السيد سليمان نور الله
قدم له فضيلة العلامة المحدث الفقيه الأصولي
عبد الخالق بن حسن الشريف الحسيني
( المقدمة موجودة بالطبعة الورقية )
تقديم
الحمد لله الذي مَنَّ علينا بخاتم الأنبياء والمرسلين ، والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ؛
فإن الاحتفال بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين من المؤمنين من الأمور التي شغلت الكثير من العلماء والمهتمين خلال القرون الثمانية الأخيرة ، واختلفت وجهاتهم ؛ ما بين مبيح بل مستحب ، وما بين محرم ذام ، وما بين مفصل بين احتفال تقام فيه أعمال الخير ، وآخر تشوبه المفاسد والمحرمات ، ونحسب أن الجميع كان مخلصا راجيا الحق والصواب ، ولكل أجر بإذن الله تعالى .
وإنما أردت في هذه الرسالة أن أجلي هذه المسألة وأظهر قيمتها العلمية ، وأنها من مسائل الخلاف الفرعي الذي ترجحت فيه آراء المثبتين للاحتفال بالمولد على المنكرين له ، وسقت فيها من الأدلة والبراهين ، وأقوال العلماء الأعلام ما يزيل أدنى شبهة بإذن الله تعالى كما رددت على بعض التساؤلات والشبهات التي قد يثيرها البعض دون إلمام بالأدلة ، أو معرفة بأدب الحوار والخلاف ، فيثير زوبعة على رأي راجح ، ويتشبث بالمرجوح ، وهذا حقه إن اقتنع به ، لكن أن يعادي ويخاصم ، ويشهر بالآخرين لأجل رأيه فهذا هو المذموم ، وقد أُثر عن الأئمة الأعلام قولهم : ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غير خطأ يحتمل الصواب ) .
هذا وقد أطلََّتْ علينا مئوية ميلاد الإمام الشهيد حسن البنا رضي الله عنه وأرضاه الذي ولد في ضحى يوم الأحد 25 من شعبان عام أربعة وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة المباركة الموافق الرابع عشر من أكتوبر عام ألف وتسعمائة وستة من الميلاد . ولا شك أن لهذا الإمام فضل ظاهر على أمة الإسلام ، أشاد به القريب والبعيد ، فقد عاش حياته عاملا عابدا مجاهدا ، وقضى نحبه في سبيل الله تعالى ، مما يجعل استدعاء سيرته ودراسة أحواله وجهاده ، والوقوف على آرائه وأفكاره ، أمرا واجبا لصلاح أمتنا بعدما ران عليها الفساد ، وتمكن منها الأعداء ، بخاصة أن الإمام البنا شهد له العلماء والدعاة والمفكرون في شتى بقاع العالم بأنه مجدد للأمة أمرَ دينها ، ولا زال منهجه في الدعوة والعمل والبناء واضح المسالك قريب التناول ، مناسبا لعصرنا ، من حيث الظروف التي تمر بها الأمة ، وحاجتها إلى أسلوبه وطريقته ومنهجه الذي أثبت كل يوم أنه المنهج الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث انتشرت دعوته وسارت فكرته في كل بقاع الأرض ، مبشرا بانتشار الإسلام ، وخضوع الناس لرب الأنام .
فكان لزاما أن تخرج رسالتنا هذه لتبين للناس جواز الاحتفال بميلاد الأنبياء والصالحين وأنه أمر مشروع لا غبار عليه ، ومن تذكر فيه سير الأنبياء والصالحين ، ناله الأجر والثواب من رب العالمين .
وجعلت الرسالة بعد المقدمة ، في تمهيد وأربعة فصول ، الفصل الأول عرفت فيه بالمولد ونبذة عن تاريخه ، وبعض من ألف فيه من العلماء ، وفي الفصل الثاني سردت الأدلة من الكتاب والسنة التي استنبط منها العلماء جواز الاحتفال بميلاد الأنبياء والصالحين ، ثم أوردت في الفصل الثالث أقوال العلماء الأعلام قديما وحديثا في حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، وفي الفصل الرابع رددت على كثير من الشبهات التي يثيرها البعض ويبدع ويضلل من خالفه واحتفل بميلاد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، ثم أنهيت الرسالة بخاتمة تلخص ما سبق فيها .
هذا واللهَ أسأل أن يرزقني الإخلاص ، وحسن القصد والسداد ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
السيد سليمان نور الله
شهر رمضان المعظم 1427 هـ
أكتوبر 2006م
تمهيد
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف عمل فيه إظهار الفرح و السرور و الحب لرسول الله صلى الله عليه و آله وصحبه و سلم قال تعالى " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " . وهل هناك رحمة من الله تعالى أعظم وأجل من ميلاد وبعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد وصفه الله بقوله " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " وبقوله : " بالمؤمنين رؤوف رحيم " .
لذلك أمرنا الله عز وجل أن نعظم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا " .
و ما كان كذلك فهو مما يندب إليه الشارع و يحبذه ، فهذا ليس بمنكر و لا باطل ، بل معروف من مقاصد الشريعة المحكمة ، بشرط خلوه من البدع المذمومة ؛ كالاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، والتمسح بالقبور والمقامات، وشرب المسكرات ، واللغط وما شابه ذلك مما فيه فساد ظاهر ومخالفة لشريعة الإسلام .
كما لا يصح منع الاحتفال باستعمال قاعدة سد الذرائع ، لأن قاعدة سد الذرائع يعمل بها إذا كانت لا تُغيّب أصلا أجمع عليه الناس ، و لا تفوت مصلحة ضرورية على المسلمين ، نظراٍ لإمكان منع المفاسد .
ومثال ذلك غرس العنب والتمر والحنطة التي يصنع منها الخمر، فهل نمنع غرسها نظرا لذلك ؟! هذا لا يقول به عاقل .
لذا لا يجوز منع مجلس يذكر فيه الله و رسوله ، وتدرس فيه سير الصالحين ممن كان لهم أثر بالغ في إحياء شريعة الإسلام في قلوب المسلمين ، وردهم إلى المنهج الإسلامي الصحيح ، بخاصة من أفنوا حياتهم في سبيل الله ، فنحسبهم عند الله من الشهداء ، وممن شهد لهم القاصي والداني من العلماء الأفذاذ والدعاة النجباء بالخير والصلاح ، وأنهم ممن جددوا للأمة أمر دينها مما يجعل الاحتفاء بهم وذكر مناقبهم سببا لترقيق القلوب وتعلقها بحبيبها وقائدها سيد الأنام محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور ، بخاصة لو كان الهدف من الاحتفال إفهام الناس أمر دينهم ، وإيقاظ الإيمان المخدر في قلوبهم ، فتنصلح بذلك عبادتهم ، بلا إفراط أو تفريط ، وتسلم عقيدتهم من الغلو والتحريف ، مما يدفعهم لأن يعملوا للإسلام ، ويتصدوا لأعدائه .
وإن كانت بعض الاحتفالات عند بعض الطوائف وفي بعض البلدان تتخللها بعض المخالفات الشرعية ، فليس ذلك داعيا لمنع الاحتفالات بما فيها من خير ومقاصد حسنة ؛ بل تمنع تلك المفاسد ، وينكر على فاعليها .
يقول الشيخ عطية صقر : ولانتشار البدع في الموالد أنكرها العلماء ، حتى أنكروا أصل إقامة المولد ، ومنهم الفقيه المالكي تاج الدين عمر بن على اللخمى الإِسكندرى المعروف بالفاكهانى، المتوفى سنة 731 هـ ، فكتب في ذلك رسالته " المورد في الكلام على المولد" أوردها السيوطي بنصها في كتابه " حسن المقصد" .
و قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: وقد أتى القرن التاسع والناس بين مجيز ومانع ، واستحسنه السيوطي وابن حجر العسقلاني ، وابن حجر الهيتمي ، مع إنكارهم لما لصق به من البدع ، ورأيهم مستمد من آية " وذكِّرهم بأيام الله "
يقول ابن تيمية : ( والضابط في هذا – والله أعلم – أن يُقال : إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة ؛ إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه ، فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين . فما رآه المسلمون مصلحة نُظر في السبب المحوِج إليه ، فإن كان السبب المحوج إليه أمرا حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه ، وكذلك إن كان المقتضى فعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض قد زال بموته . وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه ، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد؛ فهنا لا يجوز الإحداث ، فكل أمر يكون المقتضى لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودا لو كان مصلحة ولم يفعل : يعلم أنه ليس بمصلحة ، وأما ما حدث المقتضى له بعد موته من غير معصية الخالق ؛ فقد يكون مصلحة .
ثم هنا للفقهاء طريقان :
أحدهما : أن ذلك يفعل ما لم ينه عنه ، وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة .
والثاني:أن ذلك لا يفعل ما لم يؤمر به، وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة. وهم ضربان: منهم : من لا يثبت الحكم إن لم يدخل تحت دليل من كلام الشارع أو فعله أو إقراره ، وهم نفاة القياس .
ومنهم : من يثبته بلفظ الشارع أو معناه ، وهم القياسيون) .
وابن تيمية أباح الاحتفال بالمولد النبوي وصرح أن من عمله بنية حسنة يكون له فيه أجر كما في اقتضاء الصراط المستقيم ما نصه :
( وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام ، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا ) .
وقال : ( فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم ، لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
الفصل الأول
التعريف بالمولد وتاريخه
معنى المولد لغة :
وقت الولادة أو مكانها.
وقد توافقت روايات أهل السير أن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين بلا خلاف ، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، وهو المشهور عند الجمهور ، وقيل في العاشر أو الثامن منه ، وبعض المحققين يجعله في التاسع منه . وكان ميلاده صلى الله عليه وسلم في عام الفيل بعد خمسين ليلة من حادث الفيل ، وقيل بعد أربعين ، وقيل بعد شهر منه .
وقد ولد صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة ، بدار أبيه عبد الله بزقاق كان يسمى بزقاق المدكل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ورث هذه الدار عن أبيه ، ولكنه فقدها فيما بعد ؛ و ذلك أن عقيل بن أبي طالب بعد الهجرة استولى على دار النبي صلى الله عليه و سلم و دور إخوته من الرجال و النساء مع ما ورثه من أبيه أبي طالب ، قال أبو رافع : قيل للنبي صلى الله عليه و سلم : ألا تنزل منزلك من الشعب ؟ قال : " فهل ترك لنا عقيل منزلاً ؟ " و كان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه و سلم و منزل إخوته من الرجال و النساء بمكة .
كما أخذ متعب بن أبي لهب داره التي ورثها صلى الله عليه وسلم من خديجة .
وجعلته الخيزران مسجدا يصلى فيه ، وقد صلى الإمام الحاكم النيسابوري بالدار التي ولد فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم .
يقول الإمام الآمدي : ( إن مكة مشتملة على أمور موجبة لفضلها ؛ كالبيت المحترم ، والمقام ، وزمزم ، والحجر المستلم ، والصفا والمروة ، ومواضع المناسك، وهي مولد النبي عليه السلام ومبعثه ، ومولد إسماعيل ، ومنزل إبراهيم " .
معنى المولد اصطلاحا :
اجتماع الناس و قراءة ما تيسر من القرآن الكريم و رواية الأخبار الواردة في ولادة نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء و مدحهم بأفعالهم و أقوالهم .
فضل يوم المولد :
جاء في حاشية عبد الحميد الشرواني الشافعي : ( أفضل الأيام عندنا يوم عرفة ، ثم يوم الجمعة ، ثم يوم عيد الأضحى ، ثم يوم عيد الفطر ، وإن أفضل الليالي ليلة ، المولد الشريف ، ثم ليلة القدر ثم ليلة الجمعة، ثم ليلة الإسراء، هذا بالنسبة لنا ، وأما بالنسبة له صلى الله عليه وسلم فليلة الإسراء أفضل الليالي ؛ لأنه رأى فيها ربه بعيني رأسه على الصحيح ، والليل أفضل من النهار ) .
طهارة مولده وشرف نسبه صلى الله عليه وسلم :
و أما طهارة مولده وشرف نسبه صلى الله عليه وسلم فقد عدهما العلماء من شروط النبوة . وقد استخلص الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من أطيب المناكح ، و حماه من دنس الفواحش ، و نقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة ، و قد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تأويل قول الله تعالى " وتقلبك في الساجدين " أي : تقلبك من نبي إلى نبي ، حتى أُخرجت نبيا ، قال صلى الله عليه وسلم : " بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا ، حتى كُنت من القرن الذي كنت فيه " .
وقال : " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " ، وقال أبو طالب مادحا الرسول صلى الله عليه وسلم :
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخـرٍ فـعبـد مـنــاف سرُّهــا وصـميمهــا
فإذا حصلت أشراف عبد منافهـا ففي هـاشم أشرافــهتـا وقـديمـهــا
وإن فـخـرت يومـا فـإن مـحمــدا هو المصطفى من سرها وكريمها
وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مُشَفَّع " .
وقد كان نور النبوة في آبائه ظاهراً ، حكي أن كاهنة بمكة يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية ، قرأت الكتب فمر بها عبد المطلب و معه ابنه عبد الله يريد أن يزوجه آمنة بنت وهب، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله، فقالت : هل لك أن تغشاني و تأخذ مائة من الإبل ؟ فعصمه الله تعالى من إجابتها ، و قال لها :
أما الحرام فالممات دونه و الحـل لا حـل فاستبينـه
فكيف بالأمر الذي تبغينه
فلما تزوجت به آمنة و حملت منه رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال لها : هل لك فيما قلت ؟ فلم تر ذلك النور في وجهه ، فقالت له : قد كان ذلك مرة ، فاليوم لا ، ماذا صنعت ؟ فقال : زوجني أبي آمنة بنت وهب الزهرية ، فقالت : قد أخذت النور الذي كان في وجهك و أنشأت تقول :
إني رأيت مخيلة لمعـت فـتـلألأت بتحــنـائــم الــقــطـــر
فلمأتها نورا يضيئ لـه مـا حـولـه كـــإضـــاءة الــبــدر
فرجوتها فخرا أبوء به مـا كــل قـــادح زنــــده يُـــوري
لله مـا زُهـريَّـةٌ سلـبـت ثَوبَيْك مـا استلبت ومـا تــدري
وقالت أيضا :
و الآن قد ضيعت ما كان ظاهـراً عليك و فارقت الضياء المباركا
غـــدوت علـيَّ خاليـــاً فـبذلتـــــه لغيـري هنياً فالحَقَـنْ بنسـائكـــا
و لا تحسبن اليوم أمس و ليتني رزقت غلاماً منك في مثل حالكا
و داخلها الأسف على ما فاتها ، و الحسرة على ما تولى عنها ، فحسدت آمنة على ما صار لها .
و هذا من آيات الله تعالى في رسوله أن عصم أباه حين كان في ظهره أن يضعه من سفاح حتى وضعه من نكاح ، ثم زالت العصمة بعد وضعه حتى عرض بالطلب بعد أن كان مطلوبا ، و رغب فيه بعد أن كان مرغوباً ، ثم لم يشركه في ولادته من أبويه أخ و لا أخت لانتهاء صفوتهما إليه ، و قصور نسبهما عليه ، ليكون مختصاً بنسب جعله الله تعالى للنبوة غاية و لتفرده بها آية ، فيزول عنه أن يشارك فيه و يماثل به ، فلذلك مات أبواه عنه في صغره . فأما أبوه عبد الله فمات عنه بمكة وهو حمل ، و أما آمنة فماتت عنه بالمدينة و هو ابن ست سنين لأنها رحلت إليها لزيارة أخوالها من بني النجار . فماتت بها عندهم .
و إذا خبرت حال نسبه ، و عرفت طهارة مولده ، علمت أنه سلالة آباء كرام سادوا و رأسوا ، لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . ليس في آبائه خامل مسترذل ، و لا مغمور مستذل ، كلهم سادة قادة ، وهم أخص الناس بالمناكح الطاهرة حتى تحرجوا من نكاح المحارم ، و إن استباحه غيرهم من العرب .
قال الإمام الماوردي : فإن قيل : يشارك الأنبياء في شرف النسب و طهارة المولد غيرهم ، فلِمَ يستحق بهما النبوة ؟ قيل : هما من شروط النبوة ، و إن استحقت بغيرهما فلِمَ يمتنع أن يكون لهما في النبوة تأثير معتبر ، ووصف مختبر ؟ !
آيات صاحبة مولده صلى الله عليه وسلم :
روى أصحاب السير كثيرا من الآيات والعلامات التي صاحبت مولده صلى الله عليه وسلم ، وغالبها روايات ضعيفة أو واهية ، ومن ذلك :
خرور كثير من الأصنام ليلتئذٍ على وجوهها وسقوطها عن أماكنها ، وما رآه النجاشي ملك الحبشة ، وظهور النور معه حتى أضاءت له قصور الشام حين وُلد صلى الله عليه وسلم ، وما كان من سقوطه جاثيا رافعا رأسه إلى السماء ، وما شوهد من النور في المنزل الذي ولد فيه ، ودنو النجوم من الناس .
كما روي أن إبليس رنَّ – صوَّت – أربع رنات : حين لُعن ، وحين أهبط إلى الدنيا ، وحين وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحين أُنزلت الفاتحة .
وما رواه الخرائطي في كتاب هواتف الجان من ارتجاس إيوان كسرى ، وسقوط أربع عشرة شرفة منه ، وخمود نار فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، كما غاضت بحيرة ساوة . هذا والله تعالى أعلى وأعلم .
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ، قالت آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد عَلِقتُ به - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فما وجدت له مشقة حتى وضعته ، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب ، ثم وقع على الأرض معتمدا على يديه ، ثم أخذ قبضة من تراب فقبضها ، ورفع رأسه إلى السماء . وقال بعضهم : وقع جاثيا على ركبتيه رافعا رأسه إلى السماء ، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها ، حتى رأت أعناق الإبل ببُصرى" .
وفي رواية إسحاق بن عبد الله أنها قالت : " لما ولدته خرج مني نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفا، ولدته كما يولد السخل – يعني : ولد الضأن أو المعز حين يولد ، للدلالة على سهولة مولده ونظافته- ما به قذر ، ووقع إلى الأرض وهو جالس على الأرض بيده.…" .
ويقول الإمام الطبري : " اعلم أن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحدث أنها لما حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض فقولي : أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمدا ، ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور بُصْرى من أرض الشام ، فلما وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب ، أنه قد ولد لك غلام ، فأته فانظر إليه ، فأتاه فنظر إليه ، وحدثته بما رأت حين حملت به ، وما قيل فيه ، وما أمرت أن تسميه … وعن عثمان بن أبي العاص قال حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك ليل ولدته – قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور ، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي !" .
أسماؤه صلى الله عليه وسلم :
للنبي صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن لي أسماء ؛ فأنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب " . وعن أبي موسى الأشعري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء ، فقال :
" أنا محمد ، وأحمد ، والمقفِّي – يعني : آخر الأنبياء – والحاشر ، ونبي التوبة ، ونبي الرحمة " .
وفي رواية حسنة لأحمد والبزار : " ونبي الملاحم " وفي رواية للطبراني : " والخاتم ".
تاريخ الاحتفال بالمولد :
والملك المعظم المجاهد مظفر الدين صاحب إربل أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن تبكتكين التركماني الأصل زوج أخت صلاح الدين - المولود سنة 549 هـ والمتوفى سنة 630هـ رحمه الله تعالى - هو من اشتهر بابتكار الاحتفال بالمولد النبوي ، وقد كان شهماً شجاعاً ، قال الحافظ الذهبي ( كان متواضعاً خيراً سنياً يحب الفقهاء و المحدثين ) . وقال عنه ابن كثير : ( أحد الأجواد ، والسادات الكبراء ، والملوك الأمجاد ، له آثار حسنة ..... وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ، ويحتقل به احتفالا هائلا ، وكان مع ذلك شهما ، شجاعا ، فاتكا ، بطلا ، عاقلا ، عالما ، عادلا رحمه الله تعالى وأكرم مثواه . .... وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية ..... وكان يفتك من الفرنج في كل سنة خلقا من الأسارى ، حتى قيل إن جملة من استفكه من أيديهم ستون ألف أسير ) .
و كان يحضر المولد الأكابر من العلماء و غيرهم . واحتفال الملك المعظم بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم مبسوط في وفيات الأعيان لابن خلكان ؛ حيث وصف احتفاله وسعة أعطياته ونفقاته ، وكان يحتفل بالمولد الشريف في الليلة الثامنة من شهر ربيع الأول في عام ، والليلة الثانية عشرة منه في عام ، عملا باختلاف الروايات في يوم مولده صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول .
لكن كتب التاريخ تذكر لنا أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف كان قبل ذلك بعقود أو قرون ، فقد ذكر الحافظ ابن كثير في أحداث سنة 566 هـ الشيخ الصالح العابد عمر الملا ، و قد كانت له زاوية ، يقصد فيها، و له في كل سنة دعوة في شهر المولد ، يحضر فيها عنده الملوك ، و الأمراء ، و العلماء ، و الوزراء ، و يحتفل بذلك ، و قد كان الملك نور الدين صاحبه ، و كان يستشيره في أموره ، و ممن يعتمده في مهماته ، و هو الذي أشار عليه ، في مدة مقامه في الموصل ، بجميع ما فعله من الخيرات ، فلهذا ، حصل بقدومه لأهل الموصل كل مسرة ، و اندفعت عنهم كل مضرة .
إلا أن الكثير من المؤرخين يرون أن الفاطميين أول من احتفلوا بذكرى المولد النبوي فكانوا يحتفلون بالذكرى في مصر احتفالا عظيما ويكثرون من عمل الحلوى وتوزيعها كما قال القلقشندى في كتابه "صبح الأعشى" ولعل هذا هو الأصح ؛ فقد كان الفاطميون يحتفلون بعدة موالد لآل البيت ، كما احتفلوا بعيد الميلاد المسيحي كما قال المقريزي .
ثم توقف الاحتفال بالمولد النبوي سنة 488 هـ وكذلك الموالد كلها ، لأن الخليفة المستعلي بالله استوزر الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي ، وكان رجلا قويا لا يعارض أهل السنة كما قال ابن الأثير في كتابه " الكامل " واستمر الأمر كذلك حتى ولى الوزارة المأمون البطائحي ، فأصدر مرسوما بإطلاق الصدقات في 13 من ربيع الأول سنة 517 هـ وتولى توزيعها سناء الملك .
ولما جاءت الدولة الأيوبية أبطلت كل ما كان من آثار الفاطميين ، ولكن الأسر كانت تقيم حفلات خاصة بمناسبة المولد النبوي، ثم صارت ، رسمية في مفتتح القرن السابع في مدينة " إربل " على يد أميرها مظفر الدين أبى سعيد كوكبري بن زين الدين على بن تبكتكين ، وهو سُنِّي اهتم بالمولد فعمل قبابا من أول شهر صفر، وزينها أجمل زينة ، في كل منها الأغاني والقرقوز والملاهي ، ويعطى الناس إجازة للتفرج على هذه المظاهر . وكانت القباب الخشبية منصوبة من باب القلعة إلي باب الخانقاه ، وكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر، ويقف على كل قبة ويسمع الغناء ويرى ما فيها، وكان يعمل المولد سنة في ثامن الشهر، وسنة في ثاني عشرة ، وقبل المولد بيومين يخرج الإِبل والبقر والغنم ، ويزفها بالطبول لتنحر في الميدان وتطبخ للناس . ويقول ابن الحاج أبو عبد الله العبدري : إن الاحتفال كان منتشرا بمصر في عهده ، ويعيب ما فيه من البدع .
وكان إظهارالاحتفال بالمولد في الدولة السنية مشهورا قبل مظفر الدين كوكبري، فقد ذكر ابن جبير المتوفى في سنة 614 هـ في رحلته إلى مكة : أنه كان يُفتح منزل النبي صلى الله عليه وسلم ويدخله جميع الرجال للتبرّك به في كل يوم اثنين من شهر ربيع الأول،ففي هذا اليوم وذاك الشهر ولد النبي صلى الله عليه وسلم .
واستمر هذا الاحتفال بهذا الشكل مدة من الزمن ؛ حيث يروي ابن بطوطة المؤرخ الشهير من رجال القرن الثامن الهجري في رحلته ، أنه بعد كل صلاة جمعة ، وفي يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يُفتح باب الكعبة بواسطة كبير بني شيبة ، وهم حجّاب الكعبة ، وأنه في يوم المولد يوزع القاضي الشافعي - وهو قاضي مكة الأكبر نجم الدين محمد بن الإمام محب الدين الطبري - الطعام على الأشراف وسائر الناس في مكة . وقال عنه : وهو فاضل كثير الصدقات والمشاهدة للكعبة الشريفة ، يطعم الطعام الكثير في المواسم المعظمة ، وخصوصا في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما ؛ فإنه يطعم فيه شرفاء مكة وكبراءها وفقراءها وخدام الحرم الشريف وجميع المجاورين .
وفي القرن العاشر الهجري ، في اليوم الثاني عشر لربيع الأول من كل عام ، وبعد صلاة المغرب يخرج قضاة المذاهب الأربعة ، في مكة مع أعداد غفيرة من الناس بما فيهم الفقهاء والفضلاء والشيوخ ومدرسي الزوايا وتلاميذهم ، وكذلك الرؤساء والمتعممين من المسجد ، ويقومون جميعاً بزيارة لموضع ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم يذكرون ويهللون . أما البيوت التي تقع في طريقهم ؛ فتضاء جميعها بالمشاعل والشموع الكبيرة ، وتتواجد خارجها وحولها جموع غفيرة من الناس حيث يلبس الجميع ثياباً خاصة ويأخذون أولادهم معهم . وعندما يصلون إلى موضع الولادة تلقى خطبة خاصة لذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يتم الدعاء للسلطان ، ولأمير مكة ، وللقاضي الشافعي ، ثم يصلي الجميع بخشوع . ثم قبيل صلاة العشاء يعود الجميع إلى المسجد الكبير وهو يعج ، بالناس فيجلسون في صفوف متراصة عند أعتاب مقام إبراهيم . وفي المسجد يبدأ الخطيب بالحمد والتهليل ثم الدعاء مرة أخرى للسلطان وللأمير وللقاضي الشافعي . بعد ذلك يؤذن لصلاة العشاء ويتفرق الجمع بعد الصلاة .
وفي مصر كان من عادة العلماء و القراء والأعلام أن يحضروا المولد ، كما وصفهم ابن حجر في أحداث سنة ثمانمائة : ( وفي يوم الخميس – أول من شهر ربيع الأول – عُمل المولد السلطاني وحضر المشايخ ، والقضاة على العادة ، وجلس شيحنا البلقيني رأس الميمنة ، وإلى جانبه الشيخ برهان الدين ابن زُقَّاعة ، وإلى جنبه القاضي جلال الدين شيخنا ، وجلس رأس الميسرة أبو عبد الله الكركي، ودونه القاضي الشافعي، وبقية القضاة ) .
وكذلك قاضي القضاة كان يشارك بصفة أساسية في الاحتفال بالمولد الشريف ؛ فإذا صلّى الخليفة الظهر ركب قاضي القضاة والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر .
وكان عدد القراء في المولد ثلاثين قارئا في الغالب ، وأحيانا لا يتجاوز العشرة ، لأسباب سياسية .
وفي أحداث سنة ثلاث عشرة وثمانمائة خرج السلطان في رابع ربيع الأول بالعساكر ، بعد أن عمل المولد النبوي في أول ليلة من ربيع الأول ، وجلس عن يمينه ابن زُقَّاعة ، ودونه الشيخ نصر الله ، ودونه بقية المشايخ ، وعن يساره القضاة .
أشهر الكتب المؤلفة في المولد النبوي الشريف :
وقد ألف أهل العلم مؤلفات كثيرة في الآثار الواردة في مولده صلى الله عليه وسلم ، ومن أجمع الكتب المؤلفة في ذلك : كتاب التنوير في مولد البشير النذير لابن دحية المتوفى بمصر سنة 633 هـ ، وكذلك محيى الدين بن العربى المالكي المتوفى بدمشق سنة 638 هـ ، ولشمس الدين محمد الجزري المتوفى بعد سنة 660 هـ رسالة بعنوان " عَرْف التعريف في المولد الشريف " وله " المختصر في الرد على أهل البدع " ، وكذلك ابن طغربك المتوفى بمصر سنة 670 هـ ، وأحمد العزلي مع ابنه محمد المتوفى بسبته سنة 677 هـ ، وقد صنف الإمام ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ مولداً نبوياً طبع بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد ، و "جامع الآثار في مولد النبي المختار" في ثلاثة مجلدات للحافظ شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن ناصر الدين الدمشقي المتوفى سنة 842 هـ رحمه الله تعالى ، ولأبي القاسم السبتي كتاب " الدر المُنَظَّم في المولد المعظم " ورسالة السيوطي المتوفى بمصر سنة 911 هـ "حسن المقصد في عمل المولد" مطبوعة ضمن الحاوي في الفتاوي ، ولبرهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الشافعي الدمشقي كتاب " كنز الراغبين المفاة في الرمز إلى المولد المحمدي والوفاة " ولجعفر بن حسن البرزنجي مفتي الشافعية بالمدينة المنورة المتوفى سنة 1177 هـ كتاب بعنوان " قصة المولد النبوي " والمحدث الحافظ محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني الحسني الفاسي صاحب نظم المتناثر في الحديث المتواتر المتوفى سنة 1345 هـ له كتاب بعنوان " المولد النبوي ، وفي العصر الحديث هناك العديد من المؤلفات والفتاوى التي تناولت الموضوع من جهتيه المنع أو الجواز ، كما قد قام الدكتور حسين أحمد علي الدراويش ، المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين ـ جامعة القدس ، في القدس الشريف ، بوضع فهرسة لمخطوطات المولد النبوي الشريف مع عزوها إلى أماكن حفظها ووجودها ، والإشارة إلى المطبوع منها والمفقود ، فذكر في فهرسته مائتين واثنين وسبعين عنوانَ كتابٍ ، جلّها مؤلفات لأئمة أعلام .
وقبل ذلك كله فقد أورد الحاكم في الإكليل ، وأبو سعيد النيسابوري ، وأبو نعيم ، والبيهقي في دلائل النبوة أخبارا عما كان قبل المولد النبوي الشريف .
ولانتشار البدع فى الموالد أنكرها العلماء ، حتى أنكروا أصل إقامة المولد ، ومنهم الفقيه المالكي تاج الدين عمر بن على اللخمى الإِسكندرى المعروف بالفاكهانى،المتوفى سنة 731 هـ،فكتب فى ذلك رسالته " المورد فى الكلام على المولد" أوردها السيوطي بنصها فى كتابه " حسن المقصد" .
الفصل الثاني
الأدلة على جواز الاحتفاء بميلاد الأنبياء والصالحين :
لقد حفل القرآن الكريم والسنة المطهرة بكثير من الأدلة المصرحة أو المشيرة إلى تعظيم أيام ميلاد الأنبياء والأولياء من عباد الله الصالحين ، بالإضافة إلى أقوال العلماء المعتبرين ، ومشاركتهم في ذلك ومن ذلك :
أولا : من القرآن الكريم :
1- في قوله تعالى في شأن يحيى عليه السلام : " يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى .... " إلى أن قال تعالى : " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " .
2- وقوله تعالى في شأن عيسى ابن مريم عليه السلام : " قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا .... " وقوله تعالى : " إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ..." وقوله تعالى : "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " .
3- ميلاد السيدة مريم ، وهي من الصالحات ، وليست من الأنبياء على الصحيح ، وذلك في سورة آل عمران في قوله تعالى " إذ قالت امرأة عمران رب إني نظرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا ......... " .
بل أمر الله نبيه عيسى عليه السلام أن يذكر نعمته عليه ، ومن ذلك نعمته على والدته ، قال تعالى : " إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ..... " ولا شك أن من نعم الله على مريم ولادتها ، فذلك داخل في أمر الله لعيسى عليه السلام في ذكر نعمة الله عليه وعلى والدته ، بل من أعظم نعم الله على الناس أن يولدوا مسلمين موحدين له .
وقوله تعالى في شأن مريم:"وماكنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وماكنت لديهم إذ يختصمون" وفي هذا الاختصام والاقتراع بالأقلام على كفالة مريم تنويه بعيدُ الخطرِ عظيم الأثر بميلاد مريم ، وآيات سورة آل عمران آيات محكمات طافحة بالإشادة الحافلة بميلاد المسيح وأمه ويحيى بن زكريا صلوات الله وسلامه عليهم ، وهي بعد جامعة لكثير من مزايا المسيح التي منَّ الله بها عليه ساعة الميلاد ، وهي في مجموعها شاهدة بل داعية إلى الاحتفال بهذا الحدث العظيم الكريم الذي يحتفل به القرآن على ذلك النحو من القصص الرائع الآخذ بمجامع القلوب،وهي بأسلوبها المثير ومحتواها القيم الداعي إلى الاهتمام بما اشتملت عليه من معجزات باهرة تستهوي النظار وتقتضيهم الإجلال والإكبار ، وإن كل هذه الآيات وما ينحو نحوها تنويه بالميلاد واحتفاء بيمنه وبركاته ودعوة صريحة فصيحة قوية إلى حد الإغراء بالاعتناء بالنظر في أمره وتعميم نشره ؛ حيث يحسن التنويه به في كل ملأ ، جدير بأن يتجاوب مع هذه الدعوة المعربة عن الثناء البليغ على صاحب الميلاد ، وهي إيذان من الله بإسباغ نعمته عليه وبه على خلقه ، وهو ما تشير إليه آية " يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " .
فهذا شأن الاحتفاء بميلاد عيسى ويحيى ومريم عليهم السلام في القرآن الكريم ، وما كان ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقه من الإرهاصات ، مما قارنه وترتب عليه من البركات ، وما صحبه من المعجزات ما كان بأقل شأنا من ميلاد عيسى وأمه ويحيى بن زكريا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
4- وفي قوله تعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليهما السلام"ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خيرالرازقين" .قال الشيخ إسماعيل حقي في روح البيان عند تفسير هذه الآية : ( أي : يكون يوم نزولها عيداً نعظمه،وإنما أسند ذلك إلى المائدة لأن شرف اليوم مستفاد من شرفها ) .
فهذا عيسى ابن مريم يعظم يوما لشرف المائدة التي نزلت عليهم فيه ، أفلا يستحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستفيد يوم ميلاده شيئا من شرفه ومقداره ورحمته ، فيكون تعظيم يوم ميلاده ليس لذاته وإنما لشرف المولود فيه صلى الله عليه وسلم ، وأين المائدة من مكانة محمد صلى الله عليه وسلم .
ويقاس عليه الاحتفال بميلاد الصالحين كالصحابة والتابعين من السلف الصالح ومن سار على نهجهم ودربهم من الأئمة والدعاة والعلماء الصالحين الذين كان لهم أثر في نهضة الأمة وعودتها إلى شريعتها الغراء ؛ كالأئمة الأربعة ، ومن بعدهم مثل الإمام أبي الحسن الأشعري الذي قطع الله على يديه فتنة الضلال في الاعتقاد ، وكالإمام أبي حامد الغزالي ، والإمام فخر الدين الرازي ، والإمام النووي ، والإمام ابن تيمية ، والإمام السبكي ، والإمام ابن حجر ، والإمام السيوطي ، والإمام اللكنوي ، والإمام الكوثري ، والإمام القرضاوي ، رضي الله عنهم وغيرهم ممن لهم كبير الأثر في تبيين حقيقة الدين، ورد تدليس الغاوين ، وإقامة الحجة على المعاندين، والحفاظ على أصول هذا الدين ، دون إفراط أو تفريط ، وكذلك صلاح الدين الأيوبي ، والمظفر قطز ، والظاهر بيبرس ، وأمثالهم ممن حمى بيضة الدين ، وحرر بلاد المسلمين .
ومن هؤلاء الصالحين الإمام الشهيد حسن البنا رضي الله عنه وأرضاه ، الذي كان إماما في العلم والعبادة والدعوة والجهاد والعمل ؛ فردَّ أمة الإسلام إلى صوابها بعدما ضل الكثير من أبنائها ، وتهافتت عليها قوى الأعداء من الغرب والشرق ، حتى مات شهيدا في سبيل الله تعالى وقد أقام جماعة من المجاهدين العاملين الذين تحملوا البلاء في سبيل الله ، ساعين إلى إقامة دولة الإسلام ، والتمكين لشريعة الإسلام ؛ فاستحق بذلك أن يكون مجدد القرن الذي جدد للأمة أمر دينها ، كما جاء في الحديث الشريف .
5- قوله تعالى : " وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" .
أخرج النسائى ، وعبد الله بن أحمد فى زوائد المسند ، والبيهقى فى شعب الإِيمان عن أبى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الأيام بنعم الله وآلائه ، وولادة النبي نعمة كبرى .
قال ابن الجوزي في زاد المسير : في قوله " وذكرهم بأيام الله " ثلاثة أقوال :
أحدها:أنها نعم الله،رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال مجاهد وقتادة وابن قتيبة.
والثاني : أنها وقائع الله في الأمم قبلهم ، قاله ابن زيد وابن السائب ومقاتل .
والثالث : أنها أيام نعم الله عليهم ، وأيام نقمه ممن كفر من قوم نوح وعاد وثمود ، قاله الزجاج
وقال ابن جرير الطبري في تفسيره : قوله " وذكرهم بأيام الله " يقول عز وجل وعظهم بما سلف من نعمي عليهم في الأيام التي خلت ، وروى عن ابن عيينة : أيادي الله عندكم وأيامه .
وقال ابن كثير : " وذكرهم بأيام الله " : أي بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه البحر ، وتظليله إياهم الغمام ، وانزاله عليهم المن والسلوى وغير ذلك من النعم ، قال ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد ، وقد ورد فيه الحديث المرفوع الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه حيث قال حدثني يحيى بن عبد الله مولى بني هاشم حدثنا محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " وذكرهم بأيام الله " قال : بنعم الله ، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث محمد بن أبان به ، ورواه عبد الله ابنه أيضا موقوفا وهو أشبه .
وقال القرطبي : ( قوله تعالى " وذكرهم بأيام الله " أي قل لهم قولا يتذكرون به أيام الله تعالى قال ابن عباس ومجاهد وقتادة بنعم الله عليهم وقاله أبي بن كعب ورواه مرفوعا ، أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ، ومن التيه ، إلى سائر النعم .
وقد تُسمى النعمُ الأيامَ ومنه قول عمرو بن كلثوم - وأيام لنا غر طوال - وعن ابن عباس أيضا ومقاتل : بوقائع الله في الأمم السالفة ، يقال : فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعها ، قال ابن زيد : يعني الأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية ، وكذلك روى ابن وهب عن مالك قال : بلاؤه ، وقال الطبري : وعظهم بما سلف في الأيام الماضية لهم ؛ أي بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة ، وقد كانوا عبيدا مستذلين واكتفى بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بينا موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله وأيام الله بلاؤه ونعماؤه " وذكر حديث الخضر ودل هذا على جواز الوعظ المرقق للقلوب ، المقوي لليقين ، الخالي من كل بدعة ، والمنزه عن كل ضلالة وشبهة ، " إن في ذلك " أي في التذكير بأيام الله"لآيات"أي دلالات"لكل صبار"أي كثير الصبر على طاعة الله وعن معاصيه "شكور" لنعم الله.
ولا شك أن ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعظم النعم علينا ، فقد كان ميلاده سببا وتمهيدا لبعثته وتبليغ رسالته ، فكان أن هدانا الله إلى صراطه المستقيم . وفي الآية أمر من الله تعالى بأن نذكر الناس بنعمه وآلائه ، فمن احتفل بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم مذكرا الناس بسيرة وشمائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد امتثل الأمر في الآية ، ولا يبعد أن يكون الأمر في الآية للوجوب .
واستحسان عمل المولد عند السيوطي، وابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي، مستمد من آية "وذكِّرهم بأيام الله" مع إنكارهم لما لصق به من البدع .
6- قوله تعالى : " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " ، فالله عز وجل قد أقسم بحياة محمد صلى الله عليه وسلم مما يدل على تعظيم الله لها، كما أن الحياة تبدأ بيوم الميلاد ، فتعظيم يوم الميلاد وحياة خير الأنام، هو تعظيم لما عظمه الله تعالى، وتكريم لما كرمه، فيكون فعل الصالحات فيه من باب العمل بآيات الله المحكمات، وتعظيم شعائر الإسلام .
7- قوله تعالى : " وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك " .
والمولد فيه تثبيت للقلوب على الإيمان ؛ لما يُقص فيه من سير الأنبياء والصالحين .
8- قال تعالى : " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون " .
يقول ابن كثير في تفسير الآية : لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم ، وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين عبرة لأولي الألباب . ويقول القرطبي : لقد كان في قصصهم أي في قصة يوسف وأبيه وإخوته ، أو في قصص الأمم عبرة أي : فكرة وتذكرة وعظة لأولي الألباب أي أصحاب العقول .
وما الاحتفال بميلاد الأنبياء والصالحين إلا تذكرة وموعظة واعتبار بقصصهم ليسلك المسلم مسلكهم في الطاعات والدعوة إلى الله تعالى .
9- قوله تعالى : " الحج أشهر معلومات " ، وقوله تعالى : " واذكروا الله في أيام معدودات " ، وقوله تعالى : " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " .
يقول الشيخ جاد الحق علي جاد الحق مفتي مصر ، وشيخ الأزهر السابق رحمه الله تعالى : ( إن مشاعر الحج وتوقيته بأشهر معلومات ، وتحديد يوم الاجتماع الأكبر ، ورجم الشيطان ، وذكر الله في أيام معلومات معدودات ، كل ذلك يدل على اهتمام التشريع بتخليد الذكريات . ومن أجل هذا كان عيد الفطر المبارك بعد شهر القرآن وعيد الأضحى بعد الحج ، وهما يتجددان في كل عام ) . فمن خلد الذكريات الشريفة فقد أصاب التشريع الإسلامي ولم يحد عنه ، بخاصة إذا كانت الذكرى يستفاد منها مزيد إيمان وهداية وعمل للإسلام كذكرى ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإحياء ذكرى الصالحين ومدارسة سيرهم وأعمالهم للانتفاع بها والسير على خطاهم .
ثانيا : من السنة المطهرة :
1- حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا نفحات الله عز وجل ؛ فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ، واسألوا الله أن يستر عوراتكم ، وأن يؤمن روعاتكم " .
وهل هناك أعظم من نفحة ميلاده صلى الله عليه وسلم ، وقد أمرنا أن نتعرض لها ، ومطلق الأمر عند البعض يفيد الوجوب ، والتعرض للنفحات إنما يكون بالإكثار من عمل الطاعات ، رجاء مزيد الثواب من الله تعالى ، وهذا الدليل يصلح لتخصيص يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم لمزيد طاعات كالصيام ، والقيام والإنفاق ، والبر والصلة ، والذكر وقراءة القرآن ، وطلب العلم ونشره بين الناس . كما يكون في يوم عاشوراء ، والإثنين والخميس ، والعشر الأول من ذي الحجة ، وشهر شعبان وليلة الإسراء والمعراج ، والعيدين ، وأيام التشريق وليلة القدر ، والهجرة المباركة ، وغيرها من مواسم العمر .
2- صح أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون :
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسُئلوا عن ذلك ؛ فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى و بني إسرائيل على فرعون ، ونحن نصومه تعظيماً له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منكم) ثم أمر بصومه . و في هذا الحديث تأصيل لملاحظة الزمان و العناية به .
3- كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتفل بيوم مولده، ويوم نزول الوحي عليه بصيام يوم الإثنين،والخميس في إحدى الروايات فقد روى الإمام مسلم عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين ، فقال : " فيه ولدت ، وفيه أنزل علي " .
وهذا الحديث الصحيح نص واضح في مشروعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم .
والقول بتخصيصه بالصوم دون اليوم ، تخصيص بلا مُخَصِّص ، بل ظاهر الحديث دال أن العلة هي يوم الميلاد ، وإنما جاء الصوم تابعا له ، ومن أنكر ذلك فهو بمثابة من أخرج صدقة الفطر دون اعتبار بالتوسعة على الفقراء في يوم العيد .
4- وحديث مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ؛ فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أُخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة " .
وقال العلامة الشوكاني في فتح القدير : (أخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وأبن مردويه عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : " أتدري ما يوم الجمعة ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قالها ثلاث مرات ، ثم قال في الثالثة : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم ، أفلا أحدثكم عن يوم الجمعة ..... " الحديث .
وفي الباب أحاديث مصرحة بأنه خُلق فيه آدم ، وورد في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة ، وكذلك في فضل صلاة الجمعة ، وعظيم أجرها ، وفي الساعة التي فيها أنه يستجاب الدعاء فيها ) .
فهذا كله دال على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واحتفاء الأمة به كل أسبوع ومن أسباب ذلك أن الله خلق فيه آدم ، فهذا صريح من النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتفى بمولد آدم عليه السلام ، وجُعل يوم الجمعة لذلك وغيره من شعائر الإسلام .
فإذا كان كل هذا لأجل ميلاد آدم عليه السلام، فميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم أولى بالاحتفال والتقدير والتذكير بنعم الله علينا ، فيكون الاحتفال بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم من باب الاحتفال بميلاد آدم ، بيد أن الاحتفال بميلاد آدم عليه السلام يكون كل أسبوع ، أما الاحتفال بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فيكون في العام مرة واحدة ، مع التأكيد على خلوه من المنكرات ، وأن يظل الناس طوال العام يذكرون سيرته وشمائله ويقتدون به صلى الله عليه وسلم .
5- في حديث المرأة التي نذرت أن تضرب بالدف على رأس رسول الله صلى اله عليه وسلم إذا قدم سالما من الغزو، وقد أذن لها الرسول صلى الله عليه وسلم أن توفي بنذرها .
استشف منها العلماء جواز الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم،كالعارف أبي عبد الله محمد بن عباد المتوفى سنة730هـ كما في رسائله .
6- أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً ؟ فقال : أي آية ؟ قال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ) .
فقال عمر: إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه ، والمكان الذي نزلت فيه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بعرفة يوم الجمعة .
وأخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه وقال : فيه نزلت في يوم عيد من يوم جمعة ويوم عرفة ، وقال الترمذي: وهو صحيح .
(وفي هذا الأثر موافقة عمر بن الخطاب على اتخاذ اليوم الذي حدثت فيه نعمة عظيمة عيداً لأنّ الزمان ظرف للحدث العظيم، فعند عود اليوم الذي وقعت فيه الحادثة كان موسماً لشكر ت
قدم له فضيلة العلامة المحدث الفقيه الأصولي
عبد الخالق بن حسن الشريف الحسيني
( المقدمة موجودة بالطبعة الورقية )
تقديم
الحمد لله الذي مَنَّ علينا بخاتم الأنبياء والمرسلين ، والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ؛
فإن الاحتفال بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين من المؤمنين من الأمور التي شغلت الكثير من العلماء والمهتمين خلال القرون الثمانية الأخيرة ، واختلفت وجهاتهم ؛ ما بين مبيح بل مستحب ، وما بين محرم ذام ، وما بين مفصل بين احتفال تقام فيه أعمال الخير ، وآخر تشوبه المفاسد والمحرمات ، ونحسب أن الجميع كان مخلصا راجيا الحق والصواب ، ولكل أجر بإذن الله تعالى .
وإنما أردت في هذه الرسالة أن أجلي هذه المسألة وأظهر قيمتها العلمية ، وأنها من مسائل الخلاف الفرعي الذي ترجحت فيه آراء المثبتين للاحتفال بالمولد على المنكرين له ، وسقت فيها من الأدلة والبراهين ، وأقوال العلماء الأعلام ما يزيل أدنى شبهة بإذن الله تعالى كما رددت على بعض التساؤلات والشبهات التي قد يثيرها البعض دون إلمام بالأدلة ، أو معرفة بأدب الحوار والخلاف ، فيثير زوبعة على رأي راجح ، ويتشبث بالمرجوح ، وهذا حقه إن اقتنع به ، لكن أن يعادي ويخاصم ، ويشهر بالآخرين لأجل رأيه فهذا هو المذموم ، وقد أُثر عن الأئمة الأعلام قولهم : ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غير خطأ يحتمل الصواب ) .
هذا وقد أطلََّتْ علينا مئوية ميلاد الإمام الشهيد حسن البنا رضي الله عنه وأرضاه الذي ولد في ضحى يوم الأحد 25 من شعبان عام أربعة وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة المباركة الموافق الرابع عشر من أكتوبر عام ألف وتسعمائة وستة من الميلاد . ولا شك أن لهذا الإمام فضل ظاهر على أمة الإسلام ، أشاد به القريب والبعيد ، فقد عاش حياته عاملا عابدا مجاهدا ، وقضى نحبه في سبيل الله تعالى ، مما يجعل استدعاء سيرته ودراسة أحواله وجهاده ، والوقوف على آرائه وأفكاره ، أمرا واجبا لصلاح أمتنا بعدما ران عليها الفساد ، وتمكن منها الأعداء ، بخاصة أن الإمام البنا شهد له العلماء والدعاة والمفكرون في شتى بقاع العالم بأنه مجدد للأمة أمرَ دينها ، ولا زال منهجه في الدعوة والعمل والبناء واضح المسالك قريب التناول ، مناسبا لعصرنا ، من حيث الظروف التي تمر بها الأمة ، وحاجتها إلى أسلوبه وطريقته ومنهجه الذي أثبت كل يوم أنه المنهج الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث انتشرت دعوته وسارت فكرته في كل بقاع الأرض ، مبشرا بانتشار الإسلام ، وخضوع الناس لرب الأنام .
فكان لزاما أن تخرج رسالتنا هذه لتبين للناس جواز الاحتفال بميلاد الأنبياء والصالحين وأنه أمر مشروع لا غبار عليه ، ومن تذكر فيه سير الأنبياء والصالحين ، ناله الأجر والثواب من رب العالمين .
وجعلت الرسالة بعد المقدمة ، في تمهيد وأربعة فصول ، الفصل الأول عرفت فيه بالمولد ونبذة عن تاريخه ، وبعض من ألف فيه من العلماء ، وفي الفصل الثاني سردت الأدلة من الكتاب والسنة التي استنبط منها العلماء جواز الاحتفال بميلاد الأنبياء والصالحين ، ثم أوردت في الفصل الثالث أقوال العلماء الأعلام قديما وحديثا في حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، وفي الفصل الرابع رددت على كثير من الشبهات التي يثيرها البعض ويبدع ويضلل من خالفه واحتفل بميلاد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، ثم أنهيت الرسالة بخاتمة تلخص ما سبق فيها .
هذا واللهَ أسأل أن يرزقني الإخلاص ، وحسن القصد والسداد ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
السيد سليمان نور الله
شهر رمضان المعظم 1427 هـ
أكتوبر 2006م
تمهيد
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف عمل فيه إظهار الفرح و السرور و الحب لرسول الله صلى الله عليه و آله وصحبه و سلم قال تعالى " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " . وهل هناك رحمة من الله تعالى أعظم وأجل من ميلاد وبعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد وصفه الله بقوله " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " وبقوله : " بالمؤمنين رؤوف رحيم " .
لذلك أمرنا الله عز وجل أن نعظم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا " .
و ما كان كذلك فهو مما يندب إليه الشارع و يحبذه ، فهذا ليس بمنكر و لا باطل ، بل معروف من مقاصد الشريعة المحكمة ، بشرط خلوه من البدع المذمومة ؛ كالاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، والتمسح بالقبور والمقامات، وشرب المسكرات ، واللغط وما شابه ذلك مما فيه فساد ظاهر ومخالفة لشريعة الإسلام .
كما لا يصح منع الاحتفال باستعمال قاعدة سد الذرائع ، لأن قاعدة سد الذرائع يعمل بها إذا كانت لا تُغيّب أصلا أجمع عليه الناس ، و لا تفوت مصلحة ضرورية على المسلمين ، نظراٍ لإمكان منع المفاسد .
ومثال ذلك غرس العنب والتمر والحنطة التي يصنع منها الخمر، فهل نمنع غرسها نظرا لذلك ؟! هذا لا يقول به عاقل .
لذا لا يجوز منع مجلس يذكر فيه الله و رسوله ، وتدرس فيه سير الصالحين ممن كان لهم أثر بالغ في إحياء شريعة الإسلام في قلوب المسلمين ، وردهم إلى المنهج الإسلامي الصحيح ، بخاصة من أفنوا حياتهم في سبيل الله ، فنحسبهم عند الله من الشهداء ، وممن شهد لهم القاصي والداني من العلماء الأفذاذ والدعاة النجباء بالخير والصلاح ، وأنهم ممن جددوا للأمة أمر دينها مما يجعل الاحتفاء بهم وذكر مناقبهم سببا لترقيق القلوب وتعلقها بحبيبها وقائدها سيد الأنام محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور ، بخاصة لو كان الهدف من الاحتفال إفهام الناس أمر دينهم ، وإيقاظ الإيمان المخدر في قلوبهم ، فتنصلح بذلك عبادتهم ، بلا إفراط أو تفريط ، وتسلم عقيدتهم من الغلو والتحريف ، مما يدفعهم لأن يعملوا للإسلام ، ويتصدوا لأعدائه .
وإن كانت بعض الاحتفالات عند بعض الطوائف وفي بعض البلدان تتخللها بعض المخالفات الشرعية ، فليس ذلك داعيا لمنع الاحتفالات بما فيها من خير ومقاصد حسنة ؛ بل تمنع تلك المفاسد ، وينكر على فاعليها .
يقول الشيخ عطية صقر : ولانتشار البدع في الموالد أنكرها العلماء ، حتى أنكروا أصل إقامة المولد ، ومنهم الفقيه المالكي تاج الدين عمر بن على اللخمى الإِسكندرى المعروف بالفاكهانى، المتوفى سنة 731 هـ ، فكتب في ذلك رسالته " المورد في الكلام على المولد" أوردها السيوطي بنصها في كتابه " حسن المقصد" .
و قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: وقد أتى القرن التاسع والناس بين مجيز ومانع ، واستحسنه السيوطي وابن حجر العسقلاني ، وابن حجر الهيتمي ، مع إنكارهم لما لصق به من البدع ، ورأيهم مستمد من آية " وذكِّرهم بأيام الله "
يقول ابن تيمية : ( والضابط في هذا – والله أعلم – أن يُقال : إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة ؛ إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه ، فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين . فما رآه المسلمون مصلحة نُظر في السبب المحوِج إليه ، فإن كان السبب المحوج إليه أمرا حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه ، وكذلك إن كان المقتضى فعله قائما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارض قد زال بموته . وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه ، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد؛ فهنا لا يجوز الإحداث ، فكل أمر يكون المقتضى لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودا لو كان مصلحة ولم يفعل : يعلم أنه ليس بمصلحة ، وأما ما حدث المقتضى له بعد موته من غير معصية الخالق ؛ فقد يكون مصلحة .
ثم هنا للفقهاء طريقان :
أحدهما : أن ذلك يفعل ما لم ينه عنه ، وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة .
والثاني:أن ذلك لا يفعل ما لم يؤمر به، وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة. وهم ضربان: منهم : من لا يثبت الحكم إن لم يدخل تحت دليل من كلام الشارع أو فعله أو إقراره ، وهم نفاة القياس .
ومنهم : من يثبته بلفظ الشارع أو معناه ، وهم القياسيون) .
وابن تيمية أباح الاحتفال بالمولد النبوي وصرح أن من عمله بنية حسنة يكون له فيه أجر كما في اقتضاء الصراط المستقيم ما نصه :
( وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام ، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا ) .
وقال : ( فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم ، لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
الفصل الأول
التعريف بالمولد وتاريخه
معنى المولد لغة :
وقت الولادة أو مكانها.
وقد توافقت روايات أهل السير أن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين بلا خلاف ، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، وهو المشهور عند الجمهور ، وقيل في العاشر أو الثامن منه ، وبعض المحققين يجعله في التاسع منه . وكان ميلاده صلى الله عليه وسلم في عام الفيل بعد خمسين ليلة من حادث الفيل ، وقيل بعد أربعين ، وقيل بعد شهر منه .
وقد ولد صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة ، بدار أبيه عبد الله بزقاق كان يسمى بزقاق المدكل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ورث هذه الدار عن أبيه ، ولكنه فقدها فيما بعد ؛ و ذلك أن عقيل بن أبي طالب بعد الهجرة استولى على دار النبي صلى الله عليه و سلم و دور إخوته من الرجال و النساء مع ما ورثه من أبيه أبي طالب ، قال أبو رافع : قيل للنبي صلى الله عليه و سلم : ألا تنزل منزلك من الشعب ؟ قال : " فهل ترك لنا عقيل منزلاً ؟ " و كان عقيل قد باع منزل رسول الله صلى الله عليه و سلم و منزل إخوته من الرجال و النساء بمكة .
كما أخذ متعب بن أبي لهب داره التي ورثها صلى الله عليه وسلم من خديجة .
وجعلته الخيزران مسجدا يصلى فيه ، وقد صلى الإمام الحاكم النيسابوري بالدار التي ولد فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم .
يقول الإمام الآمدي : ( إن مكة مشتملة على أمور موجبة لفضلها ؛ كالبيت المحترم ، والمقام ، وزمزم ، والحجر المستلم ، والصفا والمروة ، ومواضع المناسك، وهي مولد النبي عليه السلام ومبعثه ، ومولد إسماعيل ، ومنزل إبراهيم " .
معنى المولد اصطلاحا :
اجتماع الناس و قراءة ما تيسر من القرآن الكريم و رواية الأخبار الواردة في ولادة نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء و مدحهم بأفعالهم و أقوالهم .
فضل يوم المولد :
جاء في حاشية عبد الحميد الشرواني الشافعي : ( أفضل الأيام عندنا يوم عرفة ، ثم يوم الجمعة ، ثم يوم عيد الأضحى ، ثم يوم عيد الفطر ، وإن أفضل الليالي ليلة ، المولد الشريف ، ثم ليلة القدر ثم ليلة الجمعة، ثم ليلة الإسراء، هذا بالنسبة لنا ، وأما بالنسبة له صلى الله عليه وسلم فليلة الإسراء أفضل الليالي ؛ لأنه رأى فيها ربه بعيني رأسه على الصحيح ، والليل أفضل من النهار ) .
طهارة مولده وشرف نسبه صلى الله عليه وسلم :
و أما طهارة مولده وشرف نسبه صلى الله عليه وسلم فقد عدهما العلماء من شروط النبوة . وقد استخلص الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من أطيب المناكح ، و حماه من دنس الفواحش ، و نقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة ، و قد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تأويل قول الله تعالى " وتقلبك في الساجدين " أي : تقلبك من نبي إلى نبي ، حتى أُخرجت نبيا ، قال صلى الله عليه وسلم : " بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا ، حتى كُنت من القرن الذي كنت فيه " .
وقال : " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " ، وقال أبو طالب مادحا الرسول صلى الله عليه وسلم :
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخـرٍ فـعبـد مـنــاف سرُّهــا وصـميمهــا
فإذا حصلت أشراف عبد منافهـا ففي هـاشم أشرافــهتـا وقـديمـهــا
وإن فـخـرت يومـا فـإن مـحمــدا هو المصطفى من سرها وكريمها
وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مُشَفَّع " .
وقد كان نور النبوة في آبائه ظاهراً ، حكي أن كاهنة بمكة يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية ، قرأت الكتب فمر بها عبد المطلب و معه ابنه عبد الله يريد أن يزوجه آمنة بنت وهب، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله، فقالت : هل لك أن تغشاني و تأخذ مائة من الإبل ؟ فعصمه الله تعالى من إجابتها ، و قال لها :
أما الحرام فالممات دونه و الحـل لا حـل فاستبينـه
فكيف بالأمر الذي تبغينه
فلما تزوجت به آمنة و حملت منه رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال لها : هل لك فيما قلت ؟ فلم تر ذلك النور في وجهه ، فقالت له : قد كان ذلك مرة ، فاليوم لا ، ماذا صنعت ؟ فقال : زوجني أبي آمنة بنت وهب الزهرية ، فقالت : قد أخذت النور الذي كان في وجهك و أنشأت تقول :
إني رأيت مخيلة لمعـت فـتـلألأت بتحــنـائــم الــقــطـــر
فلمأتها نورا يضيئ لـه مـا حـولـه كـــإضـــاءة الــبــدر
فرجوتها فخرا أبوء به مـا كــل قـــادح زنــــده يُـــوري
لله مـا زُهـريَّـةٌ سلـبـت ثَوبَيْك مـا استلبت ومـا تــدري
وقالت أيضا :
و الآن قد ضيعت ما كان ظاهـراً عليك و فارقت الضياء المباركا
غـــدوت علـيَّ خاليـــاً فـبذلتـــــه لغيـري هنياً فالحَقَـنْ بنسـائكـــا
و لا تحسبن اليوم أمس و ليتني رزقت غلاماً منك في مثل حالكا
و داخلها الأسف على ما فاتها ، و الحسرة على ما تولى عنها ، فحسدت آمنة على ما صار لها .
و هذا من آيات الله تعالى في رسوله أن عصم أباه حين كان في ظهره أن يضعه من سفاح حتى وضعه من نكاح ، ثم زالت العصمة بعد وضعه حتى عرض بالطلب بعد أن كان مطلوبا ، و رغب فيه بعد أن كان مرغوباً ، ثم لم يشركه في ولادته من أبويه أخ و لا أخت لانتهاء صفوتهما إليه ، و قصور نسبهما عليه ، ليكون مختصاً بنسب جعله الله تعالى للنبوة غاية و لتفرده بها آية ، فيزول عنه أن يشارك فيه و يماثل به ، فلذلك مات أبواه عنه في صغره . فأما أبوه عبد الله فمات عنه بمكة وهو حمل ، و أما آمنة فماتت عنه بالمدينة و هو ابن ست سنين لأنها رحلت إليها لزيارة أخوالها من بني النجار . فماتت بها عندهم .
و إذا خبرت حال نسبه ، و عرفت طهارة مولده ، علمت أنه سلالة آباء كرام سادوا و رأسوا ، لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . ليس في آبائه خامل مسترذل ، و لا مغمور مستذل ، كلهم سادة قادة ، وهم أخص الناس بالمناكح الطاهرة حتى تحرجوا من نكاح المحارم ، و إن استباحه غيرهم من العرب .
قال الإمام الماوردي : فإن قيل : يشارك الأنبياء في شرف النسب و طهارة المولد غيرهم ، فلِمَ يستحق بهما النبوة ؟ قيل : هما من شروط النبوة ، و إن استحقت بغيرهما فلِمَ يمتنع أن يكون لهما في النبوة تأثير معتبر ، ووصف مختبر ؟ !
آيات صاحبة مولده صلى الله عليه وسلم :
روى أصحاب السير كثيرا من الآيات والعلامات التي صاحبت مولده صلى الله عليه وسلم ، وغالبها روايات ضعيفة أو واهية ، ومن ذلك :
خرور كثير من الأصنام ليلتئذٍ على وجوهها وسقوطها عن أماكنها ، وما رآه النجاشي ملك الحبشة ، وظهور النور معه حتى أضاءت له قصور الشام حين وُلد صلى الله عليه وسلم ، وما كان من سقوطه جاثيا رافعا رأسه إلى السماء ، وما شوهد من النور في المنزل الذي ولد فيه ، ودنو النجوم من الناس .
كما روي أن إبليس رنَّ – صوَّت – أربع رنات : حين لُعن ، وحين أهبط إلى الدنيا ، وحين وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحين أُنزلت الفاتحة .
وما رواه الخرائطي في كتاب هواتف الجان من ارتجاس إيوان كسرى ، وسقوط أربع عشرة شرفة منه ، وخمود نار فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، كما غاضت بحيرة ساوة . هذا والله تعالى أعلى وأعلم .
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ، قالت آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد عَلِقتُ به - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فما وجدت له مشقة حتى وضعته ، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب ، ثم وقع على الأرض معتمدا على يديه ، ثم أخذ قبضة من تراب فقبضها ، ورفع رأسه إلى السماء . وقال بعضهم : وقع جاثيا على ركبتيه رافعا رأسه إلى السماء ، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها ، حتى رأت أعناق الإبل ببُصرى" .
وفي رواية إسحاق بن عبد الله أنها قالت : " لما ولدته خرج مني نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفا، ولدته كما يولد السخل – يعني : ولد الضأن أو المعز حين يولد ، للدلالة على سهولة مولده ونظافته- ما به قذر ، ووقع إلى الأرض وهو جالس على الأرض بيده.…" .
ويقول الإمام الطبري : " اعلم أن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحدث أنها لما حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض فقولي : أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمدا ، ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور بُصْرى من أرض الشام ، فلما وضعته أرسلت إلى جده عبد المطلب ، أنه قد ولد لك غلام ، فأته فانظر إليه ، فأتاه فنظر إليه ، وحدثته بما رأت حين حملت به ، وما قيل فيه ، وما أمرت أن تسميه … وعن عثمان بن أبي العاص قال حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك ليل ولدته – قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور ، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي !" .
أسماؤه صلى الله عليه وسلم :
للنبي صلى الله عليه وسلم أسماء كثيرة ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن لي أسماء ؛ فأنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب " . وعن أبي موسى الأشعري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء ، فقال :
" أنا محمد ، وأحمد ، والمقفِّي – يعني : آخر الأنبياء – والحاشر ، ونبي التوبة ، ونبي الرحمة " .
وفي رواية حسنة لأحمد والبزار : " ونبي الملاحم " وفي رواية للطبراني : " والخاتم ".
تاريخ الاحتفال بالمولد :
والملك المعظم المجاهد مظفر الدين صاحب إربل أبو سعيد كوكبري بن زين الدين علي بن تبكتكين التركماني الأصل زوج أخت صلاح الدين - المولود سنة 549 هـ والمتوفى سنة 630هـ رحمه الله تعالى - هو من اشتهر بابتكار الاحتفال بالمولد النبوي ، وقد كان شهماً شجاعاً ، قال الحافظ الذهبي ( كان متواضعاً خيراً سنياً يحب الفقهاء و المحدثين ) . وقال عنه ابن كثير : ( أحد الأجواد ، والسادات الكبراء ، والملوك الأمجاد ، له آثار حسنة ..... وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ، ويحتقل به احتفالا هائلا ، وكان مع ذلك شهما ، شجاعا ، فاتكا ، بطلا ، عاقلا ، عالما ، عادلا رحمه الله تعالى وأكرم مثواه . .... وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية ..... وكان يفتك من الفرنج في كل سنة خلقا من الأسارى ، حتى قيل إن جملة من استفكه من أيديهم ستون ألف أسير ) .
و كان يحضر المولد الأكابر من العلماء و غيرهم . واحتفال الملك المعظم بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم مبسوط في وفيات الأعيان لابن خلكان ؛ حيث وصف احتفاله وسعة أعطياته ونفقاته ، وكان يحتفل بالمولد الشريف في الليلة الثامنة من شهر ربيع الأول في عام ، والليلة الثانية عشرة منه في عام ، عملا باختلاف الروايات في يوم مولده صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول .
لكن كتب التاريخ تذكر لنا أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف كان قبل ذلك بعقود أو قرون ، فقد ذكر الحافظ ابن كثير في أحداث سنة 566 هـ الشيخ الصالح العابد عمر الملا ، و قد كانت له زاوية ، يقصد فيها، و له في كل سنة دعوة في شهر المولد ، يحضر فيها عنده الملوك ، و الأمراء ، و العلماء ، و الوزراء ، و يحتفل بذلك ، و قد كان الملك نور الدين صاحبه ، و كان يستشيره في أموره ، و ممن يعتمده في مهماته ، و هو الذي أشار عليه ، في مدة مقامه في الموصل ، بجميع ما فعله من الخيرات ، فلهذا ، حصل بقدومه لأهل الموصل كل مسرة ، و اندفعت عنهم كل مضرة .
إلا أن الكثير من المؤرخين يرون أن الفاطميين أول من احتفلوا بذكرى المولد النبوي فكانوا يحتفلون بالذكرى في مصر احتفالا عظيما ويكثرون من عمل الحلوى وتوزيعها كما قال القلقشندى في كتابه "صبح الأعشى" ولعل هذا هو الأصح ؛ فقد كان الفاطميون يحتفلون بعدة موالد لآل البيت ، كما احتفلوا بعيد الميلاد المسيحي كما قال المقريزي .
ثم توقف الاحتفال بالمولد النبوي سنة 488 هـ وكذلك الموالد كلها ، لأن الخليفة المستعلي بالله استوزر الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي ، وكان رجلا قويا لا يعارض أهل السنة كما قال ابن الأثير في كتابه " الكامل " واستمر الأمر كذلك حتى ولى الوزارة المأمون البطائحي ، فأصدر مرسوما بإطلاق الصدقات في 13 من ربيع الأول سنة 517 هـ وتولى توزيعها سناء الملك .
ولما جاءت الدولة الأيوبية أبطلت كل ما كان من آثار الفاطميين ، ولكن الأسر كانت تقيم حفلات خاصة بمناسبة المولد النبوي، ثم صارت ، رسمية في مفتتح القرن السابع في مدينة " إربل " على يد أميرها مظفر الدين أبى سعيد كوكبري بن زين الدين على بن تبكتكين ، وهو سُنِّي اهتم بالمولد فعمل قبابا من أول شهر صفر، وزينها أجمل زينة ، في كل منها الأغاني والقرقوز والملاهي ، ويعطى الناس إجازة للتفرج على هذه المظاهر . وكانت القباب الخشبية منصوبة من باب القلعة إلي باب الخانقاه ، وكان مظفر الدين ينزل كل يوم بعد صلاة العصر، ويقف على كل قبة ويسمع الغناء ويرى ما فيها، وكان يعمل المولد سنة في ثامن الشهر، وسنة في ثاني عشرة ، وقبل المولد بيومين يخرج الإِبل والبقر والغنم ، ويزفها بالطبول لتنحر في الميدان وتطبخ للناس . ويقول ابن الحاج أبو عبد الله العبدري : إن الاحتفال كان منتشرا بمصر في عهده ، ويعيب ما فيه من البدع .
وكان إظهارالاحتفال بالمولد في الدولة السنية مشهورا قبل مظفر الدين كوكبري، فقد ذكر ابن جبير المتوفى في سنة 614 هـ في رحلته إلى مكة : أنه كان يُفتح منزل النبي صلى الله عليه وسلم ويدخله جميع الرجال للتبرّك به في كل يوم اثنين من شهر ربيع الأول،ففي هذا اليوم وذاك الشهر ولد النبي صلى الله عليه وسلم .
واستمر هذا الاحتفال بهذا الشكل مدة من الزمن ؛ حيث يروي ابن بطوطة المؤرخ الشهير من رجال القرن الثامن الهجري في رحلته ، أنه بعد كل صلاة جمعة ، وفي يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يُفتح باب الكعبة بواسطة كبير بني شيبة ، وهم حجّاب الكعبة ، وأنه في يوم المولد يوزع القاضي الشافعي - وهو قاضي مكة الأكبر نجم الدين محمد بن الإمام محب الدين الطبري - الطعام على الأشراف وسائر الناس في مكة . وقال عنه : وهو فاضل كثير الصدقات والمشاهدة للكعبة الشريفة ، يطعم الطعام الكثير في المواسم المعظمة ، وخصوصا في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما ؛ فإنه يطعم فيه شرفاء مكة وكبراءها وفقراءها وخدام الحرم الشريف وجميع المجاورين .
وفي القرن العاشر الهجري ، في اليوم الثاني عشر لربيع الأول من كل عام ، وبعد صلاة المغرب يخرج قضاة المذاهب الأربعة ، في مكة مع أعداد غفيرة من الناس بما فيهم الفقهاء والفضلاء والشيوخ ومدرسي الزوايا وتلاميذهم ، وكذلك الرؤساء والمتعممين من المسجد ، ويقومون جميعاً بزيارة لموضع ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم يذكرون ويهللون . أما البيوت التي تقع في طريقهم ؛ فتضاء جميعها بالمشاعل والشموع الكبيرة ، وتتواجد خارجها وحولها جموع غفيرة من الناس حيث يلبس الجميع ثياباً خاصة ويأخذون أولادهم معهم . وعندما يصلون إلى موضع الولادة تلقى خطبة خاصة لذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يتم الدعاء للسلطان ، ولأمير مكة ، وللقاضي الشافعي ، ثم يصلي الجميع بخشوع . ثم قبيل صلاة العشاء يعود الجميع إلى المسجد الكبير وهو يعج ، بالناس فيجلسون في صفوف متراصة عند أعتاب مقام إبراهيم . وفي المسجد يبدأ الخطيب بالحمد والتهليل ثم الدعاء مرة أخرى للسلطان وللأمير وللقاضي الشافعي . بعد ذلك يؤذن لصلاة العشاء ويتفرق الجمع بعد الصلاة .
وفي مصر كان من عادة العلماء و القراء والأعلام أن يحضروا المولد ، كما وصفهم ابن حجر في أحداث سنة ثمانمائة : ( وفي يوم الخميس – أول من شهر ربيع الأول – عُمل المولد السلطاني وحضر المشايخ ، والقضاة على العادة ، وجلس شيحنا البلقيني رأس الميمنة ، وإلى جانبه الشيخ برهان الدين ابن زُقَّاعة ، وإلى جنبه القاضي جلال الدين شيخنا ، وجلس رأس الميسرة أبو عبد الله الكركي، ودونه القاضي الشافعي، وبقية القضاة ) .
وكذلك قاضي القضاة كان يشارك بصفة أساسية في الاحتفال بالمولد الشريف ؛ فإذا صلّى الخليفة الظهر ركب قاضي القضاة والشهود بأجمعهم إلى الجامع الأزهر .
وكان عدد القراء في المولد ثلاثين قارئا في الغالب ، وأحيانا لا يتجاوز العشرة ، لأسباب سياسية .
وفي أحداث سنة ثلاث عشرة وثمانمائة خرج السلطان في رابع ربيع الأول بالعساكر ، بعد أن عمل المولد النبوي في أول ليلة من ربيع الأول ، وجلس عن يمينه ابن زُقَّاعة ، ودونه الشيخ نصر الله ، ودونه بقية المشايخ ، وعن يساره القضاة .
أشهر الكتب المؤلفة في المولد النبوي الشريف :
وقد ألف أهل العلم مؤلفات كثيرة في الآثار الواردة في مولده صلى الله عليه وسلم ، ومن أجمع الكتب المؤلفة في ذلك : كتاب التنوير في مولد البشير النذير لابن دحية المتوفى بمصر سنة 633 هـ ، وكذلك محيى الدين بن العربى المالكي المتوفى بدمشق سنة 638 هـ ، ولشمس الدين محمد الجزري المتوفى بعد سنة 660 هـ رسالة بعنوان " عَرْف التعريف في المولد الشريف " وله " المختصر في الرد على أهل البدع " ، وكذلك ابن طغربك المتوفى بمصر سنة 670 هـ ، وأحمد العزلي مع ابنه محمد المتوفى بسبته سنة 677 هـ ، وقد صنف الإمام ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ مولداً نبوياً طبع بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد ، و "جامع الآثار في مولد النبي المختار" في ثلاثة مجلدات للحافظ شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن ناصر الدين الدمشقي المتوفى سنة 842 هـ رحمه الله تعالى ، ولأبي القاسم السبتي كتاب " الدر المُنَظَّم في المولد المعظم " ورسالة السيوطي المتوفى بمصر سنة 911 هـ "حسن المقصد في عمل المولد" مطبوعة ضمن الحاوي في الفتاوي ، ولبرهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الشافعي الدمشقي كتاب " كنز الراغبين المفاة في الرمز إلى المولد المحمدي والوفاة " ولجعفر بن حسن البرزنجي مفتي الشافعية بالمدينة المنورة المتوفى سنة 1177 هـ كتاب بعنوان " قصة المولد النبوي " والمحدث الحافظ محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني الحسني الفاسي صاحب نظم المتناثر في الحديث المتواتر المتوفى سنة 1345 هـ له كتاب بعنوان " المولد النبوي ، وفي العصر الحديث هناك العديد من المؤلفات والفتاوى التي تناولت الموضوع من جهتيه المنع أو الجواز ، كما قد قام الدكتور حسين أحمد علي الدراويش ، المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين ـ جامعة القدس ، في القدس الشريف ، بوضع فهرسة لمخطوطات المولد النبوي الشريف مع عزوها إلى أماكن حفظها ووجودها ، والإشارة إلى المطبوع منها والمفقود ، فذكر في فهرسته مائتين واثنين وسبعين عنوانَ كتابٍ ، جلّها مؤلفات لأئمة أعلام .
وقبل ذلك كله فقد أورد الحاكم في الإكليل ، وأبو سعيد النيسابوري ، وأبو نعيم ، والبيهقي في دلائل النبوة أخبارا عما كان قبل المولد النبوي الشريف .
ولانتشار البدع فى الموالد أنكرها العلماء ، حتى أنكروا أصل إقامة المولد ، ومنهم الفقيه المالكي تاج الدين عمر بن على اللخمى الإِسكندرى المعروف بالفاكهانى،المتوفى سنة 731 هـ،فكتب فى ذلك رسالته " المورد فى الكلام على المولد" أوردها السيوطي بنصها فى كتابه " حسن المقصد" .
الفصل الثاني
الأدلة على جواز الاحتفاء بميلاد الأنبياء والصالحين :
لقد حفل القرآن الكريم والسنة المطهرة بكثير من الأدلة المصرحة أو المشيرة إلى تعظيم أيام ميلاد الأنبياء والأولياء من عباد الله الصالحين ، بالإضافة إلى أقوال العلماء المعتبرين ، ومشاركتهم في ذلك ومن ذلك :
أولا : من القرآن الكريم :
1- في قوله تعالى في شأن يحيى عليه السلام : " يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى .... " إلى أن قال تعالى : " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " .
2- وقوله تعالى في شأن عيسى ابن مريم عليه السلام : " قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا .... " وقوله تعالى : " إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ..." وقوله تعالى : "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " .
3- ميلاد السيدة مريم ، وهي من الصالحات ، وليست من الأنبياء على الصحيح ، وذلك في سورة آل عمران في قوله تعالى " إذ قالت امرأة عمران رب إني نظرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا ......... " .
بل أمر الله نبيه عيسى عليه السلام أن يذكر نعمته عليه ، ومن ذلك نعمته على والدته ، قال تعالى : " إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ..... " ولا شك أن من نعم الله على مريم ولادتها ، فذلك داخل في أمر الله لعيسى عليه السلام في ذكر نعمة الله عليه وعلى والدته ، بل من أعظم نعم الله على الناس أن يولدوا مسلمين موحدين له .
وقوله تعالى في شأن مريم:"وماكنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وماكنت لديهم إذ يختصمون" وفي هذا الاختصام والاقتراع بالأقلام على كفالة مريم تنويه بعيدُ الخطرِ عظيم الأثر بميلاد مريم ، وآيات سورة آل عمران آيات محكمات طافحة بالإشادة الحافلة بميلاد المسيح وأمه ويحيى بن زكريا صلوات الله وسلامه عليهم ، وهي بعد جامعة لكثير من مزايا المسيح التي منَّ الله بها عليه ساعة الميلاد ، وهي في مجموعها شاهدة بل داعية إلى الاحتفال بهذا الحدث العظيم الكريم الذي يحتفل به القرآن على ذلك النحو من القصص الرائع الآخذ بمجامع القلوب،وهي بأسلوبها المثير ومحتواها القيم الداعي إلى الاهتمام بما اشتملت عليه من معجزات باهرة تستهوي النظار وتقتضيهم الإجلال والإكبار ، وإن كل هذه الآيات وما ينحو نحوها تنويه بالميلاد واحتفاء بيمنه وبركاته ودعوة صريحة فصيحة قوية إلى حد الإغراء بالاعتناء بالنظر في أمره وتعميم نشره ؛ حيث يحسن التنويه به في كل ملأ ، جدير بأن يتجاوب مع هذه الدعوة المعربة عن الثناء البليغ على صاحب الميلاد ، وهي إيذان من الله بإسباغ نعمته عليه وبه على خلقه ، وهو ما تشير إليه آية " يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " .
فهذا شأن الاحتفاء بميلاد عيسى ويحيى ومريم عليهم السلام في القرآن الكريم ، وما كان ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقه من الإرهاصات ، مما قارنه وترتب عليه من البركات ، وما صحبه من المعجزات ما كان بأقل شأنا من ميلاد عيسى وأمه ويحيى بن زكريا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
4- وفي قوله تعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليهما السلام"ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خيرالرازقين" .قال الشيخ إسماعيل حقي في روح البيان عند تفسير هذه الآية : ( أي : يكون يوم نزولها عيداً نعظمه،وإنما أسند ذلك إلى المائدة لأن شرف اليوم مستفاد من شرفها ) .
فهذا عيسى ابن مريم يعظم يوما لشرف المائدة التي نزلت عليهم فيه ، أفلا يستحق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستفيد يوم ميلاده شيئا من شرفه ومقداره ورحمته ، فيكون تعظيم يوم ميلاده ليس لذاته وإنما لشرف المولود فيه صلى الله عليه وسلم ، وأين المائدة من مكانة محمد صلى الله عليه وسلم .
ويقاس عليه الاحتفال بميلاد الصالحين كالصحابة والتابعين من السلف الصالح ومن سار على نهجهم ودربهم من الأئمة والدعاة والعلماء الصالحين الذين كان لهم أثر في نهضة الأمة وعودتها إلى شريعتها الغراء ؛ كالأئمة الأربعة ، ومن بعدهم مثل الإمام أبي الحسن الأشعري الذي قطع الله على يديه فتنة الضلال في الاعتقاد ، وكالإمام أبي حامد الغزالي ، والإمام فخر الدين الرازي ، والإمام النووي ، والإمام ابن تيمية ، والإمام السبكي ، والإمام ابن حجر ، والإمام السيوطي ، والإمام اللكنوي ، والإمام الكوثري ، والإمام القرضاوي ، رضي الله عنهم وغيرهم ممن لهم كبير الأثر في تبيين حقيقة الدين، ورد تدليس الغاوين ، وإقامة الحجة على المعاندين، والحفاظ على أصول هذا الدين ، دون إفراط أو تفريط ، وكذلك صلاح الدين الأيوبي ، والمظفر قطز ، والظاهر بيبرس ، وأمثالهم ممن حمى بيضة الدين ، وحرر بلاد المسلمين .
ومن هؤلاء الصالحين الإمام الشهيد حسن البنا رضي الله عنه وأرضاه ، الذي كان إماما في العلم والعبادة والدعوة والجهاد والعمل ؛ فردَّ أمة الإسلام إلى صوابها بعدما ضل الكثير من أبنائها ، وتهافتت عليها قوى الأعداء من الغرب والشرق ، حتى مات شهيدا في سبيل الله تعالى وقد أقام جماعة من المجاهدين العاملين الذين تحملوا البلاء في سبيل الله ، ساعين إلى إقامة دولة الإسلام ، والتمكين لشريعة الإسلام ؛ فاستحق بذلك أن يكون مجدد القرن الذي جدد للأمة أمر دينها ، كما جاء في الحديث الشريف .
5- قوله تعالى : " وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" .
أخرج النسائى ، وعبد الله بن أحمد فى زوائد المسند ، والبيهقى فى شعب الإِيمان عن أبى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الأيام بنعم الله وآلائه ، وولادة النبي نعمة كبرى .
قال ابن الجوزي في زاد المسير : في قوله " وذكرهم بأيام الله " ثلاثة أقوال :
أحدها:أنها نعم الله،رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال مجاهد وقتادة وابن قتيبة.
والثاني : أنها وقائع الله في الأمم قبلهم ، قاله ابن زيد وابن السائب ومقاتل .
والثالث : أنها أيام نعم الله عليهم ، وأيام نقمه ممن كفر من قوم نوح وعاد وثمود ، قاله الزجاج
وقال ابن جرير الطبري في تفسيره : قوله " وذكرهم بأيام الله " يقول عز وجل وعظهم بما سلف من نعمي عليهم في الأيام التي خلت ، وروى عن ابن عيينة : أيادي الله عندكم وأيامه .
وقال ابن كثير : " وذكرهم بأيام الله " : أي بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه البحر ، وتظليله إياهم الغمام ، وانزاله عليهم المن والسلوى وغير ذلك من النعم ، قال ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد ، وقد ورد فيه الحديث المرفوع الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه حيث قال حدثني يحيى بن عبد الله مولى بني هاشم حدثنا محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " وذكرهم بأيام الله " قال : بنعم الله ، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث محمد بن أبان به ، ورواه عبد الله ابنه أيضا موقوفا وهو أشبه .
وقال القرطبي : ( قوله تعالى " وذكرهم بأيام الله " أي قل لهم قولا يتذكرون به أيام الله تعالى قال ابن عباس ومجاهد وقتادة بنعم الله عليهم وقاله أبي بن كعب ورواه مرفوعا ، أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ، ومن التيه ، إلى سائر النعم .
وقد تُسمى النعمُ الأيامَ ومنه قول عمرو بن كلثوم - وأيام لنا غر طوال - وعن ابن عباس أيضا ومقاتل : بوقائع الله في الأمم السالفة ، يقال : فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعها ، قال ابن زيد : يعني الأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية ، وكذلك روى ابن وهب عن مالك قال : بلاؤه ، وقال الطبري : وعظهم بما سلف في الأيام الماضية لهم ؛ أي بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة ، وقد كانوا عبيدا مستذلين واكتفى بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بينا موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله وأيام الله بلاؤه ونعماؤه " وذكر حديث الخضر ودل هذا على جواز الوعظ المرقق للقلوب ، المقوي لليقين ، الخالي من كل بدعة ، والمنزه عن كل ضلالة وشبهة ، " إن في ذلك " أي في التذكير بأيام الله"لآيات"أي دلالات"لكل صبار"أي كثير الصبر على طاعة الله وعن معاصيه "شكور" لنعم الله.
ولا شك أن ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعظم النعم علينا ، فقد كان ميلاده سببا وتمهيدا لبعثته وتبليغ رسالته ، فكان أن هدانا الله إلى صراطه المستقيم . وفي الآية أمر من الله تعالى بأن نذكر الناس بنعمه وآلائه ، فمن احتفل بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم مذكرا الناس بسيرة وشمائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد امتثل الأمر في الآية ، ولا يبعد أن يكون الأمر في الآية للوجوب .
واستحسان عمل المولد عند السيوطي، وابن حجر العسقلاني، وابن حجر الهيتمي، مستمد من آية "وذكِّرهم بأيام الله" مع إنكارهم لما لصق به من البدع .
6- قوله تعالى : " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " ، فالله عز وجل قد أقسم بحياة محمد صلى الله عليه وسلم مما يدل على تعظيم الله لها، كما أن الحياة تبدأ بيوم الميلاد ، فتعظيم يوم الميلاد وحياة خير الأنام، هو تعظيم لما عظمه الله تعالى، وتكريم لما كرمه، فيكون فعل الصالحات فيه من باب العمل بآيات الله المحكمات، وتعظيم شعائر الإسلام .
7- قوله تعالى : " وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك " .
والمولد فيه تثبيت للقلوب على الإيمان ؛ لما يُقص فيه من سير الأنبياء والصالحين .
8- قال تعالى : " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون " .
يقول ابن كثير في تفسير الآية : لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم ، وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين عبرة لأولي الألباب . ويقول القرطبي : لقد كان في قصصهم أي في قصة يوسف وأبيه وإخوته ، أو في قصص الأمم عبرة أي : فكرة وتذكرة وعظة لأولي الألباب أي أصحاب العقول .
وما الاحتفال بميلاد الأنبياء والصالحين إلا تذكرة وموعظة واعتبار بقصصهم ليسلك المسلم مسلكهم في الطاعات والدعوة إلى الله تعالى .
9- قوله تعالى : " الحج أشهر معلومات " ، وقوله تعالى : " واذكروا الله في أيام معدودات " ، وقوله تعالى : " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " .
يقول الشيخ جاد الحق علي جاد الحق مفتي مصر ، وشيخ الأزهر السابق رحمه الله تعالى : ( إن مشاعر الحج وتوقيته بأشهر معلومات ، وتحديد يوم الاجتماع الأكبر ، ورجم الشيطان ، وذكر الله في أيام معلومات معدودات ، كل ذلك يدل على اهتمام التشريع بتخليد الذكريات . ومن أجل هذا كان عيد الفطر المبارك بعد شهر القرآن وعيد الأضحى بعد الحج ، وهما يتجددان في كل عام ) . فمن خلد الذكريات الشريفة فقد أصاب التشريع الإسلامي ولم يحد عنه ، بخاصة إذا كانت الذكرى يستفاد منها مزيد إيمان وهداية وعمل للإسلام كذكرى ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإحياء ذكرى الصالحين ومدارسة سيرهم وأعمالهم للانتفاع بها والسير على خطاهم .
ثانيا : من السنة المطهرة :
1- حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا نفحات الله عز وجل ؛ فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ، واسألوا الله أن يستر عوراتكم ، وأن يؤمن روعاتكم " .
وهل هناك أعظم من نفحة ميلاده صلى الله عليه وسلم ، وقد أمرنا أن نتعرض لها ، ومطلق الأمر عند البعض يفيد الوجوب ، والتعرض للنفحات إنما يكون بالإكثار من عمل الطاعات ، رجاء مزيد الثواب من الله تعالى ، وهذا الدليل يصلح لتخصيص يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم لمزيد طاعات كالصيام ، والقيام والإنفاق ، والبر والصلة ، والذكر وقراءة القرآن ، وطلب العلم ونشره بين الناس . كما يكون في يوم عاشوراء ، والإثنين والخميس ، والعشر الأول من ذي الحجة ، وشهر شعبان وليلة الإسراء والمعراج ، والعيدين ، وأيام التشريق وليلة القدر ، والهجرة المباركة ، وغيرها من مواسم العمر .
2- صح أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون :
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسُئلوا عن ذلك ؛ فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى و بني إسرائيل على فرعون ، ونحن نصومه تعظيماً له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بموسى منكم) ثم أمر بصومه . و في هذا الحديث تأصيل لملاحظة الزمان و العناية به .
3- كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتفل بيوم مولده، ويوم نزول الوحي عليه بصيام يوم الإثنين،والخميس في إحدى الروايات فقد روى الإمام مسلم عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين ، فقال : " فيه ولدت ، وفيه أنزل علي " .
وهذا الحديث الصحيح نص واضح في مشروعية الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم .
والقول بتخصيصه بالصوم دون اليوم ، تخصيص بلا مُخَصِّص ، بل ظاهر الحديث دال أن العلة هي يوم الميلاد ، وإنما جاء الصوم تابعا له ، ومن أنكر ذلك فهو بمثابة من أخرج صدقة الفطر دون اعتبار بالتوسعة على الفقراء في يوم العيد .
4- وحديث مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ؛ فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أُخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة " .
وقال العلامة الشوكاني في فتح القدير : (أخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وأبن مردويه عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : " أتدري ما يوم الجمعة ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قالها ثلاث مرات ، ثم قال في الثالثة : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم ، أفلا أحدثكم عن يوم الجمعة ..... " الحديث .
وفي الباب أحاديث مصرحة بأنه خُلق فيه آدم ، وورد في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة ، وكذلك في فضل صلاة الجمعة ، وعظيم أجرها ، وفي الساعة التي فيها أنه يستجاب الدعاء فيها ) .
فهذا كله دال على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم واحتفاء الأمة به كل أسبوع ومن أسباب ذلك أن الله خلق فيه آدم ، فهذا صريح من النبي صلى الله عليه وسلم أنه احتفى بمولد آدم عليه السلام ، وجُعل يوم الجمعة لذلك وغيره من شعائر الإسلام .
فإذا كان كل هذا لأجل ميلاد آدم عليه السلام، فميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم أولى بالاحتفال والتقدير والتذكير بنعم الله علينا ، فيكون الاحتفال بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم من باب الاحتفال بميلاد آدم ، بيد أن الاحتفال بميلاد آدم عليه السلام يكون كل أسبوع ، أما الاحتفال بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فيكون في العام مرة واحدة ، مع التأكيد على خلوه من المنكرات ، وأن يظل الناس طوال العام يذكرون سيرته وشمائله ويقتدون به صلى الله عليه وسلم .
5- في حديث المرأة التي نذرت أن تضرب بالدف على رأس رسول الله صلى اله عليه وسلم إذا قدم سالما من الغزو، وقد أذن لها الرسول صلى الله عليه وسلم أن توفي بنذرها .
استشف منها العلماء جواز الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم،كالعارف أبي عبد الله محمد بن عباد المتوفى سنة730هـ كما في رسائله .
6- أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً ؟ فقال : أي آية ؟ قال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ) .
فقال عمر: إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه ، والمكان الذي نزلت فيه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بعرفة يوم الجمعة .
وأخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه وقال : فيه نزلت في يوم عيد من يوم جمعة ويوم عرفة ، وقال الترمذي: وهو صحيح .
(وفي هذا الأثر موافقة عمر بن الخطاب على اتخاذ اليوم الذي حدثت فيه نعمة عظيمة عيداً لأنّ الزمان ظرف للحدث العظيم، فعند عود اليوم الذي وقعت فيه الحادثة كان موسماً لشكر ت