بحث مقدم لملتقى :
الإمام الأشعري: إمام أهل السنة والجماعة
الذي تنظمه الرابطة العالمية لخريجي الأزهر
القاهرة:8 ـ11/05/2010
أ.د/ عبد المجيد النجار
الأمين العام المساعد
للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لئن تحقّق للإسلام الظهور، وانبسطت رايته على رقعة واسعة من العالم ابتداء من النصف الثاني من القرن الأول، فإنّ التحديات الخطيرة ظلّت تتناوشه باستمرار من داخله ومن خارجه، وبوسائل ومناهج متعددة ومختلفة متجددة، ولكنّه كان يجد من قوّته الذاتية دوما ما يواجه به تلك التحديات، ويجابه تلك الأخطار، مطورا من الأساليب ما يناسب تطورات المخاطر، ومجددا من أمر نفسه ما يضمن له البقاء، بل ما يضمن له القوّة والانتشار والعطاء. ولعلّ من أكبر التحديات التي واجهت الإسلام والمسلمين من أول عهد استقراره أمرين خطيرين يتعلق أحدهما بالحياة السياسية، ويتعلق الثاني بالحياة المنهجية الفكرية المتعلقة بالدفاع عن العقيدة وإثباتها للعالمين.
أما التحدي في المجال السياسي، فقد ظهر مبكرا في الفتنة التي قسمت المسلمين في عهد الصحابة، ومضت فيهم بعد ذلك على مرّ الأيام متمثلة في الثورات المتتالية التي لم يخل منها زمن، حتى لكأنّ تلك الثورات هي التي كانت تشكّل التاريخ السياسي للمسلمين بانقلاب دولة على دولة، أو بخروج فئة على ما هو قائم من الدول، وفي خضمّ ذلك كانت تلك الفتن تعمل عملها المأساوي في الواقع الاجتماعي والنفسي والفكري بل والعقدي أيضا، حتى إنه لا يمكن بحال الفصل بين التاريخ الفكري العقدي للمسلمين وبين الفتن السياسية التي كانت تحدث في واقعهم، وما آل إليه أمر الفرق من حيث معتقداتها شاهد بيّن على ذلك.
وأما التحدي في المجال الفكري العقدي فهو يتمثل في ذلك الهجوم الخارجي على العقيدة الإسلامية مسلحا بأحزاب من الديانات والمذاهب والفلسفات، اجتمعت كلها على أن تحرّف من هذه العقيدة وتجرّها إلى مواقعها هي لاحتوائها وإلباسها لبوسها في سبيل إضعافها وربما القضاء عليها. ولئن تصدى إلى ذلك الهجوم فئة من المسلمين بقدر كبير من الكفاءة المسنودة بالقوة الذاتية للمعتقدات الإسلامية في ذاتها، فإن هذا الوضع أفضى إلى تحدّ جديد ذي صفة داخلية، وهو المتمثل في ظهور استقطاب في عرض الدين ومعتقداته بين قطبين يروم أحدهما الحفاظ على تلك المعتقدات صافية من ينابيع الوحي دون أن يشوبها ما عسى أن يكدّرها من استدلال للعقل الذي قد يشط به جموحه إلى ما يغير فيها، وهو المنحى الذي التزمه أهل الفقه والحديث من المسلمين، ويسعى الآخر إلى أن ينتصر للعقيدة الإسلامية في مواجهة التحدي الخارجي الجارف بنفس سلاحه وهو الاستدلال العقلي الذي لا يسلم من بعض التأثر بسلاح الأعداء المهاجمين، وهو ما كان يتصدره المعتزلة. وكان بين القطبين من الخصومات ما يشوّش على معتقدات المسلمين كما كانت في الطور الأول من حياة المسلمين.
وكان لا بدّ لهذين التحديين من مواجهة تعود بالميل الذي يحدثانه في الحياة السياسية والفكرية إلى العدل، وتجنّب المسلمين الآثار السلبية التي تنتج عنهما وتمتدّ إلى مفاصل الحياة كلها. فلما كان القرن الثالث للهجرة، وكانت الحياة السياسية قد فشت فيها ثقافة الخروج في المجال السياسي مهما تكن عليه الدولة من قوة، كما كانت الحياة العقدية تتعرض لعجز أهل الأثر عن نصرتها بمنهجهم الكاشح عن الاستدلال العقلي، كما تتعرض لجموح من أهل العقل في نصرتهم العقلية بما يُرى أنّ فيه بعضا من التأثّر السلبي بأسلحة الهاجمين بدأ يتشكّل في رحم الضمير الإسلامي توجّه نحو مواجهة للتحدي الفكري والسياسي معا، وذلك ببروز قطب جديد في الثقافة السياسية وفي المنهجية العقدية من شأنه أن يعود بالمسيرة الإسلامية إلى السواء بعدما تعاورتها التطرفات ذات اليمين وذات الشمال. وكان الإمام الأشعري يمثل الرائد في هذا التيار الإصلاحي الجديد.
1 ـ المؤثّرات في الفقه السياسي الأشعري
لقد توفرت للإمام الأشعري فرصة ذاتية مكّنته من أن يكون الرائد في هذا التيار الإصلاحي فكرا سياسيا ومنهجا عقديا؛ ذلك أنه انتسب إلى التيار الاعتزالي مدة طويلة، فخبر منهج هذا التيار، ووقف على ما فيه من قوة وما فيه من ضعف، ولكن انتماءه إلى هذا التيار لم يكن يضعف عنده تمكّنه العلمي من العلوم الشرعية التي كانت مشرب أصحاب التيار الأثري، فكان إذن متوفرا على إمكانية أن يقف من التيارين موقف الخبير بهما العارف بما فيهما من مكامن القوة ومكامن الضعف، فلما استوى نضجه الفكري بعد رحلة طويلة مع الاعتزال شقّ لنفسه نهجا جديدا في المنهج الفكري، هو ذلك المنهج الذي يجمع بين الدليل الشرعي مأخوذا من القرآن والسنة وبين الدليل العقلي المستند إلى قوة المنطق وقواعد الحجاج، وبذلك المنهج أصبح يصدر في مذهبه الإصلاحي في كل مجالات المعرفة عقيدة وسياسة وفكرا شرعيا.
لم يكن الإمام الأشعري فيما اشتهر عنه من منزع علمي عقدي بمعزل عن الحياة السياسية وما تعجّ به من أحداث وما تزخر به من فتن، بل إنه كان يعيش صلب تلك الأحداث واقعا، كما كان يعيشها فكرا وثقافة، ونشير في هذا الصدد إلى أنّ الفقه السياسي في العلوم الإسلامية لئن كان فقها تطبيقيا مثل سائر أبواب الفقه إلا أنّه في المدونة العلمية الإسلامية كان يُلحق دوما أو غالبا بعلم العقيدة فيما يعرف بباب الإمامة، خاصة وأنّ أحد الأطراف الأساسية من الفرق الإسلامية وهي فرقة الشيعة كان يعتبر هذه المسألة من مسائل العقيدة الأساسية، فكان إذن الإصلاح المنهجي العقدي الذي انطلق منه الإمام الأشعري يستهدف بصفة مباشرة التأسيس للفقه السياسي على أساس ذلك المنهج المبني على توافق العقل والنقل، فتضافر إذن عاملان أساسيان في التوجيه المنهجي لهذا الفقه، وفي بناء الأحكام الأساسية فيه على صفة من الوسطية التي تردّ الأطراف إلى العدل، فكانت تلك هي الخاصية الأساسية لهذا الفقه.
أ ـ فتنة الخروج
يتمثل هذا العامل المؤثّر في أحداث الفتنة التي كان يزخر بها الواقع السياسي للمسلمين، متمثلة في مشاهد الخروج على الحاكم القائم، وهو الأمر الذي كانت تقوم به الفرق الكثيرة من منطلق القيام بالواجب الديني كما تراه بسطا للعدل ومقاومة للجور، أو كانت تقوم به بعض الجماعات لأسباب عرقية أو شعوبية أو انتقامية أو غير ذلك سواء تذرعت بذرائع دينية أو كانت دوافعها مرسلة دون تبيان أسباب، وفي كلّ الأحوال فقد كانت هذه الوقائع تسبّب إرباكا كبيرا في المسيرة العمرانية للمسلمين، ناهيك عما تسببه من اضطرابات أمنية ومن مفاسد اجتماعية ومن مآس إنسانية تكون أحيانا واسعة النطاق في الأمّة.
لقد كان هذا الخروج وما يسببه من فتن يمثّل هاجسا للكثير من المشتغلين بالفقه السياسي، فأرادوا أن يجدوا له علاجا في فقه الأحكام السياسية ليكون من تلك الأحكام من القوّة الرادعة ما يلجم شهوة الخروج إن كانت شهوة، بل ما يكفكف النزوع الديني للخروج بغية إقامة العدل إذا كان صادرا عن هذا النزوع المشروع، وذلك باعتبار ما تسبّبه الفتن من المفاسد التي قد تربو أحيانا عن المفاسد التي يسببها غياب العدل نفسه، فدخل العامل العلمي المنهجي في معالجة القضية.
ولا شكّ أنّ الإمام الأشعري كان من بين هؤلاء المهمومين بقضية فتنة الخروج وما تسببه من المفاسد، وكان من بين من يبحث لها عن مخارج من الأحكام الفقهية المبنية على أصول وقواعد تؤول بها إلى أن يخفّ وقعها على المسلمين، وينتهي ضررها بما تلحقه من اضطراب على مسيرة الحياة. ويمكن أن يُستشفّ هذا الأمر مما كان يورده من أخبار مستفيضة عن الخروج والخارجين وما يسببه ذلك من خراب فيما يوحي باستشعاره لفداحة هذا المسلك السياسي، واستهانة الناس به بالرغم من شديد ضرره، وتفاهة أسبابه في الكثير من الأحيان[1].
لقد كان هذا الوضع المتمثل في النزوع إلى الخروج على السلطان الحاكم بحق وبغير حق وبتأويل وبغير تأويل، وما يترتب عليه من المفاسد أحد الموجهات الأساسية للإمام الأشعري فيما نقدر في بنائه الفقهي السياسي، وهو ما سنلمسه لاحقا في تقريراته الفقهية المتعلقة بالكثير من الأحكام السياسية وما بنيت عليه من الأدلة والقواعد، بحيث يمكن أن يعدّ ما جرى به واقع المسلمين من فتنة الخروج أحد أهمّ الأسباب المؤثرة في السمة الفقهية العامة للسياسة الشرعية في تقريراته الفقهية السياسية .
ب ـ منهجية تعاضد العقل والنقل
يتمثّل هذا العامل المؤثّر فيما آل إليه مجمل الفكر الأشعري من الوسطية التي تردّ التطرفات إلى الوسط ليلتقي العقل والنقل على صعيد من التكامل والتعاضد في الاستدلال، فقد كان لهذا العامل الموجّه الدور الكبير في الفقه السياسي الذي آلت إليه تقريرات الإمام، بحيث لا يعدم الناظر فيها ملحظا بيّنا يتخلل جميع مفاصلها، وتردّ فيه الأطراف من الرؤى والتقريرات والأحداث التي كانت سائدة إلى موقع وسط كما سنبينه لاحقا.
وقد كانت الساحة السياسية على عهد الأشعري وقبله تتنازعها تيارات متقابلة في النظر الفقهي العقدي وفي السلوك الواقعي الفعلي، بحيث كان المشهد يتشكّل في استقطاب بين طرفين يشبه ذلك الاستقطاب الذي كان يمثله المشهد الاستدلالي بين العقل والنقل، فمن جهة كان الخوارج يجنحون إلى مثالية في الحكم وأسبابه وأساليبه يكاد لا يقوم على شيء من واقع الحياة الذي يجري بين الناس، فإذا هم يسارعون إلى تكفير الحكام والخروج عليهم، بدءا بالإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فما بالك بمن بعده ممن ينتصب في هذا المنصب. ومن جهة أخرى كانت الشيعة تركب مركب الشطط المقابل بالرفع من مقام الإمامة متمثلة في الإمام علي رضي الله عنه وبنيه إلى درجة التقديس المتعالية عن الطبيعة البشرية العادية، لينتهي بها الأمر في النتيجة إلى ذات المنتهى من الرفض لكل من ليس من سلسلة الأئمة والخروج عليهم في كثير من الأحوال.
لما جاء الأشعري وجد هذا الاستقطاب قائما في صورته الثقافية الفقهية والعقدية، وفي صورته العملية السلوكية، وبمقتضى ما انتهى إليه من منهجية تعتمد الاستدلالية الوسطية، كانت هذه المنهجية عاملا موجها لفقهه السياسي نحو ردّ الشطط في التقريرات الفقهية والعقدية في الاتجاهات المتقابلة إلى ما تقتضيه مصلحة المسلمين وفق مبادئ كلية عامّة في الفقه السياسي يُفسح فيها المجال واسعا للاجتهادات التطبيقية بحسب ما يتحقق من مصلحة وما يستبعد من مفسدة.
من هذين المؤثرين الأساسيين: الفتن ومآسيها، والمنهجية الوسطية في الاستدلال الجامعة بين العقل والنقل انطلق الإمام الأشعري في تقريره لأحكام الفقه السياسي في فصوله المختلفة، تأسيسا على ما أقامه الوحي في ذلك من القواعد العامة المحكمة، وانفساحا للحكمة العقلية فيما تقتضيه بحسب مقتضيات الأحوال ومجريات الوقائع مما فيه للمسلمين خير وصلاح. وما رسمه في ذلك ظلّ يتردّد بعده عند أتباعه دون تغيير إلا في الأقلّ، فكان بذلك إماما في الفقه السياسي، كما كان إماما في الفكر العقدي.
إنّ الناظر في الفقه السياسي للإمام الأشعري يجد صعوبة في استجلاء هذا الفقه بشمولية ودقة؛ ذلك لأن الإمام لم يؤلّف كما يبدو مؤلفا خاصا بهذا الفقه على غرار من سلكوا هذا المسلك من مثل الماوردي وغيره، ولكنه تناول القضايا السياسية ضمن مبحث الإمامة من كتبه العقدية باعتبار أن هذا المبحث يلحق غالبا بالمؤلفات في أواخرها، وحتى تناوله لهذه القضايا في مواقعها لم يكن مفصلا ولا واضح المعالم بالقدر الكافي لمن يريد تبيّن التفاصيل، ففي مقالات الإسلاميين على سبيل المثال كان الأشعري يورد مقالات مختلف الفرق الإسلامية في القضايا المتعلقة بالإمامة، ولكنه يكتفي بذلك العرض المجرد دون أن يبيّن رأيه هو فيما يورده، ودون أن يكون له تعليق عليها بالموافقة أو الاعتراض إلا في الأقلّ، وفي كتابيه الإبانة واللمع لم يتناول الإمامة إلا باختصار شديد لا يتجاوز الاستدلال على مشروعية الخلافة الراشدة في ترتيبها الذي تمّت عليه، وربما قد خصّ الإمام مسألة الإمامة ببعض التآليف كما ذكر ذلك عنه، ولكنّ شيئا منها لم يصل إلينا لنستجلي منها حقيقة آرائه بصفة مباشرة.
ولكن الذي يسعفنا في هذا الشأن بشيء مما فات من المؤلفات المباشرة للإمام هو ذلك الجمع الشامل والدقيق الذي قام به الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك (ت 406 هـ)لجميع آراء الأشعري مجردة من تصانيفه ما وصل منها إلينا وما لم يصل، ومبوبة بحسب أبواب العقيدة، ومن بين ذلك فصل يتعلق بالإمامة وقضاياها، وهو الذي سماه " مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري"، وباعتبار ابن فورك من أتباع الأشعري ومن أهمّ المهتمين بآرائه ومن الطبقة التي تليه مباشرة، فإن ذلك بالإضافة إلى المنهجية التي اتّبعها في هذا الجمع كما شرحها في مقدمة كتابه يعدّ من العوامل المطمئنة كي يكون ما عرضه ابن فورك من الآراء السياسية للإمام مهما يكن مختصرا معتمَدا أساسيا لاستجلاء الفقه السياسي للأشعري تضاف إلى ما ورد عنه مباشرة في ثنايا مؤلفاته ورسائله، وقد يستضاء في ذلك أيضا بما رواه عنه أتباعه فيما بعد بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وبالأخص منهم الباقلاني في التمهيد وإمام الحرمين في كتابه غياث الأمم على وجه الخصوص.
وباعتبار أن الأشعري كان يتناول القضايا السياسية ضمن منظومة المعتقدات وإن لم تكن معدودة عنده منها فإن الطابع العام الذي يطبع بياناته فيها هو الطابع الكلي العام لا الطابع الفقهي التفصيلي على غرار ما درج عليه الفقهاء السياسيون فيما بعد، فكأنما كان الأشعري يكتفي بالتأصيل الفقهي للسياسة الشرعية دون التوغل في فروع الأحكام وتفاصيلها. وقد تناول هذا التأصيل جملة من القضايا هي تلك التي أصبحت عمدة البحث في قضية الإمامة أو في السياسة الشرعية، مندرجة ضمن محور الإمامة في مشروعيتها ومهامها وانتصابها وانحلالها وكيفية التعامل معها. ونعرض فيما يلي جملة من هذه القضايا كما قررها الإمام الأشعري
2 ـ الإمامة: المشروعية والمهامّ
تنظيم المجتمع الإسلامي على نظام سياسي يقوم عليه رئيس دولة يضطلع بإدارته وتدبير شؤونه هو أحد الواجبات الدينية كما يقررها الإمام الأشعري، فكما أنه من تكاليف الدين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطلب العلم، فكذلك إقامة نظام للدولة على أساس الإمامة، حيث ينتصب على رأس هذه الدولة رئيس يقوم على شؤون الأمة، ويدير حياتها، وييسر لها سبل البناء الحضاري وأسبابه. وحكم الوجوب الديني لهذه الإمامة مما اتفق عليه كل المسلمين سوى ما روي عن عبد الرحمن بن كيسان الأصمّ المعتزلي من قول بأنه لو تكافّ الناس عن الخصومات وقام كل بواجبه فإن الإمامة لا يكون لها وجوب[2].
ولكن الأشعري كما هو رأي سائر المسلمين من غير الشيعة يقف بوجوب الإمامة عند الوجوب في فروع الأحكام، ولا يرتفع به إلى مبادئ العقيدة كما هو الأمر عند معظم فرق الشيعة؛ ولذلك فإنّه لا يتعلق به كفر عند الإخلال التصديقي به كما هو عندهم، ولكنه مجرد عصيان كالعصيان المترتب على الخلل في فروع الأحكام. بل إنّ هذا الوجوب لإقامة الإمامة هو وجوب كفائي وليس وجوبا عينيا، فالأمة جمعاء مكلفة بإقامته، فإن لم تفعل أثمت كلها، وإن قام بذلك فئة منها سقط التكليف به عن الباقين من أفرادها[3]. هكذا نرى الأشعري يعدل بوجوب الإمامة إلى وسط بين الأصمّ الذي لا يرى الوجوب مهما يكن رأيه شاذا، وبين الشيعة الذين يرتفعون بالوجوب إلى درجة الاعتقاد.
ومدرك وجوب الإمامة عند الأشعري هو الدليل الشرعي المسموع، وأكبر معتمد له في ذلك دليل الإجماع، إذ قد أجمع المسلمون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الإمامة، واختيار رئيس للدولة دون أن يكون لذلك معارض، وأما لو ترك الأمر لمجرد العقل لما كان له حكم بهذا الوجوب، إذ الأفعال في ذاتها كما يراها الأشعري وسائر أتباعه لا تحمل قيمة في ذاتها تكون مستند العقل في إيجابه، وإنما قيمتها يضفيها عليها الشرع بما يأتي فيها من أمر أو نهي، فكذلك الإمامة إنما وجبت بالشرع، ولو لم يرد شرع ما كان لها بالعقل وجوب[4].
لا نجد للأشعري بيانا صريحا لطبيعة الإمامة في العلاقة بين الإمام الحاكم والأمة المحكومة، هل هي علاقة تعاقد بين طرفين، أم علاقة انتصاب من طرف واحد، ولكنّ الروح العامة لبياناته في شأن الإمامة يوحي بأنه يرى طبيعة الإمامة على أنها اتفاق بين طرفين: أمّة تختار من يدير شؤونها، وإمام يقبل ذلك التكليف، وهو ما يتبين من كون الإمام عنده لا ينتصب بنفسه وإنما ينصبه أفراد من الأمة، كما يتبين بصفة أوضح من أنّ الأمّة لها حقّ الرقابة على الإمام فيما إذا كان يدير شؤونها على ما وقع عليه الاتفاق الضمني وهو أحكام الشريعة أو أنّ إدارته يداخلها الخلل في ذلك، وما يترتب على ذلك من إجراءات المحاسبة، فهذه الرقابة لا معنى لها إلا إذا كان تنصيب الإمام يعني توكيلا من الأمة أو إنابة عنها في تدبير شؤونها بما ترتضيه من أحكام الدين، وهو ما يحدد طبيعة الإمامة بأنها طبيعة تعاقدية بين الأمة والإمام[5].
والمهمة التي من أجلها تقوم الإمامة لأدائها هي مهمة إدارية، تتمثل في تنظيم المجتمع وصون أمنه الداخلي والخارجي، وتيسير سبل تماسكه ونموه وإنتاجه من " إنفاذ الأحكام وإقامة الحدود وجباية الخراج وحفظ البيضة ونصرة المظلوم والقبض على أيدي الظالمين"[6]، وكلّ ذلك يُعتبر فيه الإمام خليفة للرسول في تنفيذ الأحكام، على معنى أنه يقتفي أثره ويتأسى به فيما كان يمارسه من مهامّ التنفيذ للأحكام الشرعية، وهو ما لا يتعارض مع معنى النيابة على الأمة أو التوكل عنها، إذ هي مرتضية لتنفيذ هذه الأحكام عليها، فأنابت الإمام عنها في هذا التنفيذ الذي يكون كما تريد هي أيضا متأسيا فيه بالرسول الكريم، خليفة له فيه.
وقد عرض الأشعري في معرض التأكيد أنّ مهمّة الإمامة ليست بحال مهمّة تشريعية، على معنى أن يكون الإمام له حقّ التشريع ابتداء أو تغييرا، إذ تلك إنما هي مهمّة مجموع الأمّة بطريق الاجتهاد في الفهم للكتاب والسنة، أو باستعمال العقل قياسا واستنباطا، والإمام في هذا الشأن إنما هو كمجتهد من المجتهدين، و" كواحد من الأمّة يقيم الحدود على حسب ما دلّت عليه آي الكتاب والسنن وحصل عليه اتفاق الأمّة وما دلت عليه العقول بالقياس والاستنباط من هذه الأصول"[7]. ولكأنما الإمام بثاقب نظره يتصدى على سبيل الاستبصار المستقبلي للشبه التي وردت بعد قرون تتهم النظام السياسي الإسلامي بالتيوقراطية التي يشرع فيها رئيس الدولة باسم الله استقلالا عما يرتضيه المجتمع من التشريعات.
إننا نلمح في الفقه السياسي الأشعري والفقه السياسي الإسلامي عموما منح الإمام سلطات واسعة في المجال التنفيذي، مع ضيق بيّن في الهوامش التي تكون له فيها مراجعة إلا إذا تجاوز الأمر إلى الخلل المشهود، فضلا عن أن تكون لتلك المراجعة مسالك منضبطة وآليات محددة، ولعلّ هذا المنتهى كان من أسبابه ما اشترطه هذا الفقه مسبقا من شروط ثقيلة في الإمام تقلّل إلى حدّ كبير من الحاجة إلى مراجعته وضبط تصرفاته، إذ يوكل في ذلك إلى ما اشتُرط فيه من تلك الشروط شروط.
وقد كان الإمام الأشعري من أكثر المتشددين في الشروط التي ينبغي توفرها في الإمام، وهو ما ضبطه في قوله:" يجب أن يكون بالعلم ظاهرا وفي الفهم والفطنة بارزا، وبجملة خصال الفضل في باب الدين مشهورا، ومن أكثرهم بائنا، وكذلك في الضبط وحسن السياسة والاستقلال بما يتحمله من ذلك"[8]. ومن تشدّد الأشعري في هذه الشروط أنه كان يقول بوجوب إمامة الأفضل، ويمنع انعقادها للمفضول خلافا لما انتهى إليه أصحابه بعده كما ذكر ذلك ابن فورك[9]. إنه منطق قد ينسجم مع ذاته في تناسق المقدمة وهي الشروط مع النتيجة وهي تقليص فرص المراجعة، ولكنه لا ينسجم مع الواقع فيما جرت به الحياة السياسية، وذلك ما أدى بالأشاعرة وغيرهم لاحقا إلى القول بجواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل.
3 ـ تنصيب الإمامة
المقصود بتنصيب الإمامة إحلال الإمام لمهمّة الإمامة وتمكينه منها تمكينا يخوّل له ممارسة المهامّ المكلّف بها، ويمكن التعبير عن ذلك بأنّ المقصود هو صيرورة شخص ما إماما متمكنا من أداء واجبات الإمامة. وانتصاب الإمام هو المسألة الأخطر في الفقه السياسي الإسلامي، بل في الفقه السياسي بصفة عامّة، إذ هو متفرّع إلى عناصر شتى كل منها ذو شأن في ذاته وفي أثره على مجمل التصرفات المتعلقة بالحكم؛ ولذلك فقد كانت أعوص ما عالجه الفقه السياسي الإسلامي، وأكثر ما تفرقت فيه الآراء، بل وأكثر ما اختلطت فيه الآراء واضطربت ولفّها الغموض.
من هي الجهة التي لها حقّ تنصيب الإمام؟ هل هو تنصيص من الوحي، أم اختيار من الأمّة، أم اختيار من بعض أفرادها؟ أم هو تعيين يعهد به الإمام السابق، أم قد يكون التغلّب بالقوّة العسكرية؟وما هي الكيفية التي يكون بها ذلك التنصيب؟ وحينما ينتصب الإمام هل يكون مسؤولا لدى من نصّبه مراقبا من قِبله أم يوكل إلى نفسه دون رقابة؟ أسئلة كثيرة تثار نظريا وأثيرت عمليا في اجتهادات الفقه السياسي، وللإمام الأشعري في كل ذلك نصيب من البيان لا يخلو من الاضطراب الذي يحتاج إلى محاولة بيان.
أ ـ التنصيب بالنصّ والتغلّب
أوّل ما يقرره الأشعري في تنصيب الإمام استبعاد التنصيص الشرعي أن يكون جهة تنصيب للإمامة، مستدلا على ذلك بما وقع في تنصيب أبي بكر إماما، إذ انعقد الإجماع في هذا التنصيب على أنّه لاوجود لنصّ منصّب لا له ولا لعلي رضي الله عنهما ولا لغيرهما، ووقع التنصيب بطريق آخر هو طريق الاختيار، وكذلك الأمر في حال سائر الخلفاء الراشدين[10]. ومن البيّن أنّ هذا الموقف من الأشعري يعارض عقيدة الشيعة في الإمام بأنّ تنصيبه لا يكون إلا بنصّ توقيفي من الله تعالى أو من الإمام السابق عليه. غير أنّ الأشعري لئن استبعد تنصيب الإمامة بالنصّ واقعا، فإنه أثبت ذلك على سبيل الإمكان الذي لم يقع، تماشيا مع مذهبه في أنّ الأفعال عند عدم ورود الشرع فيها بأمر أو منع تكون قابلة من حيث ذاتها لجميع أوجه الإمكان[11].
وإذا ما انتفى أن يكون النصّ جهة منصّبة للإمامة فهل للإمام أن يتمّ تنصيبه بمقتضى قوّته الذاتية أو قوّته المكتسبة من غيره خارج دائرة اختيار الأمّة أو بعض منها مسلكا للتنصيب، فتكون إذن مشروعية التنصيب مستفادة من مجرّد التغلّب بالقهر العسكري؟ في الجواب على هذا السؤال عند الأشعري كما عند غيره بعض الغموض، غير أنّ الواضح فيه أنّ التغلّب العسكري ليس طريقا شرعيا لتنصيب الإمامة في حال ما إذا كان الإمام المنصّب مختلّة فيه شروط الإمامة " فإذا تغلّب قوم فبايعوا من لا يصلح لذلك لم تثبت إمامة من بايعوه بالقهر والغلبة"[12]، وربما أفاد مفهوم المخالفة أنّ هذه الغلبة بالقهر تصبح طريقا مشروعا لتنصيب الإمام إذا كان مستجمعا للشروط، وهو الأمر الذي اتّجه إليه أتباع الأشعري فيما بعد على وجه العموم[13].
ب ـ التنصيب بالاختيار
وإذا ما استبعدت عند الأشعري الشرعية الواقعية لتنصيب الإمامة بالشرع النصي، واستبعدت بالتغلّب القهري في بعض الحالات على الأقلّ فإنّ الطريق الذي يبقى مشروعا في التنصيب والذي شرحه الأشعري بأشكال مختلفة هو الاختيار من قِبل الأمّة عمومها أو ممثلين عنها أو أفراد منها. ولكنّ هذا الطريق تكتنفه هو أيضا ضروب من الخلط والغموض والاضطراب مما يحتاج إلى شيء من التفصيل.
بالتأمّل في هذا الطريق المشروع لتنصيب الإمامة كما ذهب إليه الأشعري وأتباعه يتبيّن أنه طريق مركّب ذو عناصر ومراحل لكلّ منها مصطلح خاصّ، وقد تتداخل تلك المصطلحات فيقع الاضطراب في مدلولاتها بما يعود على تحديد المقصود منها بالصعوبة البالغة، وهو الأمر الذي وقع فيه المنظرون لهذا الأمر أنفسهم والمؤرخون لهم والدارسون لآثارهم؛ وهو ما يحتّم أن تحدّد هذه المصطلحات ومفاهيمها عسى أن ينتج عن ذلك الخروج بصورة أوضح في هذا الأمر الذي هو العمود الفقري لنظرية الإمامة بأكملها.
ترد عند الأشعري وعند أتباعه من بعده مصطلحات أربعة تتعلق كلها بالمعنى العام لطريق الاختيار طريقا لتنصيب الإمامة، وهي ترد أحيانا مقترنة وأحيانا متفرقة وأحيانا معطوفا بعضها على بعض، مما يدلّ على أنّها مختلفة في المعنى سواء اتفق ماصدقها على نفس الأعيان أو اختلف. ولعلّ أكثر هذه المصطلحات رواجا عند الأشعري كما رواه عنه ابن فورك وكما ورد في مؤلفاته مصطلحا الاختيار والعقد، ويتعلق بهما مصطلحا الإشهاد والبيعة.
والمقصود بالاختيار هو الإعراب عن الرضا بشخص معيّن أن يكون هو الإمام مقدّما على غيره وتقديمه للتمكين من هذا المنصب، والموافقة عليه ليكون كذلك، وربما أشبه هذا ما يجري به العمل اليوم مما يجمع الترشيح والتصويت معا، فكلّ منهما اختيار وتزكية وتقديم لمن يراد أن ينصّب، وتندرج البيعة ضمن الاختيار أيضا، إذ هي تعبير عن الرضي بمن وقع تنصيبه إماما والموافقة عليه. والمقصود بالعقد هو الإبرام والتقرير بأن يصبح الشخص المعيّن الذي وقع اختياره إماما بالفعل وتمكينه من منصب الإمامة ليصبح بهذا العقد هو الإمام الشرعي، والإعلان عن ذلك من قِبل العاقدين لدى عموم الناس للإعلام به، وربما أشبه هذا ما يجري به العمل اليوم من الهيئات الدستورية التي تقرّ نتائج الانتخابات وتنصّب الرؤساء في منصب الرئاسة.
وثمّة تداخل بين الاختيار والعقد فيما يتعلق بالماصدق، فقد يكون المختار فردا أو جماعة هو ذات العاقد، وقد يكون العاقد فردا أو جماعة من جملة المختارين ولكنّ عددهم أقلّ منهم، وهذا التداخل هو الذي أدخل التباسا في قضية تنصيب الإمام كما يراه الأشعري وأتباعه، حيث وقع الظنّ أنهما مفهومان متطابقان، وعند التحقيق يتبيّن أنّهما يختلفان في المفهوم بما يؤدي إلى اختلاف في بعض الأحكام وفي بعض الآثار المترتبة عنهما كما سنبينه لاحقا.
والمقصود بالإشهاد حضور شهود يتمّ العقد على أعينهم ويشهدون بأنّ العقد تمّ على وجه الحقيقة، فالعقد قد تحيط به ظروف لا يكون فيه على رؤوس ملإ من الناس، وإنما يقوم به القلّة من العاقدين، وحينئذ فمن باب التوثيق يجب أن يكون عليه شهود يشهدون به إذا ما وقع فيه خصام.
أولا ـ اختيار الإمامة
اضطربت الآراء فيما يتعلق بالاختيار وتعددت الأقوال فيه ليس بين القائلين المختلفين وإنما بين ما يؤثر عن القائل الواحد من منهم، فما هو التكييف الشرعي للاختيار ابتداء؟ ثم من هي الجهة التي لها حقّ اختيار الإمام لتقدمه على وجه الرضى به تفضيلا عن غيره ليتبوّأ الإمامة ويُعقد له بها؟ وماذا يترتّب على الاختيار من حكم شرعي في خصوص انتصاب الإمامة وتمكين الإمام المختار منها؟
يقرّر الأشعري ابتداء أنّ اختيار الإمام هو أمر اجتهادي، فإذا كان التنصيص على الإمام لم يجر به الشرع واقعا، فيكون " نصب الإمام وأمر الإمامة كسبيل سائر الأحكام في أنّ ذلك مما يعرف نصا واجتهادا، فإن لم يكن في ذلك نص كان للاجتهاد في ذلك مدخل وله أصل ... [ ويكون] إقامة الإمام والاجتهاد في نصبه عند الحاجة إليه وفقد من قبله من فروض الكفاية"[14]. وهذا التكييف للاختيار بالاجتهاد فتح الباب واسعا لتعدد الآراء في مجمل القضايا التي تتعلق به.
من الذي له الحقّ في اختيار الإمام من الناس وما هي أوصافهم؟ يبدو أنّ الأشعري يضيّق من هذا الحقل في عنصريه تضييقا كبيرا، فهو من حيث الأوصاف والشروط التي ينبغي أن تتوفّر في المختارين للإمام يقرّر فيها أن يكونوا من أهل الاجتهاد بحيث يصلحون أن "يكونوا أيمة بدل من يختارونه، فإذا كانوا بهذه الصفة صحّ لهم الاختيار"[15]. وهذا التشدّد في أوصاف المختارين للإمام نراه يتردّد بعد ذلك عند أتباع الأشعري كما شرحه باستفاضة إمام الحرمين فبيّن أصناف الناس من الأمّة، وحدّد من لهم الحقّ في الاختيار ومن ليس لهم الحقّ في ذلك، فجاء بالتفصيل لما قرّره الأشعري بالإجمال[16].
وهذه الأوصاف المشترطة في مختاري الإمام من شأنها أن تضيّق في عدد من لهم الحقّ في ذلك، إذ المجتهدون من الأمّة لا يكون عددهم إلا قليلا، ومع ذلك فقد ذهب الأشعري في إمكان التضييق من هذه الحلقة بما تعطي هي فيه نوع فسحة من التوسّع، فقرّر أنّ عدد المختارين لا يكون محدودا بعدد معيّن حتى إنه ليمكن أن ينتهي إلى شخص واحد يكون هو المختار للإمام، وعلى اختياره يتمّ العقد له بالإمامة، " إذ كان يقول في عدد المختارين إن ليس لذلك حدّ في العدد لا يزاد فيه ولا ينقص، بل يجب أن يكونوا ممن يصلحون لذلك إذا كانوا جماعة، وأقلّهم واحد"[17]. وقد أصبح رأي الأشعري هذا أصلا لأتباعه كما قرّره إمام الحرمين في قوله:" وأقرب المذاهب [ في عدد أهل الاختيار] ما ارتضاه القاضي أبو بكر[الباقلاني]، وهو المنقول عن شيخنا أبي الحسن [ الأشعري ]رضي الله عنه، وهو أن الإمامة تثبت بمبايعة رجل واحد من أهل الحلّ والعقد"[18]. وهذا الواحد الذي قد يكفي أن يكون المختار للإمام يمكن عند الأشعري أن يكون من بين سائر المسلمين الذين تتوفر فيهم شروط المختارين، ويمكن أن يكون الإمامَ المنتصب يختار من يليه ليعهد إليه بالإمامة، ويكون اختياره كافيا بل ماضيا إلى العقد له بها في غير رجوع إلى غيره من أفراد الأمّة[19].
وأبرز متمسّك استدلالي للأشعري ومن بعده من أتباعه بهذا الإمكان في تقليص عدد المختارين لينتهوا به إلى الواحد يتمثّل في صنيع عمر رضي الله عنه حينما اختار أبا بكر للإمامة، وقدّمه لهذا المنصب، والإجماع الذي حصل من قِبل الصحابة عليه والرضى به وعدم الاعتراض عليه، فهذا الصنيع يدلّ عند الأشعري وسائر أتباعه على أنّ الإجماع في الاختيار ليس شرطا في الإمامة، وإذن فإنّ الأمر قد يعود إلى الآحاد من الناس، والعدد ليس فيه رقم أولى من رقم، فينتهي الأمر إذن إلى إمكان أن يكون المختار للإمام واحدا.[20]
لم يصرّح الأشعري ولا أحد من أتباعه فيما نعلم بأنّ هذا الاختيار للإمام الذي يمكن أن ينحصر في واحد هو اختيار من قِبل هذا الواحد على سبيل الاستقلال بنفسه في هذا الاختيار بقطع النظر عمن سواه ممن يشاركه في ذلك أو لا يشاركه، أم أنه على سبيل التمثيل لغيره من المسلمين حتى وإن كانوا منحصرين في الدائرة الضيقة التي حددتها شروط المختارين، سواء كان تمثيلا صريحا أو ضمنيا. والسكوت على هذا الأمر يوقع الباحث فيه في شيء من حرج شديد، فيحتاج إلى بحث عن مخرج بالنظر إلى الخطورة البالغة التي يتضمنها هذا الموقف الذي انتهى إليه الأشعري وأتباعه.
لو كان المقصود بإمكانية حصر الاختيار في شخص واحد لأدى ذلك إلى أن يُعلّق مصير الأمة بأكملها برأي رجل واحد قد يصيب وقد يخطئ في الاختيار، والحال أنّ منصب الإمامة له التأثير البالغ في المجمل من مصير حياة الأمة في مختلف جوانبها، باعتبار أنّ الإمام هو القيّم على تطبيق أحكام الدين في كلّ الأوجه من الحياة، وعلى افتراض أنّ اختيار هذا الواحد كان مصيبا، فحينما لا يحظى بموافقة غيره من أفراد الأمّة فإنّ ذلك يفتح بابا واسعا من أبواب الفتنة. إنّ الروح العامّة في التشريع الإسلامي تنحو المنحى الجماعي في تقرير الأحكام، ولهذا كان الإجماع أحد الأدلّة الشرعية المعتبرة، فكيف يقرّ الأشعري وأتباعه أن ينحو بالتشريع السياسي في اختيار الإمام وهو الأمر الخطير منحى التفرّد إذا ما كان المقصود من اختيار الواحد الاستقلال بهذا الاختيار؟
والاستدلال على إمكانية اختيار الواحد باختيار عمر لأبي بكر واختيار أبي بكر لعمر رضي الله عنهما لا يبدو أنه متّجه إلى الاستقلالية بالاختيار؛ ذلك لأنّ هذا الاختيار استفاضت الأخبار فيه على أنه تمّ بعد مشاورات ومفاوضات واسعة بين الحاضرين في السقيفة وعلى رأسهم عمر، وبين أبي بكر وجملة واسعة من الصحابة استشارهم في الأمر، بحيث بان على وجه القطع أنّ اختيار كلّ منهما كان مواطئا لاختيار كثيرين ممن اشتركوا في الحوار وطالتهم المشورة، وإذا كان هذا الأمر خير خاف بحال على الأشعري وعلى أتباعه، أفلا يكون المقصود بما ذهبوا إليه من إمكان الاقتصار على اختيار الواحد أو العدد القليل من الأفراد أنّ هذا الواحد أو هذا العدد القليل إنما هم في الحقيقة ممثّلون في اختيارهم للجمع الكبير من الناس الذين كانوا يرون نفس ما يرون من اختيار، وإنما كان الواحد أو العدد القليل معبّرين عن الرضى بالمختار نيابة عن ذلك الجمع العريض؟
لعلّ مما يؤول بشرعية اختيار الواحد عند الأشعري إلى هذا المعنى التمثيلي ما قرّره من أنّ للأمّة حقّا في مراقبة الإمام بعد اختياره وتنصيبه إماما، في كل من حالي الوفاء أو عدمه بالشروط التي على أساسها اختير إماما، إذ يرى الإمام في ذلك أنه: ّمتى أقام الأحكام وأنفذها في الظاهر على ما وردت به الآثار ودلّت عليه آي الكتاب وأقاويل الأمّة كان أمره في الإمامة منتظما، ومتى ما زاغ عن ذلك عدل به إلى غيره ، وكانت الأمة عيارا عليه"[21]، فإذا كان الاختيار للواحد والأمة خارجة من ذلك بأيّ حقّ تكون لها الرقابة عليه والحال أنها لم يكن لها الاختيار في تنصيبه حتى يكون لها الحقّ في مراقبته؟
ربما يشوش على هذا التأويل في اتجاه أن يكون الأشعري مضمرا فكرة التمثيل في الاختيار ما ورد عنه من منع لمراجعة اختيار الواحد أو العدد القليل من قِبل العدد الأكبر من الأمة بعدما يكون قد أبرم العقد بناء عليه، وهو ما يشبه أن يكون قد تضمنه قوله على سبيل المثال:" إذا عقد من هو من أهل الحلّ والعقد الإمامة لمن هو لها أهل انعقد ووجب على كافّة الخلق الانقياد والمتابعة، فمن ادّعى بعد ذلك طعنا أو خللا في أمر من عُقدت له الإمامة استُتيب من ذلك "[22]، وكذلك قوله:" إن للإمام أن يولي إلى غيره ويعقد له الإمامة بعده، وإن الأمّة يلزمها عقده واختيار من اختاره، ولا يكون لهم في ذلك مشاورة"[23].
يبدو أنّ هذا المنع من المراجعة لاستحقاقية الإمام منصب الإمامة بعد الانتصاب ليس منعا متّجها إلى الاختيار الذي تمّ من قِبل الأقلّ، وإنما هو متّجه إلى العقد الذي تمّ بناء على الاختيار مهما يكن حجم المختارين، فللعقد عند الأشعري كما سنراه دور خطير يفوق دور الاختيار، والمراجعة بعده إنما هي نقض له مع ما يترتب على ذلك النقض من وخيم العواقب، بحيث يصبح منع المراجعة أقلّ ضررا في آثاره من نقض العقد بالإمامة بعد إبرامه. وإذا كنا لا نجد عند الباقلاني ناشر آراء الأشعري فيما نعلم ما يؤيّد هذا التأويل، ولا عند إمام الحرمين على ما هو معلوم من تشدّده في هذا الشأن ضمن نظريته في انتصاب الإمام بالشوكة[24]، فإننا نجد عند الغزالي مستأنسا لتأويل رأي الأشعري في الوجهة التي شرحناها، إذ كان يقرّر أنّ أبا بكر رضي الله عنه " لو لم يبايعه غير عمر، وبقي كافة الخلق مخالفين، أو انقسموا انقساما متكافئا لا يتميز فيه غالب من مغلوب لما انعقدت له الإمامة"[25]، إنه إذن اعتراف بحق للأمة في اختيار الإمام يعلو على اختيار الواحد أو العدد القليل، بحيث يتوقّف على ذلك الحقّ العقد بالإمامة ليكون مبنيا عليه، وليكون ناقضا لاختيار الواحد.
يبدو أنّ الأشعري فيما يتعلّق باختيار الإمام لئن كان يضيق من دائرة المختارين بأوصاف مشروطة فيهم، إلا أنه فيما قرّره من جواز الاقتصار على اختيار الواحد أو العدد القليل كان يستصحب ضمنا معنى التمثيل الذي يحمله ذلك الواحد لغيره ممن تتوفر فيهم الشروط، وأنّ منعه لمراجعة اختيار الواحد من قِبل الأكثر إنما هو متعلق بالعقد لا بالاختيار، مع الإقرار بأنّ فكرة التمثيل في الفقه السياسي الإسلامي المبكر منه على وجه الخصوص لم تكن فكرة واضحة ناضجة صريحة، وإنما هي إشارات وقرائن تدلّ على أصل وجودها وإن لم تشهد التطور الطبيعي الذي تكتسب به الوضوح والنضج، فآل الأمر في الواقع نتيجة هذا الغموض إلى مآلات سيئة من مظاهر الاستبداد في تنصيب الإمامة.
ثانيا ـ العقد بالإمامة
يبدو لنا أنّ البند المتعلّق بالعقد في تنصيب الإمامة هو أهمّ البنود في الفقه السياسي الإسلامي، وهو المحور الأساسي في هذا التنصيب، وهو وإن كان يُقرن كثيرا ببند الاختيار في بيانات الفقهاء السياسيين ومنهم الأشعري إلا أنه كان متميّزا منه في التصور ومتفوقا عليه في الخطورة ومختلفا عنه في النتائج والآثار مهما كان ملتقيا معه في بعض الأنحاء.
ونقدّر أنّ هذه الأهمية التي أعطيت للعقد هي أهمية مبرّرة، وذلك بالنظر إلى كون الاختيار إنما هو الحقّ الذي يكون به للمسلم أن يعبّر عن رضاه بمن يقدمه للإمامة وعن اعتراضه عمن يقدمه غيره، وكلّ ذلك على بالغ أهميته في الأيلولة إلى تنصيب الأمثل والأصلح منصب الإمامة فإنه يتمّ قبل العقد بالإمامة، فلا تكون له آثار مترتبة على العلاقة بين الإمام ومختاريه ومجموع الأمّة، أما العقد فإنه حينما يتمّ بأيّ صورة تمّ بها فإنه تترتّب عليه آثار من وجوب الوفاء بالالتزامات المتعاقد عليها بين الطرفين، كما تترتب عليه آثار من الدفاع عن الحقّ الذي أصبح مكتسبا، وما قد يترتّب على ذلك الدفاع من التبعات بل من الأحداث والفتن.
يقرّر الإمام الأشعري أنّ العقد هو الذي تثبت به الإمامة ولا تثبت بدونه حيث يقول:" أما الإمام فإنما تثبت إمامته وتنعقد بعقد العاقدين له ممن يكون لذلك أهلا"[26] كما يقول:" تثبت إمامة كل واحد منهم [ أي الخلفاء الراشدين ] بعقد من عقدها له من أهل الحلّ والعقد"[27]، وتأكيدا لهذا المعنى جاء البيان بأنّ الاختيار أي إظهار الرضى وتقديم المرضي عنه وتزكيته والموافقة على إمامته لا تنعقد به إمامة، حتى وإن تمثّل ذلك في المبايعة العلنية مهما تكن مبايعة إجماعية باعتبار أنّها تعبير عن الاختيار وليست عقدا بالإمامة، إذ يقول الإمام في هذا المعنى:" وما حصل من الإجماع بعده [ أي بعد العقد للخلفاء الأربعة ] عليه فإنما ذلك تأكيد للعقد لا أنه دلالة على الإمامة ابتداء"[28]، فمن البيّن إذن أنّ ثبوت الإمامة إنما هي بالعقد لا بالاختيار.
وأما المؤهلون للقيام بالعقد فإنهم في بيانات الأشعري وأتباعه من بعده هم المؤهلون للاختيار، حيث يأتي ذكرهم دوما بالتلازم مما يوحي بأن أهل الاختيار هم أنفسهم أهل العقد، وكثيرا ما يعبر عنهم بأهل الحل والعقد، غير أنه عند التأمّل يتبيّن بناء على اختلاف طبيعة الاختيار على طبيعة العقد قد أنه قد يحصل التفاوت بين أهل الاختيار وأهل العقد على أساس ما بينهما من عموم وخصوص مطلق، فأهل العقد وإن يكونوا من جملة أهل الاختيار فقد يكونون أقلّ منهم عددا، بل قد يكون بين الاختيار والعقد تفاوت في الزمن، فيتمّ العقد بناء على اختيار تمّ في زمن سابق، وهو ما يفهم من قول الأشعري:" إن إمامته [أي علي رضي الله عنه] تثبت بالشورى المتقدم في عهد عمر رضي الله عنه، وبعقد من عقدها من أهل الحلّ والعقد في وقته، وذلك أنّ الصحابة اجتمعت وتشاورت في وقت وفاة عمر رضي الله عنه واختارت من الجماعة ستة أنفس، ثم أخرج منهم ثلاثة وأطبقوا على ثلاثة، ومضى عثمان وعبد الرحمن قبل ذلك فلم يبق من أهل الشورى ومن[هو]أهل لذلك في وقته إلا علي، فعقدت له الإمامة اعتمادا على تلك الشورى والاختيار"[29]، فبيّن إذن أنّ إمكان التفاوت قائم بين الاختيار والعقد سواء من حيث الزمن أو من حيث ماصدق المختارين والعاقدين.
وأما من حيث عدد العاقدين فإنّ الأشعري يستصحب رأيه في عدد أهل الاختيار، فعنده يجوز أن يؤول أمر العقد إلى شخص واحد يكون هو المختار والعاقد، مستشهدا بعمر رضي الله عنه الذي كان هو المختار لأبي رضي الله عنهما والعاقد له بالإمامة. وفي تقديرنا ليس أمر العدد في شأن العقد بالخطير شأن خطورته في الاختيار؛ إذ العقد هو الإعلان باستحقاق التنصيب للإمامة، وإذا ما قام بذلك الإعلان العدد الكبير أو القليل فلا يترتّب عليه تبعات ذات شأن، وأما الاختيار فهو تزكية الشخص المعيّن وتقديمه إماما، فكلما اتسعت دائرته ضمن له الاستقرار، وكلما ضاقت توسّع احتمال النكوص عليه مع ما يحدثه ذلك من الاضطراب.
يولي الأشعري وجملة أتباعه العقد بالإمامة الأهمية البالغة فيجعلونه هو المحور الأساسي في تنصيب الإمامة، حتى إنه ليصبح مقدما في الأهمية عن الاختيار، فالإمامة إنما تثبت بالعقد لا بالاختيار ولو كانت بيعة إجماعيةكما تفيده مقولة الأشعري الآنفة الذكر، والعقد يمكن أن ينقض الاختيار كما في عقد الإمام لمن بعده دون مشورة أي دون اختيار كما ذكره الأشعري، وكما في العقد بمقتضى الشوكة العسكرية الذي لا يقبل المراجعة على أساس الاختيار إذا كان المعقود له أهلا للإمامة كما شدّد على ذلك إمام الحرمين.
ويبدو أنّ هذه المحورية في موقع العقد التي يبوئه إياها الأشعري وأتباعه من بعده سببها تلك الآثار الخطيرة التي تترتب عليه، فإذا كانت الإمامة تثبت بالعقد، فمعنى ذلك أن جميع الالتزامات المترتبة على العقد من الأطراف المتعاقدة ينبغي أن تصبح نافذة المفعول، فالإمام المعقود له أصبح بمقتضى العقد يملك مشروعية الإمامة، والأمّة التي عقدت للإمام أصبحت في موقع من تجب عليه الطاعة وتقديم العون للإمام ليقوم بمهامه، وإذن فإنّ أيّ تشويش يتمّ على العقد سوف يدخل مجمل الوضع في دوامة من الفوضى، إذ الإمام ومن معه سوف يتجندون للدفاع عن مشروعية الإمامة التي حصلت بالعقد، فإذا ما صودموا بالمشوشين على البيعة فسيكون المآل إلى الفتنة التي تكون مفاسدها في الغالب أكبر من المفاسد التي تنشأ عن عقد غير مؤسس على اختيار واسع من الأمّة، وربما استعملت في ذلك بصفة ضمنية قاعدة أن يُغتفر في الانتهاء ما لا يغتفر في الابتداء، على معنى أنّ عقد الإمامة وإن كان يجب أن يتمّ على الاختيار إلا أنه لو تمّ على غير اختيار فلا يكون ذلك سببا في نقضه بصفة آلية لما ينشأ عن ذلك من المفاسد.
إنّ هذه المعاني لا نجد فيها تصريحا من قِبل الأشعري ولكن الروح العامة لبياناته وتأكيداته في خصوص العقد توحي بها وتشير إليها، وذلك من مثل قوله:" إذا عقد من هو من أهل الحلّ والعقد الإمامة لمن هو لها أهل انعقد ووجب على كافّة الخلق الانقياد والمتابعة، فمن ادّعى بعد ذلك طعنا أو خللا في أمر من عُقدت له الإمامة استُتيب من ذلك، فإن لم يتب منع من ذلك ودوفع"[30] ، ومثل قوله:" إن للإمام أن يولي غيره ويعقد له الإمامة بعده، وإن الأمة يلزمها عقده واختيار من اختاره، ولا يكون لهم في ذلك مشاورة"[31]، ومثل قوله:" بل تثبت إمامة كل واحد منهم [أي الخلفاء الراشدين] بعقد من عقدها له من أهل الحلّ والعقد، وما حصل من الإجماع بعده عليه فإنما ذلك تأكيد للعقد لا أنه دلالة على الإمامة ابتداء"[32]، فهذه الأقوال تعني أنّ عقد الإمامة يكون ماضيا حتى ولو لم تتمّ البيعة وهي الوجه الأكبر من وجوه الاختيار، مما يدلّ على أنّ البيعة عند وقوعها تكون قيّمة على الاختيار وليس هو القيّم عليها. ومن الآثار الخطيرة المترتبة على هذه المحورية التي أعطيت لعقد الإمامة مسألة الخروج على الإمام بعدما يكون قد تمّ له العقد بالإمامة التي كانت هي أيضا محورا مهمّا من محاور الفقه السياسي عند الإمام الأشعري.
4 ـ نقض الإمامة
لمنصب الإمامة الأهمية البالغة في الإسلام كما بيناه سابقا، فهي المناط بها تطبيق أحكام الدين في المجتمع، وهي المكلفة بتوفير أسباب الاستقرار لتقوم الأمّة بمهمّة التعمير؛ ولذلك فإنّ الاضطراب الذي يحصل في هذا المنصب يكون له الأثر البالغ على سير الحياة في جملتها، وهو الأمر الذي يقتضيه المنطق المحدد لطبيعة الإمامة، والذي صدّقه الواقع الذي جرت به شؤون الحكم في التاريخ السياسي للأمة متمثّلا ما كان للفتن الحادثة في شأن الإمامة من المفاسد ابتداء من أحداث مقتل عثمان رضي الله عنه إلى ما بعد ذلك من الفتن الكثيرة التي يسببها الخروج على الأئمة في مختلف العصور.
إنّ هذين السببين كان لهما الأثر البالغ في توجيه الفقه السياسي للأشعري وأتباعه فيما يتعلّق بنقض الإمامة بعد عقدها، فقد كان هذان العاملان سببا في تشدّد بيّن عندهم في نقض الإمامة بجميع وجوه النقض، واتّجاه عازم إلى المحافظة على الإمامة قائمة بعد عقدها، والذبّ عنها ضدّ العوامل التي تتناوشها بالنقض على اختلاف مصادرها، والتضييق في إمكان ذلك النقض إلى أقصى حدّ ممكن، حتى إننا نقدّر أنّ الأشاعرة أصبحوا في هذا الشأن يتقدّمون الفرق كلها أو معظمها سوى الشيعة الذين لا يرون في الإمامة نقضا على وجه الإطلاق. ويبدو هذا التشدّد الأشعري في نقض الإمامة في كلّ من مسلكي النقض وهما: الخلع من الإمامة، والخروج عليها.
أ ـ نقض الإمامة بالخلع
لا نجد فيما بين أيدينا من مؤلفات الأشعري ما يمكن أن نكوّن منه صورة واضحة عن رأيه في عزل الإمام عن منصب الإمامة، غير أنه يمكننا أن نستنتج في ذلك بعض الاستنتاجات مما توحي به بعض أقواله مستأنسين بآراء الباقلاني الذي يعتبر أقرب المتأثرين بآرائه الناقلين لها لمن بعده.
وأول
الإمام الأشعري: إمام أهل السنة والجماعة
الذي تنظمه الرابطة العالمية لخريجي الأزهر
القاهرة:8 ـ11/05/2010
أ.د/ عبد المجيد النجار
الأمين العام المساعد
للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لئن تحقّق للإسلام الظهور، وانبسطت رايته على رقعة واسعة من العالم ابتداء من النصف الثاني من القرن الأول، فإنّ التحديات الخطيرة ظلّت تتناوشه باستمرار من داخله ومن خارجه، وبوسائل ومناهج متعددة ومختلفة متجددة، ولكنّه كان يجد من قوّته الذاتية دوما ما يواجه به تلك التحديات، ويجابه تلك الأخطار، مطورا من الأساليب ما يناسب تطورات المخاطر، ومجددا من أمر نفسه ما يضمن له البقاء، بل ما يضمن له القوّة والانتشار والعطاء. ولعلّ من أكبر التحديات التي واجهت الإسلام والمسلمين من أول عهد استقراره أمرين خطيرين يتعلق أحدهما بالحياة السياسية، ويتعلق الثاني بالحياة المنهجية الفكرية المتعلقة بالدفاع عن العقيدة وإثباتها للعالمين.
أما التحدي في المجال السياسي، فقد ظهر مبكرا في الفتنة التي قسمت المسلمين في عهد الصحابة، ومضت فيهم بعد ذلك على مرّ الأيام متمثلة في الثورات المتتالية التي لم يخل منها زمن، حتى لكأنّ تلك الثورات هي التي كانت تشكّل التاريخ السياسي للمسلمين بانقلاب دولة على دولة، أو بخروج فئة على ما هو قائم من الدول، وفي خضمّ ذلك كانت تلك الفتن تعمل عملها المأساوي في الواقع الاجتماعي والنفسي والفكري بل والعقدي أيضا، حتى إنه لا يمكن بحال الفصل بين التاريخ الفكري العقدي للمسلمين وبين الفتن السياسية التي كانت تحدث في واقعهم، وما آل إليه أمر الفرق من حيث معتقداتها شاهد بيّن على ذلك.
وأما التحدي في المجال الفكري العقدي فهو يتمثل في ذلك الهجوم الخارجي على العقيدة الإسلامية مسلحا بأحزاب من الديانات والمذاهب والفلسفات، اجتمعت كلها على أن تحرّف من هذه العقيدة وتجرّها إلى مواقعها هي لاحتوائها وإلباسها لبوسها في سبيل إضعافها وربما القضاء عليها. ولئن تصدى إلى ذلك الهجوم فئة من المسلمين بقدر كبير من الكفاءة المسنودة بالقوة الذاتية للمعتقدات الإسلامية في ذاتها، فإن هذا الوضع أفضى إلى تحدّ جديد ذي صفة داخلية، وهو المتمثل في ظهور استقطاب في عرض الدين ومعتقداته بين قطبين يروم أحدهما الحفاظ على تلك المعتقدات صافية من ينابيع الوحي دون أن يشوبها ما عسى أن يكدّرها من استدلال للعقل الذي قد يشط به جموحه إلى ما يغير فيها، وهو المنحى الذي التزمه أهل الفقه والحديث من المسلمين، ويسعى الآخر إلى أن ينتصر للعقيدة الإسلامية في مواجهة التحدي الخارجي الجارف بنفس سلاحه وهو الاستدلال العقلي الذي لا يسلم من بعض التأثر بسلاح الأعداء المهاجمين، وهو ما كان يتصدره المعتزلة. وكان بين القطبين من الخصومات ما يشوّش على معتقدات المسلمين كما كانت في الطور الأول من حياة المسلمين.
وكان لا بدّ لهذين التحديين من مواجهة تعود بالميل الذي يحدثانه في الحياة السياسية والفكرية إلى العدل، وتجنّب المسلمين الآثار السلبية التي تنتج عنهما وتمتدّ إلى مفاصل الحياة كلها. فلما كان القرن الثالث للهجرة، وكانت الحياة السياسية قد فشت فيها ثقافة الخروج في المجال السياسي مهما تكن عليه الدولة من قوة، كما كانت الحياة العقدية تتعرض لعجز أهل الأثر عن نصرتها بمنهجهم الكاشح عن الاستدلال العقلي، كما تتعرض لجموح من أهل العقل في نصرتهم العقلية بما يُرى أنّ فيه بعضا من التأثّر السلبي بأسلحة الهاجمين بدأ يتشكّل في رحم الضمير الإسلامي توجّه نحو مواجهة للتحدي الفكري والسياسي معا، وذلك ببروز قطب جديد في الثقافة السياسية وفي المنهجية العقدية من شأنه أن يعود بالمسيرة الإسلامية إلى السواء بعدما تعاورتها التطرفات ذات اليمين وذات الشمال. وكان الإمام الأشعري يمثل الرائد في هذا التيار الإصلاحي الجديد.
1 ـ المؤثّرات في الفقه السياسي الأشعري
لقد توفرت للإمام الأشعري فرصة ذاتية مكّنته من أن يكون الرائد في هذا التيار الإصلاحي فكرا سياسيا ومنهجا عقديا؛ ذلك أنه انتسب إلى التيار الاعتزالي مدة طويلة، فخبر منهج هذا التيار، ووقف على ما فيه من قوة وما فيه من ضعف، ولكن انتماءه إلى هذا التيار لم يكن يضعف عنده تمكّنه العلمي من العلوم الشرعية التي كانت مشرب أصحاب التيار الأثري، فكان إذن متوفرا على إمكانية أن يقف من التيارين موقف الخبير بهما العارف بما فيهما من مكامن القوة ومكامن الضعف، فلما استوى نضجه الفكري بعد رحلة طويلة مع الاعتزال شقّ لنفسه نهجا جديدا في المنهج الفكري، هو ذلك المنهج الذي يجمع بين الدليل الشرعي مأخوذا من القرآن والسنة وبين الدليل العقلي المستند إلى قوة المنطق وقواعد الحجاج، وبذلك المنهج أصبح يصدر في مذهبه الإصلاحي في كل مجالات المعرفة عقيدة وسياسة وفكرا شرعيا.
لم يكن الإمام الأشعري فيما اشتهر عنه من منزع علمي عقدي بمعزل عن الحياة السياسية وما تعجّ به من أحداث وما تزخر به من فتن، بل إنه كان يعيش صلب تلك الأحداث واقعا، كما كان يعيشها فكرا وثقافة، ونشير في هذا الصدد إلى أنّ الفقه السياسي في العلوم الإسلامية لئن كان فقها تطبيقيا مثل سائر أبواب الفقه إلا أنّه في المدونة العلمية الإسلامية كان يُلحق دوما أو غالبا بعلم العقيدة فيما يعرف بباب الإمامة، خاصة وأنّ أحد الأطراف الأساسية من الفرق الإسلامية وهي فرقة الشيعة كان يعتبر هذه المسألة من مسائل العقيدة الأساسية، فكان إذن الإصلاح المنهجي العقدي الذي انطلق منه الإمام الأشعري يستهدف بصفة مباشرة التأسيس للفقه السياسي على أساس ذلك المنهج المبني على توافق العقل والنقل، فتضافر إذن عاملان أساسيان في التوجيه المنهجي لهذا الفقه، وفي بناء الأحكام الأساسية فيه على صفة من الوسطية التي تردّ الأطراف إلى العدل، فكانت تلك هي الخاصية الأساسية لهذا الفقه.
أ ـ فتنة الخروج
يتمثل هذا العامل المؤثّر في أحداث الفتنة التي كان يزخر بها الواقع السياسي للمسلمين، متمثلة في مشاهد الخروج على الحاكم القائم، وهو الأمر الذي كانت تقوم به الفرق الكثيرة من منطلق القيام بالواجب الديني كما تراه بسطا للعدل ومقاومة للجور، أو كانت تقوم به بعض الجماعات لأسباب عرقية أو شعوبية أو انتقامية أو غير ذلك سواء تذرعت بذرائع دينية أو كانت دوافعها مرسلة دون تبيان أسباب، وفي كلّ الأحوال فقد كانت هذه الوقائع تسبّب إرباكا كبيرا في المسيرة العمرانية للمسلمين، ناهيك عما تسببه من اضطرابات أمنية ومن مفاسد اجتماعية ومن مآس إنسانية تكون أحيانا واسعة النطاق في الأمّة.
لقد كان هذا الخروج وما يسببه من فتن يمثّل هاجسا للكثير من المشتغلين بالفقه السياسي، فأرادوا أن يجدوا له علاجا في فقه الأحكام السياسية ليكون من تلك الأحكام من القوّة الرادعة ما يلجم شهوة الخروج إن كانت شهوة، بل ما يكفكف النزوع الديني للخروج بغية إقامة العدل إذا كان صادرا عن هذا النزوع المشروع، وذلك باعتبار ما تسبّبه الفتن من المفاسد التي قد تربو أحيانا عن المفاسد التي يسببها غياب العدل نفسه، فدخل العامل العلمي المنهجي في معالجة القضية.
ولا شكّ أنّ الإمام الأشعري كان من بين هؤلاء المهمومين بقضية فتنة الخروج وما تسببه من المفاسد، وكان من بين من يبحث لها عن مخارج من الأحكام الفقهية المبنية على أصول وقواعد تؤول بها إلى أن يخفّ وقعها على المسلمين، وينتهي ضررها بما تلحقه من اضطراب على مسيرة الحياة. ويمكن أن يُستشفّ هذا الأمر مما كان يورده من أخبار مستفيضة عن الخروج والخارجين وما يسببه ذلك من خراب فيما يوحي باستشعاره لفداحة هذا المسلك السياسي، واستهانة الناس به بالرغم من شديد ضرره، وتفاهة أسبابه في الكثير من الأحيان[1].
لقد كان هذا الوضع المتمثل في النزوع إلى الخروج على السلطان الحاكم بحق وبغير حق وبتأويل وبغير تأويل، وما يترتب عليه من المفاسد أحد الموجهات الأساسية للإمام الأشعري فيما نقدر في بنائه الفقهي السياسي، وهو ما سنلمسه لاحقا في تقريراته الفقهية المتعلقة بالكثير من الأحكام السياسية وما بنيت عليه من الأدلة والقواعد، بحيث يمكن أن يعدّ ما جرى به واقع المسلمين من فتنة الخروج أحد أهمّ الأسباب المؤثرة في السمة الفقهية العامة للسياسة الشرعية في تقريراته الفقهية السياسية .
ب ـ منهجية تعاضد العقل والنقل
يتمثّل هذا العامل المؤثّر فيما آل إليه مجمل الفكر الأشعري من الوسطية التي تردّ التطرفات إلى الوسط ليلتقي العقل والنقل على صعيد من التكامل والتعاضد في الاستدلال، فقد كان لهذا العامل الموجّه الدور الكبير في الفقه السياسي الذي آلت إليه تقريرات الإمام، بحيث لا يعدم الناظر فيها ملحظا بيّنا يتخلل جميع مفاصلها، وتردّ فيه الأطراف من الرؤى والتقريرات والأحداث التي كانت سائدة إلى موقع وسط كما سنبينه لاحقا.
وقد كانت الساحة السياسية على عهد الأشعري وقبله تتنازعها تيارات متقابلة في النظر الفقهي العقدي وفي السلوك الواقعي الفعلي، بحيث كان المشهد يتشكّل في استقطاب بين طرفين يشبه ذلك الاستقطاب الذي كان يمثله المشهد الاستدلالي بين العقل والنقل، فمن جهة كان الخوارج يجنحون إلى مثالية في الحكم وأسبابه وأساليبه يكاد لا يقوم على شيء من واقع الحياة الذي يجري بين الناس، فإذا هم يسارعون إلى تكفير الحكام والخروج عليهم، بدءا بالإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فما بالك بمن بعده ممن ينتصب في هذا المنصب. ومن جهة أخرى كانت الشيعة تركب مركب الشطط المقابل بالرفع من مقام الإمامة متمثلة في الإمام علي رضي الله عنه وبنيه إلى درجة التقديس المتعالية عن الطبيعة البشرية العادية، لينتهي بها الأمر في النتيجة إلى ذات المنتهى من الرفض لكل من ليس من سلسلة الأئمة والخروج عليهم في كثير من الأحوال.
لما جاء الأشعري وجد هذا الاستقطاب قائما في صورته الثقافية الفقهية والعقدية، وفي صورته العملية السلوكية، وبمقتضى ما انتهى إليه من منهجية تعتمد الاستدلالية الوسطية، كانت هذه المنهجية عاملا موجها لفقهه السياسي نحو ردّ الشطط في التقريرات الفقهية والعقدية في الاتجاهات المتقابلة إلى ما تقتضيه مصلحة المسلمين وفق مبادئ كلية عامّة في الفقه السياسي يُفسح فيها المجال واسعا للاجتهادات التطبيقية بحسب ما يتحقق من مصلحة وما يستبعد من مفسدة.
من هذين المؤثرين الأساسيين: الفتن ومآسيها، والمنهجية الوسطية في الاستدلال الجامعة بين العقل والنقل انطلق الإمام الأشعري في تقريره لأحكام الفقه السياسي في فصوله المختلفة، تأسيسا على ما أقامه الوحي في ذلك من القواعد العامة المحكمة، وانفساحا للحكمة العقلية فيما تقتضيه بحسب مقتضيات الأحوال ومجريات الوقائع مما فيه للمسلمين خير وصلاح. وما رسمه في ذلك ظلّ يتردّد بعده عند أتباعه دون تغيير إلا في الأقلّ، فكان بذلك إماما في الفقه السياسي، كما كان إماما في الفكر العقدي.
إنّ الناظر في الفقه السياسي للإمام الأشعري يجد صعوبة في استجلاء هذا الفقه بشمولية ودقة؛ ذلك لأن الإمام لم يؤلّف كما يبدو مؤلفا خاصا بهذا الفقه على غرار من سلكوا هذا المسلك من مثل الماوردي وغيره، ولكنه تناول القضايا السياسية ضمن مبحث الإمامة من كتبه العقدية باعتبار أن هذا المبحث يلحق غالبا بالمؤلفات في أواخرها، وحتى تناوله لهذه القضايا في مواقعها لم يكن مفصلا ولا واضح المعالم بالقدر الكافي لمن يريد تبيّن التفاصيل، ففي مقالات الإسلاميين على سبيل المثال كان الأشعري يورد مقالات مختلف الفرق الإسلامية في القضايا المتعلقة بالإمامة، ولكنه يكتفي بذلك العرض المجرد دون أن يبيّن رأيه هو فيما يورده، ودون أن يكون له تعليق عليها بالموافقة أو الاعتراض إلا في الأقلّ، وفي كتابيه الإبانة واللمع لم يتناول الإمامة إلا باختصار شديد لا يتجاوز الاستدلال على مشروعية الخلافة الراشدة في ترتيبها الذي تمّت عليه، وربما قد خصّ الإمام مسألة الإمامة ببعض التآليف كما ذكر ذلك عنه، ولكنّ شيئا منها لم يصل إلينا لنستجلي منها حقيقة آرائه بصفة مباشرة.
ولكن الذي يسعفنا في هذا الشأن بشيء مما فات من المؤلفات المباشرة للإمام هو ذلك الجمع الشامل والدقيق الذي قام به الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك (ت 406 هـ)لجميع آراء الأشعري مجردة من تصانيفه ما وصل منها إلينا وما لم يصل، ومبوبة بحسب أبواب العقيدة، ومن بين ذلك فصل يتعلق بالإمامة وقضاياها، وهو الذي سماه " مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري"، وباعتبار ابن فورك من أتباع الأشعري ومن أهمّ المهتمين بآرائه ومن الطبقة التي تليه مباشرة، فإن ذلك بالإضافة إلى المنهجية التي اتّبعها في هذا الجمع كما شرحها في مقدمة كتابه يعدّ من العوامل المطمئنة كي يكون ما عرضه ابن فورك من الآراء السياسية للإمام مهما يكن مختصرا معتمَدا أساسيا لاستجلاء الفقه السياسي للأشعري تضاف إلى ما ورد عنه مباشرة في ثنايا مؤلفاته ورسائله، وقد يستضاء في ذلك أيضا بما رواه عنه أتباعه فيما بعد بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وبالأخص منهم الباقلاني في التمهيد وإمام الحرمين في كتابه غياث الأمم على وجه الخصوص.
وباعتبار أن الأشعري كان يتناول القضايا السياسية ضمن منظومة المعتقدات وإن لم تكن معدودة عنده منها فإن الطابع العام الذي يطبع بياناته فيها هو الطابع الكلي العام لا الطابع الفقهي التفصيلي على غرار ما درج عليه الفقهاء السياسيون فيما بعد، فكأنما كان الأشعري يكتفي بالتأصيل الفقهي للسياسة الشرعية دون التوغل في فروع الأحكام وتفاصيلها. وقد تناول هذا التأصيل جملة من القضايا هي تلك التي أصبحت عمدة البحث في قضية الإمامة أو في السياسة الشرعية، مندرجة ضمن محور الإمامة في مشروعيتها ومهامها وانتصابها وانحلالها وكيفية التعامل معها. ونعرض فيما يلي جملة من هذه القضايا كما قررها الإمام الأشعري
2 ـ الإمامة: المشروعية والمهامّ
تنظيم المجتمع الإسلامي على نظام سياسي يقوم عليه رئيس دولة يضطلع بإدارته وتدبير شؤونه هو أحد الواجبات الدينية كما يقررها الإمام الأشعري، فكما أنه من تكاليف الدين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطلب العلم، فكذلك إقامة نظام للدولة على أساس الإمامة، حيث ينتصب على رأس هذه الدولة رئيس يقوم على شؤون الأمة، ويدير حياتها، وييسر لها سبل البناء الحضاري وأسبابه. وحكم الوجوب الديني لهذه الإمامة مما اتفق عليه كل المسلمين سوى ما روي عن عبد الرحمن بن كيسان الأصمّ المعتزلي من قول بأنه لو تكافّ الناس عن الخصومات وقام كل بواجبه فإن الإمامة لا يكون لها وجوب[2].
ولكن الأشعري كما هو رأي سائر المسلمين من غير الشيعة يقف بوجوب الإمامة عند الوجوب في فروع الأحكام، ولا يرتفع به إلى مبادئ العقيدة كما هو الأمر عند معظم فرق الشيعة؛ ولذلك فإنّه لا يتعلق به كفر عند الإخلال التصديقي به كما هو عندهم، ولكنه مجرد عصيان كالعصيان المترتب على الخلل في فروع الأحكام. بل إنّ هذا الوجوب لإقامة الإمامة هو وجوب كفائي وليس وجوبا عينيا، فالأمة جمعاء مكلفة بإقامته، فإن لم تفعل أثمت كلها، وإن قام بذلك فئة منها سقط التكليف به عن الباقين من أفرادها[3]. هكذا نرى الأشعري يعدل بوجوب الإمامة إلى وسط بين الأصمّ الذي لا يرى الوجوب مهما يكن رأيه شاذا، وبين الشيعة الذين يرتفعون بالوجوب إلى درجة الاعتقاد.
ومدرك وجوب الإمامة عند الأشعري هو الدليل الشرعي المسموع، وأكبر معتمد له في ذلك دليل الإجماع، إذ قد أجمع المسلمون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الإمامة، واختيار رئيس للدولة دون أن يكون لذلك معارض، وأما لو ترك الأمر لمجرد العقل لما كان له حكم بهذا الوجوب، إذ الأفعال في ذاتها كما يراها الأشعري وسائر أتباعه لا تحمل قيمة في ذاتها تكون مستند العقل في إيجابه، وإنما قيمتها يضفيها عليها الشرع بما يأتي فيها من أمر أو نهي، فكذلك الإمامة إنما وجبت بالشرع، ولو لم يرد شرع ما كان لها بالعقل وجوب[4].
لا نجد للأشعري بيانا صريحا لطبيعة الإمامة في العلاقة بين الإمام الحاكم والأمة المحكومة، هل هي علاقة تعاقد بين طرفين، أم علاقة انتصاب من طرف واحد، ولكنّ الروح العامة لبياناته في شأن الإمامة يوحي بأنه يرى طبيعة الإمامة على أنها اتفاق بين طرفين: أمّة تختار من يدير شؤونها، وإمام يقبل ذلك التكليف، وهو ما يتبين من كون الإمام عنده لا ينتصب بنفسه وإنما ينصبه أفراد من الأمة، كما يتبين بصفة أوضح من أنّ الأمّة لها حقّ الرقابة على الإمام فيما إذا كان يدير شؤونها على ما وقع عليه الاتفاق الضمني وهو أحكام الشريعة أو أنّ إدارته يداخلها الخلل في ذلك، وما يترتب على ذلك من إجراءات المحاسبة، فهذه الرقابة لا معنى لها إلا إذا كان تنصيب الإمام يعني توكيلا من الأمة أو إنابة عنها في تدبير شؤونها بما ترتضيه من أحكام الدين، وهو ما يحدد طبيعة الإمامة بأنها طبيعة تعاقدية بين الأمة والإمام[5].
والمهمة التي من أجلها تقوم الإمامة لأدائها هي مهمة إدارية، تتمثل في تنظيم المجتمع وصون أمنه الداخلي والخارجي، وتيسير سبل تماسكه ونموه وإنتاجه من " إنفاذ الأحكام وإقامة الحدود وجباية الخراج وحفظ البيضة ونصرة المظلوم والقبض على أيدي الظالمين"[6]، وكلّ ذلك يُعتبر فيه الإمام خليفة للرسول في تنفيذ الأحكام، على معنى أنه يقتفي أثره ويتأسى به فيما كان يمارسه من مهامّ التنفيذ للأحكام الشرعية، وهو ما لا يتعارض مع معنى النيابة على الأمة أو التوكل عنها، إذ هي مرتضية لتنفيذ هذه الأحكام عليها، فأنابت الإمام عنها في هذا التنفيذ الذي يكون كما تريد هي أيضا متأسيا فيه بالرسول الكريم، خليفة له فيه.
وقد عرض الأشعري في معرض التأكيد أنّ مهمّة الإمامة ليست بحال مهمّة تشريعية، على معنى أن يكون الإمام له حقّ التشريع ابتداء أو تغييرا، إذ تلك إنما هي مهمّة مجموع الأمّة بطريق الاجتهاد في الفهم للكتاب والسنة، أو باستعمال العقل قياسا واستنباطا، والإمام في هذا الشأن إنما هو كمجتهد من المجتهدين، و" كواحد من الأمّة يقيم الحدود على حسب ما دلّت عليه آي الكتاب والسنن وحصل عليه اتفاق الأمّة وما دلت عليه العقول بالقياس والاستنباط من هذه الأصول"[7]. ولكأنما الإمام بثاقب نظره يتصدى على سبيل الاستبصار المستقبلي للشبه التي وردت بعد قرون تتهم النظام السياسي الإسلامي بالتيوقراطية التي يشرع فيها رئيس الدولة باسم الله استقلالا عما يرتضيه المجتمع من التشريعات.
إننا نلمح في الفقه السياسي الأشعري والفقه السياسي الإسلامي عموما منح الإمام سلطات واسعة في المجال التنفيذي، مع ضيق بيّن في الهوامش التي تكون له فيها مراجعة إلا إذا تجاوز الأمر إلى الخلل المشهود، فضلا عن أن تكون لتلك المراجعة مسالك منضبطة وآليات محددة، ولعلّ هذا المنتهى كان من أسبابه ما اشترطه هذا الفقه مسبقا من شروط ثقيلة في الإمام تقلّل إلى حدّ كبير من الحاجة إلى مراجعته وضبط تصرفاته، إذ يوكل في ذلك إلى ما اشتُرط فيه من تلك الشروط شروط.
وقد كان الإمام الأشعري من أكثر المتشددين في الشروط التي ينبغي توفرها في الإمام، وهو ما ضبطه في قوله:" يجب أن يكون بالعلم ظاهرا وفي الفهم والفطنة بارزا، وبجملة خصال الفضل في باب الدين مشهورا، ومن أكثرهم بائنا، وكذلك في الضبط وحسن السياسة والاستقلال بما يتحمله من ذلك"[8]. ومن تشدّد الأشعري في هذه الشروط أنه كان يقول بوجوب إمامة الأفضل، ويمنع انعقادها للمفضول خلافا لما انتهى إليه أصحابه بعده كما ذكر ذلك ابن فورك[9]. إنه منطق قد ينسجم مع ذاته في تناسق المقدمة وهي الشروط مع النتيجة وهي تقليص فرص المراجعة، ولكنه لا ينسجم مع الواقع فيما جرت به الحياة السياسية، وذلك ما أدى بالأشاعرة وغيرهم لاحقا إلى القول بجواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل.
3 ـ تنصيب الإمامة
المقصود بتنصيب الإمامة إحلال الإمام لمهمّة الإمامة وتمكينه منها تمكينا يخوّل له ممارسة المهامّ المكلّف بها، ويمكن التعبير عن ذلك بأنّ المقصود هو صيرورة شخص ما إماما متمكنا من أداء واجبات الإمامة. وانتصاب الإمام هو المسألة الأخطر في الفقه السياسي الإسلامي، بل في الفقه السياسي بصفة عامّة، إذ هو متفرّع إلى عناصر شتى كل منها ذو شأن في ذاته وفي أثره على مجمل التصرفات المتعلقة بالحكم؛ ولذلك فقد كانت أعوص ما عالجه الفقه السياسي الإسلامي، وأكثر ما تفرقت فيه الآراء، بل وأكثر ما اختلطت فيه الآراء واضطربت ولفّها الغموض.
من هي الجهة التي لها حقّ تنصيب الإمام؟ هل هو تنصيص من الوحي، أم اختيار من الأمّة، أم اختيار من بعض أفرادها؟ أم هو تعيين يعهد به الإمام السابق، أم قد يكون التغلّب بالقوّة العسكرية؟وما هي الكيفية التي يكون بها ذلك التنصيب؟ وحينما ينتصب الإمام هل يكون مسؤولا لدى من نصّبه مراقبا من قِبله أم يوكل إلى نفسه دون رقابة؟ أسئلة كثيرة تثار نظريا وأثيرت عمليا في اجتهادات الفقه السياسي، وللإمام الأشعري في كل ذلك نصيب من البيان لا يخلو من الاضطراب الذي يحتاج إلى محاولة بيان.
أ ـ التنصيب بالنصّ والتغلّب
أوّل ما يقرره الأشعري في تنصيب الإمام استبعاد التنصيص الشرعي أن يكون جهة تنصيب للإمامة، مستدلا على ذلك بما وقع في تنصيب أبي بكر إماما، إذ انعقد الإجماع في هذا التنصيب على أنّه لاوجود لنصّ منصّب لا له ولا لعلي رضي الله عنهما ولا لغيرهما، ووقع التنصيب بطريق آخر هو طريق الاختيار، وكذلك الأمر في حال سائر الخلفاء الراشدين[10]. ومن البيّن أنّ هذا الموقف من الأشعري يعارض عقيدة الشيعة في الإمام بأنّ تنصيبه لا يكون إلا بنصّ توقيفي من الله تعالى أو من الإمام السابق عليه. غير أنّ الأشعري لئن استبعد تنصيب الإمامة بالنصّ واقعا، فإنه أثبت ذلك على سبيل الإمكان الذي لم يقع، تماشيا مع مذهبه في أنّ الأفعال عند عدم ورود الشرع فيها بأمر أو منع تكون قابلة من حيث ذاتها لجميع أوجه الإمكان[11].
وإذا ما انتفى أن يكون النصّ جهة منصّبة للإمامة فهل للإمام أن يتمّ تنصيبه بمقتضى قوّته الذاتية أو قوّته المكتسبة من غيره خارج دائرة اختيار الأمّة أو بعض منها مسلكا للتنصيب، فتكون إذن مشروعية التنصيب مستفادة من مجرّد التغلّب بالقهر العسكري؟ في الجواب على هذا السؤال عند الأشعري كما عند غيره بعض الغموض، غير أنّ الواضح فيه أنّ التغلّب العسكري ليس طريقا شرعيا لتنصيب الإمامة في حال ما إذا كان الإمام المنصّب مختلّة فيه شروط الإمامة " فإذا تغلّب قوم فبايعوا من لا يصلح لذلك لم تثبت إمامة من بايعوه بالقهر والغلبة"[12]، وربما أفاد مفهوم المخالفة أنّ هذه الغلبة بالقهر تصبح طريقا مشروعا لتنصيب الإمام إذا كان مستجمعا للشروط، وهو الأمر الذي اتّجه إليه أتباع الأشعري فيما بعد على وجه العموم[13].
ب ـ التنصيب بالاختيار
وإذا ما استبعدت عند الأشعري الشرعية الواقعية لتنصيب الإمامة بالشرع النصي، واستبعدت بالتغلّب القهري في بعض الحالات على الأقلّ فإنّ الطريق الذي يبقى مشروعا في التنصيب والذي شرحه الأشعري بأشكال مختلفة هو الاختيار من قِبل الأمّة عمومها أو ممثلين عنها أو أفراد منها. ولكنّ هذا الطريق تكتنفه هو أيضا ضروب من الخلط والغموض والاضطراب مما يحتاج إلى شيء من التفصيل.
بالتأمّل في هذا الطريق المشروع لتنصيب الإمامة كما ذهب إليه الأشعري وأتباعه يتبيّن أنه طريق مركّب ذو عناصر ومراحل لكلّ منها مصطلح خاصّ، وقد تتداخل تلك المصطلحات فيقع الاضطراب في مدلولاتها بما يعود على تحديد المقصود منها بالصعوبة البالغة، وهو الأمر الذي وقع فيه المنظرون لهذا الأمر أنفسهم والمؤرخون لهم والدارسون لآثارهم؛ وهو ما يحتّم أن تحدّد هذه المصطلحات ومفاهيمها عسى أن ينتج عن ذلك الخروج بصورة أوضح في هذا الأمر الذي هو العمود الفقري لنظرية الإمامة بأكملها.
ترد عند الأشعري وعند أتباعه من بعده مصطلحات أربعة تتعلق كلها بالمعنى العام لطريق الاختيار طريقا لتنصيب الإمامة، وهي ترد أحيانا مقترنة وأحيانا متفرقة وأحيانا معطوفا بعضها على بعض، مما يدلّ على أنّها مختلفة في المعنى سواء اتفق ماصدقها على نفس الأعيان أو اختلف. ولعلّ أكثر هذه المصطلحات رواجا عند الأشعري كما رواه عنه ابن فورك وكما ورد في مؤلفاته مصطلحا الاختيار والعقد، ويتعلق بهما مصطلحا الإشهاد والبيعة.
والمقصود بالاختيار هو الإعراب عن الرضا بشخص معيّن أن يكون هو الإمام مقدّما على غيره وتقديمه للتمكين من هذا المنصب، والموافقة عليه ليكون كذلك، وربما أشبه هذا ما يجري به العمل اليوم مما يجمع الترشيح والتصويت معا، فكلّ منهما اختيار وتزكية وتقديم لمن يراد أن ينصّب، وتندرج البيعة ضمن الاختيار أيضا، إذ هي تعبير عن الرضي بمن وقع تنصيبه إماما والموافقة عليه. والمقصود بالعقد هو الإبرام والتقرير بأن يصبح الشخص المعيّن الذي وقع اختياره إماما بالفعل وتمكينه من منصب الإمامة ليصبح بهذا العقد هو الإمام الشرعي، والإعلان عن ذلك من قِبل العاقدين لدى عموم الناس للإعلام به، وربما أشبه هذا ما يجري به العمل اليوم من الهيئات الدستورية التي تقرّ نتائج الانتخابات وتنصّب الرؤساء في منصب الرئاسة.
وثمّة تداخل بين الاختيار والعقد فيما يتعلق بالماصدق، فقد يكون المختار فردا أو جماعة هو ذات العاقد، وقد يكون العاقد فردا أو جماعة من جملة المختارين ولكنّ عددهم أقلّ منهم، وهذا التداخل هو الذي أدخل التباسا في قضية تنصيب الإمام كما يراه الأشعري وأتباعه، حيث وقع الظنّ أنهما مفهومان متطابقان، وعند التحقيق يتبيّن أنّهما يختلفان في المفهوم بما يؤدي إلى اختلاف في بعض الأحكام وفي بعض الآثار المترتبة عنهما كما سنبينه لاحقا.
والمقصود بالإشهاد حضور شهود يتمّ العقد على أعينهم ويشهدون بأنّ العقد تمّ على وجه الحقيقة، فالعقد قد تحيط به ظروف لا يكون فيه على رؤوس ملإ من الناس، وإنما يقوم به القلّة من العاقدين، وحينئذ فمن باب التوثيق يجب أن يكون عليه شهود يشهدون به إذا ما وقع فيه خصام.
أولا ـ اختيار الإمامة
اضطربت الآراء فيما يتعلق بالاختيار وتعددت الأقوال فيه ليس بين القائلين المختلفين وإنما بين ما يؤثر عن القائل الواحد من منهم، فما هو التكييف الشرعي للاختيار ابتداء؟ ثم من هي الجهة التي لها حقّ اختيار الإمام لتقدمه على وجه الرضى به تفضيلا عن غيره ليتبوّأ الإمامة ويُعقد له بها؟ وماذا يترتّب على الاختيار من حكم شرعي في خصوص انتصاب الإمامة وتمكين الإمام المختار منها؟
يقرّر الأشعري ابتداء أنّ اختيار الإمام هو أمر اجتهادي، فإذا كان التنصيص على الإمام لم يجر به الشرع واقعا، فيكون " نصب الإمام وأمر الإمامة كسبيل سائر الأحكام في أنّ ذلك مما يعرف نصا واجتهادا، فإن لم يكن في ذلك نص كان للاجتهاد في ذلك مدخل وله أصل ... [ ويكون] إقامة الإمام والاجتهاد في نصبه عند الحاجة إليه وفقد من قبله من فروض الكفاية"[14]. وهذا التكييف للاختيار بالاجتهاد فتح الباب واسعا لتعدد الآراء في مجمل القضايا التي تتعلق به.
من الذي له الحقّ في اختيار الإمام من الناس وما هي أوصافهم؟ يبدو أنّ الأشعري يضيّق من هذا الحقل في عنصريه تضييقا كبيرا، فهو من حيث الأوصاف والشروط التي ينبغي أن تتوفّر في المختارين للإمام يقرّر فيها أن يكونوا من أهل الاجتهاد بحيث يصلحون أن "يكونوا أيمة بدل من يختارونه، فإذا كانوا بهذه الصفة صحّ لهم الاختيار"[15]. وهذا التشدّد في أوصاف المختارين للإمام نراه يتردّد بعد ذلك عند أتباع الأشعري كما شرحه باستفاضة إمام الحرمين فبيّن أصناف الناس من الأمّة، وحدّد من لهم الحقّ في الاختيار ومن ليس لهم الحقّ في ذلك، فجاء بالتفصيل لما قرّره الأشعري بالإجمال[16].
وهذه الأوصاف المشترطة في مختاري الإمام من شأنها أن تضيّق في عدد من لهم الحقّ في ذلك، إذ المجتهدون من الأمّة لا يكون عددهم إلا قليلا، ومع ذلك فقد ذهب الأشعري في إمكان التضييق من هذه الحلقة بما تعطي هي فيه نوع فسحة من التوسّع، فقرّر أنّ عدد المختارين لا يكون محدودا بعدد معيّن حتى إنه ليمكن أن ينتهي إلى شخص واحد يكون هو المختار للإمام، وعلى اختياره يتمّ العقد له بالإمامة، " إذ كان يقول في عدد المختارين إن ليس لذلك حدّ في العدد لا يزاد فيه ولا ينقص، بل يجب أن يكونوا ممن يصلحون لذلك إذا كانوا جماعة، وأقلّهم واحد"[17]. وقد أصبح رأي الأشعري هذا أصلا لأتباعه كما قرّره إمام الحرمين في قوله:" وأقرب المذاهب [ في عدد أهل الاختيار] ما ارتضاه القاضي أبو بكر[الباقلاني]، وهو المنقول عن شيخنا أبي الحسن [ الأشعري ]رضي الله عنه، وهو أن الإمامة تثبت بمبايعة رجل واحد من أهل الحلّ والعقد"[18]. وهذا الواحد الذي قد يكفي أن يكون المختار للإمام يمكن عند الأشعري أن يكون من بين سائر المسلمين الذين تتوفر فيهم شروط المختارين، ويمكن أن يكون الإمامَ المنتصب يختار من يليه ليعهد إليه بالإمامة، ويكون اختياره كافيا بل ماضيا إلى العقد له بها في غير رجوع إلى غيره من أفراد الأمّة[19].
وأبرز متمسّك استدلالي للأشعري ومن بعده من أتباعه بهذا الإمكان في تقليص عدد المختارين لينتهوا به إلى الواحد يتمثّل في صنيع عمر رضي الله عنه حينما اختار أبا بكر للإمامة، وقدّمه لهذا المنصب، والإجماع الذي حصل من قِبل الصحابة عليه والرضى به وعدم الاعتراض عليه، فهذا الصنيع يدلّ عند الأشعري وسائر أتباعه على أنّ الإجماع في الاختيار ليس شرطا في الإمامة، وإذن فإنّ الأمر قد يعود إلى الآحاد من الناس، والعدد ليس فيه رقم أولى من رقم، فينتهي الأمر إذن إلى إمكان أن يكون المختار للإمام واحدا.[20]
لم يصرّح الأشعري ولا أحد من أتباعه فيما نعلم بأنّ هذا الاختيار للإمام الذي يمكن أن ينحصر في واحد هو اختيار من قِبل هذا الواحد على سبيل الاستقلال بنفسه في هذا الاختيار بقطع النظر عمن سواه ممن يشاركه في ذلك أو لا يشاركه، أم أنه على سبيل التمثيل لغيره من المسلمين حتى وإن كانوا منحصرين في الدائرة الضيقة التي حددتها شروط المختارين، سواء كان تمثيلا صريحا أو ضمنيا. والسكوت على هذا الأمر يوقع الباحث فيه في شيء من حرج شديد، فيحتاج إلى بحث عن مخرج بالنظر إلى الخطورة البالغة التي يتضمنها هذا الموقف الذي انتهى إليه الأشعري وأتباعه.
لو كان المقصود بإمكانية حصر الاختيار في شخص واحد لأدى ذلك إلى أن يُعلّق مصير الأمة بأكملها برأي رجل واحد قد يصيب وقد يخطئ في الاختيار، والحال أنّ منصب الإمامة له التأثير البالغ في المجمل من مصير حياة الأمة في مختلف جوانبها، باعتبار أنّ الإمام هو القيّم على تطبيق أحكام الدين في كلّ الأوجه من الحياة، وعلى افتراض أنّ اختيار هذا الواحد كان مصيبا، فحينما لا يحظى بموافقة غيره من أفراد الأمّة فإنّ ذلك يفتح بابا واسعا من أبواب الفتنة. إنّ الروح العامّة في التشريع الإسلامي تنحو المنحى الجماعي في تقرير الأحكام، ولهذا كان الإجماع أحد الأدلّة الشرعية المعتبرة، فكيف يقرّ الأشعري وأتباعه أن ينحو بالتشريع السياسي في اختيار الإمام وهو الأمر الخطير منحى التفرّد إذا ما كان المقصود من اختيار الواحد الاستقلال بهذا الاختيار؟
والاستدلال على إمكانية اختيار الواحد باختيار عمر لأبي بكر واختيار أبي بكر لعمر رضي الله عنهما لا يبدو أنه متّجه إلى الاستقلالية بالاختيار؛ ذلك لأنّ هذا الاختيار استفاضت الأخبار فيه على أنه تمّ بعد مشاورات ومفاوضات واسعة بين الحاضرين في السقيفة وعلى رأسهم عمر، وبين أبي بكر وجملة واسعة من الصحابة استشارهم في الأمر، بحيث بان على وجه القطع أنّ اختيار كلّ منهما كان مواطئا لاختيار كثيرين ممن اشتركوا في الحوار وطالتهم المشورة، وإذا كان هذا الأمر خير خاف بحال على الأشعري وعلى أتباعه، أفلا يكون المقصود بما ذهبوا إليه من إمكان الاقتصار على اختيار الواحد أو العدد القليل من الأفراد أنّ هذا الواحد أو هذا العدد القليل إنما هم في الحقيقة ممثّلون في اختيارهم للجمع الكبير من الناس الذين كانوا يرون نفس ما يرون من اختيار، وإنما كان الواحد أو العدد القليل معبّرين عن الرضى بالمختار نيابة عن ذلك الجمع العريض؟
لعلّ مما يؤول بشرعية اختيار الواحد عند الأشعري إلى هذا المعنى التمثيلي ما قرّره من أنّ للأمّة حقّا في مراقبة الإمام بعد اختياره وتنصيبه إماما، في كل من حالي الوفاء أو عدمه بالشروط التي على أساسها اختير إماما، إذ يرى الإمام في ذلك أنه: ّمتى أقام الأحكام وأنفذها في الظاهر على ما وردت به الآثار ودلّت عليه آي الكتاب وأقاويل الأمّة كان أمره في الإمامة منتظما، ومتى ما زاغ عن ذلك عدل به إلى غيره ، وكانت الأمة عيارا عليه"[21]، فإذا كان الاختيار للواحد والأمة خارجة من ذلك بأيّ حقّ تكون لها الرقابة عليه والحال أنها لم يكن لها الاختيار في تنصيبه حتى يكون لها الحقّ في مراقبته؟
ربما يشوش على هذا التأويل في اتجاه أن يكون الأشعري مضمرا فكرة التمثيل في الاختيار ما ورد عنه من منع لمراجعة اختيار الواحد أو العدد القليل من قِبل العدد الأكبر من الأمة بعدما يكون قد أبرم العقد بناء عليه، وهو ما يشبه أن يكون قد تضمنه قوله على سبيل المثال:" إذا عقد من هو من أهل الحلّ والعقد الإمامة لمن هو لها أهل انعقد ووجب على كافّة الخلق الانقياد والمتابعة، فمن ادّعى بعد ذلك طعنا أو خللا في أمر من عُقدت له الإمامة استُتيب من ذلك "[22]، وكذلك قوله:" إن للإمام أن يولي إلى غيره ويعقد له الإمامة بعده، وإن الأمّة يلزمها عقده واختيار من اختاره، ولا يكون لهم في ذلك مشاورة"[23].
يبدو أنّ هذا المنع من المراجعة لاستحقاقية الإمام منصب الإمامة بعد الانتصاب ليس منعا متّجها إلى الاختيار الذي تمّ من قِبل الأقلّ، وإنما هو متّجه إلى العقد الذي تمّ بناء على الاختيار مهما يكن حجم المختارين، فللعقد عند الأشعري كما سنراه دور خطير يفوق دور الاختيار، والمراجعة بعده إنما هي نقض له مع ما يترتب على ذلك النقض من وخيم العواقب، بحيث يصبح منع المراجعة أقلّ ضررا في آثاره من نقض العقد بالإمامة بعد إبرامه. وإذا كنا لا نجد عند الباقلاني ناشر آراء الأشعري فيما نعلم ما يؤيّد هذا التأويل، ولا عند إمام الحرمين على ما هو معلوم من تشدّده في هذا الشأن ضمن نظريته في انتصاب الإمام بالشوكة[24]، فإننا نجد عند الغزالي مستأنسا لتأويل رأي الأشعري في الوجهة التي شرحناها، إذ كان يقرّر أنّ أبا بكر رضي الله عنه " لو لم يبايعه غير عمر، وبقي كافة الخلق مخالفين، أو انقسموا انقساما متكافئا لا يتميز فيه غالب من مغلوب لما انعقدت له الإمامة"[25]، إنه إذن اعتراف بحق للأمة في اختيار الإمام يعلو على اختيار الواحد أو العدد القليل، بحيث يتوقّف على ذلك الحقّ العقد بالإمامة ليكون مبنيا عليه، وليكون ناقضا لاختيار الواحد.
يبدو أنّ الأشعري فيما يتعلّق باختيار الإمام لئن كان يضيق من دائرة المختارين بأوصاف مشروطة فيهم، إلا أنه فيما قرّره من جواز الاقتصار على اختيار الواحد أو العدد القليل كان يستصحب ضمنا معنى التمثيل الذي يحمله ذلك الواحد لغيره ممن تتوفر فيهم الشروط، وأنّ منعه لمراجعة اختيار الواحد من قِبل الأكثر إنما هو متعلق بالعقد لا بالاختيار، مع الإقرار بأنّ فكرة التمثيل في الفقه السياسي الإسلامي المبكر منه على وجه الخصوص لم تكن فكرة واضحة ناضجة صريحة، وإنما هي إشارات وقرائن تدلّ على أصل وجودها وإن لم تشهد التطور الطبيعي الذي تكتسب به الوضوح والنضج، فآل الأمر في الواقع نتيجة هذا الغموض إلى مآلات سيئة من مظاهر الاستبداد في تنصيب الإمامة.
ثانيا ـ العقد بالإمامة
يبدو لنا أنّ البند المتعلّق بالعقد في تنصيب الإمامة هو أهمّ البنود في الفقه السياسي الإسلامي، وهو المحور الأساسي في هذا التنصيب، وهو وإن كان يُقرن كثيرا ببند الاختيار في بيانات الفقهاء السياسيين ومنهم الأشعري إلا أنه كان متميّزا منه في التصور ومتفوقا عليه في الخطورة ومختلفا عنه في النتائج والآثار مهما كان ملتقيا معه في بعض الأنحاء.
ونقدّر أنّ هذه الأهمية التي أعطيت للعقد هي أهمية مبرّرة، وذلك بالنظر إلى كون الاختيار إنما هو الحقّ الذي يكون به للمسلم أن يعبّر عن رضاه بمن يقدمه للإمامة وعن اعتراضه عمن يقدمه غيره، وكلّ ذلك على بالغ أهميته في الأيلولة إلى تنصيب الأمثل والأصلح منصب الإمامة فإنه يتمّ قبل العقد بالإمامة، فلا تكون له آثار مترتبة على العلاقة بين الإمام ومختاريه ومجموع الأمّة، أما العقد فإنه حينما يتمّ بأيّ صورة تمّ بها فإنه تترتّب عليه آثار من وجوب الوفاء بالالتزامات المتعاقد عليها بين الطرفين، كما تترتب عليه آثار من الدفاع عن الحقّ الذي أصبح مكتسبا، وما قد يترتّب على ذلك الدفاع من التبعات بل من الأحداث والفتن.
يقرّر الإمام الأشعري أنّ العقد هو الذي تثبت به الإمامة ولا تثبت بدونه حيث يقول:" أما الإمام فإنما تثبت إمامته وتنعقد بعقد العاقدين له ممن يكون لذلك أهلا"[26] كما يقول:" تثبت إمامة كل واحد منهم [ أي الخلفاء الراشدين ] بعقد من عقدها له من أهل الحلّ والعقد"[27]، وتأكيدا لهذا المعنى جاء البيان بأنّ الاختيار أي إظهار الرضى وتقديم المرضي عنه وتزكيته والموافقة على إمامته لا تنعقد به إمامة، حتى وإن تمثّل ذلك في المبايعة العلنية مهما تكن مبايعة إجماعية باعتبار أنّها تعبير عن الاختيار وليست عقدا بالإمامة، إذ يقول الإمام في هذا المعنى:" وما حصل من الإجماع بعده [ أي بعد العقد للخلفاء الأربعة ] عليه فإنما ذلك تأكيد للعقد لا أنه دلالة على الإمامة ابتداء"[28]، فمن البيّن إذن أنّ ثبوت الإمامة إنما هي بالعقد لا بالاختيار.
وأما المؤهلون للقيام بالعقد فإنهم في بيانات الأشعري وأتباعه من بعده هم المؤهلون للاختيار، حيث يأتي ذكرهم دوما بالتلازم مما يوحي بأن أهل الاختيار هم أنفسهم أهل العقد، وكثيرا ما يعبر عنهم بأهل الحل والعقد، غير أنه عند التأمّل يتبيّن بناء على اختلاف طبيعة الاختيار على طبيعة العقد قد أنه قد يحصل التفاوت بين أهل الاختيار وأهل العقد على أساس ما بينهما من عموم وخصوص مطلق، فأهل العقد وإن يكونوا من جملة أهل الاختيار فقد يكونون أقلّ منهم عددا، بل قد يكون بين الاختيار والعقد تفاوت في الزمن، فيتمّ العقد بناء على اختيار تمّ في زمن سابق، وهو ما يفهم من قول الأشعري:" إن إمامته [أي علي رضي الله عنه] تثبت بالشورى المتقدم في عهد عمر رضي الله عنه، وبعقد من عقدها من أهل الحلّ والعقد في وقته، وذلك أنّ الصحابة اجتمعت وتشاورت في وقت وفاة عمر رضي الله عنه واختارت من الجماعة ستة أنفس، ثم أخرج منهم ثلاثة وأطبقوا على ثلاثة، ومضى عثمان وعبد الرحمن قبل ذلك فلم يبق من أهل الشورى ومن[هو]أهل لذلك في وقته إلا علي، فعقدت له الإمامة اعتمادا على تلك الشورى والاختيار"[29]، فبيّن إذن أنّ إمكان التفاوت قائم بين الاختيار والعقد سواء من حيث الزمن أو من حيث ماصدق المختارين والعاقدين.
وأما من حيث عدد العاقدين فإنّ الأشعري يستصحب رأيه في عدد أهل الاختيار، فعنده يجوز أن يؤول أمر العقد إلى شخص واحد يكون هو المختار والعاقد، مستشهدا بعمر رضي الله عنه الذي كان هو المختار لأبي رضي الله عنهما والعاقد له بالإمامة. وفي تقديرنا ليس أمر العدد في شأن العقد بالخطير شأن خطورته في الاختيار؛ إذ العقد هو الإعلان باستحقاق التنصيب للإمامة، وإذا ما قام بذلك الإعلان العدد الكبير أو القليل فلا يترتّب عليه تبعات ذات شأن، وأما الاختيار فهو تزكية الشخص المعيّن وتقديمه إماما، فكلما اتسعت دائرته ضمن له الاستقرار، وكلما ضاقت توسّع احتمال النكوص عليه مع ما يحدثه ذلك من الاضطراب.
يولي الأشعري وجملة أتباعه العقد بالإمامة الأهمية البالغة فيجعلونه هو المحور الأساسي في تنصيب الإمامة، حتى إنه ليصبح مقدما في الأهمية عن الاختيار، فالإمامة إنما تثبت بالعقد لا بالاختيار ولو كانت بيعة إجماعيةكما تفيده مقولة الأشعري الآنفة الذكر، والعقد يمكن أن ينقض الاختيار كما في عقد الإمام لمن بعده دون مشورة أي دون اختيار كما ذكره الأشعري، وكما في العقد بمقتضى الشوكة العسكرية الذي لا يقبل المراجعة على أساس الاختيار إذا كان المعقود له أهلا للإمامة كما شدّد على ذلك إمام الحرمين.
ويبدو أنّ هذه المحورية في موقع العقد التي يبوئه إياها الأشعري وأتباعه من بعده سببها تلك الآثار الخطيرة التي تترتب عليه، فإذا كانت الإمامة تثبت بالعقد، فمعنى ذلك أن جميع الالتزامات المترتبة على العقد من الأطراف المتعاقدة ينبغي أن تصبح نافذة المفعول، فالإمام المعقود له أصبح بمقتضى العقد يملك مشروعية الإمامة، والأمّة التي عقدت للإمام أصبحت في موقع من تجب عليه الطاعة وتقديم العون للإمام ليقوم بمهامه، وإذن فإنّ أيّ تشويش يتمّ على العقد سوف يدخل مجمل الوضع في دوامة من الفوضى، إذ الإمام ومن معه سوف يتجندون للدفاع عن مشروعية الإمامة التي حصلت بالعقد، فإذا ما صودموا بالمشوشين على البيعة فسيكون المآل إلى الفتنة التي تكون مفاسدها في الغالب أكبر من المفاسد التي تنشأ عن عقد غير مؤسس على اختيار واسع من الأمّة، وربما استعملت في ذلك بصفة ضمنية قاعدة أن يُغتفر في الانتهاء ما لا يغتفر في الابتداء، على معنى أنّ عقد الإمامة وإن كان يجب أن يتمّ على الاختيار إلا أنه لو تمّ على غير اختيار فلا يكون ذلك سببا في نقضه بصفة آلية لما ينشأ عن ذلك من المفاسد.
إنّ هذه المعاني لا نجد فيها تصريحا من قِبل الأشعري ولكن الروح العامة لبياناته وتأكيداته في خصوص العقد توحي بها وتشير إليها، وذلك من مثل قوله:" إذا عقد من هو من أهل الحلّ والعقد الإمامة لمن هو لها أهل انعقد ووجب على كافّة الخلق الانقياد والمتابعة، فمن ادّعى بعد ذلك طعنا أو خللا في أمر من عُقدت له الإمامة استُتيب من ذلك، فإن لم يتب منع من ذلك ودوفع"[30] ، ومثل قوله:" إن للإمام أن يولي غيره ويعقد له الإمامة بعده، وإن الأمة يلزمها عقده واختيار من اختاره، ولا يكون لهم في ذلك مشاورة"[31]، ومثل قوله:" بل تثبت إمامة كل واحد منهم [أي الخلفاء الراشدين] بعقد من عقدها له من أهل الحلّ والعقد، وما حصل من الإجماع بعده عليه فإنما ذلك تأكيد للعقد لا أنه دلالة على الإمامة ابتداء"[32]، فهذه الأقوال تعني أنّ عقد الإمامة يكون ماضيا حتى ولو لم تتمّ البيعة وهي الوجه الأكبر من وجوه الاختيار، مما يدلّ على أنّ البيعة عند وقوعها تكون قيّمة على الاختيار وليس هو القيّم عليها. ومن الآثار الخطيرة المترتبة على هذه المحورية التي أعطيت لعقد الإمامة مسألة الخروج على الإمام بعدما يكون قد تمّ له العقد بالإمامة التي كانت هي أيضا محورا مهمّا من محاور الفقه السياسي عند الإمام الأشعري.
4 ـ نقض الإمامة
لمنصب الإمامة الأهمية البالغة في الإسلام كما بيناه سابقا، فهي المناط بها تطبيق أحكام الدين في المجتمع، وهي المكلفة بتوفير أسباب الاستقرار لتقوم الأمّة بمهمّة التعمير؛ ولذلك فإنّ الاضطراب الذي يحصل في هذا المنصب يكون له الأثر البالغ على سير الحياة في جملتها، وهو الأمر الذي يقتضيه المنطق المحدد لطبيعة الإمامة، والذي صدّقه الواقع الذي جرت به شؤون الحكم في التاريخ السياسي للأمة متمثّلا ما كان للفتن الحادثة في شأن الإمامة من المفاسد ابتداء من أحداث مقتل عثمان رضي الله عنه إلى ما بعد ذلك من الفتن الكثيرة التي يسببها الخروج على الأئمة في مختلف العصور.
إنّ هذين السببين كان لهما الأثر البالغ في توجيه الفقه السياسي للأشعري وأتباعه فيما يتعلّق بنقض الإمامة بعد عقدها، فقد كان هذان العاملان سببا في تشدّد بيّن عندهم في نقض الإمامة بجميع وجوه النقض، واتّجاه عازم إلى المحافظة على الإمامة قائمة بعد عقدها، والذبّ عنها ضدّ العوامل التي تتناوشها بالنقض على اختلاف مصادرها، والتضييق في إمكان ذلك النقض إلى أقصى حدّ ممكن، حتى إننا نقدّر أنّ الأشاعرة أصبحوا في هذا الشأن يتقدّمون الفرق كلها أو معظمها سوى الشيعة الذين لا يرون في الإمامة نقضا على وجه الإطلاق. ويبدو هذا التشدّد الأشعري في نقض الإمامة في كلّ من مسلكي النقض وهما: الخلع من الإمامة، والخروج عليها.
أ ـ نقض الإمامة بالخلع
لا نجد فيما بين أيدينا من مؤلفات الأشعري ما يمكن أن نكوّن منه صورة واضحة عن رأيه في عزل الإمام عن منصب الإمامة، غير أنه يمكننا أن نستنتج في ذلك بعض الاستنتاجات مما توحي به بعض أقواله مستأنسين بآراء الباقلاني الذي يعتبر أقرب المتأثرين بآرائه الناقلين لها لمن بعده.
وأول