تقرير عن انتهاكات حقوق الإنسان في سورية لعام 2010م
جمعية (مظلوم دار) لحقوق الإنسان والتضامن مع المظلومين
فـــهــرســـــــت
نظرة عامة .................................................................
القضاء والاعتقالات والسجون في سورية ....................................
الانتهاكات التي تعرّضت لها جماعة الإخوان المسلمين في سورية ............
انتهاكات حقوق الإنسان تجاه الأكراد في سورية ............................
الخاتمة والمقترحات .......................................................
الملفات المرفقة ...........................................................
أولاً: نظرة عامة
مجزرة حماة في 2 من فبراير (شباط) 1982م، والوضع العام لانتهاكات حقوق الإنسان في سورية:
ارتُكِبَت مجزرة رهيبة، في إحدى أكبر المدن السورية الشهيرة: حماة، وذلك بتاريخ 2/2/1982م، وهي المجزرة الأسوأ من نوعها -يرتكبها نظام حكمٍ ضد شعبه- في التاريخ الحديث. ونظراً لشحّ المعلومات الواردة عن هذه المجزرة الكبرى، ولتواطؤ المجتمع الدوليّ مع النظام الحاكم المنغلق على نفسه.. فإنه لم تُتَّخَذ أي ردود أفعالٍ تجاه مرتكبيها حتى اليوم.
إنّ ما يقرب من عشرين ألفاً من سكّان حماة (في أقل تقدير) قد لقوا حتفهم، على أيدي قوات النظام الحاكم، فقد استمر القصف العشوائيّ الوحشيّ حوالي (21) يوماً، بدءاً من تاريخ 2/2/1982م، ثم بدأت عمليات المداهمة والاعتقال لسكان المدينة، فاعتُقِل عشرون ألفاً تقريباً، من رجال المدينة وشيوخها وأطفالها، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 13 و70 سنة، ولم يُعرَف مصيرهم حتى اليوم. وامتدّت حملات القمع إلى بعض المدن السورية الأخرى، ما سبّب وقوع مآسٍ عميقةٍ في المجتمع السوريّ، فوصل عدد الشهداء والمعتقلين والمفقودين في الأيام التي تلت المجزرة الكبرى.. إلى أكثر من سبعين ألفاً من الرجال والنساء والأطفال. كما وصل عدد النازحين من المدينة في الفترة نفسها، إلى عشرات الآلاف، إذ اضطروا إلى مغادرة البلاد –مكرَهين- خوفاً على أرواحهم، وقد وصل عدد هؤلاء حالياً، مع أبنائهم وبناتهم وأحفادهم، إلى مئات الآلاف، يمنعهم النظام جميعاً من العودة إلى وطنهم من ديار الغربة والشتات. وكل ما يصدر عن النظام ومسؤوليه من تصريحاتٍ حتى الآن، حول عودة هؤلاء إلى بلدهم، لم تتجاوز الوعود الكلامية الخلّبية، بل إنّ عشرات الأشخاص من الذين خُدِعوا بتلك التصريحات، قد اعتُقِلوا وما يزالون في السجون السورية حتى الآن.
خلال المجزرة، دُمِّر (83) مسجداً ومركزاً إسلامياً، وأربع كنائس، و(52) صيدلية، وبعض المعالم الأثرية في المدينة، وبعض المراكز الصحية والعيادات والأسواق التجارية (التي نُهِبَت من قِبَل جنود القوات المهاجِمة)، وعدد كبير من المدارس. ونتيجة عمليات المداهمة الواسعة، فقد أصبحت الخسائر البشرية الضخمة أمراً لا مفرّ منه. علماً بأنّ هذه الانتهاكات التي ارتكبها نظام البعث الأسديّ، لم يسلم منها حتى المسيحيون في المدينة.
* * *
إنّ القوانين التي سنّتها السلطات السورية في بلادٍ محكومةٍ بالأحكام العُرفية، ولا تزال سارية المفعول.. هي منشأ الأعمال التعسّفية، وهي تتناقض مع القانون الدوليّ وحقوق الإنسان، ومن أبرزها:
1- قانون إعلان حالة الطوارئ والأحكام العُرفية، الذي جُدِّدَ بتاريخ 8/3/1963م.
2- قانون حماية الثورة، بتاريخ 7/1/1965م.
3- قانون إحداث محكمة أمن الدولة، بتاريخ 28/3/1968م.
4- قانون إحداث المحاكم الميدانية العسكرية، بتاريخ 17/8/1968م.
5- قانون إحداث إدارة أمن الدولة، بتاريخ 15/1/1969م.
6- الدستور الدائم، الذي فُرِضَ بتاريخ 13/3/1973م
7- القانون رقم (49)، بتاريخ 7/7/1980م
8- قانون تنظيم المهن، بتاريخ 21/8/1981م.
يُعتَبَر القانون رقم (49) لعام 1980م، الذي يحكم بالإعدام لمجرّد الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين.. من أشدّ القوانين انتهاكاً وتناقضاً مع حقوق الإنسان، وهو لا يزال ساري المفعول حتى الآن.
كما يعاني الأكراد في سورية من القمع السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، وإنّ التمييز العرقيّ الذي يقوم به النظام السوري ضد أكراد سورية، يجعل هذه المشكلة مستعصيةً على الحلّ. فما يقرب من ثلاث مئةٍ وخمسين ألفاً من الأكراد، من أصل مليونٍ ونصف المليون كرديٍّ سوريّ.. محرومون من الجنسية، بل يحملون بطاقاتٍ شخصيةً كُتِبَ عليها كلمة: (أجنبي)، وهؤلاء لذلك، محرومون من حق الانتخاب والتملّك والعمل في المؤسّسات الحكومية، ومن المعالجة في المستشفيات الحكومية، ومن السياحة الحرّة. كما إنهم محرومون من توثيق عقود زواجهم قانونياً ورسمياً، ومن تسجيل واقعات ولادات أبنائهم وبناتهم، إذ يحمل هؤلاء صفة: (مكتوم)، أي غير مسجَّل في دوائر السجلّ المدنيّ السوريّ. كما إنهم يحتاجون دوماً إلى موافقةٍ أمنيةٍ صعبةٍ من الشعبة السياسية للمخابرات، لتسجيل أبنائهم وبناتهم في المدارس، ضمن سياسة إقصائهم عن التعليم، ما رفع نسبة الأمية في صفوفهم إلى نسبةٍ عالية.
وعلى الرغم من الوعود التي أطلقها رئيس النظام السوري: بشار الأسد، لحلّ المشكلة الكردية في سورية، وذلك منذ توليه المسؤولية في عام 2000م.. إلا أنه لم تتمخّض عن هذه الوعود أي نتائج إيجابية، فبقي التمييز ضد الأكراد قائماً، مع أن منظمات حقوق الإنسان ترصد –بقلقٍ بالغٍ- هذا التمييز، وتطالب بوقفه.
* * *
ما تزال سورية –التي أسّست علاقاتٍ طيبةً مع تركية- بحاجةٍ إلى اتخاذ خطواتٍ مهمةٍ لحماية حقوق الإنسان، إن أرادت كسب الاحترام في الساحة الدولية، وينبغي على الحكومة السورية أن تقوم بخطواتٍ إصلاحيةٍ حقيقية، لإنهاء سياسات التمييز ضد الأكراد بما يتوافق مع القانون الدوليّ. كما ينبغي عليها إلغاء القوانين الاستثنائية المتَّخَذَة ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، ورفع القيود عن عودة المهجَّرين إلى وطنهم، ووقف كل أشكال التعذيب والاعتقال التعسفيّ.
كل ما ذكرناه آنفاً من خطواتٍ مطلوبة، ينبغي أن تكون ضمن حزمة إصلاحاتٍ واقعيةٍ مُقنِعة، وليست شكليةً تبقى مجرّد أقوالٍ لا أفعال. ولا شك بأنّ قيام الحكومة السورية بالإصلاحات اللازمة والمصالحة مع مواطنيها.. سيجعل من سورية دولةً مساهِمةً –بشكلٍ واقعيٍّ- في السلم الإقليميّ والدوليّ.
* * *
إنّ (جمعية مظلوم دار) تتمنى أن يكونَ تقريرها هذا، وسيلةً للبدء بعملية انفتاحٍ ديمقراطيٍّ حقيقيٍّ من قِبَلِ الرئيس بشار الأسد، كما فعل الرئيس التركيّ، الذي وعد بعفوٍ شاملٍ عن منتسبي حزب العمال الكردستاني (ب ك ك).. وذلك تناغماً من قِبَل سورية مع تركية، في مسيرة الانفتاح الديمقراطيّ.
إنّنا في (جمعية مظلوم دار)، نناشد السلطات السورية، للقيام بما يلي:
1- إلغاء القوانين التي تتناقض مع حقوق الإنسان، بما في ذلك القانون رقم (49) لعام 1980م، والقيام بإصلاحاتٍ عامةٍ في القضاء.
2- فَتح أبواب السجون والمعتقلات، أمام مراقبي حقوق الإنسان.
3- الكشف بشفافيةٍ عن مصير المفقودين، أمام الرأي العام، لاسيما الذين فُقِدوا منذ أحداث حماة، ومحاكمة المسئولين عن هذه الانتهاكات. وضمان عودة المهجَّرين إلى وطنهم بسلام، والتعويض على المتضرّرين.
4- ضمان الحقوق الأساسية للأكراد، وحَلّ مشكلة المواطَنة لهم، ووقف كل أشكال التمييز العرقيّ والمذهبيّ ضدّهم.
5- الأخذ بالاعتبار، بأنّ التقادم لا يُعتَمَد –قانونياً- فيما يتعلّق بالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وإنّ عدم إرساء العدالة ورَدّ الحقوق إلى أصحابها.. سيدفع المجتمع الدوليّ إلى اتّخاذ الموقف الحازم اللازم، كما حصل في (رواندا) و(سربرنيتشا)، وهذا ليس من مصلحة سورية، دولةً وحكومةً وشعباً.
أحمد فاروق أنسال
رئيس جمعية مظلوم دار
* * *
ثانياً: القضاء، والاعتقالات، والسجون في سورية
أ- القوانين والمحاكم:
إنّ الإصلاح والتغيير في سورية، يجب أن ينصبّ أولاً، على بعض القوانين المعمول بها، لكونها تُشكِّل الغطاء لانتهاكات حقوق الإنسان. ويأتي في طليعة ذلك، قانون (الطوارئ والأحكام العُرفية)، وقانون (حماية الثورة)، لكونهما قائمَيْن على تقييد الحريات الأساسية وحقوق الإنسان.
إنّ أبرز القوانين السورية التي تتناقض مع حقوق الإنسان، وتحمل معنى الإكراه الضمنيّ، هي:
1- قانون حماية الثورة، بتاريخ 7/1/1965م.
2- قانون إحداث محكمة أمن الدولة، بتاريخ 28/3/1968م.
3- قانون إحداث المحاكم الميدانية العسكرية، بتاريخ 17/8/1968م.
4- قانون إحداث إدارة أمن الدولة، بتاريخ 15/1/1969م.
5- الدستور الدائم، الذي فُرِضَ بتاريخ 13/3/1973م.
6- القانون رقم (49)، بتاريخ 7/7/1980م.
7- قانون تنظيم المهن، بتاريخ 21/8/1981م.
هذه القوانين المذكورة آنفاً، تمنح صلاحياتٍ واسعةً، لاسيما لمحكمة أمن الدولة، التي يحاكَم فيها المعارِضون السياسيون، ما يجعل القضاء السوريّ قابلاً للانتهاك بغطاءٍ قانونيّ. على سبيل المثال: القانون رقم 49 لعام 1980م، يعتبِر مجرّد الانتساب لجماعة الإخوان المسلمين من الجرائم الكبيرة، ويحكم على المنتمين إلى الجماعة بالإعدام، وما يزال هذا القانون يشكِّل محوراً أساسياً لانتهاك حقوق الإنسان، إذ حتى مجازر حماة، ارتُكِبَت تحت غطائه. وكذلك على صعيدٍ آخر، فإنّ الصحافة والكتابة والنشر بواسطة الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، تعاني من مضايقاتٍ واسعة، ما يحدّ من حرية الرأي والتعبير، التي طالت الأنشطة السياسية والحركات السياسية المعارِضة للنظام.
* * *
إنّ الاتهامات التي يواجهها المعارِضون السياسيون بشكلٍ عام، هي: الانتساب إلى المنظمّات والأحزاب السياسية، وإشاعة المعلومات التي تنال من هيبة الدولة، وتوهين نفسية الأمة، وإثارة النعرات الطائفية والعرقية، وتحقير رئيس الدولة.
كما إنّ الإجراءات القضائية المعمول بها في المحاكم السورية، تُشكِّل انتهاكاً لا شبيه له بين مثيلاتها في العالَم، إذ إنّ بعض تقارير (منظمة مراقبة حقوق الإنسان)، تشير إلى أنه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، استغرقت بعض المحاكمات دقائق معدودةً فحسب، بل إنّ بعضها استغرق أقل من دقيقةٍ واحدة، ولم يُسمَح للمتَّهَمين بتوكيل محامين عنهم، بل إنّ مَن طالب بذلك كان يعاقَب عقوباتٍ قاسية. ويروي أحد المحامين: [إنّ المتّهَمين كانوا يُقتادون إلى قاعة المحكمة معصوبي الأعين، وقد جُرِّدوا من حقِّهم في توكيل محامين عنهم]. وقد أوردت منظمة مراقبة حقوق الإنسان في تقريرها المنشور عام 2005م، بأنّ السلطات السورية لم تسلّم المحامين -الموكَل إليهم الدفاع عن بعض المتّهمين- الملفَّ القضائيّ لكلّ متّهم، وأنه أحياناً لم يُسمَح لهؤلاء المحامين بمقابلة موكِّليهم.
وفي تقريرها بعنوان: (محكمة أمن الدولة العليا، البعيدة عن العدالة)، تُبيّن منظمة مراقبة حقوق الإنسان، بأنّ آلاف السوريين يحاكَمون ثم يُسجَنون خلافاً للقوانين الدولية، وذلك في مثل تلك المحاكم التي زُوِّدَت بصلاحياتٍ غير محدودة. ويجري ذلك كله بموجب تهمة (الخطر على الدولة)، وبالتالي فهذه المحاكم تتبع وزارة الداخلية مباشرةً، وتتصرّف اعتماداً على قانون الأحكام العُرفية، ولا تخضع الأحكام الصادرة عنها للتدقيقات القضائية. وهكذا، فمنذ شهر يناير (كانون الثاني) لعام 2009م، قامت محكمة أمن الدولة العليا بمحاكمة مئتي شخصٍ تحت بند: (إساءة استخدام حرية التعبير). علماً بأنه لا يُسمَح للمتّهمين في تلك المحاكم، بالدفاع عن أنفسهم، ولا بالطعن بالأحكام الصادرة بحقّهم من قِبَلِ محكمةٍ تعسّفيةٍ وغير شرعية.
* * *
إنّ معظم المتّهمين الذين حُوكِموا في محكمة أمن الدولة العليا، منذ ثلاث سنوات، هم من المسلمين الموصوفين بالإسلاميين، الذين اتُّهِموا بحيازتهم الأقراصَ الصلبة الممغنطة (سي دي) وكُتُب علماء الإسلام الذين تعتبرهم السلطات من المتشدِّدين أو المتطرِّفين. وبهذه الطريقة وفي هذه المحكمة، يحاكَم أيضاً الأكراد، وكُتّاب المدوّنات على الشبكة العنكبوتية.
لقد تقدّمت (جمعية مظلوم دار) بطلبها إلى القنصلية السورية في إستانبول، للسماح لمراقبي حقوق الإنسان بالاطّلاع على أحوال المعتقلين، وذلك بناءً على الادّعاءات التي وصلتها من مواطنين سوريين، لكنّ القنصلية تجاهلت الطلبات المتكرّرة، ولدى إلحاح الجمعية، فقد اضطرّت القنصلية السورية لرفض هذه الطلبات بوضوح، وعلى الرغم من أنّ الجمعية أحضرت كل الوثائق المطلوبة إلى المسئولين السوريين في القنصلية، إلا أنّ محاولاتها كلها قد باءت بالفشل.
ب- التوقيفات غير الشرعية، والاعتقالات التعسّفية:
وهي من أهمّ الانتهاكات الملموسة المعروفة في سورية، فكل من يُشتَبَه بهم أنهم معارِضون للنظام الحاكم.. يواجهون خطر الاعتقال والإيقاف في أية لحظة، إلى درجة أنّ ذويهم -غالباً- لا يعرفون مصيرهم، ومن النادر أن تتسرّب أنباء الاعتقالات إلى وسائل الإعلام أو إلى منظّمات حقوق الإنسان، لأنّ معظم الاعتقالات –لاسيما للمنتمين إلى الحركات الإسلامية- تقع في ساعةٍ متأخِّرةٍ من الليل، ولا يجرؤ ذووهم على إبلاغ الصحافة بذلك، خوفاً من بطش السلطة.
إنّ أجهزة المخابرات تعمل وفق قانون الطوارئ والأحكام العُرفية المفروضة استثنائياً منذ عام 1963م، وتتصرّف تحت ذريعة: كشف التهديدات ضد الدولة، وتتحرّك –غالباً- بناءً على معلوماتٍ غير صحيحة، وغير مؤكَّدة، لذلك فتصرّفاتها تُعتَبَر غيرَ شرعيةٍ أو قانونية. وإنّ أغلبية حالات الإيقاف تتحوّل إلى اعتقالات، والقليل منها ينتهي بالإفراج بعد معاناةٍ مريرة.
لقد رصدت (منظمة مراقبة حقوق الإنسان في سورية)، أخباراً مؤكّدةً عن اعتقالاتٍ تعسّفيةٍ وتوقيفاتٍ غير شرعية، من ذلك:
- لقد تعرّضت عشرات البيوت في مدينة حمص عام 2006م، إلى مداهماتٍ من قِبَل أجهزة الأمن، بتهمة علاقة أصحابها بحزب التحرير الإسلاميّ، واعتُقِل عدد كبير من الناس. وبالتهمة نفسها كذلك، تعرّضت عيادة طب الأسنان لمالكها (ياسين الحديد) للمداهمة، واعتُقِلَ صاحبها مع جميع موظّفيها.
- في عام 2007م، اعتُقِلَ الشاب (سفيان بكور)، لكونه ابناً لـ (محمد بكور) الذي كان يعيش في العراق، وذلك للضغط على أبيه، كي يبتعد عن سياسة المعارَضة للنظام، علماً بأنّ الأب لم يثبت عليه القيام بأي نشاطٍ معارِض أو الانتماء إلى أي تنظيمٍ معارِض. وفي الحقيقة، الضغط على العائلات والأقارب، سياسة تتّبعها السلطات السورية مع مواطنيها، عندما يكونون خارج البلاد وتعجز عن اعتقالهم، وذلك لإجبارهم على تسليم أنفسهم.
- حتى الأجانب لهم نصيب من الاعتقالات التعسّفية، وأعداد الذين اعتُقِلوا منهم ليست قليلة، إذ إنّ بعض الذين يذهبون إلى سورية لزيارة أقاربهم أو قضاء إجازاتهم أو للاستشفاء هناك.. يُعتَقلون بتهمٍ مفبركة، كالانتماء إلى الفكر الوهابيّ، أو العزم على العبور إلى العراق. وهؤلاء يتعرّضون –كغيرهم من المعتقلين- للتعذيب. على سبيل المثال: اعتقِل المواطن السعوديّ (عمر حسن) وهو عائد إلى بلده (السعودية) من دمشق، ثم اتصل بأهله أشخاصٌ مجهولون يطلبون فديةً لإطلاق سراح ابنهم، مقدارها خمسون ألف ريالٍ سعوديّ، ولم تتمكّن عائلته من الاطّلاع على وضعه في المعتقَل.
- وسوى السعوديين، فالسجون السورية تضم أكثر من ألفي معتقلٍ أردنيٍ وفلسطينيٍ ولبنانيٍ وعراقيّ، حسب تقارير منظمة مراقبة حقوق الإنسان في سورية، التي تفيد أيضاً، بأنّ السجون السورية كانت تضمّ في الثمانينيات من القرن الماضي، أعداداً كبيرةً من الأردنيين، لكن من المحتمَل أن يكونَ هؤلاء قد لقوا حتفهم بسبب التعذيب، أو بسبب الظروف الأخرى القاسية في تلك السجون.
- في هذا السياق، تلقّت جمعيّتنا معلوماتٍ من المواطن السوريّ الحمويّ: (حيّان محمد الرزّوق)، بأنه كان قد هاجر من سورية بعد أحداث حماة 1982م، وأقام في العراق، وأنّ ابنه (عمر حيّان الرزّوق) المولود في بغداد عام 1985م، وهو طالب في كلية الهندسة، قدّم طلباً إلى السفارة السورية في بغداد، مُبدياً رغبته بالعودة إلى بلده، فزوّدته السفارة بخطابٍ رسميٍ يفيد بأنه لا مانع لدى السلطات السورية من العودة، فغادر العراق بتاريخ 17/11/2005م، لكنه اعتُقِلَ فور وصوله إلى سورية، بلا سبب، ثم أحيل إلى محكمة أمن الدولة العليا، وَجُوبِهَ فيها بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من أنه مولود خارج سورية، وهو يزورها لأول مرةٍ في حياته، ولم ينفعه دفاعه عن نفسه بأنه ليس عضواً في أي تنظيمٍ أو جماعة، وحُكِمَ عليه بالإعدام حسب القانون رقم 49 لعام 1980م، بتاريخ 13/12/2009م، وذلك بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، ثم خُفِّف الحكم إلى السجن مدة (12) عاماً، بسبب تعليق تنفيذ قرارات الإعدام في الوقت الراهن.. أما (والدة عمر الرزّوق)، فهي تعيش حالياً في سورية، بينما يعيش والده وشقيقاه خارج سورية، ولا يجرؤون على مجرّد التفكير بالعودة إلى وطنهم.
ج- التعذيب:
حسب متابعات (جمعية مظلوم دار)، وحسب تقارير العديد من منظمات حقوق الإنسان، فإنّ التعذيب في السجون السورية يمارَس بشكلٍ منهجيّ. أما مدته ومدى قسوته، فيتعلّق بنوع التهم الموجّهة إلى السجين، فهو طويل المدة وشديد بالنسبة للمعتقَلين السياسيين، وبخاصةٍ المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين أو الأكراد، ومع ذلك، فإنّ المعتقلين الآخرين يتعرّضون لأساليب متنوّعةٍ من التعذيب الشديد. وسبب انتشار التعذيب في سجون النظام السوريّ، هو أنّ السلطات السورية لا تلتزم بالاتفاقات الدولية التي تمنع التعذيب.
ومما تذكره منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان في سورية، من أساليب التعذيب في السجون السورية:
ضَرْبُ جميع أنحاء الجسم باللطم والركل، والضرب بالعصا الحديدية أو الهراوات أو بالأحزمة الجلدية، وضع المعتقَل في الماء البارد ثم الساخن، قلع الأظافر، الربط إلى إطارات المركبات، الضرب بالعصيّ على أخمص القدمين، ربط المعتَقَل على ما يُسمى ببساط الريح الخشبيّ، التّعذيب بالكهرباء، الضّرب بأسلوب الشّبح، إذ يُضرَب المعتقَل أو يُصدَم بالكهرباء، بعد ربط يديه من الخلف وهو معلّق في الهواء، أو إدخال الحديد السّاخن في دُبُره، بعد إجباره للجلوس على جهازٍ خاص، تعليق المعتقل على المروحة وهي تدور في السّقف ثمّ ضربه، إخماد السّجائر على الأجزاء الحسّاسة في البدن، اقتلاع الشعر أو الجلد بالملقط، الاعتداء الجنسيّ، الصّعق بالكهرباء على الأجزاء الحسّاسة وخصوصاً الأعضاء التناسلية، كسر عظام الذّراع والسّاق، إجبار المعتقل على الانتظار على قدمٍ واحدةٍ مدّةً طويلة، أو إجباره على الركض وهو يحمل أحمالاً ثقيلة، إجبار المعتقل على الجلوس على القنّينة وإدخالها في دُبُره، عزل المعتقل في حجرةٍ مظلمةٍ أياماً عدّة، إبقاء المعتقل تحت الضوء طوال اللّيل والنهار، التّسبّب في مشكلة ضعف السّمع بعد جعله يستمع إلى الأغاني بصوتٍ مرتفعٍ أو سماع أصوات المعذَّبين وبكائهم، تهديده باغتصاب أقاربه أو كسر عظامهم أو قتلهم، إيذاء المعتقَل بمشاهدة التّعذيب للمعتقلين الآخرين أو باغتصاب أقاربه أمامه، إيذاء المعتقَل بإساءاتٍ وشتائم غليظة، إذلال المعتقَل بإجباره على خَلْع ثيابه أمام الآخرين، حرمان المعتقَل من النّوم والطعام والهواء النّظيف واستخدام الحمّامات ومقابلة زوّاره.
لقد أدّى التعذيب إلى إصابة المعتَقَلين بالأمراض المزمنة، ثم إلى الوفاة بعد حرمانهم من تَلقّي العلاج. وتفيد منظمة مراقبة حقوق الإنسان في سورية، بأنّ مئات المعتَقَلين السوريين قد لَقوا حتفهم، منذ عشرين عاماً، بسبب تعذيبهم. بينما تقوم السلطات بتزوير أسباب وفاتهم، فتلفِّق التقارير الطبية على أنهم توفّوا –مثلاً- بالأزمة القلبية.
د- المفقودون:
إنّ مُعَارضي النّظام السّوري تحديداً يختفون بعد اعتقالهم، وتشير تقارير منظّمة العفو الدولية في الفترة ما بين عامي 1990-2000م، بأنّ كثيراً من المواطنين السوريين، وبخاصةٍ من منتسبي جماعة الإخوان المسلمين، قد اعتُقِلوا في بداية الثّمانينيّات بدون محاكمة، ولا يستطيع أقرباؤهم الحصول على أيّ خبرٍ عنهم، وهل ما يزالون أحياءً أم أمواتا. وهكذا، فقد وصل عدد المفقودين إلى أكثر من عشرين ألف شخص، ولا توجد أيّة معلوماتٍ عن مصيرهم. وتفيد منظّمة مراقبة حقوق الإنسان في سورية، بأنها قد استلمت عدداً كبيراً من الطّلبات، وغالبيّتها تتعلّق بالمفقودين في الثمانينيّات. وقد استطاعت (جمعية مظلوم دار)، جَمْعَ حوالي خمسة آلافٍ من أسماء المفقودين، من بين عشرين ألفاً، هم مجموع المفقودين حسب معظم التقديرات، وستعمل الجمعية على إثارة هذه القضية أمام الرأي العام والمنظمات الدولية.
من أهم القضايا التي تتعلّق بالمفقودين، ويجب التّركيز عليها بحثاً ودراسةً: المقابر الجماعيّة، إذ يُعتَقَد بأنّ الكثير من المفقودين آل بهم الأمر إلى هذه المقابر، لكنّ الإشكالية هي في أنّ معظم الجثث التي عُثِرَ عليها في بعض هذه المقابر، وثُبِّتَت وقائعها من قبل منظّمات حقوق الإنسان.. قد دُمِّرَت آثارها من قِبَلِ السلطات السورية، أو أُلقِيَت في البحر قرب مدينة طرطوس، وتحديداً في منطقة الميناء، وذلك في محاولةٍ لتغطية المجازر التي ارتكبتها تلك السلطات، ولتبديد جهود منظّمات حقوق الإنسان.
* * *
إنّ لدى جمعيّة مظلوم دار قائمةً مكوّنةً من خمسة آلاف مفقود، من بين عشرين ألفا، وسوف نعلن عن بعضها في ذيل هذا التّقرير، وإننا سنتعاون في هذا المجال مع جميع أصحاب الطلبات، التي يمكن أن تردنا من الأطراف المعنيّة بها، سواء أكانت من المحاكم، أو من منظّمات حقوق الإنسان.
إننا نعتقد بأنّ الكثيرين من المفقودين بعد مجزرة حماة، لا يُعرَف مآلهم، ولعلّهم أصبحوا في عِداد الأموات، ولكنّ أقاربهم وذويهم يطالبون بكشف مصيرهم حتّى لو كانوا أمواتا. لذلك ينبغي على الجمهورية العربية السورية، أن تُـجيبَ على الأسئلة المطروحة عن مجهولي المصير هؤلاء، الذين يُقَدَّر عددهم بعشرين ألف شخص، عاجلاً غير آجل، وأن يُبَلَّغ الرأيّ العام بأيّ خطواتٍ اتـُّخِذَت إلى الآن في شأن هؤلاء المفقودين، سواء أكان ذلك رسمياً أم غير رسميّ.
ثالثاً: الانتهاكات التي تعرّضت لها جماعة الإخوان المسلمين في سورية
أ- خلفية تاريخية:
تأسّست جماعة الإخوان المسلمين -ذات الجذور الإسلامية- في مصر، في ثلاثينيات القرن الماضي، من قِبَل الشيخ حسن البنّا رحمه الله، ثم تأسّس فرع لها في سورية من اجتماع مجموعة جمعياتٍ منتشرةٍ في حماة والمدن السورية الأخرى، واختير الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله رئيساً لها، وأُطلِقَ على رئيسها اسم: المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين. وباشرت الجماعة نشاطَها الاجتماعيّ، بإنشاء الجمعيات الخيرية والمدارس والمستشفيات والمؤسّسات التضامنية الأخرى، وذلك في المدن السورية المختلفة، كدمشق وحلب وحماة واللاذقية ودير الزور.. وغيرها. وقد شاركت الجماعة في الانتخابات البرلمانية عام 1947م، فحصلت على ثلاثة مقاعد، ثم شاركت بقوةٍ أكبر في انتخابات عام 1951م، فحصلت –بالتحالف مع بعض القوى الوطنية- على ثلاثةٍ وثلاثين مقعداً، من أصل (142) مقعداً يشكّل كامل البرلمان السوريّ في ذلك الوقت.
ب- تولّي حافظ الأسد السلطة:
بعد جلاء الاستعمار الفرنسيّ عن سورية في عام 1946م، عاشت البلاد فترةً عصيبةً من عدم الاستقرار، واستطاع حزب البعث الاستيلاء على السلطة بانقلابٍ عسكريٍّ في عام 1963م. ثم استطاع الضابط حافظ الأسد أن يُحَسِّن موقعه في الحزب والجيش، إلى أن صار عضواً في القيادة القومية للحزب في عام 1965م، واستولى على قيادة سلاح الجوّ ووزارة الدفاع.
بعد سلسلة انقلاباتٍ عسكرية، قام وزير الدفاع حافظ الأسد في عام 1970م بانقلابه العسكريّ، ليصبح رئيساً للجمهورية، ثم نفّذ حزمة إجراءاتٍ دكتاتوريةٍ إقصائيةٍ في البلاد، بحق جميع القوى الوطنية، وكانت سياسته ضد التيار الإسلاميّ –لاسيما الإخوان المسلمين- أشد قسوةً وضراوة، إذ قام بإجراءاتٍ استفزازيةٍ واستئصاليةٍ دموية، تحدّى فيها عقيدة الأمة ودينها، وفتح سجونه ومعتقلاته لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين وأقاربهم، ولكل مَن يرفض هذه السياسات الدموية والدكتاتورية من أبناء الشعب السوريّ.. فوقعت المواجهات بين الشعب والسلطة، وتصاعدت وتيرة الأحداث، وأوصد النظام أي بابٍ للحلّ، بل استمرّ في عمليات الاستئصال، فاعتقل الآلاف من أبناء الجماعة وبناتها، وعشرات الآلاف من أبناء الشعب السوريّ، رجالاً ونساءً. وتعرّض هؤلاء لمختلف أنواع التنكيل والتعذيب والقتل. واضطر مئات الآلاف من السوريّين إلى الهجرة القسرية والعيش في المنافي.
* * *
من الجدير بالذكر، أنّ حافظ الأسد ينتمي إلى الطائفة النصيرية، وهي أقلية لا تتجاوز نسبتها 8% من مجموع الشعب السوريّ. وقد قامت هذه الطائفة بزعامة حافظ الأسد وعائلته وأقاربه، بالاستيلاء على المناصب الرئيسية والقيادية في الدولة والجيش. وحكم حافظُ البلادَ بقبضةٍ حديدية، واستبدّ بها، فمنع النشاط السياسيّ، وحَلّ الأحزاب الوطنية، وفرض قانون الطوارئ والأحكام العُرفية، ومنع الصحافة التي لا تنتمي للدولة، ومُنِعَت جماعة الإخوان المسلمين من القيام بأي نشاطٍ اجتماعيٍّ أو سياسيّ، وحَظَرَ الأحزاب المعارِضة، بل قام بعمليات اغتيالٍ ضدّهم في داخل سورية وخارجها.
ولعلّ أشد الإجراءات بشاعةً، هي تمرير القانون رقم 49 في عام 1980م، عبر البرلمان الصوريّ، وهو القانون الذي يحكم بالإعدام على مجرّد الانتماء التنظيميّ إلى جماعة الإخوان المسلمين، إذ تنصّ المادة الأولى من هذا القانون على ما يلي: [يُعتَبَر مجرماً ويُحكَم بالإعدام، كل مَن ينتسب لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين].
وبذلك أضفِيَت شرعية صورية على المجازر والتصفيات الجسدية التي ارتكبها النظام الحاكم بقيادة حافظ الأسد. وتنفيذاً لهذه السياسة أعطِيَت الأوامر لـ (سرايا الدفاع) بقيادة رفعت الأسد شقيق حافظ، بتاريخ 27/6/1980م.. لمداهمة سجن تدمر الصحراويّ وقَتْلِ كل مَن كان فيه من السجناء، وكان عددهم حوالي تسع مئة سجين. ولدى تصاعد الأحداث والمصادمات في مدينة حماة، قامت الوحدات العسكرية بتطويق المدينة بدءاً من تاريخ 2/2/1982م، ثم بقصفها ومداهمة بيوتها وشوارعها ومؤسّساتها وأسواقها ومساجدها وكنائسها ومدارسها و.. ودُمِّرَت فوق رؤوس سكّانها خلال شهرٍ كامل. وقُدِّرَ عدد القتلى من الرجال والنساء والأطفال، بحوالي عشرين ألفاً في الأقل. وامتدّت الاعتداءات إلى مدنٍ سوريةٍ أخرى.
* * *
لقد نُفِّذ قانون الإعدام رقم 49 على عشرات الآلاف من السوريين. وخلال ثلاثين عاماً منذ صدور هذا القانون في عام 1980م، سُجِنَ واعتُقِلَ وأعدِمَ آلاف الأشخاص، لمجرّد انتمائهم إلى جماعة الإخوان المسلمين، أو لقرابتهم بأعضائها. وما يزال العمل بهذا القانون سارياً حتى اليوم.
إنّ (جمعية مظلوم دار)، تناشد المؤسّسات الدولية ذات الصلة ومنظّمات حقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية، للقيام بواجبها، لمحاكمة المتورِّطين بهذه الجرائم من المسئولين السوريين، ولأن يعملوا على إلغاء هذا القانون الظالم ووقف تداعياته المترتّبة على تنفيذه، وعلى إعادة حقوق الضحايا والتعويض على ذويهم.
ج- اللاجئون:
بعد مجازر حماة، اضطرّت المعارضة السورية لمغادرة البلاد، واضطرّت مئات العائلات للفرار إلى الدول المجاورة، كما اضطرّ عشرات الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وذويهم إلى الهجرة القسرية، وانتشر هؤلاء في أرجاء العالَم، لاسيما في الأردن والعراق واليمن وتركية ودول الخليج العربيّ وبريطانية و.. ونشأ منهم الجيل الثاني والثالث، وكل هؤلاء لا يستطيعون العودة إلى وطنهم السوريّ، خشية الاعتقال والسَّجن والملاحقة والإعدام.
ولتوضيح حجم المأساة، على سبيل المثال، فقد روى لنا أحد اللاجئين الحمويين المقيمين في اليمن، بأنّ زوجته تسكن في سورية، وأحد أبنائه يعيش في الأردن، والثاني يعيش في تركية، وكلهم لا يملكون جوازات السفر، وليس لهم أية حقوقٍ في البلدان التي يعيشون فيها، وليس بحوزتهم بطاقات الهوية السورية.
أما النساء اللواتي فقدنَ أزواجهنّ في المجازر أو السجون والمعتقلات، فإنهنّ يبقين أرامل، وفي الوقت نفسه لا يستطعنَ أن يُثبّتنَ موتَ أزواجهنّ، وأولادُهُنّ المولودون بعد فقدان آبائهم، لا يستطيعون وراثتهم.
حتى بعد المرونة النسبية التي أبداها النظام في التسعينيات من القرن الماضي، فلا يزال المنتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين وأقاربهم وذراريهم ممنوعين من العودة إلى وطنهم، ولم تنجح كل المساعي والوساطات لتحقيق ذلك، سواء أكانت هذه المساعي والوساطات في عهد الأب حافظ أو في عهد ابنه بشار.
د- المفقودون:
منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي حتى اليوم، فُقِد عدد كبير من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم من الشعب السوريّ، وذلك في سجون النظام ومعتقلاته، ولا يُعرَف شيء عن مصيرهم بعد الاعتقال، فالفرق بين الفقدان والموت بسيط جداً في السجون السورية، إذ لا يمكن للمعتَقَل أن يقابِلَ محامياً عنه أو أحداً من عائلته، فتنقطع أخباره، والذين يُلِحّون على السلطات لمعرفة مصائر أبنائهم أو ذويهم، يواجهون خطر الاعتقال.
لا يزال آلاف الناس قابعين في السجون السورية، وقد مضى على أكثرهم ثلاثة عقود، ولا يمكن الاتصال بهم، ولا توجد أي إشارةٍ على استمرار حياتهم، ولم تُسفِر الطلبات المقدَّمة إلى السلطات السورية عن أي نتيجة.. لذلك، فهؤلاء يُعتَبرون في عِداد المفقودين أو المختفين قسرياً، وعددهم يتجاوز العشرين ألفاً حتى الآن.
هـ- مجزرة سجن تدمر (بالميرا):
لقد فُتِحَت أبواب سجن تدمر أمام أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وقالت السلطات إنها أغلقته في عام 2001م، لفرز معتقلي الجماعة عن المعتَقَلين الآخرين.
هذا السجن الصحراويّ يمارَس فيه التعذيب بشكلٍ منتظم، وبكلّ أنواعه، كالضرب بالهراوات والصعق بالكهرباء والتعليق من الساقين.. وغير ذلك.
لقد تعرّض هذا السجن إلى مداهمةٍ واعتداءٍ مسلّحٍ قامت بهما قوات (سرايا الدفاع) بقيادة رفعت الأسد شقيق حافظ، وذلك في ليلة 27/6/1980م، فراح ضحية ذلك –حسب تقرير منظمة العفو الدولية لعام 1983م- ما بين ست مئةٍ إلى ألف قتيلٍ من السجناء.
وفقاً لبياناتٍ أدلى بها بعض النزلاء القدماء لسجن تدمر، وذلك لمنظمة مراقبة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش)، فإنّ جثث ضحايا مجزرة تدمر قد دُفِنَت في مقابر جماعيةٍ في الصحراء، ولم تُسَلَّم إلى ذويها. ويفيد (نزار نيوف)، وهو أحد السجناء السابقين، بأنه اطّلع على تلك المقابر قبل عام 1991م، وأنّ كشفها دفع السلطات السورية إلى نقلها لأمكنةٍ أخرى مجهولة.
كما أفادت تقارير لجان حقوق الإنسان، بأنّ عمليات الإعدام والقتل الجماعيّ، كانت تُنَفَّذ ما بين عامي 1980-1983م، بمعدّل 35 إلى 50 شخصاً في كل عملية، وبواقع مرتين أسبوعياً. وأنّ أول عملية إعدامٍ جماعيٍّ من هذه العمليات، التي نُفِّذَت -بعد ذلك- في عام 1984م، كان عدد ضحاياها مئةً وثمانين شخصاً. ثم توقّفت في عام 1985م، لتعودَ بعد ذلك من جديدٍ وتتصاعد، وذلك بعد اندلاع أعمال عنفٍ في دمشق وبعض المحافظات السورية. وقد استمرّت عمليات الإعدام، وتحقّق وقوع عملية قتلٍ جماعيٍّ لمئةٍ وستين شخصاً في عام 1989م.
إنّ عمليات القتل والإعدام التي ذكرنا أمثلةً عنها أعلاه، تُعَدّ انتهاكاً سافراً لبنود الاتفاقيات المدنية والسياسية الدولية (أي سي سي بي آر)، وخَرقاً للمادة السادسة من هذه الاتفاقيات، وذلك لأنها تفتقد لأدنى معايير المحاكمات العادلة.
وعلى الرغم من أنّ أعداداً من المعتقَلين السياسيين قد أُطلِقَ سراحهم بعد عام 1990م، إلا أنّ منظمة العفو الدولية رصدت وقائع موتٍ في السجون السورية، وذلك في التسعينيات من القرن الماضي، وفي السنوات الأولى بعد عام 2000م.
و- مجزرة حماة:
في فبراير (شباط) عام 1982م، ارتكبت السلطةُ السوريةُ -في مدينة حماة- أبشع مجزرةٍ في العصر الحديث، وذلك للقضاء على المعارضة، في مقدمتها: (جماعة الإخوان المسلمين). ووفقاً لتقارير منظمة العفو الدولية، فقد تعرّضت المدينة إلى القصف الجويّ والأرضيّ على مدى خمسة أيام، تمهيداً لعبور الدبابات إلى الشوارع الضيقة للمدينة وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها، وقَتْلِ الرجال والنساء والأطفال دون تمييز.
وعلى الرغم من إعلان وزير الدّفاع آنذاك (مصطفى طلاس) قمعَ أعمال الشّغب، بعد القصف العنيف الذي استمرّ إلى يوم 15 فبراير (شباط) من العام نفسه، فإنّ المدينة بقيت تحت الحصار. وتواصلت عمليّات الاعتقال على مدى أسبوعين، كانت قوى الجيش خلالهما تتعامل بوحشيةٍ مع السكّان، وترتكب أعمال القتل الجماعيّ. وعلى الرغم من التعتيم الشديد على ما كان يجري، فإنّ (منظّمة العفو الدّوليّة) قالت: [إنّ أنباء ممارسات القتل الجماعيّ كانت تتسرّب إليها، ومن ذلك: قتل سبعين شخصاً في المستشفى خارج المدينة بتاريخ 19 فبراير (شباط)، وفي اليوم نفسه، قامت كتيبة من الحرس الخاص للنظام، بقتل أعدادٍ كبيرةٍ من المواطنين في منطقة (حيّ الحاضر)، وكانت القوى المسلّحة تستخدم غاز (السّيانيد) ضدّ المباني التي كانت تشك بوجود المعارضين فيها. وعلى صعيد آخر، فقد كان المعتقلون المدنيّون من سكّان المدينة، يُجَمّعون في معسكرات الاعتقال بالعراء، وذلك في المطار العسكريّ والملاعب الرّياضيّة، لأيامٍ عدّة، من دون طعامٍ أو شراب].
* * *
إنّ قمع سكّان حماة، الذي كان مُبَيَّتاً من قبل النّظام السّوريّ، استغرق ثلاثة أسابيع، على الرغم من استخدام وسائل العنف الشديد. وكان الرئيس السّوري يُبلّغ الصّحفيّ الّذي أجرى مقابلةً خاصّةً معه بتاريخ 24 فبراير (شباط)، بأن الحياة الطّبيعيّة قد عادت إلى المدينة، على الرغم من أنّ الطّرقات كانت مغلقةً في تلك اللّحظات، وكانت القوّات العسكريّة تستخدم المدفعيّةَ الثقيلةَ لقصف بعض الأحياء، كما كانت المروحيّات تُـمطِر المدينةَ بالقنابل، وكذلك كانت الجرّافات تهدم الأماكن المستهدَفَة في المدينة. يروي بعض النّاجين من المجازر: [إنّ المدينة كانت مليئةً بالروائح الكريهة التي كانت تفوح من الجثث المتفسّخة، المنتشرة في كل الأرجاء وتحت أنقاض المباني المهدَّمَة، التي غصّت بالقتلى والجرحى، وكان كثير من القتلى والجرحى من القاطنين في حماة، ينتمون إلى المدن الأخرى في سورية، وقد تعرّضوا للمصير نفسه إثر المداهمات].
قَتْلُ أسرة (الشيخ عثمان)، حسب روايةٍ موثّقةٍ لشاهد عيان:
لقد داهم الجنود في (حيّ الشّرقيّة) منـزل المواطن الحمويّ (محي الدّين الشيخ عثمان)، الذي تجاوز عمره الثمانين عاماً، وكانت معه زوجته، وكذلك أولاده وأحفاده، فاعتقلوهم جميعاً، ثم قتلوهم، وقد بلغ عددهم حوالي الثلاثين قتيلاً، وفيما يلي قائمة بأسماء بعض من كانوا في البيت:
- زوجة محي الدّين الشّيخ عثمان من عائلة (شناب).
- زوجة أحمد الشّيخ عثمان من عائلة (طهماز).
- زوجة محمّد الشّيخ عثمان من عائلة (منصور).
- زوجة أسامة الشّيخ عثمان.
- زوجة ممدوح الشّيخ عثمان من عائلة (الخاني) مع أولاده الثلاثة.
- بنت محي الدّين الشّيخ عثمان، (نورية) وأولادها.
- أولاد أحمد الشيخ عثمان، (مأمون) و(نبيل).
- دجانة بن محي الدّين الشّيخ عثمان.
- عمر الشّيخ عثمان.
- إبراهيم الشّيخ عثمان.
- زبير الشّيخ عثمان.
- فيصل الشّيخ عثمان.
- زياد الشّيخ عثمان.
- عثمان الشّيخ عثمان.
لقد لقي جميع أفراد العائلة مصرعهم، وانهار البيت، أما (محيّ الدّين الشّيخ عثمان) ذو الثمانين عاماً، فقد قُتِل بعد فترةٍ وجيزة.
* * *
لقد دُمِّر عدد كبير من المساجد أثناء الهجمات، وكذلك تأثّرت الكنائس في المدينة من القصف الرّهيب، ولم يُسمَع صوتُ الأذان في حماة طوال ثلاثة شهورٍ بعد الأحداث، ووفقاً للإحصائيات، فإنّ (38) مسجداً ومركزاً دينياً قد هُدِّمَت كلياً، وتأثر (19) مسجداً بشكلٍ جزئيٍّ جرّاء القصف، وبعضها استخدمتها السلطة لأغراضٍ عسكريةٍ أخرى.
ولم يستطع أحد تفادي تهديم الكنائس في حماة، فتحوّلت الكنيسة المشهورة (الجديدة) إلى خراب، وهي تُعتَبَر من أهمّ الآثار التّاريخيّة. وكذلك تهدّمت كنيستان أخريان أثناء الهجمات.
إنّ آلاف الجرحى من الضّحايا قد تعرّضوا للموت، بسبب مَنع الأجهزة الأمنيّة الأطبّاءَ من معالجتهم، وبعضهم دُفِنوا أحياء في المقابر الجماعيّة. ولقي مئة وثمانون شخصاً من المرضى مصرعهم، إثر هجماتٍ عنيفةٍ شنّتها القوات المسلّحة على مستشفيات المدينة. وتعرّضت الصيدليّات في المدينة لأعمال السّلب والنهب من قِبَلِ الجنود، بينما صيدليّة واحدة فقط، قد نجت من النهب. وقُتِلَ بعض الأطفال الرضّع، وحتى الأجنّة في بطون الحوامل لم تسلم من القتل، بعد بَقْرِ بطون الأمّهات. كما رُمِيَ الأطفال الصّغار من نوافذ الشّقق وشرفات المنازل، وسط آهات أمّهاتهم. وكثير من الأطفال فقدوا حياتهم إثر مجاعةٍ استمرّت أسابيع عدّة. وبعض الجنود قاموا بقطع أيدي النساء من المعاصم، لسرقة الأساور الذهبية. وكثير من النّساء قُتِلْنَ بعد تعرّضهنّ للتّعذيب الرّهيب. ومَن كان يرفض من الجنود ممارسة العنف ضدّ المدنيّين، يُعَرِّض نفسَه للموت من قبل قادته. حتّى كبار السّنّ كانوا من بين القتلى بدون تمييز. وكانت الأجهزة الأمنيّة تمنع دفن الجثث، ومَن تجرّأ على ذلك فقد كان الموتَ جزاؤه. رائحة الجثث كانت تسود المدينة، وأخذت الأمراض تتفشّى. وفى الأيام الأخيرة من المجزرة ارتفعت وتيرة القتل، وكانت أوامر المطالَبة بزيادة الاعتقالات تأتي من السّلطات العليا، لغاية اختتام الاستجوابات. في 26 فبراير (شباط)، أُوقِفَ (1500) شخص، كان بينهم مفتي حماة، ولم يُعرَف مصيرهم حتى اليوم. وفي اليوم نفسه، أمر رفعت الأسد، بعزل ألفٍ من مسئولي المساجد والمراكز الدّينيّة عن المعتقلين الآخرين، ولا يُعرَف مصير هؤلاء بعد أن اقتيدوا إلى أماكن غير معروفة. وبعد وقوع المجازر اختلّت نسبة النساء إلى الرجال، ثمّ نشأت مشكلات المعيشة، وشحّت الموارد، وذلك بعد أعمال النهب التي تعرّضت لها المحالّ التجارية من قِبَلِ الجنود المهاجمين.
لقد اضطرّ الآلاف من سكّان المدينة إلى مغادرة البلاد بعد وقوع المجزرة في حماة، وتطرّقت بعض الصّحف العالميّة إلى هذه المجزرة، التي تُعَدّ الأسوأ من نوعها في القرن العشرين، فقد قالت إحدى المجلّات الفرنسيّة (في عام 1982م): [كان عدد ضّحايا مجزرة حماة أكبر من عدد ضحايا الحرب التي دارت بين سورية وإسرائيل في حرب أكتوبر(تشرين الأول) عام 1973م]. وأفادت مقالة منشورة في مجلة الإيكونوميست، بأنه [ربما لن يعرفَ أحد في المستقبل، الحقائقَ التي جرت في مدينة حماة، التي تقع على مسافة 120 ميلاً من العاصمة السورية دمشق، فقد استغرق الحصول على الإذن الحكوميّ الخاص بدخول الصّحفيّين إلى المنطقة، التي كانت محاصرةً بدبّاباتٍ ومدفعيّاتٍ قبل ثلاثة أشهر.. استغرق أسابيع عدّة].
قصة المصوّر (كرم) حول مجزرة حماة:
كان (كرم) طالباً في الصّفّ السّادس بكلّيّة الطّب في جامعة دمشق، سافر إلى حماة بعد شهرين من وقوع المجازر، واستطاع تصوير آثار الأحداث الوحشيّة والهمجية، من داخل سيارته، مختبئاً من عيون الأجهزة الأمنية، ثمّ سافر إلى طرابلس لبنان، وطبع الصّور ووزّعها، ثم عاد إلى دمشق، وقد بلغ السلطات السورية الخبر، وفي سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، قُتِل (كرم) من قِبَل السلطة السورية وأُحرِقَ بيته.
* * *
لقد دُمِّرَت المناطق التّاريخيّة في المدينة بالجرّافات، ووفقاً للإحصائيات لدى جماعة الإخوان المسلمين في سورية، فقد كانت الخسائر البشريّة حوالي عشرين ألف شخصٍ في أقل تقدير، وعلى كل حال، فإنّ الأرقام الدقيقة لن تتّضحَ أبداً، بسبب تكتّم السلطات السورية على حقائق الأحداث، وانعدام الشفافية لدى السلطات السورية.
لقد دُمِّرَت المساجد والكنائس بدون تمييز، وكان في المدينة (8000) مسيحيٍّ يتعايشون جنباً إلى جنبٍ مع الأكثريّة السّنّيّة المسلمة، بالمحبّة والوئام.
يقول مراسل جريدة الحرّية الفرنسية (تشارلز بوبيت)، الذي نجح بالدّخول –ملثّماً- إلى المدينة أثناء الأحداث، بتاريخ 1 آذار 1982م: [.. وفي أول يومٍ بعدما دخلتُ المدينة شاهدَ عيان، التقيتُ امرأةً كانت تشتكي من أنها اضطرّت لإخفاء جثّة زوجها -مفصول الرأس- فى بيتها، وذلك كما كانت تفعل الكثيرات من الحمويّات. ولم أسمع صوتَ الأذان طوال فترة بقائي في المدينة، بسبب استهداف المساجد والمآذن].
* * *
رابعاً: انتهاكات حقوق الإنسان تجاه الأكراد في سورية
أ- الوضع العام:
القومية الكردية هي الثانية بعد العربية في سورية، وتبلغ نسبة الأكراد في البلاد حوالي 10%، وعددهم حالياً يبلغ حوالي مليوني نسمة من أصل عشرين مليون سوريّ. والأكراد جميعهم تقريباً ينتمون إلى أهل السنّة في سورية، التي تبلغ نسبتهم فيها 78-82%، ولغة الأكراد هي الكرمانجية، ويقطن القسم الأكبر منهم في شمالي شرق البلاد، والأصليون منهم يقطنون في جبل الأكراد، أما القادمون من الخارج (تركية) فيقطنون في منطقة الجزيرة السورية الغنية بالنفط، وهم في هذه المنطقة يمثلون نصف أكراد البلاد تقريباً، وهؤلاء تمنع السلطات السورية عنهم حقوق المواطَنة. أما باقي الأكراد فقد اندمجوا بالمجتمع العربيّ السوريّ، ويعيشون في بعض المحافظات، كدمشق وحلب وحماة وحمص واللاذقية.
ب- الوضع التاريخيّ:
ينقسم العهد الكرديّ في سورية إلى فترتين زمنيتين، الأولى: تبدأ من الحرب العالمية الأولى إلى عام 1950م، والثانية: تبدأ من عام 1950م حتى اليوم، وهي الفترة التي تشمل سيادة القومية العربية في سورية.
إنّ جذور القضية الكردية في سورية، تعود إلى مطلع القرن العشرين، عندما قُسِّمت الأقاليم الإسلامية، ونُفِّذَت اتفاقية (سايكس-بيكو ) بعد زوال الخلافة العثمانية، إذ بقي المجتمع الكرديّ داخل حدود الدولة السورية أصغر نسبياً من مجتمعات الأكراد في تركية والعراق، وهناك أعداد من الأكراد نزحوا من تركية إلى سورية بعد قمع تمرُّداتٍ في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
كان الأكراد في سورية ما بين عامي 1920م و1946م يحملون الجنسية السورية، وذلك إبّان الاحتلال الفرنسيّ لسورية، وكانوا يتمتّعون بحقوق المواطَنة السورية بشكل كامل، ولم يُعَانوا من المضايقات والاضطهاد، لكن هذا الوضع بدأ يتغير بعد عام 1950م، واشتدّ اضطهاد الأكراد السوريين من قبل السلطات السورية، حين اعتبر النظامُ السوريّ القوميّ أنّ المجتمع الكرديّ يشكّل خطراً على السيادة القومية العربية السوريّة، لذلك اشتدّت الضغوط على هذا المجتمع في فترة صعود القوميّة العربيّة، واتُّـخِذَت إجراءات مجحفة لإضعاف القدرة الاقتصادية للنخب الكرديّة، وصودِرَت الأراضي في منطقة الجزيرة السوريّة، وأُجري إحصاء لتعداد السكان، أُهمِلَ فيه عدد النازحين الأكراد من تركية، وذلك فيما عُرف بحملات تعريب المناطق الشمالية الشرقية الغنية، ونُزِعَت الجنسية السورية من هؤلاء، وبالتالي نُزِعَت منهم حقوق المواطَنة، ثم تلا ذلك تقييد استخدام اللغة الكرديّة. وقد بلغ عدد هؤلاء المحرومين من حقوق المواطَنة، مئةً وعشرين ألفَ نسمة.
بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في سورية، أصبحت القومية العربية محوراً أساسياً في السياسة السورية، وبدأ تنفيذ مشروعِ قوميِ عربيِ تحت عنوان (الحزام العربيّ)، الذي شُرِّدَت بموجبه التجمّعات الكردية الموجودة في المنطقة المحاذية للحدود التركية، التي يبلغ طولها (300 كم) وعرضها (10-15 كم)، وهي المنطقة الغنية بالنفط والقمح والقطن.
في بداية السبعينيات من القرن الماضي، قامت السلطات البعثية السورية في عهد حافظ الأسد، بتأسيس ما يُسمّى بـ (القرى العصرية)، استكمالاً لمشروع (الحزام العربيّ)، وتمَّ إحلال تجمّعاتٍ من السوريين العرب في هذه القرى (400 عائلة في عام 1975م، في 41 قرية عصرية)، وعلى الرغم من أنّ مشروع (الحزام العربيّ) قد أُلغي في عام 1976م، فإنّ السلطات السوريّة لم تسمح للأكراد بالعودة إلى أراضيهم القديمة.
* * *
الأكراد في سورية محرومون من حقّ استخدام لغتهم، وحق التعليم باللغة الكردية، وذلك بخلاف المجتمعاتٍ الأصغر بكثير، كالأرمنيّة والآثوريّة، التي تتمتّع بكامل حقوقها الثقافية (اللغة، فتح المدارس الخاصة التي تُدرِّس بلغتهم المحلية..). كما قامت السلطات بتغيير أسماء المناطق الكردية إلى العربية، وذلك بقوانين رسميةٍ صدرت في نهاية السبعينيات من القرن الماضي.
مع ذلك، فإنّ حقبة السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات، كانت إيجابيةً نسبياً في التعامل مع الأكراد السوريين، وكان للسلطات السورية علاقات طيبة مع الأكراد في تركية والعراق، وقد افتُتحت معسكرات تدريبية لحزب العمّ
جمعية (مظلوم دار) لحقوق الإنسان والتضامن مع المظلومين
فـــهــرســـــــت
نظرة عامة .................................................................
القضاء والاعتقالات والسجون في سورية ....................................
الانتهاكات التي تعرّضت لها جماعة الإخوان المسلمين في سورية ............
انتهاكات حقوق الإنسان تجاه الأكراد في سورية ............................
الخاتمة والمقترحات .......................................................
الملفات المرفقة ...........................................................
أولاً: نظرة عامة
مجزرة حماة في 2 من فبراير (شباط) 1982م، والوضع العام لانتهاكات حقوق الإنسان في سورية:
ارتُكِبَت مجزرة رهيبة، في إحدى أكبر المدن السورية الشهيرة: حماة، وذلك بتاريخ 2/2/1982م، وهي المجزرة الأسوأ من نوعها -يرتكبها نظام حكمٍ ضد شعبه- في التاريخ الحديث. ونظراً لشحّ المعلومات الواردة عن هذه المجزرة الكبرى، ولتواطؤ المجتمع الدوليّ مع النظام الحاكم المنغلق على نفسه.. فإنه لم تُتَّخَذ أي ردود أفعالٍ تجاه مرتكبيها حتى اليوم.
إنّ ما يقرب من عشرين ألفاً من سكّان حماة (في أقل تقدير) قد لقوا حتفهم، على أيدي قوات النظام الحاكم، فقد استمر القصف العشوائيّ الوحشيّ حوالي (21) يوماً، بدءاً من تاريخ 2/2/1982م، ثم بدأت عمليات المداهمة والاعتقال لسكان المدينة، فاعتُقِل عشرون ألفاً تقريباً، من رجال المدينة وشيوخها وأطفالها، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 13 و70 سنة، ولم يُعرَف مصيرهم حتى اليوم. وامتدّت حملات القمع إلى بعض المدن السورية الأخرى، ما سبّب وقوع مآسٍ عميقةٍ في المجتمع السوريّ، فوصل عدد الشهداء والمعتقلين والمفقودين في الأيام التي تلت المجزرة الكبرى.. إلى أكثر من سبعين ألفاً من الرجال والنساء والأطفال. كما وصل عدد النازحين من المدينة في الفترة نفسها، إلى عشرات الآلاف، إذ اضطروا إلى مغادرة البلاد –مكرَهين- خوفاً على أرواحهم، وقد وصل عدد هؤلاء حالياً، مع أبنائهم وبناتهم وأحفادهم، إلى مئات الآلاف، يمنعهم النظام جميعاً من العودة إلى وطنهم من ديار الغربة والشتات. وكل ما يصدر عن النظام ومسؤوليه من تصريحاتٍ حتى الآن، حول عودة هؤلاء إلى بلدهم، لم تتجاوز الوعود الكلامية الخلّبية، بل إنّ عشرات الأشخاص من الذين خُدِعوا بتلك التصريحات، قد اعتُقِلوا وما يزالون في السجون السورية حتى الآن.
خلال المجزرة، دُمِّر (83) مسجداً ومركزاً إسلامياً، وأربع كنائس، و(52) صيدلية، وبعض المعالم الأثرية في المدينة، وبعض المراكز الصحية والعيادات والأسواق التجارية (التي نُهِبَت من قِبَل جنود القوات المهاجِمة)، وعدد كبير من المدارس. ونتيجة عمليات المداهمة الواسعة، فقد أصبحت الخسائر البشرية الضخمة أمراً لا مفرّ منه. علماً بأنّ هذه الانتهاكات التي ارتكبها نظام البعث الأسديّ، لم يسلم منها حتى المسيحيون في المدينة.
* * *
إنّ القوانين التي سنّتها السلطات السورية في بلادٍ محكومةٍ بالأحكام العُرفية، ولا تزال سارية المفعول.. هي منشأ الأعمال التعسّفية، وهي تتناقض مع القانون الدوليّ وحقوق الإنسان، ومن أبرزها:
1- قانون إعلان حالة الطوارئ والأحكام العُرفية، الذي جُدِّدَ بتاريخ 8/3/1963م.
2- قانون حماية الثورة، بتاريخ 7/1/1965م.
3- قانون إحداث محكمة أمن الدولة، بتاريخ 28/3/1968م.
4- قانون إحداث المحاكم الميدانية العسكرية، بتاريخ 17/8/1968م.
5- قانون إحداث إدارة أمن الدولة، بتاريخ 15/1/1969م.
6- الدستور الدائم، الذي فُرِضَ بتاريخ 13/3/1973م
7- القانون رقم (49)، بتاريخ 7/7/1980م
8- قانون تنظيم المهن، بتاريخ 21/8/1981م.
يُعتَبَر القانون رقم (49) لعام 1980م، الذي يحكم بالإعدام لمجرّد الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين.. من أشدّ القوانين انتهاكاً وتناقضاً مع حقوق الإنسان، وهو لا يزال ساري المفعول حتى الآن.
كما يعاني الأكراد في سورية من القمع السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، وإنّ التمييز العرقيّ الذي يقوم به النظام السوري ضد أكراد سورية، يجعل هذه المشكلة مستعصيةً على الحلّ. فما يقرب من ثلاث مئةٍ وخمسين ألفاً من الأكراد، من أصل مليونٍ ونصف المليون كرديٍّ سوريّ.. محرومون من الجنسية، بل يحملون بطاقاتٍ شخصيةً كُتِبَ عليها كلمة: (أجنبي)، وهؤلاء لذلك، محرومون من حق الانتخاب والتملّك والعمل في المؤسّسات الحكومية، ومن المعالجة في المستشفيات الحكومية، ومن السياحة الحرّة. كما إنهم محرومون من توثيق عقود زواجهم قانونياً ورسمياً، ومن تسجيل واقعات ولادات أبنائهم وبناتهم، إذ يحمل هؤلاء صفة: (مكتوم)، أي غير مسجَّل في دوائر السجلّ المدنيّ السوريّ. كما إنهم يحتاجون دوماً إلى موافقةٍ أمنيةٍ صعبةٍ من الشعبة السياسية للمخابرات، لتسجيل أبنائهم وبناتهم في المدارس، ضمن سياسة إقصائهم عن التعليم، ما رفع نسبة الأمية في صفوفهم إلى نسبةٍ عالية.
وعلى الرغم من الوعود التي أطلقها رئيس النظام السوري: بشار الأسد، لحلّ المشكلة الكردية في سورية، وذلك منذ توليه المسؤولية في عام 2000م.. إلا أنه لم تتمخّض عن هذه الوعود أي نتائج إيجابية، فبقي التمييز ضد الأكراد قائماً، مع أن منظمات حقوق الإنسان ترصد –بقلقٍ بالغٍ- هذا التمييز، وتطالب بوقفه.
* * *
ما تزال سورية –التي أسّست علاقاتٍ طيبةً مع تركية- بحاجةٍ إلى اتخاذ خطواتٍ مهمةٍ لحماية حقوق الإنسان، إن أرادت كسب الاحترام في الساحة الدولية، وينبغي على الحكومة السورية أن تقوم بخطواتٍ إصلاحيةٍ حقيقية، لإنهاء سياسات التمييز ضد الأكراد بما يتوافق مع القانون الدوليّ. كما ينبغي عليها إلغاء القوانين الاستثنائية المتَّخَذَة ضد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، ورفع القيود عن عودة المهجَّرين إلى وطنهم، ووقف كل أشكال التعذيب والاعتقال التعسفيّ.
كل ما ذكرناه آنفاً من خطواتٍ مطلوبة، ينبغي أن تكون ضمن حزمة إصلاحاتٍ واقعيةٍ مُقنِعة، وليست شكليةً تبقى مجرّد أقوالٍ لا أفعال. ولا شك بأنّ قيام الحكومة السورية بالإصلاحات اللازمة والمصالحة مع مواطنيها.. سيجعل من سورية دولةً مساهِمةً –بشكلٍ واقعيٍّ- في السلم الإقليميّ والدوليّ.
* * *
إنّ (جمعية مظلوم دار) تتمنى أن يكونَ تقريرها هذا، وسيلةً للبدء بعملية انفتاحٍ ديمقراطيٍّ حقيقيٍّ من قِبَلِ الرئيس بشار الأسد، كما فعل الرئيس التركيّ، الذي وعد بعفوٍ شاملٍ عن منتسبي حزب العمال الكردستاني (ب ك ك).. وذلك تناغماً من قِبَل سورية مع تركية، في مسيرة الانفتاح الديمقراطيّ.
إنّنا في (جمعية مظلوم دار)، نناشد السلطات السورية، للقيام بما يلي:
1- إلغاء القوانين التي تتناقض مع حقوق الإنسان، بما في ذلك القانون رقم (49) لعام 1980م، والقيام بإصلاحاتٍ عامةٍ في القضاء.
2- فَتح أبواب السجون والمعتقلات، أمام مراقبي حقوق الإنسان.
3- الكشف بشفافيةٍ عن مصير المفقودين، أمام الرأي العام، لاسيما الذين فُقِدوا منذ أحداث حماة، ومحاكمة المسئولين عن هذه الانتهاكات. وضمان عودة المهجَّرين إلى وطنهم بسلام، والتعويض على المتضرّرين.
4- ضمان الحقوق الأساسية للأكراد، وحَلّ مشكلة المواطَنة لهم، ووقف كل أشكال التمييز العرقيّ والمذهبيّ ضدّهم.
5- الأخذ بالاعتبار، بأنّ التقادم لا يُعتَمَد –قانونياً- فيما يتعلّق بالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وإنّ عدم إرساء العدالة ورَدّ الحقوق إلى أصحابها.. سيدفع المجتمع الدوليّ إلى اتّخاذ الموقف الحازم اللازم، كما حصل في (رواندا) و(سربرنيتشا)، وهذا ليس من مصلحة سورية، دولةً وحكومةً وشعباً.
أحمد فاروق أنسال
رئيس جمعية مظلوم دار
* * *
ثانياً: القضاء، والاعتقالات، والسجون في سورية
أ- القوانين والمحاكم:
إنّ الإصلاح والتغيير في سورية، يجب أن ينصبّ أولاً، على بعض القوانين المعمول بها، لكونها تُشكِّل الغطاء لانتهاكات حقوق الإنسان. ويأتي في طليعة ذلك، قانون (الطوارئ والأحكام العُرفية)، وقانون (حماية الثورة)، لكونهما قائمَيْن على تقييد الحريات الأساسية وحقوق الإنسان.
إنّ أبرز القوانين السورية التي تتناقض مع حقوق الإنسان، وتحمل معنى الإكراه الضمنيّ، هي:
1- قانون حماية الثورة، بتاريخ 7/1/1965م.
2- قانون إحداث محكمة أمن الدولة، بتاريخ 28/3/1968م.
3- قانون إحداث المحاكم الميدانية العسكرية، بتاريخ 17/8/1968م.
4- قانون إحداث إدارة أمن الدولة، بتاريخ 15/1/1969م.
5- الدستور الدائم، الذي فُرِضَ بتاريخ 13/3/1973م.
6- القانون رقم (49)، بتاريخ 7/7/1980م.
7- قانون تنظيم المهن، بتاريخ 21/8/1981م.
هذه القوانين المذكورة آنفاً، تمنح صلاحياتٍ واسعةً، لاسيما لمحكمة أمن الدولة، التي يحاكَم فيها المعارِضون السياسيون، ما يجعل القضاء السوريّ قابلاً للانتهاك بغطاءٍ قانونيّ. على سبيل المثال: القانون رقم 49 لعام 1980م، يعتبِر مجرّد الانتساب لجماعة الإخوان المسلمين من الجرائم الكبيرة، ويحكم على المنتمين إلى الجماعة بالإعدام، وما يزال هذا القانون يشكِّل محوراً أساسياً لانتهاك حقوق الإنسان، إذ حتى مجازر حماة، ارتُكِبَت تحت غطائه. وكذلك على صعيدٍ آخر، فإنّ الصحافة والكتابة والنشر بواسطة الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، تعاني من مضايقاتٍ واسعة، ما يحدّ من حرية الرأي والتعبير، التي طالت الأنشطة السياسية والحركات السياسية المعارِضة للنظام.
* * *
إنّ الاتهامات التي يواجهها المعارِضون السياسيون بشكلٍ عام، هي: الانتساب إلى المنظمّات والأحزاب السياسية، وإشاعة المعلومات التي تنال من هيبة الدولة، وتوهين نفسية الأمة، وإثارة النعرات الطائفية والعرقية، وتحقير رئيس الدولة.
كما إنّ الإجراءات القضائية المعمول بها في المحاكم السورية، تُشكِّل انتهاكاً لا شبيه له بين مثيلاتها في العالَم، إذ إنّ بعض تقارير (منظمة مراقبة حقوق الإنسان)، تشير إلى أنه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، استغرقت بعض المحاكمات دقائق معدودةً فحسب، بل إنّ بعضها استغرق أقل من دقيقةٍ واحدة، ولم يُسمَح للمتَّهَمين بتوكيل محامين عنهم، بل إنّ مَن طالب بذلك كان يعاقَب عقوباتٍ قاسية. ويروي أحد المحامين: [إنّ المتّهَمين كانوا يُقتادون إلى قاعة المحكمة معصوبي الأعين، وقد جُرِّدوا من حقِّهم في توكيل محامين عنهم]. وقد أوردت منظمة مراقبة حقوق الإنسان في تقريرها المنشور عام 2005م، بأنّ السلطات السورية لم تسلّم المحامين -الموكَل إليهم الدفاع عن بعض المتّهمين- الملفَّ القضائيّ لكلّ متّهم، وأنه أحياناً لم يُسمَح لهؤلاء المحامين بمقابلة موكِّليهم.
وفي تقريرها بعنوان: (محكمة أمن الدولة العليا، البعيدة عن العدالة)، تُبيّن منظمة مراقبة حقوق الإنسان، بأنّ آلاف السوريين يحاكَمون ثم يُسجَنون خلافاً للقوانين الدولية، وذلك في مثل تلك المحاكم التي زُوِّدَت بصلاحياتٍ غير محدودة. ويجري ذلك كله بموجب تهمة (الخطر على الدولة)، وبالتالي فهذه المحاكم تتبع وزارة الداخلية مباشرةً، وتتصرّف اعتماداً على قانون الأحكام العُرفية، ولا تخضع الأحكام الصادرة عنها للتدقيقات القضائية. وهكذا، فمنذ شهر يناير (كانون الثاني) لعام 2009م، قامت محكمة أمن الدولة العليا بمحاكمة مئتي شخصٍ تحت بند: (إساءة استخدام حرية التعبير). علماً بأنه لا يُسمَح للمتّهمين في تلك المحاكم، بالدفاع عن أنفسهم، ولا بالطعن بالأحكام الصادرة بحقّهم من قِبَلِ محكمةٍ تعسّفيةٍ وغير شرعية.
* * *
إنّ معظم المتّهمين الذين حُوكِموا في محكمة أمن الدولة العليا، منذ ثلاث سنوات، هم من المسلمين الموصوفين بالإسلاميين، الذين اتُّهِموا بحيازتهم الأقراصَ الصلبة الممغنطة (سي دي) وكُتُب علماء الإسلام الذين تعتبرهم السلطات من المتشدِّدين أو المتطرِّفين. وبهذه الطريقة وفي هذه المحكمة، يحاكَم أيضاً الأكراد، وكُتّاب المدوّنات على الشبكة العنكبوتية.
لقد تقدّمت (جمعية مظلوم دار) بطلبها إلى القنصلية السورية في إستانبول، للسماح لمراقبي حقوق الإنسان بالاطّلاع على أحوال المعتقلين، وذلك بناءً على الادّعاءات التي وصلتها من مواطنين سوريين، لكنّ القنصلية تجاهلت الطلبات المتكرّرة، ولدى إلحاح الجمعية، فقد اضطرّت القنصلية السورية لرفض هذه الطلبات بوضوح، وعلى الرغم من أنّ الجمعية أحضرت كل الوثائق المطلوبة إلى المسئولين السوريين في القنصلية، إلا أنّ محاولاتها كلها قد باءت بالفشل.
ب- التوقيفات غير الشرعية، والاعتقالات التعسّفية:
وهي من أهمّ الانتهاكات الملموسة المعروفة في سورية، فكل من يُشتَبَه بهم أنهم معارِضون للنظام الحاكم.. يواجهون خطر الاعتقال والإيقاف في أية لحظة، إلى درجة أنّ ذويهم -غالباً- لا يعرفون مصيرهم، ومن النادر أن تتسرّب أنباء الاعتقالات إلى وسائل الإعلام أو إلى منظّمات حقوق الإنسان، لأنّ معظم الاعتقالات –لاسيما للمنتمين إلى الحركات الإسلامية- تقع في ساعةٍ متأخِّرةٍ من الليل، ولا يجرؤ ذووهم على إبلاغ الصحافة بذلك، خوفاً من بطش السلطة.
إنّ أجهزة المخابرات تعمل وفق قانون الطوارئ والأحكام العُرفية المفروضة استثنائياً منذ عام 1963م، وتتصرّف تحت ذريعة: كشف التهديدات ضد الدولة، وتتحرّك –غالباً- بناءً على معلوماتٍ غير صحيحة، وغير مؤكَّدة، لذلك فتصرّفاتها تُعتَبَر غيرَ شرعيةٍ أو قانونية. وإنّ أغلبية حالات الإيقاف تتحوّل إلى اعتقالات، والقليل منها ينتهي بالإفراج بعد معاناةٍ مريرة.
لقد رصدت (منظمة مراقبة حقوق الإنسان في سورية)، أخباراً مؤكّدةً عن اعتقالاتٍ تعسّفيةٍ وتوقيفاتٍ غير شرعية، من ذلك:
- لقد تعرّضت عشرات البيوت في مدينة حمص عام 2006م، إلى مداهماتٍ من قِبَل أجهزة الأمن، بتهمة علاقة أصحابها بحزب التحرير الإسلاميّ، واعتُقِل عدد كبير من الناس. وبالتهمة نفسها كذلك، تعرّضت عيادة طب الأسنان لمالكها (ياسين الحديد) للمداهمة، واعتُقِلَ صاحبها مع جميع موظّفيها.
- في عام 2007م، اعتُقِلَ الشاب (سفيان بكور)، لكونه ابناً لـ (محمد بكور) الذي كان يعيش في العراق، وذلك للضغط على أبيه، كي يبتعد عن سياسة المعارَضة للنظام، علماً بأنّ الأب لم يثبت عليه القيام بأي نشاطٍ معارِض أو الانتماء إلى أي تنظيمٍ معارِض. وفي الحقيقة، الضغط على العائلات والأقارب، سياسة تتّبعها السلطات السورية مع مواطنيها، عندما يكونون خارج البلاد وتعجز عن اعتقالهم، وذلك لإجبارهم على تسليم أنفسهم.
- حتى الأجانب لهم نصيب من الاعتقالات التعسّفية، وأعداد الذين اعتُقِلوا منهم ليست قليلة، إذ إنّ بعض الذين يذهبون إلى سورية لزيارة أقاربهم أو قضاء إجازاتهم أو للاستشفاء هناك.. يُعتَقلون بتهمٍ مفبركة، كالانتماء إلى الفكر الوهابيّ، أو العزم على العبور إلى العراق. وهؤلاء يتعرّضون –كغيرهم من المعتقلين- للتعذيب. على سبيل المثال: اعتقِل المواطن السعوديّ (عمر حسن) وهو عائد إلى بلده (السعودية) من دمشق، ثم اتصل بأهله أشخاصٌ مجهولون يطلبون فديةً لإطلاق سراح ابنهم، مقدارها خمسون ألف ريالٍ سعوديّ، ولم تتمكّن عائلته من الاطّلاع على وضعه في المعتقَل.
- وسوى السعوديين، فالسجون السورية تضم أكثر من ألفي معتقلٍ أردنيٍ وفلسطينيٍ ولبنانيٍ وعراقيّ، حسب تقارير منظمة مراقبة حقوق الإنسان في سورية، التي تفيد أيضاً، بأنّ السجون السورية كانت تضمّ في الثمانينيات من القرن الماضي، أعداداً كبيرةً من الأردنيين، لكن من المحتمَل أن يكونَ هؤلاء قد لقوا حتفهم بسبب التعذيب، أو بسبب الظروف الأخرى القاسية في تلك السجون.
- في هذا السياق، تلقّت جمعيّتنا معلوماتٍ من المواطن السوريّ الحمويّ: (حيّان محمد الرزّوق)، بأنه كان قد هاجر من سورية بعد أحداث حماة 1982م، وأقام في العراق، وأنّ ابنه (عمر حيّان الرزّوق) المولود في بغداد عام 1985م، وهو طالب في كلية الهندسة، قدّم طلباً إلى السفارة السورية في بغداد، مُبدياً رغبته بالعودة إلى بلده، فزوّدته السفارة بخطابٍ رسميٍ يفيد بأنه لا مانع لدى السلطات السورية من العودة، فغادر العراق بتاريخ 17/11/2005م، لكنه اعتُقِلَ فور وصوله إلى سورية، بلا سبب، ثم أحيل إلى محكمة أمن الدولة العليا، وَجُوبِهَ فيها بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من أنه مولود خارج سورية، وهو يزورها لأول مرةٍ في حياته، ولم ينفعه دفاعه عن نفسه بأنه ليس عضواً في أي تنظيمٍ أو جماعة، وحُكِمَ عليه بالإعدام حسب القانون رقم 49 لعام 1980م، بتاريخ 13/12/2009م، وذلك بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، ثم خُفِّف الحكم إلى السجن مدة (12) عاماً، بسبب تعليق تنفيذ قرارات الإعدام في الوقت الراهن.. أما (والدة عمر الرزّوق)، فهي تعيش حالياً في سورية، بينما يعيش والده وشقيقاه خارج سورية، ولا يجرؤون على مجرّد التفكير بالعودة إلى وطنهم.
ج- التعذيب:
حسب متابعات (جمعية مظلوم دار)، وحسب تقارير العديد من منظمات حقوق الإنسان، فإنّ التعذيب في السجون السورية يمارَس بشكلٍ منهجيّ. أما مدته ومدى قسوته، فيتعلّق بنوع التهم الموجّهة إلى السجين، فهو طويل المدة وشديد بالنسبة للمعتقَلين السياسيين، وبخاصةٍ المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين أو الأكراد، ومع ذلك، فإنّ المعتقلين الآخرين يتعرّضون لأساليب متنوّعةٍ من التعذيب الشديد. وسبب انتشار التعذيب في سجون النظام السوريّ، هو أنّ السلطات السورية لا تلتزم بالاتفاقات الدولية التي تمنع التعذيب.
ومما تذكره منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان في سورية، من أساليب التعذيب في السجون السورية:
ضَرْبُ جميع أنحاء الجسم باللطم والركل، والضرب بالعصا الحديدية أو الهراوات أو بالأحزمة الجلدية، وضع المعتقَل في الماء البارد ثم الساخن، قلع الأظافر، الربط إلى إطارات المركبات، الضرب بالعصيّ على أخمص القدمين، ربط المعتَقَل على ما يُسمى ببساط الريح الخشبيّ، التّعذيب بالكهرباء، الضّرب بأسلوب الشّبح، إذ يُضرَب المعتقَل أو يُصدَم بالكهرباء، بعد ربط يديه من الخلف وهو معلّق في الهواء، أو إدخال الحديد السّاخن في دُبُره، بعد إجباره للجلوس على جهازٍ خاص، تعليق المعتقل على المروحة وهي تدور في السّقف ثمّ ضربه، إخماد السّجائر على الأجزاء الحسّاسة في البدن، اقتلاع الشعر أو الجلد بالملقط، الاعتداء الجنسيّ، الصّعق بالكهرباء على الأجزاء الحسّاسة وخصوصاً الأعضاء التناسلية، كسر عظام الذّراع والسّاق، إجبار المعتقل على الانتظار على قدمٍ واحدةٍ مدّةً طويلة، أو إجباره على الركض وهو يحمل أحمالاً ثقيلة، إجبار المعتقل على الجلوس على القنّينة وإدخالها في دُبُره، عزل المعتقل في حجرةٍ مظلمةٍ أياماً عدّة، إبقاء المعتقل تحت الضوء طوال اللّيل والنهار، التّسبّب في مشكلة ضعف السّمع بعد جعله يستمع إلى الأغاني بصوتٍ مرتفعٍ أو سماع أصوات المعذَّبين وبكائهم، تهديده باغتصاب أقاربه أو كسر عظامهم أو قتلهم، إيذاء المعتقَل بمشاهدة التّعذيب للمعتقلين الآخرين أو باغتصاب أقاربه أمامه، إيذاء المعتقَل بإساءاتٍ وشتائم غليظة، إذلال المعتقَل بإجباره على خَلْع ثيابه أمام الآخرين، حرمان المعتقَل من النّوم والطعام والهواء النّظيف واستخدام الحمّامات ومقابلة زوّاره.
لقد أدّى التعذيب إلى إصابة المعتَقَلين بالأمراض المزمنة، ثم إلى الوفاة بعد حرمانهم من تَلقّي العلاج. وتفيد منظمة مراقبة حقوق الإنسان في سورية، بأنّ مئات المعتَقَلين السوريين قد لَقوا حتفهم، منذ عشرين عاماً، بسبب تعذيبهم. بينما تقوم السلطات بتزوير أسباب وفاتهم، فتلفِّق التقارير الطبية على أنهم توفّوا –مثلاً- بالأزمة القلبية.
د- المفقودون:
إنّ مُعَارضي النّظام السّوري تحديداً يختفون بعد اعتقالهم، وتشير تقارير منظّمة العفو الدولية في الفترة ما بين عامي 1990-2000م، بأنّ كثيراً من المواطنين السوريين، وبخاصةٍ من منتسبي جماعة الإخوان المسلمين، قد اعتُقِلوا في بداية الثّمانينيّات بدون محاكمة، ولا يستطيع أقرباؤهم الحصول على أيّ خبرٍ عنهم، وهل ما يزالون أحياءً أم أمواتا. وهكذا، فقد وصل عدد المفقودين إلى أكثر من عشرين ألف شخص، ولا توجد أيّة معلوماتٍ عن مصيرهم. وتفيد منظّمة مراقبة حقوق الإنسان في سورية، بأنها قد استلمت عدداً كبيراً من الطّلبات، وغالبيّتها تتعلّق بالمفقودين في الثمانينيّات. وقد استطاعت (جمعية مظلوم دار)، جَمْعَ حوالي خمسة آلافٍ من أسماء المفقودين، من بين عشرين ألفاً، هم مجموع المفقودين حسب معظم التقديرات، وستعمل الجمعية على إثارة هذه القضية أمام الرأي العام والمنظمات الدولية.
من أهم القضايا التي تتعلّق بالمفقودين، ويجب التّركيز عليها بحثاً ودراسةً: المقابر الجماعيّة، إذ يُعتَقَد بأنّ الكثير من المفقودين آل بهم الأمر إلى هذه المقابر، لكنّ الإشكالية هي في أنّ معظم الجثث التي عُثِرَ عليها في بعض هذه المقابر، وثُبِّتَت وقائعها من قبل منظّمات حقوق الإنسان.. قد دُمِّرَت آثارها من قِبَلِ السلطات السورية، أو أُلقِيَت في البحر قرب مدينة طرطوس، وتحديداً في منطقة الميناء، وذلك في محاولةٍ لتغطية المجازر التي ارتكبتها تلك السلطات، ولتبديد جهود منظّمات حقوق الإنسان.
* * *
إنّ لدى جمعيّة مظلوم دار قائمةً مكوّنةً من خمسة آلاف مفقود، من بين عشرين ألفا، وسوف نعلن عن بعضها في ذيل هذا التّقرير، وإننا سنتعاون في هذا المجال مع جميع أصحاب الطلبات، التي يمكن أن تردنا من الأطراف المعنيّة بها، سواء أكانت من المحاكم، أو من منظّمات حقوق الإنسان.
إننا نعتقد بأنّ الكثيرين من المفقودين بعد مجزرة حماة، لا يُعرَف مآلهم، ولعلّهم أصبحوا في عِداد الأموات، ولكنّ أقاربهم وذويهم يطالبون بكشف مصيرهم حتّى لو كانوا أمواتا. لذلك ينبغي على الجمهورية العربية السورية، أن تُـجيبَ على الأسئلة المطروحة عن مجهولي المصير هؤلاء، الذين يُقَدَّر عددهم بعشرين ألف شخص، عاجلاً غير آجل، وأن يُبَلَّغ الرأيّ العام بأيّ خطواتٍ اتـُّخِذَت إلى الآن في شأن هؤلاء المفقودين، سواء أكان ذلك رسمياً أم غير رسميّ.
ثالثاً: الانتهاكات التي تعرّضت لها جماعة الإخوان المسلمين في سورية
أ- خلفية تاريخية:
تأسّست جماعة الإخوان المسلمين -ذات الجذور الإسلامية- في مصر، في ثلاثينيات القرن الماضي، من قِبَل الشيخ حسن البنّا رحمه الله، ثم تأسّس فرع لها في سورية من اجتماع مجموعة جمعياتٍ منتشرةٍ في حماة والمدن السورية الأخرى، واختير الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله رئيساً لها، وأُطلِقَ على رئيسها اسم: المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين. وباشرت الجماعة نشاطَها الاجتماعيّ، بإنشاء الجمعيات الخيرية والمدارس والمستشفيات والمؤسّسات التضامنية الأخرى، وذلك في المدن السورية المختلفة، كدمشق وحلب وحماة واللاذقية ودير الزور.. وغيرها. وقد شاركت الجماعة في الانتخابات البرلمانية عام 1947م، فحصلت على ثلاثة مقاعد، ثم شاركت بقوةٍ أكبر في انتخابات عام 1951م، فحصلت –بالتحالف مع بعض القوى الوطنية- على ثلاثةٍ وثلاثين مقعداً، من أصل (142) مقعداً يشكّل كامل البرلمان السوريّ في ذلك الوقت.
ب- تولّي حافظ الأسد السلطة:
بعد جلاء الاستعمار الفرنسيّ عن سورية في عام 1946م، عاشت البلاد فترةً عصيبةً من عدم الاستقرار، واستطاع حزب البعث الاستيلاء على السلطة بانقلابٍ عسكريٍّ في عام 1963م. ثم استطاع الضابط حافظ الأسد أن يُحَسِّن موقعه في الحزب والجيش، إلى أن صار عضواً في القيادة القومية للحزب في عام 1965م، واستولى على قيادة سلاح الجوّ ووزارة الدفاع.
بعد سلسلة انقلاباتٍ عسكرية، قام وزير الدفاع حافظ الأسد في عام 1970م بانقلابه العسكريّ، ليصبح رئيساً للجمهورية، ثم نفّذ حزمة إجراءاتٍ دكتاتوريةٍ إقصائيةٍ في البلاد، بحق جميع القوى الوطنية، وكانت سياسته ضد التيار الإسلاميّ –لاسيما الإخوان المسلمين- أشد قسوةً وضراوة، إذ قام بإجراءاتٍ استفزازيةٍ واستئصاليةٍ دموية، تحدّى فيها عقيدة الأمة ودينها، وفتح سجونه ومعتقلاته لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين وأقاربهم، ولكل مَن يرفض هذه السياسات الدموية والدكتاتورية من أبناء الشعب السوريّ.. فوقعت المواجهات بين الشعب والسلطة، وتصاعدت وتيرة الأحداث، وأوصد النظام أي بابٍ للحلّ، بل استمرّ في عمليات الاستئصال، فاعتقل الآلاف من أبناء الجماعة وبناتها، وعشرات الآلاف من أبناء الشعب السوريّ، رجالاً ونساءً. وتعرّض هؤلاء لمختلف أنواع التنكيل والتعذيب والقتل. واضطر مئات الآلاف من السوريّين إلى الهجرة القسرية والعيش في المنافي.
* * *
من الجدير بالذكر، أنّ حافظ الأسد ينتمي إلى الطائفة النصيرية، وهي أقلية لا تتجاوز نسبتها 8% من مجموع الشعب السوريّ. وقد قامت هذه الطائفة بزعامة حافظ الأسد وعائلته وأقاربه، بالاستيلاء على المناصب الرئيسية والقيادية في الدولة والجيش. وحكم حافظُ البلادَ بقبضةٍ حديدية، واستبدّ بها، فمنع النشاط السياسيّ، وحَلّ الأحزاب الوطنية، وفرض قانون الطوارئ والأحكام العُرفية، ومنع الصحافة التي لا تنتمي للدولة، ومُنِعَت جماعة الإخوان المسلمين من القيام بأي نشاطٍ اجتماعيٍّ أو سياسيّ، وحَظَرَ الأحزاب المعارِضة، بل قام بعمليات اغتيالٍ ضدّهم في داخل سورية وخارجها.
ولعلّ أشد الإجراءات بشاعةً، هي تمرير القانون رقم 49 في عام 1980م، عبر البرلمان الصوريّ، وهو القانون الذي يحكم بالإعدام على مجرّد الانتماء التنظيميّ إلى جماعة الإخوان المسلمين، إذ تنصّ المادة الأولى من هذا القانون على ما يلي: [يُعتَبَر مجرماً ويُحكَم بالإعدام، كل مَن ينتسب لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين].
وبذلك أضفِيَت شرعية صورية على المجازر والتصفيات الجسدية التي ارتكبها النظام الحاكم بقيادة حافظ الأسد. وتنفيذاً لهذه السياسة أعطِيَت الأوامر لـ (سرايا الدفاع) بقيادة رفعت الأسد شقيق حافظ، بتاريخ 27/6/1980م.. لمداهمة سجن تدمر الصحراويّ وقَتْلِ كل مَن كان فيه من السجناء، وكان عددهم حوالي تسع مئة سجين. ولدى تصاعد الأحداث والمصادمات في مدينة حماة، قامت الوحدات العسكرية بتطويق المدينة بدءاً من تاريخ 2/2/1982م، ثم بقصفها ومداهمة بيوتها وشوارعها ومؤسّساتها وأسواقها ومساجدها وكنائسها ومدارسها و.. ودُمِّرَت فوق رؤوس سكّانها خلال شهرٍ كامل. وقُدِّرَ عدد القتلى من الرجال والنساء والأطفال، بحوالي عشرين ألفاً في الأقل. وامتدّت الاعتداءات إلى مدنٍ سوريةٍ أخرى.
* * *
لقد نُفِّذ قانون الإعدام رقم 49 على عشرات الآلاف من السوريين. وخلال ثلاثين عاماً منذ صدور هذا القانون في عام 1980م، سُجِنَ واعتُقِلَ وأعدِمَ آلاف الأشخاص، لمجرّد انتمائهم إلى جماعة الإخوان المسلمين، أو لقرابتهم بأعضائها. وما يزال العمل بهذا القانون سارياً حتى اليوم.
إنّ (جمعية مظلوم دار)، تناشد المؤسّسات الدولية ذات الصلة ومنظّمات حقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية، للقيام بواجبها، لمحاكمة المتورِّطين بهذه الجرائم من المسئولين السوريين، ولأن يعملوا على إلغاء هذا القانون الظالم ووقف تداعياته المترتّبة على تنفيذه، وعلى إعادة حقوق الضحايا والتعويض على ذويهم.
ج- اللاجئون:
بعد مجازر حماة، اضطرّت المعارضة السورية لمغادرة البلاد، واضطرّت مئات العائلات للفرار إلى الدول المجاورة، كما اضطرّ عشرات الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وذويهم إلى الهجرة القسرية، وانتشر هؤلاء في أرجاء العالَم، لاسيما في الأردن والعراق واليمن وتركية ودول الخليج العربيّ وبريطانية و.. ونشأ منهم الجيل الثاني والثالث، وكل هؤلاء لا يستطيعون العودة إلى وطنهم السوريّ، خشية الاعتقال والسَّجن والملاحقة والإعدام.
ولتوضيح حجم المأساة، على سبيل المثال، فقد روى لنا أحد اللاجئين الحمويين المقيمين في اليمن، بأنّ زوجته تسكن في سورية، وأحد أبنائه يعيش في الأردن، والثاني يعيش في تركية، وكلهم لا يملكون جوازات السفر، وليس لهم أية حقوقٍ في البلدان التي يعيشون فيها، وليس بحوزتهم بطاقات الهوية السورية.
أما النساء اللواتي فقدنَ أزواجهنّ في المجازر أو السجون والمعتقلات، فإنهنّ يبقين أرامل، وفي الوقت نفسه لا يستطعنَ أن يُثبّتنَ موتَ أزواجهنّ، وأولادُهُنّ المولودون بعد فقدان آبائهم، لا يستطيعون وراثتهم.
حتى بعد المرونة النسبية التي أبداها النظام في التسعينيات من القرن الماضي، فلا يزال المنتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين وأقاربهم وذراريهم ممنوعين من العودة إلى وطنهم، ولم تنجح كل المساعي والوساطات لتحقيق ذلك، سواء أكانت هذه المساعي والوساطات في عهد الأب حافظ أو في عهد ابنه بشار.
د- المفقودون:
منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي حتى اليوم، فُقِد عدد كبير من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم من الشعب السوريّ، وذلك في سجون النظام ومعتقلاته، ولا يُعرَف شيء عن مصيرهم بعد الاعتقال، فالفرق بين الفقدان والموت بسيط جداً في السجون السورية، إذ لا يمكن للمعتَقَل أن يقابِلَ محامياً عنه أو أحداً من عائلته، فتنقطع أخباره، والذين يُلِحّون على السلطات لمعرفة مصائر أبنائهم أو ذويهم، يواجهون خطر الاعتقال.
لا يزال آلاف الناس قابعين في السجون السورية، وقد مضى على أكثرهم ثلاثة عقود، ولا يمكن الاتصال بهم، ولا توجد أي إشارةٍ على استمرار حياتهم، ولم تُسفِر الطلبات المقدَّمة إلى السلطات السورية عن أي نتيجة.. لذلك، فهؤلاء يُعتَبرون في عِداد المفقودين أو المختفين قسرياً، وعددهم يتجاوز العشرين ألفاً حتى الآن.
هـ- مجزرة سجن تدمر (بالميرا):
لقد فُتِحَت أبواب سجن تدمر أمام أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وقالت السلطات إنها أغلقته في عام 2001م، لفرز معتقلي الجماعة عن المعتَقَلين الآخرين.
هذا السجن الصحراويّ يمارَس فيه التعذيب بشكلٍ منتظم، وبكلّ أنواعه، كالضرب بالهراوات والصعق بالكهرباء والتعليق من الساقين.. وغير ذلك.
لقد تعرّض هذا السجن إلى مداهمةٍ واعتداءٍ مسلّحٍ قامت بهما قوات (سرايا الدفاع) بقيادة رفعت الأسد شقيق حافظ، وذلك في ليلة 27/6/1980م، فراح ضحية ذلك –حسب تقرير منظمة العفو الدولية لعام 1983م- ما بين ست مئةٍ إلى ألف قتيلٍ من السجناء.
وفقاً لبياناتٍ أدلى بها بعض النزلاء القدماء لسجن تدمر، وذلك لمنظمة مراقبة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش)، فإنّ جثث ضحايا مجزرة تدمر قد دُفِنَت في مقابر جماعيةٍ في الصحراء، ولم تُسَلَّم إلى ذويها. ويفيد (نزار نيوف)، وهو أحد السجناء السابقين، بأنه اطّلع على تلك المقابر قبل عام 1991م، وأنّ كشفها دفع السلطات السورية إلى نقلها لأمكنةٍ أخرى مجهولة.
كما أفادت تقارير لجان حقوق الإنسان، بأنّ عمليات الإعدام والقتل الجماعيّ، كانت تُنَفَّذ ما بين عامي 1980-1983م، بمعدّل 35 إلى 50 شخصاً في كل عملية، وبواقع مرتين أسبوعياً. وأنّ أول عملية إعدامٍ جماعيٍّ من هذه العمليات، التي نُفِّذَت -بعد ذلك- في عام 1984م، كان عدد ضحاياها مئةً وثمانين شخصاً. ثم توقّفت في عام 1985م، لتعودَ بعد ذلك من جديدٍ وتتصاعد، وذلك بعد اندلاع أعمال عنفٍ في دمشق وبعض المحافظات السورية. وقد استمرّت عمليات الإعدام، وتحقّق وقوع عملية قتلٍ جماعيٍّ لمئةٍ وستين شخصاً في عام 1989م.
إنّ عمليات القتل والإعدام التي ذكرنا أمثلةً عنها أعلاه، تُعَدّ انتهاكاً سافراً لبنود الاتفاقيات المدنية والسياسية الدولية (أي سي سي بي آر)، وخَرقاً للمادة السادسة من هذه الاتفاقيات، وذلك لأنها تفتقد لأدنى معايير المحاكمات العادلة.
وعلى الرغم من أنّ أعداداً من المعتقَلين السياسيين قد أُطلِقَ سراحهم بعد عام 1990م، إلا أنّ منظمة العفو الدولية رصدت وقائع موتٍ في السجون السورية، وذلك في التسعينيات من القرن الماضي، وفي السنوات الأولى بعد عام 2000م.
و- مجزرة حماة:
في فبراير (شباط) عام 1982م، ارتكبت السلطةُ السوريةُ -في مدينة حماة- أبشع مجزرةٍ في العصر الحديث، وذلك للقضاء على المعارضة، في مقدمتها: (جماعة الإخوان المسلمين). ووفقاً لتقارير منظمة العفو الدولية، فقد تعرّضت المدينة إلى القصف الجويّ والأرضيّ على مدى خمسة أيام، تمهيداً لعبور الدبابات إلى الشوارع الضيقة للمدينة وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها، وقَتْلِ الرجال والنساء والأطفال دون تمييز.
وعلى الرغم من إعلان وزير الدّفاع آنذاك (مصطفى طلاس) قمعَ أعمال الشّغب، بعد القصف العنيف الذي استمرّ إلى يوم 15 فبراير (شباط) من العام نفسه، فإنّ المدينة بقيت تحت الحصار. وتواصلت عمليّات الاعتقال على مدى أسبوعين، كانت قوى الجيش خلالهما تتعامل بوحشيةٍ مع السكّان، وترتكب أعمال القتل الجماعيّ. وعلى الرغم من التعتيم الشديد على ما كان يجري، فإنّ (منظّمة العفو الدّوليّة) قالت: [إنّ أنباء ممارسات القتل الجماعيّ كانت تتسرّب إليها، ومن ذلك: قتل سبعين شخصاً في المستشفى خارج المدينة بتاريخ 19 فبراير (شباط)، وفي اليوم نفسه، قامت كتيبة من الحرس الخاص للنظام، بقتل أعدادٍ كبيرةٍ من المواطنين في منطقة (حيّ الحاضر)، وكانت القوى المسلّحة تستخدم غاز (السّيانيد) ضدّ المباني التي كانت تشك بوجود المعارضين فيها. وعلى صعيد آخر، فقد كان المعتقلون المدنيّون من سكّان المدينة، يُجَمّعون في معسكرات الاعتقال بالعراء، وذلك في المطار العسكريّ والملاعب الرّياضيّة، لأيامٍ عدّة، من دون طعامٍ أو شراب].
* * *
إنّ قمع سكّان حماة، الذي كان مُبَيَّتاً من قبل النّظام السّوريّ، استغرق ثلاثة أسابيع، على الرغم من استخدام وسائل العنف الشديد. وكان الرئيس السّوري يُبلّغ الصّحفيّ الّذي أجرى مقابلةً خاصّةً معه بتاريخ 24 فبراير (شباط)، بأن الحياة الطّبيعيّة قد عادت إلى المدينة، على الرغم من أنّ الطّرقات كانت مغلقةً في تلك اللّحظات، وكانت القوّات العسكريّة تستخدم المدفعيّةَ الثقيلةَ لقصف بعض الأحياء، كما كانت المروحيّات تُـمطِر المدينةَ بالقنابل، وكذلك كانت الجرّافات تهدم الأماكن المستهدَفَة في المدينة. يروي بعض النّاجين من المجازر: [إنّ المدينة كانت مليئةً بالروائح الكريهة التي كانت تفوح من الجثث المتفسّخة، المنتشرة في كل الأرجاء وتحت أنقاض المباني المهدَّمَة، التي غصّت بالقتلى والجرحى، وكان كثير من القتلى والجرحى من القاطنين في حماة، ينتمون إلى المدن الأخرى في سورية، وقد تعرّضوا للمصير نفسه إثر المداهمات].
قَتْلُ أسرة (الشيخ عثمان)، حسب روايةٍ موثّقةٍ لشاهد عيان:
لقد داهم الجنود في (حيّ الشّرقيّة) منـزل المواطن الحمويّ (محي الدّين الشيخ عثمان)، الذي تجاوز عمره الثمانين عاماً، وكانت معه زوجته، وكذلك أولاده وأحفاده، فاعتقلوهم جميعاً، ثم قتلوهم، وقد بلغ عددهم حوالي الثلاثين قتيلاً، وفيما يلي قائمة بأسماء بعض من كانوا في البيت:
- زوجة محي الدّين الشّيخ عثمان من عائلة (شناب).
- زوجة أحمد الشّيخ عثمان من عائلة (طهماز).
- زوجة محمّد الشّيخ عثمان من عائلة (منصور).
- زوجة أسامة الشّيخ عثمان.
- زوجة ممدوح الشّيخ عثمان من عائلة (الخاني) مع أولاده الثلاثة.
- بنت محي الدّين الشّيخ عثمان، (نورية) وأولادها.
- أولاد أحمد الشيخ عثمان، (مأمون) و(نبيل).
- دجانة بن محي الدّين الشّيخ عثمان.
- عمر الشّيخ عثمان.
- إبراهيم الشّيخ عثمان.
- زبير الشّيخ عثمان.
- فيصل الشّيخ عثمان.
- زياد الشّيخ عثمان.
- عثمان الشّيخ عثمان.
لقد لقي جميع أفراد العائلة مصرعهم، وانهار البيت، أما (محيّ الدّين الشّيخ عثمان) ذو الثمانين عاماً، فقد قُتِل بعد فترةٍ وجيزة.
* * *
لقد دُمِّر عدد كبير من المساجد أثناء الهجمات، وكذلك تأثّرت الكنائس في المدينة من القصف الرّهيب، ولم يُسمَع صوتُ الأذان في حماة طوال ثلاثة شهورٍ بعد الأحداث، ووفقاً للإحصائيات، فإنّ (38) مسجداً ومركزاً دينياً قد هُدِّمَت كلياً، وتأثر (19) مسجداً بشكلٍ جزئيٍّ جرّاء القصف، وبعضها استخدمتها السلطة لأغراضٍ عسكريةٍ أخرى.
ولم يستطع أحد تفادي تهديم الكنائس في حماة، فتحوّلت الكنيسة المشهورة (الجديدة) إلى خراب، وهي تُعتَبَر من أهمّ الآثار التّاريخيّة. وكذلك تهدّمت كنيستان أخريان أثناء الهجمات.
إنّ آلاف الجرحى من الضّحايا قد تعرّضوا للموت، بسبب مَنع الأجهزة الأمنيّة الأطبّاءَ من معالجتهم، وبعضهم دُفِنوا أحياء في المقابر الجماعيّة. ولقي مئة وثمانون شخصاً من المرضى مصرعهم، إثر هجماتٍ عنيفةٍ شنّتها القوات المسلّحة على مستشفيات المدينة. وتعرّضت الصيدليّات في المدينة لأعمال السّلب والنهب من قِبَلِ الجنود، بينما صيدليّة واحدة فقط، قد نجت من النهب. وقُتِلَ بعض الأطفال الرضّع، وحتى الأجنّة في بطون الحوامل لم تسلم من القتل، بعد بَقْرِ بطون الأمّهات. كما رُمِيَ الأطفال الصّغار من نوافذ الشّقق وشرفات المنازل، وسط آهات أمّهاتهم. وكثير من الأطفال فقدوا حياتهم إثر مجاعةٍ استمرّت أسابيع عدّة. وبعض الجنود قاموا بقطع أيدي النساء من المعاصم، لسرقة الأساور الذهبية. وكثير من النّساء قُتِلْنَ بعد تعرّضهنّ للتّعذيب الرّهيب. ومَن كان يرفض من الجنود ممارسة العنف ضدّ المدنيّين، يُعَرِّض نفسَه للموت من قبل قادته. حتّى كبار السّنّ كانوا من بين القتلى بدون تمييز. وكانت الأجهزة الأمنيّة تمنع دفن الجثث، ومَن تجرّأ على ذلك فقد كان الموتَ جزاؤه. رائحة الجثث كانت تسود المدينة، وأخذت الأمراض تتفشّى. وفى الأيام الأخيرة من المجزرة ارتفعت وتيرة القتل، وكانت أوامر المطالَبة بزيادة الاعتقالات تأتي من السّلطات العليا، لغاية اختتام الاستجوابات. في 26 فبراير (شباط)، أُوقِفَ (1500) شخص، كان بينهم مفتي حماة، ولم يُعرَف مصيرهم حتى اليوم. وفي اليوم نفسه، أمر رفعت الأسد، بعزل ألفٍ من مسئولي المساجد والمراكز الدّينيّة عن المعتقلين الآخرين، ولا يُعرَف مصير هؤلاء بعد أن اقتيدوا إلى أماكن غير معروفة. وبعد وقوع المجازر اختلّت نسبة النساء إلى الرجال، ثمّ نشأت مشكلات المعيشة، وشحّت الموارد، وذلك بعد أعمال النهب التي تعرّضت لها المحالّ التجارية من قِبَلِ الجنود المهاجمين.
لقد اضطرّ الآلاف من سكّان المدينة إلى مغادرة البلاد بعد وقوع المجزرة في حماة، وتطرّقت بعض الصّحف العالميّة إلى هذه المجزرة، التي تُعَدّ الأسوأ من نوعها في القرن العشرين، فقد قالت إحدى المجلّات الفرنسيّة (في عام 1982م): [كان عدد ضّحايا مجزرة حماة أكبر من عدد ضحايا الحرب التي دارت بين سورية وإسرائيل في حرب أكتوبر(تشرين الأول) عام 1973م]. وأفادت مقالة منشورة في مجلة الإيكونوميست، بأنه [ربما لن يعرفَ أحد في المستقبل، الحقائقَ التي جرت في مدينة حماة، التي تقع على مسافة 120 ميلاً من العاصمة السورية دمشق، فقد استغرق الحصول على الإذن الحكوميّ الخاص بدخول الصّحفيّين إلى المنطقة، التي كانت محاصرةً بدبّاباتٍ ومدفعيّاتٍ قبل ثلاثة أشهر.. استغرق أسابيع عدّة].
قصة المصوّر (كرم) حول مجزرة حماة:
كان (كرم) طالباً في الصّفّ السّادس بكلّيّة الطّب في جامعة دمشق، سافر إلى حماة بعد شهرين من وقوع المجازر، واستطاع تصوير آثار الأحداث الوحشيّة والهمجية، من داخل سيارته، مختبئاً من عيون الأجهزة الأمنية، ثمّ سافر إلى طرابلس لبنان، وطبع الصّور ووزّعها، ثم عاد إلى دمشق، وقد بلغ السلطات السورية الخبر، وفي سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، قُتِل (كرم) من قِبَل السلطة السورية وأُحرِقَ بيته.
* * *
لقد دُمِّرَت المناطق التّاريخيّة في المدينة بالجرّافات، ووفقاً للإحصائيات لدى جماعة الإخوان المسلمين في سورية، فقد كانت الخسائر البشريّة حوالي عشرين ألف شخصٍ في أقل تقدير، وعلى كل حال، فإنّ الأرقام الدقيقة لن تتّضحَ أبداً، بسبب تكتّم السلطات السورية على حقائق الأحداث، وانعدام الشفافية لدى السلطات السورية.
لقد دُمِّرَت المساجد والكنائس بدون تمييز، وكان في المدينة (8000) مسيحيٍّ يتعايشون جنباً إلى جنبٍ مع الأكثريّة السّنّيّة المسلمة، بالمحبّة والوئام.
يقول مراسل جريدة الحرّية الفرنسية (تشارلز بوبيت)، الذي نجح بالدّخول –ملثّماً- إلى المدينة أثناء الأحداث، بتاريخ 1 آذار 1982م: [.. وفي أول يومٍ بعدما دخلتُ المدينة شاهدَ عيان، التقيتُ امرأةً كانت تشتكي من أنها اضطرّت لإخفاء جثّة زوجها -مفصول الرأس- فى بيتها، وذلك كما كانت تفعل الكثيرات من الحمويّات. ولم أسمع صوتَ الأذان طوال فترة بقائي في المدينة، بسبب استهداف المساجد والمآذن].
* * *
رابعاً: انتهاكات حقوق الإنسان تجاه الأكراد في سورية
أ- الوضع العام:
القومية الكردية هي الثانية بعد العربية في سورية، وتبلغ نسبة الأكراد في البلاد حوالي 10%، وعددهم حالياً يبلغ حوالي مليوني نسمة من أصل عشرين مليون سوريّ. والأكراد جميعهم تقريباً ينتمون إلى أهل السنّة في سورية، التي تبلغ نسبتهم فيها 78-82%، ولغة الأكراد هي الكرمانجية، ويقطن القسم الأكبر منهم في شمالي شرق البلاد، والأصليون منهم يقطنون في جبل الأكراد، أما القادمون من الخارج (تركية) فيقطنون في منطقة الجزيرة السورية الغنية بالنفط، وهم في هذه المنطقة يمثلون نصف أكراد البلاد تقريباً، وهؤلاء تمنع السلطات السورية عنهم حقوق المواطَنة. أما باقي الأكراد فقد اندمجوا بالمجتمع العربيّ السوريّ، ويعيشون في بعض المحافظات، كدمشق وحلب وحماة وحمص واللاذقية.
ب- الوضع التاريخيّ:
ينقسم العهد الكرديّ في سورية إلى فترتين زمنيتين، الأولى: تبدأ من الحرب العالمية الأولى إلى عام 1950م، والثانية: تبدأ من عام 1950م حتى اليوم، وهي الفترة التي تشمل سيادة القومية العربية في سورية.
إنّ جذور القضية الكردية في سورية، تعود إلى مطلع القرن العشرين، عندما قُسِّمت الأقاليم الإسلامية، ونُفِّذَت اتفاقية (سايكس-بيكو ) بعد زوال الخلافة العثمانية، إذ بقي المجتمع الكرديّ داخل حدود الدولة السورية أصغر نسبياً من مجتمعات الأكراد في تركية والعراق، وهناك أعداد من الأكراد نزحوا من تركية إلى سورية بعد قمع تمرُّداتٍ في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
كان الأكراد في سورية ما بين عامي 1920م و1946م يحملون الجنسية السورية، وذلك إبّان الاحتلال الفرنسيّ لسورية، وكانوا يتمتّعون بحقوق المواطَنة السورية بشكل كامل، ولم يُعَانوا من المضايقات والاضطهاد، لكن هذا الوضع بدأ يتغير بعد عام 1950م، واشتدّ اضطهاد الأكراد السوريين من قبل السلطات السورية، حين اعتبر النظامُ السوريّ القوميّ أنّ المجتمع الكرديّ يشكّل خطراً على السيادة القومية العربية السوريّة، لذلك اشتدّت الضغوط على هذا المجتمع في فترة صعود القوميّة العربيّة، واتُّـخِذَت إجراءات مجحفة لإضعاف القدرة الاقتصادية للنخب الكرديّة، وصودِرَت الأراضي في منطقة الجزيرة السوريّة، وأُجري إحصاء لتعداد السكان، أُهمِلَ فيه عدد النازحين الأكراد من تركية، وذلك فيما عُرف بحملات تعريب المناطق الشمالية الشرقية الغنية، ونُزِعَت الجنسية السورية من هؤلاء، وبالتالي نُزِعَت منهم حقوق المواطَنة، ثم تلا ذلك تقييد استخدام اللغة الكرديّة. وقد بلغ عدد هؤلاء المحرومين من حقوق المواطَنة، مئةً وعشرين ألفَ نسمة.
بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في سورية، أصبحت القومية العربية محوراً أساسياً في السياسة السورية، وبدأ تنفيذ مشروعِ قوميِ عربيِ تحت عنوان (الحزام العربيّ)، الذي شُرِّدَت بموجبه التجمّعات الكردية الموجودة في المنطقة المحاذية للحدود التركية، التي يبلغ طولها (300 كم) وعرضها (10-15 كم)، وهي المنطقة الغنية بالنفط والقمح والقطن.
في بداية السبعينيات من القرن الماضي، قامت السلطات البعثية السورية في عهد حافظ الأسد، بتأسيس ما يُسمّى بـ (القرى العصرية)، استكمالاً لمشروع (الحزام العربيّ)، وتمَّ إحلال تجمّعاتٍ من السوريين العرب في هذه القرى (400 عائلة في عام 1975م، في 41 قرية عصرية)، وعلى الرغم من أنّ مشروع (الحزام العربيّ) قد أُلغي في عام 1976م، فإنّ السلطات السوريّة لم تسمح للأكراد بالعودة إلى أراضيهم القديمة.
* * *
الأكراد في سورية محرومون من حقّ استخدام لغتهم، وحق التعليم باللغة الكردية، وذلك بخلاف المجتمعاتٍ الأصغر بكثير، كالأرمنيّة والآثوريّة، التي تتمتّع بكامل حقوقها الثقافية (اللغة، فتح المدارس الخاصة التي تُدرِّس بلغتهم المحلية..). كما قامت السلطات بتغيير أسماء المناطق الكردية إلى العربية، وذلك بقوانين رسميةٍ صدرت في نهاية السبعينيات من القرن الماضي.
مع ذلك، فإنّ حقبة السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات، كانت إيجابيةً نسبياً في التعامل مع الأكراد السوريين، وكان للسلطات السورية علاقات طيبة مع الأكراد في تركية والعراق، وقد افتُتحت معسكرات تدريبية لحزب العمّ