، وقام بسياسات ناجحة في الداخل والخارج بعيدًا عن أي شبه تطرف.. إلا أن المؤسسة العسكرية رأت في نجاحاته الكبيرة خطرًا كبيرًا خاصة أنه اقترب من بعض القضايا الشائكة في تركيا وعلى رأسها القضية الكردية لحلها، وبدأت قيادة الجيش في توجيه انتقادات لاذعة لأربكان، فتأزمت الأوضاع السياسية، مما دفع أربكان إلى الدعوة لانتخابات مبكرة وقدم استقالته من رئاسة الحكومة.
ودون ضجيج أو صخب، كان خيار الحركة الإسلامية الالتحام الأكثر بالشارع والطبقات المعدمة فيه، والسعيد من اعتبر بأمسه، ونظر لنفسه.. وأمس الانقلابات غير بعيد، واستطاعت الحركة الإسلامية في تركيا بذلك أن تقدم نموذجًا فريدًا في الاستجابة لضغوط الواقع السياسي والاجتماعي المفروض عليها والتكيف معه والاستفادة منه دون أن تتخلى عن أفكارها، ودون أن تلجأ إلى العنف.. فرسخت أقدامها أكثر وأكثر في الواقع التركي، واستطاعت أن تدرأ الضرر وتجلب المصلحة بحكمة واقتدار بالغين..
لا غنى لأي مهتم بالحالة التركية من الإلمام الجيد بتركيبة "السلطة الفاعلة" في تركيا.. والتي تشكل المؤسسة العسكرية فيها اليد الضاربة.. لاعتبارات كثيرة أهمها بالطبع الاعتبارالتاريخي لقيام الجمهورية التركية.. يليها دوائر المال ودوائر الإعلام.. الإعلام بمختلف مكوناته ورجال الأعمال الحاضرون دوماً وأبداً في لعبة السياسة والحكم
يذكر لنا التاريخ أن المؤسسة العسكرية كان لها دور بارز على الدوام في جميع الدول التي شكلها الأتراك في التاريخ، كالدولة السلجوقية، والدولة العثمانية، وكان لها دور كبير في جميع الانتصارات والتوسعات التي تمت وجعلت من الدولة العثمانية إمبراطورية كبيرة تمتد فوق ثلاث قارات، ولكنها بمرور الوقت وباشتراكها في السياسة وألاعيبها، تحولت إلى مشكلة كبيرة وسبب قوي من أسباب اضمحلال وسقوط الإمبراطورية العثمانية.
في العهد الجمهوري مارست المؤسسة العسكرية دوراً سيئاً في الحياة السياسية.. تبدَّى ذلك في 3 انقلابات عسكرية كاملة: في 1960م، وفي 1972م، وفي 1980م، ونصف حركة انقلابية عام 1997م عندما ساعدت على إسقاط حكومة أربكان. والمؤسسة العسكرية في تركيا لها وضع شديد الخصوصية، ففي جميع الدول تكون رئاسة الأركان العامة للجيش تابعه لوزارة الدفاع، وتتم جميع التعيينات والترقيات والإحالة للتقاعد أو الفصل من الجيش من قبل هذه الوزارة، إلا أن المؤسسة العسكرية التركية التي يرأسها رئيس الأركان لا ترتبط بوزارة الدفاع، بل برئيس الوزراء، وذلك من الناحية الشكلية فقط، وواقع الحال أنها مؤسسة قائمة بذاتها تماماً، وتقوم باتخاذ جميع القرارات المتعلقة بالجيش دون أن يكون لوزير الدفاع أو لرئيس الوزراء أي سلطة، والقادة الفاعلون هم أعضاء هيئة الأركان التي تضم قادة أقسام الجيش البرية والجوية والبحرية والشرطة العسكرية.. أما الهيئة التي يسيطرون على كل شيء من خلالها فهي لجنة "الأمن القومي".. لكن بمجيء حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم قلص قوة هذه المؤسسة، ومازال في طريقه لتقليص نفوذها تماماً "وقد فصلنا في هذا الأمر في مقالات سابقة".
الجهاز الإعلامي: الجهاز الإعلامي له تأثير قوي، ويغلب على القائمين عليه طابع المخاصمة للدين، وتوجد في تركيا العديد من المؤسسات الإعلامية، ومحطات الإذاعة والتلفزيون، ومعظمها تؤيد العلمانية الشاملة، وتهاجم الإسلاميين بضراوة، وتعمل على إظهارهم بالمظهر الرجعي المنعزل، الكاره للعلم، والحضارة، وكالعادة يعمل الإعلام على إلهاء الجماهير بأخبار الكرة، والمغنيين، والأزياء، والمسلسلات، وكل ما من شأنه تسطيح وعي الناس... وسيتمكن رجب أردوغان فيما بعد من نزع إحدى هذه المؤسسات المهمة من صاحبها وتحويلها إلى ملكية الحكومة بعد كشف التلاعب المالي لصاحبها، وسيتفق مع صاحب أكبر مؤسسة إعلامية والتي تتبع لها "السي إن إن" التركية على ألا تهاجمه ووزارته، وأن تفسح المجال لرجاله بالظهور فيها والكتابة في صحفها..
القوى السياسية
وعلى الجانب الآخر، هناك الأحزاب السياسية والتي تطورت تطوراً كبيراً على مدار ثمانية عقود، هذه الأحزاب تنتمي بدرجة أو بأخرى للتيار اليساري والتيار اليميني والتيار الإسلامي.
وهذه الأحزاب هي
حزب الشعب الجمهوري: الذي أسسه "مصطفى كمال" عام 1923م، وهو أول حزب سياسي بعد إعلان الجمهورية، ويقوده اليوم "دنيز بيكال" 70 عاماً، ويقود المعارضة السياسية في مواجهة حزب العدالة.
2 حزب الطريق القويم: أسسه الزعيم السياسي "سليمان ديميريل"، وهو حزب يميني محافظ، يعتبر نفسه امتداداً للحزب الديمقراطي الذي أسسه "عدنان مندريس" ويقوده اليوم "محمد أغار" الذي انتُخب نائباً لأكثر من مرة، ومعروف عنه تشدده في المسائل القومية. تسلم قيادة الحزب من "تانسو تشيللر"، ويُمثله اليوم في البرلمان نائبان فقط.. أقام ائتلافاً مع حزب الوطن الأم لقطع الطريق على حزب العدالة.
3 حزب الحركة القومية: حزب يميني قومي متشدد أقام عام 1991م ائتلافاً انتخابياً مع حزب الرفاه، واستطاع دخول المجلس النيابي، إلا أنه فشل عام 1995 في تجاوز عقبة 10% من مجموع الأصوات، لكنه في عام 1999 نجح بنسبة 18% ودخل البرلمان بنسبة كبيرة لأول مرة في تاريخ تركيا السياسي.
4 حزب السعادة: وهو امتداد لسلسلة الأحزاب التي أسسها نجم الدين أربكان على امتداد تاريخه السياسي والذي فصلنا فيه سابقاً.
5 حزب الوطن الأم: أسسه الرئيس التركي السابق "تورجوت أوزال" عام 1980م وخلفه في قيادته "مسعود يلماظ" الذي أضعف الحزب، وتعثر في دخول المجلس قبل 4 أعوام. يقوده اليوم "أركان مومجو" الحقوقي 44 عاماً، وهو من المقربين إلى أوزال. المدهش أنه دخل الانتخابات عام 2002م من خلال العدالة والتنمية، وفاز في الانتخابات ليتسلم حقيبة التربية والسياحة، ثم استقال من العدالة وعاد إلى الوطن الأم، وهو الآن من المعارضين الأشداء للعدالة.
6 حزب اليسار الديمقراطي: هو امتداد لحزب الشعب الجمهوري، أسسه مجموعة من السياسيين اليساريين تحت فكرة يسار الوسط وعلى رأسهم "أجاويد" المولود في إسطنبول عام 1925م، وانضم لحزب الشعب الجمهوري، حيث تدرج فيه إلى أعلى المناصب القيادية، وكان الساعد الأيمن لعصمت إينونو التلميذ النجيب لأتاتورك، دخل البرلمان مبكراً، وانتُخب أكثر من مرة، واختير رئيساً لمجلس الوزراء، وخلال وجوده في السجن ومنعه من ممارسة العمل السياسي أدارت زوجته شؤون الحزب. تسلم "أجاويد" الدفة في الحزب حتى وفاته مؤخراً. كان أكبر فوز حققه عام 1999 بحصوله على 22% من مجموع الأصوات. حزب اليسار الديمقراطى علماني متطرف، وظهر ذلك عندما وقف في وجه "مروة قواكجي" النائبة التي حاولت قسم اليمين البرلمانى وهي محجبة فمنعت من ذلك.
7 حزب العدالة والتنمية الذي يحكم الآن، وخرج منه رئيس الجمهورية عبدالله جول، وقد تناولت المجتمع تاريخه بالتفصيل في أعداد سابقة.
التعامل مع الواقع العلماني
استطاعت الحركة الإسلامية التعامل مع واقع النظام العلماني في تركيا وفق منطق "على العاقل أن يقتصد في الرغبات الحكيمة"، بدقة ووعي، فاستطاعت التقدم وانتزاع شرعية جماهيرية ضاربة.. وهو النموذج الذي يقدمه الآن حزب العدالة ببراعة....
حزب العدالة يمتلك الآن قيادة شابة جديدة، أدت أدواراً سياسية بامتياز، وهذه القيادة الجديدة تعتقد اعتقاداً واضحاً أن القيم الإسلامية لها دور مهم تلعبه في الحياة السياسة التركية، بل وفي المجتمع التركي بأكمله، حتى لو لم يتم السماح بتطبيق الشريعة الإسلامية، فقيمة العدل، وقيمة الحرية، وقيمة الغنى والكفاية.. كلها قيم إسلامية فى الصميم، وإن لم تتحرك بها في المجتمع بشعارات إسلامية.. وأتصور أنه كلما عاش الإسلاميون حساسية الحركة باتجاه خط "الإنسان الكريم".. كلما كانوا أكثر اقتراباً وتماساً مع فكرة "الدولة الإسلامية" ومع فكرة "المجتمع المسلم".. ولفوتوا الفرصة على الموتورين الكارهين لفكرة "الإيمان بالله الخالق المهيمن الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله"، ولكنهم كما كان يقول العقاد لا يجرؤون على التصريح بذلك.. فيهاجموا الإسلاميين فإذا ما قام الإسلاميون داعين إلى "دولة الإنسان الكريم" بكل ما تعنيه الكرامة من عدل، وحرية، وغنى، ومعرفة.. فقد أدوا ما عليهم كأصحاب دعوة ورسالة، دون المرور بطريق الألغام والفخاخ
قام الإسلام ولايزال بدور بارز فى تاريخ الأمة التركية، وكان العامل المهم دائماً فى توجيه الروح التركية.. فهو الذي أعطى الدولة العثمانية شخصيتها الدولية، وكيانها التاريخي، وهو الذى منحها شرعية قيادة العالم الإسلامي طوال ستة قرون، وهو الذي ساعد على تحقيق التجانس والدمج الاجتماعي بين القوميات والجنسيات المختلفة في ربوع الإمبراطورية..
ورغم إلغاء مصطفى كمال الخلافة في 3 مارس 1924م فإنه لم يستطع أبداً إلغاء الإسلام من قلوب وعقول ووعي ووجدان الناس. وهو الذي لم يدخر وسعاً، ولم يترك وسيلة لمحاربة الإسلام وسلخ تركيا منه إلا وفعلها.. في حالة محزنة من حالات التراجع.
كان أتاتورك فيما يبدو متأثراً فيها بمفهوم (العلمانية الثورية) التي قال بها فلاسفة مثل ماركس وفيورباخ في أواخر القرن التاسع عشر...والتي كانت تستهدف هدم الدين وتخليص الدولة والمجتمع من تأثيراته تماماً... في حين أن منشأ العلمانية كان بغرض الحد من أثر الدين والكنيسة على شؤون المجتمع وسياسة الدولة فقط.. ولم تكن هناك نوايا لمخاصمه الدين وعدائه.
حرب على العربية والمظاهر الإسلامي
فقام أتاتورك بفرض القبعة على الشعب بالقانون وببطش الدولة، وحارب الأبجدية العربية التي كانت تُكتب بها اللغة التركية فصدر قانون بالكتابة بالأبجدية اللاتينية، ونُقِّيت التركية من الكلمات الفارسية والعربية، وأصبح الأذان للصلاة بالتركية. ثم جاءت الهجمة الشرسة على أسماء الشعب فيما عرف ب(معركة الألقاب).. وحقيقة لم أعرف في تاريخ (الضرورات) أطرف وأغرب مما فعله مصطفى كمال.. فقد بدا واضحًا أنه ورجاله يسعون لتغيير دين الشعب وهيئته وأسمائه وكل ما يتعلق بهويته وأصل وجوده شكلاً ومضموناً.
وفي الذكرى العاشرة لتأسيس الجمهورية التركية جُمعت المصاحف والكتب الدينية ووضعت على ظهور الإبل ليقودها رجل يرتدي الزي العربي متجهاً بها نحو الجزيرة العربية وعُلقت على رقاب الإبل لافتة تقول: "جاءت من الصحراء ولتعد إلى الصحراء، وجاءت من العرب فلتذهب إلى العرب".. أخطأ أتاتورك في حق أمته خطأً فادحاً، حين اعتبر الإسلام عقبة في طريق التقدم والنهوض؛ ناسياً أن الدين فطرة ومشاعر وحقيقة من حقائق الحياة، وهو (مركب الحضارة) الذي يمزج (الإنسان والتراب والوقت). فالفكرة الدينية رافقت دائماً تركيب الحضارة عبر التاريخ كما يقول مالك بن نبي.. أو كما قال برتراند رسل: "الدين كلمة لها تاريخ طويل.... وحقيقة الناس هي العقل والدين والغريزة"... فما بالك إذا كان هذا الدين هو الإسلام الذي هو بطبيعته منهاج شامل للحياة؟ وما بالك إذا كان هؤلاء الناس هم الأتراك بشدتهم وحدتهم وقوتهم؟!
أتاتورك ودكتاتورية الحزب الواحد
والغريب أنه أثناء حرب الاستقلال 1920م اعتمد أتاتورك على أئمة المساجد في تعبئة الجماهير وتحفيزهم.. وكان بديع الزمان النورسي (الكردي) من أوائل العلماء الذين وقفوا إلى جانبه، بل إن رجال الدين أنفسهم ساهموا في التمهيد لمجيئه (المؤتمر) الأول للجمعية الوطنية كان يضم 73 عالماً دينياً من بين 361.. وحين أصدر شيخ الإسلام في الأستانة فتواه المشهورة بتكفير أتاتورك رد عليه مفتي أنقرة بفتوى مضادة تحمل توقيع 152 عالماً دينياً بتحريض من أتاتورك.. لم يفعل أتاتورك أي شيء في سبيل الإصلاح الحقيقي والذى كان المجتمع التركي كما كل العالم الإسلامي بحاجة حقيقية إليه.. فظل الريف التركي كما هو على تخلفه وفقره تحت سيطرة الأغوات، وبقي الأشراف في المدن كما هم يمارسون استغلالهم وتسلطهم.. حتى العلمانية المستوردة لم يقم أتاتورك بتطبيقها كما اخترعها الغرب. فالعلمانية الغربية كما ذكرنا كانت تعني الخلاص من ظروف الحروب الدينية والتي طالما اصطلت بها شعوب أوروبا.. وليست من الدين.. وتطورت فأصبحت تضمن حرية العقيدة والتعبير.. ولا تأخذ موقفاً مناوئاً للدين وشعائره كما فهمها وطبقها هو.. فقط أقام ديكتاتورية الحزب الواحد (حزب الشعب الجمهوري).. وأعطى صحوته مفهوماً (فاشستياً) أراد فيه للجماهير أن تكون كتلاً بلا ملامح، بلا معالم، بلا أفكار.. فألغى المحاكم الشرعية واستعاض عنها بالقانون المدني السويسري والقانون الجنائي الإيطالي والقانون التجاري الألماني، ومنع تعدد الزوجات.
حين صدرت هذه القرارات قامت ثورة الشيخ سعيد النورسى في شرق الأناضول. ورغم وصفها بالكردية الانفصالية فإن أهم مطالبها كان المطالبة بعودة الخليفة (وحيد الدين) آخر سلاطين بني عثمان.. ونشطت أيضاً الجماعات النقشبندية، وظلت حركات الرفض والممانعة هذه مستمرة حتى عام 1936م، وحين اشتد الضغط عليها اتجهت إلى السرية خاصة بعد المحاكمات والإعدامات.
الدين أحتم الحتميات
ولأن القوانين الحتمية أقوى من فعل الأفراد كما يقول ابن خلدون والدين في حياة الأمم من أحتم الحتميات، فبعد نصف قرن من هذه التجربة النشاز بدا للنخبة التركية أنها كمن كان يطرق أنفه على باب مغلق طوال السنين السابقة، وأن الخلل لم يكن بين القبعة والطربوش، وأن القصة أبعد عمقاً من كل ما فعله أبو الأتراك.. الذى ترك لمن بعده وهماً تبدد وكثيراً من الجراح... فما إن جاء عام 1946م حتى أُلغي نظام الحزب الواحد وأُقرت التعددية وأصبح الدين حاضراً في كل البرامج الحزبية.. وحدث تحول في سلوك النظام تجاه الإسلام عندما أدرك حزب الشعب الجمهوري (حزب أتاتورك) حجم الفراغ الذي لم يستطع النظام أن يملأه في المجال الديني، فاقترح السماح بإجراء تعليم ديني، بشرط أن يكون تحت حكم وسيطرة الدولة. وفي 1947م قرر الموافقة على اقتراح بالسماح بتعليم الدين الإسلامي بالحروف اللاتينية بشكل خاص وخارج المدارس الرسمية، على أن يتم ذلك تحت إشراف وزارة التعليم.
برنامج للمواد الديني
وفي 1948م أُعلن برنامج المواد الدينية التي ستدرس للصفين الرابع والخامس الابتدائي. وفي 1949م أصبحت المادة الدينية تدرس في المدارس الابتدائية بموجب إذن كتابي من ولي الأمر؛ بشرط أن تدرس خارج أوقات الدراسة الرسمية وفي الفترة التي كانت فيها الحكومة الائتلافية مكونة من حزبي الشعب الجمهوري والسلامة الوطني، عام 1973م تم وضع المواد الدينية في جميع الصفوف تحت مسمى (دروس الأخلاق) على أن تكون بمعدل ساعة أسبوعية وبشكل إجباري. وكانت مدارس الأئمة والخطباء قد أغلقت تماماً بعد عام 1930بسبب عدم وجود طلاب!!!. ولكن مع التحول لحياة التعددية الحزبية وتخلي حزب الشعب الجمهوري مضطراً عن نظرته للإسلام باعتباره عامل إعاقة أمام التحديث المنشود.. ومع التوجه نحو الديمقراطية في الفترة التي حكم فيها الحزب الديمقراطي البلاد بعد هزيمته لحزب الشعب الجمهوري عادت هذه المدارس ثانية، وبدأ السياسيون يتزلفون إلى الناخبين من أجل الحصول على أصواتهم، وتوجهوا إلى جماهير كانت مهملة منذ أعوام طوال، وخشي حزب الشعب رافع راية العلمانية من أن تهرب منه الأصوات نحو الأحزاب الأخرى.. وبعد تردد طويل وافق على وضع التعليم الديني في نظام الدولة، خاصة بعد شعور الجميع آن الدولة بحاجة حقيقية إلى (رجل دين مثقف) وتوافرت لديهم قناعة بأن رجال الدين المثقفين سيقومون بأدوار مهمة في تحقيق التماسك الاجتماعي للوطن.
الانقلاب العسكري الأول
وبدأ الحزب الديمقراطى والحزب الجمهورى يتنافسان على أصوات الجماهير بقرارات الانفتاح الديني، وعندما فاز الحزب الديمقراطي بالأغلبية عام 1950م أصدر رئيس الوزراء عدنان مندريس قراراً برفع الحظر عن الأذان باللغة العربية وكان ذلك فى حد ذاته حدثاً هائلاً بكل المقاييس، وأول ثغرة تنفتح في جدار القهر الأتاتوركي.. وتم ترميم المساجد، وأصبح النشاط الإسلامي مسموحاً به، بعد أن كان محظوراً، غير أن هذه التوجهات السياسية ذات البعد الاجتماعي والسياسى الخطير لم تستطع النخب العلمانية الشرسة احتمالها واستخدمت عصاها الغليظة.. فقام الجيش بانقلابه الأول في27-5-1960م باعتباره الحامي لمبادئ أتاتورك العلمانية وحامي الجمهورية، وتم إعدام (عدنان مندريس) رئيس الوزراء في هذا الانقلاب وتولى قائد الانقلاب (جمال جورسيل) رئاسةَ الدولة والوزراء ووزارةَ الدفاع.
وفي عام 1961م انشق حزب العدالة عن الحزب الديمقراطي، ووصل إلى الحكم عام 1965، وحدث تحول آخر مهم داخل حزب الشعب الجمهورى بتولي بولند أجاويد رئاسة الحزب، واعترف لأول مرة بأن الصراع لم يكن بين الطربوش والقبعة، بل بين الفقر والاستغلال، وأن كل الأحزاب استغلت الدين لإخفاء عجزها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
فترة الستينيات: تحولات خطيرة: كانت فترة الستينيات قد شهدت تحولات خطيرة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، فتغير كثير من أنماط الحياة. وعلى المستوى السياسي انتشرت الأحزاب اليسارية في صفوف الطلاب والمثقفين وظهرت أيضاً في تلك الفترة توجهات سياسية (إسلامية) واضحة وصريحة فظهر البروفيسور نجم الدين أربكان الذي عيَّنه حزب العدالة رئيسًا لاتحاد مجالس الصناعة والتجارة التركية، وقد كان لتوه قادماً من ألمانيا حاملاً الدكتوراه في صناعة المحركات الميكانيكية، ثم كان الظهور القوي له في الحياة السياسية حين فاز كمرشح مستقل عن دائرة قونية، وكان فوزًا كبيرًا وساحقًا بما يتجاوز كونه فوزاً لنائب له جماهير...
وفي عام 1970م أسس أربكان حزب النظام الوطني منفصلاً به عن حزب العدالة.. الذى كان بدوره منفصلاً عن الحزب الديمقراطى..
تميز برنامجُ الحزب بالاتجاه شرقاً نحو (المحيط الحضاري والتاريخي) للأمة التركية، وبدأ في انتقاد حزب العدالة وحزب الشعب، وفي نفس الوقت كان ملتزماً بالنظام القانوني للبلاد.. ولم يحاول أبداً الخروج عليه. وفي العام التالي أقام الحزب مؤتمره السنوي الأول مبتدئًا الحفل بالنشيد الوطني (حلمي يقود خطاي)، واختير أربكان أمينًا له.
كانت هذه الفترة تتسم بالقلق السياسي، وعانت البلاد من أزمات حادة لم تفلح الحكومات المتعاقبة في معالجتها، وهو ما دعا الجيش في 12 مارس 1971م إلى توجيه مذكرة إنذار لرئيس الوزراء وقتها (سليمان ديميريل) تدعوه فيها إلى إجراء إصلاحات سريعة من أجل القضاء على أسباب هذه الأزمات.. وإلا فإن الجيش سيمارس حقه الدستوري ويتولى مقاليد الحكم، وعُرف هذا الانقلاب في الحياة السياسية التركية ب(انقلاب المذكرة)، فاستقالت الحكومة وحظر حزب النظام الوطني وأغلقت مقراته ومكاتبه واضُّطر أربكان لمغادرة البلاد حتى تهدأ هذه العاصفة.
أربكان.. ومرحلة التأسيس.. وأردوغان ومرحلة الانطلاق
في عام 1972م أسس فريد ملان حزب السلامة الوطني على نفس نهج حزب النظام، وبقي أربكان في الظل بعد عودته إلى البلاد.. وخاض الحزب الانتخابات البرلمانية وحصل على (49) مقعدًا، ودخل في حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري، وتضمن الاتفاق بينهما مبادئ مهمة، منها إطلاق الحريات العامة، وحرية الصحافة، والعفو عن السجناء السياسيين.
وتولى أربكان منصب نائب رئيس الوزراء وأجاويد رئيساً، وكانت خطوة واسعة للأمام بالنسبة للحركة الإسلامية التي حصلت على مكاسب مهمة في حقيقة الأمر من هذا التحالف، مثل: فتح عدد كبير من مدارس الأئمة والخطباء، وكانت أهم إنجازات هذه الوزارة، إقناع قيادة الجيش التركي بإنزال قواتها في جزيرة قبرص وسط ترحيب شعبي كبير واحتلال أكثر من ثلثها لحماية المسلمين القبارصة "الأتراك"، وأصبحت الحركة الإسلامية المتمثلة في حزب السلامة الوطني رقماً مهماً في الحياة السياسية التركية.. وهو ما لم يكن مقبولاً من النخبة العلمانية التي زادت مخاوفها أكثر وأكثر، فافتُعلت أزمة سياسية واستقال أربكان ومؤيدوه من الوزارة.Img No.##141126##$$
كان أربكان في موقفه الحازم من قضية الإنزال التركي في قبرص زعيماً شعبياً بامتياز... ذلك أن الشعب التركي يعتبر جزيرة قبرص جزءًا من أرضه، خاصة بعد أن قامت بريطانيا بتمكين اليونانيين منها حتى يصبحوا أكثرية، وهي الجزيرة التي لا تبعد سوى ستة كيلومترات عن الموانئ التركية، في حين تبعد عن اليونان أكثر من ستمائة كيلومتر.
ائتلف حزب السلامة الوطني مع حزب العدالة في حكومتي 1975 1978م، وكان أربكان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء، وتبنى الحزب في هذه الفترة قضايا ذات طابع اقتصادي بالأساس، وكان أربكان مسكوناً بتجربة النهوض العظيم في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فقام الحزب بحملة قومية لإنشاء صناعات كبرى خاصة في مجال الأسلحة الثقيلة، فافتتح في 1976م أكثر من مائة مؤسسة صناعية كبرى، وعمل على إصدار قانون يُلغي الفوائد الربوية على القروض الزراعية تيسيراً على الفلاحين، وتم إحلال زراعة الحبوب محل زراعة الدخان... وقام بإصلاحات اجتماعية واقتصادية كبيرة.
وفي عام (1980م) عقد الحزب مؤتمرًا شعبياً تحت شعار: "أنقذوا القدس"، ورُفعت فيه الأعلام الخضراء، وظهرت دعوات لإقامة دولة إسلامية في تركيا!!!! وبدا أن الحركة الإسلامية تتمرد على ذاتها وتستولد لها حجماً جديداً، ولم يكن الزمن مواتياً، ولا الريح موافقة بعد لمثل ذلك، فقام الجيش على الفور بانقلاب عسكري، وسيطر العسكريون على السلطة السياسية، وتم حل الأحزاب، ومن بينها بالطبع حزب السلامة، وتركزت السلطة في يد مجلس الأمن القومي، وقُيِّدت الحريات العامة، ولم يُسمح بدخول انتخابات عام 1983م إلا لثلاثة أحزاب هي: حزب الديمقراطية، ويتكون من جنرالات الجيش المتقاعدين، وحزب الشعب الجناح الأتاتوركي، وحزب الوطن الأم بقيادة "تورجوت أوزال"، وهو الذي فاز في تلك الانتخابات، وظلت الحياة السياسية في تركيا على ما بها من قلق وعدم استقرار. و"أوزال" مهندس كهربائي له خبرة لا بأس بها بالشؤون الاقتصادية والسياسية، وكان من قبل مرشح حزب السلامة الوطني عن ولاية "أزمير"، ويوصف بأنه سفير الغرب في تركيا، ورغم ذلك فإن الحركة الإسلامية في عهده سواء كان في رئاسة الوزراء أو في رئاسة الجمهورية تمتعت بحرية كبيرة، واحتلت مساحة أكبر في الشارع التركي، فقد كان الرجل يرى أن الإسلام المعتدل كإطار أيديولوجي مهم للحد من تطرف الأتاتوركية التي أضرت بالأمة التركية.. وأيضاً لمنع نمو الأفكارالمتطرفة خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران... لذلك تَبَنَّى سياسات إسلامية معتدلة مقارنة بسابقيه، فدعم المدارس التي تُخرِّج الأئمة والخطباء لتصل نسبة خريجيها إلى 20% من خريجي المدارس المتوسطة، وسمح بالدعوة الإسلامية في الإذاعة والتلفزيون، وسمح للفتيات بارتداء الحجاب، بعد أن كان ممنوعاً، وسمح بقيام مؤسسات الأوقاف، كما سمحت السياسات الاقتصادية التي تبناها بوجود شركات ومشروعات إسلامية.
تولى أوزال رئاسة الجمهورية في نوفمبر 1989م، وقبل توليه الرئاسة بيوم واحد نظمت طالبات جامعة "أنقرة" مظاهرة كبيرة اشترك فيها خمسة آلاف طالبة احتجاجًا على منع الحجاب في الجامعات التركية بقرار من المحكمة الدستورية العليا، وأحدثت هذه المظاهرة أثراً كبيراً في الشارع التركي، حيث رأى البعض أن الظهور المكثف للمحجبات هو من قبيل التخطيط السياسي، حيث يقدمون النساء في الواجهة مما يجعل تأثيرهن أقوى ومواجهتهن أقل، ورأى آخرون أن النساء رفعن رايات الانتماء للإسلام بارتداء الحجاب لتثبت الحركة الإسلامية في تركيا أنها موجودة في الوجدان الشعبي، وبذلك استطاعت الحركة الإسلامية أن تنقل معركتها مع العلمانيين إلى الشارع لتحريك المشاعر الإسلامية لدى المواطن التركي، ولا شك أن هذا الأداء من قبل الحركة كان يهدف إلى عدم حدوث انتكاسة للإسلاميين كالتي حدثت في بداية الثمانينيات... وكان أربكان قد أسس حزب الرفاه عام 1983 وكان برنامجه تحت عنوان: "النظام العادل"، مشيراً إلى النظام الإسلامي، وكان برنامج الحزب يهدف إلى إلغاء العلمانية الثورية أو "الشاملة" كما سماها لاحقاً العلامة الدكتور عبدالوهاب المسيري. وخاض به أربكان الانتخابات بعد ذلك. فاستطاع في الانتخابات المحلية عام 1989م أن يحصل على خمس بلديات، وفي عام 1992م كانت المفاجأة الكبيرة في الوسط السياسي التركي بفوزه الكبير في الانتخابات..
كان اقتراب الحركة الإسلامية من السلطة في هذا الوقت اقتراباً حكيماً وئيداً، يستند إلى قاعدة اجتماعية قوية، وكان وجود الرئيس تورجوت أوزال في الحكم بأفكاره غير المتطرفة تجاه الإسلاميين عاملاً مهماً أسهم في تقوية موقفه، إلا أن أوزال توفي بأزمة قلبية مفاجئة في 17-4-1993م قبل أن يكمل فترة رئاسته وتولى الحكم بعده "سليمان ديميريل".Img No.##141128##$$
ومع تنامي الشعورالإسلامي في تركيا وسيادة حزب الرفاه انتخابياً على عاصمتي تركيا: أنقرة وإسطنبول، توحدت أحزاب اليمين واليسار ضده لتستطيع مواجهته، وعلى العكس حقق الحزب فوزًا كبيراً في انتخابات 1994م، وهو ما أقلق الأحزاب المختلفة، فبدأ بعضها يخاطب الجماهير عن طريق فتح معاهد لتدريس القرآن الكريم، كان نجاح تجربة حزب الرفاه في الانتخابات البلدية وتأكيده العملي بأنه حزب نظيف وقريب من الهموم العادية للناس، وارتقاؤه بالخدمات في البلديات التي فاز فيها دون تفرقة بين الناس.. خطوة واسعة أخرى للأمام، وانتقل الحزب من شرعية المسجد إلى شرعية المجتمع بهدوء وقوة وثبات، فحقق شعبية كبيرة رغم ما واجهه من حملات لتشويه أدائه، والتقليل من أهميته، وتجلت هذه الجماهيرية للحزب في الانتخابات البرلمانية في 1995م، حيث حصل على (158) مقعدًا من (550) مقعداً، وحصل في الانتخابات البلدية الجزئية التي جرت في ذلك العام على 33% من الأصوات، وأعقب هذا الفوز الكاسح للرفاه، انهيار الحكومة الائتلافية بين حزبي "الطريق القويم" و"الوطن الأم". وتحالف الجميع ضد وصول حزب الرفاه للحكم، فعهد الرئيس ديميريل إلى تانسو تشيلر زعيمة "الطريق القويم" بتشكيل الوزارة ففشلت.. وقدَّم الرفاه ملفات تُدينها بالفساد، وحصل على موافقة من البرلمان على إجراء تحقيق حول ممتلكاتها الشخصية.
أما "مسعود يلماظ" زعيم حزب "الوطن الأم" فلجأ إلى حيلة المحكمة الدستورية العليا، والتي استطاع الحصول منها على حكم بعدم دستورية اقتراع الثقة على حكومة أربكان، فأدى ذلك إلى فوضى سياسية، مع إصرار عنيد على عدم صعود أربكان لرئاسة الوزارة. لكن الحزب أدار هذه الأزمة بحكمة وخبرة عالية، فكان أن أعلنت تشيلر قبولها الائتلاف السياسي معه على أن يتولى أربكان رئاسة الوزارة وتكون الوزارات السياسية السيادية من نصيب حزب الطريق القويم، وفي يونيو 1996م، تشكلت وزارة ائتلافية برئاسة نجم الدين أربكان، ولأن الفشل في شيء أفضل من عدم خوض التجربة، فقد أصبح أربكان بذلك أول "إسلامي" يصعد إلى قمة السلطة السياسية في العصرالحديث في الشرق الأوسط عن طريق الانتخاب، رغم انه لم يكن هناك ثمة فشل.. فالتجربة على قصرها تعد ناجحة أو بروفة لنجاح آت عما قريب فقد استطاع الرجل في هذه الفترة التي تولى فيها الوزارة وهي عام واحد أن يخفض ديون تركيا من "38" مليار دولار إلى "15" مليار دولار، وقام بسياسات ناجحة في الداخل والخارج بعيدًا عن أي شبه تطرف.. إلا أن المؤسسة العسكرية رأت في نجاحاته الكبيرة خطرًا كبيرًا خاصة أنه اقترب من بعض القضايا الشائكة في تركيا وعلى رأسها القضية الكردية لحلها، وبدأت قيادة الجيش في توجيه انتقادات لاذعة لأربكان، فتأزمت الأوضاع السياسية، مما دفع أربكان إلى الدعوة لانتخابات مبكرة وقدم استقالته من رئاسة الحكومة.
ودون ضجيج أو صخب، كان خيار الحركة الإسلامية الالتحام الأكثر بالشارع والطبقات المعدمة فيه، والسعيد من اعتبر بأمسه، ونظر لنفسه.. وأمس الانقلابات غير بعيد، واستطاعت الحركة الإسلامية في تركيا بذلك أن تقدم نموذجًا فريدًا في الاستجابة لضغوط الواقع السياسي والاجتماعي المفروض عليها والتكيف معه والاستفادة منه دون أن تتخلى عن أفكارها، ودون أن تلجأ إلى العنف.. فرسخت أقدامها أكثر وأكثر في الواقع التركي، واستطاعت أن تدرأ الضرر وتجلب المصلحة بحكمة واقتدار بالغين..
لا غنى لأي مهتم بالحالة التركية من الإلمام الجيد بتركيبة "السلطة الفاعلة" في تركيا.. والتي تشكل المؤسسة العسكرية فيها اليد الضاربة.. لاعتبارات كثيرة أهمها بالطبع الاعتبارالتاريخي لقيام الجمهورية التركية.. يليها دوائر المال ودوائر الإعلام.. الإعلام بمختلف مكوناته ورجال الأعمال الحاضرون دوماً وأبداً في لعبة السياسة والحكم
يذكر لنا التاريخ أن المؤسسة العسكرية كان لها دور بارز على الدوام في جميع الدول التي شكلها الأتراك في التاريخ، كالدولة السلجوقية، والدولة العثمانية، وكان لها دور كبير في جميع الانتصارات والتوسعات التي تمت وجعلت من الدولة العثمانية إمبراطورية كبيرة تمتد فوق ثلاث قارات، ولكنها بمرور الوقت وباشتراكها في السياسة وألاعيبها، تحولت إلى مشكلة كبيرة وسبب قوي من أسباب اضمحلال وسقوط الإمبراطورية العثمانية.
في العهد الجمهوري مارست المؤسسة العسكرية دوراً سيئاً في الحياة السياسية.. تبدَّى ذلك في 3 انقلابات عسكرية كاملة: في 1960م، وفي 1972م، وفي 1980م، ونصف حركة انقلابية عام 1997م عندما ساعدت على إسقاط حكومة أربكان. والمؤسسة العسكرية في تركيا لها وضع شديد الخصوصية، ففي جميع الدول تكون رئاسة الأركان العامة للجيش تابعه لوزارة الدفاع، وتتم جميع التعيينات والترقيات والإحالة للتقاعد أو الفصل من الجيش من قبل هذه الوزارة، إلا أن المؤسسة العسكرية التركية التي يرأسها رئيس الأركان لا ترتبط بوزارة الدفاع، بل برئيس الوزراء، وذلك من الناحية الشكلية فقط، وواقع الحال أنها مؤسسة قائمة بذاتها تماماً، وتقوم باتخاذ جميع القرارات المتعلقة بالجيش دون أن يكون لوزير الدفاع أو لرئيس الوزراء أي سلطة، والقادة الفاعلون هم أعضاء هيئة الأركان التي تضم قادة أقسام الجيش البرية والجوية والبحرية والشرطة العسكرية.. أما الهيئة التي يسيطرون على كل شيء من خلالها فهي لجنة "الأمن القومي".. لكن بمجيء حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم قلص قوة هذه المؤسسة، ومازال في طريقه لتقليص نفوذها تماماً "وقد فصلنا في هذا الأمر في مقالات سابقة".
الجهاز الإعلامي: الجهاز الإعلامي له تأثير قوي، ويغلب على القائمين عليه طابع المخاصمة للدين، وتوجد في تركيا العديد من المؤسسات الإعلامية، ومحطات الإذاعة والتلفزيون، ومعظمها تؤيد العلمانية الشاملة، وتهاجم الإسلاميين بضراوة، وتعمل على إظهارهم بالمظهر الرجعي المنعزل، الكاره للعلم، والحضارة، وكالعادة يعمل الإعلام على إلهاء الجماهير بأخبار الكرة، والمغنيين، والأزياء، والمسلسلات، وكل ما من شأنه تسطيح وعي الناس... وسيتمكن رجب أردوغان فيما بعد من نزع إحدى هذه المؤسسات المهمة من صاحبها وتحويلها إلى ملكية الحكومة بعد كشف التلاعب المالي لصاحبها، وسيتفق مع صاحب أكبر مؤسسة إعلامية والتي تتبع لها "السي إن إن" التركية على ألا تهاجمه ووزارته، وأن تفسح المجال لرجاله بالظهور فيها والكتابة في صحفها..
القوى السياسية
وعلى الجانب الآخر، هناك الأحزاب السياسية والتي تطورت تطوراً كبيراً على مدار ثمانية عقود، هذه الأحزاب تنتمي بدرجة أو بأخرى للتيار اليساري والتيار اليميني والتيار الإسلامي.
وهذه الأحزاب هي
حزب الشعب الجمهوري: الذي أسسه "مصطفى كمال" عام 1923م، وهو أول حزب سياسي بعد إعلان الجمهورية، ويقوده اليوم "دنيز بيكال" 70 عاماً، ويقود المعارضة السياسية في مواجهة حزب العدالة.
2 حزب الطريق القويم: أسسه الزعيم السياسي "سليمان ديميريل"، وهو حزب يميني محافظ، يعتبر نفسه امتداداً للحزب الديمقراطي الذي أسسه "عدنان مندريس" ويقوده اليوم "محمد أغار" الذي انتُخب نائباً لأكثر من مرة، ومعروف عنه تشدده في المسائل القومية. تسلم قيادة الحزب من "تانسو تشيللر"، ويُمثله اليوم في البرلمان نائبان فقط.. أقام ائتلافاً مع حزب الوطن الأم لقطع الطريق على حزب العدالة.
3 حزب الحركة القومية: حزب يميني قومي متشدد أقام عام 1991م ائتلافاً انتخابياً مع حزب الرفاه، واستطاع دخول المجلس النيابي، إلا أنه فشل عام 1995 في تجاوز عقبة 10% من مجموع الأصوات، لكنه في عام 1999 نجح بنسبة 18% ودخل البرلمان بنسبة كبيرة لأول مرة في تاريخ تركيا السياسي.
4 حزب السعادة: وهو امتداد لسلسلة الأحزاب التي أسسها نجم الدين أربكان على امتداد تاريخه السياسي والذي فصلنا فيه سابقاً.
5 حزب الوطن الأم: أسسه الرئيس التركي السابق "تورجوت أوزال" عام 1980م وخلفه في قيادته "مسعود يلماظ" الذي أضعف الحزب، وتعثر في دخول المجلس قبل 4 أعوام. يقوده اليوم "أركان مومجو" الحقوقي 44 عاماً، وهو من المقربين إلى أوزال. المدهش أنه دخل الانتخابات عام 2002م من خلال العدالة والتنمية، وفاز في الانتخابات ليتسلم حقيبة التربية والسياحة، ثم استقال من العدالة وعاد إلى الوطن الأم، وهو الآن من المعارضين الأشداء للعدالة.
6 حزب اليسار الديمقراطي: هو امتداد لحزب الشعب الجمهوري، أسسه مجموعة من السياسيين اليساريين تحت فكرة يسار الوسط وعلى رأسهم "أجاويد" المولود في إسطنبول عام 1925م، وانضم لحزب الشعب الجمهوري، حيث تدرج فيه إلى أعلى المناصب القيادية، وكان الساعد الأيمن لعصمت إينونو التلميذ النجيب لأتاتورك، دخل البرلمان مبكراً، وانتُخب أكثر من مرة، واختير رئيساً لمجلس الوزراء، وخلال وجوده في السجن ومنعه من ممارسة العمل السياسي أدارت زوجته شؤون الحزب. تسلم "أجاويد" الدفة في الحزب حتى وفاته مؤخراً. كان أكبر فوز حققه عام 1999 بحصوله على 22% من مجموع الأصوات. حزب اليسار الديمقراطى علماني متطرف، وظهر ذلك عندما وقف في وجه "مروة قواكجي" النائبة التي حاولت قسم اليمين البرلمانى وهي محجبة فمنعت من ذلك.
7 حزب العدالة والتنمية الذي يحكم الآن، وخرج منه رئيس الجمهورية عبدالله جول، وقد تناولت المجتمع تاريخه بالتفصيل في أعداد سابقة.
التعامل مع الواقع العلماني
استطاعت الحركة الإسلامية التعامل مع واقع النظام العلماني في تركيا وفق منطق "على العاقل أن يقتصد في الرغبات الحكيمة"، بدقة ووعي، فاستطاعت التقدم وانتزاع شرعية جماهيرية ضاربة.. وهو النموذج الذي يقدمه الآن حزب العدالة ببراعة....
حزب العدالة يمتلك الآن قيادة شابة جديدة، أدت أدواراً سياسية بامتياز، وهذه القيادة الجديدة تعتقد اعتقاداً واضحاً أن القيم الإسلامية لها دور مهم تلعبه في الحياة السياسة التركية، بل وفي المجتمع التركي بأكمله، حتى لو لم يتم السماح بتطبيق الشريعة الإسلامية، فقيمة العدل، وقيمة الحرية، وقيمة الغنى والكفاية.. كلها قيم إسلامية فى الصميم، وإن لم تتحرك بها في المجتمع بشعارات إسلامية.. وأتصور أنه كلما عاش الإسلاميون حساسية الحركة باتجاه خط "الإنسان الكريم".. كلما كانوا أكثر اقتراباً وتماساً مع فكرة "الدولة الإسلامية" ومع فكرة "المجتمع المسلم".. ولفوتوا الفرصة على الموتورين الكارهين لفكرة "الإيمان بالله الخالق المهيمن الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله"، ولكنهم كما كان يقول العقاد لا يجرؤون على التصريح بذلك.. فيهاجموا الإسلاميين فإذا ما قام الإسلاميون داعين إلى "دولة الإنسان الكريم" بكل ما تعنيه الكرامة من عدل، وحرية، وغنى، ومعرفة.. فقد أدوا ما عليهم كأصحاب دعوة ورسالة، دون المرور بطريق الألغام والفخاخ